abbes8
2009-12-01, 13:38
نظرة فقهية موجزة لأبرز مسائله
كتبه :
هاني بن عبد الله بن جبير
H_ j _30@maktoob.com
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصَّلاةُ والسَّلامُ على من لا نبي بعده .. وبعد
فإن من نوازل هذا العصر وقضاياه المستجدة عقد التأمين الذي نشأ وانتشر بفعل القوانين التجارية والمدنية التي جعلته واقعاً في كثير من التشريعات وحيث إنه سبق أن بحث في عدد من اللقاءات والندوات وصدرت حوله كثير من المؤلفات والأبحاث والرسائل .
وحيث حصل مؤخراً في هذا العقد مناقشات ومداولات فقد أحببت أن أكتب معتصراً عن هذا العقد ورأي الباحثين فيه في هذه الأكتوبة الموجزة وذلك من خلال أربع نقاط .
أولا : تعريف التأمين وحقيقته :
التأمين في اللغة مصدر أمَّن يؤمَّن مأخوذة من الاطمئنان الذي هو ضد الخوف ومن الأمانة التي هي ضد الخيانة . يقال أمَّنهُ تأميناً وائتمنه واستأمنه.
وعند الفقهاء التأمين قول آمين .
وصار يستخدم التأمين للدلالة على عقد خاص تقوم به شركات التأمين تدفع بموجبه مبلغاً في حال وقوع حادث معين لشخص يدفع لها قسطاً من المال .
لا بد للناظر للتأمين أن يتنبه إلى الفرق بين تناول التأمين كفكرة ونظريَّة وبين تنظيمه في عقد .
فالتأمين كنظرية ونظام مقبول إذ انه تعاون بين مجموعة بين الناس لدفع أخطار تحدق بهم بحيث إذا أصابت بعضهم تعاونوا على تفتيتها مقابل مبلغ ضئيل يقدمونه .
ولا شك أن هذه الفكرة فكرة مقبولة تقوم عليها كثير من أحكام الشريعة مثل الزكاة والنفقة على الأقارب , وتحميل العاقلة للدية . إلى أمثلة كثيرة تدعو إلى التعاون على البر والإحسان والتقوى والتكافل والتضامن .
هذه فكرة التأمين وهي فكرة تتفق مع مقاصد الشريعة الإسلامية و أحكامها وليس في هذا إشكال بحمد الله وإنما الإشكال في صياغة هذه الفكرة في عقد معاوضة أي في كونه علاقة بين المؤمن من جهة والمستأمن من جهة أخرى .
وسيكون هذا هو محل البحث في هذه الأوراق .
نشأة التأمين التجاري :
كان أول ظهور التأمين التجاري تأميناً للمخاطر التي تتعرض لها السفن المحملة بالبضائع وذلك في شمال إيطاليا في القرن الثاني عشر الميلادي . حيث كان صاحب البضاعة يدفع قسطاً معيناً على أنه في حال تلف البضاعة يقبض مبلغاً من المال ثم بدأ التأمين التجاري بالرواج ولكنه لم ينتقل إلى الدول العربية إلا في القرن التاسع عشر بدليل أن فقهاء المسلمين حتى القرن الثالث عشر الهجري لم يبحثوه مع أنهم بحثوا كل ما هو محيط بهم في شئون حياتهم العامَّة . فتناوله العلاَّمة محمد أمين ابن عابدين ( 1252هـ ) في كتابه رد المحتار على الدر المختار وسماه سوكوه .
وقد تزايد التعامل به بعد ذلك حتى دخل كثيراً من المجالات الاقتصادية وغيرها .
ويرى بعض الباحثين أن التأمين التجاري يتجه إلى الانكماش فالزوال وذلك أن دول العالم الغربي تتجه إلى الأخذ بالتأمين التعاوني وأن أكبر المنظمات التأمينية في سويسرا هي منظمات تعاونية . كما أن إحصائيات التأمين في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1972م تذكر أن التأمين التعاوني أصبح يغطي أكثر من 70% من نشاط التأمين فيها .
تعريف عقد التأمين التجاري :
تنوعت تعريفات هذا العقد في القوانين المدنية ولدى الباحثين المهتمين ويمكن منها أن يستخلص تعريف له بأنه : عقد معاوضة يلتزم أحد طرفيه وهو المؤمِّن أن يؤدي إلى الطرف الآخر وهو المؤمَّن له أو من يعينه عوضاً مالياً يتفق عليه . يدفع عند وقوع الخطر أو تحقق الخسارة المبينة في العقد وذلك نظير رسم يسمى قسط التأمين يدفعه المؤمَّن له بالقدر والأجل والكيفيَّة التي ينص عليها العقد المبرم بينهما .
ومن خلال هذا التعريف وما ذكره القانونيون نجد أن من أبرز خصائص عقد التأمين :
أنه عقد ملزم لطرفيه فيلتزم المؤمَّن له بدفع الأقساط حسب الاتفاق ويلتزم المؤمِّن بدفع التأمين عند حصول حادث محتمل .
كما أنه عقد مفاوضة لأن كلا المتعاقدين يأخذ مقابلاً لما أعطى فالمؤمِّن يعطي قسط التأمين والمؤمَّن له يعطي مبلغ التأمين عند تحقق ما يوجبه . وليست المعاوضة مقابل أمان محض يحصل عليه المؤمن .
كما أنه عقد احتمالي لأن كل طرف لا يعرف كم سيدفع وكم سيعطى على وجه التحديد لأن ذلك يتوقف على وقوع الخطر أو عدم وقوعه .
أنه عقد تجاري يهدف المؤمِّن منه إلى الربح والفائدة من خلال الأقساط المتجمعة لديه .
ثانياً : حكم عقد التأمين التجاري :
لم يكن هذا العقد معروفاً عند السلف , فلم يرد فيه نص شرعي ولم يوجد من الصحابة والأئمة المجتهدين من تعرَّض لحكمه . ولمَّا انتشر في هذا العصر درسه الباحثون واختلفوا في حكمه على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أن التأمين التجاري عقد غير جائز .
وقال به ابن عابدين الحنفي , ومحمد بخيت المطيعي (1354هـ) مفتي الديار المصريَّة , والشيخ محمد رشيد رضا , ومحمد أبو زهرة , وعبد الله القلقيلي مفتي الأردن , ومحمد أبو اليسر عابدين مفتي سوريا , والدكتورصديق الضرير , وشيخ الأزهر الشيخ جاد الحق , والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ وجماعة كثيرون . كما أنه الرأي الذي أفتت به عدة هيئات كهيئة كبار العلماء في المملكة العربيَّة السعودية والمجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي ومجمع الفقه الدولي بجدة التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي والمؤتمر العالمي للاقتصاد الإسلامي وهيئة رقابة بنك فيصل الإسلامي إلى غيرها من الجهات العلميَّة .
القول الثاني : أن التأمين التجاري عقد جائز .
وقال به مصطفى الزرقا و علي الخفيف و محمد يوسف موسى و عبد الوهاب خلاف وصدر به قرار الهيئة الشرعيّة لشركة الراجحي المصرفيّة .
القول الثالث : وهو التفصيل بجواز أنواع من التأمين وتحريم أنواع .
فمنهم من أجاز التأمين على الأموال دون التأمين على الحياة وهو قول محمد الحسن الحجوى , ومنهم من أجاز التأمين من الخطر الذي من أفعال العباد كالسرقة وحرّم التأمين من الخطر الذي سببه آفة سماوية وهو قول نجم الدين الواعظ مفتي العراق , ومنهم من أباح التأمين على حوادث السيارات والطائرات والسفن والمصانع وحرّم ما عداه وهو قول الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود .
أدلّة أصحاب القول الأول :
استدل أصحاب هذا القول بجملة أدلّة منها :
الدليل الأول : أن عقد التأمين عقد معاوضة وهو مع ذلك مشتمل على غرر , والغرر يفسد عقود المعاوضات .
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر . والنهي يقتضي الفساد .
والغرر هو ما تردد بين الحصول والفوات أو ما طُوِيت معرفته و جُهلت عينه.
فكل عقد بني على أمر محتمل مشكوك فيه فهو غرر .
والغرر المؤثر هو ما كان في عقود المعاوضات المالية . وكان غالباً على العقد حتى يصح وصف العقد كله بأنه غرر .
ولا شك أنَّ عقد التأمين مشتمل على الغرر في أكثر من موضع منه :
فالجهالة حاصلة في صفة محل التعاقد فالعوض لا يُعْرف مقداره حتى يقع الخطر المؤمن عليه .
كما أنها حاصلة في أجل العوض الذي لا يعرف متى يحل .
كما أن حصول العوض نفسه مجهول مشكوك فيه فلا يعرف المتعاقدان ذلك لتوقفه على وقوع الخطر أو عدم وقوعه .
فالغرر في الحصول وصفته وأجله وهي أمور مقصودة عند التعاقد وهذا يفسد العقد .
وقد نوقش هذا الدليل بأمرين الأوَّل : أنه لا يوجد غرر في عقد التأمين لأن غايته حصول الأمان وقد حصل بمجرد العقد سواء وقع الخطر أو لا والثاني أنّه على فرض حصوله فهو غرر يسير لا يؤثر في العقد.
والجواب أن النظر الشرعي في عقود المعاوضات إنما يكون لمحلها لا إلى غاياتها فإن الغاية أمر غير منضبط ولكلٍّ أن يجعل غاية عقده بما يراه فيصح لنا أن نقول إن غايته عقد التأمين أكل المال بالباطل . ويمكن لمن يبيح الفوائد الربويّة أن يتذرع بأن غايتها تحريك المال وتنميته واستثماره . وعليه فلا تعلق توصيف الأحكام بالمقاصد والحكم منها دون النظر لمحلها . ومحل عقد التأمين هو قسط التأمين وعوضه وهذا العِوَض مجهول الحصول والمقدار والأجل .
وخروجاً من هذا اضطر بعض الباحثين إلى القول بأن محل عقد التأمين هو نفس ضمان الأمن والأمان .
وقرر أن الأمن والأمان حق معنوي متفق مع الحقوق المحسوسة في اعتباره محل معاوضة ومحلاً لتداول الأيدي على تملكه ولذا فلا مانع من أن يكون الأمان هو محل المعاوضة في عقد التأمين .
ويناقش هذا القول بما يلي :
أن الحق هو اختصاص يقرر به الشرع سلطة أو تكليفاً . ( والحق المعنوي سلطة لشخص على شيء غير مادي هو ثمرة فكره أو نشاطه ) و الأمان ليس اختصاصاً بل هو شعور داخلي وطمأنينه نفسيَّة كالحب والبغض لا يمكن تداوله ولا المعاوضه عليه .
أن عقد التأمين لا يحقق للشخص الذي يرغب في توقي نتائج الخطر أماناً حقيقياً لأنه مهدد بإعسار المتعاقد معه .
أن جعل الأمان محلاً لعقد التأمين مخالف للنظرة القانونية التي نشأ هذا العقد في ظلالها ومخالف للنظر الفقهي حتى لدى من أجاز عقد التأمين كالشيخ مصطفى الزرقا .
أن الأمان إذا كان هو محل عقد التأمين فإنه ينبغي أن يكون منحه للمستأمن كافياً عن بذل عوض التأمين . وإذا قيل إن الأمان لا يحصل إلا ببذل عوض التأمين علمنا أن محل العقد هو المال وأن الأمان هو الباعث عليه أو الغاية منه .
ثم إن الأمان المجعول محلاً لعقد التأمين مجهول المقدار غير معلوم الصفة تحديداً وهذا غرر أيضاً .
الدليل الثاني : أن عقد التأمين يتضمن الميسر والقمار وقد حَرَّم الله الميسر بقوله تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(المائدة: من الآية90) .
والميسر كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( أخذ مال الإنسان وهو على مخاطرة هل يحصل له عوض أو لا يحصل ) .
وهذا الوصف متحقق في عقد التأمين باعتراف رجال القانون وذلك لأن الشخص الذي يأخذ على عاتقه ضمان الخطر يراهن على تحقق الخطر فإذا لم يتحقق كسب المبلغ الذي دُفع له , وإذا تحقق دَفع مبلغاً يزيد كثيراً عما قبضه وهذا هو الرهان .
وقد نوقش هذا الدليل بأن التأمين جد والقمار لعب وأن المؤمن إنما دفع ماله لمن يدفع عنه ضرراً كما يدفع التاجر لمن يحرس القافلة مبلغاً لحفظها من الخطر .
الجواب أن عقد التأمين يدخل تحت تعريف الميسر وتوجد فيه خصائصه .
وأما الخفارة التي تُدفع لمن يحرس القافلة ونحوها فهذا المبلغ إنما يُدفع أجرةً للحارس مقابل تسليمه نفسه وقت العقد ليقوم بمقتضاه ولم يأخذ المبلغ دون تسليمه نفسه . ثم إنه لا يضمن ما سرق أو تلف إذا لم يفرط في واجبه .
كتبه :
هاني بن عبد الله بن جبير
H_ j _30@maktoob.com
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصَّلاةُ والسَّلامُ على من لا نبي بعده .. وبعد
فإن من نوازل هذا العصر وقضاياه المستجدة عقد التأمين الذي نشأ وانتشر بفعل القوانين التجارية والمدنية التي جعلته واقعاً في كثير من التشريعات وحيث إنه سبق أن بحث في عدد من اللقاءات والندوات وصدرت حوله كثير من المؤلفات والأبحاث والرسائل .
وحيث حصل مؤخراً في هذا العقد مناقشات ومداولات فقد أحببت أن أكتب معتصراً عن هذا العقد ورأي الباحثين فيه في هذه الأكتوبة الموجزة وذلك من خلال أربع نقاط .
أولا : تعريف التأمين وحقيقته :
التأمين في اللغة مصدر أمَّن يؤمَّن مأخوذة من الاطمئنان الذي هو ضد الخوف ومن الأمانة التي هي ضد الخيانة . يقال أمَّنهُ تأميناً وائتمنه واستأمنه.
وعند الفقهاء التأمين قول آمين .
وصار يستخدم التأمين للدلالة على عقد خاص تقوم به شركات التأمين تدفع بموجبه مبلغاً في حال وقوع حادث معين لشخص يدفع لها قسطاً من المال .
لا بد للناظر للتأمين أن يتنبه إلى الفرق بين تناول التأمين كفكرة ونظريَّة وبين تنظيمه في عقد .
فالتأمين كنظرية ونظام مقبول إذ انه تعاون بين مجموعة بين الناس لدفع أخطار تحدق بهم بحيث إذا أصابت بعضهم تعاونوا على تفتيتها مقابل مبلغ ضئيل يقدمونه .
ولا شك أن هذه الفكرة فكرة مقبولة تقوم عليها كثير من أحكام الشريعة مثل الزكاة والنفقة على الأقارب , وتحميل العاقلة للدية . إلى أمثلة كثيرة تدعو إلى التعاون على البر والإحسان والتقوى والتكافل والتضامن .
هذه فكرة التأمين وهي فكرة تتفق مع مقاصد الشريعة الإسلامية و أحكامها وليس في هذا إشكال بحمد الله وإنما الإشكال في صياغة هذه الفكرة في عقد معاوضة أي في كونه علاقة بين المؤمن من جهة والمستأمن من جهة أخرى .
وسيكون هذا هو محل البحث في هذه الأوراق .
نشأة التأمين التجاري :
كان أول ظهور التأمين التجاري تأميناً للمخاطر التي تتعرض لها السفن المحملة بالبضائع وذلك في شمال إيطاليا في القرن الثاني عشر الميلادي . حيث كان صاحب البضاعة يدفع قسطاً معيناً على أنه في حال تلف البضاعة يقبض مبلغاً من المال ثم بدأ التأمين التجاري بالرواج ولكنه لم ينتقل إلى الدول العربية إلا في القرن التاسع عشر بدليل أن فقهاء المسلمين حتى القرن الثالث عشر الهجري لم يبحثوه مع أنهم بحثوا كل ما هو محيط بهم في شئون حياتهم العامَّة . فتناوله العلاَّمة محمد أمين ابن عابدين ( 1252هـ ) في كتابه رد المحتار على الدر المختار وسماه سوكوه .
وقد تزايد التعامل به بعد ذلك حتى دخل كثيراً من المجالات الاقتصادية وغيرها .
ويرى بعض الباحثين أن التأمين التجاري يتجه إلى الانكماش فالزوال وذلك أن دول العالم الغربي تتجه إلى الأخذ بالتأمين التعاوني وأن أكبر المنظمات التأمينية في سويسرا هي منظمات تعاونية . كما أن إحصائيات التأمين في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1972م تذكر أن التأمين التعاوني أصبح يغطي أكثر من 70% من نشاط التأمين فيها .
تعريف عقد التأمين التجاري :
تنوعت تعريفات هذا العقد في القوانين المدنية ولدى الباحثين المهتمين ويمكن منها أن يستخلص تعريف له بأنه : عقد معاوضة يلتزم أحد طرفيه وهو المؤمِّن أن يؤدي إلى الطرف الآخر وهو المؤمَّن له أو من يعينه عوضاً مالياً يتفق عليه . يدفع عند وقوع الخطر أو تحقق الخسارة المبينة في العقد وذلك نظير رسم يسمى قسط التأمين يدفعه المؤمَّن له بالقدر والأجل والكيفيَّة التي ينص عليها العقد المبرم بينهما .
ومن خلال هذا التعريف وما ذكره القانونيون نجد أن من أبرز خصائص عقد التأمين :
أنه عقد ملزم لطرفيه فيلتزم المؤمَّن له بدفع الأقساط حسب الاتفاق ويلتزم المؤمِّن بدفع التأمين عند حصول حادث محتمل .
كما أنه عقد مفاوضة لأن كلا المتعاقدين يأخذ مقابلاً لما أعطى فالمؤمِّن يعطي قسط التأمين والمؤمَّن له يعطي مبلغ التأمين عند تحقق ما يوجبه . وليست المعاوضة مقابل أمان محض يحصل عليه المؤمن .
كما أنه عقد احتمالي لأن كل طرف لا يعرف كم سيدفع وكم سيعطى على وجه التحديد لأن ذلك يتوقف على وقوع الخطر أو عدم وقوعه .
أنه عقد تجاري يهدف المؤمِّن منه إلى الربح والفائدة من خلال الأقساط المتجمعة لديه .
ثانياً : حكم عقد التأمين التجاري :
لم يكن هذا العقد معروفاً عند السلف , فلم يرد فيه نص شرعي ولم يوجد من الصحابة والأئمة المجتهدين من تعرَّض لحكمه . ولمَّا انتشر في هذا العصر درسه الباحثون واختلفوا في حكمه على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أن التأمين التجاري عقد غير جائز .
وقال به ابن عابدين الحنفي , ومحمد بخيت المطيعي (1354هـ) مفتي الديار المصريَّة , والشيخ محمد رشيد رضا , ومحمد أبو زهرة , وعبد الله القلقيلي مفتي الأردن , ومحمد أبو اليسر عابدين مفتي سوريا , والدكتورصديق الضرير , وشيخ الأزهر الشيخ جاد الحق , والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ وجماعة كثيرون . كما أنه الرأي الذي أفتت به عدة هيئات كهيئة كبار العلماء في المملكة العربيَّة السعودية والمجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي ومجمع الفقه الدولي بجدة التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي والمؤتمر العالمي للاقتصاد الإسلامي وهيئة رقابة بنك فيصل الإسلامي إلى غيرها من الجهات العلميَّة .
القول الثاني : أن التأمين التجاري عقد جائز .
وقال به مصطفى الزرقا و علي الخفيف و محمد يوسف موسى و عبد الوهاب خلاف وصدر به قرار الهيئة الشرعيّة لشركة الراجحي المصرفيّة .
القول الثالث : وهو التفصيل بجواز أنواع من التأمين وتحريم أنواع .
فمنهم من أجاز التأمين على الأموال دون التأمين على الحياة وهو قول محمد الحسن الحجوى , ومنهم من أجاز التأمين من الخطر الذي من أفعال العباد كالسرقة وحرّم التأمين من الخطر الذي سببه آفة سماوية وهو قول نجم الدين الواعظ مفتي العراق , ومنهم من أباح التأمين على حوادث السيارات والطائرات والسفن والمصانع وحرّم ما عداه وهو قول الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود .
أدلّة أصحاب القول الأول :
استدل أصحاب هذا القول بجملة أدلّة منها :
الدليل الأول : أن عقد التأمين عقد معاوضة وهو مع ذلك مشتمل على غرر , والغرر يفسد عقود المعاوضات .
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر . والنهي يقتضي الفساد .
والغرر هو ما تردد بين الحصول والفوات أو ما طُوِيت معرفته و جُهلت عينه.
فكل عقد بني على أمر محتمل مشكوك فيه فهو غرر .
والغرر المؤثر هو ما كان في عقود المعاوضات المالية . وكان غالباً على العقد حتى يصح وصف العقد كله بأنه غرر .
ولا شك أنَّ عقد التأمين مشتمل على الغرر في أكثر من موضع منه :
فالجهالة حاصلة في صفة محل التعاقد فالعوض لا يُعْرف مقداره حتى يقع الخطر المؤمن عليه .
كما أنها حاصلة في أجل العوض الذي لا يعرف متى يحل .
كما أن حصول العوض نفسه مجهول مشكوك فيه فلا يعرف المتعاقدان ذلك لتوقفه على وقوع الخطر أو عدم وقوعه .
فالغرر في الحصول وصفته وأجله وهي أمور مقصودة عند التعاقد وهذا يفسد العقد .
وقد نوقش هذا الدليل بأمرين الأوَّل : أنه لا يوجد غرر في عقد التأمين لأن غايته حصول الأمان وقد حصل بمجرد العقد سواء وقع الخطر أو لا والثاني أنّه على فرض حصوله فهو غرر يسير لا يؤثر في العقد.
والجواب أن النظر الشرعي في عقود المعاوضات إنما يكون لمحلها لا إلى غاياتها فإن الغاية أمر غير منضبط ولكلٍّ أن يجعل غاية عقده بما يراه فيصح لنا أن نقول إن غايته عقد التأمين أكل المال بالباطل . ويمكن لمن يبيح الفوائد الربويّة أن يتذرع بأن غايتها تحريك المال وتنميته واستثماره . وعليه فلا تعلق توصيف الأحكام بالمقاصد والحكم منها دون النظر لمحلها . ومحل عقد التأمين هو قسط التأمين وعوضه وهذا العِوَض مجهول الحصول والمقدار والأجل .
وخروجاً من هذا اضطر بعض الباحثين إلى القول بأن محل عقد التأمين هو نفس ضمان الأمن والأمان .
وقرر أن الأمن والأمان حق معنوي متفق مع الحقوق المحسوسة في اعتباره محل معاوضة ومحلاً لتداول الأيدي على تملكه ولذا فلا مانع من أن يكون الأمان هو محل المعاوضة في عقد التأمين .
ويناقش هذا القول بما يلي :
أن الحق هو اختصاص يقرر به الشرع سلطة أو تكليفاً . ( والحق المعنوي سلطة لشخص على شيء غير مادي هو ثمرة فكره أو نشاطه ) و الأمان ليس اختصاصاً بل هو شعور داخلي وطمأنينه نفسيَّة كالحب والبغض لا يمكن تداوله ولا المعاوضه عليه .
أن عقد التأمين لا يحقق للشخص الذي يرغب في توقي نتائج الخطر أماناً حقيقياً لأنه مهدد بإعسار المتعاقد معه .
أن جعل الأمان محلاً لعقد التأمين مخالف للنظرة القانونية التي نشأ هذا العقد في ظلالها ومخالف للنظر الفقهي حتى لدى من أجاز عقد التأمين كالشيخ مصطفى الزرقا .
أن الأمان إذا كان هو محل عقد التأمين فإنه ينبغي أن يكون منحه للمستأمن كافياً عن بذل عوض التأمين . وإذا قيل إن الأمان لا يحصل إلا ببذل عوض التأمين علمنا أن محل العقد هو المال وأن الأمان هو الباعث عليه أو الغاية منه .
ثم إن الأمان المجعول محلاً لعقد التأمين مجهول المقدار غير معلوم الصفة تحديداً وهذا غرر أيضاً .
الدليل الثاني : أن عقد التأمين يتضمن الميسر والقمار وقد حَرَّم الله الميسر بقوله تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(المائدة: من الآية90) .
والميسر كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( أخذ مال الإنسان وهو على مخاطرة هل يحصل له عوض أو لا يحصل ) .
وهذا الوصف متحقق في عقد التأمين باعتراف رجال القانون وذلك لأن الشخص الذي يأخذ على عاتقه ضمان الخطر يراهن على تحقق الخطر فإذا لم يتحقق كسب المبلغ الذي دُفع له , وإذا تحقق دَفع مبلغاً يزيد كثيراً عما قبضه وهذا هو الرهان .
وقد نوقش هذا الدليل بأن التأمين جد والقمار لعب وأن المؤمن إنما دفع ماله لمن يدفع عنه ضرراً كما يدفع التاجر لمن يحرس القافلة مبلغاً لحفظها من الخطر .
الجواب أن عقد التأمين يدخل تحت تعريف الميسر وتوجد فيه خصائصه .
وأما الخفارة التي تُدفع لمن يحرس القافلة ونحوها فهذا المبلغ إنما يُدفع أجرةً للحارس مقابل تسليمه نفسه وقت العقد ليقوم بمقتضاه ولم يأخذ المبلغ دون تسليمه نفسه . ثم إنه لا يضمن ما سرق أو تلف إذا لم يفرط في واجبه .