يوسُف سُلطان
2009-11-30, 17:46
http://www.alwarsha.com/images/makalat/baneeer.gif
المفارقة التصويرية
في شعر أحمد مطر
د. كمال أحمد غنيم
..أحمد مطر
لقد اهتمت البلاغة العربية القديمة بلون من التصوير البديعي القائم على فكرة التضاد، وجعلته في صورته البسيطة (طباقاً)، وفي صورته المركبة (مقابلة)، لكن الواضح أن فكرة التضاد هذه قامت على الجمع بين الضدين في عبارة واحدة ليس إلا، دون أن تشترط وجود تناقض واقعي عميق بينهما، فهي محسن شكلي جزئي هدفه التحسين البديعي الشكلي الذي لا يتجاوز مداه عبارة الأديب([i])، ويري "ميوميك" أن المفارقة قد بقيت لأكثر من قرنين من الزمان تُعد صيغة بلاغية بالدرجة الأولى، وكان للكلمة تعريفات مثل (أن يقول المرء عكس ما يعني)، أو (أن تقول شيئا وتعنى غيره)، أو (المدح من أجل الذم والذم من أجل المدح)، أو (الهزء والسخرية)([ii])، ويري أن المفارقة تنقسم إلى قسمين رئيسين يصعب الفصل بينهما، هما المفارقة اللفظية ومفارقة الموقف، ويحاول أن يبرز خصائص وعناصر المفارقة في جميع أشكالها([iii])، من أهم هذه العناصر التي قد تبرز في المفارقة (التضاد بين المظهر والمخبر)، الذي يقوم على تظاهر المرء بكونه خلاف ما هو عليه، فصاحب المفارقة قد يقول شيئاً، لكنه في الحقيقة يعني شيئاً مختلفاً تماماً، ومن عناصر المفارقة (الغفلة المطمئنة)، التي تقوم على عمى الضحية المتفاوت الدرجات من الكبرياء والغرور والقناعة الذاتية والسذاجة والبراءة، وهي غفلة مصطنعة من صاحب المفارقة فعلية لدى الضحية، وتقوم المفارقة على العنصر الكوميدي، حيث يكون تضاد المفارقة مؤلماً وكوميدياً معاً، تتضارب فيه العواطف والأفكار، ويثور الضحك لكنه يتلاشى على الشفاه، فثمة شيء نحبه يغدو موضوع سخرية بشكل قاس، حيث ندرك النكتة، لكننا نتألم منها، ومن عناصر المفارقة عنصر التجرد، الذي يقوم على الأسلوب المصطنع لدى صاحب المفارقة المتسم بالموضوعية والصفاء وعدم الحماس، كأن الأمر لا يعنيه، وهناك عنصر أخير في المفارقة هو العنصر الجمالي، حيث إن القصة الظريفة التي تحوي المكونات اللازمة لا تبعث السرور إذا أسيء سردها وكذلك الأمر في المفارقة، ويرى "ميوميك" أن هذه العناصر متداخلة في جميع الأحوال، وأن الظواهر التي تقتصر على جزء من هذه الخصائص، أو تضمها جميعا عدا قليل منها في شكل ضعيف سوف ينظر إليها على أنها ليست من المفارقة، أو أنها من أشباه المفارقة([iv]) .
ويرى على عشري زايد أن المفارقة التصويرية تكنيك فني، يستخدمه الشاعر المعاصر لإبراز التناقض بين طرفين متقابلين بينهما نوع من التناقض، وقد يمتد هذا التناقض ليشمل القصيدة بأكملها، ليس في جملة أو بيت كما في الطباق والمقابلة، ويرى أن التناقض في المفارقة التصويرية فكرة تقوم على استنكار الاختلاف والتفاوت بين أوضاع كان ينبغي أن تتفق وتتماثل([v]).
المفارقة التصويرية في شعر مطر:
ويبدو مفهوم المفارقة على هذه الصورة واضحاً في قصائد أحمد مطر، إن لم نقل بارزاً صارخاً في جميع قصائده، من ذلك قصيدة "خطاب تاريخي" التي يقول فيها:
رأيت جرذاً
يخطب اليوم عن النظافة
وينذر الأوساخ بالعقاب
وحوله
.. يصفق الذباب!([vi])
حيث يظهر عنصر التضاد بين مظهر هذا الجرذ الخطيب وجمهوره من الذباب بما يمثلانه من معاني القذارة، ومظهرهم الاحتفالي بالنظافة والحرب على الأوساخ وإنذارها بالعقاب.
وتبدو الغفلة المطمئنة واضحة في أعلى درجات غرور الجرذ وكبريائه وتبجح الجمهور ونفاقه، بينما يفتعل الشاعر صاحب المفارقة الغفلة عن الحقيقة وعدم رؤيتها، ويظهر العنصر الكوميدي واضحاً تتضارب معه العواطف والأفكار في سخرية مرة، تثير الضحك والبكاء، إذ أن الصورة تخفي وراءها بشفافية صورة الواقع العربي الأليم الذي تتحكم في مصيره أدوات قذرة من حكام وحاشية وجمهور من المنافقين لا يحسنون غير صنعة التصفيق، ويظهر عنصر التجرد في موضوعية الشاعر صاحب المفارقة وحياده وعدم تدخله في الصورة بنقدها سلباً أو إيجاباً، فهو يضع الأمر بين يدي المتلقي، كأن الأمر لا يعنيه، ويكتفي بموقف المشاهد في قوله "رأيت"، وقد ظهر العنصر الجمالي في أكثر من مظهر، في اكتمال الصورة الكلية المعتمدة على البناء التوقيعي، وفي استخدامه للبناء الدرامي القائم على السرد القصصي، وفي لغة الشاعر السهلة المعبرة عن أعماق المعاني، التي يرمي إليها في نقد الواقع العربي، ووصمه بأبشع الألفاظ والصور، ووضوح الرموز ونجاحها في أداء المعني، وتناسق موسيقي القصيدة مع الموضوع، وخصوصاً قافية القصيدة، التي جاءت على حرف الباء، الذي يناسب جو الخطابة العصماء، والتفوه بالعبارات الجوفاء الصارمة القاطعة، المعبرة شكلاً ومضموناً عن الاستبداد والتسلط، فالشفاه تنطبق مع انتهاء السطر الشعري في شكل يوحي بالقطع في الأمر، والمضمون يعبر عن استبداد الجرذ(الحاكم) المتمثل في إصداره التهديدات، وفي تصفيق الحاشية والجمهور للأوامر الغريبة المتناقضة مع أبسط حقائق الواقع.
ويكتمل القول حول هذه القصيدة الممثلة لمعظم أشعار أحمد مطر، بظهور تكنيك المفارقة التصويرية واضحاً فيها، من خلال إبراز الشاعر للتناقض بين طرفين متقابلين، يتمثلان في الجرذ وأعوانه من جهة والنظافة من جهة أخرى، أو بالأحرى في الحاكم وحاشيته من جهة والشعب الشريف المضطهد من جهة أخرى، حيث يستنكر الشاعر هذا التناقض، ويدعو إلى اتفاق الأطراف، فيستلم سدة الخطابة من هو منتمٍ إلى النظافة وعالمها، ويستلم سدة الحكم من هو منتمٍ إلى الشعب ومطالبه.
أنواع المفارقة في شعر مطر
ويلاحظ أن (ميوميك) قد نظر في تقسيمه لأنواع المفارقة إلى صاحب المفارقة وضحيتها، وجعلها بناء على ذلك عدة أنواع أهمها المفارقة اللاشخصية، ومفارقة الاستخفاف بالذات، ومفارقة الفجاجة، ومفارقة الكشف عن الذات، ومفارقة التنافر البسيط، والمفارقة الدرامية، ومفارقة الأحداث([vii])، بينما نظر علي عشري زايد في تصنيفه لأنماط المفارقة إلى طبيعة الطرفين المتناقضين، وجعلها بناءً على ذلك شكلين أساسيين، هما المفارقة ذات الطرفين المعاصرين، والمفارقة ذات المعطيات التراثية([viii])، وفيما يلي استقصاء لأنواع المفارقة التصويرية، وأساليبها المتنوعة التي وظفها الشاعر لخدمة تجربته المميزة.
المفارقة اللاشخصية:
هي طريقة في اتخاذ المفارقة لا تستند إلى أي وزن يُمنح لشخصية صاحب المفارقة، حيث يخفى نفسه وراء قناع، فكلماته وحدها، أو تعارضها مع ما نعرف، تنتج المفارقة، وهو يتميز عادة بجفاف أو صرامة في الأسلوب، وتكون النبرة نبرة متكلم عاقل ينطلق على رسله، متواضع غير عاطفي([ix]).
وقد أكثر الشاعر من اعتماد هذه الطريقة في المفارقة، حيث كان يلبس قناعاً، ويترك لكلماته المتناقضة مع الواقع تكشف ما يصوره من مفارقات، ومن ذلك قوله في قصيدة "الغزاة":
الأصوليون قوم لا يحبون المحبة.
ملأوا الأوطان بالإرهاب
حتى امتلأ الإرهاب رهبة!
ويلهم..
من أين جاءوا؟!
كيف جاءوا؟!
قبلهم كانت حياة الناس رحبة.
قبلهم ما كان للحاكم أن يعطس
إلا حين يستأذن شعبه!
وإذا داهمه العطس بلا إذنٍ
تنحى..
ورجا الأمة أن تغفر ذنبه!
لم يكن من قبلهم رعب
ولا قهر
ولا جرح
ولا قتل
ولا كانت لدى الأوطان غربة.
كان طعم المر حلواً
وهواء الخنق طلقاً
وكؤوس السم عذبة!
كانت الأوطان حقا.. مستتبة!([x]).
فعنوان القصيدة "الغزاة "لا يعطي المتلقي القدرة على تصنيفها ضمن باب المفارقة، لكن سابق معرفة المتلقي بالشاعر وآرائه قد تساعده على إدراك المفارقة، فإن كان المتلقي يتذوق شعره لأول مرة فقد تختلط عليه الأمور، ولا يبقى أمامه إلا التضاد بين المظهر والمخبر كصفة أساسية في المفارقة، ومن ذلك التناقض بين صورة الحاكم واستئذانه لشعبه حتى في العطس، وواقع الحكام الذي يتسم بالاستبداد، والتناقض بين صور المر الحلو وهواء الخنق الطلق وكؤوس السم العذبة، وواقعها الذي يخضع للناموس الكوني وصفات الأشياء، حيث يبدو واضحاً أن الشاعر يستدعي في ذهن المتلقي أكثر من صورة للواقع، تتناقض مع الإعلام والتصريحات القائمة على الادعاء والزيف، وخصوصاً إذا ما رحنا نتابع معه التهم البريئة المختلفة التي يوجهها الحكام للأصوليين، من خطابة في المسجد، وقراءة قرآن، وعبادة الله، ولبس الجبة، وزعمهم أن لهم حقا في استلام الحكم إذا ما حصلوا على أعظم نسبة، وتبدو المفارقة واضحة في الدعاء الذي يختم به قصيدته جامعاً مقدسات الأديان المختلفة البعيدة عن الإسلام في قوله:
فبحق الأب والابن وروح القدس،
وكريشنا
وبوذا
ويهوذا
تب على دولتنا منهم
ولا تقبل لهم يا رب توبة!([xi])
مفارقة الاستخفاف بالذات:
هي طريقة في اتخاذ المفارقة التصويرية، يلبس فيها صاحب المفارقة قناعاً ذا أثر إيجابي في هيئة تقمص شخصية، حيث يحمل نفسه إلى المسرح في شخص امرئ جاهل، سريع التصديق، جاد، مفرط في الحماس، يعمل على التقليل من قدر نفسه، مستغلاً ما يعطيه من انطباع عن نفسه ليكون جزءاً من وسيلة المفارقة([xii])، وقد وظف الشاعر هذه الطريقة في التصوير مرات عديدة، منها قوله في قصيدة "صدفة ":
شعرت هنا اليوم
بالصدمة.
فعندما
رأيت جاري قادماً
رفعت كفي نحوه
مسلماً
مكتفياً بالصمت والبسمة
لأنني أعلم أن الصمت
في أوطاننا.. حكمة.
لكنه رد على قائلاً:
عليكم السلام والرحمة.
ورغم هذا
لم تسجل ضده تهمة!
* *
الحمد لله على النعمة
من قال ماتت عندنا
حرية الكلمة!([xiii]).
فقد صور الشاعر صاحب المفارقة نفسه في شخص امرئ ساذج، سريع التصديق، مقللاً من قدر نفسه، فهو لا يتكلم حتى في المواضيع الهينة، ويلتزم الصمت شعاراً وحكمة، تصل إلى أعلى مراتب الجهل والإفراط في السذاجة، ويظهر الدهشة من رد جاره بكلمات التحية والسلام، ويرى في ذلك أكبر دليل على حرية الكلمة وقدرة المرء في التعبير عن نفسه، وهو يستغل هذا الانطباع بالدهشة والسذاجة لينتج المفارقة، ويكشف فظاعة الواقع العربي، الخاضع لعملية كبت حريات بشعة لا رحمة فيها.
مفارقة الفجاجة:
تعتمد هذه الطريقة على تخلى صاحب المفارقة عن مكانه لساذج أو فج، يُراد أن يُنظر إليه على إنه غير صاحب المفارقة، رغم أنه يتصرف نيابة عنه دون علمه بالأمر، وقد يسأل هذا الفج أسئلة أو يدلي بتعليقات لا يدرك مغزاها الكامل([xiv])، وقد وظف الشاعر هذه المفارقة التصويرية في عدد من قصائده منها قصيدة "مزايا وعيوب ":
نبح الكلب بمسئول شؤون العاملين:
سيدي إني حزين.
هاك.. خذ طالع ملفي
قذر من تحت رجلي إلى ما فوق كتفي
ليس عندي أي دين.
لاهث في كل حين.
بارع في الشم والنبح وعقر الغافلين.
بطل في سرعة العدو
خبير في اقتفاء الهاربين.
فلماذا يا ترى لم يقبلوني
في صفوف المخبرين؟!
هتف المسئول: لكن
فيك عيبان يسيئان إليهم
أنت يا هذا وفي وأمين!([xv]).
إذ إن الشاعر صاحب المفارقة يتخلى عن مكانه، ويترك الزمام لكلب ساذج فج لا يعي حقيقة ما حوله، ويدعه يسأل عن عدم قبوله في صفوف المخبرين، على الرغم من مميزاته التي تتوافق مع هؤلاء الرجال، فهو قذر مثلهم، لاهث مثلهم، بارع في عقر الغافلين الذين لا علاقة لهم بشيء، خبير في اقتفاء الهاربين، ويكشف بأسئلته هذه عن واقع المخبرين وانعدام ضمائرهم، وخصوصاً عند تقديم المسئول لمبررات عدم القبول، المتمثلة في الوفاء المشهور عن الكلاب وأمانتهم، وهى صفات يشترط أن لا توجد في رجال المخابرات!
مفارقة الكشف عن الذات:
تعتمد هذه الطريقة في التصوير على انسحاب صاحب المفارقة تماماً، وخلقه شخصيات تجلب على نفسها مفارقات دون وعي منها، ويغلب أن تكون الضحية في هذه المفارقة أعمى في كبرياء وواثقاً في حمق([xvi])، وقد وظف الشاعر هذه الطريقة في أكثر من موضع، ومن ذلك قصيدة "تمرد"، التي يترك المجال فيها لشخصيات هي الحائط والمسمار والمطرقة، فالحائط يحتج على اختراق المسمار له، ويحاول أن يقنعه بعدم الرضوخ للمطرقة، التي تريد تعليق صورة الحاكم، ويذكره بأنهما خلقا للخير، المتمثل في تكوين الشبابيك والأبواب، وحمل الرفوف والكتب، وحماية الأسر، فيقتنع المسمار، ويراوغ المطرقة حتى ينكسر في عملية رفض لحمل صورة الحاكم الظالم:
خارج المنزل كانت صورة الغر الأغر
فوق أعناق الجماهير
وما بين أياديهم
وفي كل ممر.
والهتافات له هاطلة مثل المطر.
* *
ضحك الحائط:
لا نرضى بأن نحمل عارا
وإذا، يوماً، حملناه اضطرارا
فعلى أيدي البشر.
ألف شكر لك يا رب على أنا
حديد وحجر!([xvii]).
ويمثل الحائط والمسمار القوى الواعية في المجتمع، وتمثل المطرقة أدوات الظلم وأجهزته، بينما تبقي الجماهير الضحية العمياء عن الحقيقة، الواثقة في حمق، وبذلك تظهر المفارقة بين موقفها وموقف قوى الوعي؛ الذي قد تدركه أبسط العقول الممثلة بالحائط والمسمار.
مفارقة التنافر البسيط:
تعتمد هذه المفارقة على وجود تجاور شديد بين قولين متناقضين، أو صورتين متنافرتين من غير تعليق([xviii])، وقد برع الشاعر في توظيف هذه المفارقة في أكثر من موضع، من ذلك قوله في خاتمة قصيدة "عاش يسقط ":
هزي إليك بجذع مؤتمر
يساقط حولك الهذر:
عاش اللهيب
..ويسقط المطر!([xix]).
حيث صور الشاعر تخاذل الزعماء في إنقاذ القدس، وعجز الشعوب عن تجاوزهم من أجل تحريرها، ويسخر من المؤتمرات التي يعقدها القادة، ويجمع بين صورة اللهيب الذي يمثل جموع الشعب، والمطر المتساقط عليه ممثلاً للقادة، وهو يصل من خلال هذه المفارقة إلى صعوبة قيام الشعوب بتحرير القدس طالما بقي هؤلاء القادة المتخاذلون في سدة الحكم.
ومن نماذج مفارقة التنافر البسيط قوله في قصيدة "مقيم في الهجرة ":
عمري لا يدري كم عمري!
كيف سيدري؟!
من أول ساعة ميلادي
وأنا هجري!([xx]).
فقد صور الشاعر غربته عن وطنه، وامتدادها لفترات طويلة، دون أن تبدو لها نهاية، وجمع في ذلك بين التقويم الميلادي والتقويم الهجري في سخرية تركها دون تعليق، فهو منذ مولده مكره على الهجرة نتيجة الاستبداد والطغيان، وكأن الهجرة منذ الميلاد ناموس يشبه ناموس التقويمين المتنافرين، وهذا الناموس لا مفر منه، فمن المستحيل أن يجتمع التقويمان على أزمان محدودة وتوقيتات معينة.
المفارقة الدرامية:
تشكل هذه المفارقة قوام المفارقة في المسرح، وهي لا تقتصر بالطبع على الدرامة، فقد ترد في الملاحم والشعر القصصي، وهي تقوم على جهل الضحية بالموقف الذي هي فيه وتبدو أبلغ أثراً عندما لا يكون المتلقي وحسب؛ بل شخص أخر في التمثيلية أو القصة، على وعي بجهل الضحية([xxi])، وقد وظف الشاعر طريقة التصويرهذه في العديد من قصائده، من ذلك قصيدة (يحيا العدل):
حبسوه
قبل أن يتهموه!
عذبوه
قبل أن يستجوبوه!
أطفأوا سيجارة في مقلتيه
عرضوا بعض التصاوير عليه:
قل.. لمن هذه الوجوه؟
قال لا أبصر.
..قصوا شفتيه!
طلبوا منه اعترافاً
حول من قد جندوه.
لم يقل شيئاً
ولما عجزوا أن ينطقوه
شنقوه!
* *
بعد شهر برأوه!
أدركوا أن الفتى
ليس هو المطلوب أصلاً
بل أخوه.
ومضوا نحو الأخ الثاني
ولكن.. وجدوه
ميتاً من شدة الحزن
فلم يعتقلوه!([xxii])
فالمتهم الضحية لا يدرك سبباً لاعتقاله وتعذيبه، ورجال التحقيق يقتلعون عينيه ويطلبون منه رؤية التصاوير، ويقصون شفتيه ويطلبون منه النطق بالاعتراف، وفي نهاية الأمر يقومون بشنقه، ويتبين بعد ذلك أنه بريء، فهي مفارقات درامية متتالية، حيث إن المتلقي يعلم تماما أن المتهم عاجز عن تلبية طلبات المحققين المتناقضة مع أفعالهم السابقة، وقد زاد من جمال هذه الصورة أن الشاعر ترك جزءاً من الحقيقة مجهولاً، وقام بكشفه ليحقق بذلك أقصى درجات الإدهاش لدى المتلقي.
يليه تابع .../ ...
المفارقة التصويرية
في شعر أحمد مطر
د. كمال أحمد غنيم
..أحمد مطر
لقد اهتمت البلاغة العربية القديمة بلون من التصوير البديعي القائم على فكرة التضاد، وجعلته في صورته البسيطة (طباقاً)، وفي صورته المركبة (مقابلة)، لكن الواضح أن فكرة التضاد هذه قامت على الجمع بين الضدين في عبارة واحدة ليس إلا، دون أن تشترط وجود تناقض واقعي عميق بينهما، فهي محسن شكلي جزئي هدفه التحسين البديعي الشكلي الذي لا يتجاوز مداه عبارة الأديب([i])، ويري "ميوميك" أن المفارقة قد بقيت لأكثر من قرنين من الزمان تُعد صيغة بلاغية بالدرجة الأولى، وكان للكلمة تعريفات مثل (أن يقول المرء عكس ما يعني)، أو (أن تقول شيئا وتعنى غيره)، أو (المدح من أجل الذم والذم من أجل المدح)، أو (الهزء والسخرية)([ii])، ويري أن المفارقة تنقسم إلى قسمين رئيسين يصعب الفصل بينهما، هما المفارقة اللفظية ومفارقة الموقف، ويحاول أن يبرز خصائص وعناصر المفارقة في جميع أشكالها([iii])، من أهم هذه العناصر التي قد تبرز في المفارقة (التضاد بين المظهر والمخبر)، الذي يقوم على تظاهر المرء بكونه خلاف ما هو عليه، فصاحب المفارقة قد يقول شيئاً، لكنه في الحقيقة يعني شيئاً مختلفاً تماماً، ومن عناصر المفارقة (الغفلة المطمئنة)، التي تقوم على عمى الضحية المتفاوت الدرجات من الكبرياء والغرور والقناعة الذاتية والسذاجة والبراءة، وهي غفلة مصطنعة من صاحب المفارقة فعلية لدى الضحية، وتقوم المفارقة على العنصر الكوميدي، حيث يكون تضاد المفارقة مؤلماً وكوميدياً معاً، تتضارب فيه العواطف والأفكار، ويثور الضحك لكنه يتلاشى على الشفاه، فثمة شيء نحبه يغدو موضوع سخرية بشكل قاس، حيث ندرك النكتة، لكننا نتألم منها، ومن عناصر المفارقة عنصر التجرد، الذي يقوم على الأسلوب المصطنع لدى صاحب المفارقة المتسم بالموضوعية والصفاء وعدم الحماس، كأن الأمر لا يعنيه، وهناك عنصر أخير في المفارقة هو العنصر الجمالي، حيث إن القصة الظريفة التي تحوي المكونات اللازمة لا تبعث السرور إذا أسيء سردها وكذلك الأمر في المفارقة، ويرى "ميوميك" أن هذه العناصر متداخلة في جميع الأحوال، وأن الظواهر التي تقتصر على جزء من هذه الخصائص، أو تضمها جميعا عدا قليل منها في شكل ضعيف سوف ينظر إليها على أنها ليست من المفارقة، أو أنها من أشباه المفارقة([iv]) .
ويرى على عشري زايد أن المفارقة التصويرية تكنيك فني، يستخدمه الشاعر المعاصر لإبراز التناقض بين طرفين متقابلين بينهما نوع من التناقض، وقد يمتد هذا التناقض ليشمل القصيدة بأكملها، ليس في جملة أو بيت كما في الطباق والمقابلة، ويرى أن التناقض في المفارقة التصويرية فكرة تقوم على استنكار الاختلاف والتفاوت بين أوضاع كان ينبغي أن تتفق وتتماثل([v]).
المفارقة التصويرية في شعر مطر:
ويبدو مفهوم المفارقة على هذه الصورة واضحاً في قصائد أحمد مطر، إن لم نقل بارزاً صارخاً في جميع قصائده، من ذلك قصيدة "خطاب تاريخي" التي يقول فيها:
رأيت جرذاً
يخطب اليوم عن النظافة
وينذر الأوساخ بالعقاب
وحوله
.. يصفق الذباب!([vi])
حيث يظهر عنصر التضاد بين مظهر هذا الجرذ الخطيب وجمهوره من الذباب بما يمثلانه من معاني القذارة، ومظهرهم الاحتفالي بالنظافة والحرب على الأوساخ وإنذارها بالعقاب.
وتبدو الغفلة المطمئنة واضحة في أعلى درجات غرور الجرذ وكبريائه وتبجح الجمهور ونفاقه، بينما يفتعل الشاعر صاحب المفارقة الغفلة عن الحقيقة وعدم رؤيتها، ويظهر العنصر الكوميدي واضحاً تتضارب معه العواطف والأفكار في سخرية مرة، تثير الضحك والبكاء، إذ أن الصورة تخفي وراءها بشفافية صورة الواقع العربي الأليم الذي تتحكم في مصيره أدوات قذرة من حكام وحاشية وجمهور من المنافقين لا يحسنون غير صنعة التصفيق، ويظهر عنصر التجرد في موضوعية الشاعر صاحب المفارقة وحياده وعدم تدخله في الصورة بنقدها سلباً أو إيجاباً، فهو يضع الأمر بين يدي المتلقي، كأن الأمر لا يعنيه، ويكتفي بموقف المشاهد في قوله "رأيت"، وقد ظهر العنصر الجمالي في أكثر من مظهر، في اكتمال الصورة الكلية المعتمدة على البناء التوقيعي، وفي استخدامه للبناء الدرامي القائم على السرد القصصي، وفي لغة الشاعر السهلة المعبرة عن أعماق المعاني، التي يرمي إليها في نقد الواقع العربي، ووصمه بأبشع الألفاظ والصور، ووضوح الرموز ونجاحها في أداء المعني، وتناسق موسيقي القصيدة مع الموضوع، وخصوصاً قافية القصيدة، التي جاءت على حرف الباء، الذي يناسب جو الخطابة العصماء، والتفوه بالعبارات الجوفاء الصارمة القاطعة، المعبرة شكلاً ومضموناً عن الاستبداد والتسلط، فالشفاه تنطبق مع انتهاء السطر الشعري في شكل يوحي بالقطع في الأمر، والمضمون يعبر عن استبداد الجرذ(الحاكم) المتمثل في إصداره التهديدات، وفي تصفيق الحاشية والجمهور للأوامر الغريبة المتناقضة مع أبسط حقائق الواقع.
ويكتمل القول حول هذه القصيدة الممثلة لمعظم أشعار أحمد مطر، بظهور تكنيك المفارقة التصويرية واضحاً فيها، من خلال إبراز الشاعر للتناقض بين طرفين متقابلين، يتمثلان في الجرذ وأعوانه من جهة والنظافة من جهة أخرى، أو بالأحرى في الحاكم وحاشيته من جهة والشعب الشريف المضطهد من جهة أخرى، حيث يستنكر الشاعر هذا التناقض، ويدعو إلى اتفاق الأطراف، فيستلم سدة الخطابة من هو منتمٍ إلى النظافة وعالمها، ويستلم سدة الحكم من هو منتمٍ إلى الشعب ومطالبه.
أنواع المفارقة في شعر مطر
ويلاحظ أن (ميوميك) قد نظر في تقسيمه لأنواع المفارقة إلى صاحب المفارقة وضحيتها، وجعلها بناء على ذلك عدة أنواع أهمها المفارقة اللاشخصية، ومفارقة الاستخفاف بالذات، ومفارقة الفجاجة، ومفارقة الكشف عن الذات، ومفارقة التنافر البسيط، والمفارقة الدرامية، ومفارقة الأحداث([vii])، بينما نظر علي عشري زايد في تصنيفه لأنماط المفارقة إلى طبيعة الطرفين المتناقضين، وجعلها بناءً على ذلك شكلين أساسيين، هما المفارقة ذات الطرفين المعاصرين، والمفارقة ذات المعطيات التراثية([viii])، وفيما يلي استقصاء لأنواع المفارقة التصويرية، وأساليبها المتنوعة التي وظفها الشاعر لخدمة تجربته المميزة.
المفارقة اللاشخصية:
هي طريقة في اتخاذ المفارقة لا تستند إلى أي وزن يُمنح لشخصية صاحب المفارقة، حيث يخفى نفسه وراء قناع، فكلماته وحدها، أو تعارضها مع ما نعرف، تنتج المفارقة، وهو يتميز عادة بجفاف أو صرامة في الأسلوب، وتكون النبرة نبرة متكلم عاقل ينطلق على رسله، متواضع غير عاطفي([ix]).
وقد أكثر الشاعر من اعتماد هذه الطريقة في المفارقة، حيث كان يلبس قناعاً، ويترك لكلماته المتناقضة مع الواقع تكشف ما يصوره من مفارقات، ومن ذلك قوله في قصيدة "الغزاة":
الأصوليون قوم لا يحبون المحبة.
ملأوا الأوطان بالإرهاب
حتى امتلأ الإرهاب رهبة!
ويلهم..
من أين جاءوا؟!
كيف جاءوا؟!
قبلهم كانت حياة الناس رحبة.
قبلهم ما كان للحاكم أن يعطس
إلا حين يستأذن شعبه!
وإذا داهمه العطس بلا إذنٍ
تنحى..
ورجا الأمة أن تغفر ذنبه!
لم يكن من قبلهم رعب
ولا قهر
ولا جرح
ولا قتل
ولا كانت لدى الأوطان غربة.
كان طعم المر حلواً
وهواء الخنق طلقاً
وكؤوس السم عذبة!
كانت الأوطان حقا.. مستتبة!([x]).
فعنوان القصيدة "الغزاة "لا يعطي المتلقي القدرة على تصنيفها ضمن باب المفارقة، لكن سابق معرفة المتلقي بالشاعر وآرائه قد تساعده على إدراك المفارقة، فإن كان المتلقي يتذوق شعره لأول مرة فقد تختلط عليه الأمور، ولا يبقى أمامه إلا التضاد بين المظهر والمخبر كصفة أساسية في المفارقة، ومن ذلك التناقض بين صورة الحاكم واستئذانه لشعبه حتى في العطس، وواقع الحكام الذي يتسم بالاستبداد، والتناقض بين صور المر الحلو وهواء الخنق الطلق وكؤوس السم العذبة، وواقعها الذي يخضع للناموس الكوني وصفات الأشياء، حيث يبدو واضحاً أن الشاعر يستدعي في ذهن المتلقي أكثر من صورة للواقع، تتناقض مع الإعلام والتصريحات القائمة على الادعاء والزيف، وخصوصاً إذا ما رحنا نتابع معه التهم البريئة المختلفة التي يوجهها الحكام للأصوليين، من خطابة في المسجد، وقراءة قرآن، وعبادة الله، ولبس الجبة، وزعمهم أن لهم حقا في استلام الحكم إذا ما حصلوا على أعظم نسبة، وتبدو المفارقة واضحة في الدعاء الذي يختم به قصيدته جامعاً مقدسات الأديان المختلفة البعيدة عن الإسلام في قوله:
فبحق الأب والابن وروح القدس،
وكريشنا
وبوذا
ويهوذا
تب على دولتنا منهم
ولا تقبل لهم يا رب توبة!([xi])
مفارقة الاستخفاف بالذات:
هي طريقة في اتخاذ المفارقة التصويرية، يلبس فيها صاحب المفارقة قناعاً ذا أثر إيجابي في هيئة تقمص شخصية، حيث يحمل نفسه إلى المسرح في شخص امرئ جاهل، سريع التصديق، جاد، مفرط في الحماس، يعمل على التقليل من قدر نفسه، مستغلاً ما يعطيه من انطباع عن نفسه ليكون جزءاً من وسيلة المفارقة([xii])، وقد وظف الشاعر هذه الطريقة في التصوير مرات عديدة، منها قوله في قصيدة "صدفة ":
شعرت هنا اليوم
بالصدمة.
فعندما
رأيت جاري قادماً
رفعت كفي نحوه
مسلماً
مكتفياً بالصمت والبسمة
لأنني أعلم أن الصمت
في أوطاننا.. حكمة.
لكنه رد على قائلاً:
عليكم السلام والرحمة.
ورغم هذا
لم تسجل ضده تهمة!
* *
الحمد لله على النعمة
من قال ماتت عندنا
حرية الكلمة!([xiii]).
فقد صور الشاعر صاحب المفارقة نفسه في شخص امرئ ساذج، سريع التصديق، مقللاً من قدر نفسه، فهو لا يتكلم حتى في المواضيع الهينة، ويلتزم الصمت شعاراً وحكمة، تصل إلى أعلى مراتب الجهل والإفراط في السذاجة، ويظهر الدهشة من رد جاره بكلمات التحية والسلام، ويرى في ذلك أكبر دليل على حرية الكلمة وقدرة المرء في التعبير عن نفسه، وهو يستغل هذا الانطباع بالدهشة والسذاجة لينتج المفارقة، ويكشف فظاعة الواقع العربي، الخاضع لعملية كبت حريات بشعة لا رحمة فيها.
مفارقة الفجاجة:
تعتمد هذه الطريقة على تخلى صاحب المفارقة عن مكانه لساذج أو فج، يُراد أن يُنظر إليه على إنه غير صاحب المفارقة، رغم أنه يتصرف نيابة عنه دون علمه بالأمر، وقد يسأل هذا الفج أسئلة أو يدلي بتعليقات لا يدرك مغزاها الكامل([xiv])، وقد وظف الشاعر هذه المفارقة التصويرية في عدد من قصائده منها قصيدة "مزايا وعيوب ":
نبح الكلب بمسئول شؤون العاملين:
سيدي إني حزين.
هاك.. خذ طالع ملفي
قذر من تحت رجلي إلى ما فوق كتفي
ليس عندي أي دين.
لاهث في كل حين.
بارع في الشم والنبح وعقر الغافلين.
بطل في سرعة العدو
خبير في اقتفاء الهاربين.
فلماذا يا ترى لم يقبلوني
في صفوف المخبرين؟!
هتف المسئول: لكن
فيك عيبان يسيئان إليهم
أنت يا هذا وفي وأمين!([xv]).
إذ إن الشاعر صاحب المفارقة يتخلى عن مكانه، ويترك الزمام لكلب ساذج فج لا يعي حقيقة ما حوله، ويدعه يسأل عن عدم قبوله في صفوف المخبرين، على الرغم من مميزاته التي تتوافق مع هؤلاء الرجال، فهو قذر مثلهم، لاهث مثلهم، بارع في عقر الغافلين الذين لا علاقة لهم بشيء، خبير في اقتفاء الهاربين، ويكشف بأسئلته هذه عن واقع المخبرين وانعدام ضمائرهم، وخصوصاً عند تقديم المسئول لمبررات عدم القبول، المتمثلة في الوفاء المشهور عن الكلاب وأمانتهم، وهى صفات يشترط أن لا توجد في رجال المخابرات!
مفارقة الكشف عن الذات:
تعتمد هذه الطريقة في التصوير على انسحاب صاحب المفارقة تماماً، وخلقه شخصيات تجلب على نفسها مفارقات دون وعي منها، ويغلب أن تكون الضحية في هذه المفارقة أعمى في كبرياء وواثقاً في حمق([xvi])، وقد وظف الشاعر هذه الطريقة في أكثر من موضع، ومن ذلك قصيدة "تمرد"، التي يترك المجال فيها لشخصيات هي الحائط والمسمار والمطرقة، فالحائط يحتج على اختراق المسمار له، ويحاول أن يقنعه بعدم الرضوخ للمطرقة، التي تريد تعليق صورة الحاكم، ويذكره بأنهما خلقا للخير، المتمثل في تكوين الشبابيك والأبواب، وحمل الرفوف والكتب، وحماية الأسر، فيقتنع المسمار، ويراوغ المطرقة حتى ينكسر في عملية رفض لحمل صورة الحاكم الظالم:
خارج المنزل كانت صورة الغر الأغر
فوق أعناق الجماهير
وما بين أياديهم
وفي كل ممر.
والهتافات له هاطلة مثل المطر.
* *
ضحك الحائط:
لا نرضى بأن نحمل عارا
وإذا، يوماً، حملناه اضطرارا
فعلى أيدي البشر.
ألف شكر لك يا رب على أنا
حديد وحجر!([xvii]).
ويمثل الحائط والمسمار القوى الواعية في المجتمع، وتمثل المطرقة أدوات الظلم وأجهزته، بينما تبقي الجماهير الضحية العمياء عن الحقيقة، الواثقة في حمق، وبذلك تظهر المفارقة بين موقفها وموقف قوى الوعي؛ الذي قد تدركه أبسط العقول الممثلة بالحائط والمسمار.
مفارقة التنافر البسيط:
تعتمد هذه المفارقة على وجود تجاور شديد بين قولين متناقضين، أو صورتين متنافرتين من غير تعليق([xviii])، وقد برع الشاعر في توظيف هذه المفارقة في أكثر من موضع، من ذلك قوله في خاتمة قصيدة "عاش يسقط ":
هزي إليك بجذع مؤتمر
يساقط حولك الهذر:
عاش اللهيب
..ويسقط المطر!([xix]).
حيث صور الشاعر تخاذل الزعماء في إنقاذ القدس، وعجز الشعوب عن تجاوزهم من أجل تحريرها، ويسخر من المؤتمرات التي يعقدها القادة، ويجمع بين صورة اللهيب الذي يمثل جموع الشعب، والمطر المتساقط عليه ممثلاً للقادة، وهو يصل من خلال هذه المفارقة إلى صعوبة قيام الشعوب بتحرير القدس طالما بقي هؤلاء القادة المتخاذلون في سدة الحكم.
ومن نماذج مفارقة التنافر البسيط قوله في قصيدة "مقيم في الهجرة ":
عمري لا يدري كم عمري!
كيف سيدري؟!
من أول ساعة ميلادي
وأنا هجري!([xx]).
فقد صور الشاعر غربته عن وطنه، وامتدادها لفترات طويلة، دون أن تبدو لها نهاية، وجمع في ذلك بين التقويم الميلادي والتقويم الهجري في سخرية تركها دون تعليق، فهو منذ مولده مكره على الهجرة نتيجة الاستبداد والطغيان، وكأن الهجرة منذ الميلاد ناموس يشبه ناموس التقويمين المتنافرين، وهذا الناموس لا مفر منه، فمن المستحيل أن يجتمع التقويمان على أزمان محدودة وتوقيتات معينة.
المفارقة الدرامية:
تشكل هذه المفارقة قوام المفارقة في المسرح، وهي لا تقتصر بالطبع على الدرامة، فقد ترد في الملاحم والشعر القصصي، وهي تقوم على جهل الضحية بالموقف الذي هي فيه وتبدو أبلغ أثراً عندما لا يكون المتلقي وحسب؛ بل شخص أخر في التمثيلية أو القصة، على وعي بجهل الضحية([xxi])، وقد وظف الشاعر طريقة التصويرهذه في العديد من قصائده، من ذلك قصيدة (يحيا العدل):
حبسوه
قبل أن يتهموه!
عذبوه
قبل أن يستجوبوه!
أطفأوا سيجارة في مقلتيه
عرضوا بعض التصاوير عليه:
قل.. لمن هذه الوجوه؟
قال لا أبصر.
..قصوا شفتيه!
طلبوا منه اعترافاً
حول من قد جندوه.
لم يقل شيئاً
ولما عجزوا أن ينطقوه
شنقوه!
* *
بعد شهر برأوه!
أدركوا أن الفتى
ليس هو المطلوب أصلاً
بل أخوه.
ومضوا نحو الأخ الثاني
ولكن.. وجدوه
ميتاً من شدة الحزن
فلم يعتقلوه!([xxii])
فالمتهم الضحية لا يدرك سبباً لاعتقاله وتعذيبه، ورجال التحقيق يقتلعون عينيه ويطلبون منه رؤية التصاوير، ويقصون شفتيه ويطلبون منه النطق بالاعتراف، وفي نهاية الأمر يقومون بشنقه، ويتبين بعد ذلك أنه بريء، فهي مفارقات درامية متتالية، حيث إن المتلقي يعلم تماما أن المتهم عاجز عن تلبية طلبات المحققين المتناقضة مع أفعالهم السابقة، وقد زاد من جمال هذه الصورة أن الشاعر ترك جزءاً من الحقيقة مجهولاً، وقام بكشفه ليحقق بذلك أقصى درجات الإدهاش لدى المتلقي.
يليه تابع .../ ...