⌈الأشتر⌉
2020-03-31, 15:59
خبّاز أم جرّاح؟
أستغرب من بعض النّاس وهم يبالغون في الإعراب عن مللهم في هذه الأيام، جراء انتشار المرض، وفرض الحجر الصّحّيّ، مع أنّ لديهم كتاب وبطّانية! وقد كان من أمري هذا الأسبوع أن وقع اختياري على أحد كتب علي الطنطاوي، مع أنّي أصدقكم القول أنّ هذا جوّ يشعر بإعادة قراءة بعض الكتب، وترسيخ الفائدة، ولكنّي لم انتبه حتى وجدتني أنهيت الكتاب وما ندم من يقرأ كتب القاضي، وقد مرّ في كتابه هذا الّذي أدفأته ببطّانيّتي ذكر الخبّازين، وما كان من حظّهم من الِحسْبَةِ، أيام الحضارة العربية الإسلامية، والحسبة لمن لايعرفها، بمفهومها آنذاك، ولاية متعلقة بالأمرّ بالمعروف، والنّهي عن المنكّر، ومن أدلّتها عندهم قوله تعالى ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾[1]، والُمحْتَسِبُ من يقوم بالحسبة، (له الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، مما ليس من خصائص الولاة والقضاة وأهل الديون ونحوهم)[2].
وماسأنقله لكم يذكره الطنطاوي عنهم نقلا عن كتاب قديم، عنوانه نهاية الرتبة في طلب الحسبة، فقد جاء فيه(يَنْبَغِي أَنْ تُرْفَعَ سَقَائِفُ حَوَانِيتِهِمْ، وَتُفْتَحَ أَبْوَابُهَا، وَيُجْعَلُ فِي سُقُوفِ الْأَفْرَانِ مَنَافِسُ، وَاسِعَةٌ يَخْرُجُ مِنْهَا الدُّخَانُ، لِئَلَّا يَتَضَرَّرَ [بِذَلِكَ النَّاسُ] ، وَإِذَا فَرَغَ [الْخَبَّازُ] مِنْ إحْمَائِهِ، مَسَحَ دَاخِلَ التَّنُّورِ بِخِرْقَةٍ [نَظِيفَةٍ] ، ثُمَّ شَرَعَ فِي الْخُبْزِ، وَيَكْتُبُ الْمُحْتَسِبُ فِي دَفْتَرِهِ أَسْمَاءَ الْخَبَّازِينَ وَمَوَاضِعَ حَوَانِيتِهِمْ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُوهُ إلَى مَعْرِفَتِهِمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِنَظَافَةِ أَوْعِيَةِ الْمَاءِ وَتَغْطِيَتِهَا، وَغَسِيلِ الْمَعَاجِنِ وَنَظَافَتِهَا، وَمَا يُغَطَّى بِهِ الْخُبْرُ، وَمَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ، وَلَا يَعْجِنُ الْعَجَّانُ بِقَدَمَيْهِ، وَلَا بِرُكْبَتَيْهِ، وَلَا بِمِرْفَقَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَهَانَةً لِلطَّعَامِ، وَرُبَّمَا قَطَرَ فِي الْعَجِينِ شَيْءٌ مِنْ عَرَقِ إبْطَيْهِ، وَبَدَنِهِ، فَلَا يَعْجِنُ إلَّا، وَعَلَيْهِ مِلْعَبَةٌ أَوْ بِشَتٍّ مَقْطُوعِ الْأَكْمَامِ، وَيَكُونُ مُلَثَّمًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا عَطَسَ أَوْ تَكَلَّمَ، فَقَطَرَ شَيْءٌ مِنْ بُصَاقِهِ أَوْ مُخَاطِهِ فِي الْعَجِينِ، وَيَشُدُّ عَلَى جَبِينِهِ عِصَابَةً بَيْضَاءَ، لِئَلَّا يَعْرَقَ فَيَقْطُرُ مِنْهُ شَيْءٌ [فِي الْعَجِينِ] ، وَيَحْلِقُ شَعْرَ ذِرَاعَيْهِ لِئَلَّا يَسْقُطَ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الْعَجِينِ، وَإِذَا عَجَنَ فِي النَّهَارِ فَلْيَكُنْ عِنْدَهُ إنْسَانٌ فِي يَدِهِ مَذَبَّةٌ يَطْرُدُ عَنْهُ الذُّبَابَ. هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ نَخْلِ الدَّقِيقِ بِالْمَنَاخِلِ السَّفِيقَةِ مِرَارًا)[3].
ولقد تبادر إلى ذهني بعد قراءة هذا النّص، أنّه يتحدث عن مايلزم الجرّاح قبل إجراء العمليّة! وهل وقفتم على قوله "يحلق شعر ذراعيه"؟! فمن ثَمّ وجدتني استحضر صورة خبّاز حيّنا القديم، لاحُرم من لقب "أبشع الخبّازين" لو ثبت أنّ له عضوية هنا! ويكفيكم من خبره أنّنا مرة وجدنا غبار "الشّمّة" أعزّكم الله داخل الخبز، سقطت مِنْ فِي عامل عنده، والله المستعان.
وبين خبّازنا وخبّاز "القرون الوسطى"، نعرب عن علو مُقام الأجداد، ومابلغوه من البحث وتتبع دقائق الأمور، حتى جعلوا الخبّاز يقبل على الخبز كإقبال الجرّاح على الجرّح!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] [آل عمران: 104]
[2] الحسبة في الاسلام، لابن تيمية، ص16، دار الكتب العلمية بيروت
[3] نهاية الرتبة في طلب الحسبة للشيزَري، الْبَابُ السَّادِسُ فِي الْحِسْبَةِ عَلَى الْخَبَّازِينَ، ص22، نسخة المكتبة الشاملة. ولعلّ الطنطاوي ينقل من كتاب آخر يطابق هذا في العنوان ويختلف معه في المؤلف، لأن نصّه يختلف قليلا عن ماذكره الشيزري، فلعلّه ينقل من كتاب لابن سالم المحتسب(لاأعرفه!)، وقد بحثت ولم أجد الكتاب، أو ربما كان الاختلاف ناتجا عن اعتماد الشيخ على ذاكرته، وذلك لأنّك تجده يعتمد كثيرا على ذاكرته في كتابة فصول في الثقافة والأدب، ولذا جعلت المصدر كتاب الشيزري والنص نص هذا الأخير، لأنّه متوفر يمكن الرجوع إليه للتّأكد.
أستغرب من بعض النّاس وهم يبالغون في الإعراب عن مللهم في هذه الأيام، جراء انتشار المرض، وفرض الحجر الصّحّيّ، مع أنّ لديهم كتاب وبطّانية! وقد كان من أمري هذا الأسبوع أن وقع اختياري على أحد كتب علي الطنطاوي، مع أنّي أصدقكم القول أنّ هذا جوّ يشعر بإعادة قراءة بعض الكتب، وترسيخ الفائدة، ولكنّي لم انتبه حتى وجدتني أنهيت الكتاب وما ندم من يقرأ كتب القاضي، وقد مرّ في كتابه هذا الّذي أدفأته ببطّانيّتي ذكر الخبّازين، وما كان من حظّهم من الِحسْبَةِ، أيام الحضارة العربية الإسلامية، والحسبة لمن لايعرفها، بمفهومها آنذاك، ولاية متعلقة بالأمرّ بالمعروف، والنّهي عن المنكّر، ومن أدلّتها عندهم قوله تعالى ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾[1]، والُمحْتَسِبُ من يقوم بالحسبة، (له الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، مما ليس من خصائص الولاة والقضاة وأهل الديون ونحوهم)[2].
وماسأنقله لكم يذكره الطنطاوي عنهم نقلا عن كتاب قديم، عنوانه نهاية الرتبة في طلب الحسبة، فقد جاء فيه(يَنْبَغِي أَنْ تُرْفَعَ سَقَائِفُ حَوَانِيتِهِمْ، وَتُفْتَحَ أَبْوَابُهَا، وَيُجْعَلُ فِي سُقُوفِ الْأَفْرَانِ مَنَافِسُ، وَاسِعَةٌ يَخْرُجُ مِنْهَا الدُّخَانُ، لِئَلَّا يَتَضَرَّرَ [بِذَلِكَ النَّاسُ] ، وَإِذَا فَرَغَ [الْخَبَّازُ] مِنْ إحْمَائِهِ، مَسَحَ دَاخِلَ التَّنُّورِ بِخِرْقَةٍ [نَظِيفَةٍ] ، ثُمَّ شَرَعَ فِي الْخُبْزِ، وَيَكْتُبُ الْمُحْتَسِبُ فِي دَفْتَرِهِ أَسْمَاءَ الْخَبَّازِينَ وَمَوَاضِعَ حَوَانِيتِهِمْ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُوهُ إلَى مَعْرِفَتِهِمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِنَظَافَةِ أَوْعِيَةِ الْمَاءِ وَتَغْطِيَتِهَا، وَغَسِيلِ الْمَعَاجِنِ وَنَظَافَتِهَا، وَمَا يُغَطَّى بِهِ الْخُبْرُ، وَمَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ، وَلَا يَعْجِنُ الْعَجَّانُ بِقَدَمَيْهِ، وَلَا بِرُكْبَتَيْهِ، وَلَا بِمِرْفَقَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَهَانَةً لِلطَّعَامِ، وَرُبَّمَا قَطَرَ فِي الْعَجِينِ شَيْءٌ مِنْ عَرَقِ إبْطَيْهِ، وَبَدَنِهِ، فَلَا يَعْجِنُ إلَّا، وَعَلَيْهِ مِلْعَبَةٌ أَوْ بِشَتٍّ مَقْطُوعِ الْأَكْمَامِ، وَيَكُونُ مُلَثَّمًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا عَطَسَ أَوْ تَكَلَّمَ، فَقَطَرَ شَيْءٌ مِنْ بُصَاقِهِ أَوْ مُخَاطِهِ فِي الْعَجِينِ، وَيَشُدُّ عَلَى جَبِينِهِ عِصَابَةً بَيْضَاءَ، لِئَلَّا يَعْرَقَ فَيَقْطُرُ مِنْهُ شَيْءٌ [فِي الْعَجِينِ] ، وَيَحْلِقُ شَعْرَ ذِرَاعَيْهِ لِئَلَّا يَسْقُطَ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الْعَجِينِ، وَإِذَا عَجَنَ فِي النَّهَارِ فَلْيَكُنْ عِنْدَهُ إنْسَانٌ فِي يَدِهِ مَذَبَّةٌ يَطْرُدُ عَنْهُ الذُّبَابَ. هَذَا كُلُّهُ بَعْدَ نَخْلِ الدَّقِيقِ بِالْمَنَاخِلِ السَّفِيقَةِ مِرَارًا)[3].
ولقد تبادر إلى ذهني بعد قراءة هذا النّص، أنّه يتحدث عن مايلزم الجرّاح قبل إجراء العمليّة! وهل وقفتم على قوله "يحلق شعر ذراعيه"؟! فمن ثَمّ وجدتني استحضر صورة خبّاز حيّنا القديم، لاحُرم من لقب "أبشع الخبّازين" لو ثبت أنّ له عضوية هنا! ويكفيكم من خبره أنّنا مرة وجدنا غبار "الشّمّة" أعزّكم الله داخل الخبز، سقطت مِنْ فِي عامل عنده، والله المستعان.
وبين خبّازنا وخبّاز "القرون الوسطى"، نعرب عن علو مُقام الأجداد، ومابلغوه من البحث وتتبع دقائق الأمور، حتى جعلوا الخبّاز يقبل على الخبز كإقبال الجرّاح على الجرّح!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] [آل عمران: 104]
[2] الحسبة في الاسلام، لابن تيمية، ص16، دار الكتب العلمية بيروت
[3] نهاية الرتبة في طلب الحسبة للشيزَري، الْبَابُ السَّادِسُ فِي الْحِسْبَةِ عَلَى الْخَبَّازِينَ، ص22، نسخة المكتبة الشاملة. ولعلّ الطنطاوي ينقل من كتاب آخر يطابق هذا في العنوان ويختلف معه في المؤلف، لأن نصّه يختلف قليلا عن ماذكره الشيزري، فلعلّه ينقل من كتاب لابن سالم المحتسب(لاأعرفه!)، وقد بحثت ولم أجد الكتاب، أو ربما كان الاختلاف ناتجا عن اعتماد الشيخ على ذاكرته، وذلك لأنّك تجده يعتمد كثيرا على ذاكرته في كتابة فصول في الثقافة والأدب، ولذا جعلت المصدر كتاب الشيزري والنص نص هذا الأخير، لأنّه متوفر يمكن الرجوع إليه للتّأكد.