*عبدالرحمن*
2019-07-15, 05:37
اخوة الاسلام
أحييكم بتحية الإسلام
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
https://d.top4top.net/p_7927bchs1.gif (https://up.top4top.net/)
بيان حال السلف في مزاولة أعمال الدنيا .
أولا :
كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعملون ، ويزاولون الكثير من الحِرف والمهن
فمنها : التجارة ، ومنها : الزراعة ، ومنها : الأعمال المهنية ، كالحدادة والنجارة وغيرهما ، ومنها الوظائف التي تتعلق بالدولة : كالتعليم ، والعمل على الزكاة ، والقضاء وما يشبهها ، وغير ذلك من الأعمال .
ولم يكن الواحد منهم يجلس كَلّا على أصحابه بدون عمل يعمله
أو يسأل الناس وهو يقدر على العمل ، وقد روى البخاري (1471)
عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ ، فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ ، فَيَبِيعَهَا ، فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ ) .
ولم يمنعهم طلب العلم والصحبة الشريفة عن العمل والتكسب ، وكان كثير منهم من يتعلم العلم والقرآن ويتدارسونه بالليل ، ثم يزاولون عملهم بالنهار
ويتكسبون منه وينفقون منه في سبيل الله ويتصدقون ، وقد ثبت ذلك عن جمع من خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفضلائهم ، لم يشغلهم في ذلك شأن عن شأن :
روى البخاري ومسلم (677) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : جَاءَ نَاسٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالُوا : أَنِ ابْعَثْ مَعَنَا رِجَالًا يُعَلِّمُونَا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ
فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، يُقَالُ لَهُمْ: الْقُرَّاءُ ، فِيهِمْ خَالِي حَرَامٌ ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَدَارَسُونَ بِاللَّيْلِ يَتَعَلَّمُونَ ، وَكَانُوا بِالنَّهَارِ يَجِيئُونَ بِالْمَاءِ فَيَضَعُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ ، وَيَحْتَطِبُونَ فَيَبِيعُونَهُ
وَيَشْتَرُونَ بِهِ الطَّعَامَ لِأَهْلِ الصُّفَّةِ وَلِلْفُقَرَاءِ ، فَبَعَثَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ ، فَعَرَضُوا لَهُمْ ، فَقَتَلُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا الْمَكَانَ ، فَقَالُوا : اللهُمَّ ، بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِينَا عَنْكَ
وَرَضِيتَ عَنَّا ، قَالَ : وَأَتَى رَجُلٌ حَرَامًا ، خَالَ أَنَسٍ مِنْ خَلْفِهِ ، فَطَعَنَهُ بِرُمْحٍ حَتَّى أَنْفَذَهُ
فَقَالَ حَرَامٌ : فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ : ( إِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ قُتِلُوا، وَإِنَّهُمْ قَالُوا: اللهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِينَا عَنْكَ ، وَرَضِيتَ عَنَّا ) .
ولم يكن حالهم كحال الناس اليوم من الإقبال على الدنيا والانشغال بها
بل كانوا على حال عظيم من الزهد في الدنيا ، والرغبة في الآخرة ، فلا يعملون لها العمل كله ، ويعطون الهم كله ، بل كانوا يكفون بها أنفسهم عن الناس ، ثم لا ينشغلون بشيء من أمرها ، عن أمر الآخرة .
قال الحسن البصري رحمه الله ، يصف حالهم رضي الله عنهم :
" أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْرِضُ لِأَحَدِهِمْ حَلَالَهَا ، فَيَدَعُهَا ، فَيَقُولُ : وَاللَّهِ مَا أَدْرِي عَلَى مَا أَنَا مِنْ هَذِهِ ، إِذَا صَارَتْ فِي يَدَيَّ "
كما في " الزهد " لابن المبارك (1/ 178) ..
وقال أيضا : " لَقَدْ أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا لَا يَفْرَحُونَ بِمَا أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الدُّنْيَا ، وَلَا يَأسونَ عَلَى مَا أَدْبَرَ مِنْهَا "
كما في " حلية الأولياء " (6/ 270) .
وقال : " أدْرَكْتُ أَقْوَامًا كان أَحَدِهِمْ أَشَحُّ عَلَى عُمُرِهِ مِنْهُ عَلَى دِرْهَمِهِ "
كما في " شرح السنة " (14/ 225) .
وهذا كله بخلاف حال الناس اليوم ، من الانشغال بالدنيا عن الآخرة ، كما هو مشاهد معلوم .
ثانيا :
أوقات أعمالهم تختلف بحسب طبيعة عمل كل منهم ، وإن كان غالب عملهم يكون بالنهار ، وبالليل يتفرغون لصلاة الليل وتلاوة القرآن والاستغفار
وخاصة في الثلث الأخير من الليل ، ولم يكن أمر الناس في ذلك الزمان ، مما يقتضي عملا بالليل ، إلا أن يكون أمرا نادرا جدا ، بخلاف ما تقضيه طبائع الأمور ، وتعقد الحياة اليوم .
وليس في مجرد العمل بالليل ، أو العمل لساعات طوال : مذمة
ما دامت بالناس ضرورة أو حاجة إلى ذلك ، وسواء كان ذلك لأجل مصلحة عامة للناس ، كما هو حال الشُرَط ، والأطباء ، ونحو ذلك من المهن التي لا يستغني الناس عن وجود من يسعفهم فيها ، ويقوم بحاجتهم إليها ليلا ونهارا .
وإنما مرد ذلك : إلى انشغال العامل في ذلك عن أمر دينه ، بأمر دنياه ، أو يحمله على زيادة عمله ، ومواصلة الليل بالنهار ، فرط طمع وتعلق بالدنيا ، واستكثار منها ، لا قضاء حاجة ، له ، أو لغيره من الناس .
ورغم ما كانوا عليه من العمل ، والمهن الشاقة ؛ فإنهم كانوا أعظم الناس قياما بين يدي ربهم
وأحسنهم إحياء لليل ، ومناجاة لرب العالمين : ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) السجدة/ 16 .
روى النسائي في " الكبرى " (11855)
عن بِلَال بْن سَعْدٍ ، قَالَ : " أَدْرَكْتُهُمْ يَشْتَدُّونَ بَيْنَ الْأَغْرَاضِ، [ يعني : يتسابقون في الجري ] ، وَيَضْحَكُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ ، كَانُوا رُهْبَانًا " .
وروى أحمد في " الزهد " (ص231) عَنِ الْحَسَنِ قَالَ : " وَاللَّهِ ، لَقَدْ أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا ، وَصَحِبْتُ طَوَائِفَ مِنْهُمْ ، مَا كَانُوا يَفْرَحُونَ بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا ، وَلَهِيَ كَانَتْ أَهْوَنَ فِي أَعْيُنِهِمْ مِنَ هَذَا التُّرَابِ
كَانَ أَحَدُهُمْ يَعِيشُ خَمْسِينَ سَنَةً لَمْ يُطْوَ لَهُ ثَوْبٌ قَطُّ ، وَلَا نُصِبَ لَهُ قِدْرٌ ، وَلَا جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ شَيْئًا ، وَلَا أَمَرَ فِي بَيْتِهِ بِصَنْعَةِ طَعَامٍ قَطُّ ، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ : فَقِيَامٌ عَلَى أَطْرَافِهِمْ
يَفْتَرِشُونَ وُجُوهَهُمْ ، تَجْرِي دُمُوعُهُمْ عَلَى خُدُودِهِمْ ، يُنَاجُونَ رَبَّهُمْ فِي فِكَاكِ رِقَابِهِمْ ، كَانُوا إِذَا عَمِلُوا الْحَسَنَةَ دَأَبُوا فِي شُكْرِهَا
وَسَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَقْبَلَهَا ، وَإِذَا عَمِلُوا السَّيِّئَةَ أَحْزَنَتْهُمْ ، وَسَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَهَا ، فَمَا زَالُوا كَذَلِكَ عَلَى ذَلِكَ " .
ثالثا :
روى الإمام أحمد (17309) - وصححه الألباني - عن عَمْرَو بْن الْعَاصِ رضي الله عنه قال : بَعَثَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : خُذْ عَلَيْكَ ثِيَابَكَ وَسِلَاحَكَ ثُمَّ ائْتِنِي
فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ ، فَصَعَّدَ فِيَّ النَّظَرَ ثُمَّ طَأْطَأَهُ ، فَقَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيْشٍ ، فَيُسَلِّمَكَ اللَّهُ وَيُغْنِمَكَ ، وَأَرْغَبُ لَكَ مِنْ الْمَالِ رَغْبَةً صَالِحَةً .
قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَسْلَمْتُ مِنْ أَجْلِ الْمَالِ ، وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ ، وَأَنْ أَكُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ !!!
فَقَالَ : يَا عَمْرُو ؛ نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ ، لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ !!
فالمذموم ، الذي هو عبد المال والدنيا : إنما هو من جعل الدنيا أكبر همه ، وانشغل بها بالليل والنهار
وأنفق ساعات عمره في طلبها ، وعكف عليها ، يجمع المال من حله وغير حله
تكثرا ومباهاة ورغبة في متاع الدنيا الزائل ، لا يصل به رحمه ، ولا يعلم لله فيه حقا
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ ) رواه البخاري (6435) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" قَوْله ( عَبْد الدِّينَار ) أَيْ طَالِبه الْحَرِيص عَلَى جَمْعه الْقَائِم عَلَى حِفْظه , فَكَأَنَّهُ لِذَلِكَ خَادِمه وَعَبْده . قَالَ الطِّيبِيُّ : قِيلَ خُصَّ الْعَبْد بِالذِّكْرِ لِيُؤْذَن بِانْغِمَاسِهِ فِي مَحَبَّة الدُّنْيَا وَشَهَوَاتهَا ، كَالْأَسِيرِ الَّذِي لَا يَجِد خَلَاصًا .
وَلَمْ يَقُلْ مَالِك الدِّينَار وَلَا جَامِع الدِّينَار ؛ لِأَنَّ الْمَذْمُوم مِنْ الْمِلْك وَالْجَمْع : الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْر الْحَاجَة . وَقَوْله ( إِنْ أُعْطِىَ إِلَخْ ) يُؤْذِن بِشِدَّةِ الْحِرْص عَلَى ذَلِكَ .
وَقَالَ غَيْره : جَعَلَهُ عَبْدًا لَهُمَا لِشَغَفِهِ وَحِرْصه , فَمَنْ كَانَ عَبْدًا لِهَوَاهُ ، لَمْ يَصْدُق فِي حَقّه ( إِيَّاكَ نَعْبُد ) ؛ فَلَا يَكُون مَنْ اِتَّصَفَ بِذَلِكَ صِدِّيقًا " انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" مِن الناس من يعبد الدنيا ؛ أي: يتذلل لها ويخضع لها ، وتكون مناه وغايته ، فيغضب إذا فقدت
ويرضى إذا وجدت ، ولهذا سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذا شأنه عبدا لها ، وهذا من يعنى بجمع المال من الذهب والفضة ، فيكون مريدا بعمله الدنيا " انتهى .
"مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (10/ 724) .
والله أعلم .
أحييكم بتحية الإسلام
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
https://d.top4top.net/p_7927bchs1.gif (https://up.top4top.net/)
بيان حال السلف في مزاولة أعمال الدنيا .
أولا :
كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعملون ، ويزاولون الكثير من الحِرف والمهن
فمنها : التجارة ، ومنها : الزراعة ، ومنها : الأعمال المهنية ، كالحدادة والنجارة وغيرهما ، ومنها الوظائف التي تتعلق بالدولة : كالتعليم ، والعمل على الزكاة ، والقضاء وما يشبهها ، وغير ذلك من الأعمال .
ولم يكن الواحد منهم يجلس كَلّا على أصحابه بدون عمل يعمله
أو يسأل الناس وهو يقدر على العمل ، وقد روى البخاري (1471)
عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ ، فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ ، فَيَبِيعَهَا ، فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ ) .
ولم يمنعهم طلب العلم والصحبة الشريفة عن العمل والتكسب ، وكان كثير منهم من يتعلم العلم والقرآن ويتدارسونه بالليل ، ثم يزاولون عملهم بالنهار
ويتكسبون منه وينفقون منه في سبيل الله ويتصدقون ، وقد ثبت ذلك عن جمع من خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفضلائهم ، لم يشغلهم في ذلك شأن عن شأن :
روى البخاري ومسلم (677) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : جَاءَ نَاسٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالُوا : أَنِ ابْعَثْ مَعَنَا رِجَالًا يُعَلِّمُونَا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ
فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، يُقَالُ لَهُمْ: الْقُرَّاءُ ، فِيهِمْ خَالِي حَرَامٌ ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَدَارَسُونَ بِاللَّيْلِ يَتَعَلَّمُونَ ، وَكَانُوا بِالنَّهَارِ يَجِيئُونَ بِالْمَاءِ فَيَضَعُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ ، وَيَحْتَطِبُونَ فَيَبِيعُونَهُ
وَيَشْتَرُونَ بِهِ الطَّعَامَ لِأَهْلِ الصُّفَّةِ وَلِلْفُقَرَاءِ ، فَبَعَثَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ ، فَعَرَضُوا لَهُمْ ، فَقَتَلُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا الْمَكَانَ ، فَقَالُوا : اللهُمَّ ، بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِينَا عَنْكَ
وَرَضِيتَ عَنَّا ، قَالَ : وَأَتَى رَجُلٌ حَرَامًا ، خَالَ أَنَسٍ مِنْ خَلْفِهِ ، فَطَعَنَهُ بِرُمْحٍ حَتَّى أَنْفَذَهُ
فَقَالَ حَرَامٌ : فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ : ( إِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ قُتِلُوا، وَإِنَّهُمْ قَالُوا: اللهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِينَا عَنْكَ ، وَرَضِيتَ عَنَّا ) .
ولم يكن حالهم كحال الناس اليوم من الإقبال على الدنيا والانشغال بها
بل كانوا على حال عظيم من الزهد في الدنيا ، والرغبة في الآخرة ، فلا يعملون لها العمل كله ، ويعطون الهم كله ، بل كانوا يكفون بها أنفسهم عن الناس ، ثم لا ينشغلون بشيء من أمرها ، عن أمر الآخرة .
قال الحسن البصري رحمه الله ، يصف حالهم رضي الله عنهم :
" أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْرِضُ لِأَحَدِهِمْ حَلَالَهَا ، فَيَدَعُهَا ، فَيَقُولُ : وَاللَّهِ مَا أَدْرِي عَلَى مَا أَنَا مِنْ هَذِهِ ، إِذَا صَارَتْ فِي يَدَيَّ "
كما في " الزهد " لابن المبارك (1/ 178) ..
وقال أيضا : " لَقَدْ أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا لَا يَفْرَحُونَ بِمَا أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الدُّنْيَا ، وَلَا يَأسونَ عَلَى مَا أَدْبَرَ مِنْهَا "
كما في " حلية الأولياء " (6/ 270) .
وقال : " أدْرَكْتُ أَقْوَامًا كان أَحَدِهِمْ أَشَحُّ عَلَى عُمُرِهِ مِنْهُ عَلَى دِرْهَمِهِ "
كما في " شرح السنة " (14/ 225) .
وهذا كله بخلاف حال الناس اليوم ، من الانشغال بالدنيا عن الآخرة ، كما هو مشاهد معلوم .
ثانيا :
أوقات أعمالهم تختلف بحسب طبيعة عمل كل منهم ، وإن كان غالب عملهم يكون بالنهار ، وبالليل يتفرغون لصلاة الليل وتلاوة القرآن والاستغفار
وخاصة في الثلث الأخير من الليل ، ولم يكن أمر الناس في ذلك الزمان ، مما يقتضي عملا بالليل ، إلا أن يكون أمرا نادرا جدا ، بخلاف ما تقضيه طبائع الأمور ، وتعقد الحياة اليوم .
وليس في مجرد العمل بالليل ، أو العمل لساعات طوال : مذمة
ما دامت بالناس ضرورة أو حاجة إلى ذلك ، وسواء كان ذلك لأجل مصلحة عامة للناس ، كما هو حال الشُرَط ، والأطباء ، ونحو ذلك من المهن التي لا يستغني الناس عن وجود من يسعفهم فيها ، ويقوم بحاجتهم إليها ليلا ونهارا .
وإنما مرد ذلك : إلى انشغال العامل في ذلك عن أمر دينه ، بأمر دنياه ، أو يحمله على زيادة عمله ، ومواصلة الليل بالنهار ، فرط طمع وتعلق بالدنيا ، واستكثار منها ، لا قضاء حاجة ، له ، أو لغيره من الناس .
ورغم ما كانوا عليه من العمل ، والمهن الشاقة ؛ فإنهم كانوا أعظم الناس قياما بين يدي ربهم
وأحسنهم إحياء لليل ، ومناجاة لرب العالمين : ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) السجدة/ 16 .
روى النسائي في " الكبرى " (11855)
عن بِلَال بْن سَعْدٍ ، قَالَ : " أَدْرَكْتُهُمْ يَشْتَدُّونَ بَيْنَ الْأَغْرَاضِ، [ يعني : يتسابقون في الجري ] ، وَيَضْحَكُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ ، كَانُوا رُهْبَانًا " .
وروى أحمد في " الزهد " (ص231) عَنِ الْحَسَنِ قَالَ : " وَاللَّهِ ، لَقَدْ أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا ، وَصَحِبْتُ طَوَائِفَ مِنْهُمْ ، مَا كَانُوا يَفْرَحُونَ بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا ، وَلَهِيَ كَانَتْ أَهْوَنَ فِي أَعْيُنِهِمْ مِنَ هَذَا التُّرَابِ
كَانَ أَحَدُهُمْ يَعِيشُ خَمْسِينَ سَنَةً لَمْ يُطْوَ لَهُ ثَوْبٌ قَطُّ ، وَلَا نُصِبَ لَهُ قِدْرٌ ، وَلَا جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ شَيْئًا ، وَلَا أَمَرَ فِي بَيْتِهِ بِصَنْعَةِ طَعَامٍ قَطُّ ، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ : فَقِيَامٌ عَلَى أَطْرَافِهِمْ
يَفْتَرِشُونَ وُجُوهَهُمْ ، تَجْرِي دُمُوعُهُمْ عَلَى خُدُودِهِمْ ، يُنَاجُونَ رَبَّهُمْ فِي فِكَاكِ رِقَابِهِمْ ، كَانُوا إِذَا عَمِلُوا الْحَسَنَةَ دَأَبُوا فِي شُكْرِهَا
وَسَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَقْبَلَهَا ، وَإِذَا عَمِلُوا السَّيِّئَةَ أَحْزَنَتْهُمْ ، وَسَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَهَا ، فَمَا زَالُوا كَذَلِكَ عَلَى ذَلِكَ " .
ثالثا :
روى الإمام أحمد (17309) - وصححه الألباني - عن عَمْرَو بْن الْعَاصِ رضي الله عنه قال : بَعَثَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : خُذْ عَلَيْكَ ثِيَابَكَ وَسِلَاحَكَ ثُمَّ ائْتِنِي
فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ ، فَصَعَّدَ فِيَّ النَّظَرَ ثُمَّ طَأْطَأَهُ ، فَقَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيْشٍ ، فَيُسَلِّمَكَ اللَّهُ وَيُغْنِمَكَ ، وَأَرْغَبُ لَكَ مِنْ الْمَالِ رَغْبَةً صَالِحَةً .
قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَسْلَمْتُ مِنْ أَجْلِ الْمَالِ ، وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ ، وَأَنْ أَكُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ !!!
فَقَالَ : يَا عَمْرُو ؛ نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ ، لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ !!
فالمذموم ، الذي هو عبد المال والدنيا : إنما هو من جعل الدنيا أكبر همه ، وانشغل بها بالليل والنهار
وأنفق ساعات عمره في طلبها ، وعكف عليها ، يجمع المال من حله وغير حله
تكثرا ومباهاة ورغبة في متاع الدنيا الزائل ، لا يصل به رحمه ، ولا يعلم لله فيه حقا
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ ) رواه البخاري (6435) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" قَوْله ( عَبْد الدِّينَار ) أَيْ طَالِبه الْحَرِيص عَلَى جَمْعه الْقَائِم عَلَى حِفْظه , فَكَأَنَّهُ لِذَلِكَ خَادِمه وَعَبْده . قَالَ الطِّيبِيُّ : قِيلَ خُصَّ الْعَبْد بِالذِّكْرِ لِيُؤْذَن بِانْغِمَاسِهِ فِي مَحَبَّة الدُّنْيَا وَشَهَوَاتهَا ، كَالْأَسِيرِ الَّذِي لَا يَجِد خَلَاصًا .
وَلَمْ يَقُلْ مَالِك الدِّينَار وَلَا جَامِع الدِّينَار ؛ لِأَنَّ الْمَذْمُوم مِنْ الْمِلْك وَالْجَمْع : الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْر الْحَاجَة . وَقَوْله ( إِنْ أُعْطِىَ إِلَخْ ) يُؤْذِن بِشِدَّةِ الْحِرْص عَلَى ذَلِكَ .
وَقَالَ غَيْره : جَعَلَهُ عَبْدًا لَهُمَا لِشَغَفِهِ وَحِرْصه , فَمَنْ كَانَ عَبْدًا لِهَوَاهُ ، لَمْ يَصْدُق فِي حَقّه ( إِيَّاكَ نَعْبُد ) ؛ فَلَا يَكُون مَنْ اِتَّصَفَ بِذَلِكَ صِدِّيقًا " انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" مِن الناس من يعبد الدنيا ؛ أي: يتذلل لها ويخضع لها ، وتكون مناه وغايته ، فيغضب إذا فقدت
ويرضى إذا وجدت ، ولهذا سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذا شأنه عبدا لها ، وهذا من يعنى بجمع المال من الذهب والفضة ، فيكون مريدا بعمله الدنيا " انتهى .
"مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (10/ 724) .
والله أعلم .