المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شرح كتاب النكاح لمعالي د. سعد بن ناصر الشثري


احمد الصادق
2019-04-22, 10:30
المحرر في الحديث (4)
الدرس الأول (1)
معالي د. سعد بن ناصر الشثري
بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدة من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشيخ الدكتور:سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
الله يحييك، أرحب بك، وأرحب بإخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يرزقني وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، والنية الخالصة.
{نستأنف في هذا الفصل -بإذن الله- ما توقفنا عنده في الفصل الماضي.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كِتَابُ النِّكَاحِ
عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ عبدِ اللهِ بمنىً، فَلَقِيَهُ عُثْمَانُ، فَقَامَ مَعَهُ يُحدِّثُهُ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: يَا أَبَا عَبدِ الرَّحْمَنِ، أَلا نُزَوِّجكَ جَارِيَةً شَابَّةً لَعَلَّهَا تُذَكِّرُكَ بَعْضَ مَا مَضَى مِنْ زَمَانِكَ؟ قالَ: فَقَالَ عبدُ اللهِ: لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ، لَقَدْ قَالَ لَنا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ».
وَعَنْ أَنسٍ -رضي الله عنه- أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَأَلُوا أَزوَاجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ؟ فَقَالَ بَعْضُهُم: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُم: لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُم: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، فَقَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا، لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
وَعَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَأْمُرُ بِالْبَاءةِ وَينْهَى عَنِ التَّبَتُّلِ نَهْيًا شَدِيْدًا وَيَقُولُ: «تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الْوَلُودَ؛ إِنِّي مُكَاثِرٌ الْأَنْبِيَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ». رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ وَسَمُّوَيهِ وَابْنُ حِبَّانَ)}.
قول المؤلف -رحمه الله: (كِتَابُ النِّكَاحِ).
لفظة "النِّكاح" في اللغة: تطلق على معنيين:
- أحدهما: الوطء.
- ثانيهما: العقد.
وبالتالي وقع اشتراك في لفظ "النِّكاح" بين هذين المعنيين، وكثير من النُّصوص قد يشتمل لفظها على المعنيين معًا، ومن هنا قيل في قوله تعالى: ï´؟فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُï´¾ [البقرة: 230]، وهذه الآية في المطلقة ثلاثًا، فإنها لا تحل لمطلقها حتى يعقد عليها غيره ويطئها، جمعًا بين هذين المعنيين.
والنِّكاح مُرغَّبٌ فيه في الشَّرع، وقد جاءت النُّصوص بِحَثِّ المؤمنين عليه، وقد وصف الله -جلَّ وعَلا- الأنبياء عليهم السَّلام بأنهم لهم أزواج ولهم ذريَّة.
والنِّكاح هو شأن نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقد كان يتزوج النِّساء، ويرغب أصحابه في التزويج، وقد ذكر المؤلف هنا ثلاثة أحاديث تدل على هذا المعنى:
أولها: حديث علقمة، قال: (كُنْتُ أَمْشِي مَعَ عبدِ اللهِ)، يعني عبد الله بن مسعود.
قوله: (بمنىً)، وذلك في أيام الحج.
قال: (فَلَقِيَهُ عُثْمَانُ)، أي: عثمان بن عفان، الخليفة الراشد.
قال: (فَقَامَ مَعَهُ يُحدِّثُهُ)، أي: يكلمة.
قوله: (فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: يَا أَبَا عَبدِ الرَّحْمَنِ)، يعني: عبد الله بن مسعود.
قال: (أَلا نُزَوِّجكَ جَارِيَةً شَابَّةً)، فيه الترغيب في التزويج، وفيه حرص الصَّحابة على أن يكون الرجل معه امرأة، وظاهر هذا أنَّ زوجة ابن مسعود قد توفيت، فأراد عثمان أن يكون مع ابن مسعود زوجة تقوم به.
قال: (لَعَلَّهَا تُذَكِّرُكَ بَعْضَ مَا مَضَى مِنْ زَمَانِكَ؟)، مما يكون بين الرجل وأهله خاصة.
قالَ: (فَقَالَ عبدُ اللهِ: لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ)، كأنه فهم منه أنَّه إنما قال له هذا الكلام لكبر سنِّ ابن مسعود، فأراد أن يؤكد عليه هذا المعنى، فقال: لئن كنت تذكر ذلك انطلاقًا من كبرِ سنِّي، فلقد كنت يومًا من الأيام على عهدِ الشباب وكان عندي القوة، ولذلك قال لنا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ»، المعشر: الجماعة. والشباب هو: مُقتبل العمر.
قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ»، الباءة: ما يُهيَّئ للنِّكاح، والأصل فيها المنزل، يُقال: بوَّأه الله مَنزلًا من الجنة، أي: هيَّأ له مَنزلًا من الجنة.
وأيضًا يُمكن أن يُطلق على القُدرة على إتيان النساء.
قال: «فَلْيَتَزَوَّجْ»، فعل مضارع مسبوق بلام الأمر، ولذلك قال بعض الظاهريَّة: إنَّ الزواج واجب شرعي يحرم على الإنسان أن يتركه، واستدلوا على ذلك بأنه مُقتضى مفهوم الأمر.
وذهب الجمهور إلى أنَّ الزَّواج ليس بواجب، وإنما هو من المستحبات، وقالوا: إنَّ الأمر هُنا مصروف من الوجوب إلى الاستحباب، واستدلوا عليه بأنه قد عُلِّلَ بعلَّة، فقال: «فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ»، فالمعنى أنَّ من استطاع أن يغضَّ بصره ويحصِّن فرجَه فإنَّه لا يجب عليه النِّكاح. وقول الجمهور هنا أقوى.
وقد اختلف العلماء في مسألة أيهما أفضل: الزواج أو التَّخلِّي للعبادات؟
الجمهور على أنَّ الزواج أفضل، ويستدلون عليه بهذا الحديث، والحديث الآتي.
والشافعية: على أنَّ التَّخلي للعبادات أفضل، واستدلوا عليه بأنه مِن فِعْل النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل عهد النُّبوة، حيث كان يتخلَّى في غار حراء.
وأكثر الأصوليين على أنَّ أفعال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل البعثة لا يُؤخذ منها حُكمٌ شرعي.
وفي الحديث: الترغيب في غض البصر وعدم إطلاقه، ومن ذلك ألا ينظر الإنسان إلى وجوه النِّساء الأجنبيات أو إلى مفاتنهنَّ، سواء كان هذا بالرؤية المباشرة، أو كان هذا من خلال وسائل الإعلام وقنوات الاتصال، ولا شكَّ أنَّ غضَّ البصر له ثمرة عظيمة، وقد أمر الله -جلَّ وعَلا- في قوله: ï´؟قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْï´¾ [النور:30]، وجاء في الحديث أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إِنَّ النَّظْرَةَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ مَسْمُومٌ، مَنْ تَرَكَهَا من مَخَافَتِي أَبْدَلْتُهُ إِيمَانًا يَجِدُ حَلاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ» .
وأصل الكلام هنا في غَضِّ البصر، ويصدق عليه أيضًا كل ما كان مُهيِّجًا للإنسان في هذا الشَّأن، فإنَّه يأخذ حُكمه.
قوله: «وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ»، أي: أنَّ الزواج سببٌ من أسباب تحصين الفرج عمَّا لا يحل للإنسان، وقد قال الله -جَلَّ وعَلا- في وصف المؤمنين أصحاب الجنان: ï´؟وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَï´¾ [المؤمنون:5].
وقوله: «وَمنْ لَمْ يَسْتَطِعْ»، أي: من لم يستطع الزواج.
قال: «فَعَلَيهِ بِالصَّوْمِ»، أي: يُعوِّض عنه بالصوم.
قال: «فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»، الوجاء: رض العرق الذي يكون بين الخصيتين والقضيب.
وبعضهم يقول: رض الخصيتين رضًّا شديدًا يُذهب شهوة الجماع.
وفيه الترغيب لغير المتزوجين بالأكثار من الصِّيام؛ ليكون هذا من أسباب انطفاء شهواتهم.
ثُمَّ أورد المؤلف بعد حديث أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- (أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَأَلُوا أَزوَاجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ؟)، أرادوا أن يقتدوا به، وفيه مشروعية الاقتداء بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد قال تعالى: ï´؟لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًاï´¾ [الأحزاب:21]، وقال: ï´؟وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَï´¾ [الأعراف:158].
وفيه السؤال عن أحوال الفاضل من النَّاس ليُقتَدى به.
قوله: (فَقَالَ بَعْضُهُم: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُم: لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُم: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ)، وفي بعض الروايات
المراد بقوله: (لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ)، أنهم يتركون النِّكاح، فظنُّوا أنَّ هذا من القُرَب، وبالتَّالي عهدوا لله -جلَّ وعَلا- بفعله، والصَّواب أنَّ هذا ليس من القُرَبِ، وبالتالي لا يحق للإنسان أن يُفاخر به، أو أن يتعبد لله -جلَّ وعَلا- به.
قوله: (وَقَالَ بَعْضُهُم: لَا آكُلُ اللَّحْمَ)، أي: يتركه زُهدًا فيه ورغبةً عنه، ويظن أنَّ ذلك من القُربات.
قوله: (وَقَالَ بَعْضُهُم: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ)، أي: لا يتمكَّن النَّوم منِّي، بل أتقرب إلى الله بأن أكون مستيقظًا غير نائمٍ طوال وقتي.
فلمَّا جاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأُخبر بمقالتهم، فوجدهم، فقام خطيبًا (فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ)، وفي هذا مشروعية بداءة الخطب بحمد الله والثناء عليه، كما فيه موعظة الإمام لعموم النَّاس بما قد يشاهده من مُنكراتٍ أو مُخالفاتٍ تحصل من أفراد الناس.
وفي هذا: أنَّ القيام على الأمر المخالف في أول نشأته من أسباب اضمحلال أمره.
وفي هذا أيضًا: مشروعية الخطبة العامَّة للتَّنبيه على خطأ وقع في خاصة بدون أن يذكر شيئًا من صفاتهم.
فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا»، يعني: ما السبب الذي يجعل بعض الأقوام يقولون كذا وكذا -من المقالات السابقة.
فأخبرهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن هديه فقال: «لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ»، يُصلي بعض الليل، وينام أغلبه.
قال: «وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ»، يصوم لرؤية الشهر، ويفطر عند وجود العلة التي لا تمكن من الصوم.
قوله: «وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ»، أي: من هديه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يتزوج النِّساء، وهذا يدلك على أنَّ العبادات لا تُؤخذ من الرأي المجرد، لابد أن تستند إلى النُّصوص، وهكذا لابد من النَّظر في سنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهديه، ولذا قال: «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي»، أي: مَن لم يرضَ بمثل ذلك «فَلَيْسَ مِنِّي». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
ثم أورد من حديث أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه قال: (كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَأْمُرُ بِالْبَاءةِ)، الباءة: النِّكاح.
قوله: (وَينْهَى عَنِ التَّبَتُّلِ)، التبتل: ترك النِّكاح على جهة التَّقرب لله -جلَّ وعَلا.
قوله: (وَيَقُولُ: «تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الْوَلُودَ»). الودود: المرأة التي من شأنها أن تتحبَّبَ لزوجها. الولود: هي كثيرة الولادة.
قد يقول قائل: كيف يَعرف أنَّ هذه المرأة صاحبة ولادة، وليس بينه وبينها معرفة سابقة؟
قيل: بالنظر في ذريتها، وكيف كانت معهم، هل رُزقت بمولود، وقيل: بالنظر في قرابتها، فإذا كان النِّساء مِن قرابتها يلدنَ فلا بأسَ حينئذٍ أن يكون الزواج من إحداهنَّ.
وفي هذا الترغيب في الحبابة واللطافة وحسن الخلق، وأنَّه ينبغي أن يُؤتى الزوج من ذلك ما يُؤتاه غيره من أفراد الناس.
قوله: «تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الْوَلُودَ»، الولود: كثيرة الولادة، ونعرفها بولادة لها سابقة، أو بالنظر إلى صفات قرابتها.
ثم قال: «إِنِّي مُكَاثِرٌ الْأَنْبِيَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ»، أي: مكاثر بأولادكم أعداءكم يومَ القيامة.
وأخذ بعض أهل العلم من هذا الحديث: الترغيب في إعداد بيت الزوجيَّة وتهيئته.
وفي الحديث: مساعدة أهل الخير الذين يُريدون الزواج.
وفيه أيضًا: النَّهي عن ترك النِّكاح على جهة التَّقرب لله -جلَّ وعَلا.
وقوله: «تَزَوَّجُوا»، الأصل أنَّ هذا أمر، لكنه قد صُرف عن الوجوب إلى الاستحباب؛ لأنَّ الشرع قد جاء بالترغيب في الصَّبر على من لم تكن من أهل الود والحصافة.
ثم علل ذلك بقوله: «إِنِّي مُكَاثِرٌ الْأَنْبِيَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ»، أي: يغبط الله -عز وجل- هذه الأمة بكونها تكثر أعدادها، وبالتَّالي يكون هذا محل مقارنة النبي لأمته بغيرها من الأمم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «تُنْكَحُ المَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِها، ولِحَسَبِها، ولِجَمَالِها، ولِدِيْنِها، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
في هذا الحديث بيان الصفات التي يُرغب الشَّرع في تفقدها عند المرأة التي يُراد الزواج بها، فقال: «تُنْكَحُ المَرْأَةُ لأَرْبَعٍ»، يعني: هناك أربعة أسباب يجعل الناس يبحثون عن المرأة التي يريدون الزواج بها:
الصفة الأولى: «لِمَالِها»، فهناك مجموعة من الناس يتزوجون بعض النساء لما لديهنَّ من المال، وفي مرات كثيرة يكون هذا المال سببًا من أسباب طُغيان الزوجة على زوجها.
الصفة الثانية: وهي صفة الحَسَبِ والنَّسَبِ، بحيث تكون من العوائل أو القبائل المعروفة؛ لأنَّ بعض الناس يقصد أن يرفع نفسه بزواجه من هؤلاء.
الصفة الثالثة: قال: «ولِجَمَالِها»، أي: أنَّ بعض الناس يتزوجون النِّساء من أجل ما لديهنَّ من الصفات الحميدة.
الصفة الرابعة: قال: «ولِدِيْنِها»، أن يختار المرأة من أجل دينها، والذي يتزوج المرأة من أجل دينها يجد عددًا من الفوائد، منها:
- الأولى: أنَّ المرأة تراعي حق الله في التَّعامل معه، وبالتالي تُحسن التَّعامل معه ولو أساء.
- الثَّانية: أنَّ الدِّين يحث صاحبه على الصبر، فتكون من أهل الصبر.
- الثَّالثة: أن تُحسن تربيتها لأبنائها.
- الرابعة: أنَّ المرأة تُتزوَّج لدينها يأمن زوجها عليها، ويطمئن قلبه عند ذهابه منها.
قوله هنا: «فَاظْفَرْ»، هذا أمر بأن يختار ذات الدِّين للفوائد السَّابقة.
قوله: «بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ»، قيل: إنَّ المراد أن يدعو له أن يُقبَر بعد موته، بحيث لا يُلقى إلى السِّباع أو في البحار، فإذا قُبِرَ فإنه حينئذٍ تتحلَّل يده وتصبح ترابًا، ولذا قال «تَرِبَتْ يَدَاكَ».
وبعضهم قال: إن لفظ «تَرِبَتْ يَدَاكَ» من الاستغناء. وبعضهم يقول: هي من الفقر، يقول القائل: ترِبَ الرجلُ، إذا افتقر، أي: أصبح جزءًا من التراب.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذا رَفَّأَ الإنْسَانَ إِذَا تَزَوَّجَ قَالَ: «بَاركَ اللهُ لَكَ، وَبَاركَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ بَيْنكُمَا فِي خَيْرٍ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ -فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ - وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ)}.
قوله: (وَعَنْهُ)، أي: عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قوله: (أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذا رَفَّأَ الإنْسَانَ)، معناه: إذا دعا لإنسان مُتزوِّج، وكانوا في الجاهلية يقولون: "بالرفاة والبنين"، وبعضهم يقول: "منك الأولاد ومنها الإناث"، ونحو ذلك، وهذه كلها ليست واردة عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وليست من الألفاظ المستحسنة في هذا الباب.
قال: (كَانَ إِذا رَفَّأَ الإنْسَانَ إِذَا تَزَوَّجَ قَالَ: «بَاركَ اللهُ لَكَ، وَبَاركَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ بَيْنكُمَا فِي خَيْرٍ»)، هذه هي اللفظة المشروعة أن تقال عندما يوجد عقد النكاح.
قوله: «بَاركَ اللهُ لَكَ»، أي: عظم ما تنتفع به من أمور الدنيا، يقال: هذا رزق مُبارك، أي: دارٌّ. ويُقال: هذه سيارة مباركة، أي: لم يقع منها شيء من الاعتداء؛ فهذا أيضًا وصف.
وبالتالي نفهم معنى البركة، أن يبارك الله لك في زوجك، بحيث تصبح أخلاقها عالية، وتصرفاته جميلة، ويعطيك الله من محبتها في قلبك. وهكذا من البركة: تيسير أمور الدنيا في نكاحات ونحوها.
قال: «وَبَاركَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ بَيْنكُمَا فِي خَيْرٍ»، أي: اجتمعتما في أمرٍ من أمور الخير، ومن ذلك أن يجتمعا في بيت مَن يقوم بترتيب هذا الصُّلح ونحوه.
قال المؤلف: (رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ -فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ - وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ)
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبدِ اللهِ قَالَ: علَّمَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ، وَالتَّشَهُّدَ فِي الْحَاجةِ، قَالَ: التَّشَهُّدُ فِي الحَاجَةِ: إِنَّ الْحَمْدَ للهِ نَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِي اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأشْهدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَقْرَأُ ثَلَاثَ آيَاتٍ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَابْنُ مَاجَه، وَالتِّرْمِذِيُّ -وَقَالَ: حَدِيْثٌ حَسَنٌ)}.
قوله: (وَعَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ)، هو عوف بن مالك.
قال: (عَنْ عَبدِ اللهِ قَالَ: علَّمَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ)، التَّشهد ركنٌ من أركان الصَّلاة، ويكون بعد الفراغ من الركعة الثَّانية، وفي آخر الصَّلاة، سمي بالتَّشهد؛ لأنَّه يُختَم بالشهادتين.
وموطن التشهد هو: الجلوس الذي يُسلَّم بعده، أو الجلوس الذي يكون بعده الوقوف للثالثة مُباشرة.
قال: (علَّمَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ)، أي: الألفاظ التي نقولها في التشهد، وهذا الذكر المذكور هنا هو رواية ابن مسعود.
قال: (وَالتَّشَهُّدَ فِي الْحَاجةِ)، أي: علمنا أيضًا التشهد للحاجة، فقال: (التَّشَهُّدُ فِي الحَاجَةِ: إِنَّ الْحَمْدَ للهِ)، أي: الثناء بالجميل الكامل إنما يكون لله -سبحانه وتعالى- وحده.
قال: (نَسْتَعِيْنُهُ)، أي: نطلب منه العون -سبحانه وتعالى.
قوله: (وَنَسْتَغْفِرُهُ)، أي: نطلب مغفرة الذنوب.
قوله: (وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرورِ أَنْفُسِنَا)، ما من إنسان إلا وعنده شرور في نفسه، قد يعلمها وقد لا يعلمها، وبالتالي على الإنسان أن يتحرَّزَ منها، إذا قد ياتي الشيطان فيحرك كوامنها، وبالتالي تعود بالسوء والشَّرِّ والضرر على الأُمَّة جمعاء.
قال: (مَنْ يَهْدِي اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ)؛ لأنَّ الهداية بيد رَبِّ العِزة والجلال.
قال: (وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ)، هذه صفة ينفرد الله -جلَّ وعَلا- بها، ولا تذكر في الكلام إلا إذا ذكر معها الهداية، ولذا قدمت الهداية عليها.
قال: (وَأشْهدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، شهادة التَّوحيد، فهو يُقر ويعترف جازمًا بذلك، عالمًا بأنه لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحقٍّ إلا الله، فلا يجوز صرف شيءٍ من العبادات إلى غيره.
قال: (وَأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد روى بعض الأئمة هذا الخبر وحسَّنوه وصححه الإمام أبو الأحوص، وجماعة من أهل العلم.
وبالتالي نعلم فضل هذا الخبر، وما فيه من الفوائد، فهذه خطبة عظيمة.
قوله: (وَيَقْرَأُ ثَلَاثَ آيَاتٍ)، المراد بها:
أولًا: قوله تعالى: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَï´¾ [آل عمران: 102].
ثانيًا: قوله تعالى: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً غڑ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ غڑ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاï´¾ [النساء:1].
ثالثًا: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًاï´¾ [الأحزاب:70].
فكأنَّه يقول: إنَّ هذه الآيات والاستدلالات جعلتني ممن أُحجم أن أتكلم في ذلك المحفِل.
وهذا اللفظ مما يُستحب للإنسان أن يُوضع له ويُهيَّأ له بعد وفاته.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيفْعَلْ» قَالَ جَابِرٌ: فَخَطَبْتُ جَارِيَةً مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، فَكُنْتُ أَتَخَبَّأُ لَهَا تَحْتَ الكَرَبِ حَتَّى رَأَيْتُ مِنْهَا بعضَ مَا دَعَاني إِلَى نِكَاحِهَا فَتَزَوَّجْتُهَا. رَوَاهُ أَحْمدُ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَأَبُو دَاوُد، مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقٍ وَهُوَ صَدُوقٌ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَينِ وَهُوَ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ وَاقدِ بْنِ عبدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ ثِقَةٌ ،عَنْ جَابِرٍ)}.
هذا الحديث ظاهره أنَّه حسن الإسناد، إِلَّا أنَّ فيه علَّة، وهو أنَّه من رواية ابن إسحاق -صاحب السيرة- وهو مُدلِّس، فإذا رَوَى عن غير الشَّاميين فلابد من تحديثه، وهنا لم يُذكر التَّصريح من ابن إسحاق أنه استمعه مُشافهةً.
قوله: «إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ»، فيه مَشروعية القُدوم على المرأة من أجل الخِطبَةِ.
قوله: «الْمَرْأَةَ»، يعني: المرأة التي يُريد الزَّواج بها.
قال: «فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيفْعَلْ»، هذا أمر، ولكنه مُعلق بالمشيئة، ولذا قال: «فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ»، وحينئذٍ صرفناه ليكون دالًّا على الإباحة.
بعض الفقهاء يقول: إن النَّظر إلى المخطوبة مُستحبٌ.
والجماهير يقولون: إنَّه مُباح وليس بمستحبٍ.
قوله: «فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيفْعَلْ»، فيه استحباب نظر الزَّوج الخاطب للمرأة المخطوبة.
قال جابر: (فَخَطَبْتُ جَارِيَةً)، أي: بنتًا صغيرة مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، فكان يُريد أن يشاهدها قبل أن يدخل بها، فكان يتخبَّأ تحت الكرب، أي: أجزاء النخلة التي تكون في ساقها.
قال: (حَتَّى رَأَيْتُ مِنْهَا بعضَ مَا دَعَاني إِلَى نِكَاحِهَا)، يقول: أعدت النظر وقلَّبته، ووجدتُّ أنَّ الزواج بها مُناسب لما تشتمل عليه من صفات، فَتَزَوَّجهَا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: نهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَبِيعَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلَا يَخْطُبَ الرَّجلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ، أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ)}.
قوله هنا: (نهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَبِيعَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ)، أصل البيع مشروع وجائز، ولكن هذه الصُّورة مُستثناة من ذلك الأصل، والأصل في النَّهي أن يكون طلبًا لترك الفعل غَير جازمٍ.
قوله: (أَنْ يَبِيعَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ)، فإذا وجدته قد اشترى سلعةً فلا تقل له: سأعطيكَ أحسنَ منها، وردَّها وخذ بضاعتي، وأعطيك أقل منها سعرًا، ونحو ذلك؛ فهذا ليس من شأن أهل الإيمان.
قال: (وَلَا يَخْطُبَ الرَّجلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ)، إذا خُطبت امراة فلا يجوز للرجل أن يخطبها مرة أخرى؛ لأنها مَشغولة بحق الخاطب الأول.
قال: (حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ، أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ)، فهذا الخاطب الجديد قد تكون نفسه مُتعلقة بهذه المرأة فيذهب إلى خاطبها ويقول: أنا أريد أن تُعينني على زواج فلانة ونحو ذلك.
قوله: (أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ)، أن يقول له: أذنتُ لك مثل هذا.
{أحسن الله لكم شيخنا..
ما هي الحالات التي يجوز فيها للرجل أن يخطب امرأة قد خُطبَت من قبل؟}.
هذا الحديث الذي معنا يُبيِّن عددًا من الحالات التي تتعلق بهذا السؤال:
الحالة الأولى: فهناك امرأة خُطِبَت فعدلَ الخاطبُ عن خطبة المرأة، فيجوز لغيره أن يخطبها.
الحالة الثانية: إذا رُدَّ الخاطب الأول، فحينئذٍ يجوز لغيره أن يخطبها.
الحالة الثالثة: إذا كان في حالة الانتظار، لم يُعطَ جوابًا بالموافقة، فقد جاء في الحديث أنَّ فاطمة بنت قيس -رضي الله عنها- جاءت إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالت: يا رسول الله، إنَّ أبا جهمٍ ومعاوية خطباني، فأمرها النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن تنكح أسامة؛ والمعنى أنها لم تُجِب بعدُ.
الحالة الرابعة: إذا أذن الخاطب الأول، جاء الخاطب الثَّاني واستأذن من الخاطب الأول، فأذن له؛ فحينئذٍ يجوز له أن يخطب.
فيما عدا هذه الحالات لا يجوز للإنسان أن يخطب امرأة قد خطبت قبله.
والخطبة: إحدى المراحل التي تسبق عقد الزواج، ويُقال: "الخِطبة" بكسرِ الخاء ويُراد به خِطبة النِّكاح.
وأما "الخُطبة" فهي الكلمة والموعظة تُلقَى بينَ الناس.
وهذا الحديث فيه النَّهي عن أن يبيع بعضنا على بيع بعضٍ.
وإذا كانت الخِطبة من مُقدمات الزَّواج؛ فقد تقدم معنا أيضًا أنَّ من مُقدمات الزَّواج خُطبة الحاجة، وتقدم معنا ما يتعلق برؤية المخطوبة وأحكام ذلك.
وتقدم معنا حكم أصل النِّكاح، وذكرنا أنَّ الجمهور يرون أنَّ النِّكاح مُستحب إذا لم يكن هناك سببٌ داعٍ.
إذن في تحرير محل النزاع نقول: إذا خشي الإنسان على نفسه من الوقوع في الحرام وجب عليه أن يتزوَّجَ، أمَّا إذا لم يخشَ على نفسه من الوقوع في الحرام، ففي هذه الحال قال الجمهور: هو مُستحبٌّ، واستدلوا على ذلك بالتعليل في قوله: «فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ»، ولكون بعض الصَّحابة لم يُبادر إلى الزَّواج، ولذا خاطبهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بحديث ابن مسعود السَّابق.
والظاهرية يقولون: إنَّ الزَّواج واجب، واستدلوا عليه بالأمر في قوله: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ»، واستدلوا عليه بما ورد في حديث أنس، أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يَأْمُرُ بِالْبَاءةِ وَينْهَى عَنِ التَّبَتُّلِ نَهْيًا شَدِيْدًا)، والأمر للوجوب، والنَّهي يُفيد التحريم.
والجمهور يقولون: إنَّ النَّهي هنا عن اتَّخاذ تركِ الزواج دِيانةً وعبادةً يُتقرَّب بها لله -جلَّ وعَلا- ولذلك الرجل الذي جاء فقال: (لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ)، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا، لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».
وبالتالي نعلم المراد بهذه الأحاديث الواردة في هذا الباب.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ سَهْلِ بنِ سَعدٍ السَّاعِدِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، جِئْتُ أَهَبُ نَفْسِي لَكَ، فَنظرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهَا وَصَوَّبَهُ، ثُمَّ طَأْطَأَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لم يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ لمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيْها، فَقَالَ: «فَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ؟» فَقَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: «اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ، فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئًا؟» فَذَهَبَ، ثمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْظُرْ وَلَوْ خَاتِمًا مِنْ حَدِيْدٍ»، فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا خَاتِمٌ مِنْ حَدِيدٍ، وَلَكِنْ هَذَا إزَارِي؟ -قَالَ سَهْلٌ: مَا لَهُ رِدَاءٌ، فَلَهَا نِصْفُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ؟ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ» فَجَلَسَ الرَّجُلُ، حَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ، قَامَ فَرَآهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُوَلِّيًا، فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ لَهُ فَلَمَّا جَاءَ، قَالَ: «مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ؟» قَالَ مَعِيَ سُورَةُ كَذَا وَسُورَة وكَذَا- عَدَّدَهَا، فَقَالَ: «تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «اذْهَبْ فَقَدْ مُلِّكْتَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ: «قَالَ: انْطَلِقْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا، فَعَلِّمْهَا مِنَ الْقُرْآنِ»، وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: «أَمَلَكْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ»)}.
هذا الحديث الشريف فيه فوائد كثيرة.
قال: (جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فيه قُدوم النِّساء إلى أهل الفضل، وليس معناه أنَّ هُناك خُلوة أو اختلاط، فإنَّ الاختلاط هو الإتيان المتكرر للمكان الواحد، بخلاف ما كان للمرة الواحدة وبدون ترتيب مُسبق.
فَقَالَتْ: (يَا رَسُولَ اللهِ، جِئْتُ أَهَبُ نَفْسِي لَكَ)، هبة المرأة نفسها للرجل خاص بالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لقول الله -جلَّ وعَلا: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين} [الأحزاب/50]، فلما قال: {خالصة لك} معناه أن الحكم يختص بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأما ما عداه فإن المرأة لا تهب نفسها للرجل.
وبعض الحنفية استدل بهذا على أنه لا يلزم وجود ولي، ولكن ليس في الحديث دلالة على ذلك، فهذه المرأة امرأة منقطعة، ويظهر أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما زوجها الرجل زوَّجها بحكم ولايته، ولذا لم يجعلها تباشر عقد النِّكاح بنفسها، وإنما الذي باشر عقد النِّكاح هو النِّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مما يدل على لزوم وجود الولي.
قال: (فَنظرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهَا وَصَوَّبَهُ)، ظاهر هذا أنَّ المرأة المتحجبة التي لم يَظهر مِن بَدنها شيء يجوز النَّظر إليها وتصويب النَّظر؛ لأنَّ ذلك ليس فيه شيءٌ من كشفِ بدنها.
والذي يظهر أنَّ هذا في حالة عدم سفور المرأة، وفي حالة عدم بيان جلباب المرأة لشيءٍ من أعضاء بدنها.
قال: (ثُمَّ طَأْطَأَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لم يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا)، يعني: لم يردها، ولم يفعل شيئًا تجاه طلبها عندما طلبت منه أن يتزوج منها، فجلست.
قال: (فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ لمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيْها)، فيه طلب الرَّجل الزَّواج بالمرأة.
هل يُستدلُّ بهذا الحديث على أنَّ المرأة يجوز لها أن تعرض نفسها للرجل كما قال بذلك طائفة؟ أو نقول: إنَّما يُستحب ذلك في حقِّ الولي أن يَعرض موليَّته على الرجل الكفء لئلا يفوت؟
فَقَالَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ؟»، أي: هل لديك مهر تتمكَّن به من دفعه لهذه المرأة التي تريد الزَّواج منها؟
في هذا دلالة على أنَّه لابد أن يكون في الزَّواج مَهرٌ، ولا يجوز أن يكون هناك زواج اتُّفق على أنَّه لا مَهر فيه، ولو قُدِّر أنَّه تَزَوَّج امرأةً وشرطت أَلَّا مهر لها؛ فإنَّه يثبت لها حينئذٍ مَهر المثل؛ لأنَّ هذا شرط فاسد، ولكنه لا يفسد العقد؛ لأنَّه مُتلعق بأثرٍ مِن آَثَار العقد، وليس مُتعلقًا بصلب العقد.
فقال الرجل: (لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ)، أي: ليس عندي شيء أتمكَّن من دفعه مهرًا للمرأة.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ، فَانْظُرْ هَلْ تَجِدُ شَيْئًا؟»، أي: تجد أمرًا له قيمة تتمكن به من دفع مَهر هذه المرأة.
قال: (فَذَهَبَ، ثمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا)، أي: لم أجد شيئًا أقوم بدفعه لهذه المرأة ليكون مهرًا لها.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْظُرْ وَلَوْ خَاتِمًا مِنْ حَدِيْدٍ»، فيه دلالة على أنَّ المهر يجوز أن يكون مالًا قليلًا، وهذا مذهب أحمد والشَّافعي.
وخالفهم الإمام مالك، فقال: لابد أن يكون بمقدار ثلاثة دراهم.
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنَّ أقله عشرة دراهم.
وهذه الأقوال تحديدات، وليس على فرضها شيءٌ ثابت، وقياسها على غيرها من المسائل قياسٌ مع الفارق.
واستدل بهذا الحديث على جواز لُبس خاتم الحديد، وأنَّه لا حرج في ذلك.
قال: (فَذَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا خَاتِمٌ مِنْ حَدِيدٍ)، أي: لم أجد لها مهرًا حتى الخاتم الحديد.
قال: (وَلَكِنْ هَذَا إزَارِي؟)، الإزار: هو قطعة القماش التي يقوم الرجل بلفها على أسفل بدنه، فيغطي بذلك عورته.
قال المؤلف: (قَالَ سَهْلٌ: مَا لَهُ رِدَاءٌ)، الرداء: قطعة القماش التي تكون في أعلى البدن، فلم يكن لديه إلا إزار فقط.
فقال الرجل: (فَلَهَا نِصْفُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ؟»)، أي: ما تستفيد هذه المرأة من الإزار الذي ستدفعه لها؟!
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ»، وبالتالي هذا يتنافى مع ما قصده الشَّارع من أمر الزَّوجية.
قال: «وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ»، أي: إذا لبست المرأة هذه الإزرة لم يكن على الرجل منه شيء، ولم يتمكَّن من غطاء عورته.
قال الراوي: (فَجَلَسَ الرَّجُلُ، حَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ)، يعني: تطاول به الزمان.
قال: (قَامَ فَرَآهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُوَلِّيًا)، أي: قافلًا راجعًا.
قال: (فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ لَهُ)، أي: أن يرجع له.
قال: (فَلَمَّا جَاءَ، قَالَ: «مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ؟» قَالَ مَعِيَ سُورَةُ كَذَا وَسُورَة وكَذَا- عَدَّدَهَا، فَقَالَ: «تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «اذْهَبْ فَقَدْ مُلِّكْتَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ»)، في هذا دلالة على فضل القرآن، وعلى حرص الصَّحابة-رضوان الله عليهم- على حفظ القرآن، وبعض العلماء يَستحب أن تكون القراءة من المصحف نَظَرًا، ولعل الأظهر أنَّ المستحب أن يقرأها عن ظهر قلب، لا حال قراءته من المصحف، ولا شك أنَّ المصحف فاضل، وأنَّه ينبغي للإنسان تقديره واحترامه، لكنَّ القِراءة عن ظهر قلبٍ أولى، إذ فيها مُتابعة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفيها استحضار وتذكر آيات القرآن.
قَالَ الرجل: (نَعَمْ)، يعني: أقرأ هذه السور عن ظهر غيب.
فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبْ»، أي: عُدْ إلى أهلك.
قال: «فَقَدْ مُلِّكْتَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ»، أي: عقدتُّ لكَ عليها مقابل ما معك.
وهنا إشكالان:
الإشكال الأول: أنَّ بعض الفُقهاء قال إن هذا الحديث دليلٌ على أنَّ عقد النِّكاح قد ينعقد بألفاظ مُغايرة لألفاظ النِّكاح والتَّزويج.
الإمامان الشافعي وأحمد يقولان: عقد النِّكاح لا ينعقد إلا بهذه الصِّيغة. وبالتالي لا تكن لفظة «ملكتكها» من ألفاظ العقد عندهم.
وعند الإمامين أبي حنيفة ومالك -رحمهما الله: أنَّ عقد النِّكاح ينعقد بكل لفظٍ يدلُّ عليه، ومن ذلك لفظ التَّمليك.
الإشكال الثاني: في قوله «بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ»، فكيف يزوجه المرأة وهي لا تستفيد ممَّا معه، وإنما هو يحفظ آيات القرآن؟
أُجيبَ عن هذا بأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قصد بهذا أنَّ الزَّوج يُعلم زوجته هذه الآيات القرآنية.
ولذا جاء في لفظ: «انْطَلِقْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا، فَعَلِّمْهَا مِنَ الْقُرْآنِ»، وهذا يدلنا على أنَّه لم يعْطِه مَهرًا.
وقد استدلَّ بعضهم بهذا الخبر على استحباب أن لا يطلب الإنسان من غيره شيئًا، كما استدلَّ به على استحباب تقليل مهر النِّكاح، وعدم المزايدة والمبالغة فيه.
فهذا شيء من معاني هذه الأحاديث التي وردت في أوائل باب النكاح، وذكرنا فيها عددًا من الأحكام الفقهية المأخوذة منها، وبالتالي نكون قد استكملنا هذا الخبر.
بارك الله فيك، ووفق الله لخيري الدنيا والآخرة، وجعلنا الله وإيَّاك من الهداة المهتدين، كما أسأله سبحانه لجميع إخواني وإخوتي ممَّن يشاهدوننا التوفيق لكل خير، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يرزقهم علمًا نافعًا، وعملًا صالحًا ونيَّة خالصة، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختام نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّة عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

منقول ..البناء العلمي https://benaa.islamacademy.net/student_bk/homeworks.php?id=60

احمد الصادق
2019-04-22, 14:19
الْمُحَرِّرُ فِي الحديثِ (4)
الدَّرسُ الثَّاني (2)
معالي د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور:سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشيخ}.
الله يبارك فيك، أحييك، وأحيِّي إخواني المشاهدين، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- لهم التوفيق لكل خيرٍ.
{نستأنف في هذه الحلقة -بإذن الله- ما انتهينا منه في الحلقة الماضي.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالى: (وَعَنْ عبدِ اللهِ القُرَشِيِّ، عَنْ عَامرِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَـيْـرِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَعْلِنُوا النِّكَاحَ». رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالحَاكِمُ -وَقَالَ: صَحِيْحُ الْإِسْنَادِ.
وَعَنْ أَبي مُوسَى قالَ: قَالَ رَسُول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيرُهُ.
وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا تُنْكَحُ الأَيِّمُ، حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ, وَكَيْفَ إِذْنها؟ قَالَ: «أَنْ تَسْكُتَ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنِ ابْن عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا منْ وَليِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ، وإِذْنُهَا سُكُوتُهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي لفظٍ: «لَيْسَ للْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ، وَاليَتِيْمَةُ تُسْتَأْمَرُ، وَصْمْتُهَا إِقْرَارُهَا». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ البُسْتِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ.
وَعَنْهُ: أَنَّ جَارِيَةً بِكْرًا أَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَتْ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ، فَخَيَّرَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَلَهُ عِلَّةٌ بَيَّنَهَا أَبُو دَاوُد وَأَبُو حَاتِمٍ وغَيرُهُما وَهِي: الْإِرْسَالُ.
وَعَنِ الْـحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ فَهِيَ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا, وَأَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ بَيْعًا مِنْ رَجُلَيْنِ, فَهُوَ لِلأَوَلِ مِنْهُمَا». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَقَدْ رُويَ عَنِ الْحسَنِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ مَنْ رَوَاهُ عَنْ سَمُرَةَ.
وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَقيلٍ، عَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيْهِ أَو أَهْلِهِ فَهُوَ عَاهِرٌ». رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ -وَقَالَ: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ"، وابْنُ عَقِيْلٍ مُخْتَلَفٌ فِي الِاحْتِجَاج بِهِ)}.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أمَّا بعد:
فقد أوردَ المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ- في هذا الموطن عددًا من الأحاديث التي تتعلَّق بأركان النِّكاح وشروطه، فإنَّ لعقدِ النِّكاح أركانًا وشروطًا، فمن أركانه:
ïƒک الزَّوجان الخاليانِ من الموانعِ.
ïƒک الإيجاب والقبول، وهو آخر ما تكلَّمنا عنه فيما مضى.
ويبقى عندنا البحث في شُروط عقد النِّكاح، فهناك شروط متفق عليها، وهناك شروط مختلف فيها.
فمن الشُّروط المختلف فيها: شرط إعلان النِّكاح.
فعند فقهاء المالكيَّة أنَّه يُشترط لصحَّة عقد النِّكاح إعلانه، ولا يلزم إعلانه في كل مجال وعند كلِّ أحدٍ، وإنما يلزم إعلامه وإعلانه في دائرة الزَّوجة وما حولها.
هذا الإعلان أمر به النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما في هذا الخبر «أَعْلِنُوا النِّكَاحَ»، والأصل في الأوامر أن تكون للوجوب، ولذلك رأى المالكية أنَّ إعلان النَّكاح واجب، وأنَّه لا يصح عقد النَّكاح عند التَّواصي على كتمانه وعدمِ إظهاره، واستدلُّوا بأدلَّةٍ منها هذا الخبر.
وهذا الخبر خبرٌ جيد، قد صحَّحه طائفةٌ من أهل العلم، ولذلك لا مَطعن فيه، فالأصل وجوب الالتزام بما ورد فيه، ولذلك فإنَّ مذهب المالكيَّة بوجوب إعلان النِّكاح مذهبٌ قويٌّ.
والجمهور يشترطون بدلَ الإعلانِ أن يكونَ هناك شاهدان لعقد النَّكاح، ويستدلون عليه بالنُّصوص العامَّة الواردة في إيجاب أن يكون هناك شاهدين كقوله تعالى: ï´؟وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْï´¾ [الطلاق: 2].
فالمقصود: أنَّ الجمهور يَرون أنَّ الشَّاهد في عقد النَّكاح شَرط لصحَّتهِ.
والمالكيَّة يقولون: يكفينا الإعلان.
ولكن الإعلان قد يكون متأخرًا، بخلاف الشَّاهد فيلزم أن يكون حاضرًا في مجلس العقد.
ثُمَّ عرَّج المؤلف على ذِكْرِ مسألة اشتهر الخلاف فيها بينَ الأمَّة؛ ألا وهي: تزويج المرأة لنفسها، فهل يجوز للمرأة أن تُزَوِّجَ نفسها؟ أو تُوكل امرأة أخرى في تزويجها أولا ؟
الجمهور يقولون: الولي شَرطٌ في عقد النَّكاح، ولا يصح عقد النَّكاح إلا به، واستدلُّوا على ذلك بعددٍ من الأحاديث، منها:
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ»، فالأصل في النَّفي في قوله «لَا نِكَاحَ» أنه نهيٌ مشدَّد.
وقوله «إِلَّا بِوَلِيٍّ»، أي: لا يَصِحُّ عقد النِّكاح إلا بأن يكون هناك وليٌّ.
واستدلوا على ذلك أيضًا بحديث أبي هريرة الذي ذكره المؤلف هنا، حيث قال: («لَا تُنْكَحُ الأَيِّمُ، حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَكَيْفَ إِذْنها؟ قَالَ: «أَنْ تَسْكُتَ»)، وكونها يصحُّ استئذانها دليلٌ على أنه لابدَّ من ولي في عقد النِّكاح.
ويدلُّ على ذلك أيضًا ما ورد في قوله تعالى: ï´؟وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِï´¾ [البقرة: 232]، فخاطب الأولياء بألا يمنعوا مولياتهم بالزَّواج من مُطلقيهم، وما هذا إلا أنَّ للولي تصرفًا، وإلا لَمَا مَنَعَه من التَّزويج.
وفي هذا الحديث: مسألة استئذان المرأة في عقد الزواج، والمرأة إن كانت ثيِّبًا فالجماهير على أنَّه لابد مِن أَخْذِ إِذنِها، وأمَّا إذا كانت بكرًا فالجماهير على أنَّه لا يُؤخذ إذنها.
وقد وقع اختلاف فيمن يجوز إجبارها على عقد النِّكاح:
فقال طائفة: إنَّ هذا إنما يكون للصَّغيرة، وهذا مذهب أبي حنيفة. ولعلَّ هذا القول هو الأظهر؛ لأنه لا تُجبر إلا الصَّغيرة، لهذه الأحاديث.
وقال طائفة: إنَّ هذا إنَّما يكون للبكرِ حتى ولو كانت بالغة.
أمَّا قوله: «وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ»، وفي لفظٍ «حَتَّى تُسْتَأْذَنَ» هذا دليلٌ على أنَّه لابدَّ مِن رضاها، ولا يجوز لها أن تُزَوِّج نفسها بدون أن يكون لها ولي.
قال: ( ابْن عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا منْ وَليِّهَا»)، فلا يزوجها الولي إلا برضاها.
قال: «وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ»، أي: يُعاد إليها الأمر، ويُطلب أمرها.
قال: «وإِذْنُهَا سُكُوتُهَا»، ففي هذا دلالة على أنَّ سكوت المرأة دليلٌ على رضاها عن الرَّجل.
وفي لفظٍ قال: «لَيْسَ للْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ»، لابدَّ من رضاها وموافقتها.
قال: «وَاليَتِيْمَةُ تُسْتَأْمَرُ»، أي: يُردُّ لها الأمر ويُطلب منها ما تأمر فيه.
قال: «وَصْمْتُهَا»، يعني: لو قُدِّرَ أن المرأة صمتت؛ فإن إقرارها كافٍ في التَّزويج.
ثُمَّ أوردَ المؤلف من حديث ابن عباس (أَنَّ جَارِيَةً بِكْرًا)، الجارية: الفتاة الصَّغيرة. والبكر: أي لم تبلغ البلوغ، أو أنها لم تتزوَّج قبل ذلك.
قال: (أَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَتْ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ، فَخَيَّرَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، أي: خيَّرها النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بينَ المضي والبقاء معه وبين مفارقته.
وقوله: (أَنَّ جَارِيَةً بِكْرًا أَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، هذا فيه دليل على أنَّه لابدَّ من إذن البكر، ولابدَّ من رضاها في عقد الزَّواج، فهذه ذكرت أنَّ أباها زوَّجها وهي كارهة، وفي بعض الأحاديث أنَّه زوَّجها، أي: هذه الفتاة من ابن أخيه، قال: (فتزوجها ابن عمها)، وعلَّلت ذلك بأنه إنما أراد أن يرفع خسيسته، فخيَّرها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين البقاء معه وبين إلغاء عقد النِّكاح.
ثُمَّ أوردَ المؤلِّف الحديث عَنِ الْـحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ، والحسن سمع من سمرة عددًا قليلًا من الأحاديث، وبقية الرِّوايات عنه لم يسمعها، وبالتالي شكَّكوا في كثير من رويات الحسن عن سمرة إِلَّا إذا صرَّح بالسَّماع.
قال: (عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ»)، أي: كل واحد من الوليين زوَّج الموليَّة في نفس الوقت، فحينئذٍ يكون الحكم:
ïƒک إن كان متفاوتين في الزَّمان: فنحكم بها للأوَّل؛ لأنَّه هو الذي عَقَدَ عليها أولًا، ولكن إذا لم يكن هُناك بينة فماذا نفعل؟
ïƒک كثير من أهل العلم قالوا: نتركهم حتى يتبين حالهم مَن هو الأولى بالولاية.
ïƒک ومنهم مَن يقول: يُمضَى تزوُّج من زوَّجها برضاها وباختيارها.
ثُمَّ أورد المؤلِّف من حديث عبدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَقيلٍ، عَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا عَبْدٍ»، أي: كل عبدٍ، والمراد بالعبد هنا: المملوك.
قال: «تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيْهِ أَو أَهْلِهِ فَهُوَ عَاهِرٌ»، فإذا كانَ هذا يُقال في حق هذه المسألة؛ فإنَّ هذا يصدق أيضًا على مَن عقدَ عقدَ نكاحٍ ثم زوَّج نفسه.
وهذا الحديث ضعيف الإسناد؛ لأنَّه من رواية عبد الله بن عقيل وهو ضعيف الرِّواية، وذلك لوقوع شيء من الاضطراب في روايته.
إذن هذه الأحاديث كلها فيما يتعلَّق بشروط النِّكاح، فعندنا في عقد النِّكاح أربعة شروط على مذهب الجمهور:
ïƒک أولها: رضا الزَّوجة.
ïƒک ثانيها: رضا الزَّوج.
ïƒک ثالثها: وجود الولي.
ïƒک رابعها: وجود الشاهدين.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وعَمَّتِهَا، وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْهُ قَالَ: نهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الشِّغَارِ، وَالشِّغَارُ: أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ للرَّجُلِ: زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ وَأُزَوِّجُكَ ابْنَتِي، وزَوِّجْنِي أُخْتَكَ، وَأُزَوِّجُكَ أُخْتِي. رَوَاهُ مُسْلِمٌ)
وعَنْ ابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ " متفق عليه.
عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ حَدَّثَتْنِي مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ. قَالَ: وَكَانَتْ خَالَتِي وَخَالَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ) رواه مسلم}.
هذه الأحاديث تتكلَّم عن موانع عقد النكاح:
أول موانع عقد النِّكاح: الجمع بين المرأة وبينَ ما لها به قرابة.
وباب موانع النِّكاح فيه تفاصيل كثيرة، قد ذُكرت في قوله -جلَّ وعَلا: ï´؟حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَï´¾ [النساء: 23]، فهنا ذكر عددٍ من المحرمات، نعدُّها بالتفصيل:
المحرمات اثنان وعشرون صنفًا، منهنَّ محرمات بالقرابة وتشمل سبعة أنواع:
ïƒک الأول: الأمهات وإن علونَ، فلا تتزوج جدتك، ولا جدة جدتك.
ïƒک الثاني: البنات وإن نزلن، بنتك، وبنت بنتك، وبنت ابنك، إلى آخره.
ïƒک الثالث: الأخوات، سواء كانت شقيقات أو أخوات لأب، أو أخوات لأم.
ïƒک الرابع: العمَّات، أيًّا كانت منزلتها، وفي أيِّ جدٍّ كان يلتقي معها.
ïƒک الخامس: الخالات، وهنَّ أخوات الأم، سواء كنَّ خالات شقيقات، أو خالات لأمٍّ.
ïƒک السادس: بنات الأخ.
ïƒک السابع: بنات الأخت.
قال تعالى: ï´؟حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِï´¾، فهذه من المحرمات في هذا الباب بسبب القرابة.
وعندنا أربعة أنواع محرمات بسبب المصاهرة، وهنَّ:
ïƒک الأول: أمُّ الزَّوجة، فلا يجوز أن تتزوَّج أم زوجتك، ولو كانت الزَّوجة الأولى مُطلقة قبل عشر سنين.
ïƒک الثاني: بنت الزَّوجة.
ïƒک الثالث: زوجة الأب.
ïƒک الرابع: زوجة الابن، كما نُصَّ على ذلك في هذه الآيات.
ومن المحرمات: المحرمات بالرضاع: فكل مَن تحرم عليك، أو يحرم وليُّها؛ فحينئذٍ لا يجوز أن يُجمَع بينهما، فلا تجمع بين امرأة وزوجة أبيها.
قال: (نهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الشِّغَارِ).
المراد بالشغار: زواج البدل، وهو (أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ للرَّجُلِ: زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ وَأُزَوِّجُكَ ابْنَتِي، وزَوِّجْنِي أُخْتَكَ، وَأُزَوِّجُكَ أُخْتِي)، على سبيل المقابلة، فهذا مما نهي عنه في الشرع.
يبقى عندنا مسألة نكاح المُحرِم، فلا يجوز للمحرم أن يعقد عقد النكاح.
هل يجوز للمرأة المحرمة أن يُعقَد عليها، أو نقول: إنَّ النِّساء في هذا الأمر على أنواع؟
إذن البحث في موانع النَّكاح، فعندنا موانع متعلِّقة بالقرابة، وعندنا موانع متعلِّقة بوقت الإحرام.
عند الحنفيَّة: يجوز للمرأة أن تزوِّج نفسها وهي مُحرِمَة، ويُزوجها وليُّها وهي محرمة، ويكون الزَّوج مُحرمًا، ويكون الولي مُحرمًا.
ولكن الجمهور يمنعون، لورود حديث في النَّهي، فقد جاء في حديث عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لا تنكح المحرمة ولا تُنكَح» ، والمراد هنا عقد النِّكاح.
فالمقصود أنَّ الإحرام مانع من موانع النِّكاح، ولو عقد على امرأة وهي محرمة فحينئذٍ يكون عقدها عقدًا فاسدًا لابدَّ من تصحيحه؛ لأنه وقع في مخالفة للشرع.
وهذا هو قول الجمهور، أمَّا الحنفيَّة يقولون بجواز عقد النِّكاح للمحرم سواء كان وليًّا أو زوجًا أو شاهدًا، أو مأذونًا، ويستدلُّون عليه بحدث تزوُّج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بميمونة، فقد ورد في حديث ابن عباس أنه تزوجها وهي محرمة.
قال: (عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ قَالَ: حَدَّثَتْنِي مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ)، وميمونة هي خالة ابن عباس.
إذن ابن عباس يقول: إنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تزوَّجها وهو محرم، وبريدة يقول: إنه تزوجها وهو حلال. فمن نقبل قوله ونصدقه في ذلك؟
نقبل قول يزيد بن الأصم؛ لأنه كان المباشر للقصَّة، وبالتَّالي يترجَّح لدينا مذهب الجمهور في أنَّه لابد أن يكون العاقد غير محرم، سواء كان قريبًا أم بعيدًا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحَقَّ الشَّروطِ أَنْ يُوفَى بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ)}.
هذا الحديث يتكلَّم عن شُروط عقد النِّكاح، وهناك فرق بين شروط النِّكاح والشُّروط في النكاح. ما هي هذه الفروق؟
• شروط النِّكاح: من قبل الشَّارع، بينما الشُّروط في النِّكاح: من قبل المكلَّفين.
• شروط النِّكاح لابد أن تكون في جميع العقود، وأمَّا الشَّرط في النِّكاح هذا مختصٌّ بما اشترط فيه الشرط، فيجوز أن يكون هناك شرطٌ في عقد النِّكاح، ويصح بالشروط الآتية:
ïƒک ألا يكون محرمًا.
ïƒک وألا يكون وسيلةً لمناقضة مَقصد الشَّارع.
وبالتَّالي نقول: إنَّ الأصل في الشُّروط هو أنها لازمة، وأنَّه يجب الوفاء بها، ويدل على ذلك هذا الحديث عن عقبة بن عامر، قال: «إِنَّ أَحَقَّ الشَّروطِ أَنْ يُوفَى بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ»؛ لأنَّ عقد النِّكاح يُستحلّ به الفرج.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامَ أَوْطَاسٍ فِي الْمُتْعَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثمَّ نَهَى عَنْهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمُحِلَّ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ)}.
هذه الأحاديث تذكر أشياءً من ممنوعات عقد النِّكاح، وتقدَّم معنا النَّهي عن نكاح الشِّغار، والمراد به: ربط نكاح امرأة بنكاح امرأة أخرى، فيقول: زَوَّجْتُك أُختي، وزوجني أختك؛ ويدخل في هذا ما لو لم يُسمِّ المهر، فيكون تبادل بدون أن يذكر فيه المهر. ونكاح الشِّغار باطل، وبالتَّالي لابدَّ من تصحيح هذا العقد.
وكذلك من الأمور التي لها تأثير في النِّكاح: ما يتعلَّق بالإحرام -كما تقدَّم- فإنَّ المحرم لا يجوز له أن يتولَّى عقد النِّكاح سواء لنفسه أو لغيره، ولا يكون وليًّا في عقد النِّكاح.
كذلك من المنهيَّات: نكاح المتعة.
والمراد به: النِّكاح المؤقَّت، فإنَّ الأصل في مشروعيَّة الزَّواج هو أن يكون هناك أُلفة بين النَّاس ومحبَّة وتوادّ، فإذا أَدخلوا هذا المعنى فيما بينهم؛ فحينئذٍ تنتفي تلك المعاني فيه، ولذلك نُهِىَ عن نكاح المتعة؛ لأنَّ مَقصده أن يكون النِّكاح رغبة، وهو على خلاف مَقصد الشَّرع.
فالمراد بنكاح المتعة: أن يكون النَّكاح مُؤقتًا.
الجمهور يقولون: النِّكاح بلا ولي نكاح باطل، ولا يجوز الاعتماد عليه، ويجب تجديد العقد لما حصل منه، لهذه الأخبار.
قوله: (رَخَّصَ)، فيه دليل على أنَّ الأصل هو المنع.
قال: (عَامَ أَوْطَاسٍ فِي الْمُتْعَةِ)، المراد به: النَّكاح المؤقت بوقتٍ محدَّد.
قال: (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ)؛ لأنَّ النَّاس كانوا محتاجين، وكان عندهم حاجة لإتيان أهلهم، ولذا كان الأمر على النَّهي، ثم بعد ذلك رُخِّصَ لهم في نكاحِ المتعة ثلاثة أيام، ثم بعد مضي هذه الأيام الثلاثة نهي عنه نهيًا باتًّا.
ثم أورد المؤلِّف حديث ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: (لَعَنَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمُحِلَّ)، يعني: العاقد وهو الزوج الجديد الذي يُريد أن يحلل المرأة لزوجها.
قال: (لَعَنَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمُحِلَّ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ)، يعني متى علم بذلك وكان مواطئًا عليه. وهو حديث صحيح.
وفي الحديث: تشديد تحريم التَّحليل، وذلك أنَّ الشَّرع يُريد أن يكون النِّكاح نكاح رغبةٍ وليس نكاح إجبارٍ وتصول بين الزَّوجين. وفي هذا تحريم نكاح التَّحليل.
ونكاح التَّحليل مخالف للشَّرع، فهل يدل على بطلانه مطلقًا؟ أو يُمكن تصحيحه؟
وجه التَّصحيح له: أن يُلغى ما يكون بينهم من اتفاقات في هذا.
والصَّواب: أنَّ النَّهي عن التَّحليل نهيٌّ عامٌّ لكلِّ محلل.
والمقصود هنا: أنَّ نكاح التَّحليل نكاح محرم، وأنَّه نكاح لا يُجيزها لِمُطَلِّقِها، معاملةً له بنقيض مَقصوده.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ سَعيدٍ الـمَقْبُري، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«لَا يَنْكِحُ الزَّانِي المَجْلُودُ إِلَّا مِثْلَهُ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ إِلَى عَمْرٍو وَهُوَ ثِقَةٌ مُحْتَجٌّ بِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا، فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَأَرَادَ زَوجُهَا الأَوَّلُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَسُئِلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «لَا، حَتَّى يَذُوقَ الآخِرُ مِنْ عُسَيْلَتِهَا مَا ذَاقَ الأَوَّلُ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ)}.
أورد المؤلِّف حديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ سَعيدٍ الـمَقْبُري، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-وهذا إسناد جيد.
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«لَا يَنْكِحُ الزَّانِي المَجْلُودُ إِلَّا مِثْلَهُ»، هذا فيه النَّهي عن نكاح الزَّاني.
والحنابلة يقولون: لا يجوز نكاح الزاني رجلًا أو امرأة، ويستدلُّون عليه بهذا الحديث، ويستدلُّون عليه أيضًا بقوله تعالى: ï´؟الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَï´¾ [النور: 3].
وقال الجمهور بحلِّه مع كراهته.
ولكن المذهب الأوَّل أقوى لوجود الدَّليل الواضح معه.
وقوله: «لَا يَنْكِحُ الزَّانِي المَجْلُودُ إِلَّا مِثْلَهُ»، يعني: ما ماثله في صفاته.
ثم أورد المؤلف حديثًا متفقًا عليه من طريق عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قالت: (طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا)، بعض الفقهاء قال: هذا دليل على أنَّ الطَّلاق الثَّلاث يقع على أي طريقةٍ.
وبعضهم قال: الحديث ليس فيه استفصال، ويُمكن أنَّ مُراده بقوله (طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا)، يعني أن الزوج طلقها الثالثة، وقد مضى معه طلقتان طلقتان سابقتان، وبالتَّالي يكون لفظ الخبر فيه شيء من إمكانيَّة التَّفسير بتفسيرٍ مخالفٍ.
قالت: (فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ)، والظَّاهر من هذا أنَّه نكاح رغبة، وليس نكاح تحليل.
قالت: (ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا)، أي أنَّ الرَّجل الثَّاني طلَّق المرأة قبل أن يدخل بها.
فهل تُحل للأول؟
لا تحل، فقد جاءنا في الحديث أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جعل معيار الحل للزَّوج الأول هو وطء الزَّوجة من الزَّوج الثَّاني، فلابد أن يكون هناك رغبةٍ لا نكاح تحليل فقط.
قالت: (طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا)، فيه دلالة على مضي الطَّلقات الثَّلاث بلفظٍ واحد، وبذلك قال الجماهير، خلافًا لبعض فقهاء الحنابلة والظَّاهرية.
قالت: (فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَأَرَادَ زَوجُهَا الأَوَّلُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا)، أي يعود إليها.
قالت: (فَسُئِلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: «لَا»)، يعني لا تحل له.
قال: «حَتَّى يَذُوقَ الآخِرُ مِنْ عُسَيْلَتِهَا مَا ذَاقَ الأَوَّلُ»، فيه دلالة على أنَّه لا يحصل تحليل للزَّوج الأول بطلاقٍ لم يحصل فيه وطء.
فهذا شيءٌ من أحكام الأحاديث التي تتعلَّق بهذا الباب، وبالتَّالي نعلم أنَّ الشَّارع قد نظَّم هذا البابَ تنظيمًا قويًّا، وأنَّ تنظيمَ الشَّارع حاصرٌ، وأنه تحصل به مصلحة النَّاس، فالأصل في عقود الأنكحة هو الحل والجواز، إلا أن يأتي دليلٌ خاصٌّ في جزئيَّةٍ من جزئيَّاته.
فالمقصود: أنَّ هذه الأبواب جمعت عددًا من الأمور التي تكون سببًا من أسباب بطلان العقد، منها:
ïƒک الكلام في إعلان النِّكاح، وعدم إسراره، وفي هذا يدخل ما يسمونه سابقًا بالنَّهاريَّات اللاتي لم يُشهَرأمر زواجهن.
ïƒک الكلام على مسألة الزَّواج بلا ولي، فهل تُزوِّج المرأة نفسها أو لا.
ïƒک والكلام على العقد على المرأة بدون رضاها، وما هيولاية الإجبار في هذا.
ïƒک والكلام على مسألة ما لو زوَّجَ وليَّان؛ فحينئذٍ يكون زواج المرأة للأول منهما.
ïƒک والكلام على ما يتعلَّق بالجمع بين المرأة وقرابتها.
ïƒک والكلام على ما يتعلق بنكاح الشِّغار، وفصَّلنا في حكم نكاح المرأة من المحرِم، هل يصح عقدها أو لا يصح هذا النكاح الذي وقع في زمن الإحرام.
ïƒک والبحث في مسألة الشُّروط في عقد النِّكاح، شروط العاقدين.
ïƒک والبحث في مسألة نكاح المتعةِ، ونكاح التَّحليل، ونكاح المجلودين من الزُّناة.
ïƒک وبحث مسألة ما يتعلِّق باشتراط ذوق العسيلة للمحللين، أو مَن يُظن أنهم يُريدون التَّحليل.

أسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يُوفقنا وإيَّاكم لكل خير، وأن يجعلنا وإيَّاكم من الهُداة المهتدين، كما نسأله -سبحانه- أن يصلح أحوال الأمَّة، وأن يردهم إلى دينه ردًّا حميدًا، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختام نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّة عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.







https://benaa.islamacademy.net/files/word/1549479811moharer402.docx

احمد الصادق
2019-04-22, 14:19
الْمُحَرِّرُ فِي الْحَديث (4)
الدَّرسُ الثَّالِثُ (3)
معالي الشيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور: سعد بن ناصر. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشيخ}.
الله يحييك، أرحب بك، وأرحب بأحبتي من المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وَعَلَا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
{اللهم آمين..
نستفتح هذه الحلقة -بإذن الله- من قول المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (بَابُ الْخِيَارِ فِي النِّكاح وَذِكْرِ نِكَاحِ الْكُفَّارِ.
عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ سُنَنٍ: خُيِّرَتْ عَلَى زَوجِهَا حِيْنَ عَتَقَتَ، وأُهْدِيَ لَهَا لَحْمٌ فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالبُرْمَةُ عَلَى النَّارِ، فَدَعَا بِطَعَامٍ فَأُتِيَ بِخُبْزٍ وَأَدَمٍ مِنْ أَدَمِ الْبَيْتِ، فَقَالَ: «أَلَمْ أَرَ بُرْمَةً عَلَى النَّارِ فِيهَا لَحْمٌ؟» فَقَالُوا: بلَى يَا رَسُولَ اللهِ, ذَلِك لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَكَرِهْنَا أَنْ نُطْعِمَكَ مِنْهُ، فَقَالَ: «هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ مِنْهَا لَنَا هَدِيَّةٌ»، وَقَالَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهَا: «إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
وَلهُ عَنْ يزِيدَ بنِ رُومَانٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ زوجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا.
وَعَنْ الْأَسودِ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: كَانَ زوجُ بَرِيرَةَ حُرًّا فَخَيَّرَها رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَهَذَا لَفْظُهُ وَقَالَ: "حَدِيثُ عَائِشَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ"، قَالَ إِبْرَاهِيمُ بنُ أَبي طَالبٍ: "خَالَفَ الْأسْوَدُ بنُ يزِيدَ النَّاسَ فِي زَوجِ بَرِيرَةَ قَالَ: إِنَّهُ حُرٌّ، وَقَالَ النَّاسُ: إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا".
وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمدُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ بَرِيرَةَ كَانَتْ تَحْتَ عَبْدٍ، فَلَمَّا أَعْتَقَتُهَا, قَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اخْتَارِي، فَإِنْ شِئْتِ أَنْ تَمْكُثِي تَحْتَ هَذَا العَبْدِ، وَإِنْ شِئْتِ أَنْ تُفَارِقِيْهِ»)}.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعد: فيقول المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (بَابُ الْخِيَارِ فِي النِّكاح)، يعني: ما هي المسائل التي يُعطَى للمرأة حق فسخ النِّكاح فيها، فهذا هو المراد بالخيار في النِّكاح.
وأما قوله: (وَذِكْرِ نِكَاحِ الْكُفَّارِ)، أي: هل عقود أنكحتهم عقودٌ صحيحة يجوز البقاء عليها، أم لابدَّ من تجديدها؟
وقد ذكر المؤلف ثلاثة أحاديث في أوائل هذا الباب تتعلق بحديث بريرة، وكلها من رواية عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها:
أولها: حديث متفقٌ عليه، (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ سُنَنٍ)، بريرة هي امرأة كانت في زمن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حدثت لها قصص مُتعددة، وكانت في أول أمرها مملوكة، فزُوِّجَت برجلٍ يُقال له: مغيث، ثم عتُقَت بريرة، فخُيَّرَت بينَ البقاء مع زوجها، وبين مُفارقته؛ فاختارت مفارقة الزوج، فأخذ العلماء من ذلك أنَّ مَن أُعتقت فإنَّه يكون لها الخيار في إمضاء النِّكاح وإبقائه، أو في فسخ عقد النِّكاح.
وإذا كان الزوج مملوكًا فهذا بالاتفاق، وأما إذا كان حرًّا ففيه خلاف بين أهل العلم نتيجة الاختلاف بين الرواة في حال مغيث هذا؛ هل كان عبدًا أو كان حرًّا.
بعد ذلك جاء إليها النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليشفع عندها في أن تعود إليه، فإنَّه كان يمشي في الأسواق يبكي من محبته لها، فقالت: "يا رسول الله أتأمرني؟" قال: «لا، إنما أنا شافع». فقالت له -رَضِيَ اللهُ عَنْها: "إذن لا حاجة لي فيه".
قال عائشة: (كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ سُنَنٍ)، أي: ثلاث أحكام منسوبة إلى سنة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وليس المراد بالسنن هنا المستحبات، وإنما المراد: الأحكام المنسوبة إلى سُنة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الحكم الأول: (خُيِّرَتْ عَلَى زَوجِهَا حِيْنَ عَتَقَتَ)، فكانت مملوكة، وكانت مُتزوجة، فلمَّا عتقت خُيِّرَت بين فسخ النِّكاح وإبقائه وإمضائه؛ فاختارت الفسخ.
فالمقصود أنَّ السُّنَّة الأولى: أنَّ المملوكة إذا عُتقَت فإنَّها تُخيَّر في بعض الأحوال أو في جميعها.
السُّنة الثانية: قالت: (وأُهْدِيَ لَهَا لَحْمٌ)، أي: أُهدِيَ لبريرة لحم، وفي هذا إطلاق لفظ الهدية على الصَّدقة، وفيه شُحًا كان عليه حال النُّبوَّة في بيت النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قالت عائشة: (فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، عائشة هي التي أعتقت بريرة، فبقيت عندها.
قولها: (وَالبُرْمَةُ عَلَى النَّارِ)، البرمة: القِدر الذي يُصنع من الحجارة، وكانوا في الزَّمان الأول يَطبخون فيه، وفي هذا جواز طبخ الطعام داخل البيوت.
قالت عائشة: (فَدَعَا بِطَعَامٍ)، أي: دعا النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بطعام، وفيه خدمة المرأة لزوجها، فإنَّ عائشة كان تخدم النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولذلك كان يَطلب منها الطعام.
وفيه: أمر الزَّوج لزوجته فيما يتعلق بشأن أهل البيت.
والعلماء لهم ثلاثة أقوال في حُكم طاعة المرأة لزوجها:
- منهم من يقول بوجوب ذلك، لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ [النساء: 34]، ولظواهر الأحاديث الواردة في السُّنَّة من كون النِّساء يُطعنَ أزواجهنَّ ويقمنَ بخدمتهم، ومنها هذا الخبر.
- وهناك من قال: إنَّ مرجع الأمر على أعراف النَّاس، فإن تعَارف النَّاس على خِدمةِ المرأة لزوجها وطاعتها له لزمها؛ لأنَّ هذا مبنيٌّ على أنَّ مَن ما كان مَعروفًا في أعراف النَّاس كانَ بمثابةِ المشروط فِي عَقدِ النِّكاح.
والقول الأول هو قول كثيرٍ من أهل العلم، والقول الثَّاني هو قول الإمام مالك.
- وهناك مَن رأى أنَّ طاعة الزَّوج ليست واجبة، ولكنه يُخالف ظواهر هذه الأخبار.
وليُعلم أنَّه في مُقابل هذا يجب على الزَّوج أن يُنفق على زوجته، ولا يعني الأمر إساءة العِشرة أو مُعاملة المرأة بالسوء؛ بل يكون ذلك برفقٍ ولينٍ وبمودَّةٍ وأُلفةٍ.
قالت عائشة: (فَأُتِيَ بِخُبْزٍ وَأَدَمٍ مِنْ أَدَمِ الْبَيْتِ)، الخبز: معروف، يُصنع من القمح -البر.
والأدم: يكون من الزيت، ونحوه.
فالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى لحمًا يُطبَخ، والآن لَمَّا طلبَ الطَّعام أُتيَ له بالخبزِ والأدم، وفي هذا جواز إطلاق اسم الطعام على ذلك.
فقال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَمْ أَرَ بُرْمَةً عَلَى النَّارِ فِيهَا لَحْمٌ؟»، فيه مُناقشة الرَّجل لأهل بيته فيما يتعلق بحوائجه ونفقاته.
فَقَالُوا: (بلَى يَا رَسُولَ اللهِ)، يعني: كان هناك لحم، ثُمَّ اعتذروا فقالوا: (ذَلِك لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ)، وذلك أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد أخبر بأنَّ الصَّدقة لا تحل له ولا لأهل بيته، ولذلك تحرَّجوا من أن يُعطوه من هذا اللحم وهو لحمِ صدقةٍ.
قالوا: (فَكَرِهْنَا أَنْ نُطْعِمَكَ مِنْهُ، فَقَالَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ مِنْهَا لَنَا هَدِيَّةٌ»)، وفي هذا أنَّ المال لا يكون له حُكمٌ في ذَاته، وإنما يتبدَّل حُكمه بتبدُّلِ سبب تملُّكه، ومن هنا كان هذا المال في أول الأمر صدقة لَمَّا كان عند بريرة، فلمَّا أهدته أصبح هدية وليس صدقة فحلَّ لآل محمد.
والأموال على ثلاثةِ أنواعٍ:
النوع الأول: أموالٌ محرمة لعينها ولذاتها، فلا تَحِل بأي وجه، مثل: الخنزير والخمر.
النوع الثاني: أموالٌ تتعلق حرمتها لتعلق حقوق الآخرين بها، كالمغصوب والمسروق، ونحو ذلك؛ فهذه يَلزم إرجاعها لأهلها، ويحرم للإنسان أن ينتفع بها، ولا يجوز لإنسان أن يَشتريها، ولا يجوز له أن يتصرف فيها بعد الشراء؛ بل يجب إعادتها لأهلها.
النَّوع الثَّالِثُ: ما كان ممنوعًا منه لكسبه: ومن ذلك الصدقة هنا.
فقال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ»، وهذه هي السنَّة الثالثة في بريرة، وذلك أنَّ مُلَّاكها اشترطوا على عائشة لما أرادت شراءها أن يكون الولاء لهم، بحيث تتبعهم، ويكون لهم بها علاقة، ولو قُدر موتها لورثوها، فقال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعائشة: «اشتريها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق».
 وفي هذا دليل على أن الشروط الفاسدة لا تفسد العقد كما قال الحنابلة.
 وفي هذا إنما تفسد الشروط في ذاتها.
 وفي هذا لُحُوق أمر الولاء بِأَمر الإِعْتَاق، فمن أعتق فهو صاحب الحق في الولاء.
 وفي هذا أن الولاء يكون لمن أعتق.
وقد أشار المؤلف إلى رواية أخرى: (كَانَ زوجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا)، أي: مملوكًا.
بينما قال الْأَسودِ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: (كَانَ زوجُ بَرِيرَةَ حُرًّا)، وهذا الحديث عند أهل السُّنن، لكن أهل العلم قالوا: إنَّ لفظة (كَانَ زوجُ بَرِيرَةَ حُرًّا)، هذا من إدراج أسود النَّخعي لهذه اللفظة في هذا الحديث، ولذلك رأوا عدم تصحيح هذه اللفظة، ومن هنا كان الجماهير يرون أنَّ زوج بريرة كان عبدًا مملوكًا وليس بِحُرٍّ.
قالوا: "أخطأ الأسود في هذه الرواية".
قوله: (فَخَيَّرَها رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فيه دلالة على إثبات التَّخيير في هذه الحال.
قال الترمذي: (حَدِيثُ عَائِشَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ)، ولكن -كما تقدم- أنَّ فيه علة الإدراج، وهذا من الأمثلة على الإدراج الذي يكون في أول الخبر.
قال: (قَالَ إِبْرَاهِيمُ بنُ أَبي طَالبٍ: "خَالَفَ الْأسْوَدُ بنُ يزِيدَ النَّاسَ فِي زَوجِ بَرِيرَةَ قَالَ: إِنَّهُ حُرٌّ، وَقَالَ النَّاسُ: إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا")، وبالتَّالي تكون روايته شاذَّة، حيث خالف مَن هو أوثق منه.
ثم أورد المؤلف خبرًا ثالثًا بإسنادٍ جيد، وهذا الحديث من رواية أسامة بن زيد الليثي، وهو صدوق، فيكون الخبر حسن الإسناد. قال: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ بَرِيرَةَ كَانَتْ تَحْتَ عَبْدٍ).
إذن رواية القاسم ورواية عُروة؛ كلهم يقولون: إنه كان عبدًا، وخالفهم الأسود فقال: "كان حرًّا"؛ فتُقدَّم رواية الأكثر.
قال: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ بَرِيرَةَ كَانَتْ تَحْتَ عَبْدٍ، فَلَمَّا أَعْتَقَتُهَا)؛ لأنَّ عائشة اشترت بريرة مَن القوم.
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لبريرة: «اخْتَارِي»، أي: اختاري بين البقاء مع زوجك المملوك، أو فسخ النِّكاح.
قال: «فَإِنْ شِئْتِ أَنْ تَمْكُثِي تَحْتَ هَذَا العَبْدِ، وَإِنْ شِئْتِ أَنْ تُفَارِقِيْهِ»، فيه دلالة على أنَّ هذا الحق في الخيار إنما هو لحق المملوكة التي أُعتقَت، وبالتالي لها الخيار بين إمضاء عقد النِّكاح وبين إلغائه.
وبعض أهل العلم قَصَر ذلك على ما لو كان الزوج مملوكًا، وآخرون رأوا عموم النَّص فشملوا به ما لو كان حرًّا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلمَةَ الثَّقَفِيُّ أَسْلَمَ وَلَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَسْلَمْنَ فَأَمَرَهُ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَتَخَيَّرَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا. رَوَاهُ أَحْمدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ البُخَارِيُّ: "هُوَ حَدِيثٌ غَيرُ مَحْفُوظٍ"، وَتَكَلَّمَ فِيهِ أَبُو زرْعَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ وَغَيرُهُمَا.
وَعَنِ الضَّحَّاكِ بنِ فَيْرُوزٍ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَسْلَمْتُ وَتَحْتِي أُخْتَانِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَلِّقْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيُّ -وَحَسَّنَهُ- وَابْنُ حِبَّانَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ البُخَارِيُّ، وَفِي لَفظِ التِّرْمِذِيِّ: «اخْتَرْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ»)}.
أورد المؤلف هنا حديثًا فيمن تزوَّج مَن لا يحل له، ومَن تزوج من لا يحل له فأسلم لا يخلو:
- إما أن تكون محرمة لعينها: كما لو تزوج أخته، أو تزوج عمته، أو خالته؛ فإن بعض الأديان كالمجوسيَّة تُجيز ذلك، فمثل هذا يجب عليه المفارقة، ولا يجوز له البقاء.
- أو تكون محرَّمة من أجل الجمع أو تجاوز العدد: ففي هذه الحال: هل يطلق النساء جميعًا؟ أو لا يفارق إلا من تزوجها أخيرًا؟ أو أنه يختار بينهنَّ؟
أورد فيه حديث ابن عمر، وفيه علَّة، وهوي أنه من رواية معمر بن راشد الصنعاني، ومعمر لما ذهب إلى العراق لم يذهب بكتابه، فحصلت أغاليط في رواياته في العراق، ولذلك تكلم بعض أهل العلم في روايته، خصوصًا أن معمرًا هنا رواه عن الزهري عن سالم عن ابن عمر -متَّصلًا- بينما كان ما يُحدِّث به من حديث الزهري مرسلًا، ومراسيل الزُّهري ضعيفة؛ لأنَّه يُسقط حتى الضعفاء، ولذلك حَكَمَ كثير من أهل العلم على هذا الخبر بأنَّه معلول، وأن الصواب فيه أنَّه مرسل.
قال: (أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلمَةَ الثَّقَفِيُّ)، من قبيلة ثقيف، وهي قبيلة عربية في الطائف، ولازالت مشهورة إلى يومنا هذا.
قال: (أَنَّ غَيْلَانَ بْنَ سَلمَةَ الثَّقَفِيُّ أَسْلَمَ وَلَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ)، الحد المشروع هو أربع لقوله تعالى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ﴾ [النساء: 3].
قال: (فَأَسْلَمْنَ)، أي العشر نسوة أسلمنَ معه.
قال: (فَأَمَرَهُ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَتَخَيَّرَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا)، معنى هذا: أن يفارق سائرهنَّ.
وظاهر هذا الخبر أنَّه يختار أيّهما شاء، سواء تزوجها أولًا أو تزوجها أخيرًا، وأشار المؤلف إلى بعض الضعف في هذا الحديث.
الحنفية يقولون: يجب عليه الإبقاء على الأربع الأول، وما بعدهن فإنه يفارقهنَّ.
وهذا مخالف لظواهر الأخبار الواردة في هذا الباب، وظاهر هذا الخبر الذي معنا أنَّه اختار أربعًا منهنَّ وفارق سائرهن.
ثم أورد حديث الضَّحَّاكِ بنِ فَيْرُوزٍ الدَّيْلَمِيِّ، وهذا الحديث تكلم فيه أهل العلم من جهة جهالة طبقة رواته، وبالتالي يحتمل أن يكون موقوفًا.
يقول الإمام البخاري: "لا يُعرف سماع بعضهم من بعض".
قال: (عن الضَّحَّاكِ بنِ فَيْرُوزٍ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَسْلَمْتُ وَتَحْتِي أُخْتَانِ؟)، من الملعوم انه لا يجوز المع بين الأختين لقوله تعالى: ﴿وَان تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [النساء: 23].
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَلِّقْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ»، لذلك فإنَّ الجمهور يرون أنَّ مَن أسلم وعنده أكثر من أربع نسوة، أو أسلم وعنده أخوات؛ فإنَّه يُقال له: تخيَّر من التي تريدها أن تبقى معك وفارق البقيَّة. وهذا مذهب الجمهور.
أما الحنفية فيقولون: النِّكاح الأول هو الصحيح، وما عداه فإنَّه لا يكون صحيحًا.
قوله هنا: «طَلِّقْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ»، هل المفارقة تحتاج إلى تطليق؟
قال طائفة: تحتاج إلى تطليق.
وقال الجمهور: لا تحتاج إلى تطليق، وذلك أنه إذا اختار كان ذلك بمثابة الفسخ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: رَدَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي العَاصِ بنِ الرَّبِيعِ بعْدَ سِتِّ سِنِينَ بِالنِّكاح الأَوَّلِ وَلم يُحْدِثْ نِكَاحًا. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ وَقَالَ: "لَيْسَ بِإِسْنَادِهِ بَأْسٌ" وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَكَذَلِكَ صَحَّحَهُ الإِمَامُ أَحْمدُ وَغَيرُ وَاحِدٍ.
وَعَنْهُ قَالَ: أَسْلَمَتِ امْرَأَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَزَوَّجَتْ، فجَاءَ زَوجُهَا إِلَى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ أَسْلَمْتُ وَعَلِمَتْ بِإِسْلَامِي؟ فانْتَزَعَهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ زَوجِهَا الآخَرِ وردَّهَا إِلَى زَوجِهَا الأَوَّلِ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ)}.
هذان حديثان وردَ في تفسيرهما وشرحهما كلام كثير لأهل العلم؛ يقولون: كيف يُراجعها بعد ست سنين ولم يُحدث نكاحًا جديدًا؟
هذا الحديث هو من رواية داود بن الحصين عن عكرمة، ورواية داود عن عكرمة لأهل العلم فيها كلام.
قال: (رَدَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابْنَتَهُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي العَاصِ بنِ الرَّبِيعِ)، أبو العاص بن الربيع هو زوج زينب في الجاهلية.
قوله: (بعْدَ سِتِّ سِنِينَ بِالنِّكاح الأَوَّلِ وَلم يُحْدِثْ نِكَاحًا)، يعني: لم يُحدث نكاحًا جديدًا.
وبالتالي استشكل أهل العلم يُفارقها ست سنين، ثم بعد ذلك لا يحتاج إلى نكاح؟
فنقول في مثل هذا: إنَّ تحريم بقاء المرأة المسلمة مع الرجل الكافر إنما جاء في أواخر السنة السادسة، ومجيء أبي العاص إليهم كان في بداية السنة السابعة، فتبدأ عدتها بنزول الحكم بمفارقة المسلمة للكافر، فلمَّا نزلت الحكم نوت الفِراق وفارقته وبدأت تعتد، فلمَّا جاء بداية السَّنة السَّابعة وعدتها لم تنتهِ بعد جاء أبو العاص مرة أخرى؛ فأرجع النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زينب إليه بالنِّكاح الأول، لأنها لازالت في مدة العدة.
ولذلك نقول: لو ارتدَّ الزَّوج فإنَّنا لا نحكم بقطع العلاقة بينها وبينه حتى نُراعي مُدَّة العدَّة.
ونقول: إذا أسلمت الزوجة، والزوج لم يُسلم؛ فإننا نفرق بينهما ونقول: العقد مراعى؛ فإن أسلم الزوج والزوجة لازالت في العدة رجعت إليه، وإن لم يُسلم إلا بعد انتهاء العدة فحينئذٍ لا ترجع إليه إلا بعقدٍ جديد ومهر جديد.
ثم أورد من حديث ابن عباس أيضًا، قال: (أَسْلَمَتِ امْرَأَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَزَوَّجَتْ)، كانت متزوجة وعندها زوج، فلمَّا جاءت إلى المدينة أسلمت، فتزوَّجت من أحد الصحابة.
قال: (فجَاءَ زَوجُهَا إِلَى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ أَسْلَمْتُ وَعَلِمَتْ بِإِسْلَامِي؟)، فكيف تتزوج برجلٍ ثانٍ وأنا قد أسلمتُ.
قال: (فانْتَزَعَهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ زَوجِهَا الآخَرِ وردَّهَا إِلَى زَوجِهَا الأَوَّلِ).
إذن عندنا أوجه:
- إذا أسلمت المرأة والزوج باقٍ على كفره: ننتظر مدَّة العدَّة، إن انتهت العدة انفسخ النِّكاح، فما دامت في العدَّة فإن أحكام الانتظار باقية في حقِّها.
- أمَّا إذا أسلم الزَّوج والزَّوجة لم تسلم؛ فلا يخلو:
* إن كانت كتابية: جاز له الاستمرار معها بلا إشكال.
* إن لم تكن كتابية: إن كان قبل الدخول فُرِّق بينهما، وإن كان بعد الدخول انتظرنا مدَّة العدة.
وهذا الخبر من رواية سماك بن حرب، وهو صدوق، ولكن روايته عن عكرمة لأهل العلم فيها كلام.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (كِتَابُ الصَّدَاقِ
عَنْ أَبي سَلَمَةَ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمْ كَانَ صَدَاقُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: كَانَ صَدَاقُهُ لأَزْوَاجِهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً ونَشًّا. قَالَتْ: أَتَدْرِي مَا النَّشُّ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَتْ: نِصْفُ أُوقِيَّةٍ، فَتِلكَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَهَذَا صَدَاقُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأَزْوَاجِهِ. رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
المراد بالصَّداق: المهر الذي يدفعه الزوج للزوجة بسبب عقد الزوجيَّة.
والصواب أنَّ الصَّداق أثرٌ من آثار عقد النِّكاح، فليس شرطًا فيه ولا ركنًا، خلافًا لكثيرٍ من الفقهاء.
إذا سُمِّيَ الصَّداق فحينئذٍ يلزم ذلك الصداق المسمى بالدخول أو بالخلوة أو بالوفاة، وإذا لم يُسمَّ الصَّاق؛ فننظر إلى أمثالها كم مقدار ما يُدفَع في مهورهنَّ، وذلك إذا كان بعد الدخول.
قال: (عَنْ أَبي سَلَمَةَ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمْ كَانَ صَدَاقُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟)، يعني كم دفع لأزواجه.
قَالَتْ: (كَانَ صَدَاقُهُ لأَزْوَاجِهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً ونَشًّا).
الأوقية: مقدار وزن معيَّن.
والنش: نصف أوقيَّة.
وفي هذا دلالة على جواز مشاركة الناس في أفراحهم وزواجاتهم.
وفيه استحباب التَّخفيف في المهور.
قَالَتْ عائشة لأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: (أَتَدْرِي مَا النَّشُّ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا, قَالَتْ: نِصْفُ أُوقِيَّةٍ، فَتِلكَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَهَذَا صَدَاقُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأزواجه).
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ أعتَقَ صَفِيَّةَ، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقهَا. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ لَمَّا تَزوَّجَ عَليٌّ فَاطِمَةَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْطِهَا شَيْئًا»، قَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ, قَالَ: «فَأَيْنَ دِرْعُكَ الحُطَمِيَّةُ؟» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو يعْلى الـمَوْصِلِيِّ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ)}.
قال المؤلف: (وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ أعتَقَ صَفِيَّةَ)، هي صفية بنت حيي، وكانت أُسرَت في يوم خيبر، فوقعت في نصيب بعض الصَّحابة، فجاء مَن جاء إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "يا رسول الله، امرأة من النساء لا تصلح لأحد سواك"، فطلبها ممن هي في نصيبه، فأعطيت له -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكانت من نصيب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبعد ذلك أعتق النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صفية، وجعل عتقها صداقها، فالعتق كأنه بمثابة مالٍ يُدفَع، فجعله جزءًا من الصَّداق.
وبعض أهل العلم منع من أن يكون ذلك صداقًا صحيحًا، فقال: لابدَّ من مسمَّى، ولكن ظاهر الخبر جواز الاكتفاء بذلك كما قال الحنابلة خلافًا لغيرهم.
ثم أورد المؤلف من حديث أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: (لَمَّا تَزوَّجَ عَليٌّ فَاطِمَةَ)، فيه الزواج ببنات الأنبياء.
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعْطِهَا شَيْئًا»، "أعطِ" فعل أمر، وهذا يدل على أنَّ المهر والصداق من الواجبات.
قال: (مَا عِنْدِي شَيْءٌ)، يعني لا يوجد شيء أقوم بدفعه إليك كمهرٍ لفاطمة.
قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَيْنَ دِرْعُكَ الحُطَمِيَّةُ؟»، كان قد أخذها في معركةٍ سابقةٍ، وبالتَّالي يُذكره النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بتلك الأموال.
هذا الحديث قد رواه عبدة بن سليمان عن سعيد بن أبي عروبة عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس به، وظاهر هذا الخبر يدل على الصِّحَّة، وعبدة بن سليمان سمع من سعيد بن أبي عروبة قبل أن يختلط، ولكن روى حمَّاد بن سلمة ما يُخالف هذا الخبر، فرواه من طريق أيوب عن عكرمة عن ابن عباس عن علي، فجعله من حديث علي.
وقوله: «أَعْطِهَا شَيْئًا»، "شيئًا" هنا نكرة في سياق الإثبات؛ فيدل على أنَّ ( شيء ) يُجزئ كما قال الشَّافعي وأحمد.
بينما قال مالك: لابدَّ أن يكون المال أكثر من ربع دينار.
وقال الإمام أبو حنيفة: لابدَّ أن يكون عشرة دراهم فما زاد.
قال: (مَا عِنْدِي شَيْءٌ)، أي: ما عندي مال أتمكن به من دفعه لفاطمة.
فقال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَيْنَ دِرْعُكَ الحُطَمِيَّةُ؟»، سُمِّيَت بهذا الاسم لأن السيوف تتكسر عند هذه الدرع.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، عَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ عَلَى صَدَاقٍ أَو حِبَاءٍ أَو عِدَّةٍ قَبْلَ عِصْمَةِ النِّكاح فَهُوَ لَهَا، وَمَا كَانَ بَعْدَ عِصْمَةِ النِّكاح فَهُوَ لِمَنْ أُعْطِيَهُ، وأَحَقُّ مَا أُكْرِمَ عَلَيْهِ الرَّجُلُ ابْنَتُهُ أَو أُخْتُهُ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَه)}.
عبد الملك بن جريج من رواة الأحاديث ولكنه يُدلس، فلا يُقبل من حديثه إلا ما صرح فيه بالسماع، وهنا لم يأتِ تصريح بالسَّماع، ولكن ورد عند النسائي هذا الخبر وقد صرَّح فيه بالتحديث، فنكون حينئذٍ قد أمِنَّا التدليس.
وعمرو بن شعيب ثقة، لكن أباه صدوق حسن الحديث، وجده هو عبد الله بن عمرو بن العاص؛ ومن ثَّم يكون هذا الحديث حسن الإسناد.
قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ عَلَى صَدَاقٍ أَو حِبَاءٍ أَو عِدَّةٍ قَبْلَ عِصْمَةِ النِّكاح فَهُوَ لَهَا»:
الصداق: يعني ما يُدفع للمرأة من صداق من المهر
الحباء: الهدايا.
العدة: ما يوعد به الإنسان، ثم يُعطَى بعد ذلك.
حكم هذه الأموال: أنها للمرأة.
قال: «وَمَا كَانَ بَعْدَ عِصْمَةِ النِّكاح فَهُوَ لِمَنْ أُعْطِيَهُ»، يعني يقول مثلًا: هذه ألف لأبيها، وهذه ألف ريال لعمِّها، وهذه ألف ريال لولد عمها؛ فهو ما أعطى والدها أو عمها إلا من أجلها؛ يُريد أن يُكرمها بإكرامهم، فالظاهر أن يكون المال لها. وهذا أحد المذاهب في هذا الباب.
وقال الإمام مالك: جميع المال للمرأة، وليس للأب شيء.
وقال الإمام أحمد: المال المسمى للأب؛ لأنَّه هو الذي من أجله أُعطي، ولا يكون لغيره من الأولياء.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ إِبْرَاهِيم, عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّه سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلم يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا، وَلم يَدْخُلْ بهَا حَتَّى مَاتَ؟ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَهَا مِثْلُ صَدَاقِ نِسَائِهَا، لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ، وَعَلَيْهَا العِدَّةُ، وَلها الْمِيرَاثُ، فَقَامَ مَعْقِلُ بنُ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيُّ فَقَالَ: قَضَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ امْرَأَةً مِنَّا مِثْلَ مَا قَضَيْتَ، فَفَرِحَ بهَا ابْنُ مَسْعُودٍ. رَوَاهُ أَحْمدُ وأَبُو دَاود وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ وَهَذَا لَفْظُهُ-، وَكَذَلِكَ صَحَّحَهُ غَيرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَتَوَقَّفَ الشَّافِعِيُّ فِي صِحَّتِهِ)}.
هذا الحديث رواه ابن مسعود، والإمام الشافعي قال فيه: "إن كان قد ثبت هذا الخبر فهو أولى الأمور، ولا حجة لأحدٍ بعد رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإن كثروا، ولا في قياس، فلا شيء في قوله إلا طاعة الله بالتَّسليم له".
ولذلك بعض أهل العلم شكَّكَ فيه، وأهل الحديث يقولون: هذا حديث ثابت صحيح عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّه سُئِلَ)، ابن مسعود أصبح من مفتي الصحابة في العراق.
قال: (عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلم يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا)، يعني: لم يُسمِّ الصَّداق، وذلك أن النساء على أربعة أحوال:
الحالة الأولى: أن تكون مدخول بها قد سُمِّي لها الصداق فهذه واضحة، فالصداق مسمى وقد دخلت بيته؛ فتأخذ المهر كاملًا.
الحالة الثانية: امرأة مسمى لها الصداق، ولكن الزوج لم يدخل بها، ثم حصلت فُرقَة من قبله؛ فحينئذٍ يكون للمرأة نصف المهر.
الحالة الثالثة: امرأة لم يذكر لها مهرًا وتزوجها، فيصح العقد ولكن يجب مهر المثل، فيُبحث عن مثلها من النساء ونوجب لها مهر مثلها.
الحالة الرابعة: لم يفرض لها مهرًا وطلقها قبل الدخول بها؛ فهذه ليس لها مهر، لا المسمى كاملًا ولا نصف المسمى ولا مهر المثل؛ وإنما يجب لها المتعة.
قال: (سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلم يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا وَلم يَدْخُلْ بهَا حَتَّى مَاتَ؟).
هنا ترثه المرأة، ويجب عليها العدَّة، ويجب لها مهر المثل.
فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (لَهَا مِثْلُ صَدَاقِ نِسَائِهَا)، أي: مهر المثل.
قال: (لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ)، أي: لا نقص ولا جور.
قال: (وَعَلَيْهَا العِدَّةُ)، عدَّة الوفاة -أربعة أشهر وعشرة أيام.
قال: (وَلها الْمِيرَاثُ).
فهناك ثلاثة أحوال يثبت بها المهر كاملًا:
- الدخول.
- الخلوة الكاملة.
- الوفاة.
فلو عقد على امرأة ومات؛ فحينئذٍ يجب لها المهر تامًّا.
قال: (فَقَامَ مَعْقِلُ بنُ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيُّ)، هو رجل من العرب.
فَقَالَ: (قَضَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ امْرَأَةً مِنَّا مِثْلَ مَا قَضَيْتَ)، فوافق اجتهاد ابن مسعود الرواية الواردة عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (فَفَرِحَ بهَا ابْنُ مَسْعُودٍ)، فرح بها ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لموافقة اجتهاده لسنة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
بارك الله فيك، وجزاك الله خيرًا، ووفق لكل خير، وجعلنا الله وإياك من الهداة المهتدين، كما نسأله -جلَّ وَعَلَا- أن يصلح أحوال الأمة، وأن يردهم إلى دينه ردًّا حميدًا، وأن يوفق ولاة أمورهم لكل خير، وأن يجزي خادم الحرمين الشريفين وولي عهده كل خير، وأن يجعلهم من أسباب الهدى والتقى والصلاح والسعادة، هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.




https://benaa.islamacademy.net/files/word/1550004695moharer403.docx

Ali Harmal
2019-04-22, 17:54
وفقك الرحمن اخي وجعلة في ميزان حسناتك وجزاك الله خيرا ..

احمد الصادق
2019-04-23, 09:08
[QUOTE=Ali Harmal;3997850244]وفقك الرحمن اخي وجعلة في ميزان حسناتك وجزاك الله خيرا ..[/QUOTE

وإياكم ....شكرا

احمد الصادق
2019-04-23, 09:11
الْمُحَرِّرُ فِي الْحَدِيثِ (4)
الدَّرسُ الرَّابِعُ (4)
معالي د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأَعِزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور/ سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشيخ}.
الله يبارك فيك، أرحب بك، وأرحب بإخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وَعَلَا- أن يرزقنا وإيّاهم علمًا نافعًا، وعملًا صالحًا، ونية خالصة، كما نسأله -جلَّ وَعَلَا- أن يمدنا بعونه بمددٍ منه.
{نبدأ في هذه الحلقة -بإذن الله- من "باب الوليمة" من كتاب "المحرر" لابن عبد الهادي.
قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَابُ الوَلِيمَةِ
عَنْ أَنَسِ بنِ مَالكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى عَلَى عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ أَثَرَ صُفْرَةٍ قَالَ: «مَا هَذَا؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَواةٍ مِنْ ذَهَب، قَالَ: «فَبَاركَ اللهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَو بِشَاةٍ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ)}.
الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
قول المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (بَابُ الوَلِيمَةِ).
الوليمة: ما يُصنَع عند الزَّواج من الأطعمة.
والوليمة سنَّةٌ نبويَّةٌ كريمةٌ، ولكنَّ السُّنَّة ألَّا يحصل فيها إسراف وزيادة عن الحاجة.
وقد أورد المؤلف في هذا الباب حديث أنس بن مالك: (أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى عَلَى عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ أَثَرَ صُفْرَةٍ)، هذه الصُّفرة: نوع من أنواع الطِّيب التي يتطيَّبون بها، وفيه جواز استعمال الطيب، وجواز استعمال الطيب الذي يكون له لونٌ مُؤثِّرٌ على الثياب
فقال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعبد الرحمن: «مَا هَذَا؟»، يعني: ما هذه الصفرة، ولماذا فعلتَ ذلك؟
قَالَ عبد الرحمن بن عوف: (يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً)، فبيَّن له سبب وجود هذا الأثر.
قال: (عَلَى وَزْنِ نَواةٍ مِنْ ذَهَبٍ)، فيه جواز جعل المهر مِن الذهب، وفيه استحباب التَّخفيف في المهور.
فقَالَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَبَاركَ اللهُ لَكَ»، فيه ُّالدُّعاء للمتزوِّج، وأنَّ الأولى أن يُدعَى له بالبركة من الله -جلَّ وَعَلَا.
وفيه أنَّ الأصل في البركة: النَّماء والزِّيادة أن تكون من عند الله -جلَّ وَعَلَا.
فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوْلِمْ وَلَو بِشَاةٍ»، "أَوْلِم" فعل أمر، وفيه مشروعية وضع الوليمة في الزَّواج.
والجمهور: على أنَّ الوليمة مُستحبَّة وليست على الوجوب، وقالوا: إنَّ الأمر هنا جاء بعد النُّصوص الواردة بمنع إسراف الإنسان، وبمنع الإنسان من التَّصرف في مَاله، ولذا جاء فيها: "أولم" ليكون أمرًا بعد النَّهي فلا يدلُّ على الإيجاب.
قوله: «وَلَو بِشَاةٍ»، فيه استحباب أن تكون الوليمة بهذا المقدار.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى وَلِيمَةٍ فَلْيَأْتِهَا». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَلِمُسْلِمٍ: «إِذَا دَعَا أَحَدُكُم أَخَاهُ فَلْيُجِبْ، عُرْسًا كَانَ أَوْ نَحْوَهُ».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ، يُمْنَعُهَا مَنْ يَأْتِيهَا، وَيُدْعَى إِلَيْهَا مَنْ يَأْبَاهَا, وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّعْوَةَ، فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ».
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ، وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَم».
وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُم إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ شَاءَ طَعِمَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ». أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَعَامُ أوَّلِ يَوْمٍ حَقٌّ، وَطَعَامُ الْيَوْمِ الثَّانِي سُنَّةٌ، وَطَعَامُ يَوْمِ الثَّالِثِ سُمْعَةٌ، وَمَنْ سَمَّعَ، سَمَّعَ اللهُ بِهِ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: "لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا منْ حَدِيثِ زِيَادِ بنِ عبدِ اللهِ، وَهُوَ كثيرُ الغَرَائِبِ وَالمناكِيْرِ" كَذَا قَالَ، وزِيَادٌ رَوَى لَهُ البُخَارِيُّ مَقْرُونًا بِغَيْرِهِ وَمُسْلِمٌ)}.
أورد المؤلف عددًا من الأحاديث المتعلقة بإجابة الدَّعوة.
تقدم معنا أنَّ الوليمة: هي ما يوضع من الطَّعام في الزَّواج.
وجمهور أهل العلم على أنَّ إجابة دعوة الوليمة واجبة.
وبعضهم قال: ليست بواجبة؛ لأنَّ الأصل إقامة الوليمة سنَّة، فتكون إجابتها كذلك.
والجمهور يقولون: قد يكون ابتداء الشيء مُستحبًّا ويكون نهايته على الوجوب، مثلًا: إلقاء السلام مُستحب، وردُّه واجبٌ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى وَلِيمَةٍ فَلْيَأْتِهَا»، فعل مضارع مسبوق بلام الأمر، فالأصل أن يكون مُفيدًا للوجوب.
قال: (وَلِمُسْلِمٍ: «إِذَا دَعَا أَحَدُكُم أَخَاهُ فَلْيُجِبْ، عُرْسًا كَانَ أَوْ نَحْوَهُ»)، وظاهر هذا إيجاب استجابة الدَّعوة لأي مُناسبةٍ فيها طعام، والجمهور يخصون الوجوب بإجابة دعوة وليمة الزواج.
ثم روى من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهذا الحديث صحيح الإسناد، وأخرجه الإمام مسلم، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ، يُمْنَعُهَا مَنْ يَأْتِيهَا»، يعني إذا جاء لها أفراد الناس منعوهم.
قال: «وَيُدْعَى إِلَيْهَا مَنْ يَأْبَاهَا»، أي: يمتنع من الحضور إليها.
قال: «وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّعْوَةَ، فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ»، هذا هو الشَّاهد، وفيه دلالة على وجوب إجابة الدعوة؛ لأنَّ من لم يُجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله.
وكذلك ورد عن أبي هريرة أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ»، ظاهر اللفظ الإطلاق، أي: دعوة، ولكن جاءنا في الحديث الثَّاني تقييده بدعوة الزواج، ولذا رأى كثير من أهل العلم أنَّ المطلق هنا يُقيَّد بما في الخبر الآخر.
قال: «فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ»، قيل: إنَّ المراد بهذا الدُّعاء، أي: يدعو لهم؛ لأنَّ الصلاة في اللغة هي الدعاء.
قال: «وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَم»، أي: ليأكل.
وهذا الحديث أيضًا في صحيح الإمام مسلم.
وجاء أيضًا في صحيح مسلم من حديث جابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُم إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ شَاءَ طَعِمَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ».
قوله: «فليُجِبْ»، ظاهره وجوب إجابة الدَّعوة، وإجابة الدَّعوة تكون بالحضور ولو لم يحصل هناك أكل.
وجوب إجابة الدعوة لها شروط:
الشَّرطُ الأول: أَلَّا يكون هناك مُنكر، فإذا كان فيه مُنكر فلا يجوز الذهاب إليه إلا إذا كان سيُنكره.
الشَّرطُ الثاني: أن تكون الدعوة مُوجَّهةً إلى الشخص بخصوصه، أمَّا دعوة الجَفَلَى والنَّاس بالعموم كأن يقوم في المسجد ويقول: أنتم مَدعوُّن لوليمة؛ فحينئذٍ نقول: لا يجب إجابة هذه الدَّعوة.
الشَّرطُ الثَّالِثُ: أن تكون الدَّعوة لأول يومٍ، أمَّا الدعوات الأخرى فهذه ليس بواجبٍ إجابتُهَا لحديث ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «طَعَامُ أوَّلِ يَوْمٍ حَقٌّ»، يعني: أول يومٍ في دعوات الزَّواج، وبالتالي تلزم إجابته.
قال: «وَطَعَامُ الْيَوْمِ الثَّانِي سُنَّةٌ»، أي: طريقة متَّبعة لا إشكال فيها، وبالتَّالي يُستحب إجابة الدَّعوة حينئذٍ.
قوله: «وَطَعَامُ يَوْمِ الثَّالِثِ سُمْعَةٌ»، أي: تفاخرًا، وبالتَّالي لا يُجاب له، ولذا قال: «وَمَنْ سَمَّعَ، سَمَّعَ اللهُ بِهِ».
هناك اختلاف في الحديث هذا من جهةِ صحَّةِ الحديث، والجماهير على أنَّ هذا الحديث ضعيف، قالوا: إنَّ من رواة هذا الخبر زياد بن عبد الله البكائي، ولأهل العلم كلام في زيد، كذلك هو قد رواه عن عطاء بن السَّائب، عطاء اختلط آخر عمره، وزياد روى عنه بعد اختلاطه، ولذلك تكلموا في هذا الخبر.
هل المراد أن تكون الدعوة لنفس الأشخاص في الأيام المختلفة أو لا؟
مثلًا: في وليمة الزَّواج قد يجعل الإنسان ثلاث أو أربع ولائم، إحداها لقرابته، والثَّانية لجيرانه في يومٍ آخر، والثَّالثة لزملائه في العمل، والرَّابع لمن صاحبهم أو كانت بينه وبينهم أي علاقة؛ فليست لنفس الأشخاص؛ فاختلف العلماء حينئذٍ، هل كل واحدة لها حكمٌ مختص، وبالتَّالي كأنَّ كل واحدة من الولائم لليوم الأول؟ أو نقول: إنها متعلقة بزواجٍ واحد، وبالتَّالي فيُحكَم عليها بما في هذا الخبر؟
الجماهير يُرجِّحون الثاني؛ لأنَّ مقصود الشَّارع ألا يكون هناك إسراف، وألَّا يكون هُناك سُمعة ورغبة في الرياء.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (بَابُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ وَمَا يُبَاحُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ وَمَا يُتَزَيَّنُ بِهِ وَذِكْرِ الْقَسْمِ وَالنُّشُوزِ.
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤمنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيْمَهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، لَنْ تَسْتَقِيْمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ، فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا، إِسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ، وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيْمُها كَسَرْتَهَا، وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا»)}.
قول المؤلف: (بَابُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ)، أي: ما هي الأخلاق والأحكام والآداب المتعلقة بحق الزَّوجة على زوجها.
قوله: (وَمَا يُبَاحُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ)، أي: ما هو المقدار سواء في وقت الطُّهر أو وقت الحيض.
قوله: (وَمَا يُتَزَيَّنُ بِهِ)، أي: ما هي حدود الزينة المباحة.
قوله: (وَذِكْرِ الْقَسْمِ)، أي: عندما يكون عند الرجل أكثر من زوجة، فكيف يقسم بين زوجاته.
قوله: (وَالنُّشُوزِ)، يعني: ترك المرأة لبيت الزوجية بدون إذن الزَّوج. وأصل النُّشوز: عصيان المرأة لزوجها.
أورد المؤلف في هذا الباب حديث أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤمنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ».
الإيمان بالله يُحرِّك العبد إلى طاعته؛ لأنه يُؤمن بقوَّته وبقدرته وباطلاعه -سبحانه وتعالى- وبالتالي يكون خائفًا وجلًا من الله، راجيًا لفضله.
وأمَّا الإيمان باليوم الآخر فهو أيضًا مُهم؛ لأنه يدفع النَّاس لإيفاء الحقوق لأصحابها، وإعطاء كل ذي حق حقه.
فقال: «فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ»، فيه حق الجار وعظم منزلته.
قال: «وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا»، طلب منهم أن يطلبوا الوصية من غيرهم بالنساء، بحيث يقومون بحقوقهنَّ، وفيه بيان حق المرأة على الزوج.
ثم قال: «فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ»، الضِّلَع: عظام الصدر، وذلك أنَّ هذه العظام مائلة إلى منتهاها وأصلها، فإنها في الأصل تميل ميلانًا كبيرًا، وبالتالي يقول: إنَّ المرأة خُلقت من هذه العظام من آدم -عليه السلام- وبالتالي لابد أن تراعي ما فيها من إعوجاج.
قال: «وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ»، المراد بأعلاه: ما يكون مُرتبطًا بالعمود الفقري.
قال: «فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيْمَهُ»، أي: إذا أردتَّ أن تصلبه وتجعله على استقامة «كَسَرْتَهُ»؛ لأنه ما يُمكن أن يستقيم.
قال: «وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ»، فهكذا النِّساء، إن استمعت بها وتمكَّنت من حسنِ عشرةٍ معها على ما هي عليه؛ فحينئذٍ ستستمتع بها، وأمَّا إن أردتَّ أن تكون معك مائة بالمائة، وأن تقوم بما تطلبه مائة بالمائة؛ فحينئذٍ لن تستقيم الحياة بينكما.
قال في لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، لَنْ تَسْتَقِيْمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ، فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا، إِسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ، وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيْمُها كَسَرْتَهَا، وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا».
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي غَزَاةٍ، فَلَمَّا قَدِمْنَا المدِينَةَ، ذَهَبْنَا لنَدْخُلَ، فَقَالَ: «أَمْهِلُوا حَتَّى نَدْخُلَ لَيْلًا -أَيْ عِشَاءً؛ كَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ، وَتَسْتَحِدَّ المُغِيْبَةُ». مُتَّفق عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ، وَلِلْبُخَارِيِّ: «إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمُ الغَيْبَةَ، فَلَا يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلًا»)}.
قول جابر هنا: (كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي غَزَاةٍ)، فيه ذهاب الناس مع إمامهم.
قال: (فَلَمَّا قَدِمْنَا المدِينَةَ)، يعني: رجعنا.
قال: (ذَهَبْنَا لنَدْخُلَ)، يعني: ندخل المدينة ونذهب إلى بيوتنا وعند زوجاتنا.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمْهِلُوا حَتَّى نَدْخُلَ لَيْلًا»، أي: لا تستعجلوا في الدُّخول، فهم قدموا في النَّهار، فأراد أن يكون هناك وقت بحيث يعلم النَّاس بقدومهم، وبالتَّالي يستعدون لهذا القدوم، فقال نبقى حتى الليل -أي عشاءً.
قال: «كَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ»، الشعثة: التي في شعرها شعثٌ وعدم استقامة، فتقوم بتسريح الشَّعر.
قال: «وَتَسْتَحِدَّ المُغِيْبَةُ»، تستحدّ: أي: تحلق الشَّعر الزَّائد الذي لا يُراد من شعر عانةٍ ونحوه.
وقوله «المغيبة»؛ لأنَّ المرأة إذا غَابَ زَوجُها فإنها قد تترك هذه الأمور لعدم وجود الزَّوج.
وفي الحديث ترغيب النِّساء أن تستعد الواحدة منهنَّ لزوجها، وأن تُهيِّئ نفسها لزوجها بالتَّجمُّل كما تُهيِّئُه بالتحبُّبِ في أخلاقها.
قوله في الحديث الآخر للبخاري: «إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمُ الغَيْبَةَ»، أي: الأسفار ونحوه.
قال: «فَلَا يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلًا»، أي: لا يدخل عليهم في الليل، حتى لا يدخل عليهم وهم غير مُستعدين له، فقد يرى مِن المرأة شيئًا لا يتناسب مع الحال الكاملة، وبالتَّالي يُؤدي إلى النُّفرةِ منها.
وَفَهِمَ بعض النَّاس أن هذا يكون عند النِّساء شيءٌ من الأخلاق غير المرغوب فيها؛ وهذا فهمٌ خاطئ!
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبِي سَعِيْدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلُ يُفْضِي إِلَى الْمَرْأَةِ، وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ)}.
قوله هنا: «إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، فيه تفاوت الناس في منازلهم في ذلك اليوم، وفيه أنَّ الإنسان ينبغي به أن يجعل الآخرة بين عينيه قبل أن يُقدم على أي فعلٍ.
قوله: «الرَّجُلُ يُفْضِي إِلَى الْمَرْأَةِ»، أي: يصل إلى خصائصها، سواء بالجماع أو بغيره.
قوله: «وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا»، يعني: يجد عندها أشياءً داخليَّة خاصَّة لا يُطَّلع عليها فيقوم بنشر هذا السِّر، وفي هذا وجوب ستر الأسرار وتحريم إذاعتها، وفيه أيضًا أنَّ كلًّا من الرجل والمرأة ينبغي لهما ألا يُظهر كل منهما عيوبَ صاحبه، فلا يجوز للرجل أن يُظهر عيوب امراته، ولا يجوز للمرأة أن تُظهر عيوب زوجها حتى ولو حصل بينهما خصومةٍ أو نزاعٍ، أو حتى ولو كان بينهما طلاق؛ وإنما يذكر الإنسان منها الخير، وتذكر منه الخير، قال تعالى: ï´؟وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًاï´¾ [النساء: 130].
وهكذا ينبغي أن يكون شأن أهل الإسلام فيما بينهم، يحفظ كل منهم مكانة الآخر، حتى ولو رأى منهم أشياء غير محمودة فلا ينقلها ولا يتكلم بها، وإنما يكتفي بذكر الأشياء الحَسنة والأمور الفاضلة.
{قال: (وَعَنْ حَكِيْمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِيْهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا حَقُّ زَوْجِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: «تُطْعِمُهَا إِذَا أَكَلْتَ، وَتَكْسُوهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، وَلَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ وَلَا تُقَبِّح، وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ». رَوَاهُ أَحْمدُ -وَهَذَا لَفْظُهُ- وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَه)}.
الأصل في لفظة "الزوج" أن تطلق على الرجل والمرأة، ولذلك عند ذكر حواء في الآيات القرآنية يقول: ï´؟وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَï´¾ [البقرة: 35].
قال مُعَاوِيَةَ: (يَا رَسُولَ اللهِ مَا حَقُّ زَوْجِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟)، يعني: ما حق المرأة التي تزوَّج عليها أحدنا.
فقَالَ: «تُطْعِمُهَا إِذَا أَكَلْتَ»، وفي هذا وجوب النَّفقة في الطَّعام بشرط أن يكون قادرًا.
قال: (وَتَكْسُوهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ)، فيه وجوب الكسوة.
وفيه إشارة إلى أنَّ الكسوة بحسب أعراف النَّاس، وبحسب قدرتهم، وقد استدل بعض العلماء على أنَّ النَّفقة تكون على مِقدار قُدرة الزَّوجِ، وهذا أحد أقوال أهل العلم.
والصواب: أنه لابدَّ من مُراعاة حال الزَّوج وحال الزَّوجة، وسيأتي -إن شاء الله- تفصيله في باب النَّفقات.
قال: «وَلَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ»، فيه المنع من ضرب الوجه، وذلك أنَّ الوجه مجامع الحسُن، وتظهر فيه آثار الضرب، وأدنى شيء يُؤثر عليه، ولذلك أكَّدَ على المنع من ضربه.
قال: «وَلَا تُقَبِّح»، أي: لا تصفها بالقبح، ولا تدعو عليها بالقُبح، فلا يقول: قبح الله وجهكِ ونحو ذلك.
قال: «وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ»، أي: لا تفارق المرأة إلا في البيت، والمراد بالبيت: المضطجع الذي ينامون فيه، وبالتالي لا يتحول الزوج عنها ولا تتحول هي عنه.
{قال: (وَعَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ جُدَامَةَ بِنْتِ وَهْبٍ، قَالَتْ: حَضَرْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أُنَاسٍ، وَهُوَ يَقُولُ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الغِيْلَةِ، فَنَظَرْتُ فِي الرُّومِ وَفَارِسٍ فَإِذَا هُمْ يُغِيْلُونَ أَوْلَادَهُمْ، فَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ ذَلِكَ شَيْئًا» ثمَّ سَأَلُوهُ عَنِ الْعَزْلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَلِكَ الوَأْدُ الْخَفِيُّ، وَهُوَ: ï´؟وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْï´¾ [التكوير: 8]». رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَجُدَامَةَ بِمُهْمَلَةٍ عَلَى الْأَصَحِّ)}.
قوله هنا (بَابُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ)، أي: ما هي الطريقة المناسبة في التعامل مع النِّساء؟ وما هو الواجب الشَّرعي في هذا الباب؟ ويدخل فيه معاملتهم في الفِراش وغيره.
قوله: (عَنْ جُدَامَةَ)، بعضهم روى (جُذامَةَ)، وقد أشار المؤلف إلى أنَّ الصَّواب أنها بالمهملة يعني: أنَّ الدال ليس عليها نقط.
قالت: (حَضَرْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أُنَاسٍ)، يعني: مجموعة من الخلق.
وَهُوَ يَقُولُ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الغِيْلَةِ»، الغيلة: أن يُجامع الرجل زوجته وهي في وقت الرَّضاع، فكانوا يعتقدون أنَّ المرأة إذا أتت بولدٍ ثم أتت بولد بعده في وقت إرضاعها للولد الأول فيؤثر هذا على المرأة، ويؤثر على الجنين الذي سيأتي، لكن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الغِيْلَةِ، فَنَظَرْتُ فِي الرُّومِ وَفَارِسٍ فَإِذَا هُمْ يُغِيْلُونَ أَوْلَادَهُمْ»، أي: يُجامعون زوجاتهم في وقت الرَّضاع فيحملن في ذلك الوقت.
قال: «فَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ ذَلِكَ شَيْئًا»، أي: يأتون بهم أصحاء على حالٍ جميلة.
وفي هذا دلالة على جواز جماع المرضع، وعلى جواز أن تحمل المرضع، وعلى جواز الانتفاع بما لدى الأمم الأخرى، وفيه أنَّ بناء أمور الحياة على التجارب وتكرار الأمور ونحوها.
قالت: (ثمَّ سَأَلُوهُ عَنِ الْعَزْلِ)، العزل: أن ينزع الرجل ذكره عن المرأة عند قرب الإنزال، من أجل أَلَّا يُنزل في فرجها رغبةً في عدم وجود الولد منها.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَلِكَ الوَأْدُ الْخَفِيُّ»؛ لأنه بمثابة قتل الأولاد.
قال: (وَهُوَ: ï´؟وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْï´¾ [التكوير: 8])، أي: تُسأل يوم القيامة.
وظاهر هذا أنَّه منعٌ عن العزل، وقد جاء في حديثٍ آخرٍ أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا سُئِل عَن العَزل قال: «لو أراد أن يخلق الله منه شيئًا خلقه»، وفي لفظٍ: «ما استطعت أن تضره».
وجاء في الحديث الآخر عن جابر: (كنَّا نعزل والقُرآنُ يَنزل، فلا نُنْهَى عن ذلك).
ولذلك رأى الجماهير أنَّ العَزل ليس مَنهيًّا عنه، خُصوصًا إذا كان هناك حاجة، ومثل هذا ما قد يحدث في أزمنتنا من أشياء تقوم بمنع وصولِ ماء الزوج إلى زوجته.
{قال المؤلف: (عَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ, إِنَّ لي جَارِيَةً، وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا، وَأَنا أَكْرَهُ أَنْ تَحمِلَ، وَأَنا أُرِيدُ مَا يُرِيدُ الرِّجَالُ، وَإِنَّ الْيَهُودَ تُحَدِّثُ أَنَّ الْعَزْلَ مَوْؤُدَةُ الصُّغْرَى، قَالَ: «كَذَبَتْ يَهُودُ, لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَهُ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَهُ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالنَّسَائِيُّ, وَفِي إِسْنَادِه اخْتِلَافٌ)}.
هذا الحديث من رواية أبي مطيع بن رفاعة، وأبو مطيع هذا مجهول، قال عنه الذهبي: "لا يُعرَف"، ولذلك ضعفه كثير من أهل العلم.
وهناك مَن رواه عن أبي رفاعةَ عن أبي سعيد، والذي يظهر أنَّ أبا رفاعة هو أبو مطيع الذي ذكرناه، لأنه من بني رفاعة بن الحارث.
وفي بعض الألفاظ قال: (عنْ رِفاعة)، وفي بعض الألفاظ ورد عن ابن ثوبان عن جابر، ولكن هذه الروايات لا يصح أن نقابل بها الروايات الأولى، ولذلك تكلَّم أهل العلم في هذا الخبر.
قوله: (يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لي جَارِيَةً، وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا)، أي: لا أنزل في فرجها عند الجماع.
قال: (وَأَنا أَكْرَهُ أَنْ تَحمِلَ، وَأَنا أُرِيدُ مَا يُرِيدُ الرِّجَالُ)، أي: من الجماع. قال: (وَإِنَّ الْيَهُودَ تُحَدِّثُ أَنَّ الْعَزْلَ مَوْؤُدَةُ الصُّغْرَى، قَالَ: «كَذَبَتْ يَهُودُ، لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَهُ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَهُ»).
{قال: (وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالقُرْآنُ يَنْزِلُ. مُتَّفَقٌ عَلِيْهِ، ولمسلمٍ : كُنَّا نَعْزِلُ على عَهْدِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَبلغَ ذَلِك نَبِيَّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلمْ يَنْهَنَا)}.
هذا الحديث من أدلة مَن يُجيز العزل، ويرى أنه ليس بممنوع منه، وهذا من أنواع السُّنَّة الإقراريَّة، فأقرَّهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يُنكر عليهم.
وبعض أهل العلم يقول: هذا من إقرار الله للناس في زمن النُّبوَّة لقوله: (وَالقُرْآنُ يَنْزِلُ).
وبعضهم يقول: بل هو إقرار صريح لقوله في اللفظ الآخر: (فَبلغَ ذَلِك نَبِيَّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلمْ يَنْهَنَا).
{قال: (وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: إِذا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا كَانَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ، فَنزلتْ: ï´؟نِسَائُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوْا حَرْثكُمْ أَنَّى شِئْتُمْï´¾ [البقرة:223]، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ، وَلَهُ : إِنْ شَاءَ مُجَبِّيَةً، وَإِنْ شَاءَ غَيْرَ مُجَبِّيَةٍ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنْظُرُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا». رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَحَسَّنَهُ- وَأَبُو يَعْلى وَأَبُو حَاتِمٍ البُسْتِيُّ، وَقَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا)}.
قوله: (وَعَنْهُ)، يعني: عن جابر.
قَالَ: (كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: إِذا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا كَانَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ)، هذا جماع في القُبُل، ولكنه يأتيه من طرف الدبر، وكانت اليهود تنهى عن ذلك، وترى أنه من أسباب وجود الحَوَل عند الولد.
قال: (فَنزلتْ: ï´؟نِسَائُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوْا حَرْثكُمْ أَنَّى شِئْتُمْï´¾ [البقرة:223])، يعني: إن أراد مُقبلة أو أراد مُدبرة، بشرط أن يكون في صمَّامٍ واحدٍ، وهو الفرجُ والقُبُل.
قال: (وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ، وَلَهُ: إِنْ شَاءَ مُجَبِّيَةً)، يعني: مُنكبَّة على وَجهها.
قال: (وَإِنْ شَاءَ غَيْرَ مُجَبِّيَةٍ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ)، المراد به: القُبُل.
ثم أورد المؤلف من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- حديثًا قد وقع الاختلاف فيه، فرواه بعضهم مرفوعًا للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بينما رواه آخرون مَوقوفًا على ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما.
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنْظُرُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ»، يعني: نظر تقديرٍ ونظرَ خيرٍ ورحمةٍ.
قال: «إِلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا»، في هذا تحريم وطء المرأة في دبرها، والتَّشديد في مثل ذلك.
{قال: (وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِي أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا»)}.
هذا الحديث متفقٌ عليه.
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِي أَهْلَهُ»، يعني: يُجامع زوجته.
قال: «قَالَ: بِسْمِ اللهِ»، أي: أتوكَّلُ عليه وأعتمدُ عليه.
قوله: «اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ»، أي: أبعد عدونا الشَّيطان عنَّا.
قوله: «وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا»، أي: أبعد الشَّيطان عن ما رزقتنا من الأولاد.
قوله: «فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا»، ليس معنى هذا أنَّه لا يوسوس الشيطان له، أو أنَّه لا يستجيب للشَّيطان، لكن لن يضره ضررًا مستمرًا، قد يستجيب للشيطان ولكن يُوفَّق للتوبة بعدَ ذلك.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا تَزَوَّجْتُ قَالَ لي رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَّخَذْتَ أَنْمَاطًا؟» قُلْتُ: وأنَّى لَنا أَنْـمَاطٌ؟ قَالَ: «أَمَا إِنَّهَا سَتَكُونُ»، قَالَ جَابِرٌ: وَعِنْدَ امْرَأَتِي نَـمَطٌ، فَأَنَا أَقُولُ: نَـحِّيْهِ عَنِّـي, وَتَقُولُ: قَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «إِنَّهَا سَتَكُونُ»، وَفِي لفظٍ: «فَأَدَعُهَا». مُتَّفقٌ عَلَيْهِمَا، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ)}.
جابر بن عبد الله تزوَّج بعدَ يومِ أُحد لَمَّا مات أبوه عبد الله، وكان عنده عدد من الأخوات، فتزوج بامرأة من أجل أن تقوم بأخواته.
فقال له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَّخَذْتَ أَنْمَاطًا؟»، الأنماط: بُسُط أو نمارق.
قال: (قُلْتُ: وأنَّى لَنا أَنْـمَاطٌ؟)، أي: من أين نأتي بأنماطٍ ونحن على فقرنا!
قَالَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّهَا سَتَكُونُ»، أي: ستكون لديك أنماط.
قَالَ جَابِرٌ: (وَعِنْدَ امْرَأَتِي نَـمَطٌ)، يعني: الآن اتَّخذنا أنماطًا.
قوله: (فَأَنَا أَقُولُ: نَـحِّيْهِ عَنِّـي)، أي: أنا لستُ مُعتادًا عليه، فأبعديه عنَّا في ذهابي وإيابي.
فتَقُولُ الزوجة: (قَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «إِنَّهَا سَتَكُونُ»)، أي: هذا إقرار مِنَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهذه الأنماط.
قوله: (وَفِي لفظٍ: «فَأَدَعُهَا»)، أي: أتركها من أجل ترك جابر لها.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وعَنِ ابنِ عُمرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَعَنَ الوَاصِلةَ وَالـمُسْتَوصِلَةَ والواشِمةَ والـمُسْتَوشِمَةَ. مُتَّفَقٌ عَليهِ)}.
قوله: (لَعَنَ)، يعني: أبعد الله عن رحمته، وهذا دليل على أنَّ هذه الأفعال من الكبائر.
قال: (لَعَنَ الوَاصِلةَ)، الواصلة: هي التي تقوم بإتيان شعر وتقوم بربطه بشعرها، لما في ذلك من الغش والتَّدليس، ويُمكن أن يكون له آثاره.
قال: (وَالـمُسْتَوصِلَةَ)، هي التي تطلب أن يُوصَل الشَّعر.
قوله: (والواشِمةَ)، هي مَن تأتي بإبرةٍ وتقوم بغرزها في الجلد من أجلِ أن يسودَّ المكان، فيكون هناك وشمٌ، ومرَّات قد يُشكِّلونَ منه أشكالًا ونحو ذلك، وقد يضعون فيه كحلٌ أو نيل؛ فيكون لونه أسود أو أزرق أو أخضر.
قوله: (والـمُسْتَوشِمَةَ)، هي التي تطلب ذلك.
ففي الحديث: تحريم الوصل والوشم، وأنَّ ذلك من الكبائر، وأنه يُمنَع منه الرِّجال والنِّساء.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْسِمُ فيَعْدِلُ وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ» يَعْنِي الْقَلْبَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَه، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ, لَكِنْ قَدْ رُوِيَ مُرْسَلًا، وَهُوَ أَصَحُّ، قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ)}.
هذا الحديث اختلف الرُّواة فيه، فبعضهم لم يذكر فيه الصَّحابي، وبعضهم ذكر فيه اسم الصحابي؛ فيكون حينئذٍ قد اختُلف في وصله وإرساله.
والأصوب أنه مُرسل، وليس ثابتًا عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبالتَّالي فصواب الرواية أنه من حديث أبي أيوب عن أبي قلابة مرسلًا.
قوله هنا: (كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْسِمُ)، يعني: بين زوجاته، وفيه مشروعيَّة القسم بين الزَّوجات، ووجوب العدل في ذلك.
قوله: (فيَعْدِلُ)، أي: في القسم.
ويقول: «اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ»، أي: في توزيع نوبات النَّهار فيما بينهنَّ.
قوله: «فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ» يَعْنِي الْقَلْبَ وما فيه، وفيه دلالة على أنَّ ما يكون في القلوب لا يؤاخَذ به العبد، وأنَّه لا يلزم الزوج أن يعدل بين زوجاته في المحبَّة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ النَّضْرِ بنِ أَنَسٍ، عَنْ بَشيرِ بنِ نَهيكٍ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهِ مَائِلٌ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفْظُهُ- وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَسْنَدَ هَذَا الحَدِيثَ همَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ، وَرَوَاهُ هِشَامٌ الدَّسْتوَائيُّ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ يُقَالُ)}.
قوله: (قَالَ: كَانَ يُقَالُ)، أي: لم ينسبه للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذن أشار المؤلف إلى الاختلاف في الحديث، فبعضهم يقول إنَّه صحيح الإسناد، وكل رجاله ثقات.
وبعضهم يقول: فيه خطأ، والصَّواب أنَّه من أخبار بني إسرائيل، فقتادة كان يقول فيه: (كَانَ يُقَالُ).
قوله: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ»، يعني: زوجتان.
قوله: «فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا»، أي: فيما يجب التَّسوية فيه بينهما.
قوله: «جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهِ مَائِلٌ»، لكونه لم يعدل بين هؤلاء النِّساء، مع أنَّ العدلَ بينهم واجب.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: مِنَ السُّنَّةِ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَقَسَمَ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ [عَلَى الْبِكْرِ]، أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا، ثُمُّ قَسَمَ، قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: وَلَو شِئْتُ لَقُلْتُ: إِنَّ أَنَسًا رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ)}.
إذا قال الصحابي (مِنَ السُّنَّةِ)، فيُنسَبُ الحديث للنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والمراد بها: الطريقة التي سار عليها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَقَسَمَ)، أي: أقام عند البكر سبعة أيَّام، ثم بعد ذلك يقسم على الزوجات، سواء جعل لكل زوجةٍ ليلة ليلة، أو جعل لكل زوجة ليلتنا متتاليتان.
بينما إذا تزوج الثيب قعد عندها ثلاثة أيام، ثم بعد ذلك يقسمُ بين زوجاته.
{قال: (وَعَنْ أبي بَكرِ بنِ عَبدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا تَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا، وَقَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِكَ عَلَى أَهْلِكَ هَوَانٌ، إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ، وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكَ سَبَّعْتُ لِنِسَائِي». رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
لَمَّا تزوج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أم سلمة كانت ثيِّبًا، فأقام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عندها ثلاثة أيَّام، ثم قال: «إِنَّهُ لَيْسَ بِكَ عَلَى أَهْلِكَ هَوَانٌ»، أي: نقصان منزلة.
قال: «إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ، وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكَ سَبَّعْتُ لِنِسَائِي»، في هذا تخيير الزوج لزوجته عنده زواجه بثيِّبٍ أن يجلس عندها ثلاثة أيَّام ثمَّ يدور، أو يُسبِّع لها كالبكر، ولكن يلزم من ذلك أن يُسبِّع عند غيرها.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لعَائِشَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْسِمُ لعَائِشَةَ يَوْمَهَا وَيَوْمَ سَوْدَةَ)}.
في هذا الحديث:
ïƒک جواز أن تهب الزَّوجة ليلتها لزوجها ليجعلها عند مَن شاء من النِّساء.
ïƒک وفيه جواز أن تهب المرأة ليلتها لزوجة أخرى بعينها، كأن يكون عنده أربع نسوة؛ فتقول الكبيرة: أنا ما عندي قدرة على القيام بحقك، وأَهب يوم للزَّوجة الثَّانية فلانة؛ فحينئذٍ يجوز له أن يختار ذلك، ويجوز له أن يمتنع من الذَّهاب إلى الزَّوجة الأخرى ويقول لها: يلزمكِ أن تقومي بحقي.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يسْأَلُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: «أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ أَيْنَ أَنَا غَدًا؟» يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ، فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ، فَكَانَ فِي بَيتِ عَائِشَةَ حَتَّى مَاتَ عِنْدَهَا, قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَاتَ فِي اليَوْمِ الَّذِي يَدُورُ عَلَيَّ فِيهِ فِي بَيْتِي، فَقَبَضَهُ اللهُ، وَإِنَّ رَأْسَهُ لَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وخَالَطَ رِيقُهُ رِيقِي. مُتَّفقٌ عَلَيْهِمَا، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ.
وَعَنْ عُرْوَةَ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: يَا ابْنَ أُخْتِي, كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يُفَضِّلُ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْقَسْمِ مِنْ مُكْثِهِ عِندَنَا، وَكَانَ قَلَّ يَوْمٌ إِلَّا وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيْعًا فَيَدْنُو مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ غَيرِ مَسِيسٍ حَتَّى يَبْلُغَ الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا، فَيَبِيْتُ عِنْدهَا. رَوَاهُ أَحْمدُ، وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ- وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ أَنْ تَجِيءَ لَعَنَتْها الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ، وَلمسْلمٍ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأَتَهُ إِلَى فِراشِهَا فَتَأْبَى عَلَيْهِ إِلَّا كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا، حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا»)}.
في هذه الأحاديث:
ïƒک طريقة ترتيب الليالي بين الزَّوجات.
ïƒک وفيه أيضًا أنه يجوز للزوج أن يسأل زوجاته أن يُسقطنَ حقَّهنَّ في المبيت لحاجته، فإذا أسقطنَه سقطَ.
ïƒک وفيه أن الرجل يجوز له حال المرض أن يبقى عند إحدى نسائه بعد أخذ إذن بقيَّة النساء.
ïƒک وفيه فضل عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها.
ïƒک وفيه أنَّه يجوز للإنسان أن يمرَّ على جميع نسائه في كل يوم، ولكن لا يحق له أن يمرَّ على نسائه في ليلة فلانة، ولا يمر عليهن في ليلة الأخرى.
ïƒک وفيه وجوب أن تستجيب المرأة لطلب زوجها إذا دعاها إلى الفراش، وأنَّه لا يجوز لها أن تمتنع، وأنَّ الامتناع مِن كبائر الذنوب.
فهذا شيء من الأحكام المتعلقة بهذه الأحاديث، بارك الله فيك، ووفقك الله لكل خير، ووفق إخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وَعَلَا- للجميع هدايةً وصلاحًا، واستقامةً ورفعةَ شأنٍ، وعزًّا وعلوَّ درجةٍ، كما أسأله -جلَّ وَعَلَا- أن يُسبغ علينا جميعًا النِّعَم، وأن يوالي علينا الخيرات، وأن يُوفِّقَ ولاة أمورنا لكلِّ خيرٍ، وأن يجعلهم من الهداة المهتدين.
هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

احمد الصادق
2019-04-24, 08:17
الْمُحَرِّرُ فِي الحَدِيثِ (4)
الدَّرسُ الخَامِسُ (5)
معالي الشيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور/ سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
الله يبارك فيك، حيَّاكَ الله، وحيَّا الله إخواني المشاهدين، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من باب "الخلع والتخيير والتمليك" من كتاب "المحرر" لابن عبد الهادي من "بَابُ الخُلْعِ وَالتَّخْييرِ وَالتَّمْلِيكِ".
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: أَنَّ امْرَأَةَ ثَابتِ بنِ قيسٍ أَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، ثَابتُ بنُ قَيْسٍ مَا أَعْتُبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِيْنٍ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الكُفْرَ فِي الإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَرُدِّيْنَ عَلَيْهِ حَدِيْقَتَهُ؟» قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْبَلِ الحَدِيقَةَ، وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً». رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَنْهُ: أَنَّ امْرَأَةَ ثَابتِ بنِ قَيسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِدَّتهَا حَيْضَةً. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد -وَقَالَ: رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مُرْسَلًا- وَالتِّرْمِذِيُّ -وَحَسَّنَهُ- وَالْحَاكِمُ -وَقَالَ: هَذا حَدِيْثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ)}.
الحمدُ لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضلِ الأنبياء والمرسلين، أمَّا بعدُ:
فإنَّ الخُلع فُرقةٌ من فرق النِّكاح، فإنَّ النِّكاح تحصل الفرقة فيه بعددٍ مِنَ الأسباب، منها:
ïƒک الخُلع، الذي هو فُرقةٌ بعوضٍ تدفعه المرأة أو يُدفَعُ لها
ïƒک الفَسخ: ويكون من قِبَلِ القَضَاء بطلبٍ من المرأة بوجودٍ عيبٍ في الرَّجل.
فالخلع لا يُشتَرط فيه أن يكون هناك عيبٌ في الرَّجل، وتدفع فيه المرأة عوضًا، بينما الفسخ يكون لسببٍ، ويكون مِنْ قِبَل القَضَاء، ولا يكون فيه عِوض.
ïƒک اللعان: فمتى تلاعن الزَّوجان حصلت بينهما فُرقَة أبديَّة.
ïƒک الطَّلاق: إذ يكون من قِبَلِ الزَّوجِ.
ïƒک الموت.
أمَّا التَّخيير: فهو أن يُخيِّر الرَّجلُ زوجته في نفسها، فيقول: إن أردتِّ الطلاق فاختاريه، فهل هذا يُعدُّ في نفسه طلاقًا وفُرقةً؟ أو لا يُعدُّ حتى تختار هي نفسها؟
وأمَّا التَّمليك: أن يُملِّك الزَّوج زوجته أمرها، فيقول: أمركِ بيدكِ؛ فهل يُعدُّ تطليقًا؟ وماذا تملك منه المرأة؟ هل تملك به طلقة واحدة أو ثلاثَ طلقات -على ما سيأتي بيانه من الأحكام.
أورد المؤلِّف في هذا حديث ابن عباس الذي أخرجه الشَّيخان: (أَنَّ امْرَأَةَ ثَابتِ بنِ قيسٍ)، جميلة بنت عبد الله.
قال: (أَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وذلك أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو الذي يتولَّى أَمْرَ القضاء في زمانه، فأتت إليه تطلب القضاء في قضيتها.
قوله: (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، ثَابتُ بنُ قَيْسٍ)، وهو زوجها.
قالت: (مَا أَعْتُبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِيْنٍ)، أي: ليس لي عليه ملحوظة، أو سبب يجعلني أستنقصه سواء في خُلقه وتعامله، أو في دينه.
قالت: (وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الكُفْرَ فِي الإِسْلَامِ)، ليس المراد بالكفر هنا الخروج من دين الإسلام، وإنما المراد به كُفر العشير بجحدِ الزَّوج وعدم القيام بواجبه.
وقد ورد في بعض الرِّوايات أنَّها رأت ثابت بن قيس دميمًا بينَ وسيمين، وقصيرًا بينَ طوالًا، فزهَّدها ذلك فيه.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَرُدِّيْنَ عَلَيْهِ حَدِيْقَتَهُ؟»، الحديقة: البستان، ويُراد بها المهر الذي دفعه إليها.
وهذا يدل على أنَّ الخلع يُردُّ به المهر، فإن اتَّفقا على المهر السَّابق فلا إشكال في ذلك، وإن اتّفقا على أقل منه فلا إشكال أيضًا، ولكن لو كان الخلع على عوضٍ أكثر من المهر؛ فهل يصح ذلك؟
على قولين لأهل العلم في ذلك، ومنشأه: أنَّ قوله: «أَتَرُدِّيْنَ عَلَيْهِ حَدِيْقَتَهُ؟» هل هو أمر تعلَّقَ بهِ الحُكم، أو كان جوابًا عن سؤال؟
فإنَّ قلنا هو جواب عن سؤال: فحينئذٍ لا يُفهَم منه مفهوم المخالفة، وبالتَّالي يُمكن أن يُرد في عوض الخُلع أكثر من المهر السابق.
وأمَّا إن كان قوله: «أَتَرُدِّيْنَ عَلَيْهِ حَدِيْقَتَهُ؟» لتقرير حُكمٍ جديدٍ؛ فيُفهَم منه أنَّه لا يجوز أن تُطالَب المرأة في الخلع بأكثر من ذلك.
قوله: (قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْبَلِ الحَدِيقَةَ»)، كأنَّه هنا لم يلتفت إلى رضا الزَّوج.
ومذهب الأئمة الأربعة: أنَّ الخلع يُشترط فيه رضا الزَّوج، إِلا في رواية عن الإمام أحمد يقول: لا يُشترَط رضا الزَّوج بشرط أن يكون الخلع عند القضاء.
والفتوى وقرار هيئة كبار العلماء عندنا على اعتماد ذلك، أنه لا يُشتَرَط رضا الزَّوج في الخلع متى كان ذلك من قبل القَاضي، ومتى عَجز القَاضي عن التَّوفيق بينهما.
قال: «وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً»، أخذ منه الجمهور أنَّ الخلع طلاق، وأنَّه يُحسَب في عدد الطلقات.
وقال أحمد: ليس بطلاق، واستدل على ذلك بقول: ï´؟الطَّلَاقُ مَرَّتَانِï´¾، ثم قال بعدها في الآية: ï´؟فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِï´¾ [البقرة/229]، فهذا خلع، ثم قال في الآية: ï´؟فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىظ° تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُï´¾، فذكر الخلع بينَ عدد الطلقات، فلم يحتسب الخلع.
قال أحمد: هذا دليل على أنَّ الخلع فسخٌ وليس بطلاق.
وأمَّا الحديث الذي ذكره المؤلف من حديث ابن عباس: (أَنَّ امْرَأَةَ ثَابتِ بنِ قَيسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِدَّتهَا حَيْضَةً).
فقد رواه أبو داود والترمذي، ولكن فيه كلام لأهل العلم، وذلك أنَّ أكثر الرواة رووه عَن عِكرمة مُرسلًا، ولم يُذكر فيه الصَّحابي ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- وبالتالي قالوا: إنَّ الخبر لا يثبت عَن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأمَّا عدَّة المرأة في الخلع:
ïƒک فقول الجماهير: تعتد بثلاث حيَض كالمطلَّقات.
ïƒک ومنهم من قال: لا تعتدّ إِلَّا بحيضةٍ واحدة، واستدلُّوا بهذا الخبر، لأنَّه فُرقَة وليست بطلاق، والعدة بثلاث حِيَض إنما جاءت في الطلاق في قوله تعالى: ï´؟وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍï´¾ [البقرة:228].
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنِ الخِيَرَةِ؟ فَقَالَتْ: خَيَّرَنا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَفَكَانَ طَلَاقًا؟ قَالَ مَسْرُوقٌ: لَا أُبَالِي أَخَيَّرتُها وَاحِدَةً أَوْ مائَةً بَعْدَ أَنْ تَخْتَارَنِي. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ)}.
قوله مسروق بن الأجدع: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْها)، فيه سؤال العالمة من النِّساء، وهذا كان مِن وراء الحجاب، وذلك عندما يكون هناك تعارض بينَ مَن لا يدخل على عائشة كمسروق، ورواية من يدخل عليه كعروة؛ تُقدَّم رواية عروة؛ لأنَّه يشاهدها.
قال مسروق: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنِ الخِيَرَةِ؟)، يعني تخيير الزَّوج لزوجته، كأن يقول: اختاريني أو اختاري نفسك؛ فهل يُعتبر هذا طلاقًا؟ أو نقول: إنه لا يقع به الطلاق حتى تختار نفسها؟
وقد قال الله تعالى: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًاï´¾ [الأحزاب:28-29]، فهذا تخيير النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد اختار أزواجه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يُحسَب طلاقًا، ولذلك قالت عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها هنا: (أَفَكَانَ طَلَاقًا؟)، يعني: أنَّه لم يكن طلاقًا، فالتَّخيير ليس بطلاق.
فقال مسروق: (لَا أُبَالِي أَخَيَّرتُها وَاحِدَةً أَوْ مائَةً بَعْدَ أَنْ تَخْتَارَنِي)، فإذا اختارت الزَّوج فحِينئذٍ بطل الخيار، ولا يثبت به طلاق.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ حَمَّادِ بنِ زَيدٍ قَالَ: قُلْتُ لأَيُّوبَ: هَلْ عَلِمْتَ أحَدًا قَالَ فِي: أَمْرُكِ بِيَدِكِ، أَنَّهَا ثَلَاثٌ غَيرَ الـحَسَنِ؟ فَقَالَ: لَا، ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ غَفْرًا، إِلَّا مَا حَدَّثَنِي قَتَادَةُ عَنْ كَثيرٍ مَوْلَى ابْنِ سَمُرَةَ، عَنْ أَبي سَلَمَةَ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «ثَلَاثٌ»، فَلَقِيتُ كَثيرًا، فَسَأَلْتُهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ، فَرَجَعْتُ إِلَى قَتَادَةَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: نَسِيَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ وَقَالَ: «هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ» وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَكَى عَنِ البُخَارِيِّ أَنَّه قَالَ: هُوَ مَوْقُوفٌ- وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ، وَكَثيرٌ وَثَّقَهُ الْعِجْلِيُّ وَغَيرُهُ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: هُوَ مَجْهُولٌ.
وَعَنْ زُرَارَةَ بنِ رَبيعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُثْمَانَ فِي (أَمْرُكِ بِيَدِكِ): الْقَضَاءُ مَا قَضَيْت. رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي التَّارِيخ)}.
أورد المؤلف حديث حَمَّادِ بنِ زَيدٍ قَالَ: (قُلْتُ لأَيُّوبَ)، يعني: السِّختياني.
قوله: (هَلْ عَلِمْتَ أحَدًا قَالَ فِي: أَمْرُكِ بِيَدِكِ، أَنَّهَا ثَلَاثٌ غَيرَ الـحَسَنِ؟)، أي: أنَّه يقع بها ثلاث تطليقات.
فَقَالَ: (لَا)، يعني: أنَّه لا يقول أحد بذلك.
ثمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ غَفْرًا)، كأنَّه يستثني.
قال: (إِلَّا مَا حَدَّثَنِي قَتَادَةُ عَنْ كَثيرٍ مَوْلَى ابْنِ سَمُرَةَ، عَنْ أَبي سَلَمَةَ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «ثَلَاثٌ»، فَلَقِيتُ كَثيرًا، فَسَأَلْتُهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ، فَرَجَعْتُ إِلَى قَتَادَةَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: نَسِيَ)، يعني: أنَّ لفظة (أَمْرُكِ بِيَدِكِ) هي كناية عن الطَّلاق، فإذا كان فيها لفظ أو قرينة أو نيَّة تجعلها للطلاق؛ فحينئذٍ تكون طلاقًا؛ لأنَّ الكنايات تكون حسب النِّيَّة، وفيها قولان لأهل العلم إذا نوى الطَّلاق بها؛ هل تُحسَب بثلاث طلقات أو تُحسَب بطلقة واحدة.
ثُم أورد حديث كَثيرٌ مولى ابن سمُرَة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «ثَلَاثٌ»، وهذا لفظٌ مرفوع، وقد وقع اختلاف فيه، فكثير من أهل العلم يُضعِّف هذا الخبر، ويعترضون عليه باعتراضات، منها:
ïƒک أنَّه من رواية كَثيرٍ مولى ابن سمُرَة، وقد قال عنه طائفة: إنَّه مجهول، وإن كان قد وثَّقه العجلي وابن حبان وجماعة.
ïƒک وأنَّه أُعلَّ بعلَّةٍ أخرى وهي: أنَّ الصَّواب أنَّ هذا الخبر موقوف وليس مرفوعًا للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ïƒک وأنَّ هذا الخبر علَّه أهل الحديث، حيث أن كثيرًا هذا لم يثبت من معرفته ما يُوجب قبول روايته، وقول العامَّة بخلاف روايته.
وبالتالي فهذا الخبر فيه ما فيه، ويحتاج إلى تحقق من إسناده.
ثم أورد عَنْ زُرَارَةَ بنِ رَبيعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُثْمَانَ أنَّه قال فِي (أَمْرُكِ بِيَدِكِ): "الْقَضَاءُ" يعني: نهاية الأمر ونتيجته "مَا قَضَيْت"، أي: ما اختارته الزوجة، فيصبح الأمر في يد الزَّوجة.
وينبغي لنا أن نعلم أنَّ للشَّرع حكمة في جعله الفرقة إمَّا بيدِ الزَّوج، وإما بيد القضاء، لما في ذلك من تأنِّيهم قبل إيقاع الطَّلاق، بخلاف كثير من النِّساء.
وقوله هنا: (الْقَضَاءُ مَا قَضَيْت)، أي: أنَّ لفظة (أَمْرُكِ بِيَدِكِ)، لا يقع بها الطلاق بنفسها.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (كِتَابُ الطَّلَاقِ
عَنْ مُـحَارِبِ بنِ دِثارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللهِ الطَّلَاقُ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالطَّبَرَانِيُّ، وَقَدْ رُوِيَ مُرْسَلًا، وَهُوَ أَشْبَهُ، قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: "إِنَّمَا هُوَ مُحَارِبٌ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُرْسَلٌ"، وَقَالَ ابْنُ أَبي دَاوُدَ: "هَذِهِ سُنَّةٌ تَفَرَّدَ بهَا أَهْلُ الْكُوفَةِ")}.
الطَّلاق: فُرقةٌ من فُرَق الطَّلاق، تكون في الغالب بلفظٍ من قِبَلِ الزَّوج.
وأورد المؤلف فيه حديث ابن عمر، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللهِ الطَّلَاقُ».
هذا الحديث ورد من طُرق مُتعدِّدَة أكثرها على أنَّه مرسلٌ، لم يُذكر فيه اسم الصَّحابي، ولذلك كان كثير من أهل العلم يتكلَّم في هذا الخبر.
وبعضهم قال: إنَّه قد رُويَ من طُرقٍ متعدِّدَةٍ.
وعلى كلٍّ؛ الحلال لا يوصَف بأنَّه مبغوض عند الله -جلَّ وعَلا- في تقرير كثيرٍ من أهل العلم، وإن كان آخرون أجازوه، واستدلوا عليه بأنَّ البصل مذمومٌ ولكنَّه مباحٌ.
وقول رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللهِ الطَّلَاقُ»، أي: أنَّ الشَّرع يُريد إبقاء الحياة الزَّوجيَّة لِمَا فيها من السَّكنِ، ولما فيها من المودَّة والرَّحمة، ولِمَا فيها من خيراتٍ عظيمةٍ، وبالتَّالي فالأولى أَلَّا يدخل الإنسان في بابِ الطَّلاق، وأن يتحاشاه ما استطاع إليه سبيلًا، إذ ليستِ العبرةُ بالفُرقَة التي تحصل بالطَّلاق، وإنَّما مَا يترتَّب عليه بعد ذلك من أُمورٍ مُتعلقة بأبناء، أو مُتعلقة بحقوقٍ مُشتركة بينهما، ولذلك يتطلَّع الشَّرع إلى عدم زيادة وجود الطَّلاق.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ مَالكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِي حَائِضٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَسَأَلَ عُمَرُ بنُ الْخطابِ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثمَّ لْيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيْضَ، ثُمَّ َتَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَلمسْلمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ -مولَى آل طَلْحَةَ- عَنْ سَالمٍ، عَنِ ابْنِ عمرَ: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِي حَائِضٌ، فَذَكرَ ذَلِكَ عُمرُ للنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا، أَو حَامِلًا». وَقَالَ البُخَارِيُّ: وَقَالَ أَبُو مَعْمرٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ سَعيدِ بنِ جُبَيرٍ، عَنِ ابْنِ عُمرَ قَالَ: حُسِبَتْ عَلَيَّ بتَطْلِيقَةٍ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ أَحْمدَ بنِ صَالحٍ، عَنْ عبدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُريجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيرِ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنِ أَيمنَ يَسْأَلُ ابْنَ عُمرَ -وَأَبُو الزُّبَيرِ يَسْمَعُ- فَقَالَ: كَيفَ ترَى فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا؟ فَقَالَ: طَلَّقَ عَبدُ اللهِ بنُ عُمرٍ امْرَأَتَهُ وَهِي حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لَهُ: عَبدُ اللهِ بنُ عُمَر طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِي حَائِضٌ -قَالَ عَبْدُ اللهِ- فَردَّهَا عَلَيَّ وَلمْ يَرَهَا شَيْئًا، وَقَالَ: «إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ أَوْ لِيُمْسِكْ» قَالَ ابْنُ عُمرَ: وَقَرَأَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّبِي إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّï´¾ [الطلاق:1]. رُوَاتُهُ أَثْبَاتٌ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ رَافعٍ، عَنْ عبدِ الرَّزَّاقِ)}.
ذكر المؤلف هُنا حديث ابن عمر، وهذا الحديث يترتب عليه اعتبار طلاق الحائض وعدم اعتباره، فابن عمر طلَّقَ زوجته وهي حائض، فَنَهَاهُ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ذلك، فدلَّ هذا على أنَّ الطَّلاق في زَمَنِ الحيضِ حَرام ولا يجوز ويأثم به الإنسان.
وهنا أُنبِّه على أنَّ الطلاق لا ينبغي أن يُقال بناء على انفعالٍ وقتيٍّ ولحظي، وإنَّما ينبغي أن يكون بعدَ تفكيرٍ وتأمُّلٍ، وبالتالي لا يوقعه الإنسان إِلَّا في الوقت المحدد شرعًا، وهو بعدَ انتهاء وقت الحيض وقبل الجماع.
إذا طلق الرجل زوجته وهي حائض؛ فهل يُحسَب في عدد الطلقات او لا يُحسَب؟
قالت طوائف كثيرة: إنَّه يُحسَب في عَدد الطلقات.
وقالت طائفة: لا يُحسب، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، وقال بها جماعة من أصحابه، وهو مَذهب الظَّاهريَّة وجماعة.
منشأ الخلاف في هذه المسألة: هذه الواقعة التي ذُكرَت هنا، وهي أنَّ ابن عمر طلق زوجته وهي حائض، فبقيَ التَّردُّد؛ هل أمضى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك الطَّلاق أو أنَّه ألغاه ولم يعتبره ولم يُمضِهْ؟
فهذا هو منشأ الخلاف في هذه المسألة
- فمن قال: إنَّ الطَّلاق لا يقع: قال إنَّ هذا طلاق مُخالفٌ للسُّنَّة، فكيفَ نصحِّحُه! ثم هو مخالف لقوله تعالى: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّï´¾ [الطلاق:1]. وحينئذٍ نعلم أنَّ المسألة فيها خلاف.
قال: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِي حَائِضٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَ عُمَرُ بنُ الْخطابِ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذَلِكَ)، فيه اهتمام الأب بحالِ أبنائه، فعمر أبٌ لابن عمر.
ومن الأدلة في هذا الباب: قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌ»، فإنَّ طائفة قالوا: إنَّ الطَّلاق في زمن الحيض ليس عليه أمرنا، فيكونُ مَردودًا.
قال: (فَسَأَلَ عُمَرُ بنُ الْخطابِ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذَلِكَ)، يعني: عن طلاق ابن عمر في زمن الحيض.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا»، هذا اللفظ استدلَّ به مَن قال باعتبار طلاق الحائض؛ لأنَّ المراجعة ما تكون إلى بعد الطلاق، فدلَّ هذا على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم احتسبَ الطَّلاق.
ولكنَّ الآخرين أجابوا فقالوا: إنَّه قال: «فَلْيُرَاجِعْهَا»، ولم يقل: "فليرتجعها"، والمراجعة مُفاعلة بين اثنين، فكأنَّه قال: ليصطلح معها لتعود إليه.
قال: «ثمَّ لْيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيْضَ، ثُمَّ َتَطْهُرَ»، فأجَّل عليه مدَّة الطَّلاق من أجل أنَّه أراد أن تصلُح أحوالهم وتستقيم أمورهم.
وفي هذا دلالة على أنَّه قد يُعاقب الإنسان عُقوبة بسببِ مخالفته.
قال: «ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ»، ظاهره أنَّه لم يعتبر الطَّلاق، ولو أنه اعتبر الطلاق لما ألزمَه بمراجعتها، ولَمَا ألزمه بأن يختار بين التَّطليق والإمساك.
قال: «فَتِلكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ»، وذلك في قوله تعالى: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَï´¾ [الطلاق:1].
قال: (وَلمسْلمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ -مولَى آل طَلْحَةَ- عَنْ سَالمٍ، عَنِ ابْنِ عمرَ: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِي حَائِضٌ، فَذَكرَ ذَلِكَ عُمرُ للنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فيه سؤال الأب عن أحوال ابنه وما يتوافق معها من الشَّرع.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرْهُ»، والأصل في الأوامر أن تكون للوجوب، وبالتَّالي هذا دليل لمن يقول: إنَّه لم يحسب الطلقة؛ لأنَّها لازالت زوجة وفي أحكام الزَّوجات، وبالتَّالي يؤمرُونَ بعودةِ النِّساء إلى بيوتهنَّ.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلْيُرَاجِعْهَا»، يعني: يعود إليها، وقد تقدَّمَ معنا الخلاف في المراد بهذه اللفظة، هل هي من رجعَةِ النِّكاح، أو من المراجعة.
قال: «ثمَّ لْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا، أَو حَامِلًا»، فيه دلالة على أنَّ طلاق الطَّاهر في زمن ما بعدَ الحيضِ يُعدُّ طلاقًا جائزًا.
وهكذا في الحديث: أنَّ طلاق الحامل جائز وصحيح، ولا يلزم الفرقة.
وجاء في حديث ابن عمر قال: (حُسِبَتْ عَلَيَّ بتَطْلِيقَةٍ)، فكأنه اعتبر طلقة الحائض من ضمنِ أعدادِ الطَّلاق.
قال: (وَرَوَى أَبُو دَاوُد، عَنْ أَحْمدَ بنِ صَالحٍ، عَنْ عبدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُريجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيرِ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنِ أَيمنَ يَسْأَلُ ابْنَ عُمرَ -وَأَبُو الزُّبَيرِ يَسْمَعُ)، فيه سؤال العلماء، وضرب الأكباد والأسفار لمقابلتهم لتفصيل الإنسان حياته على وفق ما يُريد ربُّ العزَّةِ والجَلال.
فَقَالَ عبد الرحمن بن أيمن: (كَيفَ ترَى فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا؟)، يعني: مع أنَّه مَنهيٌّ عن تطليق المرأة وهي حائض.
فَقَالَ ابن عمر: (طَلَّقَ عَبدُ اللهِ بنُ عُمرٍ امْرَأَتَهُ وَهِي حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لَهُ: عَبدُ اللهِ بنُ عُمَر طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِي حَائِضٌ -قَالَ عَبْدُ اللهِ- فَردَّهَا عَلَيَّ)، يعني: ردَّ زوجته عليه.
قال: (وَلمْ يَرَهَا شَيْئًا)، أي: لم يحسبها في عددِ الطَّلقات.
وَقَالَ: «إِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ أَوْ لِيُمْسِكْ»، أي: إذا طهُرَت بعدَ وقت حيضتها؛ لأنَّها تصبح حينئذٍ وقت طلاق سُنَّةٍ.
قَالَ ابْنُ عُمرَ: (وَقَرَأَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّبِي إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّï´¾)، يعني: مُستقبلات العدَّة.
وهنا مسألة: هل عدَّة المطلقة بالأطهار أو بالحيَض؟
قال أبو حنيفة وأحمد: هي بالحِيَض.
وقال مالك والشَّافعي: هي بالأطهار.
فقوله هنا: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّï´¾، يعني: مُستقبلات للعدَّة، وهذا دليل على أنَّ المرأة تعتدّ بالحِيَض.
{أحسن الله إليكم..
كيف نجمع بين قوله: (فَردَّهَا عَلَيَّ وَلمْ يَرَهَا شَيْئًا)، وقوله (حُسِبَتْ عَلَيَّ بتَطْلِيقَةٍ)؛ وكلُّها من قول ابن عمر؟}.
هناك منهجان في الجمع:
ïƒک الأول: لمَّا قال (حُسِبَتْ عَلَيَّ بتَطْلِيقَةٍ)، قالوا: هذا دليلٌ على احتسابها. وأمَّا قوله: (وَلمْ يَرَهَا شَيْئًا)، يعني: لم يرها باتًّة للطلاق كالطَّلاقات الثلاث.
ïƒک الثاني: قوله (حُسِبَتْ عَلَيَّ بتَطْلِيقَةٍ)، هذا اجتهاد من ابن عمر أو مَن وراءه.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَرَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَينِ مِنْ خِلَافَةِ عُمرَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُم فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَو أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِم، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِم)}.
هذا الخبر في صحيح مسلم، قال: (كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَينِ مِنْ خِلَافَةِ عُمرَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً)، يعني: إذا طلَّقَ زوجته ثلاث تطليقات بلفظٍ واحدة؛ فإنَّه لا يُعدُّ إلا طلقة واحدة.
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا)، يعني: أصبح يراهم يُطلِّقونَ بسرعةٍ.
قوله: (فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُم فِيهِ أَنَاةٌ)، أي: يحقُّ لهم أن يتأنَّوْا فيه.
قوله: (فَلَو أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِم)، أي: لو اعتبرناه طلاقًا تامًّا (فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِم)، وأصبح بعدَ ذلك يُفتَى أنَّ مَن طلَّقَ وجته ثلاثًا بلفظٍ واحدٍ فحينئذٍ يُمضَى عليه، وتُعتبَر الطَّلقات الثلاث، وتُحسَب عليه.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ مَحْمُودَ بنَ لَبِيْدٍ قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ رَجُلٍ طلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا؟ فَقَامَ غَضْبَانَ، ثمَّ قَالَ: «أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ وَأَنا بَينَ أَظْهُرِكُم» حَتَّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلا أَقْتُلُهُ؟. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَقَالَ: لَا أَعْلَمُ أحَدًا رَوَى هَذَا الحَدِيثَ غَيرَ مَـخْرَمَةَ)}.
مخرمة بن بوكير: من رواة الحديث، صدوقٌ، وروايته من قبيل الحسن.
قال: (عَنْ أَبِيهِ)، كثير من أهل العلم قالوا: إنَّ مخرمة لم يسمع من أبيه.
قال: (سَمِعْتُ)، أي: الأب يقول: سمعتُ (مَحْمُودَ بنَ لَبِيْدٍ قَالَ: أُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ رَجُلٍ طلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا؟)، يعني: بلفظٍ واحدٍ.
قال: (فَقَامَ غَضْبَانَ)، غضبان من هذه الكلمة، ممَّا يدلُّ على تحريم جمع الطَّلقات في المحل الواحد.
ثمَّ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ وَأَنا بَينَ أَظْهُرِكُم»، ذلك لأنَّ هذا طلَّقَ زوجتَه ثلاث طلقات، ففوَّتَ على نفسه، وقد أمر الله -جلَّ وعَلا- المؤمنين بأن يُلاحظوا ذلك، فقال: ï´؟وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ غڑ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا غڑ وَمَن يَفْعَلْ ذَظ°لِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ غڑ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا غڑ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِï´¾ [البقرة/231]، فنهاهم الله -جلَّ وعَلا- عن اتَّخاذ آياتِ الله هُزوًا في ثنايا آيات الطَّلاق.
فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللهِ وَأَنا بَينَ أَظْهُرِكُم»، يعني: أيُطلِّق الواحد منكم زوجته وأنا بينَ أظهركم بدون سببٍ؟!!
قوله: (حَتَّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلا أَقْتُلُهُ؟)، لِمَا رأى مِن شدَّة تغيُّرِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليه.
{شيخنا، أحسنَ الله إليك..
هل يُفرَّق بين التطليق ثلاثًا بلفظٍ واحدةٍ، وبين أن يقولها في مجلسٍ واحدٍ؟}.
الجمهور لا يُفرّقون، فيقولون: إنَّ الجميع يقع به ثلاث طلقات.
وأمَّا مَن يوقع طلقةً واحدةً؛ فالأكثر على التَّفريق بينهما، ففرق بينَ ما إذا قال: "أنت طالق ثلاثًا" هو لم يتكلَّم بالطَّلاق إلا مرَّةً واحدة، بخلاف ما لو قال: "كلكنَّ طالق"، فحينئذٍ يختلف الحكم بين هذا الموطن وذاك.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ». رَوَاهُ أَحْمَدُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ)}.
هذا الحديث فيه عبد الرحمن بن حبيب، وتكلَّمَ بعضهم فيه.
وقوله: «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ»، أي: تُعتَبر وتُلاحَظ.
قوله: «وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ»، أي: يترتَّب عليها الحكم.
قوله: «النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ»، فإذا نكَحَ أو طلَّقَ، فلا يُقبل منه أن يقول: أمزح! فليس المقام مَقام مزحٍ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّم». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ)}.
قوله: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا»، يعني: من الهمِّ والوساوس ونحو ذلك، وفيه دلالة على أنَّ الطَّلاق لا يقع بإضماره في النَّفسِ أو بالتَّردُّدِ فيه، فلا يقع إِلَّا بلفظهِ أو بعملٍ يُؤدِّي إليه.
وقد أخذ جمهور العلماء مِن هذا أنَّ طلاق الكتابةِ من الآصقة فإنَّ طلاقة مُعتبر، وذلك أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ»، والكتابة نوعٌ مِن أَنواع العَمَل.
وفي هذا دليلٌ على أنَّ الطَّلاق المكتوب يقع، ولا يُشتَرط أن يكون مَنطوقًا به.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذا حَرَّمَ امْرَأَتَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ: ï´؟لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُوْلِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌï´¾ [الأحزاب:21] رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَلمسلمٍ: إِذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ فَهِيَ يَمِيْنٌ يُكَفِّرُهَا)}.
قوله: (إِذا حَرَّمَ امْرَأَتَهُ)، يعني لو قال لزوجته: "أنتِ عليَّ حرامٌ"، هذه اللفظة موطنُ خلافٍ، وفيها أقوال متعدِّدَةٌ:
ïƒک فبعضهم يقول: هذا ظهار، يجب فيه صيام شهرين متتابعين.
ïƒک والأكثر على أنه يمين، وله أحكام اليمين.
قال تعالى: ï´؟لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُوْلِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌï´¾، حيثُ كان عليه تحريم، ومع ذلك اكتُفيَ فيه بأحكام اليمين، فاعتُبِرَ يمينًا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ». رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه مِنْ رِوَايَةِ عَطاءٍ عَنْهُ، وَرُوَاتُهُ صَادِقُونَ، وَقَدْ أُعِلَّ، قَالَ أَبُو حَاتِم: لَا يَصحُ هَذَا الحَدِيثُ وَلَا يَثْبُتُ إِسْنَادُهُ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ بِنَحْوِهِ مِنْ رِوَايَةِ عَطاءٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْهُ، وَقَالَ: عَلَى شَرْطِهِمَا)}.
قوله في هذا الحديث: «إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ»، المراد بالخطأ هنا: ما هو خلاف العمد.
والوضع: هو التَّجاوز.
قال: «وَالنِّسْيَانَ»، يعني: ما وقع نسيانًا، كأن يبيع سيارته وينساها.
قال: «وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»، أي: ما كانوا مُكرَهينَ عليه مُلزَمينَ بهِ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُا: أَنَّ ابْنةَ الجَوْنِ لـمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَدَنا مِنْهَا قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ: «لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيْمٍ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
ابنة الجون: هي امرأة عربية كان لأبيها شأن، لمَّا أُدخِلَت على رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ودنا منها متزوِّجًا لها، قالت: (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ)، يعني: ألتجئ وأحتمي به -سبحانه- منكَ.
فقال لها -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيْمٍ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ»، في هذا عدد من الأحكام:
ïƒک منها: أنَّ الأصل أنَّ الزَّوج هو الذي يدخل على الزَّوجة لا العكس.
ïƒک ومنها: أنَّ المرأة يحسُن بها أن تُسلِّمَ نفسها لزوجها.
ïƒک ومنها: أنَّه لا يُرغَّبُ في أن تستعيذ المرأة بالله من زوجها.
فقال لها -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيْمٍ»، أي: التجأتِ إلى عظيمٍ، وهو ربُّ العزَّة والجَلالِ.
ثم قال لها: «الْحَقِي بِأَهْلِكِ»، وهذا لفظٌ مِن كنايات الطَّلاق.
هل هو كناية صريحة أو كناية خفيَّة؟
محلُّ تردُّدٍ بين العلماء.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ جَابرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا طَلَاقَ إِلَّا بَعْدَ نِكَاحٍ، وَلَا عِتْقَ إِلَّا بَعْدَ مِلْكٍ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ، وَأَبُو يعْلى الْموصِلِي وَهَذَا لَفظُهُ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَلَهُ عِلَّةٌ، وَقَدْ رُويَ منْ حَدِيثِ عَبدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو والـمِسْوَرِ بنِ مَـخْرَمَةَ وَغَيرِهمَا)}.
قوله في هذا الحديث: «لَا طَلَاقَ»، يعني: لا طلاق صحيح مُعتبرٌ تترتَّبُ عليه آثاره.
قوله: «إِلَّا بَعْدَ نِكَاحٍ»، يعني: بعدَ عقدَ نكاحٍ، فلو طلَّقَ امرأةً قبل أن يعقد عليها لم يُعتبَر هذا الطَّلاق ولم يُلتَفت له.
قال: «وَلَا عِتْقَ إِلَّا بَعْدَ مِلْكٍ»، يعني: لا يصح العتق ولا يُعتبَر إلا إذا كان بعدَ مِلكٍ واقعًا على مَن يملكُه.
قال: (رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ، وَأَبُو يعْلى الْموصِلِي وَهَذَا لَفظُهُ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَلَهُ عِلَّةٌ)، العلَّة: أنَّه مرَّةً رُويَ من حديث جابر، ومرَّة رُويَ من حديث عبد الله بن عمرو.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبَرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيْقَ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ، وَقَالَ البُخَارِيُّ: وَقَالَ عُثْمَانُ: "لَيْسَ لِمَجْنُونٍ وَلَا لِسَكْرَانٍ طَلَاقٌ"، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "طَلَاقُ الْسَكْرَانِ والـمُسْتَكْرَهِ لَيْسَ بـِجَائِزٍ"، وَقَالَ عَليٌّ: "وَكُلُّ الطَّلَاقِ جَائِزٌ، إِلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "الطَّلَاقُ عَنْ وَطَرٍ، وَالْعِتَاقُ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللهِ")}.
هذا الحديث فيه ذكر قلم التَّكليف، وقد يستدل به أيضًا على قلم الأحكام الوضعيَّة، فقوله: «رُفِعَ الْقَلَمُ»، القلم في حقيقته ما رُفِعَ، أمَّا الذي رُفِعَ هو ترتيب الثَّواب والعِقاب عليه.
قال: «عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ»، فيه أنَّ النَّائم لا يتوجَّه إليه التَّكليف في وقت نومِهِ حتى يستيقظ.
قال: «وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبَرَ»، يعني: يبلغ.
قال: «وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيْقَ»، فهذه أحوالٌ ثلاثة لا يؤاخذ الإنسان بما يجري عليه فيها، وبالتَّالي فإنَّ طلاق مَن كان كذلك غيرُ مُعتَبرٌ؛ وإنَّما يقوم وليُّهم مَقامهم فيما يتعلَّق بأمرِ الطَّلاق، أو بأمرِ الفُرقَة.
قال عثمان: "لَيْسَ لِمَجْنُونٍ وَلَا لِسَكْرَانٍ طَلَاقٌ"، أي: لا يُعتَبر طلاقًا؛ لأنَّهم يَهذون بما لا يُريدونَه.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "طَلَاقُ الْسَكْرَانِ والـمُسْتَكْرَهِ لَيْسَ بـِجَائِزٍ".
وَقَالَ عَليٌّ: "وَكُلُّ الطَّلَاقِ جَائِزٌ، إِلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ"، يعني: أنَّه لا يقع.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "الطَّلَاقُ عَنْ وَطَرٍ، وَالْعِتَاقُ مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُ اللهِ". ولعلنا نقف على هذا.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

abdoucho90
2019-04-24, 15:05
مشكووووور اخي بارك الله فيك

احمد الصادق
2019-04-25, 13:52
مشكووووور اخي بارك الله فيك
العفــــــــــــــــــــــــــــــــو .

احمد الصادق
2019-04-25, 13:54
الْمُحَرِرُ فِي الْحَديِثِ (4)
الدَّرسُ السَّادسُ (6)
معالي الشيخ / سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور/ سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
الله يبارك فيك، وأحيِّيكَ وأحيِّي إخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من كتاب "الرَّجْعَةُ والإِيلاء والظِّهار" من كتاب "المحرر" لابن عبد الهادي.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (عَنْ يزِيدَ الرِّشْكِ، عَنْ مُطَرِّفِ بنِ عَبدِ اللهِ، أَنَّ عِمرَانَ بنَ حُصَيْنٍ سُئِلَ عَنِ الرَّجلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ، ثمَّ يَقعُ بِها وَلمْ يُشْهِدْ عَلَى طَلَاقِهَا وَلَا عَلَى رَجْعَتِهَا؟ فَقَالَ: طَلَّقْتَ لِغَيرِ سُنَّةٍ وَراجَعْتَ لغَيرِ سُنَّةٍ، أَشْهِدْ عَلَى طَلَاقِهَا وَعَلَى رَجْعَتِهَا وَلَا تَعُدْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَه، وَلَيْسَ عِنْدهُ: وَلَا تَعُدْ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ مُخرَّجٌ لَهُم فِي الصَّحِيحِ)}.
الحمدُ لله ربِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضلِ الأنبياء والمرسَلين، أمَّا بعد:
فإنَّ كلمة الرَّجعة يُراد بها: إعادة الرَّجلِ زوجتَه المطلَّقة إلى عِصمته.
ويُشترط للرَّجعة شروط:
ï‚§ أن يكون الطَّلاق رجعيًّا، فيكون بطلقةٍ أو طلقتين، أمَّا إذا كان بثلاثٍ فحينئذٍ لا رَجْعَة.
ï‚§ أن تكون الرَّجعة في وقتِ العِدَّةِ، فإن مَضت العِدَّةُ ولم تحصل رَجْعَة فلا تثبت رجعة حينئذٍ.
أمَّا الإيلاء فالمراد به: حَلِفُ الزَّوج أَلا يقربَ زوجتَه مُدَّةً تَزيد عن مُدَّة الأربعة أشهر.
أمَّا الظِّهار: فهو تشبيه الرَّجلِ زوجتَه بمَن تحرم عليه على جهة التَّأبيد، كما لو قال لها: "أنتِ عليَّ كظهر أمي". وسيأتي أحكامه.
قال: (أَنَّ عِمرَانَ بنَ حُصَيْنٍ سُئِلَ عَنِ الرَّجلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ، ثمَّ يَقعُ بِها وَلمْ يُشْهِدْ عَلَى طَلَاقِهَا وَلَا عَلَى رَجْعَتِهَا؟)، هل الجماع هنا يُعدُّ رجعة؟
طلقها طلقةً أو طلقتين، ثُمَّ جَامعها، فهل يُعدُّ ذلك رجعة أو لا؟
هذا من مواطن الخلاف:
ï‚§ فعند أحمد: أنه يُعدُّ رجعةً.
ï‚§ وعند أبي حنيفة والشَافعي: لا يُعدُّ رجعة.
ï‚§ وعند مالك: بحسبِ النِّيَّة، فإن نَوى بجماعه لها أنَّه يرتجع الزَّوجة؛ حَصَلت الرَّجعة بذلك.
قال: (سُئِلَ عَنِ الرَّجلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ، ثمَّ يَقعُ بِها)، يعني: يقع بها قبل أن يتلفَّظ بالرَّجعة، فإنَّ الرَّجعة قد تكون بلفظٍ قوليٍّ، وقد تكون بفعلٍ.
قال: (وَلمْ يُشْهِدْ عَلَى طَلَاقِهَا وَلَا عَلَى رَجْعَتِهَا؟ فَقَالَ: طَلَّقْتَ لِغَيرِ سُنَّةٍ)؛ لأنَّه طلَّقَ امرأته ويبدو أنه لم يُشهِد عليها.
قال: (راجَعْتَ لغَيرِ سُنَّةٍ، أَشْهِدْ عَلَى طَلَاقِهَا وَعَلَى رَجْعَتِهَا وَلَا تَعُدْ).
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: آلَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منْ نِسَائِهِ وَحَرَّمَ فَجَعَلَ الْحَرَامَ حَلَالًا، وَجَعَلَ فِي الْيَمِينِ كَفَّارَةً. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَه، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ مُرْسَلًا وَهُوَ أَصَحُّ، قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ)}.
عَنْ عَائِشَة -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: (آلَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منْ نِسَائِهِ)، يعني أقسَمَ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ألا يقرب نساءه.
قالت: (وَحَرَّمَ)، يعني أنَّه حكم بالحُرمَةِ.
قالت: (فَجَعَلَ الْحَرَامَ حَلَالًا، وَجَعَلَ فِي الْيَمِينِ كَفَّارَةً)، كأنها تقول أنَّ الأَيمان في الإيلاء ونحوه فيها كفارة يمين. وهذا أحد الأقوال في التَّحريم.
فهناك مَن يقول: إنَّ التَّحريم يقتضي أن يكونَ ظِهارًا.
وبعضهم يقول: هو طلاق.
وبعضهم يقول: هو طلاق معلَّق.
والصَّواب: أنَّه يمينٌ، ولذا قالت عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها: (آلَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منْ نِسَائِهِ وَحَرَّمَ فَجَعَلَ الْحَرَامَ حَلَالًا، وَجَعَلَ فِي الْيَمِينِ كَفَّارَةً)، يعني فيما فعله.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ سُلَيْمَانَ بنِ يسَارٍ قَالَ: أَدْرَكْتُ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُلُّهُمْ يَوقِفُونَ الْمُولِي. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ)}.
المراد بالمُولِي: مَن أقسَم ألا يقرب زوجته مدَّة أكثر من أربعة أشهر، فإذا مضت أربعة أشهرٍ؛ فماذا نفعل؟
الإمام أبوحنيفة يقول: إذا مضت الأربعة أشهر وقع الطلاق، ولا نحتاج إلى إيقاف المولي ولا سؤاله.
الجمهور يقولون: نوقف المولي الذي أقسَمَ ألا يقرب زوجته، ونقول: أنت بالخيار، إمَّا أن تطلِّق، وإمَّا أن تسترجع.
قال سليمان بن يسار: (أَدْرَكْتُ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُلُّهُمْ يَوقِفُونَ الْمُولِي)، يعني بعد الأربعة أشهر يسألونه؛ هل تريد إمضاء العقد أو الفسخ؟
وقوله: (كُلُّهُمْ يَوقِفُونَ الْمُولِي)، معناه أنَّه لا ينفسخُ عقدَ النَّكاحِ بالنِّسبة للمُولِي بمجرد مضي المدة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنِ الحكمِ بنِ أبانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قدْ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَته فَوَقعَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي ظَاهَرْتُ مِنِ امْرَأَتي فَوَقَعْتُ عَلَيْهَا قبلَ أَنْ أُكَفِّرَ، فَقَالَ: «مَا حَمَلَك َعَلَى ذَلِكَ يَرْحَمُكَ اللهُ؟» قَالَ: رَأَيْتُ خَلْخَالهَا فِي ضَوءِ الْقَمَرِ، قَالَ: «فَلَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ اللهُ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ وَصَحَّحَهُ، وَقَدْ رُويَ مُرْسَلًا، وَهُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ منَ الْمُسْنَدِ، قَالَهُ النَّسَائِيُّ)}.
قوله هنا: (عنِ الحكمِ بنِ أبانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ)، هكذا في الرِّواية، وفي بعض الرِّوايات يكون مُرسلًا بدون ذكر ابن عباس.
والمتتبِّعُ للحديث يجد أنَّ هناك اختلافًا كثيرًا في هذا الباب، وقد حَكَمَ المؤلِّف أنَّ المُرسل أولى بالصَّواب مِن المسنَد، ونَسَبَهُ إلى النَّسائي -رَحمَهُ اللهُ تَعَالَى.
قال: (أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قدْ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَته)، أي: شبَّه امرأته بمَن تحرُم عليه على جهة التَّأبيد، فقال لها مثلًا: "أنتِ كأُمِّي، أو أنتِ حرامٌ عليَّ كجدَّتي".
قال: (فَوَقعَ عَلَيْهَا)؛ لأنَّ مَن ظَاهرَ ممنوع أن يَطأ الزَّوجة.
فَقَالَ: (يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي ظَاهَرْتُ مِنِ امْرَأَتي فَوَقَعْتُ عَلَيْهَا قبلَ أَنْ أُكَفِّرَ)، أي: جامعها قبل أن يُكفِّر.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا حَمَلَك َعَلَى ذَلِكَ يَرْحَمُكَ اللهُ؟». قَالَ: (رَأَيْتُ خَلْخَالهَا فِي ضَوءِ الْقَمَرِ)، يعني: تحرَّكت نفسه لها، فلذلك جامعها.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ اللهُ»، أي: لا تُجامعها مَرَّة أخرى حتى تفعل ما أمرك الله به.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (كِتَابُ الْأَيْمَانِ
عَنِ ابْنِ عُمرَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ أدْرَكَ عُمرَ بنَ الْخطَّابِ فِي ركْبٍ، وَعُمَرُ يَـحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلا إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ»)}.
المراد باليمين: تَوثِيقُ الكلامِ بذكرِ مُعظَّمٍ.
والمراد باليَمينِ في اللِّسانِ الشَّرعيِّ: الحَلِفُ بالله تعظيمًا للكلام، وتصديقًا له.
قال: (عَنِ ابْنِ عُمرَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ أدْرَكَ عُمرَ بنَ الْخطَّابِ فِي ركْبٍ)، يعني: كان عمر يسير، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وراءه فلحقَهُ.
قال: (وَعُمَرُ يَـحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)، كأنَّه قد رفع صوته بذلك.
فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلا إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ»، فيه تحريم الحلف بغير الله، والنَّهي عنها.
{قال: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: بِاللَّاتِ، فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ)}.
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: بِاللَّاتِ» هذا حَلِفٌ بغير الله، والحلف بغير الله ثلاثة أنواع:
ï‚§ النَّوعُ الأوَّلُ: أن يحلف بغير الله مُعظمًا له، فهذا شركٌ أكبر.
ï‚§ النَّوعُ الثَّاني: أن يحلف بهذه الأصنام توثيقًا للكلام بدون أن يكون قاصدًا لتعظيم هذه الأصنام، فهذا شرك أصغر لا يَخرج به الإنسان من الملَّة.
ï‚§ النَّوعُ الثَّالثَ: ما يجري على اللسان، ومِن أمثلته اللغو، ونحوه؛ فهذا أرشد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صاحبه إذا نطق به أن يقول: "لا إله إلا الله"، أي: لا معبود بحقٍّ إلا الله.
وفي هذا: مقابلة السَّيئة بالحسنة حتى تمحُها كما أخبر النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: «وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ أُقَامِرْكَ، فَلْيَتَصَدَّقْ».
القمار أمرٌ محرمٌ، وهو غُرمٌ محَقَّق وغُنمٌ مشكوكٌ فيه، وقد جاءت النُّصوص بتحريمه، قال تعالى: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَï´¾ [المائدة: 90].
ولكن مَن قال لصاحبه: "تَعَالَ أُقَامِرْكَ" باللسان بدونِ أن يقصدَ القِمارَ المنهي عنه في الشَّرع؛ فعليه أن يتصدَّق مِن أجل أن يُوازي ما فعله من قوله لصاحبه: "تَعَالَ أُقَامِرْكَ".
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَمِيْنُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُكَ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «الْيَمِيْنُ عَلَى نِيَّةِ المُسْتَحْلِفِ». رَوَاهُ مُسْلمٌ)}.
قوله: (وَعَنْه)، يعني: عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَمِيْنُكَ»، أي: تأكيدُكَ الكلام بالقَسَم يُحمَل ويُفسَّر على ما يُصدِّقكَ به صاحبك، وهذه قاعدة في باب تفسير الألفاظ.
والأصل أنَّ اليَمين تكون على نيَّةِ المخاطَب لا على نيَّة المتكلِّم، ولكن وجدنا في بعض المواطن أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أجاز يمينًا على نيَّةِ المتكلِّمِ لا على نيَّةِ المخاطَب، فقد ورد في الحديث أنَّ عمران بن حصين أقسَم لجماعة يُريدون رجلًا أنَّه ليسَ صاحبَهم، وحلفَ عل ذلك، فحلفَ أنَّه أخوه؛ وهو يقصد أخوة الإسلام؛ فأجاز النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تلك اليمين، فحينئذٍ كيف نجمع؟
بعض الفقهاء قال: في مجلس القضاء على نيَّة المحلوف له، وفي غيره على نية المخاطَب.
وهناك مَن قال: المواطن التي يُقرُّ فيها العدل كمجالسِ القضاء اليمين على نية المحلوف له، وليست على نية الحالف.
وهناك أقوال أخرى في المسألة، ولكن هذين القولين أشهر الأقوال.
وَفِي رِوَايَةٍ: «الْيَمِيْنُ عَلَى نِيَّةِ المُسْتَحْلِفِ»، يعني: على نيَّة الطَّالب لليمين.
أنا آتي لك بمثال: إذا قال: "والله ما لفلان شيءٌ عندي"؛ فحينئذٍ ظاهره النَّفي، وقد يكون يريد الإثبات كأنه يقول: "والله مال فلان شيء عندي"؛ فهو نوى بها معنًى مغايرًا لما قد يفهمه الآخرون.
فحينئذٍ نقول: اليمين على نيةِ الحالف أو على نية المحلوف له؟
نقول: إذا كانَ المحلوفُ له غيرَ ظالمٍ، وهذا المحلوف له ليس في مجلسِ القضاء؛ فحينئذٍ اليمين على نية المحلوف له.
إذن؛ في مجلس القضاء وفي مواطن الظُّلم يكون اليمين على نيَّة المحلوف له، وفي غير ذلك على نية المتكلم الحالف.
وهناك مَن يقول: كل يمين يُخاطَب بها الآخرون الأصل أنَّه إنما يُريد ما ينويه المخاطب هنا.
وَفِي رِوَايَةٍ: «الْيَمِيْنُ عَلَى نِيَّةِ المُسْتَحْلِفِ»، يعني: تُفسَّر بما في نية المستحلف الطالب لليمن.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ سَمُرَةَ، لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ، فَإنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيرَهَا خَيرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي لَفظٍ للْبُخَارِيِّ: «فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِيْنِكَ»، وَفي لَفْظٍ: «إِذَا حَلَفْتَ عَلى يَـمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَـمِينِكَ، ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هَوَ خَيْرٌ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَاللَّفْظُ لَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَإسْنَادُهُ صَحِيحٌ)}.
قوله: (وَعَنْ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ سَمُرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بنَ سَمُرَةَ، لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ»)، الإمارة مَنهي عن سؤالها، إلا في أحوالٍ خاصَّة، وما ذاك إلا أنَّ العبدَ المؤمن لا يُريد الرِّفعة لذاتِ الرِّفعَةِ، وإنما يُريدها تأييدًا لدين الله -عز وجل.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ»، أي: أُعطِيتَ الإمارة.
قوله: «وُكِلْتَ إِلَيْهَا»، أي: جعلك الله تعتمد على قدرتك، وحينئذٍ يكون الأمر عليك.
قوله: «وَإِنْ أُعْطِيتَهَا»، أي: كُلِّفتَ بها، وطُلبَ منكَ تولِّيها.
قوله: «عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا»، فإنَّ الله يُعينك عليها.
وفي هذا: الاستعانة بالله -عز وجل- ومشروعيَّة أن يعلِّق الإنسانُ قلبَه بربِّ العزَّة والجلال.
ثم قال: «وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ»، أي: أقسمَت بيمينٍ لتأكيد كلامك.
الإقسام على اليمين قد يكون على أمر ماضٍ، وقد يكون على أمرٍ مستقبل، ونحن نتحدَّث عن الأمر المستقبل، فقال: «وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيرَهَا خَيرًا مِنْهَا»، أي: أفضل وأحسن.
قال: «فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ»، أي: خير مما هو موجود عندك.
وبالتالي نعلم أنَّ اليمين لا ينبغي أن تُقدَّس حتى تَمْنع الإنسان مِن فِعل الخير؛ بل فيه طريق للخلاص منها وهو الكفَّارة، وكفارةُ اليمين مَذكورة في قوله تعالى: ï´؟فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ غ– فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ غڑï´¾ [المائدة:89].
وَفِي لَفظٍ للْبُخَارِيِّ: «فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِيْنِكَ»، هل يقدم التكفير أو الحنث؟
الظَّاهر أنه لا حرج في الأمرين، وكلاهما ورد في الخبر.
وَفي لَفْظٍ: «إِذَا حَلَفْتَ عَلى يَـمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا»، أي: أفضل وأحسن عند الله -جلَّ وعَلا.
قال: «فَكَفِّرْ عَنْ يَـمِينِكَ»، أي: ادفع كفارة اليمين بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة.
قال: «ثُمَّ ائْتِ الَّذِي هَوَ خَيْرٌ»، الخلاف الذي بين هذه الرِّواية والرِّواية التي قبلها أيهما يقدم؛ الحنث أو الكفارة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ، فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَهَذَا لَفْظُهُ وَحَسَّنَهُ- وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَه وابْنُ حِبَّانَ، وَقَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْلَمُ أحَدًا رَفَعَهُ غَيرَ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَابَعَهُ أَيُّوبُ بنُ مُوسَى عَنْ نَافِعٍ)}.
أيوب السختياني مرَّةً يرفع هذا الخبر، ومرة يقف فيه، وبالتَّالي وقع التَّردُّدُ في إسناد هذا الخبر، والجمهور على أنَّ هذا الخبر جيد الإسناد، ولكن بعضهم حَكَمَ بأنَّه مَوقوف وليس مَرفوعًا.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ، فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ»، فيه أنَّ الاستثناء مِنَ اليَمين مُؤثِّر ونافع.
وقوله: «فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ»، أي: لا تجب عليه كفارة اليمين.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (كِتَابُ اللِّعَانِ
عَنْ سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، قَالَ: سُئِلْتُ عَنِ المتلاعِنَينِ فِي امْرَأَةِ مُصْعَبٍ، أَيُفَرَّقُ بَينَهُمَا؟ فَمَا دَرَيْتُ مَا أَقُولُ، فَمضَيْتُ إِلَى مَنْزِلِ ابْنِ عُمَرَ بِمَكَةَ، فَقُلْتُ للغُلامِ: اسْتَأْذِنْ لي، قَالَ: إِنَّهُ قَائِلٌ، فَسَمِعَ صَوتِي، قَالَ: ابْنُ جُبَيرٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: ادْخُلْ فوَاللَّهِ مَا جَاءَ بَكَ هَذِهِ السَّاعَةَ إِلَّا حَاجَةٌ، فَدَخَلْتُ فَإِذا هُوَ مُفْتَرِشٌ بَرْذَعَةً، مُتَوَسِّدٌ وِسَادَةً حَشْوُها لِيفٌ، قُلْتُ: أَبَا عَبدِ الرَّحْمَنِ، الـمُتَلاعِنَانِ أيُفرَّقُ بَينَهُمَا؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ، نَعَمْ، إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فلَانُ بنُ فلَانٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ لَو وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأَتَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ، كَيفَ يَصْنَعُ؟ إِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتْ عَلَى مِثْل ذَلِكَ؟ قَالَ: فَسَكَتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ يُجِبْهُ، فَلَمَّا كَانَ بَعدَ ذَلِكَ أَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدِ ابْتُلِيْتُ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ النُّورِ: ï´؟وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْï´¾ [النور:6] فَتَلَاهُنَّ عَلَيْهِ وَوَعَظَهُ وَذَكَّرَهُ، وَأَخْبَرهُ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ منْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَقَالَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا كَذَبْتُ عَلَيْهَا، ثمَّ دَعَاهَا فَوَعَظَهَا وَذَكَّرَهَا، وأَخْبَرَهَا أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ منْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، قَالَتْ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنَّهُ لَكَاذِبٌ، فَبَدَأَ بِالرَّجُلِ فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّه لـَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةَ أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، ثمَّ ثنَّى بِالْمَرْأَةِ فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَـمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَالْخَامِسَة أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِيْنَ، ثمَّ فَرَّقَ بَينَهُمَا. رَوَاهُ مُسْلمٌ)}.
اللعان: قيل هي أيمان تكون بين الرجل وامرأته بعد قذف الرَّجلُ لامرأته، من أجل درء حد القذف عنه.
قال سعيد بن جبير: (سُئِلْتُ عَنِ المتلاعِنَينِ)، الزَّوج يتهم زوجته بفعل الفاحشة، فيتلاعنون ويُفرَّق بينهما.
قال: (سُئِلْتُ عَنِ المتلاعِنَينِ فِي امْرَأَةِ مُصْعَبٍ، أَيُفَرَّقُ بَينَهُمَا؟ فَمَا دَرَيْتُ مَا أَقُولُ، فَمضَيْتُ إِلَى مَنْزِلِ ابْنِ عُمَرَ بِمَكَةَ)، فيه مُراجعة أهل العلم، والتنقل من بلد إلى بلد مِن أجل مَسألة فقهيَّة واحدة.
قال: (فَقُلْتُ للغُلامِ: اسْتَأْذِنْ لي)، أي: على ابن عمر، وفيه الاستئذان قبل الدخول.
قال: (قَالَ: إِنَّهُ قَائِلٌ)، أي: قد نام نَومة الظُّهر.
قال: (فَسَمِعَ صَوتِي)، أي أن ابن عمر سمع صوت سعيد بن جبير.
قوله: (قَالَ: ابْنُ جُبَيرٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: ادْخُلْ فوَاللَّهِ مَا جَاءَ بَكَ هَذِهِ السَّاعَةَ إِلَّا حَاجَةٌ)، أي: هناك سبب يجعلك تقدم في مثل هذه الساعة.
قال: (فَدَخَلْتُ فَإِذا هُوَ مُفْتَرِشٌ بَرْذَعَةً)، البرذعة: هي ما يوضع على ظهر الدابة من حمارٍ ونحوه.
قال: (مُتَوَسِّدٌ وِسَادَةً حَشْوُها لِيفٌ، قُلْتُ: أَبَا عَبدِ الرَّحْمَنِ)، أبو عبد الرحمن هو عبد الله بن عمر.
قوله: (الـمُتَلاعِنَانِ أيُفرَّقُ بَينَهُمَا؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ، نَعَمْ)، أي: يُفرَّق بينهما.
قال: (إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فلَانُ بنُ فلَانٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ لَو وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأَتَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ، كَيفَ يَصْنَعُ؟ إِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتْ عَلَى مِثْل ذَلِكَ؟ قَالَ: فَسَكَتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ يُجِبْهُ)، أي: أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ينتظر الوحي.
قوله: (فَلَمَّا كَانَ بَعدَ ذَلِكَ أَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدِ ابْتُلِيْتُ بِهِ)، وفي هذا أن الإنسان لا يفرض الفروض الباطلة المزيفة، والمعنى: أنَّ الذي سألتك عنه قد وقع لي في أهل بيتي.
قال: (فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ النُّورِ: ï´؟وَالَّذِيْنَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْï´¾ [النور:6]، فَتَلَاهُنَّ عَلَيْهِ وَوَعَظَهُ وَذَكَّرَهُ)، تلا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الرجل الذي يُرلد منه اللعان.
قال: (وَأَخْبَرهُ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ منْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، فَقَالَ: لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا كَذَبْتُ عَلَيْهَا)، أي: لن يُثنيني كلامكَ عمَّا أنا عليه.
قال: (ثمَّ دَعَاهَا)، يعني دعا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المرأة.
قوله: (فَوَعَظَهَا وَذَكَّرَهَا، وأَخْبَرَهَا أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ منْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، قَالَتْ: لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنَّهُ لَكَاذِبٌ) كأنها تقول: لا تصدقه.
قوله: (فَبَدَأَ بِالرَّجُلِ)، أي: يطلب منه أيمان اللعان.
قوله: (فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّه لـَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةَ أَنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ).
هنا إشكال: هل اللعان شهادة أو يمين؟
موطن خلاف بينهم.
قال: (ثمَّ ثنَّى بِالْمَرْأَةِ)، فيه أنَّ الرجل هو الذي يُبدأ به في اللعان.
قال: (فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَـمِنَ الْكَاذِبِينَ، وَالْخَامِسَة أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِيْنَ، ثمَّ فَرَّقَ بَينَهُمَا).
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ عُمرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلمُتَلاعِنَيْنِ: «حِسَابُكُمَا عَلَى اللهِ، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لَا سَبِيْلَ لَكَ عَلَيْهَا» قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَالِي؟ قَالَ: «لَا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتُ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذَاكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ)}.
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للمتلاعنين: «حِسَابُكُمَا عَلَى اللهِ، أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ، لَا سَبِيْلَ لَكَ عَلَيْهَا»، هذا فيه موعظة الخصوم قبل الحكم، والنظر في قضاياهم، وفيه التذكير بمراقبة الله -جلَّ وعَلا- ومحاسبته للعبد على أعماله.
فقال الرجل: (يَا رَسُولَ اللهِ، مَالِي؟)، يعني لما انتهى اللعان، قال الرجل: أعطوني مالي الذي أعطيتها إيَّاه من مهرٍ ونحوه.
قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتُ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذَاكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا»، فيه أنَّ اللعان لا يُردُّ فيه المهر.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَلَهُ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: سَئَلْتُ أَنَسَ بنَ مَالكٍ -وَأَنا أُرَى أَنَّ عِنْدَهُ مِنْهُ عِلْمًا- فَقَالَ: إِنَّ هِلَالَ بنَ أُميَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بنِ سَحْمَاءَ، وَكَانَ أَخَا الْبَراءِ بنِ مَالكٍ لِأُمِّهِ، وَكَانَ أَوَّلُ رَجُلٍ لَاعَنَ فِي الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَلَاعَنَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْصِرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ سَبِطًا قَضِئَ الْعَينَيْنِ، فَهُوَ لهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْدًا حَمْشَ السَّاقَيْنِ، فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ» قَالَ: فَأُنْبِئْتُ أَنَّهَا جَاءَتْ بِهِ أكَحَلَ جَعْدًا حَمْشَ السَّاقَيْنِ)}.
قوله: (وَلَهُ)، يعني: للإمام مسلم.
قوله: (عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ)، يعني: محمد بن سيرين.
قَالَ: (سَئَلْتُ أَنَسَ بنَ مَالكٍ -وَأَنا أُرَى)، يعني: أظن وأعتقد.
قوله: (أَنَّ عِنْدَهُ مِنْهُ عِلْمًا)، فيه أنَّ الإنسان لا يَسأل إِلا مَن غَلَبَ عَلى ظَنِّه أنَّ ذلك المسؤول عِنده عِلم من المسألة.
فَقَالَ: (إِنَّ هِلَالَ بنَ أُميَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بنِ سَحْمَاءَ، وَكَانَ أَخَا الْبَراءِ بنِ مَالكٍ لِأُمِّهِ، وَكَانَ أَوَّلُ رَجُلٍ لَاعَنَ فِي الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَلَاعَنَهَا)، فيه جواز اللعان.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْصِرُوهَا»، أي: تابعوها بعد ولادتها.
قال: «فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ سَبِطًا قَضِئَ الْعَينَيْنِ»، أي: أن عيناه فاسدتان «فَهُوَ لهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ»
قال: «وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْدًا حَمْشَ السَّاقَيْنِ، فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ»، أي: الذي اتُّهِمَت به، فنظر إلى صفات البدن.
قوله: (فَأُنْبِئْتُ أَنَّهَا جَاءَتْ بِهِ أكَحَلَ جَعْدًا حَمْشَ السَّاقَيْنِ)، يعني على الوصف المكروه.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَرَ رَجُلًا -حِينَ أَمَرَ الـمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يَتَلاعَنا- أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ وَقَالَ: «إِنَّهَا مُوجِبَةٌ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ)}
هذا الحديث فيه وضع الأيدي بحيث لا تُحرَّك عن وجود اللعان، وقال: «إِنَّهَا مُوجِبَةٌ»، يعني: أنَّ هذه الخامسة مُوجبة للأثر المترتب على اللعان.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ شهَابٍ، عَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ: أَنَّ عُوَيـْمِرًا الْعَجْلَانيَّ أَتَى رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَسَطَ النَّاسِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ؟ أمْ كَيفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ نَزَلَ فِيْكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ، فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا» قَالَ سَهْلٌ: فَتَلَاعَنا، وَأَنا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا فَرَغَا -مِنْ تَلاعُنِهِما- قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ أَنَا أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتْ سُنَّةَ المتلاعِنَينِ، وَفِي رِوَايَةٍ: ذَلِكَ التَّفْرِيقُ بَينَ كُلِّ مُتَلَاعِنَينِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
أورد المؤلف هنا هذا الحديث وهو في الصحيحين (عنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ: أَنَّ عُوَيـْمِرًا الْعَجْلَانيَّ أَتَى رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَسَطَ النَّاسِ)، يعني: يسأله، وهذا سؤال مُلفت لوجود جمع الناس.
فَقَالَ: (يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ؟ أمْ كَيفَ يَفْعَلُ؟)، في هذا مشروعية القصاص في القتل.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ نَزَلَ فِيْكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ»، يعني: نزل قرانٌ يُتلَى.
قال: «فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا»، يعني: ائت بالمرأة.
قَالَ سَهْلٌ: (فَتَلَاعَنا)، أي: كلٌّ من الزوج والزوجة.
قال: (وَأَنا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ تَلاعُنِهِما قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ أَنَا أَمْسَكْتُهَا)، يعني: يريد أن يُطلقها.
قال: (فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتْ سُنَّةَ المتلاعِنَينِ).
هذه أحكام مما يتعلق باللعان، وما يترتب عليه من الآثار، ولعلنا نرجئ البحث في بعض آثاره لأيامٍ قادمة، بارك الله فيكم جميعًا، وفقكم لكل خير، وجعلنا الله وإيَّاكم مِنَ الهُداة المهتدين، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

احمد الصادق
2019-04-25, 13:55
الْمُحَرِرُ فِي الْحَديِثِ (4)
الدَّرسُ السَّابعُ (7)
معالي الشيخ / سعد بن ناصر الشثري
{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور: سعد بن ناصر الشَّثري. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
الله يبارك فيك، أهلًا وسهلًا، أرحبُ بك، وأرحبُ بأحبَّتي المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يرزقنا وإيَّاهم علمًا نافعًا، وعملًا صالحًا، ونيَّةً صادقةً.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- في باب "لَحَاقِ النَّسَبِ" من كتاب "المحرر" لابن عبد الهادي.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- أَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ عَليَّ مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ فَقَالَ: «أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَقَالَ: إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْدَامُ لَمِنْ بَعْضٍ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: أُتِيَ عَلِيٌّ بِثَلَاثَةٍ، وَهُوَ بِاليَمَنِ، وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلَ اثْنَيْنِ: أَتُقِرَّانِ لهَذَا بِالْوَلَدِ؟ قَالَا: لَا, حَتَّى سَأَلَهُمْ جَمِيعًا، فَجَعَلَ كُلَّمَا سَأَلَ اثْنَيْنِ قَالَا: لَا, فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالَّذِي صَارَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ ثُلُثَي الدِّيَةِ، قَالَ: فَذُكِرَ ذَلِكَ للنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ ماجَه، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حَزمٍ، وَابْنُ الْقَطَّانِ وَغَيرُهمَا، وَقَدْ أُعِلَّ, وَقَالَ أَحْمدُ: "هُوَ حَدِيثٌ مُنكَرٌ"، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: قَدِ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الحَدِيثِ فاضْطَرَبُوا، وَرَوَاهُ الْحُمَيدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَفِيه: وَأَغْرَمَهُ ثُلُثَي قِيمَةِ الْجَارِيَةِ، وَقَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا. وَاللهُ أَعْلَمُ)}.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
فإنَّ الشَّريعة المباركة تحرصُ على إيجاد الرَّوابط التي تكونُ بينَ النَّاس، لتكون سببًا من أسبابِ تعاونهم، وقيامِ بعضهم مع بعضهم الآخر، ولذا قال تعالى: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواï´¾ [الحجرات: 13]، وقد جاء بإثباتِ الأنسابِ التي يترتَّب عليها كثيرٌ من الأحكامِ، سواءً فيما يتعلَّق بالمحرميَّة، أو ما يتعلَّق بالميراثِ، أو ما يتعلَّق بالكشف والولاية، ونحو ذلك مِن الأحكام، ومن هنا جاءت النُّصوص بالتَّحذيرِ من الانتسابِ إلى غير مَن يصح إليه الانتساب، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ملعونٌ من انتسب إلى غير آبائه» .
وإذا تقرَّرَ هذا فإنَّ الشَّريعة قد جعلت لإثبات الأنساب أبوابًا محدَّدةٌ، وهما: بابان يجمعهما شيءٌ واحد:
الباب الأوَّل: الفراش، فإذا كانت المرأة فراشًا للرجل يجوز له شرعًا وطؤها، فإنَّه يثبت نسب أولادها له، وهذا له وجهان:
* الأوَّل: الزَّواج، فإنَّ مَن تزوَّج بامرأةٍ ودخل بها، فإذا جاءت بولدٍ لستَّةِ أشهرٍ فما فوق فإنَّه يُنسب هذا الولد لصاحب الفراش، ويبقى هذا الفراش حتى بعد الوفاة وبعد الفرقة التي بين الزَّوجين، وقيل إنَّ هذا يثبت إلى أكثر مدَّة الحمل على اختلاف بين الفقهاء في تقدير مدَّة أكثر الحمل.
* الثَّاني: الإماء، فإذا كان عند الرَّجل أمة مملوكة يتسرَّاها؛ فإنَّة حينئذٍ يثبت النَّسب لولد تلك الأمة لسيدها، وهناك أحكام تفصيليَّة في مثل ذلك.
الباب الثَّاني: الوطء بشبهةٍ؛ فإذا كان هناك وطءٌ من الرَّجل لامرأة بشبهةٍ يظنُّ أنَّه يحلُّ له وطؤها؛ فإنَّه يثبت النَّسب حينئذٍ.
ومن أمثلة ذلك: ما لو دخل على امرأةٍ يظن أنها زوجته فوطئها فحملت منه؛ فحينئذٍ نقول: إنَّ هذا وطء بشبهةٍ، وبالتَّالس يثبت به النَّسب.
وإثبات الفراش يكون بالبيِّنة المعدَّة لها شرعًا؛ فمتى شهد اثنان بأنَّ هذه المرأة فراش لفلان ثبت به النَّسب.
وقد يسأل إنسان عن تطبيق الأشياء الجديدة فيما يتعلَّق بإثبات النَّسب، ومن ذلك تحليل الدم لمعرفة نوع الفصائل، ومعرفة الجينات، والكروموسومات، وتحليل ما يسمونه بـالحمض النَّووي (dna) ومثل هذا لا يُستَعمَل إلا عند وجود اللَّبسِ، أمَّا إذا كانت المرأة فراشًا لرجلٍ؛ فالأصل إثبات النَّسب، ويدلُّك على ذلك أنَّ الرجل قد يطأ امرأة بزنا؛ فالشَّرع لا يثبت النَّسب في هذه الحال، لأنَّ الوطء لم يكن لامرأة هي فراش للرجل ولا شُبهة في ذلك الوطء، ومع أنَّ هذا الولد تكوَّنَ من ماء ذلك الرَّجل إلا أنَّه شرعًا لا يُنسَب إليه.
إذا تقرَّرَ هذا؛ فإنَّه عند وجودِ شكٍّ أو شُبهةٍ، أو إذا كان الرَّجل قد جاءه الشَّيطان وبدأ يستجيب له في اتِّهام المرأة؛ فحينئذٍ إذا طَلبَ الزَّوجان إجراء التَّحليل ليورثهما القناعة، وليوقف ما قد يكون من لعانٍ ونحوه؛ فهذا لا بأسَ به، وبه يطمئن كلٌّ من الزَّوجين وتستقر الحلة الزَّوجيَّة.
هناك طريقان ذكرا في هذه الأحاديث:
أولهما: طريق القَافة، وهؤلاء القافة يعرفون تشابه أعضاء البدن ما بين شخصٍ وآخر، وعندهم من الدِّقة في النَّظر ومعرفة الفروق ما يجعلهم يعرفون الأقدام المتقاربة، وقد يحكمون بأنَّ هذين الشَّخصين بينهما قرابة أبوَّة أو قرابة أخوَّة أو نحو ذلك، ولا زال هؤلاء إلى وقتٍ قريبٍ ونحن نعرفهم، ولهم أشياء غريبة عجيبة يعرفون بها خصائص بعضَ النَّاس.
ووجدنا في وقتنا الحاضر مَن يتمكن من الكشف على الآخرين بمعرفة أقدامهم وبفحصها، فإذا كان ذلك في الكشف الطبِّي؛ فلا يبعد أن يكون مثله في معرفة الأثر ومعرفة وجه القرابة.
والقول بإثبات النَّسب بناء على القَافة هو قول جماهير أهل العلم، ويستدلُّون عليه بحديث عائشة المتفق عليه.
قالت عائشة: (إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ عَليَّ مَسْرُورًا)، وسروره وغطبته دليلٌ على إقرار الحكم الآتي، وهو إثبات النَّسب بناء على القافة.
قالت: (تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ)، وفي هذا سرور المؤمن بالخير، وبإزالة الإشاعات الكاذبة، فإنَّ الإشاعات الكاذبة يتبنَّاها النَّاس الذين تضعف ديانتهم، وبالتَّالي يبدؤون يطعنون في فلانٍ وفلانٍ، وكان زيد بن حارثة ذا سحنةٍ قريبةٍ من البياضِ، ولكنَّه تزوَّج بأم أيمن مرضعة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكانت سوداء، فجاءت له بأسامة بن زيد وكان أسامة أسودًا، ولذلك تكلَّم مَن تكلَّم في نسبِ أسامة بن زيد، وبدأ بعضُ المنافقين يطعن فيه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من جهةِ نسبه لاختلاف اللون بينه وبين أبيه، فجاء مجزز المدلجي، وهو ممَّن يُعرَف بقصِّ الأثرِ وله خبرة في القيافة؛ فقال: (إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْدَامُ لَمِنْ بَعْضٍ)، يعني أنها شبيه بعضها ببعضها الآخر؛ وكانوا قد وضعوا رداءً يغطي وجوههما، وكانت أقدامهم فقط هي البادية الظَّاهرة لمن يشاهدهم.
فقال مجزِّز: (إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَقْدَامُ لَمِنْ بَعْضٍ)، وهذا فيه إشارة إلى وجود الشَّبه الكبير بينَ هذه الأقدام.
وأخذ جمهور العلماء من هذا أنَّ مَن خفيَ نَسبُه ولم يُعرَف فراشه فلا بأسَ أن يُعتَمدَ على قولِ القافة فيه.
ثم أورد المؤلِّف حديث زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وهو حديث قد صحَّحه جماعة، وأعلَّه آخرون، وسبب الإعلال: أنَّ إسناده قد وقعَ الاختلاف فيه والاضطراب، فمرَّة يروونه عن الشَّعبي عن عبد خير عن زيد بن أرقم، ومرة يروونه عن الشَّعبي عن عبد الله بن أبي الخليل عن زيد بن أرقم، ومرة عن عبد الله بن الخليل عن علي موقوفًا؛ ولذلك تكلَّمَ كثيرٌ من أهل العلم في هذا الإسناد فقالوا: إنَّه إسنادٌ مضطرب، ولم يقع اتِّفاق على اسم راويه بينَ بين الرُّواة. ولذلك قال الإمام أحمد: "هو حديثٌ منكرٌ". ولعلَّه قد وصل إلى مَن بعدَه طرائق وأسانيد تُظهر الإسناد الصَّحيح في هذا الخبر.
ثم قَالَ: (أُتِيَ عَلِيٌّ بِثَلَاثَةٍ، وَهُوَ بِاليَمَنِ)، كان علي في اليمن، وكان له ولاية قضاء بأمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ)، الظَّاهر أن ذلك كان بشبهةٍ، أو كانوا قبل الإسلام.
قال: (فَسَأَلَ اثْنَيْنِ: أَتُقِرَّانِ لهَذَا بِالْوَلَدِ؟ قَالَا: لَا, حَتَّى سَأَلَهُمْ جَمِيعًا), في هذا دلالة على أنَّ إقرار الوالد بنسبِ ابنه يثبتُ به النَّسب، خصوصًا إذا لم يوجد له منازع.
قال: (فَجَعَلَ كُلَّمَا سَأَلَ اثْنَيْنِ قَالَا: لَا. فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ)، وفيه دلالة على جوازِ استعمال القرعة عند الاختلاط في الأنساب، وبذلك قال الجمهور خلافًا للحنفيَّة.
قال: (فَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالَّذِي صَارَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ)، أي: الذي سقطت عليه القرعة.
قال: (وَجَعَلَ عَلَيْهِ ثُلُثَي الدِّيَةِ)، وذلك لأنَّ هذا الولد يدَّعيه ثلاثة، وبالتَّالي لو كان له دية لثبتت للثَّلاثة جميعًا، لكلِّ واحدٍ منهم ثلث ديةٍ، فلمَّا أخذَ أحدُ الثَّلاثة الولد كان للاثنين الباقين ثلث الدية لكل واحد منهم، بحيث يدفع الأول لكل واحدٍ من الاثنين ثلث الدِّية.
قال: (فَذُكِرَ ذَلِكَ للنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَضَحِكَ)، فيه نقل الأخبار العامَّة، وفيه أنَّ النَّبي قد يُقر على الأحكام بسكوتِهِ وعدمِ اعتراضه.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كِتَابُ العِدَدِ
عَنْ قَبِيْصَةَ بنِ ذُؤَيْبٍ، عَنْ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ قَالَ: "لَا تُلْبِسُوا عَلَيْنَا سُنَّةَ نَبيِّنَا، عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ، إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا سَيِّدُهَا، أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ". رَوَاهُ أَحْمدُ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ ماجَه, وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ"، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: قَبِيصَةُ لمْ يَسْمَعْ منْ عَمْرٍو, وَالصَّوَابُ : "لَا تَلْبِسُوا عَلَينا دِيْنَنَا"، مَوْقُوفٌ، وَفِي قَوْلِهِ نَظَرٌ.
وَعَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّ سُبِيْعَةَ الأسْلَمِيَّةِ نُفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوجِهَا بِليَالٍ فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فاسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ تَنْكِحَ، فَأَذِنَ لَهَا فَنَكَحَتْ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ .
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "أُمِرَتْ بَرِيرَةُ أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَقَدْ أُعِلَّ .
وَعَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ -رَضِيَ اللهَ عَنْها- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الـمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا, قَالَ: «لَيْسَ لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةٌ» .
وَعَنْ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، زَوْجِي طَلَّقَنِي ثَلاثًا وَأَخَافُ أنْ يُقْتَحَمَ عَليَّ، قَالَ: فَأَمَرَها فَتَحَوَّلَتْ. رواهُمَا مسْلمٌ .
وَعَنْ فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكِ بنِ سِنَانٍ، وَهِي أُخْتُ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَسْأَلُهُ أَنْ تَرجِعَ إِلَى أَهْلِهَا فِي بَني خُدْرَةَ، وَأَنَّ زَوجَهَا خَرجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ أَبَقُوا حَتَّى إِذا كَانَ بِطَرَفِ الْقَدُومِ لَحِقَهُم فَقَتَلُوهُ, قَالَتْ: فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي، فَإِنَّ زَوْجِي لم يَتْرُكْ لِي مَسْكَنًا يَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةً, قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ» قَالَتْ: فَانْصَرَفْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ -أَو فِي الْمَسْجِدِ- نَادَانِي رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- -أَو أَمَرَ بِي، فَنُودِيتُ لَهُ- فَقَالَ: «كَيْفَ قُلْتِ؟» قَالَتْ: فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ الَّتِي ذَكَرْتُ لَهُ مِنْ شَأْنِ زَوجِي، قَالَ: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ», قَالَتْ: فاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أرسَلَ إِلَيَّ فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ ماجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَهَذَا لَفْظُهُ وَصَحَّحَهُ, وَكَذَلِكَ صَحَّحَهُ الذُّهْلِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ الْقَطَّانِ وَغَيرُهُم، وَتَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ حَزْمٍ بِلَا حُجَّةٍ .
وَعَنِ ابْنِ جَريْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابرَ بنَ عَبدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: طُلِّقَتْ خَالَتِي فَأَرَادَتْ أَنْ تَجُدَّ نَخْلَها فَزَجَرَها رَجُلٌ أَنْ تَخْرُجَ, فَأَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: «بَلَى فَجُدِّيْ نَخْلَكِ، فَإِنَّكِ عَسَى أَنْ تَصَّدَّقِيْ أَوْ تَفْعَلِيْ مَعْرُوفًا» رَوَاهُ مُسْلمٌ .
وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَّا ثَوْبَ عَصَبٍ، وَلَا تَكْتَحِلُ، وَلَا تَمَّسُ طِيْبًا إِلَّا إِذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ.
وَلَأبي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ: «وَلَا تَخْتَضِبُ» وَللنَّسَائِيِّ «وَلَا تَمْتَشِطُ»)}.
هذه الأحاديث التي ذكر المؤلف في كتاب العِدَدِ.
والمراد بالعدَّة: مدَّة الانتظار.
والنِّساء ذوات العدد على أنواع متفرقة:
أولًا: الحامل: عدَّتها بوضع حملها.
ثانيًا: المتوفَّى عنها غير الحامل تعتدُّ بأربعة أشهرٍ وعشرًا، لقول الله -عزَّ وَجلَّ: ï´؟وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًاï´¾ [البقرة: 234].
ثالثًا: المطلَّقة غير الحامل ذات القروء، فعدَّتها بثلاثة قروء.
رابعًا: المطلَّقة التي ليست بحاملٍ وليست من ذوات الأقراء، فعدتها بثلاثة أشهر.
خامسًا: المرأة التي ارتفعَ حيضُها بسببٍ لا تعلم ما هو، فإنَّها تنتظر سنةً كاملة.
هذا ملخَّص أحكام العدد، وقد ذكر المؤلف عددًا من الأحكام المتعلقة بهذا.
أولها: ما رواه قَبِيْصَةُ بنِ ذُؤَيْبٍ، عَنْ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ قَالَ: (لَا تُلْبِسُوا عَلَيْنَا سُنَّةَ نَبيِّنَا)، يعني لا تخلطوا علينا بحيث لا نميِّز سنَّة نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ)، أم الولد هي التي وطئها سيدها فجاءت منه بولدٍ، والولد يُنسَب للسَّيدِ، وهو من أولاده؛ لأنَّها فراشٌ للسَّيد، ولكن أمه تبقى كونها مملوكة حتى يموت السَّيد، فإذا مات لزمتها العدَّة وتصبح حرَّة، وليس لها من الميراث شيءٍ.
قال: (عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا سَيِّدُهَا، أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ)، فماثل بين عدَّة أم الولد وعدَّة الزوجة المتوفَّى عنها غير الحامل، وكما هو منطوق الآية التي ذكرت قبل قليل.
وأمَّا الأمة المملوكة فإنَّها تعتدُّ بنصف عدَّة الحرَّة، فتعتدُّ بشهرين وخمسة أيام.
ثم أورد الكلام في إسناد الخبر فقال: (وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ)، وقال إن الدَّاقطني شكَّ في سماع قبيصةَ من عمرو بن العاص، وقال: إن الصَّواب أنَّ هذا اللفظ موقوف على الصَّحابي، وليس مرفوعًا للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال المؤلف: (وَفِي قَوْلِهِ نَظَرٌ)، كأنه لم يُسلِّم بقول الدارقطني.
ثم أوردَ المؤلف حديث المِسْوَر بْنِ مَخْرَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (أَنَّ سُبِيْعَةَ الأسْلَمِيَّةِ نُفِسَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوجِهَا بِليَالٍ)، يعني لم توفي زوجها ولدت بعده بليالٍ قريبةٍ.
قال: (فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، أي تساله وتستفتيه، وفيه جواز سؤال العالم واستفتائه.
قال: (فاسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ تَنْكِحَ)، أي تتزوج، وكأنها تقول: هل لا زلتُ في العدَّة أو لا؟
قال: (فَأَذِنَ لَهَا فَنَكَحَتْ)، وفي هذا دلالة على أنَّ ذات الحمل انتهاء عدَّتها يكون بوضع الحمل، ولو وضعته في أيامٍ قليلة بعد وفاة الزَّوج.
وفي هذا دلالة على أنَّ قوله -عزَّ وَجلَّ: ï´؟وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّï´¾ [الطلاق: 4]، غير مخصوص بالآية الأخرى التي في قوله: ï´؟وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًاï´¾ [البقرة: 234].
قال: (فاسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ تَنْكِحَ، فَأَذِنَ لَهَا)؛ لأنَّها قد انتهت عدتها.
ثم أورد من حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قالت: (أُمِرَتْ بَرِيرَةُ أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ)، بريرة مملوكة وزوجها مملوك، فأُعتقَت بريرة، وكما تقدَّم أنَّ المملوكة إذا أُعتقَت يكون لها الخيار بأنْ تبقى على زوجيتها مع زوجها المملوك أو لها فسخ العقد، وفسخ العقد يترتَّب عليه أنَّ المرأة عليها عدَّة، مثل فسخ عقد الزوجيَّة ومسائل الخُلع، فالمفارقة في الخُلع عِدَّتُه مِن ظاهر هذا الخبر ثلاث حِيَض، وظاهر إسناد الخبر أنَّه إسناد جيد قوي.
وإذا قال الصَّحابي "أمرنا" أو "أمرت" فإنَّه يُحمَل على أمر النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهذا فيه دلالة أنَّ مَن فُسِخَ نكاحها تعتدّ بثلاث حِيَضٍ، وهذا قول الحنابلة والشَّافعيَّة وجماعة.
وبعض أهل العلم قال: يكفيها حيضة واحدة، لأنَّ المقصود التحقُّق من براءة الرَّحم، وقد حصلَ لها ذلك. ولكن لازال الناس على القول بأنها تعتد بثلاث حيض.
ثم أورد المؤلف من حديث الشَّعبي عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ -رَضِيَ اللهَ عَنْها-، وفاطمة بنت قيس طُلِّقَت ثلاثًا على عهد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال لها النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةٌ»، فهنا نفى أن يكون لها سُكنَى بعدَ الطَّلاق، وهذا في المطلَّقة ثلاثًا.
فإذا طُلِّقَت المرأة ثلاثًا:
قال أحمد: ليس لها سُكنَى ولا نفقة.
وقال أبو حنيفة: لها سكنى ونفقة، لعموم آيات المطلَّقات، وقال: إنَّ الخبر السَّابق خبر آحاد، فلا يصح أن يخصص به اللفظ القرآني.
وبعضهم قال: يكون لها السُّكنَى ولا يكون لها النَّفقة.
ولعلَّ القول الأوَّل أظهر، لأنَّه ظاهر هذا الحديث، وفي هذا نفي أن يكون للمطلَّقةِ ثلاثًا سُكنَى أو نفقة على الزَّوج.
ثم أورد المؤلف من حديث عروة عن فاطمة بنت قيس -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قالت: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، زَوْجِي طَلَّقَنِي ثَلاثًا)، استدلَّ به من يقول بجواز إيقاع الطَّلقات الثَّلاث في لحظةٍ واحدةٍ كما هو مذهب الإمام الشَّافعي.
وفيه أيضًا نفي السُّكنَى والنَّفقة، وقد تقدَّمَ أنَّ الحنفيَّة يُخالفون، وأنَّ المالكيَّة والشَّافعيَّة يُثبتون لها السُّكنَى ولا يُثبتون لها النَّفقة، وهناك بعض فقهاء بعض فقهاء الظَّاهريَّة عَكَسَ.
قالت: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، زَوْجِي طَلَّقَنِي ثَلاثًا، وَأَخَافُ أنْ يُقْتَحَمَ عَليَّ)، يعني يأتيها لصوص يقتحمون البيت عليها، لأنَّها مطلَّقة وليس عندها رجل.
قَالَ: (فَأَمَرَها فَتَحَوَّلَتْ)، يعني تحوَّلت من مكانٍ إلى مكانٍ آخر خشيةً من أن يُقتَحَمَ عليها.
بعض الفقهاء استدلَّ بهذا الحديث على إيقاع الطَّلقات الثَّلاث بلفظٍ واحدٍ، وهذا قول الجماهير خلافًا لبعضِ التَّابعين، وهو رواية عن أحمد باعتبار الطَّلقات الثلاث المجموعة في لفظٍ واحدٍ لا تُحتَسبُ إلَّا طلقةً واحدة.
وفي هذا دلالة على أنَّ المطلقة لا يجب لها السُّكنَى.
ثم أورد من حديث فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكِ بنِ سِنَانٍ، وَهِي أُخْتُ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَسْأَلُهُ أَنْ تَرجِعَ إِلَى أَهْلِهَا فِي بَني خُدْرَةَ)، بني خدرة قبيلة لهم مواطن، وذلك أنَّ الفريعة توفي زوجها، وقد فسَّرت ذلك فقالت: (وَأَنَّ زَوجَهَا خَرجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ أَبَقُوا)، يعني مماليك هربوا من عنده (حَتَّى إِذا كَانَ بِطَرَفِ الْقَدُومِ)، القدوم مكان يجلسون فيه.
قالت: (لَحِقَهُم فَقَتَلُوهُ)، يعني أنه وجدهم في هذا المكان، فتمكَّنوا من قَتْلِ سيِّدهم.
قَالَتْ: (فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي)، الآن هي متوفَّى عنها زوجها، وفيه دلالة على أنَّ الأصل أنَّ المتوفَّى عنها أن تبقَى في بيت الزَّوجيَّة، ولا يجوز لها أن تخرج منه.
قالت: (فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي)، يعني أترك واجب المكث في البيت وقت الإحداد.
قالت: (فَإِنَّ زَوْجِي لم يَتْرُكْ لِي مَسْكَنًا يَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةً, قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ»، قَالَتْ: فَانْصَرَفْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ -أَو فِي الْمَسْجِدِ- نَادَانِي رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- -أَو أَمَرَ بِي، فَنُودِيتُ لَهُ- فَقَالَ: «كَيْفَ قُلْتِ؟» قَالَتْ: فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ الَّتِي ذَكَرْتُ لَهُ مِنْ شَأْنِ زَوجِي، قَالَ: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ»)، فيه إيجاب أن تبقى المتوفَّى عنها في بيت الزَّوجيَّة بعدَ وفاةَ زوجها حتى تنتهي عدَّتُها.
قَالَتْ: (فاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)، لأنَّها متوفَّى عنها غير حاملٍ، فتعتد أربعة أشهرٍ وعشرًا.
قَالَتْ: (فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أرسَلَ إِلَيَّ فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ)، أي اتبع ذلك وقضى به عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وفي هذا دلالة على أنَّ المتوفَّى عنها تعتدّ بأربعة أشهرٍ وعشرة أيَّامٍ.
وفيه: إرسال القُضاة وأصحاب الولاية للنَّاس من أجلِ أن يبلِّغوهم بالأحكام، وهذا يستفاد من قولها: (فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أرسَلَ إِلَيَّ)، فهذا هو ظاهر هذا الخبر.
{قال المؤلف: (عَنِ ابْنِ جَريْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابرَ بنَ عَبدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: طُلِّقَتْ خَالَتِي فَأَرَادَتْ أَنْ تَجُدَّ نَخْلَها فَزَجَرَها رَجُلٌ أَنْ تَخْرُجَ, فَأَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: «بَلَى فَجُدِّيْ نَخْلَكِ، فَإِنَّكِ عَسَى أَنْ تَصَّدَّقِيْ أَوْ تَفْعَلِيْ مَعْرُوفًا» رَوَاهُ مُسْلمٌ)}.
هذا الحديث مِن رواية ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر، وابن جريج يُتهم بالتَّدليس، مثله أبو الزُّبير، ولكنَّهم صرَّحوا هنا بالسَّماع، فيكون الخبر صحيحًا متَّصلًا.
قال: (طُلِّقَتْ خَالَتِي فَأَرَادَتْ أَنْ تَجُدَّ نَخْلَها)، يعني: تقطع عذق النخل بعد نضج التمر على النخل.
قال: (فَزَجَرَها رَجُلٌ أَنْ تَخْرُجَ)، يقول لها: كيف تخرجين وأنتِ ما فارقتِ زوجكِ إلَّا قريبًا.
قال: (فَأَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: «بَلَى فَجُدِّيْ نَخْلَكِ»)، أي: اقطعي عذقه بحيث تأخذين تمرته، وذلك لأنَّها مطلَّقة، والمطلَّقة ليس عليها حداد بخلاف المتوفَّى عنها.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّكِ عَسَى أَنْ تَصَّدَّقِيْ أَوْ تَفْعَلِيْ مَعْرُوفًا»، أي تتمكَّني من الصَّدقة بذلك العذق.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَّا ثَوْبَ عَصَبٍ، وَلَا تَكْتَحِلُ، وَلَا تَمَّسُ طِيْبًا إِلَّا إِذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ».مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ, وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ. وَلَأبي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ: «وَلَا تَخْتَضِبُ» وَللنَّسَائِيِّ «وَلَا تَمْتَشِطُ»)}.
هذا الحديث فيه حكمان:
الأول: أنَّ المرأة المحادَّة تُحادُّ أربعةَ أشهر وعشرة أيام، ولا يجوز لها أن تُحادَّ إلا على الزَّوجٍ، وأمَّا مَن عدا الزَّوج فإنَّه لا تُحادَّ عليه أكثر من ثلاثة أيَّام.
الثَّاني: هو وجوب الإحداد على المتوفي عنها في وقت العدَّة.
ويجمع الإحداد ثلاثة أشياء:
- الزِّينة.
- الطِّيب.
- الخروج من المنزل.
فالمرأة المحادَّة لا تفعل هذه الأشياء، وقد مثَّلَ لها في قوله: «لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا»، لأنَّ هذا من الزِّينة والجمال، والمرأة المُحادَّة منهيَّة عن التَّزيُّن والجمال.
قال: «وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلَّا ثَوْبَ عَصَبٍ»، ثياب العصب هي نوع من أنواع الثِّياب أو البُرود اليمانيَّة، ومن خاصِّيتها أنَّ اللون فيها من ذاتِ قِماشها وصُوفها، وليست ممَّا صُبِغَ.
قال: «وَلَا تَكْتَحِلُ»، الكُحل نوعٌ من أنواعِ الزِّينة المنهيَّة عنها المحادَّة.
قال: «وَلَا تَمَّسُ طِيْبًا»، "طيب" هنا نكرة في سياق النَّفي، فتفيد أنَّه لا يجوز لها أن تمسَّ شيئًا من الطِّيب ولو كانَ قليلًا.
قال: «إِلَّا إِذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ»، القسط والأظفار نوعٌ من أنواعِ الطِّيب، وفي الغالب أنَّهم يُبخِّرونَ به أهلَ البيتِ والنِّساء والأطفال ونحو ذلك.
والنبذة: هي القطعة اليسيرة، وهذا فيه استثناءُ هذا الأمرِ بالنِّسبَة للمحادَّة، فما كان فيه روائح عطريَّة فإنَّ المرأة المحادَّة تُمنَع منه، وما فيه روائحٌ طيِّبَةٌ ونُكهٌ جيِّدةٌ ولكنَّها ليست روائحَ عطريَّة فإنَّها لا حرج عليها في استعماله، مثل رائحة البرتقال والتُّفاح ونحوه.
باركَ الله فيكَ ووفَّقكَ الله للخيرِ، وجزاكَ الله خيرًا، وأسألُ الله -جلَّ وعلا- للمشاهدين الكرام أن يُوفَّقوا، وأن يُعانُوا على الخير، وأن يَسعدوا في دنياهم وآخرتهم، وأن يُصلح الله ذَراريهم، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

احمد الصادق
2019-04-25, 13:55
الْمُحَرَّرُ فِي الْحَديِثِ (4)
الدَّرسُ الثَّامن (8)
معالي الشَّيخ/ سعد بن ناصر الشثري
{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور: سعد بن ناصر الشَّثري. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
باركَ الله فيكَ، أهلًا وسهلًا، أرحبُ بك، وأرحبُ بأحبَّتي المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يستعملنا وإيَّاهم في طاعته، وأن يبارك لنا ولهم في جميع أمورنا وشؤوننا.
{نستفتح في هذه الحلقة -بإذن الله- كتاب "الرَّضاع" من كتاب "المحرر" لابن عبد الهادي.
قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُحَرِّمُ المَصَّةُ وَالمَصَّتَانِ».
وعَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ منَ الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَعَنْها: أَنَّ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلِ بنِ عَمْرٍو جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ سَالماً مَوْلَى أَبي حُذَيْفَةَ مَعَنَا فِي بَيتِنا، وَقَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ وَعلِمَ مَا يَعْلَمُ الرِّجَالُ؟ قَالَ: «أَرْضِعِيْهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ». أَخْرَجَهَا مُسْلمٌ.
وَعَنْها قَالَتْ: دَخَلَ عَليَّ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعِنْدِي رَجُلٌ قَاعِدٌ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ؟ قَالَتْ: فَقَالَ: «انْظُرْنَ إِخْوَتَكُنَّ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ».
وَعَنْها: أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبي القُعَيسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا، وَهُوَ عَمُّها مِنَ الرَّضَاعَةِ، بَعْدَ أَنْ أُنْزِلَ الْحِجَابُ، قَالَتْ: فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرتُهُ بِالَّذِي صَنَعْتُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ عَليَّ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُرِيدَ عَلَى ابْنةِ حَمْزَةَ، فَقَالَ: «إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِيْ، إِنَّهَا ابْنةُ أَخِيْ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الرَّحِمِ»، وَفِي لفظٍ: «مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ.
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلَّا مَا فَتَقَ الأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ، وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ-، وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ أَوَّلَهُ.
وَعَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا رَضَاعَ إِلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ». رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: لمْ يُسْنِدْهُ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ غَيرُ الْهَيْثَمِ بنِ جَميلٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ حَافظٌ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: غَيْرُ الْهَيْثَمِ يُوقِفُهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، قُلْتُ: وَهُوَ الصَّوَابُ)}.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعدُ:
قول المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كِتَابُ الرَّضَاعِ).
المراد بالرَّضاع: رضْعُ حليب الآدميَّة، أمَّا إذا رضعَ من الحيوان فإنَّه لا ينتشر به تحريم.
وقد جاءت الشَّريعة بإثبات أثر الرَّضاع على التَّحريم، كما في قوله تعالى في عداد المحرمات: ï´؟وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِï´¾ [النساء: 23]، فهذا دلَّ على أن الرَّضاعة لها أثرٌ في التَّحريمِ.
والرَّضاعة ينتشر بها ما ينتشر بالقَرابة والمصاهرة من جهةِ التَّحريم، لذلك فإنَّ عددَ المحرمات بواسطةِ الرَّضاعة أحد عشر امرأة.
وإذا تقرَّرَ هذا فإنَّ الجماهير لا يشترطون أن يكون الحليب في الرَّضاع قد ثابَ عن حملٍ؛ً لأنَّ النُّصوص بإثبات المحرميَّة بالرَّضاع عامَّة.
والإمام أحمد يشترط أن يكونَ اللبن قد ثاب عن حملٍ.
وبعض النِّساء قد يُدرُّ لبنها مع أنَّها كبيرة أو صغيرة وليس لها أولاد، وذلك نتيجة للحنين الذي تجده عندها في صدرها تجاه هؤلاء الأطفال، وفي وقتنا الحاضر قد يوجد مَن يُعطي أدويةً تُدرُّ المرأة بها، فمثل هذا هل ينتشر به الرَّضاع أو لا؟
قال الحنابلة: لا ينتشر؛ لأنَّ الرَّضاع المعهود هو الرضاع الذي يعود على لبن ثاب من حمل.
والجمهور يقولون: يثبت به الرَّضاع.
وقول الجمهور أقوى من قول الحنابلة في هذه المسألة.
أورد المؤلف عددًا من الأحاديث؛ أولها فيما يتعلق بعددِ الرَّضاعات، كم مقدار الرَّضاعة المحرِّمَة، فقد ورد عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُحَرِّمُ المَصَّةُ وَالمَصَّتَانِ».
مفهوم هذا أنَّ الثَّلاث رضعات تُحرِّم.
ثم أورد من حديثها -رَضِيَ اللهُ عَنْها- أنَّها قالت: (كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ منَ الْقُرْآنِ: ï´؟عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَï´¾، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ).
هناك ثلاثة أقوال في عدد الرَّضعات المحرِّمات:
- ذهب مالك وأبو حنفية -رحمهما الله تعالى: أنَّ المُحرِّم وجود رضاع ولو كان رضعة واحدة، قالوا: والنصوص التي وردت بالتَّحريم مُطلقة، فلا يصح أن نقيدها بأخبار الآحاد هذه.
- وذهب الإمام أحمد والشَّافعي إلى أنَّ المحرِّم هو خمس رضعاتٍ كما هو حديث عائشة (كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ منَ الْقُرْآنِ: ï´؟عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَï´¾، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ).
وقولها -رَضِيَ اللهُ عَنْها: (وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ)، يعني أنَّ هذا من القراءة الشَّاذَّة التي روتها عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- والصَّحيح أنَّ القراءة الشَّاذَّة يُؤخذ منها حُكم، ولكن ليست من القرآن.
- والظَّاهريَّة يقولون: المُحرِّم ثلاث، لحديث عائشة: «لَا تُحَرِّمُ المَصَّةُ وَالمَصَّتَانِ»، فيفهم منه أنَّ الثَّلاث محرمات.
ولكن عندنا تصريح في الحديث الآخر بأنَّ المحرِّم خمسٌ، وعندنا مفهوم؛ فالمنطوق أقوى من المفهوم، ولذلك فإنَّ الأظهر هو القول بأنَّ المُحرِّم خمس رضعات، وهذه الخمس رضعات قد تكون في مجلسٍ واحدٍ، وقد تكون في مجالس مُتعدِّدَة.
وقوله: «لَا تُحَرِّمُ المَصَّةُ وَالمَصَّتَانِ»، فيه إشارة إلى اسم الواحد أو المفرد، وبالتَّالي إذا أخذَ الصَّبيُّ الثَّديَ فلَقِمَهُ فرضعَ، ثم تركَهُ لالتفات ونحوه؛ فحينئذٍ تُعدُّ رضعة تامَّة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْها: أَنَّ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلِ بنِ عَمْرٍو جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ سَالماً مَوْلَى أَبي حُذَيْفَةَ مَعَنَا فِي بَيتِنا، وَقَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ وَعلِمَ مَا يَعْلَمُ الرِّجَالُ؟ قَالَ: «أَرْضِعِيْهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ». أَخْرَجَهَا مُسْلمٌ)}.
قوله: (أَنَّ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلِ بنِ عَمْرٍو) زوجها أبو حذيفة.
قوله: (جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ سَالماً مَوْلَى أَبي حُذَيْفَةَ)، يعني: يدخل معهم في البيت ويخرج وكان صغيرًا.
قالت: (مَعَنَا فِي بَيتِنا، وَقَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ وَعلِمَ مَا يَعْلَمُ الرِّجَالُ؟)، فكان النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لهنَّ بوجوب أن يحتجبوا من الغلام، وفيه دلالة على أنَّ كون الرَّجل يُشاهد المرأة، أو شاهدها قبل التَّوبة، أو قبل الإسلام، أو لكونه كان زوجًا سابقًا لها؛ فهذا لا يعني أنَّها لا تحتجب منه، فلا تقول: إنه كان سابقًا يُشاهدني وسبق أن رآني وحفظ شكلي!
نقول: لا، هذا حكمٌ شرعيٌّ قد جاء في شريعة الله -جلَّ وعَلا.
قولها: (وَقَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ)، أي: وصل سنَّ البلوغ.
قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْضِعِيْهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ».
مسألة الرَّضاعة للكبير: هل ينتشر بها التَّحريم أو لا؟
لا يُتصوَّر أنَّ الكبير يلتقم الثَّديَّ مُباشرة، وهذا فيه دلالة على أنَّ الحليبَ قد وُضِعَ في إناء فشربَه، وفيه دلالة على أنَّه لا يُشترط في الرَّضاعة المحرِّمَة أن تكون الرَّضاعة مُباشرة.
وفي قوله: «أَرْضِعِيْهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ» دلالة لمذهبِ مَن يرى الاقتصار بإثبات التَّحريم بالرضعة الواحدة، ولكنَّ الصَّواب أنَّ ليسَ فيه دليل.
وقد استدلَّ بعضهم بالحديث على أنَّ الرَّضاعة لا يُشترط أن تكون من حليبٍ ثابَ عن حملٍ؛ فالظَّاهر أنَّ سهلة بنت سهيل لم تكن حاملًا ولم تضع مولودًا قريبًا، وبالتالي فإنَّ المحرمية تنتشر بالرَّضاعة ولو لم يكن هناك رضاعة مباشرة، ولو لم يكن هناك حليب ثابَ عن حملٍ.
يقول الجمهور: إنَّ الرَّضاع للكبير غيرُ مُؤثِّر، ولا تنتشر به المحرميَّة. واستدلوا على ذلك بعددٍ من الأدلة، ومنها قوله -عزَّ وَجلَّ: ï´؟الْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِï´¾ [البقرة: 233]، معناه: أنَّ بعدَ الحوليْنِ لا يثبت به حكم للرَّضاعة، وقوله -عزَّ وَجلَّ: ï´؟وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًاï´¾ [الأحقاف: 15].
الفصال هو: الرَّضاعة.
وقوله: ï´؟ثَلَاثُونَ شَهْرًاï´¾؛ لأنَّ أقل مدَّة الحمل ستَّةَ أشهرٍ، فلمَّا نحذفها يبقى أربعة وعشرون شهرًا، هي مدَّة الرضاع.
وبعض العلماء قال: إنَّ هذا الحديث خاصٌّ لسالم مولى أبي حذيفة.
وبعضهم قال: إنَّ هذا في أوَّل الإسلام، ثمَّ نُسِخَ، بدلالة الأحاديث الآتية.
متى يتوقَّف حدُّ الرَّضاعة المحرِّمَة؟
قال أحمد والشَّافعي: لسنتين، فاليوم الذي تنتهي فيه السَّنتان لم يعُد للرَّضاعة محرميَّة، فإذا رضَعَ بعد ذلك فلا تثبت المحرميَّة.
وقال الإمام مالك: يُتجاوز عن المدَّة اليسيرة كالشهر والشَّهرين.
وقال الإمام أبو حنيفة: له إلى السنتين وستَّة أشهر.
والأوَّلون يستدلُّون بحديث: «لَا رَضَاعَ إِلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ»، من حديث ابن عباس، ولكنَّ هذا الحديث قد تُكُلِّمَ فيه، وكثير من أهل العلم قال: إنَّ الصواب أنَّه موقوفٌ على ابن عباس، وليس مرفوعًا للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ويدل لمذهب الجمهور: الأحاديث التي ذكرها المؤلف هنا، من مثل قوله: «لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلَّا مَا فَتَقَ الأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ، وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ»، فهذا فيه دليل لمذهب الجمهور في ذلك.
وبالتَّالي يظهر رجحان مَن يقول: إنَّ رضاع الكبير لا ينتشر به التَّحريم.
وأورد المؤلف حديثًا آخرَ عن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قالت: (دَخَلَ عَليَّ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعِنْدِي رَجُلٌ قَاعِدٌ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ)، فيه تحريم ذلك عليه، وفيه تحريم دخول الرجال على النساء الأجانب، ولذلك اشتدَّ عليها.
قالت: (وَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ؟)، فيه إثبات المحرميَّة بطريق الأخوَّة إذا كان في الرَّضاعة.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْظُرْنَ إِخْوَتَكُنَّ مِنَ الرَّضَاعَةِ»، أي: تأكَّدنَ من ذلك.
قال: «فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ»، فيه دليل على أنَّ الرضاعة لا يثبت حكمها إلا للصَّغير، أمَّا الكبير فإنَّه لا يثبت حكمها.
وفي هذا أإيضًا: أنَّ المرأة تُصدَّق في دعوى الرَّضاعة متى كانت معروفة بالأمَانةِ والثِّقَةِ.
وعن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها: (أَنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبي القُعَيسِ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا)، يعني: يستأذن على عائشة.
قوله: (وَهُوَ عَمُّها مِنَ الرَّضَاعَةِ، بَعْدَ أَنْ أُنْزِلَ الْحِجَابُ، قَالَتْ: فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ)، يعني رفضتُّ وامتنعتُ خشيةَ أن يكونَ أجنبيًّا.
قالت: (فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرتُهُ بِالَّذِي صَنَعْتُ)، يعني: من منع أخي أبي القعيس، قالت: (فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ عَليَّ).
وفي الحديث:
- الاستئذان في الدُّخول حتى ولو على القرابة.
- وفيه هذا أنَّ الرضاعة تتعلق بلبنِ الفحلِ. وبالتَّالي ينتشر التحريم من قِبَل الزَّوج، كما ينتشر من قبلِ الزَّوجةِ.
وفي هذا أيضًا أنَّ الحجاب أمر مشروعٌ قد أمرَ الله -عزَّ وَجلَّ- به، وأنَّه في أوَّلِ الإسلامِ لم يكن هناك حجاب، ورُفع حكم ذلك.
قالت عائشة: (فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ)، فيه احتياط الإنسان في أمرِ عبادته لله -عزَّ وَجلَّ- ومن ذلك ما يتعلق بأمور المحارم.
قالت: (فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرتُهُ بِالَّذِي صَنَعْتُ)، يعني من منع أخي أبي القعيس.
قالت: (فَأَمَرَنِي أَنْ آذَنَ لَهُ عَليَّ)، فيه تسمية الفتوى أمرًا، وفيه رجوع المرأة إلى زوجها فيمَن يدخل عليها.
ثم أوردَ من حديثِ ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: (أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُرِيدَ عَلَى ابْنةِ حَمْزَةَ)، أي: طُلِبَ منه أن يتزوَّج من ابنة حمزة بن عبد المطلب عم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِيْ»، يعني: لا يجوز لي أن أتزوجَ بها.
قال: «إِنَّهَا ابْنةُ أَخِيْ مِنَ الرَّضَاعَةِ»؛ لأنَّه كان هناك رضاعة بين حمزة وبين النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبالتَّالي امتنع من الزَّواج بها.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ الرَّحِمِ»، وَفِي لفظٍ: «مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ»؛ فيه إثبات التَّحريم بناء على الرَّضاعة في الأصناف السَّبعة: "أمهاتكم، وبناتكم، وأخواتكم، وعماتكم، وخالاتكم، وبنات الأخ، وبنات الأخت".
هل يشمل هذا الأربع المحرمات في المصاهرة وهنَّ: "زوجة الأب، وزوجة الابنِ، وبنتُ الزَّوجة، وأم الزَّوجة"؟
نقول: الصَّواب أنَّه ينتشر التَّحريم في الرَّضاعة فيهنَّ، ويدلُّ على بعض النُّصوص الأخرى الواردة في هذا الباب. وفي هذا إثبات تحريم النِّكاح بناءً على الرَّضاعة.
وقوله «إِنَّهَا ابْنةُ أَخِيْ مِنَ الرَّضَاعَةِ»، فيه انتشار المحرميَّة بالرَّضاعة لابنة الأخ، وفي هذا أيضًا تقديم الشَّورى والرَّأي للإنسان من أجل أن يتزوَّج بالمرأة التي يرونَ أنَّها مُناسبة له.
ثم أوردَ حديث أم سلمة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلَّا مَا فَتَقَ الأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ، وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ»، وهذا في مسألة سنِّ الرَّضيع.
وذكرتُ لك أنَّ الرَّضاعة ثلاثة أنواع:
- قد تكون الرَّضاعة من قِبَلِ أمِّ الأوَّلِ.
- وقد تكونُ من قِبَلِ أمِّ الثَّاني.
- وقد تكونُ من أجنبيَّة.
فإذا كانت الرَّضاعة من أمِّ الأوَّلِ؛ فحينئذٍ هذا الأوَّل أجنبٌّي بالنِّسبة لبقيَّةِ إخوة الرَّاضع، والرَّاضع يكونُ أخًا لمن رضعَ معه وأخًا لإخوانه، وعمًّا لأبناء أخيه، وابنُ أخٍ لأعمامه.
وإذا كانت أجنبيَّة؛ فحينئذٍ لا ينتشر حكم التَّحريم إلا بينهما، وبقيَّة عائلتهم وأسرهم -أمه وأبوه وإخوانه- لا علاقة لهم بالتَّحريم، إنَّما التَّحريم في الرَّاضع وأبنائه.
وإذا كانت الرَّضاعة من أمِّ أحدهما؛ فحينئذٍ الرَّاضع من غيرِ أمِّه يكونُ قريبًا لقرابةِ تلك المراة المرضِعَة، ولكن قرابة الرَّاضع لا عَلاقة لهم بالحكم إلَّا في أبنائه.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلَّا مَا فَتَقَ الأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ»، وهذا لا يكون إلا للصغار. قال: «وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ».
وفي حديث ابن عباس: «لَا رَضَاعَ إِلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ»، وفيه الحكم الماضي فيما يتعلق بوقت الرَّضاعة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كِتَابُ النَّفَقَاتِ وَالحَضَانَةِ
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْـبَةَ امْرَأَةُ أَبي سُفْيَانَ، عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيْحٌ لَا يُعْطِيْنِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، فَهَلْ عَليَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيْكِ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسْلمٍ)}.
قوله: (كِتَابُ النَّفَقَاتِ).
المراد بالنَّفقات: التَّكفُّل بما يلزم الشَّخص من أمورٍ ماليَّة، سواء في ملبسه، أو في طعامه، أو في سُكناهُ، أو نحو ذلك من حوائجه.
والحضانة: هي ضمُّ الصَّغير والعناية به.
أوردَ المؤلف حديث عائشة في نفقات الزَّوجات والأبناء، قَالَتْ: (دَخَلَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْـبَةَ امْرَأَةُ أَبي سُفْيَانَ، عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ)، فيه استفتاء المرأة للمفتي، وأخذ الأحكام منه.
قالت: (إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيْحٌ)، هذه غِيبة، ولكن لَمَّا كانت في الاستفتاء الذي سيُبنَى عليه حكمٌ كان هذا مُستثنًى.
قالت: (لَا يُعْطِيْنِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ)، في هذا دلالة على أنَّ نفقة الزَّوجة بقدرِ كفايتها.
قالت: (إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ)، في هذا أخذ المرأة نفقتها ونفقة أبنائها من زوجها، إن علمَ فهو أولى، وإن لم يعلم أخذته ولو لم يعلم.
قالت: (فَهَلْ عَليَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جُنَاحٍ؟)، أي: إثم
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذِي مِنْ مَالِهِ»، يعني: من مال زوجها أبي سفيان.
قال: «بِالْمَعْرُوفِ»، أي: بحسبِ ما يتعارَف النَّاس على إنفاقه على الزَّوجات والأبناء.
وفي هذا الرُّجوع إلى العُرف لتحديد ما لم يرد تحديده وتقييده في الشَّرع ولا في اللُّغةِ.
قوله: «مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيْكِ»، في هذا دلالة على أنَّه إذا دفعَ الإنسان ما يكفي الأبناء أجزأ وكفاه ذلك.
وفي قوله: «خُذِي مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ» ارتباط النَّفقة بالكفاية، وفيه دلالة على أنَّ النَّفقة لا يشترط فيها التَّساوي، فالهبةُ والعطيَّةُ من الوالد لأولاده لابدَّ فيها من التَّساوي، ولكن بالنِّسبة لبابِ النَّفقات فإنَّه لا يُشترط فيه التَّساوي بينَ الأبناء؛ لأنَّ النَّفقة مبناها على الكفاية.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ طَارقٍ الـمُحَارِبيِّ قَالَ: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَإِذا برَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِمٌ عَلَى الـمِنْبَرِ يخْطُبُ النَّاسَ، وهُوَ يَقُولُ: «يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا، وَابْدَأ بِمَنْ تَعُولُ: أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ». رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: طَارِقٌ لَهُ حَدِيثَانِ رَوَى أَحَدَهُمَا رِبعيٌّ عَنْهُ، وَالْآخَرَ جَامِعُ بنُ شَدَّادٍ، وَكِلَاهُمَا مِنْ شَرْطِهِمَا، وَهَذَا الحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ جَامِعٍ عَنْهُ)}.
في الحديث الأول: نوعين من النفقات:
النَّوع الأوَّل: نفقات الزَّوجات؛ خاصِّيتُها أنَّها تجبُ ولو كان الزَّوجُ فقيرًا، وتجبُ ولو كانت المرأة غنيَّةً، فلا يشترط فيه فقر الزَّوجة، والنَّفقة فيها من جانب واحد، وهو من جانب الزَّوج على الزَّوجة.
النَّوع الثَّاني: نفقة الأصول والفروع -الأولاد والآباء- وهذه تجب مع وجود الحاجة، وتكون من الغني ِّ إلى الفقير المحتاج.
قال: (قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَإِذا برَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِمٌ عَلَى الـمِنْبَرِ يخْطُبُ النَّاسَ)، فيه مشروعيَّة وضع المنابر في المساجد وللخطبة، وفيه خطبة النَّاس ولو لم يكن يوم جمعةٍ.
وهُوَ يَقُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا»، فيه التَّرغيب في العطيَّة، وبيان أنَّ صاحبَها صاحب المقام الأعلى.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَابْدَأ بِمَنْ تَعُولُ»، أي: بمن يجب عليكَ أن تنفق عليهم ممَّن يعودون إليكَ، وتقوم بحوائجهم.
ثم قال: «أُمَّكَ وَأَبَاكَ»، فيه وجوب النَّفقة على الأقارب، الأصول والفروع وبقيَّة الأقارب.
متى تجب النَّفقة للأقارب؟
إذا قُدِّرَ أنَّ هذا القريب إذا مات سيعود ورثه عليك، ولذا قال الله -عزَّ وَجلَّ: ï´؟وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ غ– لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ غڑ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ غڑ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا غڑ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ غڑ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَظ°لِكَï´¾ [البقرة: 233]، إذن نفقة القريب في غير الأصول والفروع لا تجب إلا إذا كنتَ ستَرِث مَن تُنفق عليه إذا مات، ويترتَّب عليه أنَّه إذا وجبت نفقتكَ له لم يجُزْ أن تعطيَه من زكاة مالك.
أضربُ لذلك مثلًا: هل يجب عليكَ أن تنفق على أخيك؟
نقول: فيه تفصيل؛ إن كان هذا الأخ إن ماتَ ورِثْتَهُ وجبَ عليكَ أن تنفق عليه، وإذا ما مات لا تَرِثْه فلا يجب عليك نفقته، ويجوز أن تعطيه من زكاة مالك.
ما هي الأحوال التي لا ترثه فيها؟
إذا كان هناك أبٌ أو كان له أبناء ذكور.
ولذا قال: «وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ»، يجب عليك النَّفقة عليهم إذا قُدِّرَ أنَّك سترثهم إذا ماتوا.
قال: «ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ»، يعني الأقرب إليك فالأقرب.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ، وَلَا يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا يُطِيْقُ»)}.
هذا هو الصِّنف الرَّابع.
• الصِّنف الأوَّل: نفقات الزَّوجات.
• الصِّنف الثَّاني: نفقات الأصول والفروع.
• الصِّنف الثَّالث: نفقات القرابة من غير الأصول والفروع.
• الصِّنف الرابع: نفقات المماليك، فيجب على الإنسان أن يُنفق على مماليكه في أكلهم وفي لباسهم.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَا يُكَلَّفُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا يُطِيْقُ».
تبقى هناك نفقات البهائم التي يملكها الإنسان، فإمَّا أن يُنفق عليها، وإمَّا أن يُطلقها، وإمَّا أن يبيعها لمَن يُنفق عليها.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو: أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ ابْني هَذَا كَانَ بَطْني لَهُ وعَاءً، وثَدْيِي لَهُ سِقاءً، وحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي، وَأَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَهُ منِّي، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَهَذَا لَفْظُهُ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ)}.
قوله: (وَعَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ)، هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، فلما يقول عمرو بن شعيب: "عن أبي عن جدي" أبيه هو شعيب، وجده يحتمل أنَّه محمد، فيكون الخبر مُرسلًا، ويحتمل أنَّه جد شعيب -وليس جد عمرو- وبالتَّالي يكون المراد هو عبد الله بن عمرو، ولذلك ضعَّف بعض أهل العلم هذه السلسلة، ولكن الرِّواية التي عندنا تثبت أن شعيبًا روى عن جده هو -عبد الله بن عمرو بن العاص- وبالتَّالي تكون الأحاديث متَّصلة.
قال: (أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ)، فيه تقدُّم النِّساء للرجال في موضوع التَّقاضي والحضانة، وفيه أنَّ الحضانة تؤخذ بالأحكام الشَّرعيَّة، فمن جاءنا وقال: إنَّ أمور النساء تحكم فيها النساء وتقضي فيها النساء! قلنا: لم يكن هذا من شأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فقالت المرأة: (إِنَّ ابْني هَذَا)، يعني: الذي أمامهم.
قولها: (كَانَ بَطْني لَهُ وعَاءً)، يعني: وقت الحمل.
قالت: (وثَدْيِي لَهُ سِقاءً)، يعني: أنَّه كان يشرب من ثديها لَمَّا كان صغيرًا في الرَّضاع.
قالت: (وحِجْرِي لَهُ حِوَاءً)، يعني: إذا جاء أجلسته في حجرها.
قالت: (وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي)، يعني: والد هذا الغلام.
قالت: (وَأَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَهُ منِّي)، كأنَّها تريد أن يبقى عندي، وهذه الخصومة والنِّزاع في الحضانة.
فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي».
قال بعض أهل العلم: هذا على سبيل الفتوى.
وبعضهم قال: على سبيل القضاء، ولكن هناك شيء لم يُذكر، وهو أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استدعى والد الغلام فجاء إليهم فسأله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله: «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي»، فيه أنَّ الأم أحق بحضانة الولد.
وهناك من الصِّغار إلى التَّمييز، ومن التَّمييز إلى البلوغ، وعندنا شيء للذكور، وشيء للإناث.
نبدأ بالذُّكور:
- إلى السابعة: يكونُ الحق للأم في الحضانة.
- ما بين السابعة والبلوغ: ورد فيه أحاديث أنَّه يُخيَّر الصَّبيُّ فيها، وسيأتي في الحديث الذي يليه.
- بعد البلوغ: أصبحَ رجلًا، وبالتَّالي يجلس حيثُ يشاء، هنا أو هناك.
وهذا التَّقسيم ما لم يكن هناك مصلحة للغلام تخالف ذلك.
أمَّا بالنسبة للفتيات:
- ما دون السَّبع: تكون الحضانة عند الأم، فهي أعرف بها.
- ما بين سنِّ التمييز إلى سن البلوغ:
• قال بعضهم: تكون الحضانة للأب، لأنَّه أرعى لها.
• وبعضهم يقول: تكون الحضانة للأم.
• وبعضهم يقول: تُخيَّر كالغلام.
- ما بعدَ البلوغ: يكون حق الحضانة للأبِ.
قوله: «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي»، فيه دلالة على أنَّ حقَّ الأمِّ في الحضانة يُنزَع منها متى تزوَّجت.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي مَيْمُونَةَ قَالَ: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ أَبي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: فِدَاكَ أَبي وَأُمِّي، إِنَّ زَوجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْني وَقَدْ نَفَعَنِي وَسَقَاني مِنْ بِئْرِ أَبي عِنَبَةَ، فجَاءَ زَوجُهَا وَقَالَ: مَنْ يُخَاصِمُني فِي ابْنِي؟ فَقَالَ: «يَا غُلَامُ هَذَا أَبُوكَ وَهَذِهِ أُمُّكَ، فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ» فَأَخَذَ بِيَدِ أُمِّهِ، فَانْطَلَقَتْ بِهِ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَهَذَا لَفظُهُ، وَابْنُ ماجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ مُخْتَصَراً وَصَحَّحَهُ، وأَبُو مَيْمُونَةَ اسْمُهُ سُلَيمٌ، وَقِيْلَ: سَلْمَانٌ، وَهُوَ ثِقَةٌ)}.
قوله: (وَعَنْ أَبي مَيْمُونَةَ قَالَ: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ أَبي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فيه التَّقاضي عند النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَتْ له: (فِدَاكَ أَبي وَأُمِّي، إِنَّ زَوجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْني وَقَدْ نَفَعَنِي وَسَقَاني مِنْ بِئْرِ أَبي عِنَبَةَ)، هذه البئر معروفة بالمدينة جهة بدر.
وقولها: (وَقَدْ نَفَعَنِي)، أي: أصبح يقوم ببعض حوائجي.
قوله: (فجَاءَ زَوجُهَا)، يعني استُدعيَ الزَّوج وطُلبَ منه أن يأتي.
وَقَالَ الرجل: (مَنْ يُخَاصِمُني فِي ابْنِي؟)، يعني هذا ولدي، وأبغى ولدي يكون عندي.
فَخيَّر النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الغلام بين أبيه وأمِّه فقَالَ: «يَا غُلَامُ هَذَا أَبُوكَ وَهَذِهِ أُمُّكَ، فَخُذْ بِيَدِ أَيِّهِمَا شِئْتَ»، فأخذ بيد أمِّه فانطلقَت به.
لماذا خيَّرَ هذا الولد؟
بعض العلماء يقول: لأنَّه غلامٌ ناضج، ويفهم الأمور.
وبعضهم يقول: هذا التَّخيير من سنِّ التَّمييز إلى سنِّ البلوغ، ولعل هذا القول هو الأظهر.
وفي الحديث: المخاصمة بينَ الزَّوجين فيما يتعلق بأمور الحضانة.
إذن؛ هذه أحكام من أحكام الحضانة، وبيَّنَّا أقوال أهل العلم في المسائل الفقهيَّة التي تتضمَّنها هذه الأحاديث.
ولعلنا نُرجئ كتاب الجنايات ليومٍ آخر، فهو موضوع مستقل، ولا يُناسب أن نضعه مع الأبواب المتعلقة النَّكاح وتوابعه.
أسأل الله -جلَّ وعلا- أن يوقفنا وإيَّاكَ لكلِّ خيرٍ، وأن يجعلنا وإيَّاك من الهداة المهتدين، كما أسأله سبحانه أن يرضَى عنَّا جميعًا رضًى لا يسخط بعده أبدًا، وأسأله -جلَّ وعَلا- صلاحًا لأحوال المسلمين، واستقامةً لأمورهم، وألفةً بينَ قلوبهم، وجمعًا لكلمتهم، وتعاونًا فيما بينهم، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

احمد الصادق
2019-04-25, 13:56
المحرَّر في الحديث (4)
الدَّرسُ التَّاسع (9)
معالي الشيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بمعالي الشَّيخ: الدكتور سعد بن ناصر. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
الله يحييك، أرحبُ بك، وأرحبُ بإخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
نستفتح في هذه الحلقة -بإذن الله- بكتاب الجنايات من كتاب المحرَّر لابن عبد الهادي.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كِتَابُ الْجِنَايَاتِ
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ المُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ».
وَعَنْهُ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا)}.
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفضل الأنبياء والمرسلين، أمَّا بعدُ:
فالجنايات: جمعُ جناية، مأخوذ من الفعل "جَنَى" يعني: التقطَ الشَّيءَ وأخذَه.
والمراد هنا: الاعتداء على الدِّماء.
والأصل في الاعتداء أنَّه محرَّم، قال تعالى: ï´؟وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَï´¾ [البقرة:190].
والجنايات تنقسم إلى:
• جناية على النَّفسِ.
• جناية على ما دون النَّفسِ، إمَّا يقطع عضوٍ أو بجرحٍ أو نحوه.
والأصل في الجنايات أنها محرَّمة، وأنَّها من كبائر الذنوب، وعظائم الآثام، وأشدُّ ذلك القتل، وقد قال الله تعالى: ï´؟وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًاï´¾ [النساء: 93]، وقال سبحانه: ï´؟وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًاï´¾ [الفرقان 68، 69]، الآية.
وجاء في الحديث: أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا» ، وقد عدَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جريمة القتل من الموبقات.
والقتل فيه ثلاثة حقوق:
• حقٌّ لأولياء الدَّم: يُستوفَى بالقصاص.
• حقٌّ لله -عزَّ وجلَّ: يُمكن للعبد أن يتخلَّصَ منه بالتَّوبةِ الصَّادقةِ النَّصوح.
• وحقٌّ للميِّتِ: يستوفيه يوم القيامَة.
والجناية في الدِّماء قد أكَّد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على التَّحرُّزَ منها في مواطن عديدة، ففي يوم عرفة وفي أيام مِنَى كان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول لأصحابه: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقابَ بَعْضٍ» .
والجناية بالقتلِ يجب فيها القِصَاص، والعلماء لهم قولان مشهوران في موجَبِ الجناية بالقتل:
• فهناكَ مَن يرى أنَّ الموجب هو القِصَاص عينًا.
• وهناك مَن يرى أنَّ موجَب الجناية إمَّا القِصَاص وإمَّا الدِّية.
ويترتب على ذلك: هل يُلزَم القاتل بالدِّية إذا رغب أولياء الدَّم بذلك أو لا يُلزَم به؟
قد أورد المؤلف هنا حديثين متفق عليهما من حديث ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ»، فيه دلالة على أنَّ الأصل في الدِّماء هو التَّحريم والتَّشديد في ذلك، وأنَّه يُطلَب الرُّخصة في استباحة الدِّماء، وإلَّا فإنَّ الأصل أنَّها على التحريم.
وقوله: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ»، قد يُطلَق الدَّم هنا على ما يكون في النَّفس، وقد يُطلق على ما يكون أقل منه، وإن كان ظاهر هذا الخبر أنَّ المراد به القتل لا ما دونه.
وقوله: «امْرِئٍ مُسْلِمٍ»، لا يختصُّ بالذَّكرِ؛ بل يشمل المرأة؛ لأنَّها تُماثل الرَّجل، والأصل في أحكام الشَّريعة مُساواة الرَّجل بالمرأة.
وقوله: «يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ»، فيه أنَّ دخول الإسلام يكون بهاتين الشَّهادتينِ.
ثم ذكرَ أسباب استباحة الدَّمِ، فذكر أولها فقال: «إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي».
المراد بالثَّيب: مَن سبق له الزَّواج الذي جامع فيه.
والمراد هنا: أنَّ المحصَن الزَّاني يجب رجمه كما وردَ في النُّصوص.
وفي هذا دلالة على ثبوت حكم الرَّجم -كما سيأتي إن شاء الله.
السَّبب الثَّاني الذي يُستباح به الدَّم: القِصَاص، في قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ»، وقد قال الله -جلَّ وعَلا: ï´؟يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَىï´¾ [البقرة: 178].
السَّبب الثَّالث الذي يُستباح به الدم: ما جاء في قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ المُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ».
والمراد بذلك: المرتدّ عن دين الإسلام الذي فارق جماعة المسلمين ولو أتى بالشَّاهدتين؛ فإنَّه يثبت له حكم القتل حدًّا.
وأمَّا الحديث الآخر: قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ»، وهذا يشمل الجنايات التي تكون على النَّفسِ، والجناية على ما كان دون النَّفس.
وظاهر هذا الخبر: الاهتمام بقضايا الجنايات والدِّماء في يوم القيامة، حيثُ تُقدَّمُ على غيرها، وذلك أنَّ ما يتعلَّق بالجنايات هو من حقوق النَّاس التي لا يدخلها العفو، ويُستوفَى الحق فيها يوم القيامَة.
وهذا يدلُّكَ على أنَّ قضايا الدِّماء أهمُّ من قضايا الأعراض والأموال، مع أهميَّةِ الجميع.
{أحسنَ الله إليكم يا شيخ..
في قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ المُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ»، لو أتى بأحد هذين الوصفين هل يستحق القتل، أو لابدَّ أن تكون مرتبطة؟}.
تركُ الدِّينِ مفارقةٌ للجماعة، فلا يوجَد انفكاك بينَ الوصفين.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي جُحَيْفَةَ وَهْبِ بنِ عَبدِ اللهِ السَّوَائِي، قَالَ: قُلْتُ لِعَليٍّ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: لَا وَالَّذِي فَلَقَ الـْحَـبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِلَّا فَهْمَاً يُعْطِيهِ اللهُ رَجُلاً فِي الْقُرْآنِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ: قُلْتُ: وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ وفِكَاكُ الْأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
في هذا الحديث قال أبو جحيفة لعلي: (هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: لَا)، فيه دلالة على أنَّ أهلَ البيتِ لا يختصُّونَ بعلمٍ لم يصل إلى غيرهم، وأنَّه ليس عندهم شيء إلا ما بلَّغه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعموم النَّاس.
وفي هذا الحديث:
• القَسَم من علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لتقرير هذا الكلام الذي قرَّره هنا، مع أنَّه لم يُطلَب منه القَسَم.
• دلالة على تمايُز النَّاس، واختلاف منازلهم باختلاف فهمهم للقرآن.
• أنَّ القرآن فيه كنوزٌ من العلم، وينبغي بالنَّاس أن يُراجعوه.
• دلالة على جواز كتابة العلم وكتابة الأحاديث، لقوله: (وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ)، ثم ذكر ما فيها.
• - مشروعيَّة الأخذ بالدِّيَة، فإنَّ (العَقْل) يُراد به هنا: الدِّيَة؛ لأنَّ الإبل كانت تُعقَل -أي تُربَط- وتُسلَّم لأولياء الدَّم.
وقوله: (وفِكَاكُ الْأَسِيرِ)، فيه التَّرغيب في فكاك الأسير من المسلمين، الذي يأسره العدو.
وفي الحديث: دلالة على أنَّ المسلم لا يُقتَل بالكافر على جهة القصاص، وبذلك قال جمهور أهل العلم خلافًا لكثيرٍ من الحنفية.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عَليٍّ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُم، وَيسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُم، أَلَا لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحَيْنِ)}.
قوله: «الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ»، أي: أنَّهم يتساوون فيما يتعلق بالقصاص، وفيما يتعلق بالدِّيَة.
وقوله: «وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُم»، أي: يجبُ عليهم أن يتعَاونوا فيما بينهم على الخير والهُدَى والبرِّ والتَّقوَى، كأنَّه جعلهم من اجتماعهم وتآلفهم يدًا واحدة.
وقوله: «وَيسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُم»، أي: أنَّ الأمان من أحدهم مقبولٌ، ويجب على البقيَّة أن يلتزموه، ويحرم عليهم أن يخفروه.
ثم قال: «أَلَا لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ»، فيه دلالة على أنَّ المسلم لا يُقتَل بغير المسلم على جهة القِصاص، ولكن قد يُقتَل تعزيرًا إذا رأى وليُّ الأمر أنه يكون محققًا للخير والمصلحة.
وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم، وهو أنَّ المؤمن لا يُقتَل بالكافر مُطلقًا، سواء كان الكافر حربيًّا أو كان معاهدًا أو كان ذمِّيًا أو مستأمنًا، سواء كان كتابيًّا أو مشركًا؛ وهذا مذهب جماهير أهل العلم.
وهكذا في قوله: «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ»، أي: لا يجوز أن يُقتَل المعاهد حالَ استمرار العهد معه.
وهذا مذهب جماهير أهل العلم، وهو مذهب مالك والشَّافعي وأحمد، أنَّ المؤمن لا يُقتل بالكافر.
وأمَّا عند الحنفيَّة فإنَّهم قالوا: قوله «لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ»، أي: الكافر الحربي، ويدل عليه أنَّه قال: «وَلَا ذُو عَهْدٍ»، أي: لا يُقتَل ذو عهدٍ بكافرٍ -أي حربي.
فكأنَّهم هنا فسَّروا كلمة "الكافر" في الأوَّل أنَّ المراد بها: الكافر الحربي، بناء على قوله: «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عهْدِهِ»، أي: وَلَا ذُو عَهْدٍ في عهده بكافر.
وتفسير الجمهور لهذا الخبر أولى؛ لأنَّه على تفسيرهم لا يحتاج الكلام إلى تقديرٍ وإضمارٍ.
أمَّا على مذهب الحنفيَّة فإنَّ يحتاج، كأنَّه قال: (لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ بِكَافِرٍ)، فيحصل في تأويل الحنفيَّة تقديم الكلام وتأخير.
وأمَّا على مذهب الجمهور فإنَّه لا يحتاج إلى تقديمٍ وتأخيرٍ في تفسير اللفظِ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ، وَمَنْ جَدَعَ عَبْدَهُ جَدَعْنَاهُ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ ماجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ -وَحَسَّنَهُ-, وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ إِلَى الْحَسَنِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي سَمَاعِهِ مِنْ سَمُرَةَ، وَلأبي دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيِّ: «وَمَنْ خَصَى عَبْدَهُ خَصَيْنَاهُ»)}.
هذا الحديث منقطع؛ لأنَّ الحسن لم يسمع من سمُرَة هذا الحديث، ولهذا لم يأخذ به جماهير أهل العلم.
قوله: «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ»، ظاهره ثبوت القصاص بينَ الحرِّ والمملوك.
والعلماء لهم ثلاثة أقوال في هذه المسألة:
• القول الأول: ذهب الحنفية إلى أنَّ الحرَّ يُقتل بالعبد المملوك.
• والقول الثاني: أنَّ الحُرَّ لا يُقتَل بعبدِهِ إذا قتَلَه، ولكنَّه يُقتل بعبدِ غيره إذا قتله.
• القول الثَّالث هو قول الجمهور: أنَّ الحرَّ لا يُقتل بالعبد، سواء كانَ عبدًا له، أو عبدًا لغيره.
واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: ï´؟يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِï´¾ [البقرة: 178]، فدلَّ هذا على أنَّ الحرَّ لا يُقتَل بالعبدِ.
والحنفيَّة يقولون: إنَّ هذا استدال بمفهوم المخالفَة، وهم لا يرونَ حُجيَّتَه.
وقوله: «وَمَنْ جَدَعَ عَبْدَهُ جَدَعْنَاهُ».
الجَدْعُ: هو قطعُ الأنفِ، وذلك أنَّ الأنفَ ينتهي إلى مفصلٍ، فمن قطع الأنف فإننا نثبت في حَقِّه القصاص.
وقوله في الرواية الأخرى: «وَمَنْ خَصَى عَبْدَهُ خَصَيْنَاهُ»، فيه إثبات القصاص في قطع الخصية.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ الـْحَجَّاجِ بنِ أَرْطَاةَ، عَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عُمَرَ بنِ الْخطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَابْنُ ماجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ, وَقَالَ: "وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الحَدِيثُ عَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ مُرْسَلاً، وَهَذَا حَدِيثٌ فِيهِ اضْطِرَابٌ", وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ نَحْوَهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَجْلَانٍ، عَنْ عَمْرٍو، وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ)}.
الحجَّاج بن أرطاة مختلف فيه، وهو مُدلِّس وقد عنعنَ هنا، فحديثه من قبيل الحديث المنقطع حُكمًا.
ثم وقع اختلاف في هذا الخبر، فإنَّه مرَّةً رُويَ عن عمرو بن شعيب مُرسلًا، ومرَّة عن عمرو بن شعيب عن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، ومرَّة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عمر، ومرَّة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه عن عمر؛ ولذا حكمَ كثيرٌ من أهل العلم لى هذا الخبر بالاضطراب.
وقوله: «لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ»، أي: بان يُقتص، فإذا قتل الوالد ولده فإنَّه لا يثبت القصاص حينئذٍ.
وجماهير أهل العلم على هذا الحكم؛ لأنَّ الأب سبب في وجود الولد، فلا يكون الولد سببًا في إعدام أبيه. والقول بعدمِ ثبوت ذلك هو مذهب الجمهور، ومنهم الأئمة أبو حنيفة والشَّافعي وأحمد.
وقال الإمام مالك: إنَّ الوالد يُقادُ بولدهِ فيما إذا أضجعه، وأخذ السِّكينَ ونحره كما ينحر الشَّاة، فإنَّه يثبت القصاص حينئذٍ، لتمحُّض العمديَّة في ذلك، وأمَّا إذا قتله بغير هذه الطَّريقة فإنَّه لا يُقادُ به كما قال الجمهور.
وكثير من أهل العلم استدل في ذلك أيضًا بآثارٍ واردةٍ عن الصَّحابة بأنَّه لا يُقاد الوالد بولده.
{أحسن الله إليكم..
هل يقصد الإمام مالك هذه الطريقة بعينها، أو العمد بصفة عامَّة؟}.
يقصد هذه الطَّريقة بعينها، إذا أضجعه ونحره؛ وجب القِصَاص، وأمَّا إِذَا قَتَلَه بغير ذلك حتى ولو كانَ عَمْدًا فإنَّه لا قِصَاص فيه.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَنَسِ بنِ مَالكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ جَارِيَةً وُجِدَ رَأْسُهَا قَدْ رُضَّ بَينَ حَجَرَينِ فَسَأَلُوهَا مَنْ صَنَعَ هَذَا بِكِ؟ فلَانٌ؟ فلَانٌ؟، حَتَّى ذَكَرُوا يَهُودِيَّاً فأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ فَأَقَرَّ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُرَضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ.
وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: اقْتَـتَـلَتْ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ، فَرَمَتْ إِحْدَاهُنَّ الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَضَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ: عَبْدٌ أَوْ وَلِيْدَةٌ، وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِها، وَوَرَّثَهَا وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ، فَقَالَ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيفَ أَغْرَمُ منْ لَا شرِبَ وَلَا أَكَلَ وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ؟ فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا هَذَا مِنَ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ». مِنْ أَجْلِ سَجَعِهِ الَّذِي سَجَعَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ)}.
قوله: (أَنَّ جَارِيَةً)، المراد بالجارية: صغيرة السِّنِّ، وفيه دلالة على أنَّه لا يُشترَط التَّساوي في السِّنِّ بينَ القاتل والمقتول لإثبات القصاص، وأنَّ المكلَّف البالغ إذا قتلَ غيرَ البالغ ثبتَ به القصاص.
وفي هذا دلالة على أنَّ القصاص يثبت بينَ الرِّجالِ والنِّساء، وأنَّه متى قتلَ رجلٌ امرأةً ثبتَ القصاص.
قوله: (وُجِدَ رَأْسُهَا قَدْ رُضَّ بَينَ حَجَرَينِ)، فيه تفتيش صاحب الولاية على مَن وقعت عليهم شيء من الجرائم، والبحث في أسبابها لإلحاق العقوبة بمَن فعل ذلك.
قوله: (فَسَأَلُوهَا)، يعني سألوها قبل وفاتها، وهي في سياق الموت.
قوله: (مَنْ صَنَعَ هَذَا بِكِ؟ فلَانٌ؟ فلَانٌ؟)، بدؤوا يقرِّرونها بقولهم: (فلَانٌ؟ فلَانٌ؟)
قوله: (حَتَّى ذَكَرُوا يَهُودِيَّاً فأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا)، يعني: نعم، وفيه اعتبار الإشارة، وإجراء التَّحقيق لمعرفة مَن هو صاحب الجناية، ولكنَّ كلامها لا يُعَدُّ شهادةً، وإنَّما هو قرينة تُستعمَل من أجل أخذِ الإقرار، ولذا أُخذَ اليهودي فأقرَّ.
قوله: (فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ فَأَقَرَّ)، فيه حبسُ المتَّهم متى قامت عليه القرائن.
وقوله: (فَأَقَرَّ)، أي: اعترف بأنَّه هو القاتل. وفيه إثبات القصاص عندما يقتل الكتابيُّ مسلمًا، وفيه أنَّ الإقرار مُعتبرٌ ويُرتَّبُ عليه أحكام القصاص.
وقوله: (فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُرَضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ)، فيه دلالة على أنَّ القاتل يُقتَل بمثل ما قتل به، وهذا مذهب طائفة من أهل العلم.
وآخرون رأوا أنَّه يُقتَل القاتل بالسَّيفِ عينًا، ولا يُعدُّ إلى غيره، وقد وردَ في الخبر أنَّه «لا يُقاد إلا بالسَّيفِ»، وفي ذلك أمنٌ من الحيفِ، وفيه راحةٌ للنُّفوسِ، ورهبة لنفوس مَن يُريد الاعتداء على دماء الآخرين.
ثم أورد المؤلف حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: (اقْتَـتَـلَتْ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ)، أي: حصلت بينهما مخاصَمةٌ ومشاجرةٌ ومدافعةٌ واقتتالٌ.
قال: (فَرَمَتْ إِحْدَاهُنَّ الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا)، أي: أنَّها ماتت من ذلك الحجر، وهنا المرأة قصدت الجناية ولكنها استعملت آلة لا تقتل غالبًا، فجمهور أهل العلم يُسمون هذا قتل شبه العمد، ويرونَ أنَّ الدِّيَةَ فيه مُغلَّظَة.
قوله: (فاخْتَصَمُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، يعني: أولياء المرأتين اختصموا إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: (فَقَضَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّةٌ: عَبْدٌ أَوْ وَلِيْدَةٌ)، أي: غرَّة الجنين عبدٌ أو أمة، ويقولون: إنَّه يُماثل عُشرَ الدِّيَة.
قال: (وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِها)، يعني: أوجبَ على عاقلة المرأة القاتلة دفع الدية لأولياء المرأة المقتولة، وفي هذا دلالة على أنَّ القتل الخطأ يجب على العاقلة أن تتحمَّل الدِّيَة فيه.
والمراد بالعاقلة: قرابة القاتل، وبعضهم يحصره بالذُّكور، وبعضهم يُعمِّمه.
والصَّواب: أنَّ العاقلة خاصَّة بالذُّكور كما في باب الميراث -على ما تقدَّم.
مَن الذي يرثُها؟
قال: (وَوَرَّثَهَا وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ)، يعني: ولد المرأة وقرابتها الذين يرثون.
قوله: (فَقَالَ حَمَلُ بْنُ النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ)، يعني: قال على جهة الاستفسار لا على جهة الاعتراض.
قال حملُ: (يَا رَسُولَ اللهِ، كَيفَ أَغْرَمُ منْ لَا شرِبَ وَلَا أَكَلَ وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ؟)، يعني: كيف أدفع دية من لم يصرخ ولم يبكِ عندماخرج من بطنِ أمِّه؟!
قوله: (فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ؟)، أي: يُهدَر ولا يُوضَع له ديةٌ ولا قيمة.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا هَذَا مِنَ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ»، يعني: هذا السَّجع من طريقة أهل الكهانة فيما يتكلَّمونَ به.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ غُلَامَاً لِأُنَاسٍ فُقَرَاءَ قَطَعَ أُذُنَ غُلَامٍ لِأُنَاسٍ أَغْنِيَاءَ، فَأَتَوا النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ شَيْئاً. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ مُخَرَّجٌ لَهُمْ فِي الصَّحِيْحِ)}.
هذا الحديث قد تكلَّمَ فيه كثيرٌ من أهل العلم، حيثُ تفرَّدَ به معاذ بن هشام، ومثله يغلَط ويقع منه أخطاء، ولذلك فإنَّ بعض أهل العلم ضعَّفَ هذا الخبر، وقال بعضهم بتحسينه.
قوله هنا: (أَنَّ غُلَامَاً لِأُنَاسٍ فُقَرَاءَ)، قد يُراد بالغلام الصَّغير، وقد يُراد به المملوك.
قوله: (قَطَعَ أُذُنَ غُلَامٍ لِأُنَاسٍ أَغْنِيَاءَ، فَأَتَوا النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ شَيْئاً)، ظاهره أنَّ هذا القطع لم يكن على جهةِ العمدِ، وإنَّما كان على جهةِ الخطأ، وإنَّما لم يجعل لهم شيئًا ظاهره أنَّه أنَّه قد وداه من عند نفسِهِ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَجُلاً طَعَنَ رَجُلاً بِقَرْنٍ فِي رُكْبَتِهِ، فجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَقِدْنِي، فقالَ: «حَتَّى تَبْرَأَ»، ثمَّ جَاءَ إِلَيهِ، فَقَالَ: أَقِدْنِي، فَأَقَادَهُ. ثمَّ جَاءَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ, إِنِّي عَرَجْتُ, فَقَالَ: «قَدْ نَهَيْتُكَ فَعَصَيْتَنِي، فَأَبْعَدَكَ اللهُ وَبَطَلَ عَرَجُكَ»، ثمَّ نهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ جُرْحٍ حَتَّى يَبْرَأَ صَاحِبُهُ. رَوَاهُ أَحْمدُ عَنْ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: "وَذَكَرَ عَمْرو"، فَكَأَنَّهُ لمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بنِ حِمْرَانَ، وَهُوَ صَالحُ الحَدِيثِ عَنِ ابْنِ جريجٍ، عَنْ عَمْرٍو)}.
قوله هنا: (قال: "وَذَكَرَ عَمْرو")، يعني: أنَّ ابن إسحاق لم يروِ هذا الخبر متَّصلًا، وإنما قال ابن إسحاق: (ذكر عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده...) وساقَ الحديث، ولذلك رأى كثير من أهل العلم أن الخبر منقطع، وابن إسحاق مدلِّس ولم يُصرِّح فيه بالسَّماع.
قوله: (أَنَّ رَجُلاً طَعَنَ رَجُلاً بِقَرْنٍ فِي رُكْبَتِهِ، فجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَقِدْنِي، فقالَ: «حَتَّى تَبْرَأَ»)، فيه أنَّ القصاص فيما دون النَّفس لا يستوفى حتى يبرأ الجرح، خشية من أن يسريَ الجُرح فيأخذ أكثر ممَّا حصلت الجناية عليه.
قوله: (ثمَّ جَاءَ إِلَيهِ، فَقَالَ: أَقِدْنِي، فَأَقَادَهُ)، يعني طلب من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القصاص ضدّ هذا الشَّخص الذي جنى عليه، فأقام النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القصاص على صاحبه.
ثم بعد مُدَّةٍ جاء صاحب الدَّم إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال: (يَا رَسُولَ اللهِ, إِنِّي عَرَجْتُ)، يعني: أنَّ الجناية تجاوزت مكانها، ولم تقف عند مكانها الأوَّل.
فنقول: إذا سرَت الجناية فهل يكون القصاص حتى فيما سرَت إليه الجناية؟
ننظر:
• إن كان قد استُوفيَ القصاص قبل ذلك فإنَّنا لا نلتفت إلى سراية الجُرح.
• وأمَّا إذا كان لم يُتقص منه: فإنه حينئذٍ يكون جرحًا واحدًا.
• وفي هذا الحديث:
• ينبغي للإنسان أن يستشير أهل العقل والفضل.
• وأنَّه لا يجوز أن يُقتصُّ من شخصٍ في جرحٍ حتى يبرأ صاحبه ويتيقَّن من حاله.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَنسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ الرُّبَيِّعَ، عَمَّتَهُ، كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَطَلبُوا إِلَيْهَا الْعَفوَ فَأَبَوا، فَعَرَضُوا الْأَرْشَ فَأَبَوْا، فَأَتَوا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَبَوا إِلَّا الْقِصَاصَ, فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْقِصاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بنُ النَّضْرِ: يَا رَسُولَ اللهِ, أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ, لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَنَسُ كِتَابُ اللهِ الْقِصَاصُ» فَرَضِيَ الْقَوْمُ فَعَفَوا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ)}.
في هذا الحديث أنَّ الأسنان يثبت فيها القصاص، وفيه أنَّه يُقتصُّ للصغير من الكبير، فهذه الجارية صغيرة السِّن، ومع ذلك لمَّا جَنَت عليها الرُّبيع وهي كبيرة السِّن؛ ثبتَ القصاص بذلك.
قال: (فَطَلبُوا إِلَيْهَا الْعَفوَ فَأَبَوا)، يعني: طلبوا إلى الجارية وإلى أوليائها العفو فَرفضوا.
قوله: (فَعَرَضُوا الْأَرْشَ فَأَبَوْا)، أي: عرضوا قيمَة النَّقص الحاصل عليها، فرفضوا ذلك، وأبوا إلى القصاص.
قوله: (فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْقِصاصِ)، فيه إثبات مشروعيَّة القصاص في الأسنان.
قوله: (فَقَالَ أَنَسُ بنُ النَّضْرِ: يَا رَسُولَ اللهِ, أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ), الثَّنيَّة: الأسنان التي تكونُ في زاوية الفم، وفيه دلالة على أنَّ القصاص في الأسنان إنَّما يكونُ بأخذِ سنٍّ يُماثل السِّن الذي حصلَت عليه الجناية.
قوله: (لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا), فيه الحلف بالله -جلَّ وعَلا- وفيه أنَّ الاعتراض على الأحكام الشَّرعيَّة لا يُلتفت إليه، ولو كان من تأسيسٍ شرعيٍّ أو علةٍ وشُبهةٍ شرعيَّة.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَنَسُ كِتَابُ اللهِ الْقِصَاصُ»، أي: هذا أمرٌ نافذٌ، وأمرٌ حتميٌّ، وبالتَّالي لا تدخل فيه شَفَاعات، ولا يدخل فيه شيءٌ ممَّا يُراد به إبطال القِصَاص.
قوله: (فَرَضِيَ الْقَوْمُ فَعَفَوا)؛ لأنَّ القصاص يسقط بالعفو ويسقط بأخذ ديته، وفيه جواز العفو.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ»، أي: يوجد من عباد الله.
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ»، ذلك أنَّ أنس بن مالك أقسَم لمَّا قال: (لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا).
ولا ينبغي للإنسان أن يُقسِمَ على الله -جلَّ وعَلا- لأنَّه قد لا يُستجاب له، وبالتَّالي تجب عليه ديةٌ وكفَّارة.
وهذا خلاصَة ما في هذا الباب من أحكام.
بارك الله فيك، ووفقكَ الله للخير، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

احمد الصادق
2019-04-25, 13:56
المحرَّر في الحديث (4)
الدَّرسُ العاشر (10)
معالي الشيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بمعالي الشَّيخ: الدكتور سعد بن ناصر. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
حيَّاكَ الله، وأهلًا وسهلًا، وأرحبُ بك، وأُرحبُ بمَن يُشاهدنا، بارك الله فيهم.
{نستفتح في هذه الحلقة -بإذن الله- كتاب الدِّيات من كتاب المُحرَّر لابن عبد الهادي.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ» -يَعْنِي الْخِنْصَرَ والإِبْهَامَ- رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الْأَصَابِعُ سَوَاءٌ، وَالأَسْنَانُ سَوَاءٌ: الثَّنِيَّةُ وَالضِّرْسُ سَوَاءٌ، هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيْحٍ ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ -وَاللَّفْظُ لَهُ وَصَحَّحَهُ- وَابْنُ حِبَّانَ: «فِي دِيَةِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ سَوَاءٌ، عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ لِكُلِّ أُصْبَعٍ»)}.
قول المؤلف: (كِتَابُ الدِّيَاتِ).
المراد بالدِّيات: العوض الذي يُدفَع عند وجود الجنايات.
وذلك أنَّ القتل والجناية على ما دون النَّفس قد تكون عًمدًا، وقد تكونُ خطأ، فالخطأ يجبُ فيه الدِّيَة، والأصل في العمدُ وجوب القِصاص بشروطٍ مُعيَّنة، فإذا انتفى القِصاص لتخلُّفِ شرطٍ، أو لعفوِ الأولياء؛ فحينئذٍ تجبُ الدِّيَة.
وفي مرَّات قد لا يعفوا الأولياء مجَّانًا، وإنَّما يعفونَ إلى الدِّيَة، وفي مرَّاتٍ يُطالبونَ بما هو أكثر من الدِّيَة، وهذا يُسمَّى الصُّلح عن القتل الخطأ، وهذا الصُّلحُ لابدَّ فيه من تراضي الطَّرفين -أولياء المقتول والقاتل.
والدِّيَة قد تكون في النَّفس: وتكون حينئذٍ بمائةٍ من الإبل.
وقد تكونُ فيما دون النَّفس من الأعضاء: وبالتَّالي تكون فيها ديةٌ محدَّدةٌ، مثل: الأصابع، واليد، والرِّجل.
وقد تكون الدِّيَةُ غير محدَّدَة: وهذا يسمُّونَه حكومة، فما لم يرد فيه نصٌّ بتحديد الدِّيَة فيه؛ فحينئذٍ نجعل فيه حُكُومَة.
والمراد بالحُكُومَة: أن نُقدِّر قيمةَ الشَّخص كأنَّه مملوك، مرَّةً فيه الجناية ومرَّة ليست فيه الجناية، فنأخذُ نسبَة ذلك من كمالِ قيمتهِ، فنُثبتُ ونُوجِبُ تلك النِّسبَة من الدِّيَةِ.
أورد المؤلف حديث ابن عباس، وفيه أنَّ الأصابع مُتساوية في الدِّيَة، وبذلك قال الجماهير، وكان عمر يرى أنَّها مُتفاوتة بحسبِ أهمِّيتها وما تُؤدِّيه من عملٍ، فلمَّا نُقلَت إليه الأخبار الواردة عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والتي وردت بالتَّسوية بينَ الأصابع؛ تركَ رأيَه واجتهاده بتفاضل الأصابع في الدِّيَةِ، وقال بمقتضى هذه الأحاديث.
إذن يجب في كل أُصبع عَشرٌ من الإبل، وذلك أنَّ أصابع اليدين فيها دِيةٌ كاملة، والأصابع عَشرة، ففي كل أصبع عُشر الدِّيَة -عَشرٌ مِن الإبل- ومثله في أصابع الرجلين.
وأمَّا بالنِّسبَةِ للأسنان: فجميعُ الأسنان يجب فيها دية واحدة، فإذا كسر سنًّا واحدًا؛ فحينئذٍ نوجب فيه من الدية بحسبِ عدد ما كسره من الأسنان، والأسنان مُتساوية، وبالتالي نُقسِّم الدِّيَة كاملة على عدد الأسنان، ومن ثَمَّ نعرف مقدار ما لكلِّ سنٍّ، ولا نُفرِّق بين سنٍّ وسنٍّ بحسب أهمِّيته أو بحسبِ ما يؤدِّيه من الأعمال.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ سُلَيْمَانَ بنِ دَاوُدَ قالَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ بِكِتَابٍ فِيهِ الفَرَائِضُ وَالسُنَنُ وَالدِّيَاتُ، وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ, فَقُرِئَتْ عَلَى أَهْلِ اليَمَنِ، وَهَذِهِ نُسْخَتُها: «مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِي إِلَى شُرَحْبِيلَ بنِ عَبْدِ كُلَالٍ، والْحَارِثِ بنِ عَبدِ كُلَالٍ وَنُعيْمِ بْنِ كُلالٍ قِيلَ -بْنِ رُعَين- ومُعَافِرَ وهَمْدَانَ أَمَّا بَعْدُ...» وَكَانَ فِي كِتَابِهِ: «أَنَّ مَنِ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيِّنَةٍ، فَإِنَّهُ قَوَدٌ إِلَّا أَنْ يَرْضَى أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ، وَأَنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةَ: مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي الْأَنْفِ إِذا أُوْعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةُ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي البَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ، وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ، وَفِي الْعَينَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي المَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي المُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ منَ الْإِبِلِ، وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ, وَأَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ، وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَالنَّسَائِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَأَبُو حَاتِمٍ البُسْتيُّ، وَقَدْ أُعِلَّ, قَالَ النَّسَائِيُّ: وَقَدْ رَوَى هَذَا الحَدِيثَ عَنِ الزُّهْرِيِّ يُونُسُ بنُ يَزِيدَ مُرْسَلًا)}.
سليمان بن داود مُختَلفٌ فيه، تردَّدَ العلماء فيه بينَ رجلٍ متروك يُقال له: سليمان بن داود بن أرقم، وبين رجلٍ ثقةٍ يُقال له: سليمان بن داود الخولاني، والقاعدة: إذا تردَّدَ اسمُ راوٍ بين راويين أحدهما ضعيف؛ فإنَّه تُضعَّفُ تلك الرواية حتى يثبت خلاف ذلك.
قال: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ بِكِتَابٍ)، فيه مَشروعيَّة كَتْب الأنظِمَة، وفيه أيضًا كتْبُ العلم، وإرسال مسائل العلم إلى النَّاس.
قال: (بِكِتَابٍ فِيهِ الفَرَائِضُ)، يعني: الأمور الواجبة.
قال: (وَالسُنَنُ)، يعني: الأمور المقرَّرَة، سواء كانت واجبةً أو مُستحبَّةً مِن أُمورِ الشَّريعة.
قال: (وَالدِّيَاتُ)، أي: ما يُدفَعُ عوضًا في جنايات الخطأ.
قال: (وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ, فَقُرِئَتْ عَلَى أَهْلِ اليَمَنِ, وَهَذِهِ نُسْخَتُها: «مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِي إِلَى شُرَحْبِيلَ بنِ عَبْدِ كُلَالٍ، والْحَارِثِ بنِ عَبدِ كُلَالٍ وَنُعيْمِ بْنِ كُلالٍ»)، هما إخوة.
قوله: «قِيلَ -بْنِ رُعَين- ومُعَافِرَ وهَمْدَانَ»، هذه قبائل من قبائل اليَمن.
قال: («أَمَّا بَعْدُ...» وَكَانَ فِي كِتَابِهِ: «أَنَّ مَنِ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا»)، أي: قتَلَ المؤمن بدونِ أن يكون منه سببٌ لقتله، فلا توجد منه جناية ولا جريمة.
قوله: «عَنْ بَيِّنَةٍ»، يعني: مع وضوح الأمرِ.
قال: «فَإِنَّهُ قَوَدٌ»، أي: يجب فيه القصاص.
قوله: «إِلَّا أَنْ يَرْضَى أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ»، أي: يعفون عنه، وهذا استدلَّ به مالك وأبو حنيفة أنَّ مُوجَب القتل العمد العدوان هو القصاص عينًا.
وعند أحمد والشَّافعي: أنَّ مُوجَب القتل العمد العدوان هو أحد أمرين:
إمَّا القِصَاص أو الدِّيَة، واستدلوا على ذلك بما ورد من حديث أبي هريرة وأبي شُريح أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا يُودَى وَإِمَّا يُقَادُ».
قال: «وَأَنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةَ: مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ»، فيه بيان مِقدار الدِّيَة في القتل، وهو مائة من الإبل.
هل ذِكْر الإبل هنا لتعيُّنِهَا كما قال طائفة؟ أو لأنَّها وَجه من أوجه الدِّيات؟
هناك مَن يقول: إنَّ الدِّيَة لها أصلٌ واحدٌ وهو الإبل.
وهناك من يقول: هناك أصولٌ مُتعدِّدَة، فالإبل أصلٌ، والذَّهب أصلٌ، والفضَّةُ أصلٌ، والبقر أصلٌ، إلى آخر الأموال.
قال: «وَفِي الْأَنْفِ إِذا أُوْعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةُ»، يعني: إذا قُطع كاملًا فلم يبقَ منهُ شيءٌ.
القاعدة في هذا:
• أنَّ ما كان في البدنِ منه شيء واحدٌ ففيه ديةٌ كاملةٌ.
• وما في البدن منه شيئان: وجب نصف الدِّيَة في كلِّ واحدٍ منهما.
• وما كان في البدن منه ثلاثة: تجب الدِّيَة في الثلاثة، وفي الواحد ثُلث الدِّيَة.
• وما كان في البدنِ منه أربعة: ففي الواحد ربُع الدِّيَة.
قال: «وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ»، لكن لو قطعَ إحدى الشَّفتين دون الأخرى وَجَبَ نصفُ الدِّيَة.
قال: «وَفِي البَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ»، البيضتان اللتان عند الخصيتين، فيهما ديةٌ كاملة.
قال: «وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ»؛ لأنَّه لا يوجد في البدن منه إلا شيءٌ واحد.
قال: «وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ»، يعني: الظَّهر.
قال: «وَفِي الْعَينَيْنِ الدِّيَةُ»، فيكون في العين الواحدة نصف الدية.
قال: «وَفِي الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ»؛ لأنَّ في البدنِ منها ثنتان.
قال: «وَفِي المَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ»، المأمومة جُرحٌ في الرأسِ يصل إلى أمِّ الدِّماغ، وفيه ثلث الدِّيَة.
قال: «وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ»، الجائفة: جُرحٌ في البدن يصل إلى الجوفِ، فأوجبَ فيه ثُلُثُ الدِّيَة.
قال: «وَفِي المُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ منَ الْإِبِلِ»، المُنقِّلَة: شجَّةٌ بالرأسِ تُصيبُ العظم، فتنقله عن مكانه إلى داخل بدنه، فهذه فيها خمس عشرة من الإبل.
قال: «وَفِي كُلِّ إِصْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ»، الموضحة: شجَّةٌ في الرأسِ تُوضِحُ العَظم.
قال: «وَأَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ»، فيه إثبات مَشروعيَّة القصاص عند قتل الرَّجل للمرأة.
قال: «وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ»، يعني: بدل المائة ناقة يكون عليهم ألف دينار.
والمقصود بالذَّهب هنا: الدَّنانير.
وهنا إشارة إلى مسألة، وهي: هل الدِّيَة لها أصلٌ واحدٌ وهو الإبل؟ أو لها أصول متعدِّدَة؟
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «فِي المَواضِحِ خَمْسٌ، خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ ماجه وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَاللَّفْظُ لِأَحْمَدَ وَابْنِ ماجَهْ، زَادَ أَحْمدُ: «وَالأَصَابِعُ سَوَاءٌ كُلُّهُنَّ عَشْرٌ، عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ»)}.
المواضح: شِجاجٌ في الرأسِ توضِحُ العظم وتُبيِّنه.
وقوله: «خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ»، فيه مقدار الدِّيَة في الموضحة.
وزاد: «وَالأَصَابِعُ سَوَاءٌ كُلُّهُنَّ عَشْرٌ، عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ»، وتقدَّم شرحه.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ قَتَلَ مُتَعَمِّدًا، دُفِعَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فَإِنْ شَاؤُوا قَتَلُوا، وَإِنْ شَاؤُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ، وَهِي: ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً، وَمَا صَالَحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُم» وَذَلِكَ لِتَشْدِيدِ العَقْلِ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ ماجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَهَذَا لَفظُهُ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسْنٌ غَرِيْبٌ)}.
قوله هنا: «مَنْ قَتَلَ مُتَعَمِّدًا»؛ لأنَّ القِصَاص لا يثبت إلا حالَ قتل العمد، أمَّا قتل الخطأ فلا قصاص فيه.
قال: «دُفِعَ»، يعني: دُفِعَ ذلك القاتل.
قوله: «إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ»، يعني: قرابة المقتول.
قوله: «فَإِنْ شَاؤُوا»، يعني: أولياء المقتول.
قوله: «قَتَلُوا»، على جهةِ القصاص.
قوله: «وَإِنْ شَاؤُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ»، وفيه دلالة لمذهب الشَّافعيِّ وأحمد في أنَّ مُوجب القتل العمد العدوان هو القصاص أو الدِّيَة، خلافًا لمالك وأبي حنيفة الذين يقولون: إنَّ موجبه هو القصاص فقط.
ثم قال: «وَهِي: ثَلَاثُونَ حِقَّةً»، الحِقَّة: هي التي تمَّت أربع سنين ودخلت في الخامسَة، فالدِّيَة تجب ثلاثون من هذا النوع.
قال: «وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً»، الجذعة هي التي أكبر من الحِقَّة، وهي التي دخلت في الخامسة.
قال: «وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً»، يعني: حامل.
قال: «وَمَا صَالَحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُم»، يعني: يجوز لهم أن يصطلحوا على ما شاؤوا، وذلك لتشديدِ القتل، أي: التأكيد عليه وبيان حرمته.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «عَقْلُ أَهْلِ الذِّمَّةِ نِصْفُ عَقْلِ المُسْلِمِيْنَ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى» رَوَاهُ أَحْمدُ وَابْنُ ماجَهْ وَالنَّسَائِيُّ -وَاللَّفْظُ لَهُ- وَالتِّرْمِذِيُّ -وَحَسَّنَهُ، وَلأَبي دَاوُدَ: «دِيَةُ المُعَاهَدِ نِصْفُ دِيَةِ الحُرِّ»)}.
في هذا إثبانُ الدِّيَة لقتلِ أهلِ الذِّمَّة، وظاهره أنَّها على النِّصف، وبذلك قال أحمد ومالك.
وقال الإمام أبو حنيفة: لهم الدِّيَة تامَّة.
وقال طائفة: ليس لهم إلَّا ثُلث الدِّيَة فقط.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ولِلنَّسَائِيِّ: «عَقْلُ المَرْأَةِ مِثْلُ عَقْلِ الرَّجُلِ حَتَّى يَبْلُغَ الثُّلُثُ مِنْ دِيَتِهَا» رَوَاهُ منْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بنِ عَيَّاشٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرٍو، وَقَالَ: إِسْمَاعِيلُ ضَعِيفٌ كَثِيرُ الْخَطَأ)}.
إذا روى إسماعيل بن عيَّاش عن أهل الشَّام قُبِلَت روايته، وإذا روى عن غيرهم لم تُقبَل، وابن جريج من أهل الحجاز، فروايته هنا عن غير أهل الشام، ولذلك ضَعَّف كثيرٌ من أهل العلم هذا الخبر، ولكنَّه قد دلَّ على معناه عددٌ من الآثار.
قوله: «عَقْلُ المَرْأَةِ»، أي: ديةُ المرأة.
قوله: «مِثْلُ عَقْلِ الرَّجُلِ»، أي: تساويه في المقدار.
قوله: «حَتَّى يَبْلُغَ الثُّلُثُ مِنْ دِيَتِهَا»، يعني: إذا بلغ الثلث فحينئذٍ يجب في عقل المرأة نصف عقل الرَّجل.
إذن؛ المرأة تُماثل الرجل حتى تبلغ الدية الثُّلث، فإذا زادت فحينئذٍ تناصفه في الدِّيَة، وقال الجمهور بهذا ومنهم: مالك والشافعي وأحمد، لورود هذا الخبر.
وعند طائفة أخرى: أنَّ المرأة تُماثل الرجل مُطلقًا.
وهذا الخبر مخالف للقياس، فإنَّه يوجب في الإصبع عشر، والأصبعين عشر، والثلاثة عشر، والأربعة يُوجب فيها النصف وهي عشرون، فالثلاثة فيها ثلاثون، والأربعة فيها عشرون من دية المرأة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «عَقْلُ شِبْهِ العَمْدِ مُغَلَّظٌ مِثْلُ عَقْلِ العَمْدِ، وَلَا يُقْتَلُ صَاحِبُهُ، وَذَلِكَ أَنْ يَنْزُوَ الشَّيْطَانُ بَيْنَ النَّاسِ فَتَكُونَ دِمَاءٌ فِي غَيْرِ ضَغِيْنَةٍ وَلَا حَمْلِ سِلَاحٍ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ)}.
قوله في هذا الخبر: «عَقْلُ»، أي: دية.
قوله: «شِبْهِ العَمْدِ»، وهو القتل الذي يكون بآلة لا تقتل غالبًا.
قوله: «مُغَلَّظٌ»، أي: يكون أشد من دية قتل الخطأ.
وفي هذا إثبات القتل شبه العمد، وبه قال الجمهور خلافًا للمالكيَّة.
قوله: «مِثْلُ عَقْلِ العَمْدِ»، أي: تجب فيه ديةٌ وافيةٌ تامَّةٌ، ولا يُخفَّفُ فيها.
قوله: «وَلَا يُقْتَلُ صَاحِبُهُ»، إذن شبه العمد والعمد يتماثلون في الدِّيَة، ولكنَّهم يختلفون في كون العمد يوجبُ القصاص بخلاف شبه العمد.
ثم قال في تفسير شبه العمد: «وَذَلِكَ أَنْ يَنْزُوَ الشَّيْطَانُ بَيْنَ النَّاسِ فَتَكُونَ دِمَاءٌ فِي غَيْرِ ضَغِيْنَةٍ»، يعني: بغضاء. «وَلَا حَمْلِ سِلَاحٍ».
وفي هذا دلالةٌ على أنَّ ديَة شبه العمد مُغلَّظَة، وفيه دلالةٌ على أنَّه يُوجَد من أنواع القتل قتل شبه العمد.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «قَتِيلُ الْخَطَأِ شِبْهِ العَمْدِ: قَتِيلُ السَّوْطِ وَالعَصَا، فِيهِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ ماجه وَالنَّسَائِيُّ، وَفِي إِسْنَادِهِ اخْتِلَافٌ.
وَعَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ زَيدِ بنِ جُبَيرٍ، عَنْ خِشْفِ بنَ مَالكٍ، قال: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: قَضَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي دِيَةِ الْخَطَأِ عِشْرينَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرينَ ابْنَ مَخَاضٍ ذُكُورًا، وَعِشْرينَ بِنْتَ لَبُوْنٍ، وَعِشْرِيْنَ جَذَعَةً، وَعِشْرِيْنَ حِقَّةً. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ -وَقَالَ: الْحَجَّاجُ بنُ أَرْطَاةَ ضَعِيفٌ لَا يحْتَجُّ بِهِ، وَقَدْ بَالغَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي تَضْعِيفِ هَذَا الحَدِيثِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ)}.
هذه الأحاديث فيها بيان الفرق في مِقدار الدِّية بين القتل الخطأ، والقتل شبه العمد، والقتل العمد، وقد ذكر أنَّ قتيل الخطأ شبه العمد هو الذي يَستعمل آلةً لا تقتلُ غالبًا، فهو يُريد الجنايةَ ولكنَّه لا يُريد القتل، ولذلك لم يستعمل آلة فيها القتل؛ فإذا نتج عَن فِعله الموت فوجبَ على صاحبه حينئذٍ القصاص.
قال: «قَتِيلُ الْخَطَأِ شِبْهِ العَمْدِ: قَتِيلُ السَّوْطِ وَالعَصَا»، يعني: يقتله ولا يُريد قتلَه، ولكنَّهُ يُريدُ الجِنَايةَ عليهِ.
قال: «فِيهِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا»، أي: أنَّها تحمل أجنَّتها في بطونها.
والحديث الآخر في إسناده الْحَجَّاجُ بنُ أَرْطَاةَ، وقد تقدَّم معنا أنَّه مُدلِّسٌ وقد عنعن هنا، وأيضًا خِشْفُ بن مالك مُتكلَّمٌ فيه عند كثيرٍ من العلماء.
قال: (سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: قَضَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي دِيَةِ الْخَطَأِ) أي أن تقسم خمسة أقسام كالتالي:
(عِشْرينَ بِنْتَ مَخَاضٍ)، بنت المخاض: هي التي لها سنة.
قال: (وَعِشْرينَ ابْنَ مَخَاضٍ ذُكُورًا)، وهي الذكور ولها سنة واحدة.
قال: (وَعِشْرينَ بِنْتَ لَبُوْنٍ)، أي: لها سنتان.
قال: (وَعِشْرِيْنَ جَذَعَةً)، أي: لها ثلاث سنوات.
قال: (وَعِشْرِيْنَ حِقَّةً)، أي: لها أربعُ سنوات، فهذا بيان الواجب في دية الخطأ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دِيَتَهُ اثْنَي عَشَرَ أَلْفًا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ï´؟وَمَا نَقَمُوْا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُوْلُهُ مِنْ فَضْلِهِï´¾ [التوبة:74]، فِي أَخْذِهِمُ الدِّيَةَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ -وَهَذَا لَفْظُهُ وَقَالَ: الصَّوَابُ مُرْسَلٌ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ بَعْدَ أَنْ رَوَاهُ مُرْسَلًا: الْمُرْسَلُ أَصَحُّ)}.
أوردَ المؤلف هنا حديث عكرمة عن ابن عباس، مرَّةً يرويه عكرمة عن ابن عباس، ومرَّةً يقول عكرمة: (قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ...)، فيكون مُرسلًا؛ ولذلك تكلَّمَ فيه أهل العلم. ومحمد بن مسلم الذي فعل ذلك مختلَفٌ فيه.
قوله: (قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فيه أنَّه قد يوجد جرائم كبيرة في عهد النُّبوَّة، وكونُ الله عصمَ نبيَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يعني عصمَة أهل زمانه.
قال: (فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دِيَتَهُ اثْنَي عَشَرَ أَلْفًا)، ظاهره أنَّه من الدَّراهم من الفضَّة. وفي هذا دلالة لمن يقول: إنَّ المذكورات في الدِّية أصول مُتعدِّدَة وليست أصلًا واحدًا.
قال: (وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ï´؟وَمَا نَقَمُوْا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُوْلُهُ مِنْ فَضْلِهِï´¾ [التوبة:74]، فِي أَخْذِهِمُ الدِّيَة).
ثم أوردَ المؤلف مَن روى هذا الخبر، وهم: أبو داود والترمذي وابن ماجة والنَّسائي، وتقدَّم معنا وجه الاعتراض على هذا الخبر.
وفي الحديث دلالة على جواز صرف الدِّيَة من الأموال الأخرى.
بارك الله فيكم، ووفقكم الله لكلِّ خيرٍ، وجعلك الله موفَّقًا، وجعل الله مَن يقف معكَ كذلك موفَّقًا، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

احمد الصادق
2019-04-30, 07:59
المحرر في الحديث (4)
الدَّرسُ الْحَادِي عَشَر (11)
معالي الشيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ/ الدكتور سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
بارك الله فيك، وأسأل الله -جلَّ وعَلَا- أن يستعملنا وإيَّاكم في طاعته، كما أرحبُ بك، وأرحب بإخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلَا- للجميعِ نيَّةً خالصةً، وعملًا نافعًا صالحًا، كما أسأله -جلَّ وعَلَا- صلاحًا لأحوالِ الأمَّة، واسقامة لأمورها، وتآلفًا بين قلوبها.
{نستفتح في هذه الحلقة -بإذن الله- من باب "القَسَامَة" من كتاب المحرَّرِ لابن عبد الهادي.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ سَهْلِ بنِ أَبي حَثْمَةَ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ: أَنَّ عَبدَ اللهِ بنَ سَهْلٍ ومُحيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُم، فَأَتَى مُحَيِّصَةُ فَأَخْبَرَ أَنَّ عبدَ اللهِ بنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ وطُرِحَ فِي عَينٍ أَو فَقِيرٍ فَأَتَى يَهُودَ، فَقَالَ: أَنْتُم وَاللهِ قَتَلْتُمُوهُ، قَالُوا: وَاللهِ مَا قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى أَتَى قَوْمَهِ فَذَكَرَ لَهُم ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ -وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ- وَعَبدُ الرَّحْمَنِ بنُ سَهلٍ، فَذَهَبَ مـُحَـيِّصَةُ ليَتَكَلَّمَ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لـمُحَيِّصَةَ: «كَبِّرْ كَبِّرْ» -يُرِيدُ السِّنَّ- فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثمَّ تَكَلَّمَ مُـحَـيِّصَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ» فَكَتَبَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبُوا: إِنَّا وَاللهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لـحُوَيِّصَةَ ومُحَيِّصَةَ وَعبدِ الرَّحْمَنِ: «أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟» قَالُوا: لَا، قَالَ: «فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُوْدُ؟» قَالُوا: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِائَةَ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ، فَقَالَ سَهْلٌ: فَلَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.
وَعِندَ البُخَارِيِّ: عَنْ سَهلِ بنِ أَبي حَثْمَةَ هُوَ وَرِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ، وَعِنْدَهُ: وَعبدُ الرَّحْمَنِ بنُ سَهلٍ، فَذَهَبَ ليَتَكَلَّم وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ)}.
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أما بعدُ؛ فالمراد بالقَسَامة: أيمانُ أولياءِ الدَّمِ أنَّ قريبَهم قد قتله فلانٌ، ويكون ذلك حال وجودِ اللَّوثِ والشُّبهةِ، والخصومةِ السَّابقة، وبالتَّالي تثبت هذه الجريمة على مَن حلفوا عليه.
والجمهور على أنَّ القَسَامَة مُوصلة لاستحقاق الدَّم، بحيث يُقتل مَن حُلف عليه.
وهناك طائفة قالوا: إنَّ محصّلة القَسَامة في الدِّية، والقسامة طريق لإنهاء الخصومات التي تكون بين القبائل وبين أهل المحالِّ المختلفة.
وجرت السُّنَّة الكونيَّة في أنَّ مَن حلفَ القسَامة ثم لم يكونوا صادقين في حلفهم أن يُستأصلوا، وقد ذكر المؤلف عددًا من الأحاديث، فقال: (عن سَهْلِ بنِ أَبي حَثْمَةَ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ)، سهلٌ من الأنصار، وهو يروي عن كثيرٍ من الصَّحابة، فالظَّاهر أنَّ هؤلاء الرِّجال من الصَّحابة، وبالتَّالي لا يضر عدم تسميتهم، وقد أشار المؤلف إلى أنَّه في إحدى روايات الخبر (عَنْ سَهلِ بنِ أَبي حَثْمَةَ هُوَ وَرِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ).
قال: (أَنَّ عَبدَ اللهِ بنَ سَهْلٍ ومُحيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ)، خيبر كانت تسكنها في ذلك الوقت اليهود، وكان مُرادهم بهذا الخروج أن يعملوا عند أهل خيبر من أجل أن يكون ذلك من أسباب الاكتساب، ولذا قال: (مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُم)، أي: من شدَّةٍ وفقرٍ وحاجةٍ، فأرادوا أن يعملوا ويأخذوا أُجرةً على عملهم.
قال: (فَأَتَى مُحَيِّصَةُ)، أي: جاء رجل إلى محيِّصة ليُخبره.
قال: (فَأَخْبَرَ أَنَّ عبدَ اللهِ بنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ)، وهو ابن عمِّه.
قال: (وطُرِحَ فِي عَينٍ)، العين: مورد الماء الذي ينبع من الأرض.
قال: (أَو فَقِيرٍ)، المراد به: البئر قريبة القعر وليست مُتعمِّقة، وفي الغالب يكون فمها واسعًا، ويكون حولها شيءٌ من النَّخل.
فلمَّا أُخبر محيصة بخبر مقتل عبد الله بن سعد أتى لليهود، فَقَالَ: (أَنْتُم وَاللهِ قَتَلْتُمُوهُ)، قُتل في ديارهم وبينَ نخيلهم ومساكنهم، ولا يُوجد عندهم أحدٌ إلا باطلاعهم وإشرافهم، ولذا اتَّهمهم بقتله.
قَالُوا: (وَاللهِ مَا قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى أَتَى قَوْمَهِ)، يعني: رجع إلى قومه من الأنصار.
قال: (فَذَكَرَ لَهُم ذَلِكَ)، يعني: وفاة عبد الله بن سهل في خيبر.
ثم جاؤوا إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ -وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ- وَعَبدُ الرَّحْمَنِ بنُ سَهلٍ)، عبد الرحمن أخو المقتول، وفي بعض الألفاظ أنَّ عبد الرحمن أراد أن يتكلَّم؛ لأنَّه هو وليُّ الدَّم، وفي بعض الألفاظ أنَّ الذي كان يُريد أن يتكلَّم هو محيِّصة؛ لأنَّه قد قرُبَ من الحادثة وعنده شيءٌ مباشر.
قال: (فَذَهَبَ مـُحَـيِّصَةُ ليَتَكَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ)، يعني: ابتدأ بالكلام.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لـمُحَيِّصَةَ: «كَبِّرْ كَبِّرْ»، يعني: ليتكلَّم مَن هو أكبر سنًّا منكَ، وفيه تقديم الكبير في السِّنِّ سواء في الكلام أو في الدَّعوة أو في المجلس ونحوه.
قال: (فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثمَّ تَكَلَّمَ مُـحَـيِّصَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ»)، أي: أنَّ اليهود يُخيَّرون بين اثنتين:
• إمَّا أن يدفعوا الدِّية، فقوله: «يَدُوا صَاحِبَكُمْ»، أي: يدفعوا ديته.
• أو يُقاتلهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لكونهم قد قتلوا هذا الرجل، وذلك قوله: «وَإِمَّا أَنْ يُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ».
وكأنَّ المراد: إن كان كلامكم يا محيِّصة وحويِّصة صحيحًا فأحد هذين الخيارين: إمَّا أن يَدُوا بدفعِ الدِّيَة، وإمَّا أن يُعلَموا بأنَّهم قد نقضوا العهد، وبالتَّالي نُقاتلهم.
قال: (فَكَتَبَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ)، يعني: إلى اليهود، وفيه مشروعيَّة الكتابة، خصوصًا في إثبات الحقوق، وفيه أنَّ صاحب الولاية والقضاء قد يكتب الكتاب من أجل أن يُعرَّف بحقيقة الحال.
وفيه نسبة الفعل لمَن أمرَ به وإن لم يكن مُباشرًا، فإنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يكن يكتُب، وإنَّما الذي كتبَ أحد الصَّحابة بأمره -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فردَّ اليهود بكتابٍ فقالوا: (إِنَّا وَاللهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لـحُوَيِّصَةَ ومُحَيِّصَةَ وَعبدِ الرَّحْمَنِ: «أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟»)، أي: أتحلفون على شخصٍ بعينه أنَّه هو الذي قتل عبد الله بن سهل، وتستحقون دمَ صاحبكم؟ وهذه هي القسامة.
ولفظ: «وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟» استدلَّ به الجمهور على أنَّ القسَامة يترتب عليها إثبات القصاص.
قَالُوا: (لَا)؛ لأنَّهم لم يشاهدوا مقتل صاحبهم، ولا يعلمون به، وإنَّما عندهم غالب ظنون واحتمالات، ولا يوجد عندهم يقين، ولذا امتنعوا من اليمين.
الشاهد هنا في قوله: «أَتحلِفُونَ؟»، يعني: أيمان القسامة.
وقوله: «وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟»، يعني: يثبت القصاص فيمَن عيَّنتموه، وذكرتم أنَّه هو قاتل عبد الله بن سهل.
فقالو: (لَا)، يعني: كيف نحلف ونحن لم نُشاهد؟!
قَالَ: «فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُوْدُ؟»؛ لأنَّ اليهود هنا هُم المُدَّعى عليهم.
قَال عبد الرحمن وحويصة ومحيصة: (لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ)، وبالتَّالي لن يتورّعوا من اليمين والحلف الكاذب.
فما كان من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا أن سعَى للإصلاح، فقدَّمَ ديةً لهم من عنده، قال: (فَوَدَاهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ عِنْدِهِ).
يقول سهل: (فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِائَةَ نَاقَةٍ)، وهذا مقدار الدِّية.
قال: (حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ)، فيه أنَّ مَن وجبَت عليه الدِّيَة يقوم بتسليم الدِّية لأولياء الدَّم.
فَقَالَ سَهْلٌ: (فَلَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ)، أي: أنَّها قامت بضربه برجلها.
قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي سَلَمَةَ بنِ عَبدِ الرَّحْمَنِ، وَسُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ مَوْلَى مَيْمُونَةَ زوجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَقَرَّ القَسَامَةَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَينَ نَاسٍ مِنَ الأَنْصَارِ فِي قَتِيلٍ ادَّعَوْهُ عَلَى اليَهُودِ. رَوَاهُ مُسْلمٌ)}.
هذا الخبر صحيح الإسناد، أخرجه مسلم.
قوله: (عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، لا يضر عدم تسمية الرجل؛ لأنَّ الصَّحابة كلهم عدول.
قال: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَقَرَّ القَسَامَةَ)، يعني: أنَّ القسامة كانت موجودة فيما قبل الإسلام، ويظهر أنَّها منقولَة عن الأنبياء السَّابقين.
قال: (عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الجَاهِلِيَّةِ)، يعني: على أحكامها الظَّاهرة.
قال: (وَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، يدلُّ على استمرار حكم القَسَامة.
قوله: (وَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَينَ نَاسٍ مِنَ الأَنْصَارِ فِي قَتِيلٍ ادَّعَوْهُ عَلَى اليَهُودِ)، ولعلَّها قصَّة سهل بن أبي حثمةَ التي رواها من طريقِ رجالٍ من كبراء قومه، وفيه أنَّ عبد الله بن سهل هو الذي مات في ذلك اليوم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَابُ صَوْلِ الفَحْلِ وَجِنَايَةِ البَهَائِمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
عَنْ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ أُرِيْدَ مَالُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَاتَلَ دُوْنَهُ فَقُتِلَ، فَهُوَ شَهِيدٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ)}.
قوله: (بَابُ صَوْلِ الفَحْلِ)، يعني: إذا صالَ عليكَ شخصٌ أو حيوانٌ يُريد قتلك، فإذا لم تستطع أن تتفاداه إلا بقتله فلا حرج عليكَ في ذلك.
وقوله: (وَجِنَايَةِ البَهَائِمِ)، يعني: أفعال البهائم التي ترتب عليها جناية وإتلاف لشيءٍ من المعصوم.
أوردَ في هذا الباب حديث عبد الله بن عمرو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»، في هذا جواز مُقاتلة مَن أرادَ مالك، وإن كان الجمهور لا يُوجبون ذلك، ولكن يقولون: لو قُدِّرَ أنَّ الذي قاتل دونَ ماله مات فإنَّ له أحكام الشَّهادة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: قَاتَلَ يَعْلَى بنُ مُنْـيَةَ -أَو أُمَيَّةَ- رَجُلًا فَعَضَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَانْتَزَعَ يَدَهَ مِنْ فَمِهِ، فَنَزَعَ ثَنِيَّتَهُ -وَفِي لَفظٍ: ثنيَّـتَـيْهِ- فاخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «أَيَعَضُّ أَحَدُكُمْ كَمَا يَعَضُّ الفَحْلُ، لَا دِيَةَ لَهُ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ)}.
قوله: (قَاتَلَ)، أي: نازَعَ وخاصمَ خصومةً كانَ فيها اشتباكٌ بينَ الأيدي.
ويَعْلَى بنُ مُنْـيَةَ صحابي، مرَّةً يُنسب إلى أمٍّ له يُقال لها: "منيَّة" ومرَّةً يُنسَب إلى أبيه فيُقال: "ابن أمية".
قال: (قَاتَلَ رَجُلًا فَعَضَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَانْتَزَعَ يَدَهَ مِنْ فَمِهِ)، أي: سحبها بقوَّة، فأدَّى ذلك إلى نزع ثَنِيَّتَهُ -وَفِي لَفظٍ: ثنيَّـتَـيْهِ- وهما: الأسنان التي في زاوية الفم.
قال: (فاخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، يعني: هل في ذلك دية أو لا؟
فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيَعَضُّ أَحَدُكُمْ كَمَا يَعَضُّ الفَحْلُ»، يعني: هذه طريقة الفحل، وليست طريقة بني آدم، أنت المتسبِّب في كونه خلعَ سنَّكَ، فهل تريد أن تبقى يده عندكَ وأنت تُؤلمها وتحزها بأسنانك وصاحبها لا يقوم برفعها؟!
ثم قال: «لَا دِيَةَ لَهُ»؛ لأنَّ هذا الذي عضَّ صائل.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَو أَنَّ امْرَءًا اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ، وَفِي لفظٍ لِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ وَأَبُي حَاتِمٍ البُسْتِيِّ: «مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ، فَفَقَأُوا عَيْنَهُ، فَلَا دِيَةَ لَهُ وَلَا قِصَاصَ»)}.
ذكر المؤلف قال: (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، أبو القاسم هو النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: «لَو أَنَّ امْرَءًا »، يشمل أيضًا المرأة؛ لأنَّ الحكم واحد.
قوله: «اطَّلَعَ عَلَيْكَ»، أي: تجسَّسَ على بيتِكَ ومحلِّكَ.
قوله: «بِغَيْرِ إِذْنٍ»، أي: لم يكن عنده إذنٌ سابقٌ.
قال: «فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ»، أي: رميتها عليه.
قال: «فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ»، أي: لا يكون عليك إثم بسبب ذلك.
ثم روى اللفظ الآخر: «مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ، فَفَقَأُوا عَيْنَهُ، فَلَا دِيَةَ لَهُ وَلَا قِصَاصَ»، لا دية ولا قصاص؛ لأنَّه تجاوز في الاطلاع على حال أهل البيت.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ حَرَامِ بنِ مُـحَـيِّصَةَ الْأنْصَارِيِّ، عَنِ الْبَراءِ بنِ عَازِبٍ قَالَ: كَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ ضَارِيةٌ فَدَخَلَتْ حَائِطًا فَأَفْسَدَتْ فِيهِ، فَكُلِّمَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهَا، فَقَضَى أَنَّ حِفْظَ الحَوائِطِ بِالنَّهَارِ عَلَى أَهْلِهَا، وَحِفْظَ الماشِيَةِ بِاللَّيْلِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَنَّ عَلَى أَهْلِ الماشِيَةِ مَا أَصَابَتْ ماشِيَتُهُم بِاللَّيْلِ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانٍ، وَفِي إِسْنَادِهِ اخْتِلَافٌ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ الطَّحَاوِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ مَشْهُورٌ حدَّثَ بِهِ الْأَئِمَّةُ الثِّقَات)}.
وجه الإشكال في هذا الحديث: أنَّه من رواية حرام بن محيِّصة عن البراء بن عازب، وهو لم يلقَه ولم يروِ عنه، ولذلك تكلم بعض أهل العلم في إسناد هذا الخبر ورموه بالضَّعف.
وقوله: (كَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ ضَارِيةٌ)، أي: تعتدي وتتجاوز إلى حقوق الآخرين، وذلك أنَّ بعضَ الإبلِ يأتيهم في زمانٍ شيءٌ يجعلهم يعتَدون على الآخرين، وفيه جواز تملُّك النُّوق واستعمالها.
قال: (فَدَخَلَتْ حَائِطًا)، يعني: دخلت بستانًا ونخلًا.
قال: (فَأَفْسَدَتْ فِيهِ)، أي: دخلت حائطًا لغير مالكها فأفسدت الأشجار والثِّمار والزُّروع.
قال: (فَكُلِّمَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهَا)، يعني: في هذه النَّاقة؛ لأنَّ هذا نوع من الاعتداء والظُّلم على الآخرين.
قال: (فَقَضَى أَنَّ حِفْظَ الحَوائِطِ بِالنَّهَارِ عَلَى أَهْلِهَا)؛ لأنَّه وقت عملهم ونشاطهم، وبالتالي يتمكنون من حفظ هذه الحوائط.
قال: (وَحِفْظَ الماشِيَةِ بِاللَّيْلِ عَلَى أَهْلِهَا)، يعني: على أهل الماشية، وذلك أنَّ الليل محل سكونٍ واضطجاع، وبالتَّالي أسنده إلى أصحاب البهائم.
قال: (وَأَنَّ عَلَى أَهْلِ الماشِيَةِ مَا أَصَابَتْ ماشِيَتُهُم بِاللَّيْلِ)، يعني: ما أصابت بالليل يلزم أصحاب الماشية.
هذا الحديث ظاهره الصحَّة وفي إسناده اختلاف، ولكن لا يؤثِّر ذلك الاختلاف عليهم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ تَطَبَّبَ وَلَا يُعْلَمُ مِنْهُ طِبٌّ، فَهُوَ ضَامِنٌ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ -وَتوقَّفَ فِي صِحَّتِهِ- وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَه، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَـمْ يسْنِدْهُ عَنِ ابْنِ جريجٍ غَيْرُ الْوَلِيدِ بنِ مُسْلمٍ، وَغَيْرُهُ يَرْويهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ مُرْسَلًا، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
هذا الحديث -كما ذكر المؤلف- رواه الوليد بن مسلم، والوليد بن مسلم ثقة من رواة الصحيح، ولكنَّه يُدلِّس، ولذلك لا يقبلون من حديثه إلا ما صرَّح فيه بالسَّماع، وهذا الحديث لم يُصرِّح فيه بالسَّماع ورواه بالعنعنة.
وبعض أهل العلم يقول: إنَّ صحَّة هذا الخبر إنَّما هي عن ابن جريج من كلامه وليس مرفوعًا للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والإمام أبو داود توقَّفَ في صحَّته، وكثير من أهل العلم كالنسائي وابن ماجه وغيرهم رأوا التَّوقُّف.
والويد بن مسلم مدلِّس، ويدلس تدليس التَّسوية، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: (وَغَيْرُهُ يَرْويهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ مُرْسَلًا)، فهو من حديث عمرو بن شعيب مرسلًا وليس مَرفوعًا للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَطَبَّبَ»، أي: مَن دخلَ في باب الطِّبِّ وأصبحَ يُعالج النَّاس.
قال: «وَلَا يُعْلَمُ مِنْهُ طِبٌّ»، أي: ليس عنده شهادة طبيَّة؛ فحينئذٍ يكون ضامنًا متى تلفت السِّلعَة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَابٌ فِي البُغَاةِ وَالخَوَارِجِ وَحُكْمُ المُرْتَدِّ
عَنْ عَرْفَجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيْعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ». رَوَاهُ مُسلمٌ)}.
قوله: (بَابٌ فِي البُغَاةِ وَالخَوَارِجِ وَحُكْمُ المُرْتَدِّ).
البغاة: قومٌ لهم منعة يخرجون على صاحب الولاية من أجل أمور دنيا، فهؤلاء يُقال لهم: بغاة.
لماذا سُمُّوا بُغاة؟
لأنَّ الله تعالى قال: ï´؟فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِï´¾ [الحجرات:9].
وأمَّا الخوارج: فهؤلاء أصحاب عقيدة، وملخَّصها ومؤدَّاها أنَّهم يقولون بجواز الخروج على صاحب الولاية.
وأمَّا المرتد: فهو التَّارك لدينه المفارق للجماعة.
ثم أوردَ المؤلِّف هنا حديث عرفجة، قال: سمعتُ رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيْعٌ»، يعني: وأنتم مجتمعون ما عندكم اختلافات.
قال: «عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ»، يعني: قد ولَّيتموه.
قوله: «يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ»، هذا الرَّجل من البُغاة، وقد يكون من الخوارج ويُريد أن يشق صف المسلمين، ويفرق كلمتهم، وقد أمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقتله.
وفي هذا بيان حكم مَن خرج على صاحب الولاية.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عَليٍّ قالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ، يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَإِذَا لَقِيْتُمُوْهُمْ فَاقْتُلُوْهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا -لِمَنْ قَتَلَهُمْ- عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ. وَقَالَ البُخَارِيُّ: «فَأَيْنَمَا لَقِيْتُمُوْهُمْ فَاقْتُلُوْهُمْ»، وَقَالَ: «وَلَا يُجَاوِزُ إِيْمَانُهُمْ حَنَاجِرَهَمْ» وَلم يَقُلْ: «يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ»)}.
أورد المؤلف هنا حديث علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قال: «سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ»، يعني: أسنانهم صغيرة.
قال: «سُفَهَاءُ الأَحْلَامِ»، يعني: ليس لهم عقول تُمكِّنهم من معرفة عواقب الأمور.
قال: «يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ»، أي: يستندون إلى أحاديث منسوبة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد يشمل هذا أيضًا القرآن.
قال: «يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ»، أي: يخرجون من طاعة الإمام. «كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ»
قوله: «فَإِذَا لَقِيْتُمُوْهُمْ»، أي: وجدتموهم وقابلتموهم.
قوله: «فَاقْتُلُوْهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا -لِمَنْ قَتَلَهُمْ- عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ»، هذا فيه دلالة على أنَّ الإنسان يجب عليه مُقاتلة الخوارج مع صاحب الإمامة.
والجمهور على أنَّ هذا الوجوب من فُروض الكفايات، ولكن إذا حضر العدو أو القريب؛ فحينئذٍ يُشرَع العمل بما ورد في الخبر.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: أُتِـيَ عَلِيٌّ بزَنادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَو كُنْتُ أَنَا لمْ أُحَرِّقْهُمْ لِنَهْيِّ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللهِ»، ولَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَدَّلَ دِيْنَهُ فَاقْتُلُوهُ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَزَادَ البَيْهَقِيُّ: فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ: وَيْحَ ابْنَ أُمِّ الفَضْلِ، إِنَّهُ لَغَوَّاصٌ عَلَى الهَنَاتِ)}.
قوله: (وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: أُتِـيَ عَلِيٌّ بزَنادِقَةٍ)، الزَّنادقة لا يُوقنون ويقطعون بأصل الدين، وقد يكون عندهم خلاف ما ورد به شرع الله.
قال: (فَأَحْرَقَهُمْ)، وقيل: إنَّ هؤلاء الزَّنادقة هم الذين ألَّهوا عليًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قال: (فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَو كُنْتُ أَنَا لمْ أُحَرِّقْهُمْ لِنَهْيِّ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللهِ»، ولَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَدَّلَ دِيْنَهُ فَاقْتُلُوهُ»)، في هذا بيان حكم المرتد.
قال: (فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ: وَيْحَ ابْنَ أُمِّ الفَضْلِ، إِنَّهُ لَغَوَّاصٌ عَلَى الهَنَاتِ).
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي مُوسَى فِي حَدِيثٍ لَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهُ: «اذْهَبْ إِلَى اليَمَنِ»، ثُمَّ اتَّبَعَهُ معَاذُ بنُ جَبَلٍ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَلْقَى لَهُ وِسَادَةً، وَقَالَ: انْزِلْ، فَإِذا رَجُلٌ عِنْدَه مُوْثَقٌ، قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ، قَالَ: اجْلِسْ، قَالَ: لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقتَلَ، قَضَاءُ اللهِ وَرَسُولِهِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُتَلَ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبي مُوسَى، قَالَ: قَدِمَ عَلَيَّ مُعَاذٌ، قَالَ: لَا أَنْزِلُ عَنْ دَابَّتِي حَتَّى يُقْتَلَ فَقُتِلَ، وَكَانَ قَدِ اسْتُـتِـيـبَ قَبْلَ ذَلِكَ)}.
قوله: (وَعَنْ أَبي مُوسَى فِي حَدِيثٍ لَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهُ: «اذْهَبْ إِلَى اليَمَنِ»)، فإنَّ أبا موسى جاء طالبًا لللاية، فقال له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبْ إِلَى اليَمَنِ»
قوله: (ثُمَّ اتَّبَعَهُ معَاذُ بنُ جَبَلٍ)، الصَّحابي المعروف ليكون إمامًا.
قال: (فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَلْقَى لَهُ وِسَادَةً، وَقَالَ: انْزِلْ) من باب الاحتفاء به.
قال: (فَإِذا رَجُلٌ عِنْدَه مُوْثَقٌ)، أي: مربوط بالحبال الوثيقة.
قال: (قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ)، فحينئذٍ ارتدَّ عن دينه وترك دين الإسلام.
قال أبو موسى لمعاذ: (اجْلِسْ)، أي: نتشاور في أمره.
فقال معاذ: (لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقتَلَ، قَضَاءُ اللهِ وَرَسُولِهِ)، قالها ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، حتى أَمَرَ بِهِ فَقُتَلَ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عِكْرِمَةَ قالَ: حَدَّثَـنَـا ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أمُّ وَلَدٍ تَشْتُمُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَقَعُ فِيهِ، فَيَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، وَيَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ، فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ جَعَلَتْ تَقَعُ فِي النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَشْتُمُهُ، فَأَخَذَ المِغْوَلَ، فَوَضَعَهُ فِي بَطْنِهَا، وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا فَقَتَلَهَا، فَوَقَعَ بَيـنَ رِجْلَيْهَا طِفْلٌ فَلَطَّخَتْ مَا هُنَاكَ بِالدَّمِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ذُكِرَ ذَلِكَ للنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَجَمَعَ النَّاسَ، فَقَالَ: «أَنْشُدُ اللهَ رَجُلًا فَعَلَ مَا فَعَلَ، لِي عَلَيْهِ حَقٌّ إِلَّا قَامَ» فَقَامَ الْأَعْمَى يَتَخَطَّى النَّاسَ، وَهُوَ يَتَزَلْزَلُ حَتَّى قَعَدَ بَينَ يَدَيِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنا صَاحِبُهَا، كَانَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيْكَ، فَأَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، وأَزْجُرُها وَلَا تَنْزَجِرُ، وَلِي مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلُ: اللُّؤْلُؤَتَيْنِ، وَكَانَتْ بِي رَفِيقَةً، فَلَمَّا كَانَ البَارِحَةَ، جَعَلَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ، فَأَخَذْتُ المِغْوَلَ فَوَضَعْتُهُ فِي بَطنِهَا، وَاتَّكَأْتُ عَلَيْهَا حَتَّى قَتَلْتُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالنَّسَائِيُّ ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الإِمَامُ أَحْمدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبدِ اللهِ، وَالمِغْوَلُ بِالـمُعْجَمَةِ: قَالَ الْخطَّابِيُّ: «هُوَ شَبِيْهُ الـمِشْمَلِ وَنَصْلُهُ دَقِيقٌ مَاضٍ»، والـمِشْمَلُ: السَّيْفُ القَصِيْرُ)}.
عكرمة تابعي وقد روى هذا الخبر عن ابن عباس، فقال: (حَدَّثَـنَـا ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَعْمَى)، يعني: أنَّ هناك رجل أعمى.
قوله: (كَانَتْ لَهُ أمُّ وَلَدٍ)، أمُّ الولد هي أمة مملوكة حملت من سيدها، فجاءت منه بولد -ذكرًا كان أو أنثى- فهذه تسمى أم ولد.
وحكمها: أن تبقى في الخِدمَة وفي حيازة سيدها حتى تموت، وتُعتَق بموت سيدها، وهذا الولد يُنسَب لأبيه ويرثه وإن كانت أمُّه أمَةً، وأمَّا أمُّه (الأمة) فما دامت مملوكة فحينئذٍ تبقى على كونها مملوكة.
قال: (كَانَتْ لَهُ أمُّ وَلَدٍ تَشْتُمُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَقَعُ فِيهِ، فَيَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، وَيَزْجُرُهَا)، أي: يُكلمها بشدَّة وخطاب قوي فَلَا تَنْزَجِرُ.
قال: (فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ جَعَلَتْ تَقَعُ فِي النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَشْتُمُهُ)، على عادتها، وهذا أمرٌ محرَّمٌ وفعلٌ شنيع.
قال: (فَأَخَذَ المِغْوَلَ، فَوَضَعَهُ فِي بَطْنِهَا)، أي: أنَّه أراد أن يقتلها.
قال: (وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا فَقَتَلَهَا)، وكانت حاملًا بطفل آخر قال: (فَوَقَعَ بَيـنَ رِجْلَيْهَا طِفْلٌ فَلَطَّخَتْ مَا هُنَاكَ بِالدَّمِ)، أي: لَمَّا ماتت خرج منها دماء كثيرة أثَّرت على جميع الموجودات.
قال: (فَلَمَّا أَصْبَحَ ذُكِرَ ذَلِكَ للنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، أي: ذُكر للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّ هذا الرجل قتل أم ولده التي كانت تشتم النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (فَجَمَعَ النَّاسَ)، فيه مشروعيَّة الخطبة عند الأمر الجَلَل العام.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْشُدُ اللهَ رَجُلًا فَعَلَ مَا فَعَلَ، لِي عَلَيْهِ حَقٌّ إِلَّا قَامَ»، يعني: مَن هو هذا الرَّجل الذي قتلَ أمَّ ولده؟ فليقُم وليأتي إليَّ.
قوله: (فَقَامَ الْأَعْمَى يَتَخَطَّى النَّاسَ، وَهُوَ يَتَزَلْزَلُ)، يعني: يضطرب.
قال: (حَتَّى قَعَدَ بَينَ يَدَيِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنا صَاحِبُهَا)، أي: أنا الذي قتلت أمَّ ولدي.
قال: (كَانَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيْكَ) أي: تسبُّكَ.
قال: (فَأَنْهَاهَا)، أي: أقول لها: اسكتي ولا تتكلمي بمثل ذلك.
قوله: (فَلَا تَنْتَهِي)، بل تستمر.
قوله: (وأَزْجُرُها وَلَا تَنْزَجِرُ، وَلِي مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلُ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ)، أي: أنها جاءت بولدين لسيدها، وهؤلاء الأولاد أحرار -كما تقدم- ويرثون، بخلاف أم الولد فإنها تبقى مملكوة ولا تعتق إلا بموت السيد ولا ترث؛ لأنَّ الرِّق والعبودية مانع من موانع الإرث.
قال: (وَكَانَتْ بِي رَفِيقَةً)، أي: أنَّ أم الولد هذه كانت ترأف بي وترفق بي في التَّعامل معي.
قال: (فَلَمَّا كَانَ البَارِحَةَ، جَعَلَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ)، أي: تسبُّكَ وتقدح فيك؛ فحينئذٍ لم يرضَ ولم يقبل.
قال: (فَأَخَذْتُ المِغْوَلَ)، وهو آلةٌ حديدية فيها جانبٌ حادٌّ.
قال: (فَوَضَعْتُهُ فِي بَطنِهَا، وَاتَّكَأْتُ عَلَيْهَا حَتَّى قَتَلْتُهَا)، يعني: وضع الآلة الحادَّة على بطنها وأدخلها في بطنها حتى ماتت.
فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ»، أي: لا يجب فيها ديةٌ بسببِ ذلك.
ثم قال المؤلف: (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالنَّسَائِيُّ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الإِمَامُ أَحْمدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبدِ اللهِ، وَالمِغْوَلُ بِالـمُعْجَمَةِ: قَالَ الْخطَّابِيُّ: المغول: هُوَ شَبِيْهُ الـمِشْمَلِ وَنَصْلُهُ دَقِيقٌ مَاضٍ، والـمِشْمَلُ: السَّيْفُ القَصِيْرُ).
فهذا بقيَّة ما أردنا أن نشرحه من كتاب دفع الصَّائل.
أسأل الله -جلَّ وعَلَا- أن يوفقنا وإيَّاكم لكلِّ خيرٍ، وأن يجعلنا وإيَّاكم من الهُداة المهتدي، كما أسأله سبحانه صلاحًا لأحوال الأمَّة، وبُعدًا للنِّزاعِ والشِّقاق عنها، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

احمد الصادق
2019-04-30, 08:00
المحرر في الحديث (4)
الدَّرسُ الثَّاني عَشَر (12)
معالي الشيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ/ الدكتور سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
الله يبارك فيك، أرحبُ بك، وأرحبُ بإخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلَا- للجميع خيري الدُّنيا والآخرة، وأسأله -سبحانه- أن يكفي الجميع جميع الشُّرور.
{نستفتح في هذه الحلقة بكتاب "الحُدُود" باب "بَابُ حَدِّ الزَّانِي" من كتاب المحرَّر لابن عبد الهادي.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ وَزيدِ بنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُمَا قَالَا: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنْشُدُكَ اللهَ إِلَّا قَضَيْتَ لي بِكِتَابِ اللهِ، فَقَالَ الْخَصْمُ الآخَرُ -وَهُوَ أفْقَهُ مِنْهُ: نَعَمْ، فَاقْضِ بَيْنَـنَا بِكِتَابِ اللهِ وَائْذَنْ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُلْ» قَالَ: إِنَّ ابْني كَانَ عَسِيْفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، وَإِنِّي أُخْبِرتُ أَنَّ عَلَى ابْني الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّما عَلَى ابْني جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ، الوَلِيْدَةُ وَالغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» قَالَ: فَغَدَا عَلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ، فَأَمَرَ بِـهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فرُجِـمَتْ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لفظُ مُسلمٍ)}.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أما بعد؛ قوله: (كِتَابُ الْحُدُودِ).
المراد بالحدود: العقوبات المقدَّرة شرعًا.
الحد في اللغة: المنع. وهذه العقوبات تمنع النَّاس من ارتكاب الجرائم التي رُتِّبَت هذه العقوبات عليها، ولذا سُمِّيَت الحدود.
إذن؛ عندنا عُقوبات مُقدَّرة من الشَّارع يُقال لها: حدودًا، وَعُقوبات يُقدِّرها القاضي بناء على فعل جريمة، فهذه تُسمَّى تعزيرات.
وتلاحظ أنَ الشَّريعة قد نصَّت على الجرائم، إمَّا بأوصافها، أو بعموماتها، ولم تترك جريمةً إِلَّا وقد ذكرَت حُكْمَها.
وإيجاب الحدود فيه عددٌ من المعاني:
ïƒک الأول: تطهير ذلك الشَّخص الذي فعل تلك الجريمة، فإنَّ الحدود مُطهرات تجعل الإنسان يتخلَّص منها.
ïƒک الثاني: زجر الآخرين عن الإقدام على هذا الفعل، لئلا يقتدوا بهذا الفاعل لهذه الجرائم التي عليها عُقوبات حدِّيَّة
ïƒک الثالث: أنَّ هذه الجرائم ينتهي ذكرها في المجتمع، وبالتَّالي يجفل منها النَّاس ويهابونها.
ïƒک الرابع: أن تكون تلك الحدود بمثابة المصلح لأولئك الأشخاص الذينَ وقعوا في هذه الجرائم.
والغالب في الحدود أن تكونَ إمَّا بالجلد أو بالقطعِ، أو نحوه، وليس فيها ذكر شيء من السُّجون، ولم يَرِد عَنْ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه حكمَ بالسِّجن كعقوبة، وإن وردَ أنَّه حبسَ في التُّهمةِ من أجلِ أن يتحقَّقَ من الأمر.
فالمقصود: أن تقرير عُقوبات الحدود هذه تعود بالخير والصلاح على الْمُقدِم على الفعل، وعلى غيره ممَّن يُريد الاقتداء به، وتكون من أسباب انتهاء النَّاس عن المنكرات.
ثُمَّ ذَكَرَ المؤلف حدَّ الزِّنا.
المراد بالزِّنا: الوطء في الحرام.
وبعضهم يقول: وطءُ رجلٍ لامرأة محرَّمةٍ عليه، بدون أن يكون هناك شُبهة.
والنَّاس في الزنا على نوعين:
ïƒک مُحصَن: وهو الذي سبق له الزَّواج ولو طلَّق، فهذا الواجب رجمه.
ïƒک غير محصَن: وهو الذي لم يَسبق له الزَّواج، فعقوبته جلد المائة -كما سيأتي.
أورد المؤلف هنا حديث أَبي هُرَيْرَةَ وَزيدِ بنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا (أَنَّهُمَا قَالَا: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ)، يعني: من أصحاب البادية.
قال: (أَتَى رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ)، ولم يأت وحدَه؛ بل جاء معه والد الرجل الآخر.
قال: (أَنْشُدُكَ اللهَ)، أي: أرفعُ صوتي طالبًا نُشدتكَ من الله -جلَّ وعَلَا- ولذلك سُمِّي النَّشيدُ نشيدًا؛ لأنَّهم يرفعون الصَّوت به.
قال: (إِلَّا قَضَيْتَ لي بِكِتَابِ اللهِ)، أي: أطلبُ منك أن تقضي بيني وبين خصمي بكتاب الله.
قال: (فَقَالَ الْخَصْمُ الآخَرُ -وَهُوَ أفْقَهُ مِنْهُ)، لماذا كان أفقه منه؟
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لن يقضي إلا بكتاب الله، وبالتَّالي لا حاجة لأن يشترط عليه أن يكون قضاؤه بكتاب الله -جلَّ وعَلَا- ولذلك كان الثَّاني أفقه منه.
قال: (نَعَمْ، فَاقْضِ بَيْنَـنَا بِكِتَابِ اللهِ)، أي: على وفق ما طلب، وفيه إشارة إلى أنَّ الخصم الآخر عرَفَ مأخَذ المسألة بسؤال أهل العلم، فكان أفقه، فالأول الآن يُطالب بتنفيذ الحكم على وفق ما جاءت به الشَّريعة.
قال: (وَائْذَنْ لِي)، أي: ائذن لي بالكلام أولا.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُلْ».
قَالَ: (إِنَّ ابْني كَانَ عَسِيْفًا عَلَى هَذَا)، أي أن ابني كان أجيرًا يعمل عندهم بأجرةٍ.
قال: (فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ)، فيه إشارة إلى أنَّه ينبغي التَّحرُّز في اختلاط الرِّجال بالنِّساء، وأنَّ الاختلاط قد يؤدِّي إلى آثار سيئةٍ.
قال: (وَإِنِّي أُخْبِرتُ)، أي: سمعتُ شائعة.
قال: (أَنَّ عَلَى ابْني الرَّجْمَ)، هو لم يتزوَّج بعدُ. فهذه الشَّائعة التي جاءت إليه ظنَّها صحيحة، وأنتَ تعلم أنَّ الزَّاني البكر عليه الجلد، لقوله تعالى: ï´؟الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ غ– وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِï´¾ [النور: 2].
وفيه أنَّه ينبغي للإنسان ألا يُبادر بتصديق الشَّائعات، وينبغي به أن يرجع إلى أهلِ الشَّأنِ والاختصاص فيسألهم؛ ليكونَ كلامه وفعله مُطابقًا لما يجب عليه.
قال: (فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ)، أي: ذهبتُ إلى زوجِ المرأة وقلت: أريدكَ أن تعفو عن ابني، وأدفع عنه مائة شاة وجارية صغيرة مملوكة، فاتفقوا على ذلك ووقع الصُّلح.
قال: (فَسَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ)، يعني: رجع إلى أهل الخبرة والاختصاص ليأخذ منهم.
قال: (فَأَخْبَرُونِي أَنَّما عَلَى ابْني جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ)، وفي هذا أن الزاني غير المحصَن يجب عليه جلد مائة.
وقوله: (وَتَغْرِيبُ عَامٍ) فيه دلالة على أنَّ الزَّاني غير المحصَن يُغرَّب سنة، أي: يُنقَل من مكانه وبلده الذي زنا فيه إلى مكانٍ آخرٍ من أجل أن يكون ذلك من أسباب استقامته، وبُعده عن المجتمع السَّابق الذي فعل فيه المعصية.
واستدلَّ الجمهور بهذا اللفظ (وَتَغْرِيبُ عَامٍ) على مَشروعيَّة التَّغريب، وهو مذهب مالك والشَّافعي وأحمد.
وقال الإمام أبو حنيفة: لا يُشرع التَّغريب.
ومنشأ الخلاف هنا: من مسألة هل يصحُّ أن نزيد على نصِّ القرآن بواسطةِ أحاديث الآحاد؟
فإن الإمام أبا حنيفة يقول: الزِّيادة على النَّصِّ نسخٌ، وبالتَّالي يُشتَرَط في الزِّيادة شروط النَّسخ، ومن شروط النَّسخ أنَّنا نقول: إن الخبر المتواتر لا يُنسَخ بالآحاد، وهنا حُكمٌ مُتواتر جاء في الآية القرآنية بإثبات الجلد مائة، وجاءنا في الحديث -وهو خبر آحاد- زيادة التَّغريب لعام، فقال أبو حنيفة: لا آخذ بهذه الزيادة؛ لأنَّ الزيادة على النَّصِّ نسخٌ، وخبرُ الآحاد لا يقوى على نسخ المتواتر.
وقال الأئمة مالك والشَّافعيُّ وأحمد: إنَّ الزِّيادة على النَّصِّ ليست نسخًا، وإنَّما هي بيان، ولا مانع من بيان المتواتر بالآحاد، ولذلك أثبتوا عقوبة التَّغريب.
ويدل عليه: أنَّ هناك أحاديث كثيرة فيها إثبات التَّغريب.
قال: (وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ)، فيه أنَّ الزَّانية المحصَنَة يجب رجمها، وأنَّ هذا هو الحد في حقها.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ»، فيه القَسَم قبل أن يُطلَب إذا كان هناك فائدة.
قال: «لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ»، أي: بحسب طلبكما، والمراد بكتاب الله: أي بشرعِ الله -جلَّ وعَلَا.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مخاطبًا والد العسيف: «الوَلِيْدَةُ وَالغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْكَ»؛ لأنَّه صُلحٌ فاسدٌ، وبالتَّالي لا يُعوَّل عليه، ولا يُبنَى عليه حُكمٌ.
قال: «وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ»، على مُقتضَى الآية.
قال: «وَتَغْرِيبُ عَامٍ»، فيه إثبات مذهب الجمهور في تغريب الزَّاني.
قال: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ»، وهو أنيس الأسلمي من صحابة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفيه فوائد:
ïƒک توكيل القاضي لأفراد الناس في سماع الإقرارات.
ïƒک أنَّ المرأة التي ليس من شأنها البروز يحسُن أن تُقاضَى داخل بيتها، وأَلَّا تُجرَّ إلى المحاكم ونحوها، وفي هذا الحرص على صيانة المرأة.
قال: «إِلَى امْرَأَةِ هَذَا»، أي: زوجته.
قال: «فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا»، فلا يلزمها كلام زوجها وكلام والد العسيف وكلام العسيف، وبالتالي يُرجع إليها، وفيه أنَّ الاعتراف يُرجَع فيه إلى صاحب الشَّأن الذي يثبت عليه الحق.
قَالَ: (فَغَدَا عَلَيْهَا)، أي: أنَّ أنيسًا ذهبَ إلى امرأة هذا الرَّجل.
قال: (فَاعْتَرَفَتْ)، أي: اعترفت بالزنا.
قال بعضهم: هذا دليل على أنَّ الزَّاني يكفي اعترافه مرَّة واحدة.
وبعضهم يقول: لابدَّ في الاعتراف بالزنا من أربع مرَّاتٍ على مُقتضى ما ورد في حديث ماعز، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
قال: (فَأَمَرَ بِـهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فيه أنَّ الحدود إلى الإمام، وليست لأفراد النَّاس من أجلِ أن يتحقق من الشروط ويتثبَّت من الأمر.
قال: (فرُجِـمَتْ)، يعني: بأمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيْلًا البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ». رَوَاهُ مُسْلمٌ)}.
قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي»، أي: خُذوا هذا الحكم واستلموه واعملوا به.
قال: «فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيْلًا»، يُشير إلى الآية: ï´؟وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ غ– فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىظ° يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًاï´¾ [النساء: 15]، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيْلًا»، فهذا تقريرُ حُكمٍ.
كيف جعل الله لهنَّ سبيلًا؟
لأنَّه كان يُؤمَر بحبسها، والآن جاءها فرجٌ وطريقٌ وسبيلٌ تتخلص به من ذلك الحبس.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ» أي: إذا زنا البكر فحينئذٍ يجب الجلد مائة، والنَّفي سنة، وليس في هذا تخصيص العقوبة بما لو زنا بكرٌ ببكر، بل لو زنا البكر بالثَّيب؛ فحينئذٍ يثبت للبكر أحكامه وللثيب أحكامها، ومثله العكس، فلو كانت المرأة بكرًا والرَّجل سبق له الزَّواج؛ فحينئذٍ نقول: لكلٍّ حكمه.
وقوله: «جَلْدُ مِائَةٍ» فيه أنَّه لابدَّ من استيفاء العدد، فلا يكفي تسعة وتسعون، ولا يكفي أن تُجمَعَ هذه بضربة واحدة بعُكال أو نحوه؛ بل لابدَّ من جلد مائة جلدة، كلُّ واحدة مُنفصلة عن الأخرى.
قوله «وَنَفْيُ سَنَةٍ»، أي: تغريب عام، والسَّنَةُ في لسانِ الشَّرع يُراد بها السَّنَةُ القمريَّة، فلا يجوز أن يُغرَّبَ سنةً شمسيَّة؛ لأنَّ السَّنَة الشَّمسيَّة أكثر من السَّنة القمريَّة بأحد عشر يومًا؛ فلابدَّ أن يُراعَى هذا؛ لأنَّ هذا الحكم وجميع الأحكام المربوطة بالسَّنوات إنَّما تُحسَب بالسَّنة القمريَّة الهجريَّة لا بالسَّنةِ الشَّمسيَّة الميلاديَّة، قال تعالى: ï´؟هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَï´¾ [يونس: 5]، يعني: قدَّر القمر.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ» تقدَّم أنَّ المراد به: مَن سبق له أن تزوَّجَ ودخل بالمرأةِ، ويُشترط فيه كمال حال الزَّوج وكمال حال الزَّوجَة، فالثيب: مَن وطء في عَقدٍ صحيحٍ وهما حرَّانِ بالغانِ.
قال: «جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ»، الجمع بين الرَّجم والجلد هذا مذهب جماعة من أهل العلم.
والجمهور يقولون: يُرجَم فقط؛ لأنَّ الحوادث التي وقعت كقصَّة ماعز والغامديَّة وُجد فيها رجم ولم يوجد جلد، وقد ورد عن عليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّه في ولايته جلدَ ورَجمَ.
وعلى كلٍّ فالمسألة خلافيَّة، والقاضي الذي ينظر في مثل هذه القضايا يجتهد، وتطبيق الحدود لابدَّ أن يكون عن طريق القضاء، فلا يأتي واحدٌ ويقول: أنا أنفِّذ على فلان! لأنَّه لا يعلم هل وُجدَت الشُّروط، هل انتفت الموانع، هل هناك تقييدات، ونحو ذلك؛ وإنَّما يُطبقه ويأمر بتطبيقه صاحب الولاية القضائيَّة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبي سَلَمَةَ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ وَسَعِيدِ بنِ المسَيَّبِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ مِنَ الـمُسْلِمِينَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ فِي المسْجِد فَنَادَاهُ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، حَتَّى ثَنَى ذَلِكَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبِعَ شَهَادَاتٍ، دَعَاهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «أَبِكَ جُنُونٌ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «فَهَلْ أحْصَنْتَ؟» قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ» قَالَ ابْنُ شهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابرَ بنَ عبدِ اللهِ يَقُولُ: فَكنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ، فَرَجَمْنَاهُ بِالـمُصَلَّى، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الحِجَارَةُ هَرَبَ، فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ)}.
قوله: (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ)، هو محمد بن مسلم الزُّهري، من علماء السُّنَّة، ومن الأئمَّة الأثبات، حفظ حديث رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دهرًا من الزَّمان.
قوله: (عَنْ أَبي سَلَمَةَ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ)، والده عبد الرحمن بن عوف من العشرة المبشرين بالجنَّة.
قوله: (وَسَعِيدِ بنِ المسَيَّبِ)، وهو أبو سلمة من التَّابعين.
قال: (عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ مِنَ الـمُسْلِمِينَ).
هل يُفهم من كلمة (مِنَ الـمُسْلِمِينَ) أنَّ تطبيق الحدود إنَّما يكون على أهل الإسلام كما قال طائفة؟ أو يشمل كل مَن حرُم عليهم ذلك الفعل؟
سيأتي معنا رجم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لليهوديين.
قال: (أَتَى رَجُلٌ مِنَ الـمُسْلِمِينَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ فِي المسْجِد)، فيه كثرة بقاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المسجد.
قال: (فَنَادَاهُ)، أي: أنَّ هذا الرجل نادى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: (يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ)، أعرض عنه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقد ناداه أولًا من بعيدٍ، ثم ذكرَ فعلًا شنيعًا.
قال: (فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ)، يعني: أنَّ الرجل بدلَ أن يكون في تلك الجهة الأولى جاء في الجهة الثانية التي التفت إليها رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ لَهُ: (يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي زَنَيْتُ)، هذا الرجل يُريد أن يطهِّر نفسه ويُزيل عنه الإثم.
قال: (فَأَعْرَضَ عَنْهُ)، فيه الإعراض عن الكلام الذي تُخشَى عواقبه.
قال: (حَتَّى ثَنَى ذَلِكَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ)، يعني :كرَّرَ عليه هذا الكلام أربعَ مرَّاتٍ.
قال: (فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبِعَ شَهَادَاتٍ)، يعني: أنَّه قد زنا.
قال: (دَعَاهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)؛ ليتحقق من وجود الشُّروط وانتفاء الموانع.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبِكَ جُنُونٌ؟»؛ لأنَّ الجنون مانع من إقامة الحد.
قَالَ الرجل: (لَا)، أي: ليس بي جنون.
قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهَلْ أحْصَنْتَ؟»، أي: هل سبق لك الزَّواج والوطء فيه؟ وهذا مُراعاة شرط من شروط الحكم.
قَالَ: (نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ»)، في هذا أنَّه لا يلزم وجود الإمام عندَ إقامة الحدود، طلبَ منهم أن ينقلوه إلى المكان الآخر من أجل أن يكون خارج المدينة.
قَالَ ابْنُ شهَابٍ: (فَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابرَ بنَ عبدِ اللهِ)، هنا انقطاع بين ابن شهاب وبين جابر.
يَقُولُ: (فَكنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ)، فيه أنَّ أفراد النَّاس يُشاركونَ في الرَّجم.
قال: (فَرَجَمْنَاهُ بِالـمُصَلَّى)، المصلَّى مكان خارج البلد يُصلون فيه العيد، ويُصلونَ فيه على الجنائز في الزَّمان الأول.
قال: (فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الحِجَارَةُ هَرَبَ)، أي: آنسَ حرَّ الحجارةِ وأضعفته هذه الحجارة هربَ.
قال: (فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحرَّةِ)، أي: الجبال السُّود، أو المواطن التي فيها حجارة سود بجوار المدينة.
قال: (فَرَجَمْنَاهُ)، تنفيذًا لأمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنْ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَتَى مَاعِزُ بنُ مَالكٍ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهُ: «لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أَوْ غَمَزْتَ، أَوْ نَظَرْتَ» قَالَ: لَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: «أَنِكْتَهَا» -لَا يَكْنِي- قَالَ: نَعَمْ. فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْـمِهِ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَلِمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لـمَاعِزِ بنِ مَالكٍ: «أَحَقٌ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ؟» قَالَ: وَمَا بَلَغَكَ عنِّي؟ قَالَ: «بَلَغَنِي أَنَّكَ وَقَعْتَ بِجَارِيَةِ آلِ فُلَانٍ» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، ثمَّ أَمَرَ بِهِ فرُجِمَ).
ماعز بن مالك من الصَّحابة، جاء إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُعترفًا بالزنا، واعترف أربع مرَّاتٍ، فحينئذٍ أراد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يتحقَّقَ من أنَّ اعترافه وقع على محلِّه، وأنَّه لم يقصد بالاعتراف بالزنا مُقدِّماته، ولذا قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ»، فإنَّ بعضَ النَّاس قد يُسمِّي القُبلَة زنا.
قال: «أَوْ غَمَزْتَ»، أي: أدخلتَ أصبعكَ أو يدك في بدنِ المرأة.
قال: «أَوْ نَظَرْتَ»، أي: اكتفيتَ بالمشاهدة.
فهذه الأمور لا يثبت بها حد الزِّنا.
قَالَ: (لَا يَا رَسُولَ اللهِ)، أي: ليس مُرادي هذه الأشياء.
فَقَالَ: «أَنِكْتَهَا»، والنَّيْكُ عندهم الجماع.
قول الراوي: (لَا يَكْنِي)، أي: لم يحتَجْ إلى استعمال لفظة أخرى في الكناية؛ لأنَّ هذا سيترتب عليه تنفيذ الحد الذي هو الرَّجم.
قَالَ ماعز: (نَعَمْ).
قال: (فَعِنْدَ ذَلِكَ)، أي: لَمَّا تحقَّقَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتكرَّرَ اعترافه.
قوله: (أَمَرَ بِرَجْـمِهِ)، أي: أمرَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- برجمه، وفيه أنَّ الثَّيب الزَّاني يُرجَم.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لـمَاعِزِ بنِ مَالكٍ: «أَحَقٌ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ؟»، أي: هذا الخبر الذي وصلني عنكَ بأنَّك قد قارفتَ هذه الجريمة.
قَالَ ماعز: (وَمَا بَلَغَكَ عنِّي؟ قَالَ: «بَلَغَنِي أَنَّكَ وَقَعْتَ بِجَارِيَةِ آلِ فُلَانٍ»)، يعني: جامعتها.
قَالَ: (نَعَمْ. قَالَ: فَشَهِدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ)، يعني: اعترف على نفسه أربع مرَّات.
قال: (ثمَّ أَمَرَ بِهِ فرُجِمَ)؛ لأنَّه قد انطبق عليه شرط الرَّجم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عُبيدِ اللهِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُتْبَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبدَ اللهِ بنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: قَالَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَهُوَ جَالسٌ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الكِتَابَ، فَكَانَ مِمَّا أنزلَ اللهُ عَلَيْهِ آيَةَ الرَّجْمِ، قَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا، فَرَجَمَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلهَا اللهُ، وَإِنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذا أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذا قَامَتِ البَيِّنَةُ، أَو كَانَ الْحَبَلُ، أَوِ الاعْتِرَافُ)}.

قوله: (قَالَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَهُوَ جَالسٌ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فيه تولِّي صاحب الولاية خطبة الجمعة، وفيه الاستفادة منه في ذلك، وفيه مشروعيَّة أن تكون الخطبة على منبرٍ.
قال: (إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ)، أي: يشهد أن رسالته حق، وأنَّه مُرسل من عند ربِّ العزَّة والجلال.
قال: (وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الكِتَابَ)، وهو القرآن العظيم.
قال: (فَكَانَ مِمَّا أنزلَ اللهُ عَلَيْهِ آيَةَ الرَّجْمِ)، فآية الرَّجم موجودة في كتاب الله، نُسخَ لفظها وكتابتها، ولكن لم يُنسَخ حُكمها.
قال: (قَرَأْنَاهَا)، وذكر البيهقي هذه الآية بلفظها {الشيخ والشَّيخةُ إذا زنيا فارجمهوما البتة نكالًا من الله والله عزيز حكيم}، ولكن هذا اللفظ لم يثبت ثبوتًا تامًّا، وإنَّما المعوَّل عليه ثبوت معناه.
قال: (وَوَعَيْنَاهَا)، أي فهمناها (وَعَقَلْنَاهَا)، أي تدبرنا فيها وردَّدنا النَّظرَ.
وهناك دليل آخر على مشروعيَّة الرَّجم، ألا وهو الفعل النَّبوي، فقد تواتر عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه قد رجمَ الزَّاني المحصَن.
ثم استمرَّت هذه السُّنة، فلا زال الناس يرجمون الزَّاني المحصَن، ممَّا يدلُّ على بَقاء الحُكْم وثبوته.
قال عمر: (فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زمَانٌ)، يعني: أن يَرِدَ إليهم شيء من البدعة أو شيء من تسويل الشَّيطان.
قوله: (فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ)، أي: ليس فيه آية في كتاب، وبالتَّالي يتركوا الرَّجم.
قوله: (فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلهَا اللهُ)، أي: ابتعدوا عن الصراط المستقيم بعدم مُعاقبة الزاني المحصَن بالرَّجم.
قال: (وَإِنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى)، إذن سبب الرَّجم وعلَّته الزنا، وشرطه الإحصان، وفيه أنَّ الحكم يثبت للرجال والنساء.
ثم ذكر طرائق إثبات الزنا التي يثبت بها الحد:
الطريق الأول: البينة، فإذا شهد أربعة أنَّ فلانًا قد زنا فإنَّه حينئذٍ يؤخذ بشهادتهم، كما في الآيات القرآنية في سورة النور: ï´؟لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَï´¾ [النور: 13].
الطريق الثاني: قوله: (أَو كَانَ الْحَبَلُ) يعني: إذا حملت المرأة، ولم تدَّعي أنَّ سبب الحمل كان جهلًا منها أو نحوه.
وجمهور أهل العلم على أنَّ الحمل ليس طريقًا للإثبات، وإنَّما هو طريق لاستجلاب الإقرار.
الطريق الثالث: الاعتراف، فإذا اعترفت بالزنا ثبت عليها حدُّ الرَّجم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا وَلَو بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ». وَفِي رِوَايَةٍ: «ثُمَّ ليَبِعْهَا فِي الرَّابِعَةِ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِمَا، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ)}.
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ»، الأمة هي المملوكة التي تُباع وتُشتَرى.
قوله: « فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا»، أي: قام الدليل القاطع على الزنا، وتبيَّنَ للسَّيِّد أنَّ أمتَه قد زَنَت.
قال: «فَلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ»، الأمة حتى ولو كانت متزوجة فإنَّها لا تُرجَم في حد الزنا، وإنَّما تُجلَد، وحد الأحرار مائة لقوله تعالى: ï´؟الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ غ– وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِï´¾ [النور: 2]، لكنَّ الإماء ومثلهم المماليك إنَّما يُجلَدون خمسين لقوله تعالى: ï´؟فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِï´¾ [النساء: 25]، فدلَّ ذلك على أنَّه ليس عليها إلا النِّصف، والأصل في الحدود أن تكون لصاحب الولاية والسُّلطان، وليس لأفراد النَّاس أن يُطبقوا الحدود إلا هنا؛ فإنَّ السَّيِّد يملك تطبيق حد الزنا على أمته، وكثير من أهل العلم ألحق بالأمة المملوك.
قال: «وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا»، أي: لا يقوم بتعييرها أو القدح فيها، لئلا يكون ذلك سببًا في استمرارها وفي تتابع الآخرين على فعلٍ يُماثل فعلها.
قال: «ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا, ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا وَلَو بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «ثُمَّ ليَبِعْهَا فِي الرَّابِعَةِ»؛ السَّيِّدُ يُقيم الحد ولو تكرَّرَ الزنا، وفيه أنَّه إذا تكرَّرَ الزنا شُرعَ إقامة الحد مرَّةً أخرى.
وقوله: «فَلْيَبِعْهَا»، أي ليتخلَّصَ منها.
وقوله: « وَلَو بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ»، أي: ولو كان بثمنٍ قليلٍ يسيرٍ. استشكل بعض أهل العلم ذلك فقالوا: كيف يبيعها ويعلم أنَّ فيها عيبًا؟!
قال بعضهم: يُبيِّن العيبَ.
وقال بعضهم: يبيعها على السَّلامة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي عَبدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: خَطَبَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ, أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمُ الْحَدَّ: منْ أَحْصَنَ مِنْهُم وَمَنْ لم يُحْصِنْ، فَإِنَّ أمَةً لرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَنَتْ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَها، فَإِذا هِيَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ، فَخَشِيتُ إِنْ أَنَا جَلَدْتُها أَنْ أَقْتُلَها، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ للنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: «أَحْسَنْتَ» وَفِي لفظٍ: «اتْرُكْهَا حَتَّى تَمَاثَلَ»)}.
قَالَ: (خَطَبَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمُ الْحَدَّ)، أي: أقيموا على مماليككم حدَّ الزنا.
قال: (منْ أَحْصَنَ مِنْهُم وَمَنْ لم يُحْصِنْ)، فالمماليك من الإماء والرجال المماليك حدهم إنَّما يكون بالجلد خمسين جلدة؛ لأنَّه نصف ما على المحصنات من العذاب، ولا يُرجَم، وظاهر النُّصوص أنَّ المملوك لا يُغرَّب؛ لأنَّه حينئذٍ يضر بالسَّيِّد.
قال علي: (فَإِنَّ أمَةً لرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَنَتْ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَها)، هذا الأمر باعتبار السيد لها.
قال: (فَإِذا هِيَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ)، فهي ولدت قريبًا وتحتاج إلى أن تُترَك مدَّةً ليقوى بدنها.
قال: (فَخَشِيتُ إِنْ أَنَا جَلَدْتُها أَنْ أَقْتُلَها)؛ لأنَّها لازالت نفاسًا ضعيفةً، وبالتَّالي الجلد سيؤثِّر عليها.
قال: (فَذَكَرْتُ ذَلِكَ للنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، أي: من كونها نفاسًا ويحتمل أن يؤثر عليها.
فَقَالَ: «أَحْسَنْتَ»، وذلك لأنه قد يزيد في أثر تطبيق الحد، فقد تموت بسبب ذلك، ومن ثَمَّ قال له: أحسنتَ في تأخير إقامة الحد.
وَفِي لفظٍ: «اتْرُكْهَا حَتَّى تَمَاثَلَ»، يعني يرتفع عنها آثار النِّفاس والولادة، وبالتَّالي تكون قويَّةً يُمكن تطبيق الحد عليها. وفي هذا إقامة الحدود على المماليك من قبل أسيادهم.

لعلَّنا نقف عند هذا، بارك الله فيك، ووفقك الله لخيري الدنيا والآخرة، ورزق الله الجميع علمًا نافعًا وعملًا صالحًا ونيَّةً خالصةً، أسأل الله لكم -أيُّها المشاهدون- أن تُوفَّقُوا في أموركم، وأن يرضَى عنكم ربُّنا -سبحانه وتعالى- وأن تكونوا من الهُداة المهتدين، كما أسأله -جلَّ وعَلَا- لولاة أمور المسلمين صلاحًا واستقامةً، وأن يكونوا أهل هداية ودعوةٍ، هذا وأسأله -جلَّ وعَلَا- أن تُقام هذه الحود، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

احمد الصادق
2019-04-30, 08:00
المحرر في الحديث (4)
الدَّرسُ الثَّالِثُ عَشر (13)
معالي الشَّيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ/ الدكتور سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
باركَ الله فيك، ووفقكَ الله لكل خير، وأرحبُ بإخوتي من المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وَعَلا- أن يرزقنا وإيَّاهم علمًا نافعًا وعملًا صالحًا.
{ما زلنا في الكلام على باب حد الزِّنا في كتاب "المحرر" لابن عبد الهادي.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتْ نَبِيَّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهِي حُبْلَى مِنَ الزِّنَى فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ, أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَدَعَا نَبِيُّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلِيَّهَا فَقَالَ: «أَحْسِنْ إِلَيْهَا، فَإِذَا وَضَعَتْ فَائْتِنِيْ بِهَا»، فَفَعَلَ, فَأَمَرَ بِهَا نَبِيُّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَشُكَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا, فَقَالَ لَهُ عُمرُ: تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللهِ، وَقَدْ زَنَتْ؟! فَقَالَ: «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَو قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِيْنَ مِنْ أَهْلِ المدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَلَ مْنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا للهِ؟». رَوَاهُمَا مُسْلمٌ)}.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفضلِ الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعد؛ فهذا الحديث من الأحاديث التي فيها تقرير حدِّ الزِّنا بالنِّسبَة للمحصَن الذي سبق له الزَّواج، وأنَّ الحدَّ فيه الرَّجم، وهو محلُّ إجماعٍ في الجملة.
قوله هنا: (وَهِي حُبْلَى مِنَ الزِّنَى فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَصَبْتُ حَدًّا)، استدلَّ به بعضهم على أنَّ الحملَ من لا زوجَ لها لا يكون طريقًا لإثبات الحدِّ لاحتمال أن تكون قد وُطئَت بشبهةٍ، واحتمال أن يكونَ الحمل من غيرِ وطءٍ أو نحو ذلك؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يُقم الحدَّ عليها إلَّا لمَّا أقرَّت واعترفت.
وقال طائفة من أهل العلم: يثبتُ الحدُّ بالحبَل متَى لم يكن هناك فراش زوجيَّة بالنِّسبَة للمرأة، واستدلُّوا بما وردَ عن عمر في الصَّحيح أنَّه قال: "الحد ثابت متى كان الاعتراف أو الحبل".
واستدلَّ بعض أهل العلم بهذا الخبر على أنَّ حدَّ الزِّنا يثبت بالإقرار مرَّةً واحدة.
والقول الآخر: لا يثبت إلَّا بالإقرار أربعَ مرَّاتٍ -على ما تقدَّم في حديث ماعز- ولعلَّه أرجح، فإنَّ اعترافها هنا يُمكن أن يُفسَّر بأنَّه اعترافٌ مُتكرِّر.
قولها هنا: (فَأَقِمْهُ عَلَيَّ)، فيه جواز اعتراف الإنسان بالزِّنا، وإن كان جماهير أهل العلم على أن سترَ الإنسان على نفسه أولَى إلَّا إذا كان هناك تحقيق مَقصد شرعي.
وفي هذا الحديث: أنَّ مَن وقعَ في مَعصيةٍ أو ذنبٍ ولو كان كبيرًا؛ فإنَّه يُحسَن التَّعامل معه، ويُدعَى إلى التَّوبَة، حتى فيما لو زَنت المرأة، فإنَّ أولياءها يُطالَبون بإحسان التَّعامل معها، ولذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لوليِّها: «أَحْسِنْ إِلَيْهَا».
وفي هذا الحديث دلالة على أنَّ الحد لا يُقام على المرأة وهي حامل، لئلَّا يَتعدَّى أثر إقامة الحد على غيرِ مَن ارتكَب موجِب الحد.
وورد في حديثٍ آخر أنَّه أمرَ الوليَّ أن ينتظر بها حتى تقوم برضاعة ذلك الصَّبي، ولذلك اختلف الفقهاء في انتظار أمر الرَّضاعة:
فقال طائفة: لا ينتظر، واستدلُّوا بظاهر هذه الرِّواية.
وقال طائفة: يُنتَظَر حتى يُفطَم الصبي، فقد جاء في رواية أخرى أنَّه انتظر.
وقال طائفة: إن كان يُمكن رضاعة الصَّبي من غير أمِّه فإنَّه لا يُنتَظر به حتى وقت الفطام، وإن كان لا يرضع إلا من أمِّه فإنَّه يُنتَظر بها ذلك.
فإذا أمكن الإيقاف في غير الحبس فهو أولى؛ لأنَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر أهلها بالإحسان إليها، وأعادها إلى بيتِ أهلها ولم يقم بسجنها.
قوله: (فَشُكَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا)، أي: قاموا بشدِّ الثِّيابِ عليها، وذلك من أجل ألا تظهر عورتها عند تطبيق الحَدِّ عليها.
قوله: (ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ)، فيه إثبات حد الرَّجم.
ولم يذكر في هذا الحديث الجلد، وتقدَّمَ معنا أنَّ الفقهاء اختلفوا في المُحصَن إذا زنا؛ فهل يكون الحد بالرَّجمِ وحدَه كما في حديث ماعز وحديث الجهنيَّة هنا، أو أنَّه يُجمَع بينَ الأمرين الجلد والرَّجمِ على ما وردَ في الحديث أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «خُذُوا عنِّي خُذُوا عنِّي، قدْ جعل اللهُ لهنَّ سَبِيلًا، البِكرُ بالبِكرِ؛ جَلدُ مِائةٍ، ونَفْيُ سَنةٍ، والثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ، جَلدُ مائةٍ و الرَّجْمُ»، وما ورد من حديث علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عندما قام بتطبيق الحدِّ في زمانه.
وفي الحديث أنَّ مَن أُقيمَ عليه الحد فإنَّه تُشرَع الصَّلاة عليه إذ لا زالَ مُسلمًا، ويحكَم عليه بأحكام أهل الإسلام.
وفيه أيضًا أنَّ مَن تابَ قد يكون له مَنزلة أعلى مِن منزلته قبل ارتكابه للذَّنبِ، ولذلك صلَّى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليها.
وقوله: (فَقَالَ لَهُ عُمرُ: تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللهِ، وَقَدْ زَنَتْ؟!)، فيه السُّؤال للإنسان عمَّا يُشكل عليه من المسائل ليعرف حكم الله فيها.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَو قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِيْنَ مِنْ أَهْلِ المدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَلَ مْنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا للهِ؟»، فيه فضيلة التَّائبين وعظم أجرهم عند الله -جلَّ وَعَلا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا وَامْرَأَةً زَنَيَا؟ فَقَالَ لَهُم رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟» فَقَالُوا: نَفْضَحُهُم وَيُجْلَدُونَ، قَالَ لَهُم عَبدُ اللهِ بنُ سَلامٍ: كَذَبْتُمْ إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ، فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُم يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَرَأَ مَا قَبْلهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبدُ اللهِ بنُ سَلامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَالُوا: صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فرُجِمَا، فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَجْنَأُ عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا الْحِجَارَةَ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ للْبُخَارِيِّ)}.
قوله: (إِنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فيه جواز قبول تحاكم أهل الكتاب لأهل الإسلام.
وفيه أيضًا أنَّ اليهود في زمن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُقرِّونَ بصدقِ هذا النَّبي، وإلَّا لَمَا جاؤوا إليه في هذا الباب.
واستدلَّ بعض العلماء في هذا الحديث على حُجيَّة شرع مَن قبلنا، ولكن إذا نظرنا في تلك المسألة وجدنا أنَّ هذا الحديث خارج عن محلِّ النِّزاع؛ لأنَّه يتحدَّث عن شرع مَن قبلنا المنقول بواسطتهم، والخلاف إنَّما في شرع مَن قبلنا المنقول بواسطة الكتاب والسُّنَّة.
قوله: (فَقَالَ لَهُم رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟» فَقَالُوا: نَفْضَحُهُم وَيُجْلَدُونَ)، أي: نُعرِّف النَّاس بذنبِ مَن فعلَ ذلك، وقد وردَ أنَّهم يضعونَه على الدَّابَّةِ مَقلوبًا من أجلِ أن يُعرَف بذلك، ووردَ عن بعضهم أنَّه يُحمِّمه ويُسوِّدُ وجهه.
قوله: (قَالَ لَهُم عَبدُ اللهِ بنُ سَلامٍ: كَذَبْتُمْ، إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ)، أي: ليس هذا هو الموجود في التَّوراة، وإنَّما الموجود هو الرَّجم.
قال: (فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا، فَوَضَعَ أَحَدُهُم يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَرَأَ مَا قَبْلهَا وَمَا بَعْدَهَا)، يعني: من أجل أن يُخفيها، وفيه أنَّه لا يجوز كتم ما يعرفه الإنسان، خُصوصًا إذا ترتَّبَ عليه أحكامٌ وآثارٌ.
وفيه أيضًا جواز وصف أجزاء التَّوراة أنَّها آية، والمراد بالآية: العلامة.
قال: (فَقَالَ لَهُ عَبدُ اللهِ بنُ سَلامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ)، في هذا مراجعة التَّوراة والإنجيل إذا كان هُناك مصلحة شرعيَّة، كما لو كان هناك مَن يُريد أن يردَّ عليهم، أو أن يُبيِّن التَّحريفَ الموجود في كتبهم.
فَقَالُوا: (صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ)، أي: صدق عبد الله بن سلام.
قال: (فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فرُجِمَا)، قيل: كان الرَّجم بسبب أنَّ الرَّجم مذكورٌ في كتبهم، وقيل: إنَّما رجمَ بما ورد في هذا الشَّرع.
واستدل به بعضهم على أنَّ الزَّاني المحصَن لا يُجلَد، وإنَّما يُكتفَى برجمه.
وقال الآخرون: إنَّما ذُكرَ الرَّجم هنا ولم يُذكر معه الجلد؛ لأنَّه سبق ذكر الجلد في قولهم (نَفْضَحُهُم وَيُجْلَدُونَ).
قوله: (فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ يَجْنَأُ عَلَى الْمَرْأَةِ)، هكذا في الرِّواية المشهورة "يجْنَأُ" بالجيم، أي: أنَّه يميل عليها ويُحاول أن يغطيها من أجلِ ألا تصل إليها الحجارة التي كانوا يستعملونها في الرَّجم.
وفي بعض النُّسخِ قال: "يَحنا" يعني: أنَّه يميل إليها.
وقوله: (يَقِيهَا الْحِجَارَةَ)، أي: أرادَ ألا تمسَّها الحجارة التي يُرجَمون بها.
وظاهر هذا أنَّه جُمِعَ بين الرَّجل والمرأة في مكانٍ واحدٍ عند الرَّجم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ جَابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: رَجَمَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ، وَرَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ وَامْرَأَةً. رَوَاهُ مُسْلمٌ)}.
في هذا الحديث: أنَّ حدَّ الزَّاني المحصَن الرَّجم.
وفيه أنَّ الرَّجم يكون للرَّجلِ والمرأةِ.
وفيه أنَّه أهلَ الكتابِ متى تحاكموا إلينا؛ حكمنا عليهم بما في شرعنا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَعْقُوبَ بنِ عَبدِ اللهِ بنِ الْأَشَجِّ، عَنْ أَبي أُمَامَةَ بنِ سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ، عَنْ سَعيدِ بنِ سَعْدِ بنِ عُبَادَةَ قَالَ: كَانَ بَينَ أَبْيَاتِنا رُوَيْجِلٌ ضَعِيفٌ مُخْدَجٌ، فَلَمْ يُرَعِ الْحَيُّ إِلَّا وَهُوَ عَلَى أَمَةٍ مِنْ إمَائِهِمْ يَخْبُثُ بِهَا، قَالَ: فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ لرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- -وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُسْلِمًا- فَقَالَ: «اضْرِبُوهُ حَدَّهُ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ أَضْعَفُ مِـمِّا تَحْسِبُ، لَو ضَرَبْنَاهُ مِائَةً قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ: «خُذُوا لَهُ عِثْلَاكَا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ، ثُمَّ اضْرِبُوهُ بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً» قال: فَفَعَلُوا بِهِ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَإِسْنَادُهُ جَـيِّدٌ، لَكِنْ فِيهِ اخْتِلَافٌ، وَقَدْ رُوِيَ مُرْسَلًا)}.
هذا الحديث رجاله ثقات، إلا أنَّه من رواية ابن إسحاق كما ذكر المؤلف هنا، وهو محمد بن إسحاق بن يسار صاحب السِّيرَة، وهو صدوق ولكنَّه مدلِّس، فلا يُقبَل من حديثه إلا ما صرَّحَ فيه بالسَّماع، وهنا قال: (عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَعْقُوبَ)، معنى ذلك أنَّه عنعن الحديث، وبالتَّالي فإنَّ الحديث مُنقطع حُكمًا، ولم يتَّصل إسناده.
قوله: (كَانَ بَينَ أَبْيَاتِنا رُوَيْجِلٌ)، رويجل: تصغير رجل.
قوله: (ضَعِيفٌ مُخْدَجٌ)، المخدَّج هو ناقص الخلقة.
قال: (فَلَمْ يُرَعِ الْحَيُّ)، أي: لم ينتبه الحي، بل فُجئوا أنَّه كان على أمةٍ من إمائهم.
قوله: (إِلَّا وَهُوَ عَلَى أَمَةٍ مِنْ إمَائِهِمْ يَخْبُثُ بِهَا)، أي: يزني بها.
قوله: (قَالَ: فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ لرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُسْلِمًا- فَقَالَ: «اضْرِبُوهُ حَدَّهُ»)؛ لأنَّه لم يُحصَن بعدُ، وبالتَّالي يُجلَد مائة على ظاهر قوله تعالى: ï´؟الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍï´¾ [النور: 2].
قوله: (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ,إِنَّهُ أَضْعَفُ مِـمِّا تَحْسِبُ)، أي: ممَّا تظن.
قوله: (لَو ضَرَبْنَاهُ مِائَةً قَتَلْنَاهُ, فَقَالَ: «خُذُوا لَهُ عِثْلَاكَا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ») العثك من أعثاك النَّخل الذي فيه الرُّطَب، ويكون لونه في الغالب أصفر، وكل واحدٍ من هذه الأغصان يُقال له شمراخ، وبالتَّالي إذا ضُربَ به فيكون قد ضُرِبَ مائة.
قال: «ثُمَّ اضْرِبُوهُ بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً»، فتُجزئه.
وكما تقدَّم أنَّ هذا الحديث منقطع حكمًا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عَمْرو بنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ واقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ، وَمَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ فَإِنَّ عِكْرِمَةَ رَوَى لَهُ البُخَارِيُّ، وَعَمْرٌو مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ. وَقَدْ أُعِلَّ بِمَا فِيهِ نَظَرٌ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ أَوَّلَهُ، وَابْنُ مَاجَهْ آخِرَهُ)}.
الإشكال ليس في كونه من رواية عمرو بن أبي عمرو فهو من رجال الصَّحيح، ولا كونه من رواية عكرمة مولى ابن عباس؛ فإنَّه أيضًا قد وُجدَت له رواية في الصَّحيح، ولكنَّ الإشكال في كونه من رواية عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة، فقد يكون الراوي ثقة، ولكن روايته عن فلان يكون فيها إشكالٌ، وعمرو بن أبي عمرو قد روى أحاديث عن عكرمة فيها نكارة، ولذلك تكلَّمَ بعضُ أهل العلم في رواية عمرو عن عكرمة؛ بل بعضهم يقول: إن عَمْرًا لم يسمع من عكرمة، ولذلك وُجد فيه الاختلاف.
وهذا الحديث فيه أمرين:
ïƒک الأول: مَن يقع على البهائم، فأمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقتله وقتل البهيمة.
ïƒک والثاني: في جريمة اللواط: حيث أمر -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقتل الفاعل والمفعول به.
وهذا الحديث -كما تقدم- أنَّه ضعيف الإسناد، والعلماء لهم أقوال متعدِّدَة في أهل اللواط:
ïƒک منهم مَن يقول: يُقذفون من أعلى جبلٍ حتى تندقَّ رقابُهم كما فُعل بقومِ لوطٍ.
ïƒک ومنهم من يقول: يُقتل حَتمًا.
ïƒک ومنهم مَن يقول: هو زانٍ له أحكام الزَّاني، وهذا مذهب أكثر أهل العلم في ذلك، وإن كان قد حُكيَ اتِّفاق الصَّحابة على كونه يُقتل مع اختلافهم في طريقة قتله.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُول: «مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ يُقَامُ عَلَيهِ الحَدُّ يَومَ القِيامَةِ, إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَما قَالَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ جَيِّدٌ)}.
المراد بالقذف: اتِّهام الإنسان لغيره بالزِّنا بدون أن يأتي بشهودٍ، والقذف من المحرَّمات، وجاءت النُّصوص بتحريمه وبيان أنَّه من كبائر الذُّنوب، وقد عَدَّه النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من السَّبع الموبقات، وقد روى المؤلف من حديث أبي هريرة أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ»، أي: من اتَّهم بالزِّنَى مَن كان مِلكًا له يتمكَّن مِن بيعه.
قال: «يُقَامُ عَلَيهِ الحَدُّ يَومَ القِيامَةِ»، أي: حَدَّ القذف، وذلك لأنَّ السَّيد يملك منافع العبد المملوك، وبالتَّالي لا يُضرَب السَّيد حدَّ القذف به، وهذا في قولِ طائفة من أهل العِلم على خلافٍ بينهم في هذه المسألة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: لـمَّا نَزَلَ عُذْرِي قَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ ذَلِكَ وَتَلَا الْقُرْآنَ، فَلَمَّا نَزَلَ أَمَرَ بِرَجُلَيْنِ وَامْرَأَةٍ، فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ. رَوَاهُ أحمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ -وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ)}.
ابن إسحاق -كما تقدَّم- أنَّه صدوقٌ مدلِّسٌ، وقد صرَّح بالتَّحديثِ في هذا الخبر، فيكون الحديث حسن الإسناد.
قالت عائشة: (لـمَّا نَزَلَ عُذْرِي)، أي: لمَّا نزلت الآيات من أوائل سورة النُّور في قوله تعالى: ï´؟إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ غڑ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم غ– بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْï´¾ [النور: 11]، عندما بيَّن ربُّ العزَّة والجلال براءةَ عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها.
قالت: (قَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ ذَلِكَ، وَتَلَا الْقُرْآنَ)، أي: ذكر براءتها، وفيه مشروعيَّة الخطبة في الأوامر العامَّة التي يحتاج إليها النَّاس.
قالت: (فَلَمَّا نَزَلَ)، أي: من المنبر.
قولها: (أَمَرَ بِرَجُلَيْنِ وَامْرَأَةٍ)، فالرَّجلان هما: مسطح بن أثاثة، والشَّاعر حسَّان بن ثابت. وأمَّا المرأة فهي: حمنة بنت جحش -رضوان الله عليهم جميعًا- فقد انغرُّوا بالإشاعات والدِّعايات التي وُجدَت في ذلك الزَّمان، وكانت زينب بنت جحش هي التي تسامي عائشة، ولكنهم عندما أرادوا منها أن تتَّهم عائشة بذلك قالت: "أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلا خيرًا".
قولها: (فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ)، أي: حد القذف.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَابُ حَدِّ السَّرِقَةِ
عَنْ أَبي هُرَيْرَة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- قَالَ: قَالَ رَسُول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فتُقْطَعُ يَدُهُ».
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَطَعَ فِي مِـجَنٍّ ثَـمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمٍ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِمَا)}.
المراد بالسَّرقة: أخذ مال الآخرين بدون إذنهم على جهةِ الخفية.
والسَّرقة من كبائر الذنوب، قال تعالى: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْï´¾ [النساء/29]، وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ مَالَ امْرئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَن طِيبِ نَفْسٍ» .
والسَّرقة يجب فيها قطع يد السَّارق بالشُّروط التي جاءت في الأخبار، قال تعالى: ï´؟وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ غ— وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌï´¾ [المائدة/38].
ولا يُطبَّق حدُّ السَّرقة إلا بشروط، منها:
ïƒک أنَّ الذي يُطبِّق حد السَّرقة هو الإمام أو نوَّابه، فلا يجوز لأفراد الناس أن يُطبقوا حَدَّ السَّرقَة، حتى ولو كان السَّارق مملوك الإنسان.
ïƒک مُطالبة المسروق منه بماله المسروق.
ïƒک أن يكون المال مأخوذًا من حِرْزٍ.
ïƒک ألا يكون هناك شُبهَة في أخذ ذلك المال.
ïƒک ويشترط عند الجمهور أنَّه يكون قد بلغ النِّصاب خلافًا للظَّاهريَّة، فهم يقولون: يُقطَع بالقليل والكثير.
واستدلَّ الظَّاهريَّة بحديث «لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فتُقْطَعُ يَدُهُ»، قالوا: إنَّ هذا شيء يسير أقل ممَّا ذكرتموه نصابًا، ومع ذلك أثبت له قطع يد السارق.
وبعض فقهاء الجمهور قالوا: إنَّ المراد بالبيضة في الحديث هي بيضة السِّلاح، والمراد بالحبل هو الحبل الثَّمين، ولأنَّ الحديث هنا مُطلَق، وبالتَّالي نُقيِّده بالأحاديث الأخرى التي وردَت في ذلك، ومنها حديث ابن عمر (أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَطَعَ فِي مِـجَنٍّ ثَـمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمٍ)، فيه إثبات مشروعيَّة قطع يد السَّارق، وأنَّها سُنَّةٌ ثابتةٌ، وفيه أنَّ المجن يجوز قطع يد السَّارق بسببه متى كان ثلاثة دراهم.
والقول بأنَّ النِّصاب في السَّرقة ثلاثة دراهم هو مذهب مالك والشَّافعي وأحمد، وعند الإمام أبي حنيفة أنَّ النِّصاب عشرة دراهم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا»)}.
هناك فرق بينَ الدينار والدِّرهم، فالدِّرهم في الفضَّة، وهو تقريبًا ثلاثة جرامات، بينما الدينار في الذهب، وهو تقريبًا أربعة ونصف جرام، فإذا كان في ثلاثة دراهم معنى أنَّه تسعة جرامات من الفضَّة، وإذا كان ربع دينارٍ فإنَّه يكون قرابة الجرام وشيء يسير، ففيه قطع يد السَّارق.
وفي هذا إثبات النِّصاب في حد السَّرقَة كما قال الجمهور خلافًا للظَّاهريَّة.
وفيه أنَّ النِّصاب ثلاثة دراهم أو ربع دينار، خلافًا للحنفية الذين يقولون إنه عشرة دراهم.
واستدل المالكيَّة بهذا الحديث على أنَّ أقل مقدار في المهر هو هذا المقدار، لأنَّه لم يستبِحْ جزءًا من أجزاء المرأة -وهو البُضع- إلا بما يُستباح به قطع اليد.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهَا: أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الـمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِأُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ حِبُّ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ» ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُم كَانُوا إِذا سَرَقَ فِيهمُ الشَّرِيْفُ تَرَكُوهُ، وَإِذا سَرَقَ فِيهمُ الضَّعِيفَ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللهِ, لَو أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا». مُتَّفقٌ عَلَيْهِما، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ
وَلَهُ: كَانَتِ امْرَأَةٌ مَخْزُومِيَّةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقْطَعِ يَدِهَا)}.
قوله: (وَعَنْهَا)، أي: عن عائشة.
قوله: (أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الـمَخْزُومِيَّةِ)، أي: أنَّهم قد صعُبَ عليهم أن تُقطَع يدها مع مكانتها وعلوِّ منزلتها، ولذلك اهتمُّوا من شأنها.
قوله: (الَّتِي سَرَقَتْ)، ظاهره أنَّه سرقة على أصل معنى السَّرقة في اللغة.
قوله: (فَقَالُوا)، يعني: قريشًا قالوا...
قوله: (مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟)، وهذا كان بعدَ الفتح.
فَقَالُوا: (وَمَنْ يَجْتَرِأُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ حِبُّ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ»)، فيه أنَّه لا تجوز الشَّفاعة لإسقاط الحدود، ومنها حد السَّرقة.
قال: (ثُمَّ قَامَ)، يعني: النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: (فَاخْتَطَبَ)، فيه مشروعيَّة الخطبة من أجل إزالة ما يعلق بأذهان النَّاس من معانٍ.
قال: (فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ»)، فيه الابتداء بالنِّداء من أجل أن يلفت الأذهان لِمَا يُقال.
قوله: «إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذينَ قَبْلَكُمْ»، يعني: السَّب الذي جعل مَن سبقكم من الأمم يهلكون هو «أَنَّهُم كَانُوا إِذا سَرَقَ فِيهمُ الشَّرِيْفُ تَرَكُوهُ»، أي لم يُقيموا عليه حد السَّرقة. قال: «وَإِذا سَرَقَ فِيهمُ الضَّعِيفَ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ»، وفي هذا دلالة على أنَّ الحد يُقام على كبير المنزلة وصغيرها، ويُشترط فيه أن يكون بالغًا.
قال: «وَايْمُ اللهِ»، فيه جواز القَسَم بمثل ذلك.
قال: «لَو أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ»، ذكرها -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لكونها أصغر بناته، أو لِمَا لها من مكانةٍ خاصَّةٍ عنده.
قال: «لَو أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا»، فيه إثبات قطع يد السَّارق حتى ولو كان السَّارق ممَّن له منزلة ومكانة.
قال: (وَلَهُ: كَانَتِ امْرَأَةٌ مَخْزُومِيَّةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ)، فيه أنَّ مُستعير المتاع الذي يجحده بعدَ ذلك يُشرَع فيه قطع اليد وإقامة حد السَّرقة عليه.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَقَدْ أُعِلَّ)}.
هذا الخبر من رواية ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر، وابن جريج لم يسمع هذا الخبر من أبي الزبير، وإنما رواه من طريق ياسين الزَّيات عن أبي الزبير، وبالتَّالي تكلموا فيه وقالوا إنَّ فيه علَّة خفيَّة، وياسين هذا ضعيفٌ.
قال: «لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ»، المنتهب هو الذي يأخذ المال الظَّاهر غير الموجود في حرزه. والخائن: هو من لم يقم بالأمانة، مثل العامل ومثل الأجير.
وقوله: «وَلَا مُخْتَلِسٍ»، المختلس يأخذ المال بالخفية، ولكنه لا يأخذه من مال مُحرَز؛ فهؤلاء ليس عليهم قطع.
لعلنا نقف على هذا، باركَ الله فيكَ، ونُكمل -إن شاء الله- في لقائنا القادم -بإذن الله عزَّ وجلَّ- وأسأل الله -جلَّ وَعَلا- لكَ توفيقًا وهدايةً ورفعةَ شأنٍ، كما أسأله -جلَّ وَعَلا- أن يرزقَ المشاهدين الكرام العلم النَّافع، والعمل الصَّالح.
هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

احمد الصادق
2019-04-30, 08:01
المحرر في الحديث (4)
الدَّرسُ الرَّابِعُ عَشَر (14)
معالي الشَّيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ/ الدكتور سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
بارك الله فيك، وأهلًا وسهلًا، أرحبُ بك، وأرحبُ بأحبِّتي الكرام ممَّن يُشاهد هذا اللقاء، سواء في بثِّهِ الأوَّل أو في إعادته.
{ما زلنا في باب حد السَّرقة من كتاب المحرَّر.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي أُمَيَّةَ الـمَخْزُومِيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِلِصٍّ قَدِ اعْتَرَفَ اعْتِرَافَاً وَلم يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «مَا إِخالُكَ سَرَقْتَ؟» قَالَ: بلَى، فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثاً، فَأَمَرَ بِهِ فقُطِعَ، وَجِيءَ بِهِ، فَقَالَ: «اسْتَـغْـفِرِ اللهَ وَتُبْ إِلَيْهِ» فَقَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ. فَقَالَ: «اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ» ثَلَاثاً. رَوَاهُ أَحْمدُ، وَأَبُو دَاوُد -وَهَذَا لَفظُهُ- وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ)}.
أكثر أهل العلم يُضعِّفونَ هذا الحديث؛ لأنَّه من رواية أبي المنذر مولى أبي ذر عن أبي أميَّة، وأبو المنذر هذا مجهول، وبالتَّالي فإنَّ الخبرَ لم يثبت عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِلِصٍّ)، يعني: بسارقٍ.
قوله: (قَدِ اعْتَرَفَ اعْتِرَافَاً)، هذا دليل على أنَّ الاعتراف طريق مِن طرق وسائل إثبات السَّرقة.
قال: (وَلم يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ)، يعني: المتاع الذي سرقه.
هنا لم يُؤمَر بردِّ المتاع، فأخذَ منه الحنفيَّة أنَّ السَّارق إذا قُطع فإنَّه لا يلزمه ردُّ المتاع، وهذا خلاف ظواهر النُّصوص كما في حديث «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ» .
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «مَا إِخالُكَ سَرَقْتَ؟»، يعني: لا أظنُّكَ سرقتَ، وهذا فيه تلقين المقرِّ بفعل الجريمة الحدِّيَّة.
قَالَ الرَّجل: (بلَى، فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثاً، فَأَمَرَ بِهِ فقُطِعَ)، فيه أنَّه إذا أقرَّ مرَّتين قُبِلَ منه، وبعضُ أهلِ العلم قال: إذا أقرَّ ثلاثَ مرَّات.
قوله: (وَجِيءَ بِهِ)، يعني: بعدَ إقامة الحد عليه.
فَقَالَ له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَـغْـفِرِ اللهَ وَتُبْ إِلَيْهِ»، أي: اُطلب من الله المغفرة والعفو.
فَقَالَ الرجل: (أَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ). فَقَالَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ» قالها ثَلَاثاً.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ رَافعِ بنِ خَدِيجٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَقُول: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ البُسْتِيُّ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحَيْنِ)}.
قوله: «لَا قَطْعَ»، أي: أنَّ يدَ السَّارق لا تُقطَع متى وُجدَت السَّرقة في المسألتين الآتيتين:
• في الثَّمر: المراد به ما عُلِّقَ على الشَّجرِ، أو ما كان لازالَ في شجره، فهذا إذا سَرَقَه الإنسان فإنَّه لا قطع؛ لعدم وجود الحِرزِ، ومن شرط تطبيق الحد وجود الحرز
• في الجُمَّار، وذلك في قوله: «وَلَا كَثَرٍ»، وهو ما يكون في قلب النَّخلة، وهذا لا يجب فيه القطع.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ المِسْوَرِ بنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُغَرَّمُ صَاحِبُ سَرِقَةٍ إِذا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ». رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَقَالَ: هَذَا مُرْسَلٌ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ عبدِ البَرِّ وَالبَيْهَقِيُّ وَغَيرُهمَا)}.
قوله هنا: (وَعَنِ المِسْوَرِ بنِ إِبْرَاهِيمَ)، المسور من تابع التَّابعين، وهو لا يروي عن جدِّه عبد الرحمن بن عوف إلا بواسطةٍ، فلمَّا حدَّثَ هنا عن عبد الرحمن مُباشرة بدون ذكر الواسطة تبيَّنَ أنَّه مُدلِّس، وبالتَّالي لابدَّ أن يذكر الواسطة بينه وبينَ شيخه.
قال: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُغَرَّمُ»)، أي: لا يُطلب من السَّارق أن يدفع قيمة ما سَرَقَه، ولذا قال: «لَا يُغَرَّمُ صَاحِبُ سَرِقَةٍ إِذا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ»، كأنَّه يقول: اكتفوا بالحدِّ، وهذا مذهب الحنفيَّة، واستدلُّوا بأدلَّة منها هذا الخبر.
وهناك مَن قال: إنَّه يُغرَّم وهو مذهب جماهير أهل العلم.
والمسألة الأخرى: هل يجب إعادة قيمة ما سرقه، أو عينه إذا كانت لازالت عينه باقية أو لا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَابُ حَدِّ الشُّرْبِ وَذِكْرِ الْأَشْرِبَةِ
عَنْ أَنسِ بنِ مَالكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أُتِـيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَينِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ، قَالَ: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالَ عَبدُ الرَّحْمَنِ: أَخَفَّ الْحُدُودِ ثَمَانِينَ، فَأَمَرَ بِهِ عُمرُ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ. وَهَذَا لفْظُ مُسْلمٍ، وَهُوَ أَتَمُّ.
وَلهُ: عَنْ حُصَيْنِ بنِ الْمُنْذرِ أَبي سَاسَانَ قَالَ: شَهِدْتُ عُثْمَانَ بنَ عَفَّانَ وَأُتِيَ بِالوَلِيدِ قَدْ صَلَّى الصُّبْحَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: أَزِيدُكُمْ؟ فَشَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا حُمْرَانُ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّأُ، فَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: إِنَّهُ لمْ يَتَقَيَّأْ حَتَّى شَرِبَهَا، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ، قُمْ فَاجْلِدْهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: قُمْ يَا حَسَنُ فَاجْلِدْهُ، فَقَالَ الْحَسَنُ: وَلِّ حَارَّها مَنْ تَوَلَّى قَارَّهَا، فَكَأَنَّهُ وَجَدَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا عَبدَ اللهِ بنَ جَعْفَرٍ، قُمْ فَاجْلِدْهُ، فَجَلَدَهُ وَعَلِيٌّ يَعُدُّ، حَتَّى بَلَغَ أَرْبَعِينَ فَقَالَ: أَمْسِكْ، ثُمَّ قَالَ: جَلَدَ النَّبِيُّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ، وَأَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ)}.
قوله هنا: (وَلهُ) يعني: لمسلم.
قوله: (عَنْ حُصَيْنِ بنِ الْمُنْذرِ) أو حُظَين بن المنذر.
قال: (شَهِدْتُ عُثْمَانَ بنَ عَفَّانَ)، وكان الخليفة، وفيه أنَّ الأقضية التي تكون من الخلفاء تشتهر.
قال: (وَأُتِيَ بِالوَلِيدِ) الوليد بن عقبة بن أبي مُعيط، وهو مِن قَرابة عثمان.
قوله: (قَدْ صَلَّى الصُّبْحَ رَكْعَتَيْنِ)، على ما هو المشروع.
ثُمَّ التفت عليهم وهو لازال في الصَّلاة لم يُسلم بعد فقال: (أَزِيدُكُمْ؟ فَشَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ)، فيه إثبات إقامة حد الشرب بشهادة الرجلين.
قال: (أَحَدُهُمَا حُمْرَانُ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّأُ)، فيه أنَّ الشَّهادة قد تكون بإثبات رُؤية الشُّرب، وقد تكون بإثبات رؤية أثرٍ من آثار السُّكرِ، وفيه أنَّ حدَّ الشُّرب يثبت بالشَّهادة للشرب، وبالشَّهادة أنَّه قد رُؤيَ يتقيَّأ.
فَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: (إِنَّهُ لمْ يَتَقَيَّأْ حَتَّى شَرِبَهَا)، فهذا فيه دلالة على شُربِهِ.
فَقَالَ عثمان: (يَا عَلِيُّ، قُمْ فَاجْلِدْهُ)، يحتمل ثمانين جلدة ويحتمل أربعين جلدة.
وعَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- له مكانته ومنزلته، ولذا فلم يُرد أن يُباشر ذلك، فقال: (قُمْ يَا حَسَنُ)، وهو ابنه الكبير.
قال: (فَاجْلِدْهُ)، أي: حد الشُّرب.
فَقَالَ الْحَسَنُ: (وَلِّ حَارَّها مَنْ تَوَلَّى قَارَّهَا)، يقول: الذين كان يُعطيهم عثمان ويولِّيهم ويلتفت إليهم؛ فكانوا يتولَّونَ قارَّها -أي باردها- فهؤلاء ينبغي كما أنَّهم أخذوا هذه الأعطيات ونحوها، أن يتولوا حارَّها، ومن ذلك إقامة الحدود، فكأنَّ عليًّا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لم يرضَ من الحسن هذه الكلمة، وأراد منه أن ينفِّذَ أمر أمير المؤمنين؛ لأنَّ حق السَّمع والطَّاعة له واجب.
قال: (فَكَأَنَّهُ وَجَدَ عَلَيْهِ)، يعني: غضب منه وبقيَ في نفسه تجاهه كراهية لموقفه ذاك.
فَقَالَ: (يَا عَبدَ اللهِ بنَ جَعْفَرٍ)، ابن جعفر بن أبي طالب، فهو ابن أخي علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قال: (قُمْ فَاجْلِدْهُ)، يعني: يجلد الوليد.
قال: (فَجَلَدَهُ وَعَلِيٌّ يَعُدُّ)، يعني: يعدُّ عددَ الجلدات.
قال: (حَتَّى بَلَغَ أَرْبَعِينَ فَقَالَ: أَمْسِكْ)، أي: توقَّف.
قال علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (جَلَدَ النَّبِيُّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ، وَأَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ).
كيف يُخالفهم عمر؟
نقول: وهذه سياسة من عمر؛ لأنَّه رأى الناس يَتَسارعون في الشُّربِ فأراد أن يقطعَ منهم ذلك.
قال: (وَكُلٌّ سُنَّةٌ)، فَفِعْلُ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفِعْلُ أبي بكر سُنَّة، وَفِعْلُ عمر أيضًا سُنَّة؛ لأنَّه يُقتضَى به، والظَّاهر أنَّ اختلاف عدد الجلدات مع اختلاف الحال؛ هل انتشر الشُّربُ في الناس أو لا؟.
قال: (وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ)، المراد به جلد الأربعين أو جلد الثَّمانين، وكلاهما محتمل، والجمهور على أنَّ المراد به جلد الثَّمانين.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ أَبي سُفْيَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِي شَارِبِ الْخَمْرِ: «إِذا شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذا شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذا شَرِبَ الثَّالِثَةَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذا شَرِبَ الرَّابِعَةَ، فَاضْرِبوا عُنُقَهُ». رَوَاهُ أَحْمدُ -وَالَّلفْظُ لَهُ- وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَقَدْ رَوَى جمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ نَحْوَ هَذَا الحَدِيثِ)}.
قوله: (وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ أَبي سُفْيَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِي شَارِبِ الْخَمْرِ)، يعني: مَن ثبتَ عليه أنَّه شرب الخمر ولو مرَّةً واحدة.
قال: «إِذا شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ»، يعني: فاجلدوه حدَّ المُسكِر ثمانين جلدة، أو أربعين على الخلاف السَّابق.
قال: «ثُمَّ إِذا شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذا شَرِبَ الثَّالِثَةَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِذا شَرِبَ الرَّابِعَةَ، فَاضْرِبوا عُنُقَهُ»، كأنَّه يقول: لم يعُدْ هناك طرق لإصلاح هذا الرَّجل.
وبعض أهل العلم قال: إنَّ القتل في الرابعة مَنسوخٌ لِمَا وردَ في الحديث أنَّ النُّعيمان كان يُؤتَى به مرارًا مُتعدِّدَة ولم يكن من شانه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يقتله؛ بل يُكرر عليه الحد.
ولعلَّ هذا من عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من باب السِّياسة؛ لأنَّه رأى النَّاس يتتابعون ويتسارعون في الشُّربِ فأرادَ أن يجزمَ في ذلك فأمر بالجلد ثمانين.
{أحسن الله إليكم، هل ضرب العنق في الرابعة من قول عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أم جاء في حديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟}.
وردَ ذلك عن عمر، ووردَ في الحديث.
وقال طائفة: إن قوله في الحديث: «ثُمَّ إِذا شَرِبَ الرَّابِعَةَ، فَاضْرِبوا عُنُقَهُ» إنَّه على البتِّ ولكنَّه منسوخ بحديث النُّعيمان عندما أُتِيَ به قد شربَ مرارًا ولم يضرب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عنقه.
وآخرون قالوا: إنَّ هذا على سبيل السِّياسة، فمتى رأى صاحب الولاية قتله في الرَّابعة فإنَّه حينئذٍ يجوز له أن يفعل ذلك، ولكن ليس على سبيل الحدِّ، وإنَّما على سبيل سياسة الخلق، ومعالجةِ أحوالهم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ ابْنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنِهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ عُمرَ بنَ الْخطَّابِ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ، مِنَ الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْعَسَلِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالْـخَـمْرُ: مَا خَامَرَ الْعَقْلَ، وَثَلَاثٌ أَيُهَا النَّاسُ، وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهِنَّ عَهْداً نَنْتَهِي إِلَيْهِ: الْـجَـدُّ، وَالكَلالَةُ، وَأَبْوَابٌ مِنَ أَبْوَابِ الرِّبَا. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ).
قوله: (وَعَنِ ابْنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنِهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ عُمرَ بنَ الْخطَّابِ)، فيه رواية الرَّجل عن والده.
قوله: ( عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ )، فيه الرِّواية عن الكلام الذي يُحدَّث به العموم، ومن ذلك الرِّواية عن الرَّجل فيما ذكره من أحاديث في خطبة الجمعَة.
قوله: (يَقُولُ: أَمَّا بَعْدُ)، هذه اللفظة للفصل بعدَ الحمد والثَّناءِ على الله -جلَّ وَعَلا- والصَّلاة على نبيِّه؛ فيُؤتَى بهذه الكلمة للفصل.
قال: (أَيُّهَا النَّاسُ)، فيه نداء النَّاس في خطبة الجمعة.
قال: (فَإِنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ)، يعني: عندما نزل تحريم الخمر في قوله -جلَّ وَعَلا: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَï´¾ [المائدة:90]، وكانت في ذلك الزَّمان تُصنَع من خمسة أشياء هي الموجودة عند العرب: (من العنب، ومن التّمرِ، ومن العسل، ومن الحِنطة ، ومن الشَّعير).
وفيه دلالة على أنَّ الخمر مُحرَّمَة، وأنَّه لا يُفرَّق بينَ ما إذا كانت مِن تَمرٍ أو من عِنبٍ أو من عسلٍ أو حنطةٍ أو شعير؛ فالعبرة من كونها مُسكِرَة.
قال: (وَالْـخَـمْرُ: مَا خَامَرَ الْعَقْلَ)، أي: ما خالطه وغطَّى عليه، فكل ما يُغطي العقل فإنَّه يُحكم عليه بذلك.
قال: (وَثَلَاثٌ أَيُهَا النَّاسُ، وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهِنَّ عَهْداً نَنْتَهِي إِلَيْهِ)، يعني: كنتُ أرغبُ أن يكون هناك بيان واضحٌ جليٌّ في هذه الأمور
قوله: (الْـجَـدُّ)، يعني: في الميراث، إذا ورث جد وإخوة، فهذه من مسائل الخلاف:
• بعضهم يقول: الجد يَحجب الإخوة.
• وبعضهم يقول: الإخوة يُشاركون الجَدَّ في ذلك.
قوله: (وَالكَلالَةُ)، الكلالة: مَن ماتَ وليس له أبناء ولا بنات، ولا أُصول، فماذا يُفعل بتركته؟
قال: (وَأَبْوَابٌ مِنَ أَبْوَابِ الرِّبَا)، فإنَّ الرِّبا شأنه عظيم، وبالتَّالي كان بودِّ عمر أن تكون أحكام الرِّبا واضحة جليَّة لا احتماليَّة فيها.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ الَّتِي حَرَّمَ فِيهَا الْخَمْرَ، وَمَا بِالْمَدِينَةِ شَرَابٌ يُشْرَبُ إِلَّا مِنْ تَـمْرٍ)}.
هذا فيه الرَّد على الحنفيَّة الذين يقولون: إنَّ الخمر إنَّما تكون من العنب فقط، وأمَّا ما عداه؛ فإنَّه لا يحرم منه إلا المقدار المُسكِر.
والجمهور يقولون: ما أسكَرَ كثيرة فقليله حرامٌ.
أمَّا الحنفية فيقولون: هذا نطبِّقه فيما يُطلَق عليه اسم الخمر في لغة العَرب، وهو ما كان مأخوذًا من العنب فقط، وأمَّا ما عداه من السِّلعِ فإنَّنا لا نحكم بالتَّحريم حتى يُوجد وصف الإسكار.
قال أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنهُ: (لَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ الَّتِي حَرَّمَ فِيهَا الْخَمْرَ)، أي: الآية التي في سورة المائدة.
قال: (وَمَا بِالْمَدِينَةِ شَرَابٌ يُشْرَبُ إِلَّا مِنْ تَـمْرٍ)، ومثل هذا يبعُد ألا يُنكر عليه بقيَّة الصَّحابَة لو كان خطأً.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ ابْنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ». رَوَاهُمَا مُسْلمٌ)}.
هذا الخبر من أدلة الجمهور على أنَّ الشَّراب الذي من شأنِهِ أن يُسكِر فهو حرامٌ، أيًّا كانَ مَصدرَه ولو لم يكن مُسكرًا حقيقةً لكن من شأنه أن يُسكِر، فإنَّه يُمنَع منه.
قال: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ»، أي: لا يجوز تناوله.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ جَابرِ بنِ عبدِ اللهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّىَ اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامَ». رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ والطَّحَاوِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ البُسْتِيُّ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَعبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو وَغَيرِهِم).
قوله هنا: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ»، أي: ما كانَ حدُّ الإسكارِ مِن هذا المائع شيء كثير؛ فبالتَّالي أدنى نسبة وأقل كميَّة فإنَّه يُحكَم عليها بالتَّحريم ولو لم تكن مُسكِرة، ولذلك نقول في العلَّة: أنَّ ما كان من شأنه أن يُسكِر، حتى ولو لم يكن يُسكِر حقيقةً، ولذا فإنَّ الظَّاهر أنَّ ما صُنِعَ من غير الأعناب فإنَّه يحرُم تناوله متى كان كثيره مُسكِرًا.
وهذا الحديثُ حسنُ الإسنادِ على ما ذكرَ العلماء، وذلك أنَّه مِن رواية داود بن بكر بن أبي الفرات، وهو صدوق.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ قَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ نَخْلِطَ بَينَ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ، وَأَنْ نَخْلِطَ البُسْرَ وَالتَّمْرَ، وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ مِنْكُم: فَلْيَشْرَبْهُ زَبِيْبًا فَرْدًا، أَو تَمْرًا فَرْدًا، أَو بُسْرًا فَرْدًا». رَوَاهُمَا مُسْلمٌ)}.
نهى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الخليطين في الأسقيةِ خشيةً من أن يتأثَّرَ بعضها ببعضها الآخر، وبالتَّالي يكون لها أثرٌ على الإنسان في صحَّتِهِ أو في زوالِ عقلِه، ولذا قال أبو سعيد: (نَهَانَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ نَخْلِطَ بَينَ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ)، كلاهما مِن الأمور التي قد يُؤخَذ منها الخمر.
قال: (وَأَنْ نَخْلِطَ البُسْرَ وَالتَّمْرَ)، البُسْرَ هو: الرُّطب الذي جُنيَ حديثًا من النَّخلة.
قال: (وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ مِنْكُم: فَلْيَشْرَبْهُ زَبِيْبًا فَرْدًا»)، اسم النَّبيذ يصدُق على كلِّ ما نُبِذَ فيه ما يُؤثِّر عليه، فالعصيرات على نوعين:
• عصير تُطحَن مادته ويُضاف إليها الماء.
• وهناك ماء تطرحُ فيه بعض ما يُغيِّره، فهذا يُقال له: نبيذٌ، من النَّبذِ وهو الإلقاء.
قال: «مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ مِنْكُم»، يُراد به: ما أُلقيَ فيه مُخالِطه من الفواكه ونحوها، وليس من شأنه أن يُسكِر.
قال: «مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ مِنْكُم: فَلْيَشْرَبْهُ زَبِيْبًا فَرْدًا»، أي: غير مُختلطٍ بغيره من الأنواع. قال: «أَو تَمْرًا فَرْدًا، أَو بُسْرًا فَرْدًا».
{هل هذا على الوجوب؟}.
اختلف أهلُ العِلم في النَّهي عَن الخليطين، هل حُكمه باقٍ أو هو مَنسوخ؟ والجماهير على أنَّه منسوخ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُنْبَذُ لَهُ الزَّبِيبُ فِي السِّقَاءِ فَيَشْرَبُهُ يَوْمَهُ والغَدَ وَبَعْدَ الْغَدِ، فَإِذا كَانَ مسَاءَ الثَّالِثَةِ شَرِبَهُ وَسَقَاهُ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ أَهْرَقَهُ)}.
قوله: (وَلهُ)، يعني: للإمام مسلم.
قال: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُنْبَذُ لَهُ الزَّبِيبُ)، يعني: يُطرَح له الزبيب.
قال: (فِي السِّقَاءِ)، وهو ما يُوضع فيه الماء، وبالتَّالي يُغيِّر طعمه ويُصبح فيه حلاوة.
قال: (فَيَشْرَبُهُ يَوْمَهُ والغَدَ وَبَعْدَ الْغَدِ)، فيه النَّهي عن النَّبيذ بعد ثلاث؛ لأنَّه في الغالب يشتد ويتغيَّر.
قال: (فَإِذا كَانَ مسَاءَ الثَّالِثَةِ شَرِبَهُ وَسَقَاهُ)، أي: لم يُبقي منه شيئًا، أو يقوم بسقيه لغيره.
قال: (فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ أَهْرَقَهُ)، هذا فيه دليل على أنَّه لا يُشرَب النَّبيذ بعدَ ثلاث.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بَابُ التَّعْزِيرِ
عَنْ أَبي بُرْدَةَ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لَا يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
التَّعزير في لغة العرب: تقوية الشَّيء بالشَّيء، أو العقوبة غَير الْمُقدَّرة.
وذلك أنَّ العقوبات في الشَّرع على نوعين:
ïƒک النوع الأول: عُقوبة مُقدرة مَعروفة الْمقدار يُقال لها: الْحَدُّ.
ومن أمثلة ذلك: حَدُّ السَّارق، حّدُّ الزَّاني، حّدُّ القاذف، حّدُّ الرِّدَّة.
ïƒک النوع الثَّاني: عُقوبات غير مُقدَّرة، فيأتي الفقيه الحاكم فيقوم بوضع تقديرٍ لها، وهذه تُسمَّى العقوبات التَّعزيريَّة، وهي غَير مَعروفة المعالم؛ بل يأتي المجتهد فيجتهد في تطبيقها على أَجزائها.
والعُقوبات التَّعزيريَّة تُفارق الْحَدُّ في مسائل منها:
• أنَّ الحُدود مُقدَّرة، والتَّعزير ليس بمقدَّر.
• وأن التَّعزير يجوزُ العَفو عنه، وبحسب ما يَراه صاحب الولاية مِن المصالح، بخلاف الحدود فإنَّه لا يجوز لأحدٍ أن يعفوَ عنها.
واختلف الفقهاء في المقدار الذي يجوز أن يصل إليه التَّعزير:
• فهناك طائفة قالوا: لا يُجلَد في التَّعزير إلا في عشرةِ أسواط فما دون.
• ومنهم من يقول: في التَّعزير نصل إلى الحد الذي يكون على جنس تلك الجريمة، فمثلًا لو فَاخَذَ ما نزيده عن مائة التي هي حَدُّ الزِّنَا.
• ومنهم من يقول: لا حدَّ لأكثره، ولكن يُراعَى الحال التي يكون عليها صاحب تلك الجريمة.
وقد أوردَ المؤلف هنا حديث أبا بردة الأنصاري، وهو حديث صحيحٌ مُتفقٌ عليه، قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ»، استدلَّ به مَن قال: إنه لا يجوز أن يتجاوز التَّعزير العشرة أسواط.
وآخرون قالوا: في قوله: «فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ» ليس المراد به الحدود التي هي العُقوبات المقدَّرة، وإنَّما المراد به المعاصي كما في قوله تعالى: ï´؟تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَاï´¾ [البقرة:229]، فعشرة أسواط فما دون يجوز أن تستعمل في التَّأديب وفي الإصلاح، ولكن في العُقوبات المبنيَّة على معاصٍ لا تدخل في هذا الخبر لقوله: «إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ»، وبالتَّالي قالوا: إنَّ هذا الخبر في التَّأديب وليس التَّعزيرات، فقوله: «لَا يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ» يعني: أنَّ الحدود يُمكن أن يُتجَاوز بها هذا المقدار.
وبالتَّالي نعرف أنَّ أهل العلم قد اختلفوا في أعلى مِقدار التَّعزير، ومِن ثَمَّ ينبغي أن يوضَع لأصحاب الولاية القضائيَّة تقدير ذلك بما يرونَ أنَّه يُحقِّق المصلحة التي جاء الشَّرعُ بتحصيلها وتحقيقها.
وتُلاحظ في باب العُقوبات أنَّه ليس مُراد الشَّارع العُقوبة لذاتِ العُقوبة، وليس المراد به أن يكون هناك تقليل من مكانة مَن يُطبَّق عليه الحد؛ وإنَّما المراد بهذه الحدود وهي العقوبات أمور:
ïƒک أولًا: الرَّدعُ والزَّجر لئلا يفعل الآخرون مثل هذا الفعل، فيكثر في الناس تلك الجرائم.
ïƒک ثانيًا: أن ينتهي صاحب تلك الجريمة، وأن يُغفَرَ ذنبه، وبالتَّالي يكون هذا من أسباب صلاح أحواله، وقد جاءت النُّصوص بفضل مَن أقام الحدود وَعِظَمِ أَجْره عند الله -جلَّ وَعَلا.
ولعلَّنا نترك كتاب القضاء وما يتعلَّق به من أحكام للقائنا القادم -بإذن الله عزَّ وجلَّ- أسأل الله أن يُبارك فيكَ يا أبا أحمد، وأن يوفقك لكلِّ خيرٍ، كما أسأله -جلَّ وَعَلا- لكلِّ مَن ساهمَ معنا في التَّرتيب والتَّهيئةِ من مخرجٍ وفنِّيين أن يُوفقهم الله لما يحب ويرضى، وأسأله -جلَّ وَعَلا- لمن يشاهدنا علمًا نافعًا، وأن يكونوا ممَّن وقفوا عندَ حدود الله -جلَّ وَعَلا- كما أسأله -جلَّ وَعَلا- لجميع المسلمين حمايةً من كلِّ شرٍّ وسوءٍ، وأن يُصلح الله أحوالهم، وأسأله -جلَّ وَعَلا- لولاة أمور المسلمين أن يكونوا مِن أسباب الهُدى والتُّقَى والصَّلاح والسَّعادة، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا مُحدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العُمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

احمد الصادق
2019-04-30, 08:01
المحرر في الحديث (4)
الدَّرسُ الخَامسُ عَشَر (15)
معالي الشَّيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ: الدكتور سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
حيَّاكَ الله، وأهلًا وسهلًا، أُرحبُ بك، وأرحبُ بإخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلَا- لنا ولهم توفيقًا ونجاحًا وسدادًا ورِفعَةَ درجةٍ في الدُّنيا والآخرة.
نشرعُ في هذه الحلقة -بإذن الله- من كتاب "القضاء".
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (كِتَابُ الْقَضَاءِ.
عَنِ ابنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: اثْنَانِ فِي النَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ: رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَلَمْ يَقْضِ بِهِ وَجَارَ فِي الحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّار، وَرَجُلٌ لَمْ يَعْرِفِ الْحَقَّ فَقَضَى للنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْن مَاجَه وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ, وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ)}.
الحمدُ لله ربِّ العلمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفضلِ الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعدُ؛ فإنَّ الشَّريعة المباركَة سَعت إلى نزعِ النِّزاع، وإلغاءِ الخصومات بأكبرِ قدرٍ ممكنٍ، وذلك من خلالِ زرعِ مخافة الله في القلوب، وجعلِ النَّاس يستشعرونَ أنَّ الله يراقبهم، وتخويفهم من أن يأخذوا أمولًا لغيرهم، حتى ولو كان ذلك من طريقِ القضاء، ولذا قال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُم تَخْتَصِمُونَ إليَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ».
ومِن هُنا لابدَّ أن نعلمَ أنَّ للشَّريعة طرائق كثيرة للقضاء على النَّزاعات، ومن ذلك: أمر النَّاس بالرَّدِّ إلى الكتاب والسُّنَّة، كما في قوله تعالى: ï´؟فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ غڑ ذَظ°لِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًاï´¾ [النساء: 59].
وممَّا جاءت به الشَّريعة: تقرير مبدأ القضاء في الفَصلِ بينَ الخصومات ورفعِ النَّزاعات التي تكون بين النَّاس، ولإيصال الحقوق إلى أصحابها، ومن هنا كان النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتولَّى القضاء بنفسه، وأرسلَ أصحابه ليتولوا القضاء، فأرسلَ عليًّا ومعاذًا وجماعةً من الصَّحابة ليعملوا بعمل القضاء.
وحاولَ أن يُوجِدَ في النَّاس مهابةً لهذا المنصب العظيم من خلال بيان شيء من الشُّروط التي تكون لمن يتولَّى هذا العلم العظيم، ومن خلال زراعة مخافة ربِّ العزَّة والجلال، ومن هنا أشارَ المؤلف إلى بعض الأحاديث الواردة في ترهيب النَّاس من أن يتولَّوا القضاء، فلا يعطوه حقَّه من الاهتمام والعناية، وذلك أنَّ القضاء يحتاج إلى تأهيلٍ قبلَ الدُّخول فيه، فيحتاج إلى معرفة الله -جلَّ وعَلَا- ومعرفة الكتاب والسُّنَّة، ومعرفة طرائق فهم الكتاب والسُّنَّة، وطرائق تطبيق النُّصوص على الوقائع والأحكام التي تقع عند النَّاس.
ومن هنا جاء حديث بريدة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهذا الحديث أشار المؤلِّف إلى أنَّ إسناده جيد، فهو لم يبلغ رتبة الصحَّة، وبعضهم حاولَ أن يتكلَّمَ في ابن بريدة من هو، وأشار طائفةٌ من أهل العلم إلى أنَّه عبد الله بن بريدة أو هو سليمان، وكلاهما ثقة، وبعضهم تكلَّم في بعضِ رواة الصَّحيح، ولكن درجة رواته لا تنقص عن درجة الحسن، سواء شريك، أو خلف بن خليفة، أو غيرهم من الرواة؛ ولذا فالخبر حسن الإسناد، وكما قال المؤلف: (وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ).
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ»، يعني: ثلاثة أصناف وليس ثلاثة أفراد، ولا يلزم منه التَّساوي في العدد.
قال: «اثْنَانِ فِي النَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ»، يعني: من جِهة الاستحقاقِ الابتدائيِّ، وإلَّا فمِنَ المعلوم أنَّ صاحب التَّوحيد عاقبةُ أمرهِ إلى الجنَّة كما وردَ في النُّصوص.
أولهم: «رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ»، أي: كانَ عنده الأهليَّة للقضاءِ ولِتَمييز الحقوق، فقضَى بما يعرفه من الحقِّ، فهذا قد أحسنَ، وبالتَّالي يكون له الأجر والثَّواب، فيُقضَى عليه بأنَّه من أهل الجنة.
والثَّاني: «وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَلَمْ يَقْضِ بِهِ وَجَارَ فِي الحُكْمِ»، أي رجلٌ عرف الحق ولكنَّه لم يقضِ به، ويجور في الحكم -بمعنى مالَ في الحكم- بحثُ أوصلَ الحق لغير أصحابه. قال: «فَهُوَ فِي النَّار».
والثالث: «وَرَجُلٌ لَمْ يَعْرِفِ الْحَقَّ»، يعني: جاهل.
قال: «فَقَضَى للنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ»، إمَّا لكونه لا يعرف النُّصوص أو لا يعرف كيفيَّة فهمها، أو لا يتمكَّن مِن تطبيقِها على الوقائع، أو لا يكون له أهليَّةٌ في فَهم القضايا التي تُعرَض عليه فَهُوَ فِي النَّارِ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ أَوْ جُعِلَ قَاضِيًا بَينَ النَّاسِ، فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ)}.
السِّكين آلةٌ حادَّةٌ، والذَّبحُ بها يكون سببًا مِن أسباب السُّرعَةِ في الموت، ومعنى قوله: «فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» أنَّه تعذَّبَ كثيرًا فيما ذُبِحَ به، وهذا ترهيبٌ من هذا العمل العظيم.
وبعضُ أهلِ العلم قد تكلَّم في هذا الحديث؛ لأنَّه مِن رواية عثمان الأخنسي، وقد وقع الاختلاف فيه، وروى عنه جماعة، ووثقة ابن معين وابن حبان، وتكلَّم فيه آخرون، وقالوا ليس بذاك.
وعلى كلٍّ؛ فليسَ المراد أنَّ القاضي يُعذَّبُ بسببِ ذلك، وإنَّما المرادُ به أنَّ القضاء مهنةٌ صعبةٌ، وعملٌ ليسَ بالسَّهل، وبالتَّالي فذلك الذي تولَّى القضاء دخلَ بابًا عظيمًا، ومن ثَمَّ قد دخلَ أمرًا فيه اضطرابٌ لنفسه وقلقٌ عليه في حياتِه، وهذا يجعلنا نُشفِقُ على هؤلاء القُضاة ونعلم أنَّ ما يؤدُّونه من أعمالٍ هي أعمال جليلة وعظيمة، وبالتَّالي يتقرَّب الإنسان لله -جلَّ وعَلَا- بالدُّعاء لهم أن يسهل الله لهم في مهمَّتهم.
وهكذا ينبغي لمَن يدخل سِلكَ القَضاء أن يكونَ متوكِّلًا على الله -جلَّ وعَلَا- مستعينًا به، فهي مهمَّة عظيمة ليست بالسَّهلة، ولذا شبَّهها النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالذَّبح بغيرِ سكِّينٍ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ, إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ)}.
قوله: «يَا أَبَا ذَرٍّ»، هذه وصيَّة من النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للصَّحابي الجليل أبي ذر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وليس المراد هنا نهي الجميع عن الإمرة، ولذا قال: «إِنِّي أَرَاكَ ضَعِيفًا»، فمن كان كذلك فإنَّه ينبغي به أن يجتنَّب الولايات العامَّة، وأن يُحاول أن يتبعِدَ عنها بكلِّ ما استطاع، وبالتَّالي تبرأ ذمَّته في ذلك.
وأمَّا مَن كان قويًّا ويعرف مِن نفسه أنَّه لن يتأثَّر بالمؤثِّرات التي تأتيه؛ فحينئذٍ لا حرجَ عليه في أن يتولَّى مثل هذه الأعمال، وكما ذكرتُ لك أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعددًا من أصحابه كان يتولَّونَ الولايات العامَّة، سواء في إلإمارةٍ أو في قضاءٍ أو في غيرها.
وينبغي للإنسان ألَّا تكونَ نفسُه توَّاقة لذلك لذاتِ العمل، أو لذاتِ الأمرِ الدُّنيوي، وإنَّما يكون مرادُ الإنسانِ أن يرفع درجته في آخرته، فمتى كانت نيَّته كذلك كان هذا من أسباب عون الله -جلَّ وعَلَا- له، وبالتَّالي قبلَ أن يدخل الإنسان شيئًا من هذه الولايات لابدَّ أن يُلاحظ بعض الأمور:
ïƒک قوَّته في الحقِّ.
ïƒک وإخلاصه في نيَّته.
ïƒک ومعرفته بطرائق هذا العمل، وكيفية أدائه ليؤدِّيَه على الوجه المطلوب منه
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنِّي أُحِبُّ لَكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي»، في هذا أنَّ الإنسان ينصح غيره، حتى ولو لم يكن المنصوح قابلًا للنَّصيحة، أو قد يفسِّرها بغير ظاهرها.
ثم قال: «لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ»، وذلك لأنَّ مثلَ هذا قد يجعل الإنسان يحيف مع أحدهما، وقد لا يُؤدِّي العمل المطلوب منه على أكمل الوجوه.
قال: «وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ»، أي: لا تكون وليًّا على اليتيم في ماله؛ لأنَّه يخشَى أن تكونَ ما في نفسه من ضَعفٍ من أسبابِ ضياعِ شيءٍ من أموال اليتيم.
وكما تقدَّم أنَّ هذا ليسَ نهيًا للجميعِ، وإنَّما هو نهيٌ لمَن كانَ على صفةِ أبي ذر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ولو تركَ النَّاس كلُّهم الإمارة لفسدت أحوالُ النَّاس، ولتمكَّنَ منها مَن ليس أهلًا لها، ومَن يُريد أن يُحقِّقَ مقاصدَ دنياه، وإنَّما المراد مَن كانَ على صِفة أبي ذر. ومثله في مال اليتيم، لو تركه الصُّلحاء وأهل الخير تولَّاه الفُسَّاق فأخذوا ماله ولعبوا به.
ومن ثَمَّ فيُقال: هذا الخبر إنَّما هو لأشخاص معيَّنين، مَن لا يكون عندهم قدرة أو قوَّة في الحقِّ بحيث يتمكَّنونَ من القيام بمثل هذه الأعمال على خيرِ الوجوه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّكُم سَتَحْرِصُونَ عَلَى الْإِمَارَةِ وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ، وَبِئْسَتِ الفَاطِمَةُ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
قوله: «إِنَّكُم سَتَحْرِصُونَ عَلَى الْإِمَارَةِ»، هذا خبرٌ نبويٌّ كريمٌ وقعَ مؤدَّاه في خطابه للصَّحابة وخطابه للأمَّة، ولذلك لا ينبغي بالإنسانِ أن يحرص على أن يتولَّى الأعمال العامَّة، وينبغي بالمؤمن أن يكونَ توَّاقًا لأن يتخلَّصَ منها، سواء كان في الولايات أو كانَ في الوزارات، حتى في الأعمال الدِّينيَّة، سواء في الإفتاء، أو في رئاسة جمعيَّة أو مركَزٍ، أو نحو ذلك، ترغب نفسه أن يُكفَى مثل ذلك العمل، وأن يوجَد من هو أطيب منه ومَن هو أفضل وأصلح منه لمثل هذه الولايات والإمارات.
قال: «وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، يقول: كأنَّكم في أوَّل الأمر تحرصون عليها، ولكنَّكم في آخرِ الأمر ستندمونَ على تلك الولايات التي كنتم تحرصون عليها.
وليس في هذا التَّحذير من الولاية لذاتها، وإنَّما فيه التَّحذير من الحرصِ عليها والرَّغبةِ فيها، وتمنِّيها لذاتها.
ثم قال: «فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ»، أوَّل ما نبدأ تأتينا المرضعة، وبالتَّالي فهي في أوَّلها أمرٌ مستحسنٌ مقبولٌ ترغبه النُّفوس.
قال: «وَبِئْسَتِ الفَاطِمَةُ»، يعني في آخر ِالأمر سيكون هناك ندامة، فالإرضاعُ في أوَّل الأمرِ، وفَطْمُ الرَّضيع في آخره، فعندَ الفطمِ يحسُّ الإنسان بما فيه من آثار ومن ندامة حصلَت عليه بسبب تولِّيه مثل هذه الأعمال.
وبعض أهل العلم يقول: ليسَ المراد هنا بــالفاطمة الانتهاء مِن العمل، وإنَّما المراد بها الموت، لأنَّه يقطع عليه منافع تلك الولايات التي كان يتولَّاها.
وعلى كلٍّ؛ فينبغي للإنسان أن يعرف أنَّ هذه الأعمال إنَّما هي وسائل، فمَن جعلها وسيلة لاستجلاب رضا الله ورفعة درجته في الآخرة، وخدمة عباد الله؛ كان مأجورًا مثابًا في أدائه لهذه الأعمال والمهام، وأمَّا مَن جعلها لتحصيل الدُّنيا، ومن أجل الرِّفعَةِ فيها، ومن أجل أن يكون للإنسان مكانة في النُّفوس ويُثنَى عليه ويُمدَح بأفعاله؛ فحينئذٍ ينبغي به ألَّا يدخل في هذا الباب.
وعلى الإنسان أن يتفقَّد نيَّته في أيِّ عملٍ قبلَ أن يُقدِمَ عليه، فمن رغب الآخرة وعمل لها سهَّل الله له أمر دنياه وأمرَ آخرته.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُم تَخْتَصِمُونَ إليَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ»)}.
هذا الحديث متَّفقٌ عليه.
قوله: «إِنَّكُم تَخْتَصِمُونَ إليَّ»، يعني: في القضاء والخصومات، وهذا فيه دليل أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يتولَّى القضاء، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ عمل القضاء عملٌ عظيمٌ، ولذلك قام به الأنبياء-عليهم السّلام- وذلك للآثار الجميلة المتحقِّقَة من القضاء، ولا يلزم منه أن يكون القاضي مصيبًا في كل ما يُعرَض عليه، فقد يكون مخطئًا، ولكنَّه لا يحكم إلَّا بما يكون ظاهرًا.
قال: «ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ»، يعني: يستطيع أن يتكلَّمَ بها بما يجعل النَّاس يفهمونها على الوجه الذي تكون به حجَّة، بحيث يكون أعرَف بحجَّته وأفطنَ لمعانيها.
قال: «فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ»، يأتي أحدُ الخصمين ويعرف الدَّليل ويعرف مناط المسألة، والوصف الذي يُعلق به.
قال: «فَمنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا»، أي: مَن حكمت له بحكمٍ قضائيٍّ ترتَّب عليه أن يأخذ شيئًا من حقوق الآخرين.
قال: «فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ بِهِ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ»، وبالتَّالي لا يجوز له أن يأخذ به.
وفي هذا دليل على أنَّ حُكم القاضي لا يُغيِّر المسائل ولا يقلب الحلال ليكون حرامًا، أو الحرام ليكونَ حلالًا، وهذا على ثلاثة أنواع:
النَّوعُ الأوَّلُ: إذا كانت المسألة فيها دليلٌ قطعي؛ فحينئذٍ قضاء القاضي لا يُغير حقيقة الأمر باتِّفاق، ويجب نقض هذا الحكم القضائي.
النَّوعُ الثَّاني: إذا كان الحكم مبنيًّا على مناطٍ خاطئ، مثلًا أتى بشهودٍ فحكموا أنَّ الحق لفلان، أو الحق ليس لفلان؛ فحينئذٍ هل حكم القاضي يُغيِّر حقيقةَ المسألة ويقلب الحل ليكون حرامًا والعكس؟
جمهور أهل العلم قالوا: لا، شهادة الشُّهود والبيِّنات ومناط المسألة لا يُغيِّر حقيةَ الأمر، ولا يُغيِّر الحكم في المسائل المقضي فيها، ولا يقلب الحلال ليكون حرامًا.
وهناك مَن فرَّقَ بينَ القضايا الماليَّة وقضايا الأنكحة وغيرها، فقال: إنَّ ذلك يقلب الحق في أحدهما دون الآخر.
ولكن ظواهر النُّصوص ومنها هذا النَّص يدلُّ على خلاف ذلك.
النُّوعُ الثَّالثُ: المسائل الاجتهاديَّة التي قع فيها اختلاف واجتهاد، فحينئذٍ حكم القاضي يرفع الخلاف.
مثلًا: قد يختلفون في الشُّفعَة التي تكون للجار؛ هل تثبتُ له أو لا؟
الحنفية يقولون: نعم.
والجمهور يقولون: لا.
فلو كانَ القاضي يرى أحد الرأيين فحكم به؛ فحينئذٍ برئت ذمَّته ووجبَ على كلٍّ من المتقاضيين أن يعمل به.
فعملُه بما عَرِفَ فهذا محلُّ إجماعٍ، وأمَّا عملُه بما له فهو مِن مواطن الاختلاف.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِذا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمدُ بِإِسْنَادٍ لَا يَصِحُّ منْ حَدِيثِ عَبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو: «إِذا قَضَى القَاضِيَ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ عَشَرَةُ أُجُورٍ، وَإِذا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ كَانَ لَهُ أَجْرٌ أَو أَجْرَانِ»)}.
قوله هنا: «إِذا حَكَمَ الْحَاكِمُ»، المراد بالحاكم: القاضي، والمعنى: إذا قَضى القاضي.
قوله: «فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ»، فلابدَّ أن يكونَ مؤهَّلًا، ولابدَّ أن يكون قد اجتهدَ في المسألة؛ فحينئذٍ إذا أصابَ كانَ له أجران، أجرٌ على الاجتهاد، وأجرٌ على الإصابة.
قال: «وَإِذا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»، فحينئذٍ هو معذورٌ في هذا الخطأ، ويكون له أجرٌ على اجتهاده.
وهذا يُبيِّنُ لك أنَّه لا يجوز للإنسان أن يتكلَّم في القضاة، حتى ولو حكموا بما يُخالف اعتقاد الإنسان في الحقِّ والباطل، حتَّى ولو حكموا عليك فيجب عليكَ أن تتقيَ الله في لسانك فلا تذكرهم إلا بالخير.
وأمَّا الحديث الآخر ففيه راوٍ مجهول اسمه سلمة بن أكسوم، وبالتَّالي لا يُعوَّل على هذه الرِّواية.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عبدِ الرَّحْمَنِ بن أَبي بَكْرَةَ قَالَ: كَتَبَ أَبي -وَكَتَبْتُ لَهُ- إِلَى عُبيدِ اللهِ بن أَبي بَكْرَةَ، وَهُوَ قَاضٍ بِسِجِسْتَانَ، أَنْ لَا تَحْكُمَ بَينَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ، فَإِنِّي سَـمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لَا يَحْكُمُ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ»)}.
هذا الخبر متفقٌ عليه.
أبو بكرة صحابيٌّ جليل، وكان ممَّن أسلمَ يوم فتح الطَّائف، فتدلَّى من الحصن، ودرسَ أولاده العلم وأصبحوا من أهله فتولوا القضاء.
قال عبد الرحمن بن أَبي بَكْرَةَ: (كَتَبَ أَبي)، فيه مشروعيَّة الكتابة بالنَّصائح والإرشاد، وفيه أنَّهم كانوا يحرصون على كتابة الأحاديث النَّبويَّة.
قال: (كَتَبَ أَبي -وَكَتَبْتُ لَهُ- إِلَى عُبيدِ اللهِ بن أَبي بَكْرَةَ، وَهُوَ قَاضٍ بِسِجِسْتَانَ)، سِجِسْتَانَ منطقة في وسط آسيا.
قال: (أَنْ لَا تَحْكُمَ بَينَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ)، غضبان صفة على وزن "فعلان" تعني الامتلاء من الشَّيء، تقول: "ملآن، وجوعان، وظمآن، ونحوها"، فمَن امتلأ من الغضب فحينئذٍ لا يجوز له أن يقضي.
لم يقل: "لا تحكم بين اثنين وفيك غضب"، وإنما قال: (وَأَنْتَ غَضْبَانُ)، وهذه جملة حاليَّة.
قال: (فَإِنِّي سَـمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لَا يَحْكُمُ»)، «لَا يَحْكُمُ» برواية الرَّفع للإخبار، وبرواية الجزم «لَا يَحْكُمْ»، للنَّهي، وخبرُ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يكون على الإيجاب، وإذا كان خبرًا بالنَّفي يكون على النَّهي.
قوله: «لَا يَحْكُمُ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ»، أيًّا كان هذا الحكم، سواء بين متخاصمين في مالٍ، أو متخاصمين من زوجين في قضايا اجتماعيَّة وأُسريَّة، أو في قضايا التَّحكيم.
قال: «وَهُوَ غَضْبَانُ»، يعني وهو ممتلئ من الغضب، وذلك لأن الغضبان يكون ذهنه مشوَّشًا، وبالتَّالي لا يتأمَّل في الحُجج والبيِّنات التي تُلقَى عليه.
وحينئذٍ نقول: إنَّ كلَّ ما يشوِّش ذهن القاضي فإنَّه يمنع من تولِّيه للقضاء، كما لو كان تعبًا يعجز عن النَّظر في تمام القضيَّة، أو كان سهرانًا، أو كان جوعانًا، أو يُريدُ قضاء حاجته؛ فإنَّ هذه أمور مشغلات للذهن، وبالتَّالي لا تُمكِّنه من استيعاب النَّظر في القضيَّة، وبالتَّالي قد يحكم بغير الحق فيها.
وفي هذا دليل على أنَّه لابدَّ من تهيئة الأسباب التي تجعل القاضي يحكم بالحقِّ، سواءً بإحضار الخصوم، أو بالاستماع إليهم، أو بتمكينهم من الإلقاء بحججهم أو بإعطائهم الأسباب التي تُبعد عنهم رهبةَ مجلس القضاء ونحو ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابنِكِ أَنْتِ، وَقَالَتِ الْأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَا إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ لِلكُبْرَى، فَخَرَجَتا عَلَى سُلَيْمَانَ بنِ دَاوُدَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- فَأَخْبَرَتَاهُ، فَقَالَ: ائْتُونِي بالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا, فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا، يَرْحَمُكَ اللهُ هُوَ ابْنُهَا, فَقَضَى بِهِ للصُّغْرَى». وَقَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاللهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلَّا يَوْمَئِذٍ، مَا كُنَّا نقُولُ إِلَّا: الـمُدْيَةَ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِمَا، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ، وَقَالَ البُخَارِيُّ: «لَا تَفْعَلْ, يَرْحَمُكَ اللهُ»)}.
هذه واقعة وردت في الصَّحيحين مِن قضاء داود وسليمان بن داود -عليهما السَّلام- وقد نُقل اختلافات في القضاء والحكم بينهما في مَسائل مُتعدِّدَة، وفي غالب هذه القضايا كان سليمان هو المصيب فيها، ولذا قال تعالى: ï´؟فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًاï´¾ [الأنبياء: 79].
وهذه القضيَّة مُتعلِّقة بقضايا الأمم السَّابقة، فهي نوعٌ مِن أنواعِ شرعِ مَن قبلنا، والنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنَّما حكاها لتكونَ لها فائدة، ومِن ذلك التَّأسِّي بهما في طريقةِ القَضَاء.
قال: «بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا»، فيه وجوب التحرُّز على الذُّريَّة وعدم تمكِين الأسباب المؤدِّيَة إلى التَّلفِ منهم، ومن ذلك تركهم للذِّئاب أو للهوامِّ، أو لمن يعبث بهؤلاء الأطفال.
قال: «فَقَالَتْ هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابنِكِ أَنْتِ»، وانظر إلى ما في هذا من ذنبٍ عظيمٍ من حيث أنَّه سيترتَّب عليه إدخال أحدٍ في نسبِ تلك المرأة ونسب زوجها، فيترتَّب عليه مسائل مثل مسائل الميراث أو المحرميَّة والزَّواج، ونحو ذلك.
فكلاهما قالت للأخرى: «إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ».
قال: «فَتَحَاكَمَا إِلَى دَاوُدَ»، فيه أنَّ القضاء يفصل بين النِّزاعات والخلافات.
قوله: «فَقَضَى بِهِ لِلكُبْرَى»، هنا اجتهدَ فأخطأ في هذا الاجتهاد، وإنَّما حكم به للكبرى لكِبَرِ سنِّها، أو لما أدلَت به مِن حجَّةٍ.
قال: «فَخَرَجَتا عَلَى سُلَيْمَانَ بنِ دَاوُدَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ»، يعني لمَّا خرجتا من مجلسِ الحكمِ، فإذا بسليمان أمامهما، فأخبرتاه.
قوله: «فَقَالَ: ائْتُونِي بالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا», أي: أنَّني سأقوم بإعطاء كلِّ منكما نصف الولد، فهو يُريد أن يختبر هاتين المرأتين لماذا تطالبان به، هل لأنَّه ابنٌ أو لأنَّها تريد أن يلحق الأخرى من التَّلهُّفِ على ابنها مثل ما لحقها، وبالتَّالي قالت الصغرى: «لَا، يَرْحَمُكَ اللهُ هُوَ ابْنُهَا»، يعني لا تشق هذا المولود يَرْحَمُكَ اللهُ، فظهرت الشَّفقة عندَ الصُّغرى، فدلَّ ذلك على أنَّ الابن للصُّغرَى، إذ لو كان للكبرَى لمنعت الكبرى من شقِّه. قال: «فَقَضَى بِهِ للصُّغْرَى».
وفي هذا: القضاء بالقرائن المغلِّبَة على الظَّنِّ متى كان لها درجة مقاربة لليقين.
وفي هذا: الاستدلال بالقرائن على الإقرار، فيستجلب الإقرار من خلال عرض القرائن على الخصمين، وبالتَّالي يُقرُّ مَن عليه الحق بوجوب ذلك الحق عليه.
وفي الحديث: إخبار الإنسان أنَّه سيفعل شيئًا وهو لن يفعل استجلابًا لما يُحقق المصلحة، فسليمان -عليه السَّلام- قال: «ائْتُونِي بالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا»، وهو لن يفعل ذلك، وإنَّما أراد أن يختبر شفقة كلٍّ منهما.
وفي الحديث: أنَّ اللُّغة العربيَّة واسعة، وفيها من المترادفات الشَّيء الكثير، وأنَّ بعض الألفاظ قد تخفى على بعض أهل اللغة، ولذا لم يكن أبو هريرة يسمع بلفظ: "السِّكين"، وكانوا يُطلقون عليها "المُديَة"، وهناك أسماء أخرى للسِّكين غير هذا الاسم، وإنَّما المراد هو إحضار أحد هذه الأسماء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَن عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قَالَ ليْ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذا تَقَاضَى إِلَيْكَ رَجُلَانِ فَلَا تَقْضِ لِلْأَوَّلِ حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الآخَرِ، فَسَوفَ تَدْرِي كَيفَ تَقْضِي»، قَالَ عَلِيٌّ: فَمَا زِلْتُ قَاضِيًَا بَعْدُ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَهَذَا لَفظُهُ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ فِي كِتَابِ الْعِلَل، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ كُوفِيٌّ وَإسْنَادُهُ صَالحٌ)}.
هذا الحديث وقع الاختلاف في تصحيحه وتضعيفه، ومنشأ الخلاف فيه هو الكلام في أحد الرواة يُقال له حنش بن المعتمر، فإنَّ كثيرًا من أهل العلم قد ضعفه، ولكنَّهم قالوا إنَّه يُقوَّى به الأخبار، وهناك مَن قال إنَّه لا بأسَ به، أو صدوق فيكون خبره من قبيل الحسن، ولكن الحديث معناه معنًى صحيحًا، وقد وردت آثار مرفوعة وموقوفة ومقطوعة تدل على نفس معنى هذا الأثر من أنَّه لابد من استماع القاضي لكلام الخصمين قبل أن يقضي.
قال: «إِذا تَقَاضَى إِلَيْكَ رَجُلَانِ»، رجلان هنا صيغة تغليب، وإلا فالمراد خصمان أيًّا كانوا.
قال: «فَلَا تَقْضِ لِلْأَوَّلِ»، أي بمجرَّدِ سماعِ كلامه.
قال: «حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الآخَرِ»، وبالتَّالي تُميز بين الكلامين وتقارِن بينهما.
قال: «فَسَوفَ تَدْرِي كَيفَ تَقْضِي»، لأنَّه إذا سمع لهما عرف المدَّعِي من المدَّعَى عليه، وتمكَّن من مقابلة الكلام ببعضه، وبالتَّالي المحق من غيره.
وقد ورد عن بعض السَّلف أنَّه قال: "مَن أتاكَ وعينُه مفقوءةٌ فلا تستعجلِ بالحكم معَه، فقد يكون خصمه قد فُقئت عيناه معًا"، وبالتَّالي لابدَّ من استماع الإنسان لكلام الخصوم.
وفي قصة داود -عليه السَّلام- في مسألة الشَّريكين اللذين اشتركا في بهيمة الأنعام؛ كان من أسباب اللوم أنَّه استمع لأحد الخصمين دون أن يستمع لخصمه الآخر، وبالتَّالي عتَبَ الله -جلَّ وعَلَا- عليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بَابُ الدَّعَاوَى والبَيِّنَاتِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَو يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُم؛ لادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ، وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرينَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَرْفُوعًَا، إِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَعْمُهُ مَرْدُودٌ. وَلِلْبَيْهَقِيِّ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ»)}.
هذا الحديث صحيح كما ذكر المؤلِّف، وقد أخرجه الشَّيخان.
وقوله هنا: (بَابُ الدَّعَاوَى)، يعني رفع الخصومات والمنازعات للقضاء.
قوله (والبَيِّنَاتِ)، هي الأدلة التي تثبت الحقوق لأصحابها، وبعضهم يقصر اسم "البيِّنة" على الشُّهود، وآخرون يعمِّمونَ اسم "البيِّنة" على كل ما وضَّحَ الحقَّ وأبانَه.
وهذا الحديث قد تكلم فيه بعضهم فقال: إنَّه موقوفٌ وليس مرفوعًا للنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويُنسب هذا إلى الأصيلي، ولكن هو حديث صحيح ثابت الإسناد، رُوي من طرائق متعدِّدَة، ودلَّ عليه وشهد له عدد من الأدلَّة.
قال: «لَو يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُم»، يعني لو قدَّرنا أنَّ كلَّ مَن ادَّعى دعوى أُعطِيَ بناءً على دعواه فقط؛ فحينئذٍ ستطيع الحقوق وستذهب إلى غير أصحابها، لأنَّه ما من شخصٍ يرغبُ في شيءٍ إلَّا وسيُقدِّم دعواه فيه متى كانت دَعواه سببًا مِن أسبابِ تحقيقِ مراده، ولذلك وُضع لنا قانون في قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ»، بمعنى أنَّ المدَّعِي هو المُطالَب أولًا بالبيِّنات، فإذا لم يكن عندَ المدَّعي بيِّنات رجعنا إلى المدَّعَى عليه وطلبنا منه اليمين، وهذا هو الأصل والقاعدة العامَّة، ولكن لها مخالفات في مسائل عديدة.
ولذا فإنَّ الدعوى إذا لم يكن معها بيِّنة فلا قيمةَ لها حتى يكون معها بيِّنات.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَضَى بِيَمِيْـنٍ وَشَاهِدٍ. رَوَاهُ مُسلمٌ، وَتكَلَّمَ فِيهِ البُخَارِيُّ والطَّحَاوِيُّ)}.
قوله: (وَعَنْهُ)، يعني عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهما.
قوله: (أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَضَى بِيَمِيْـنٍ وَشَاهِدٍ)، يعني شاهد واحد.
الأصل في الحقوق أنَّها تثبت بشهادة شاهدين، كما قال تعالى: ï´؟وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ غ– فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىظ°ï´¾ [البقرة: 282]، يعني أن تنسى إحداهما فتذكرها الأخرى.
فالقاعدة: أنَّه لابدَّ من شهادة اثنين، أو شهادة رجل وامرأتين في الحقوق الماليَّة.
هل يُمكن أنَّنا نقتصر على شهادة شاهدٍ واحدٍ مع يمين المدَّعي فقط أو لا؟
الجمهور يقولون: يكفي ذلك، لما وردَ من الأحاديث (أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَضَى بِيَمِيْـنٍ وَشَاهِدٍ).
وحديث ابن عباس هذا قد تكلَّم فيه بعضهم، وذلك أنَّ هذا الخبر من رواية قيس بن سعد، وقد روى عن عمرو بن دينارٍ عن ابن عباس، وقالوا: قيس بن سعد لا يُعلَم أنَّه قد حدَّثَ عن عمرو بن دينارٍ بشيءٍ.
وردَّ عليه الجمهور فقالوا: قيس بن سعد ثقةٌ ولا يُعرَف عنه تدليس، وقد حدَّث عن عمرو بن دينار بصيغة التَّحديث الثَّابتة، ولذلك فهذا الحديث صحيح، ولذا أخرجه الإمام مسلم -رَحِمَهُ اللهُ تَعالى- في صحيحه.
وبالتَّالي نعرف الحكم في أنَّ القضايا الماليَّة التي لا يملك المدَّعي فيها شهادة رجلين أو رجل وامرأتين؛ فحينئذٍ هل نقبل يمين المدَّعي وشاهدٍ واحد، أو نقول لابدَّ من شاهدين؟
قال الجمهور: يكفي شاهدٌ مع يمين المدَّعي لهذا الخبر وما ماثله.
وقال آخرون: لا نقضي إلا بشهادة اثنين، وهذا مذهب الحنفيَّة، قالوا: لأنَّ النُّصوص التي وردت ليس فيها إثبات قبول شهادة شاهد واحد مع يمين المدَّعي، فهذا الحكم زائدٌ على ما ورد في القرآن، والزِّيادة على نصِّ القرآن لا تقبل إلا بخبرٍ متواترٍ، وهذه أخبارُ آحادٍ.
والصَّحيحُ أنَّ الزِّيادةَ على النَّصِّ بيانٌ وليسَت نسخًا، وبالتَّالي لا مانعَ من إثباتِ الحكمِ بناءً على شاهدٍ واحدٍ مع يمينِ المدَّعي، لهذا الخبر.
وبعضهم قال: إنَّ هذا الخبر قد نَسِيَه راويه.
والصَّحيح أنَّ نسيانَ الرَّاوي لِمَا روى لا يقدَح في روايتِه إذا وُجِدَ مَن يَروي عنه قبلَ نسيانه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عُقْبَةَ بنِ الْحَارِثِ: أَنَّهُ تَزَوَّجَ أُمَّ يَحْيَى بِنْتَ أَبي إهَابٍ فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا, قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ للنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَعْرضَ عَنِّي, قَالَ: فَتَنَحَّيْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «وَكَيفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَـتْكُمَا؟» فَنَهَاهُ عَنْهَا, وَفِي لَفْظٍ: «دَعْهَا عَنْكَ»، رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ: «دَعْهَا عَنْكَ لَا خَيْرَ لَكَ فِيهَا»)}.
عقبة بن الحارث صحابي، كان يسكن في مكَّة، وتزوَّج أم يحيى بنت أبي إهاب، وجاءت له بأولاد، وبعدَ مدَّة جاءت أمة سوداء فقالت: (قَدْ أَرْضَعْتُكُمَا)، وهذه شهادة امرأة واحدة.
فجاء عقبة إلى المدينة فذكرَ كلام الأمة السوداء من أنَّها ادَّعت أنَّها أرضعتهما، فأعرض النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عنه، قال: (فَتَنَحَّيْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَكَيفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَـتْكُمَا؟»)، والرَّضاع يمنع من النِّكاح كما في قوله تعالى: ï´؟حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِï´¾ [النساء: 23].
ولا يلزم في الرَّضاعة أن تكونَ قد رَضَعْتَ من أمِّ المرأة، أو تكون هي رَضَعَتْ من أمِّكِ، فقد ترضعان معًا مِن امرأةٍ أجنبيةٍ، فتصبح أختك من الرَّضاعة، وهو ما حدث هنا.
وفي الحديث:
- دليل على أنَّ الرَّضاع تُقبَل فيها شهادة المرأة الواحدة.
- وأنَّه لا يُشترط في الشَّهادة الحريَّة.
- وأنَّه إذا ثبتت الرَّضاعة بعدَ النِّكاح؛ فحينئذٍ ينفسخ النِّكاح ولا يبقى له أثر، وأَّما ما مضى فإنَّ الوطء كان بشبهةٍ، وبالتَّالي يثبت به نسب الأولاد.
والقولُ بأنَّ الرَّضاعَ يَثبت بشهادةِ المرأةِ الواحدة هذا مذهبُ أحمد، قال: لأنَّه من الأمور الخفيَّة التي لا يطَّلع عليها إلَّا النِّساء.
وقال الإمام الشَّافعي: لا يكفي فيه شهادة المرأة الواحدة، ولابدَّ من أربعٍ من النسوة، ورأى أن الحديث على سبيل الاحتياط، وليس على سبيل الوجوب.
والجواب: أنَّ قوله (فَنَهَاهُ عَنْهَا) الأصل أنَّ النَّهيَ يكون للمنعِ والتَّحريمِ.
وَفِي لَفْظٍ: «دَعْهَا عَنْكَ»، هذا لفظُ تحريمٍ صريحٍ، فيدلُّ على تحريم النِّكاح وتحريم البقاء معها. وفي لفظٍ قال: «دَعْهَا عَنْكَ لَا خَيْرَ لَكَ فِيهَا».
وبذلك نكون قد شرحنا هذا الخبر، باركَ الله فيكَ، ووفقكَ الله لكلِّ خيرٍ، وجزى الله المشاهدين الكرام كلَّ خيرٍ وباركَ فيهم، ورزقهم العلمَ النَّافع، والعملَ الصَّالح، كما أسأله -جلَّ وعَلَا- لجميع المسلمين أن تجتمع كلمتهم وتتآلف قلوبهم، وأن تُحقَنَ دماؤهم، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

احمد الصادق
2019-04-30, 08:02
المحرر في الحديث (4)
الدَّرسُ السَّادِسُ عَشر (16)
معالي الشيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ/ الدكتور سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
الله يبارك فيك، وأهلًا وسهلًا، وأشرُفُ بكَ وبمقابلة إخواني ممَّن يشاهدوننا، بارك الله فيهم ووفقهم لكل خير.
{في هذه الحلقة نستكمل ما بدأناه من باب الدَّعاوى والبيِّنات.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- : أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ، فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُم فِي الْيَمِينِ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
الحمدُ لله ربِّ العلمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفضلِ الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعدُ؛ فهذا الحديث حديثٌ صحيحٌ رواه الإمام البخاري، قال: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ)، تُعرَضُ اليمينُ على الْمدَّعى عليهم إذا لم يكن مع الْمدَّعي البيِّنَة.
إذا رفَضَ الْمدَّعى عليهم أن يحلفوا؛ هل تردُّ اليمين على الْمدَّعي، أو لا تردُّ ويُقضَى بالنُّكول؟
ïƒک قال أحمد: يُقضَى بالنُّكول.
ïƒک وقال الشَّافعيُّ: تُردُّ اليمين.
ولعلَّ قول الشَّافعي أرجح؛ لأنَّ فيه زيادة توثُّق، والْمدَّعي ما ادَّعى بهذه الأمور إلَّا وعنده يقينٌ بأنَّ ما ادَّعى من ماله، وبالتَّالي لا إشكال في عرضِ اليمين عليه.
إذن عرض اليمين في الأصل يكون على الْمدَّعى عليه، فإذا ادُّعيَ على جماعة؛ فحينئذٍ يُطلَبُ منهم جميعًا اليمين، ولكن إن أدَّوا اليمين بترتيبٍ فيما بينهم قُبِلَ منهم ذلك، وإلَّا فإنَّ القاضي يقوم بتنظيم هذه اليمين.
كيف يكون التَّنظيم بينهم؟
إن كان هناكَ مُدَّعًى عليه أصيل قُدِّمَ، ثم يُقدَّم كلُّ واحدٍ من الْمدَّعينَ بحسبِ كِبَر حجم مُشاركته في المسألة الْمدَّعى فيها.
وإن تساووا فحينئذٍ قال الجمهور: يُسهَمُ بينهم، واستدلوا بهذا الحديث: (فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُم فِي الْيَمِينِ)، فتُوضَع قرعة ليُعرَف أيُّهم الذي ينبغي تقديمه، وأيُّهم يحلف قبل الآخر.
وقد استدلَّ الجمهور بهذا على مَشروعية القُرْعة وضربِ السِّهام، وقد خالف في ذلك الحنفيَّة فقالوا: هو نوعٌ من أنواع الخرس والتَّخمينِ، والبناء على الظُّنون المجرَّدة.
نقول: ما دام أنَّه قد ثبتَ فِعله عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مواطن فوردَ عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه (إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِه) ، ونحو ذلك، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا» ، ونحو ذلك من النُّصوص؛ فدلَّ هذا على مَشروعيَّة القُرعَة في التَّمييز بينَ الحقوق التي لا ينفصل بعضها عن بعضها الآخر.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ سِماكٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي كَانَتْ لأَبِي، فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي أَزْرَعُهَا لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلحَضْرَمِيِّ: «أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «فَلَكَ يَمِينُهُ»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ لَا يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: «لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا ذَلِكَ» فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لـمَّا أَدْبَرَ: «أَمَا لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا، لَيَلْقَيَّنَ اللهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ»)}.
هذا الحديث أخرجه الإمام مسلم، قال: (جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ)، الأظهر أنَّ حضرموت وكندة قَبَائِل مِن قَبَائِل العَرب، فجاؤوا إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُتخاصمين يرفعون الدَّعوى، وفيه تولِّي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للقضاء.
قوله: (فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي كَانَتْ لأَبِي)، هنا تمييزٌ بينَ الْمدَّعي والْمدَّعى عليه، لأنَّ القاضي يُطالب الْمدَّعي بالبيِّنة، فإذا لم يكن مع الْمدَّعي بينة ذهب إلى الْمدَّعى عليه وطلبَ يمينه.
ومناط القضاء: هو معرفة مَن هو الْمدَّعي ومن هو الْمدَّعى عليه.
ïƒک وبعضهم يقول: إنَّ الْمدَّعي هو المتكلِّم أولًا.
ïƒک وبعضهم يقول: لا؛ الْمدَّعي مَن إذا تركَ تُرِكَ، بحيث لو تركَ الدَّعوى انتهت، بخلاف الْمدَّعي عليه، فإنه لو تركَ الدعوى لم تنتهِ الدَّعوى.
وآخرون قالوا: الْمدَّعى عليه هو مَن كانت العَين الْمُتنازَع عليها بيده.
فهذه عَلامات مِن عَ لامات التَّفريق بينَ الْمُدِّعي والْمدَّعى عليه، وأساسُ القضاءِ في التَّفريق بينهما، ومَن عَرَفَ كيف يُفرِّق بينَ الْمدَّعي والْمدَّعى عليه أمسكَ بأوَّلِ الطَّريقِ في باب القضاء.
هنا الحضرمي تكلَّم؛ فكأنَّه الآن أصبحَ مُدَّعيًا، فقال: (يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هَذَا)، يعني: الْكِنْدِيُّ (قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي كَانَتْ لأَبِي)، يعني: كان يملكها سابقًا وورثها من أبيه، وفيه إثبات إرث الأرض، وأنَّ الأبناء يرثون من أبيهم.
فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: (هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي)، أثبتَ وجود يدَه عليها.
قال: (أَزْرَعُهَا)، هنا قرينة وضع اليدِ، وهذه قرينة قويَّة تدلُّ بطريقِ الظَّنِّ على أنَّ العَين مملوكة لمن هي بيده.
قال: (لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ)، وهذا إنكارٌ للدَّعوى، ولو أقرَّ له لحَكَمَ له؛ لأنَّ الإقرار سيد الأدلّة وهو حُجَّة.
فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلحَضْرَمِيِّ: «أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟»، الآن عرفنا الْمُدَّعِي من الْمدَّعى عليه، والْمُدَّعي هو الذي يُطالَب بالبينة وهو الذي ليس معه وضع يدٍ على العين المتنازَع فيها.
قَالَ: (لَا) أي: ليس عندي بيِّنَة.
قَالَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَكَ يَمِينُهُ»، أي: إذا لم يكن معكَ بيِّنَة يا أيُّها الْمدَّعي فلا سبيل للحكم إلَّا يمين الْمدَّعى عليه -كما في الخبر السابق- «ولكن اليمين على المدعَى عليه».
قَالَ الحضرمي: (يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ لَا يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ)، أي: لا يَتورَّع عن أن يحلف وهو كاذب.
قال: (وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ عَنْ شَيْءٍ)، أي: لا يدفع عن نفسه اليمين الكاذبة.
وفي هذا: أنَّ السِّباب الْمتعلِّق بالدَّعوى في مجلس القضاء لا يُؤاخذ الإنسان به، فإذا تكلم عليه بمثل هذا الكلام خارج مجلس القضاء لعُزِّرَ، ولكن لَمَّا تكلَّم به في مجلس القضاء من أجلِ فائدةٍ وثمرةٍ؛ فحينئذٍ عُفيَ عنه.
والأصل أنَّ المسلم لا يذكر المسلم إلَّا بالخير، إلَّا إذا كانَ هناك مَصلحة شرعيَّة.
فَقَالَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا ذَلِكَ»، أنتَ لم تحضر البيِّنة، فننتقل إلى الْمدَّعى عليه ونُطالبه باليمين.
قال: (فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ)، أي: الْكِنْدِيُّ وهو الْمُدَّعَى عَليه.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لـمَّا أَدْبَرَ: «أَمَا لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا، لَيَلْقَيَّنَ اللهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ»، يعني: يوم القيامة.
وفيه شدَّة إثم مَن حلف بيمين كاذبةٍ ليقتطع مال غيره.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي أُمَامَةَ الْحَارِثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»، فَقَالَ لَهُ رجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا؟ قَالَ: «وَإِنْ قَضِيْـبًا مِنْ أَرَاكٍ». رَوَاهُمَا مُسْلمٌ)}.
قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ»، أي: مَن أخذَ حقَّ امرئٍ مسلمٍ.
قوله: «بِيَمِينِهِ»، أي: بيمين فاجرةٍ كاذبة.
قال: «فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ»، أي: جعله من أهلها.
قال: «وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»، يعني: على سبيل الابتداء.
قوله: (فَقَالَ لَهُ رجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا؟)، يعني: هل هذه العقوبة الشَّديدة تتعلَّق بأخذِ مالٍ يسيرٍ؟
قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنْ قَضِيْـبًا مِنْ أَرَاكٍ»، يعني: السِّواك.
وفي الحديث:
ïƒک تحريم اليمين الكاذبة، وعظم إثم اليمين الفاجرة التي يترتَّبُ عليها أَخذ أموال الآخرين.
ïƒک وجوب أن يتورَّع الإنسان عَن مَال غَيره.
ïƒک حُكم القاضي بناءً على اليمين الفاجرة لا يجعل المحرمات حَلالًا، وإلَّا لسلِمَ من العقوبة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنِ الْأَشْعَثِ بنِ قَيسٍ قَالَ: كَانَتْ بَيْنِي وَبَينَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ، فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ»، فَقُلْتُ: إِنَّهُ إِذًا يَحْلِفُ وَلَا يُبَالِي، فَقَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بهَا مَالَ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ». مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)}.
قال الأشعث: (كَانَتْ بَيْنِي وَبَينَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ)، فيه أنَّ الخُصومَة لا تُنقِص من مكانة الشَّخص ، وهم صحابة في عهد النُّبوَّة.
قال: (فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فيه الرجوع إلى القضاء الشَّرعي في منازاعات الناس وخصوماتهم، ولا يُترَك الأمر للهوَى، ولا يُترَك الأمر لمَن يحكم بخلاف الكتاب والسُّنَّة.
فَقَالَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للأشعث وهو مُدَّعٍ: «شَاهِدَاكَ»، أيُّها الْمدَّعي وهي البيِّنَة.
قال: «أَوْ يَمِينُهُ»، يعني: يمين الْمدَّعى عليه، وذلك أنَّ الْمدَّعى عليه الآن عنده وضع يدٍ على هذه البئر.
فقال الأشعث: (إِنَّهُ إِذًا يَحْلِفُ وَلَا يُبَالِي)، أي: لو رددت الأمر إلى يمينه فلن يتورَّع عن الحلف بيمينٍ كاذبةٍ.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بهَا مَالَ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ»، يعني: كاذب «لَقِيَ اللهَ»، يعني: يوم القيامة «وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ»، فيه شدَّة إثم أولئك الذين يحلون كذبًا وزورًا إذا تعلَّقَ بأيمانهم أخذُ حقوق الآخرين.
وفي هذا الحديث والحديث الذي قبله: إشارة إلى أنَّ القاضي ينبغي به أن يعظ الخصمين، وأن يذكرهما بالله -جلَّ وعَلَا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ سَعيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعيدِ بنِ أَبي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبي مُوسَى: أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي دَابَّةٍ لَيْسَ لوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، فَقَضَى بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ ماجَهْ وَالنَّسَائِيُّ، وَهَذَا لَفظُهُ وَقَالَ: إِسْنَادُ هَذَا الحَدِيثِ جَيِّدٌ)}.
هذا الحديث وقع الاختلاف في رواته، فاضطرب الرواة فيه واختلفوا، ولذلك ضعَّفَه بعضُ أهل العلم بسببِ هذا الاختلاف.
قوله في هذا الخبر: (عَنْ أَبي مُوسَى: أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي دَابَّةٍ)، فيه الرُّجوعِ إلى القاضي الشَّرعي فيما يحدث من المنازعات بينَ الناس، وفيه أنَّ النَّزاعات قد تكون في المنقولات كما تكون في العقارات.
قوله: (لَيْسَ لوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ)، يعني: لا يوجد شهود لا مع هذا ولا مع ذاك، والذي يظهر أنَّه ليس هُناك وضع يد، إمَّا أنَّه لا يوجد يد عليها، أو أنَّها تحت يد رجل أجنبي كمستأجرٍ استأجر دابَّةً ليركبها، فلمَّا جاء يُعيدها فإذا برجلين كلٍّ منهما يدَّعي أنَّ الدَّابة له، ونسي المستأجر مَن هي له.
قال: (فَقَضَى بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ)، لعدم وجود البيِّنَة في ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَرَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ بِإِسْنَادِهِ: أَنَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا بَعِيرًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدَيْنِ، فَقَسَمَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ)}.
هنا لا توجد يد، وكلٌّ من المتخاصمين عنده بيِّنَة، فلمَّا تقابَلت البيِّنتان ولا نعرف مَن هو الْمدَّعي والْمدَّعى عليه؛ قلنا: تساقطت البيِّنات، وبالتَّالي نُثبت المِلك لهما على النِّصفين.
لكن لو عرفنا الْمدَّعي مِن الْمدَّعى عليه فإنَّنا نطالب الْمدَّعي بالبيِّنَة، فإن لم يكن عنده بيِّنَة طالبنا الْمدَّعى عليه باليمين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِم، وَلَا يُزَكِّيهِم، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالفَلاةِ يَمْنَعُهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيْلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ لَهُ بِاللَّهِ لأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا؛ فَصَدَّقَهُ وَهُوَ عَلَى غَيرِ ذَلِكَ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وفَى، وَإنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، ولِلبُخَارِيِّ: «وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ؛ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ»)}.
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ»، يعني: ثلاثة أصناف.
قوله: «لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ»، فيه إثبات صفة الكلام لله -جلَّ وعَلَا- والمراد هنا: كلام الرِّضا، وليس المراد كلام المحاسَبة.
قال: «وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِم»، فيه إثبات هذا الفعل له -جلَّ وعَلَا.
قال: «وَلَا يُزَكِّيهِم»، أي: لا يُطهرهم، قال: «وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ».
أولهم: «رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ»، يعني: على ماءٍ زائدٍ.
قال: «بِالفَلاةِ»، يعني: بالصَّحراء.
قال: «يَمْنَعُهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيْلِ»، أي: من المسافر المحتاج إلى الماء.
وفي هذا وجوب بذل الماء للمحتاج إليه إذا كنتَ مُستغنيًا عنه زائدًا عن حاجتكَ، وفيه شدَّة تحريم منع الماء من ابن السبيل إذا كان زائدًا عن الحاجة، وقد وردَ أنَّ النَّاس شُركاء في ثلاث منها: الماء.
وقيل: إنَّ المراد الماء غير المحوز مثل: مياه الآبار أو مياه الأنهار، أو مياه الأمطار، أمَّا ما كان محوزًا من المياه فهذا مملوكٌ، وبالتَّالي لا يحق لأحدٍ أن يستعمله إلَّا بإذن صاحبه.
قال: «وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ لَهُ بِاللَّهِ لأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا؛ فَصَدَّقَهُ وَهُوَ عَلَى غَيرِ ذَلِكَ»، يعني: كاذب، وفيه منع الحلف كذبًا من أجل تنفيق السِّلعة وإمرارها.
قوله: «وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلًا» يعني: بائع ومشترٍ، سواء رجل أو امرأة.
قوله: «بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ»، هنا استدلَّ بعض العلماء بهذه اللفظة على أنَّ اليمين يُمكن أن تتغلَّظ، فإنَّ القاضي قد يرى أنَّ الْمدَّعى عليه قد يتهاون في اليمين إذا لم تكن مغلَّظَة، فيقوم بتغليظها، والتَّغليظ له ثلاث وسائل:
ïƒک تغليظ في الزَّمان: كما في هذا الحديث في قوله: «بَعْدَ الْعَصْرِ».
ïƒک وتغليظ في المكان: كما عند الكعبةِ، وعند منبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ïƒک وتغليظٌ في الألفاظ.
وبعض العلماء قال بمشروعيَّة التَّغليظ بهذه الأمور الثلاثة، وخالفهم آخرون، وهذا الدليل دليلٌ لمَن يقول بمشروعيَّة التَّغليظ في اليمين.
وفي هذا الحديث: أنَّه ينبغي للإنسان أن يُصدِّق مَن حلف له بالله -جلَّ وعَلَا.
وقوله: «وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا»، والمبايعة قد تكون باللفظ، وقد تكون بالمصافحة، وقد تكون بالاعتقاد، فإذا اعتقدَ صحَّة ولاية هذا الولي يُقال عنه: بايَعَ، ولا يجوز للإنسان أن يكونَ قلبُه خليًّا من البيعَة، فقد قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» .
قال: «لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَا»، البيعة أمر مشروعٌ وعبادة يُتقرَّب بها إلى الله -عز وجلَّ- وبالتَّالي ينبغي أن تكون نيَّة الإنسان فيها الآخرة، بيعة الأئمة وأصحاب الولاية ينبغي أن نتقرَّب بها إلى الله، وأن نجعلها ديانة نعبد الله -عز وجلَّ- بها.
وبوجود الإمام تسكن أحوال الناس وتستقر أمورهم، ويبتعد عنهم الخوف، وينتشر الأمن، وبالتالي يتمكنون مِن مزاولة أمور عباداتهم وأمور دنياهم، وأمَّا إذا لم يكن للناس إمام فإنَّ أحوال الخلق تضطرب ولا يأمنون، وبالتَّالي لا تزدهر أمورهم.
وفي هذا الحديث دليلٌ على مَشروعيَّة وضع الأئمة، وفيه أيضًا أنَّه ينبغي للإنسان أن يجعل مَقصده ونيَّته في كل أموره للآخرة، يُريد ما عند الله -جلَّ وعَلَا- ويُريد أن تعلو دَرجته عند الله، وأن يرضى الله-عزَّ وجلَّ- عنه.
قال: «فَإِنْ أَعْطَاهُ وفَى»، يعني: هذا الرجل الثالث الذي لا يكلمه الله ولا ينظر إليه يوم القيامة ولا يزكِّيه؛ بايع إمامه للدنيا، إن أعطاه من الدنيا وَفَّى وقام بالبيعةِ، وَإنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ؛ وبالتَّالي ينبغي للإنسان أن يجعل البيعة أمرًا شرعيًّا مَقصودًا به إرضاء الله والحصول على أجر الآخرة، لا نسمعُ ونطيعُ من أجلِ وظيفةٍ، أو من أجلِ راتبٍ، أو من أجلِ توفُّر المأكل والمشارب، أو من أجلِ توفُّر الأموال؛ وإنَّما يُسمَع لصاحب الولاية ويُطاع له ويُوفَّى ببيعته طاعةً لله -جلَّ وعَلَا- ورغبةً في أجرِ الآخرة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عَبدِ اللهِ بنِ نِسْطاسٍ، عَنْ جَابرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي هَذَا بِيَمِينٍ آثِمَةٍ، تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ». رَوَاهُ الإِمَامَانِ مَالكٌ وَأَحْمدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ ماجَهْ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ البُسْتِيُّ)}.
قوله: «مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي هَذَا»، فيه دليلٌ لِمَن يقول بمشروعيَّة تغليظ اليمين، وأنَّ من أنواع التَّغليظ: التَّغليظ المكاني.
قوله: «بِيَمِينٍ آثِمَةٍ»، أي: كاذبة، ووصفها بالإثم؛ لأنَّ الإثم أثرٌ وَحُكمٌ مِن أحكام اليمين الكاذبةِ الفاجرة.
قال: «تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»، يعني: على سبيل الابتداء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (كِتَابُ الشَّهَادَاتِ
عَنْ زَيدِ بنِ خَالِدِ الْجُهَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ؟ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا». رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَعَنْ عِمرَانَ بنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ خَيْرَكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» قَالَ عِمْرَانُ: فَلَا أَدْرِي أَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ قَرْنِهِ مَرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، «ثُمَّ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَظْهَـرُ فِيهُمُ السَّمَنُ»)}.
الشَّهادات: هي البيِّنَة التي تُثبَت بها الحقوق.
وقال بعضهم: هي أحدُ أنواع البيِّنات، وأدخلوا القرائن في البيِّنات.
والشَّهادة أقوى من القرائن؛ لأنَّ فيها تعليق الحكم بالذِّمم، وبالتَّالي يتعلَّق هذا الحكم بذمَّة هذا الشَّاهد، فهي أقوى من الكتابات، وأقوى من الرُّهون، وأقوى من غيرها من أنواع ما يثبت الحقوق، وذلك لأنَّ الحقَّ فيها يُمكن أن يُعلَّق بذِّمَّةٍ.
قال: (عَنْ زَيدِ بنِ خَالِدِ الْجُهَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ؟»)، يعني: بأفضل مَن يشهد.
قال: «الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا»، يعني: يُبادر بالشَّهادة، وقد ورد في حديث آخر: «ثُمَّ يَكُونُ بَعدَهُمْ قَوْمٌ يشهدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ» ، يعني: يُبادرون بالشَّهادة ولا تطلب منهم الشَّهادة، وأتى بهم على صفة الذَّمِّ؛ فكيف نجمع بينهما؟
الجواب: هناك ثلاثة طرق من طرق الجمع:
الوجه الأوَّل: أنَّ قوله: «وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ»، أي: أنَّ النَّاس لا يثقون فيهم فيُشهدونَ على أمورهم، فلا يُوجَد تعارض، فالاستشهاد هُنا على سبيل المشاهدة والتَّلقِّي، وليس على سبيل الأداء، بينما الحديث الأول على سبيل الأداء.
الوجه الثَّاني: أنَّ الحديث الأوَّل فيمَن كان لا يُعلَم أنَّ لديه شَهادة فيأتي بها، والحديث الثَّاني فيمَن يُعلَم أنَّ عندَه شهادة ولم تُطلَب منه، فينبغي به أن يُخبر أصحاب الحق أنَّ لديه شهادة، ولا يأتي بها حتى يطلبوها منه.
والوجه الثالث: أن قوله: «الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا» يعني: أنَّه يُحقِّق الفعل المتعلِّق بإثبات ذلك الحق لأصحابه، وبذلك نعرف وجه الجمع بين هذين الدَّليلين.
وفي حديث عِمرَانَ بنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ خَيْرَكُمْ قَرْنِي»، فيه فضيلة الصَّحابة وعِظَم مكانتهم وأجرهم، وعلو منزلتهم عند الله -جلَّ وعَلَا.
قال: «ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهُمْ»، أي: من التَّابعينَ، قال -جلَّ وعَلَا: ï´؟وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَاï´¾ [التوبة:100]، فهذا فيه فضل الصَّحابة وفضل التَّابعين ومَن سارَ على طريقتهم، وفيه المنع من سبِّ الصَّحابَة، والتَّحذير من سوء عاقبته دنيا وآخرة.
قال: «ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»، فيه فضيلة القرون الثلاثة. قَالَ عِمْرَانُ: (فَلَا أَدْرِي أَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ قَرْنِهِ مَرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا).
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ»، أي: يُبادرون للشهادةِ.
قال: «وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ»؛ لأنَّهم لا يُوثَقُ بهم.
قال: «وَيَخُونُونَ»، أي: لا يؤدُّونَ الأمانات إلى أهلها.
قال: «وَلَا يُؤْتَمَنُونَ»، أي: لا يرضى الناس بأمانتهم.
قال: «وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ»؛ لأنَّ مَن نذرَ أن يُطيعَ الله فليُطِعْهُ.
قال: «وَيَظْهَـرُ فِيهُمُ السَّمَنُ»، يعني: في أبدانهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ أَبي بَكْرَةَ قال: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ -ثَلَاثًا: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وعُقُوقُ الْوَالِدَينِ وَشَهَادَةُ الزُّور أَو قَوْلُ الزُّورِ» وَكَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُتَّكِئًا، فَجَلَسَ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِما، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ)}.
قوله هنا: (كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فيه حِرص الصَّحابَة على البقاء عند النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليستفيدوا منه ويتعلَّمُوا منه، وفيه التَّرغيب في ذهاب الإنسان إلى أهل العلم ليستفيد منهم.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ»، أي: ألا أخبركم؟
وفي الحديث:
ïƒک عرض الإنسان ما لديه من العلم من أجل أن يُستفاد منه.
ïƒک وأنَّ الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، وأنَّ الكبائر ليست على رُتبةٍ واحدةٍ؛ بل بعضها أكبر مِن بعضها الآخر.
ïƒک تكرار اللفظة من أجلِ شدِّ الأذهانِ، وجعل النَّاس ينتبهون.
وبعضهم قال: إنَّ قوله (ثَلَاثًا)، أي: ألا أنبئكم بأكبرِ ثلاث كبائر؟
أولًا: قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ»، والمراد به: صرفُ العبادة لغير الله تعالى، كمَن صلَّى لغيرِ الله، وكمَن نذرَ لغيرِ الله، وكمَن دعا غيرَ الله، والإشراك جريمةٌ كبرى، قال تعالى: ï´؟إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ غ– وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍï´¾ [المائدة: 72].
ثانيًا: قوله: «وعُقُوقُ الْوَالِدَينِ»، عقوق الوالدين يشتمل على معنيين:
ïƒک إيذاءهما.
ïƒک والتَّقصير في حقِّهما.
والوالدان في الأصالة تُطلَق على الأب والأم، ولكن الأجداد يدخلونَ على جهةِ التَّبعِ.
ثالثًا: «وَشَهَادَةُ الزُّور»، المراد بالزُّور: الشَّهادة الكاذبَة، واليمين المتعلقة بخبرٍ مَاضٍ يُخالف به المتكلِّم الواقع، وشهادة الزُّور كبيرة من الكبائر، وليس فيها كفَّارة، وإنَّما اليمين المكفَّرة تكون الأمور المستقبليَّة، أمَّا الأمور الماضية فالكذب فيها شهادة زور، ولا يَشرع فيها كفارة يمين.
قال: (وَكَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُتَّكِئًا)، أي: قد استندَ على شيءٍ حوله.
قال: (فَجَلَسَ)، أي: وثبَ جالسًا، لاهتمامه بالأمر.
قال: (فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا)، أي: يُكرر قوله: «وَشَهَادَةُ الزُّور»، وفيه تَكرار العلم، وفيه التَّنبيه بتَكرار اللفظة.
قال: «حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ»، ليس هذا منهم على جهة الرغبَة عن كلام رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإنَّما المراد أنَّهم أشفقوا عليه، ورأوا أنَّه قد اهتمَّ من ذكرِ شهادة الزُّور، وبالتَّالي رغبوا أن يبتعد عنه هذا الاهتمام، وهذا التَّأثُّر بشهادة الزُّورِ وقول الزُّور، ممَّا يدلُّ على عِظَم إثم أصحابها، خُصوصًا إذا ترتَّبَ عليها ضياع الحقوق.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عُمَرَ بنِ الْخطَّاب-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُم الْآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُم، فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمَّنَاهُ وَقَرَّبْنَاهُ، وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ، اللهُ يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ، وَإِنْ قَالَ: إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ)}.
قوله: (إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ)، فيه التَّحري في أحوال الشُّهود والرُّواة، وطلب تزكية هؤلاء الشُّهود، وفيه أنَّ المعتبَر في العدالة من أحوال الشُّهود العدالة الظَّاهرة، وأمَّا الأمور الباطنة فهذه إلى الله -جلَّ وعَلَا.
وفي هذا أنَّه لا يُشرَع التَّنقيب عن السَّرائر التي تكونُ عندَ الناس، وأن يُكتَفَى بظواهرهم، إلا أن يَظْهَر من الإنسان بعد ذلك مَا يَدل على مُراده وحقيقته.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَالَ: وَقَالَ لي عَليُّ بنُ عَبدِ اللهِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بنُ آدمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبي زَائِدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بنِ أَبي الْقَاسِمِ، عَنْ عَبدِ الْمَلِكِ بنِ سَعيدِ بنِ جُبَيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وعَدِيِّ بنِ بَدَّاءٍ، فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ، فَلَمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ، فَقَدُوا جَامًا مِنْ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا مِنْ ذَهَبٍ، فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ وُجِدَ الْجَامُ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: ابْتَعْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ، فَقَامَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ فَحَلفَا: لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَإِنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ، قَالَ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِه الْآيَةُ: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْï´¾ [المائدة:106]).
قوله: (وَقَالَ)، يعني: قال البخاري.
قوله: (وَقَالَ لي عَليُّ بنُ عَبدِ اللهِ)، يعني: المديني، ويُحكم على هذا أنَّه متصلٌ.
قال: (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ)، بنو سهم فَخِذْ مِن قبيلة قريش، ومنهم عمرو بن العاص وجماعة.
قال: (مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ)، الدَّاري نسبة إلى بني عبد الدَّارِ.
قال: (وعَدِيِّ بنِ بَدَّاءٍ)، أي: خرجوا جماعة.
قال: (فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ، فَلَمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ)، يعني: قَدِم تميم وَعَدي بتركة السهمي.
قال: (فَقَدُوا)، أي: فقد أهله وأولياؤه وورثته.
قوله: (جَامًا مِنْ فِضَّةٍ)، نوعًا من أنواع الحلي.
قوله: (مُخَوَّصًا مِنْ ذَهَبٍ)، أي: منقوشًا على صفة الخوص من ذهب.
قال: (فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)، أي: أحلفهما بأنهما لا يعلمون عن هذا الجام شيئًا.
قال: (ثُمَّ وُجِدَ الْجَامُ بِمَكَّةَ)، أي: وُجد الجام يُباع في مكَّة.
قوله: (فَقَالُوا: ابْتَعْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ، فَقَامَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ فَحَلفَا: لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَإِنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ)، يعني: أنَّنا نشهد أنَّ هذا الجام لصاحبهم.
قال: (وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِه الْآيَةُ: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ غڑ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىظ° غ™ وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الْآثِمِينَï´¾).
فهذا بيانٌ لأحكام هذه الشَّهادات، جعلها الله شهادة، وردَّها بوجود ما يُكذِّبها، ولذلك استُدلَّ بهذه الواقعة على أنَّ الشَّهادة تُردُّ متى وُجدَ ما يُكذِّبها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لَا تَجَوزُ شَهَادَةُ بَدَوِيٍّ عَلَى صَاحِبِ قَرْيَةٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ ماجَهْ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا الحَدِيثُ مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ مُحَمَّدُ بنُ عَمْرو بنُ عَطاءٍ، عَنْ عَطَاءِ بنِ يسَارٍ)}.
البدوي: هو الذي يتنقَّلُ في البادية وليس من أهل المدن.
وإذا شهد البدوي على صاحب القرية؛ فإنَّ جماهير أهل العلم يقولون: تُقبَل شهادة البدوي، لعموم النُّصوص التي وردَت بقبول الشهادة.
وبعض أهل العلم قال: تُردُّ الشَّهادة؛ لأنَّ الغالب في صاحب البادية أن يكون من أهل الجهالةِ بالأحكام الشَّرعيَّة، وغالبًا لا يضبطون الشَّهادة على وجهها، وقد يُحيلون الشهادة عن وجهها، وبالتَّالي تُؤدِّي إلى معنًى مُغايرٍ لحقيقة الأمر.
والجمهور -كما تقدَّم- يقبلون شهادة البدوي، ويتكلمون في هذه الرواية؛ لأنَّها من رواية محمد بن عمرو بن عطاء، ومحمد بن عمرو بن عطاء هذا صدوق، وروايته من قبيل الحسن، ولكن رواه عن عطاء بن يسار، وعطاء أمام، وقد روى عن عطاء جماعات كثيرة، فقالوا: يبعدُ أن يتفرَّد محمد عمرو بن عطاء بهذا الخبر عن عطاء بن يسار، ولذلك تكلَّموا فيه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ مُحَمَّدِ بنِ رَاشدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بنِ مُوسَى، عَنْ عَمْرو بنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو، قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ القَانِعِ لأَهْلِ الْبَيْتِ، وَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ لِغَيْرِهِمْ». والقَانِعُ: الَّذِي يُنْفِقُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْبَيْتِ، رَوَاهُ أَحْمدُ -وَهَذَا لَفظُهُ- وَأَبُو دَاوُد، ومُحَمَّدٌ وسُلَيْمَانُ: صَدُوقَانِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِمَا بَعْضُ الْأَئِمَّةِ.
وَقَالَ البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: وَقَالَ أَنَسٌ: شَهَادَةُ العَبْدِ جَائِزَةٌ إِذا كَانَ عَدْلًا)}.
محمد بن راشد وسليمان بن موسى صدوقان، فحديثهما من قبيل الحسن، وكذلك شُعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص والد عمرو صدوق، وبالتَّالي فالخبر حسن ، وليس من الأخبار الضعيفة.
قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ»، أي: مَن عُلِمَ عنه الخيانة فيما سبق فإنَّنا لا نُمضي شهادته ولا نقبلها، لوجود هذا السبب الطَّاعن في شهادته.
قوله: «وَلَا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ»، المراد بالغِمر: مَن كان مُبغضًا مُعاديًا، وفيه أنَّ العداوة مِن أسباب رَدِّ الشهادة، وفيه إشارة إلى وجود الأخوة الإيمانيَّة، وبالتَّالي ينبغي أن تَنْتَفي البغضاء بينهم.
قال: «وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ القَانِعِ لأَهْلِ الْبَيْتِ»، القانع: هو الذي يُنفق عليه أهل البيت -كما وردَ تفسيرها- وذلك لأنَّ بينهم مشاركة؛ ولأنَّهم أصحاب فضلٍ عليه، وبالتَّالي لا تُقبل شهادة القانع لأهل البيت.
قال: «وَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ لِغَيْرِهِمْ»، يعني: لغير أهل البيت لكونه لا يُتَّهم في شهادته لغير أهل البيت.
قال البخاري في صحيحه: (وَقَالَ أَنَسٌ: شَهَادَةُ العَبْدِ جَائِزَةٌ إِذا كَانَ عَدْلًا)، المراد بالعبد: المملوك. هذه اللفظة مُعلَّقة لم يذكر الإمام البخاري مَن بينه وبينَ الصَّحابي أنس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وبالتَّالي هذا يُقال له: خبرٌ مُعلَّقٌ، وأثرٌ مُعلَّقٌ لم يُذكَر فيه بقيَّة رواته.
وقد وردَ عند ابن أبي شيبةَ أنَّه سُئلَ أنس عن شهادة العبيد، فقال: (إنَّها: جائزة)، ففيه قبول شهادة المملوك، خلافًا لبعض أهل العلم، فليسَ من شرط الشَّهادة أن يكون الشَّاهد حرًّا؛ بل يجوز أن يكون الشَّاهد مملوكًا.
والأصل أنَّ الشَّهادة لا تُقبَل إلا مِن ذوي العدالة، لقوله تعالى: ï´؟وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْï´¾ [الطلاق: 2]، والعدالة تكون باجتناب الكبائر وعدم المدوامة على الصَّغائر، والابتعاد عمَّا يخرم المروءة.
وهناك موانع تمنع من قبول الشَّهادة، منها:
ïƒک وجود القرابة.
ïƒک وجود العداوة.
ïƒک وجود المصلحة بالشَّهادة.
وهكذا ما ذكر في هذين النَّصين من أسباب تمنع من قبول الشَّهادة، وبالتَّالي نكون قد انتهينا من كتاب الشَّهادات.
باركَ الله فيك، وفقك الله للخير، كما أسأله -جلَّ وعَلَا- لإخواني ممَّن يُرتِّب هذا اللقاء من فنيين ومخرج التَّوفيق لكل خيرٍ، وأسأله -جلَّ وعَلَا- صلاحًا لأحوال كل من يشاهدنا، ولكل طالب علم ينشر الخير والهدَى في الناس، كما أسأله -جلَّ وعَلَا- أن يعيدنا إلى شرعه ودينه، وأن يجعلنا من المتمسكين بهدي نبيِّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما أسأله -جلَّ وعَلَا- أن يوفق ولاة أمور المسلمين لكل خيرٍ، وأن يجعلهم من الهداة المهتدين، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

احمد الصادق
2019-04-30, 08:02
المحرر في الحديث (4)
الدَّرسُ السَّابع عَشر (17)
معالي الشيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدُّكتور سعد بن ناصر الشثري؛ فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
الله يبارك فيك، وأهلًا وسهلًا، أرحبُ بكَ، وأرحبُ بإخوتي المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
{اللهم آمين..
نستفتح في هذه الحلقة -بإذن الله- من كتاب المحرر لابن عبد الهادي من قول المؤلِّف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كِتَابٌ جَامِعٌ
عَنْ عُمرَ بنِ الْخطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْـبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ, فَهُوَ رَدٌّ»)}.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلامُ على أفضلِ الأنبياءِ والمرسلينَ.
أمَّا بعد؛ فإنَّ الحافظَ ابن عبد الهادي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- عَقدَ في آخر كتابه المحرَّر كتابًا جامعًا، يجمعُ عددًا مِن المعاني المتفرِّقة، والمتعلِّقَة بموضوعاتٍ مختلفةٍ قد لا يجمعها بابٌ واحدٌ، وهذا يشتمل على أخلاقٍ فاضلة، وعلى أمور قلبيَّة، وعلى شروطٍ وأركانٍ متعلِّقَة بالعبادات.
وقد ذكر المؤلِّف هنا حديثين في بداية هذا الكتاب يدورُ عليهما صحَّة الأعمال والعبادات:
الحديث الأوَّل: يتعلَّق بنيَّة الإخلاص لله -جلَّ وعَلا.
الحديث الثَّاني: يتعلق بالمتابعة للنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فأيُّ عمل صالحٍ وأيُّ عبادةٍ لم تشتمل على هذين المعنيين فإنَّها مردودةٌ غيرُ مقبولةٍ.
أولهما: الإخلاص، بأن يقصد الإنسان بأعماله أن يستجلب رضا ربِّ العزَّة والجلال، وأن يكونَ ممَّن علَت منزلته، وارتفعت درجته عند الله -جلَّ وعَلا- ولذا قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ». «إنَّما» أدادة حصرٍ، كأنَّه قال: لا عمل إلا بالنِّيَّة.
والمراد هنا: أنَّ صحَّة الأعمال شرعًا وأنَّ اعتبارها عند الله -جلَّ وعَلا- يكون بالنَّظر في نية أصحابها، ولذلك قد يؤدي الاثنان عملًا واحدًا في صورته وظاهره، فيكون أحدهما عمله صحيحًا معتبرًا عندَ الله -جلَّ وعَلا- والآخر عمله باطلٌ لأنَّه لم ينوِ به رضا الله، وهذه النِّيَّة التي جعلت العمل باطلًا على أنواع:
- منها أن ينوي الإنسان بعملِهِ أن يعبدَ غير الله، فيكون ذلك شركًا لأنَّه صرَفَ العبادة لغير الله -جلَّ وعَلا- وكان من دعوات الأنبياء: ï´؟أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَï´¾ [هود: 2].
- وهناك مَن ينوي بعبادته أمرًا دنيويًّا، كأن ينوي الجاهَ بينَ النَّاس، أو ينوي أن تكون له منزلة فيما بينهم، أو أن يُثنوا عليه في عمله؛ فهذه نيَّة الرِّياء التي قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيها: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ».
- وقد يكون الإنسان قد نَوى بعمله أن يُنيله الله الدُّنيا، ولم يقصد بأعماله الصَّالحة أن ينالَ الآخرة، ولذا قال: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوى»، فمن نوى بعمله الدُّنيا لم يأتِهِ إلَّا ثواب الدُّنيا، ومَن كانت كلُّ أعماله للدُّنيا فحينئذٍ لن ينال في الآخرة درجةً ولا رفعة؛ فأولئك الذين يتصدَّقونَ ليُشفَى مرضاهم ولم يقصدوا بذلك الأجر الأخروي ليس لهم من الأجر شيء، لأنَّهم لم ينووا الأجرَ والثَّواب، وقد قاله -جلَّ وعَلا: ï´؟مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًاï´¾ [الإسراء 18، 19]، وقال تعالى: ï´؟بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىï´¾ [الأعلى 16، 17]، وقال -جلَّ وعَلا: ï´؟مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَï´¾ [هود 15، 16].
ولهذا فرَّع النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على هذه القاعدة فقال: «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ»، ذلك الذي انتقلَ من ديارِ الكُفر إلى ديارِ الإسلام، انتقل من المعصية إلى الطَّاعة، انتقل من الصُّحبة الفاسدة إلى الصُّحبَة الطِّيِّبَة؛ فإن كانت نيَّته أنَّ ذلك الفعل يُراد به التَّقرُّب إلى الله واتِّباع رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان الأمر أن ينال الأجر والثَّواب، وكان عمله مقبولًا عند ربِّ العزَّة والجلال.
أمَّا مَن كانت هجرته لدنيا يُصيبها؛ إنَّما صاحبَ الأخيار لينال من دنياهم لا لينال من آخرتهم، لا ليكونَ مثلَهم في الأجر والثَّواب؛ فحينئذٍ ليس له من الأجر شيءٌ؛ لأنَّه لم يقصد بعمله الآخرة، وإنَّما قصدَ الدنيا.
ومثله ذلك الذي عمل عملًا من أعمال الطَّاعات يُريد أن يتقرَّبَ به إلى امرأةٍ لمجرَّد أن يتزوَّجها، فحيئذٍ قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»، ولم يُكرِّر ما ذُكر كما كرَّرَ في الأولى عندما قال: «فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْـبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا»، استقلالًا لعمل هؤلاء.
وأمَّا الحديث الثَّاني: فحديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه قال: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ, فَهُوَ رَدٌّ».
«مَنْ أَحْدَثَ»، أي: أتى بعملٍ جديدٍ محدَثٍ لم يكن مَنقولًا عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: «فِي أَمْرِنَا هَذَا»، يعني: في ديننا وفي عبادتنا.
قال: «مَا لَيْسَ مِنْهُ»، أي: أنَّه عملٌ جديد وبدعة لم تكن منقولةٌ عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: «فَهُوَ رَدٌّ»، أي أنَّه غير مقبول عند الله -جلَّ وعَلا.
ومن هنا يجبُ على الإنسان أن يَطلبَ دليل أيَّ فعلٍ يُريد أن يفعله قبل أن يُقدِمَ عليه، يتقرَّبُ بذلك إلى الله -جلَّ وعَلا- وقد يكون أصل العبادة لم يُنقَل عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيكون أصلها بدعةٌ من البدع.
وقد تكون البدعة ناشِئة من اختيارِ وقتٍ معيَّنٍ، أو مكانٍ معيَّنٍ للعبادةِ، وقد تكون بتغيير نمطِ العبادة ممَّا في كيفيَّتها وفي صفتها، أو في عددها، أو نحو ذلك، وحينئذٍ على الإنسان أن يلتزم ما ورد عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سنَّته، وألَّا يقوم باستحداثِ أمورٍ جديدةٍ في عباداته غير منقولةٍ عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ -وأَهْوى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَينَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَـبِـهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ, أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمىً، أَلا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ, أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ»)}.
هذه الأحاديث التي ذكرت في هذا الباب كلُّها متفقٌ على صحَّتها، وقد أخرجها الإمام البخاري والإمام مسلم -رحمة الله عليهما.
وهذا الحديث من حديث النعمان بن بشير، قال: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ -وأَهْوى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ)، ليؤكِّد أنَّ سماعه بأذنيه.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ»، أي: أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- قد جعل للحرام والحلال حُدودًا يعرفها مَن يكون من أهلها.
قال: «وَبَينَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَـبِـهَاتٌ»، أي: تخفَى أحكامُها على النَّاس، وقد يكون سبب خفاء الحكم تعارض الأدلَّة فيها، أو أنَّ مَناط الحُكم فيها والعلَّة غير ظاهرة، وبالتَّالي تشتَبِه عليه، أو يكون سبب الاختلاف من اختلاف العُلماء، فتشتبه أحكامها على النَّاس، ولذا قال: «لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ»، وإن كان بعض الناس يعلم أحكامها.
قال: «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ»، أي: ابتعدَ عن الأمور المشتبهة التي قد يقع الالتباس والاختلاف في أحكامها، فإنَّه حينئذٍ سيستبرئ لدينه وعرضه.
أمَّا استبراؤه لدينه: فطاعته لله -عزَّ وجل- فإنَّه لَمَّا ترك الأمور المشتبهة التي يُمكن أن يَلحقها التَّحريم؛ حينئذٍ سلم دينه بيقينٍ، فطاعته لله -جلَّ وعَلا- على أكمل الوجوه.
وأمَّا استبراؤه لعرضه: فحتى لا يُمكِّن الآخرين مِن الكلام في عِرضه.
قال: «وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ»، أي: مَن وقع في هذه الأمور الملتسبة فقد وَقَعَ فِي الحَرَامِ؛ لأنَّه وإن سَلِمَت الأولى والثَّانية من أن تكون حَرامًا إلَّا أنَّ بقيَّتها لا تسلم من أن تكونَ كذلك.
ثم ضرب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مثلًا من أجل أن يُفهَم عنه، قال: «كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى»، يكون هناك موطنٌ يُمنَع الناس من دخوله، فمَن رعى حول الحمى فإنَّ أغنامه قد تدخل في الحمى من حيث يشعر أو من حيثُ لا يشعر، ولذلك قال: «يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ», أي: أن ترعى أنعامه في ذلك الحِمَى.
ثم قال: «أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمىً، أَلا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ, أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ».
هذه الأحاديث الثَّلاثة هي أصول الأعمال، وهي التي يَسلم بها دين الإسلام، حديث الأعمال بالنيَّات وفيه من الفوائد:
- وجوب إخلاص النِّيَّة لله -عزَّ وجل- بأن يقصد الإنسان بعمله الآخرة، وإرضاء الرَّب -سبحانه وتعالى.
- وأنَّ مقدار الثَّواب والجزاء على مقدار صلاح النيَّة.
- وفيه تفريع الأعمال بحسب نيَّات أصحابها.
وأما الحديث الثاني ففيه:
- تحريم البدع.
- وأنَّ كلَّ بدعةٍ مذمومةٍ مردودةٍ غيرُ مقبولةٍ عند الله -جلَّ وعَلا- وبالتَّالي لا يصح أن نقسم البدع إلى ما هو مذموم وما هو مستحسنٌ مقبولٌ.
وأمَّا الحديث الثَّالث ففيه:
- مشروعيَّة الاحتياط باجتناب الأمور المشتبهة التي يجهلها بعض النَّاس.
- وأنَّه لا يخلو أمر من حكم لله -عزَّ وجلَّ.
- وفيه أنَّ أحكام الشَّريعة لا تخفى على جميع النَّاس وإن خفيت على أكثرهم.
- وفيه تجنُّب المحارم وما يُقاربها ويوصل إليها.
- وفيه وجوب التَّنبُّه للقلبِ، والاستعداد لإصلاحه ممَّا يؤدِّي إلى صلاح بقيَّة أعمال الإنسان.
وأعمال القلب كثيرة، منها: الخوف من الله -جلَّ وعَلا- ومنها رجاؤه -سبحانه- ومحبَّته، والتوكُّل عليه والاعتماد عليه -سبحانه وتعالى.
وهذه الأمور هي أساس الأعمال القلبيَّة التي يتمُّ بها صلاح القلب، فيحصل بذلك صلاح أحوال الإنسان في جميع أموره.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ»، قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا هُنُّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ, وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، والتَّوَلِي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ»)}.
قوله: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ»، أي: المهلكات، وفي الحديث:
- بيان أنَّ الذُّنوب منها ما هو كبير، ومنها ما هو صغير، وأنَّ الذُّنوب ليست على رتبةٍ واحدةٍ.
- وفيه بيان أنَّ هذه الأعمال هي أشنع الأعمال.
- وفيه أنَّ الشِّرك أعظم الذنوب، ويُراد به: صرفُ العبادات لغير الله -سبحانه وتعالى.
- وفيه تحريم السِّحر، وبيان أنَّه من الكبائر.
- وفيه تحريم بقيَّة ما ذكر في الحديث مِن قتلِ النَّفس وأكلِ مالِ اليتيمِ، وأكلِ الرِّبا، والتَّولِّي يوم الزَّحف، أي: الهرب مِن مَيدان المعركة والقتال عند لقاء العدو.
- وفيه تحريم قذف المحصنات، باتِّهامهنَّ في أعراضهنَّ، وأنَّ ذلك من كبائر الذُّنوب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ الْمُغيرَةِ بنِ شُعْبَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَيْكُم عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَمَنْعًا وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ»)}.
قوله: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَيْكُم»، أي: منع منه ورتَّب عليه الإثم.
قوله: «عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ»، يُراد بذلك: عدمُ القيام بحقِّ الأمَّهات، سواء في طاعتهنَّ أو وصلهنَّ، أو في القيام بحقوقهنَّ.
قوله: «وَوَأْدَ الْبَنَاتِ»، أي: قتل البنات، حيث كانَ العرب يقتلون البنات، وكانَ بعضُ العربِ يقتل البنات خشيةً من لحوق العارِ به.
قوله: «وَمَنْعًا وَهَاتِ»، أي: أن يمنع الإنسان الواجبات التي يجب عليه أداؤها، مع أنَّه يُطابب بالواجبات والحقوق التي تكونُ له.
قوله: «وَكَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا»، استُدلَّ به على التَّفريق بين الكراهة والتَّحريم، وإن كان لفظ الكراهة قد يُطلق في مرَّات على ما هو محرَّمٌ ممنوعٌ منه، ولكن في هذا الحديث ما يدلُّ على التفرقة بين الكراهة والتحريم.
وقوله: «قِيلَ وَقَالَ»، المراد به: نقل الأقوال بدون التَّفكُّر في معانيها وفي آثارها، وهل نقلها يجعل النَّاس ينتهجون أحسنَ الأقوال والأعمال أو لا.
قوله: «وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ»، المراد به عند أكثر أهل العلم سؤال المال، بحيث يسأل المال من هذا ومن ذاك، ولو كان محتاجًا، فأمَّا إذا لم يكن مُحتاجًا فإنَّ السُّؤال بدعوَى حاجته تكونُ من أكل المال بالحرام ومن المعاصي والذنوب.
وليس المراد بكثرة السؤال هنا سؤال الإنسان عمَّا يُشكل عليه من أمور دينه.
قال: «وَإِضَاعَةَ المَالِ»، وهو وضع المال في غيرِ محلِّه المأمور به شرعًا، سواء كان ذلك ببذل المالِ في أُمورٍ محرَّمةٍ أو في فُضولٍ ومُباحاتٍ لا تعود على الإنسان بخيرٍ في دُنياه وآَخرته، أو بالزِّيادة على النَّفقة الواجبة في الأمور المشروعَة، كما هو في الإسراف في الولائم ونحوها، فهذا من الأمور المكروهة شرعًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ»)}.
في هذا الحديث: أنَّ للإسلامِ أركانًا، وأنَّ واجباته ليست على رتبةٍ واحدةٍ، بل منها ما هو أوجب من غيرها.
وقوله: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ»، يعني أنَّ أساس هذا الدين القيام بهذه الأركان.
أولها: «شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»، أي: الإقرار والاعتراف بأنَّ العبوديَّة حقٌّ خالصٌ لله لا يُوَصف لأحدٍ سواه.
قوله: «وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ»، بحيث يُطاع في أمره، ويُصدَّقُ في خبره، ولا يُعبَد الله إلَّا بما شرعَه. فهذا هو الرُّكن الأوَّل.
الرُّكن الثَّاني: «وَإِقَامِ الصَّلَاةِ»، والمراد بالصَّلاة هنا: صلاة الفريضة، وإقامتها: أداؤها على الوجه المطلوب شرعًا.
الرُّكن الثَّالث: قوله «وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ»، أي: إعطاء الزَّكاة الواجبة.
الرُّكن الرَّابع: «وَحَجِّ الْبَيْتِ».
الركن الخامس: «وَصَوْمِ رَمَضَانَ».
والحديث يدل على إيجاب الصَّلوات الخمس، وعلى إيجاب الزَّكاة في المال، وعلى إيجاب الحج، وعلى إيجاب صوم شهر رمضان، ويُستثنى من ذلك ما ورد في النُّصوص الأخريات من استثنائه كالمجنون والصَّغير ونحوهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ, كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ»)}.
قوله: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الْإِيمَانِ»، فيه أنَّ للإيمان حلاوة يجدها الإنسان في قلبه.
الأمر الأوَّل: قال «مَنْ كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا»، فيه أنَّ الإيمان يشتمل على أعمال القلوب، ومنها المحبَّة، وفيه تقديم الله ورسوله على محبَّة الإنسان لغيرهما كائنًا مَن كان.
وقد قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» ، وقال: «مَنْ كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا حتى يكونا أحب إليه من نفسه» .
الأمر الثَّاني: قوله: «وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلهِ»، أي: يتقرَّب إلى الله -جلَّ وعَلا- بمحبَّته، فيتقرَّب إلى أهل التَّوحيد وأهل السُّنَّة، ويطلب بذلك استجلاب رضا ربِّ العزَّة والجلال.
والأمر الثَّالث: قوله: «وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ»، وكراهية الكفر والعود وإليه من الإيمان.
قوله: «كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ»، أي: أنَّه يكرَه أن يعودَ في الكفر كما يكره أن يُلقَى في النار.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».
وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ -أَو قَالَ: لِأَخِيهِ- مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»)}.
قوله: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»، فيه وجوب تقديم محبَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على محبَّة غيره، حتى أقرب النَّاس إليه، بل ورد «حتى أكون أحب إليه من نفسه» .
ويُلاحَظ هنا أنَّ بعض الناس يقول: أنا أعبد الله محبَّة، وأدعو الله محبَّة.
نقول: خطأ، لا تكتفي بالمحبَّة في هذا الباب؛ بل عليكَ أن تعبدَ الله محبَّةً له، وطمعًا في أجره، وخوفًا من عقوبته، كما قال تعالى: ï´؟وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًاï´¾ [الأعراف: 56]، أي: في عبادتهم ودعائهم، فدلَّ ذلك على أنَّه لا يُجزئ ولا يَصح أن يكون مُنطلق الأعمال والطَّاعات هو مجرد محبَّة الله -جلَّ وعَلا.
قال: «لَا يُؤمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ -أَو قَالَ: لِأَخِيهِ- مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»، فأنا أحبُّ لنفسي العلم، أحبُّ لنفسي المال، أحب لنفسي رفعة الدَّرجة؛ فأحبُّ لإخواني مثل ما أحبُّ لنفسي، لا أحب لهم أن يَصِلُوا إلى درجتي فقط؛ بل أحب لهم تلك الدرجة التي أحبُّ أن أصلَ إليها، ولا يعني هذا أنَّك تحبُّ أن ينقصك مكانك من أجلهم، بل أنت ترجو وتحب أن تكون وإيَّاهم على أعلى الدَّرجات.
وحينئذٍ نعلم أن المحبَّة على أنواع:
المرتبة الأولى: محبة الله، وهي أعلى أنواع المحبة، وقد قال تعالى: ï´؟وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِï´¾ [البقرة: 165]، وقال: ï´؟يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُï´¾ [المائدة: 54].
المرتبة الثَّانية: المحبَّة في الله، فأنا أحبُّكَ طاعةً للهِ، ورغبةً في أجره وثوابه؛ فهذه محبَّة في الله -عزَّ وجل.
والمحبَّة في الله قد تكون محبةً لأوليائه، وقد تكون محبَّةً لطاعته، سواء الطاعة التي تفعلها أو الطاعة التي فعلها غيرك، فتحب أن يكون الناس كلهم مطيعين لله -جلَّ وعَلا- ترجو بذلك ما عند الله، فتكون مُثابًا مأجورًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ عبدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»)}.
قوله: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ»، أي: القدح فيه والاستنقاص من مكانته، وخصوصًا إذا كان في وجهه.
قوله: «فُسُوقٌ»، أي: ذنبٌ ومعصية.
قوله: «وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»، ليس المراد به الخروج من دين الإسلام، وإنَّما المراد به الكفر الأصغر لأنَّه قال: «وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»، ولم يقل "الكفر".
وفي الحديث: تحريم ذكر معايب المسلمين، سواء في وجوههم أو خلف ظهورهم، وتحريم مقاتلة أهل الإسلام.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» قَالَ: قُلْتُ لَهُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ, قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ». قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ»)}.
عن ابن مسعود قَالَ: (سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فيه مشروعيَّة سؤال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عمَّا يكون مِن الأعمالِ.
قال: (أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ؟)، فيه دلالة على أنَّ الذُّنوب ليسَت على رتبةٍ واحدة، وأنَّها متفاضلة في عظم ذنبها.
فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا». النِّد: المساوي والمماثل، فعندما تجعل لله ندًّا وتصرف إليه شيئًا من العبادات؛ فحينئذٍ قد وقعتَ في ذنبٍ عظيمٍ.
وقد أتى بدليلٍ على وجوبِ جَعْلِ العبادةِ لله وحده فقال: «وَهُوَ خَلَقَكَ»، فما دام أنَّه خلقك فهو يملك منافعك، ومنها طاعاتك وعباداتك، فلابدَّ أن تجعلها لله.
قال ابن مسعود: (قُلْتُ لَهُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ)، أي: امرٌ كبيرٌ.
قال: (قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟)، يعني ما الذَّنب الذي يكون بعدَ هذا.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ»، وقتل الولد من أجلِ خوفِ الفقر كان يفعله بعض النَّاس، فنُهيَ عنه، وبالتَّالي لا ينبغي بالإنسان أن يتخوَّف من أمور متعلقة بالمطاعم أو المتعلقة بالعيش والرِّزق، وبالتَّالي يقوم بترك اختيار الولد.
وقوله: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ»، هذا يشمل مَن وُلد، ولكن هل يشمل الجنين في بطن أمِّه؟
هذا من محالِّ النَّظرِ والاجتهاد.
قال ابن مسعود: (قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟)، أي: ما هي الذنوب التي تلي هذين الذنبين العظيمين.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ»، الحليلة هي: الزَّوجة، لأنَّها تحل للجار.
ولفظ "تُزاني" فعل مشترك، كأنَّك جعلتها تزهد في حليلها وزوجها، وبالتَّالي تكونُ قد أقدمتَ على ذنبٍ عظيم، كيف وهو جارك له واجبٌ عليكَ في احترام حراماته وتقديرها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذا ائْتُمِنَ خَانَ»)}.
قوله: «آيَةُ»، يعني علامة.
قوله: «الْمُنَافِقِ»، أي يُبطن ما لا يُظهر.
قوله: «ثَلَاثٌ»، أي: ثلاث صفات.
الصِّفة الأولى: «إِذا حَدَّثَ كَذَبَ»، والكَذب: هو الإخبار بخلاف الواقع، والكذب في الحديث خصلة من خصال النفاق، لأنَّه يُظهر خلاف ما يُبطن.
الصِّفة الثَّانية: «وَإِذا وَعَدَ أَخْلَفَ»، الخُلفُ عندَ الموعِد، فإنَّ مَن وعَدَ ثمَّ أخلفَ ذلك الوعد فإنَّه حينئذٍ يكون قد أظهر ما لا يُبطِن.
الصِّفَة الثَّالثة: «وَإِذا ائْتُمِنَ خَانَ»، فالخيانة ذنبٌ عظيم، فكيف يأتمنك ثم تخونه، وهذا من كبائر الذنوب.
وإذا تأمَّلتَ هذه الصِّفات -الكذب، وخُلفُ الموعد، والخيانة- وجدتَّ أنَّها من أسباب نزع الثِّقة من النَّاس بعضهم ببعض، وأكثر تعاملات النَّاس لا تسير إلَّا على الثِّقة، فزوجان لا يثقان في بعضٍ لن تستمرَّ حياتهما، وقرابةٌ لا يثقُ بعضهم في بعضٍ لن تستمر الصِّلَة بينهم، وكل مَن لك به عَلاقة إذا لم تكن مبنيَّةً على اجتناب صفات النِّفاق المذكورة في هذا الحديث لن تستمر، ولن كونَ من شأنهم الاستمرار على هذه العلاقات، وبالتَّالي نعلم أنَّ هذه الصِّفات الثَّلاث صفات نفاق، وأنَّها مؤثرة في نزع الثِّقَة من النَّاس بعضهم في بعضهم الآخر.
باركَ الله فيك، ووفقكَ الله لكلِّ خيرٍ، وجعلنا الله وإيَّاك من الهداة المهتدين، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

احمد الصادق
2019-04-30, 08:03
المحرر في الحديث (4)
الدَّرسُ الثَّامِنُ عشر (18)
معالي الشَّيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور سعد بن ناصر الشثري؛ فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
حيَّاكَ الله، وأرحبُ بكَ، وأرحبُ بإخوتي المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من (حديث عبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيهِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَهل يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِديهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ»)}.
الحمدُ لله ربِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعدُ؛ فهذا الحديث أورده المؤلف الحافظ ابن عبد الهادي في كتاب الجامع الذي عقده في آخر كتابه المحرَّر، وأكثر حديثه متفقٌ عليها قد أخرجها الإمام البخاري والإمام مسلم، ومنها هذا الحديث.
قوله: «مِنَ الْكَبَائِرِ»، فيه تقسيم الذنوب إلى كبائر وصغائر.
وقوله: «شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيهِ»، فيه الحُكم على الفعل باعتبار آثاره وما يُؤدِّي إليه، فإنَّه لم يشتُم والديه، وإنَّما فعلَ فعلًا يُؤدِّي إلى أن يُشتَم والداه.
وفي هذا أنَّه ينبغي بالإنسان أن ينتهج الأقوال الطِّيبة والأعمال الفاضلة من أجل أن يُترَك شتمُ أبويه، وأن يُدعَى لأبويه.
قوله: (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَهل يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِديهِ؟)، فيه السُّؤال لتعرُّف حقيقة ما أخبرَ به في الحديث.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ»، فاعتبر الحكم على الفعل باعتبار آثاره وما يُؤدِّي إليه.
والحديث فيه دلالة على أنَّ الأصل في السِّباب هو المنع والتَّحريم.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبي صَالحٍ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَـتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّم خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيْهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ,فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيْهَا أَبَدًا»)}.
في هذا الحديث تحريم قتل الإنسان لنفسه مهما بلغت به الظروف، ومهما كان عنده من المصائب، فإنَّ هذه أمورٌ قدَّرها الله -جلَّ وعَلا- ليختبره ولتكون من أسباب رِفْعَتِه.
وفي هذا الحديث: أنَّ اختلاف طريقة القتل لا تكون سببًا من أسباب إلغاء الإثم في قتل الإنسان لنفسه أو لغيره.
واستدلَّ الجمهور بهذا على إثبات القصاص في القتل بالمثقَّل كما هو في القتل بالمحدَّد، وفيه أيضًا أنَّ استعمال الحديد ينبغي أن يكون في الطَّرائق الشَّرعيَّة، ومن ذلك ألَّا يُترَك بيد مَن يقتلَ نفسه بحديدةٍ.
وقوله: «فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ»، يعني: التي قتل بها نفسه.
قال: «يَـتَوَجَّأُ بِهَا»، يعني: أنَّه يطعن نفسه مرَّةً بعدَ مرة.
قتال: «فِي بَطْنِهِ»، يعني: يتوجَّأ بها في بطن نفسه.
قال: «فِي نَارِ جَهَنَّم خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا»، فيه دلالة على أنَّ عذاب النَّار باقٍ أبدًا وأنَّه لا ينقطع.
ثم ذكر طريقةً أخرى من طرق قتل الإنسان لنفسه فقال: «وَمَنْ شَرِبَ سُمًّا»، السُّمُّ مادةٌ يكونُ فيها العطبُ والهلاك.
قال: «فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيْهَا أَبَدًا»، أي: أنَّه يُعذَّب بطريقته التي قتل بها نفسه.
وفي هذا دلالة على أنَّ الجزاء من جنس العمل.
وقوله: «خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيْهَا أَبَدًا»، فيه إثبات مذهب أهل السُّنَّة في أنَّ نارَ جهنَّمَ خالدة.
وقوله: «وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ»، أي: أسقطَ نفسَه مُتعمِّدًا مِن جبل.
قال: «فَقَتَلَ نَفْسَهُ»، أي: كان ذلك التَّردِّي من أسباب موته.
قال: «فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ»، أي: أنَّه تُكرَّر عليه العقوبة والذَّنب.
قاال: «خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيْهَا أَبَدًا»، فيه دلالة لمذهب مَن يَرَى أنَّ أهل النار من أهل الشرك يُخلَّدون فيها.
{أحسن الله إليكم..
هل يُستدل بهذا الحديث على أنَّ العقوبة بالمثل؟}.
هناك اختلاف فقهي قد أشرنا إلى ذلك في كتاب القصاص، وبيَّنَّا أنَّه إذا قَتَلَ شخصٌ غيرَه بطريقةٍ محرَّمَة فلا سبيل له إلَّا السَّيف، وإذا قتله بطريقةٍ أخرى؛ فحينئذٍ هل يُقتَل القاتل بمثل ما قتل به أو لا؟ وهذا من مواطن الخلاف.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْوَانًا»)}.
هذا الحديث متَّفقٌ عليه.
قوله: «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ»، المراد به تقدير الأمور المقلقة والمخوفة ونسبتها إلى الآخرين، فهذا يشمل الهموم التي قد تعيق الإنسان في حياته، وتشمل أيضًا سوء الظن بالآخرين، وفيه أنَّ المؤمن مُطالب بأن يُحسِّن ظنَّه بإخوانه، قال تعالى: ï´؟لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَظ°ذَا إِفْكٌ مُّبِينٌï´¾ [النور:12].
وقوله: «فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ»؛ لأنَّه غير مُستند إلى دليلٍ يدل على صحَّته، فكانت الظُّنون مِن أكذب أنواع الحديث.
قال: «وَلَا تَحَسَّسُوا»، التَّحسُّس هو: طلب الإنسان الأشياء لنفسه.
قال: «وَلَا تَجَسَّسُوا»، التجسس: تفتيش بواطن الأمور.
قال: «وَلَا تَنَافَسُوا»، أي: لا يكن بين بعضكم مع بعض مُنافسة على أمور الدنيا، وأمَّا أمور الآخرة فإنَّها لا تدخل في هذا الخبر لقوله تعالى: ï´؟خِتَامُهُ مِسْكٌ غڑ وَفِي ذَظ°لِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَï´¾ [المطففين:26].
قال: «وَلَا تَحَاسَدُوا»، أي: لا يتمنَّى بعضكم زوالَ نعمة الله -جلَّ وعَلا- عن بعضكم الآخر.
وفي الحديث: تحريم هذه الأفعال وهي : التَّحسُّس والتَّجسُّس والتَّنافُس والتَّحاسُد.
ثم قال: «وَلَا تَبَاغَضُوا»، أي: لا يُبغض بعضكم بعضكم الآخر؛ لأنَّكم تريدون ما عند الله، وبالتَّالي فما فضَّلهم الله به عليكم لا تتعلَّق به نفوسكم؛ لأنَّكم تعلمون أنَّ الجميع من عند الله، وما حصل منهم من خطأ أو نقصان فإنَّه لا يكون سببًا من أسباب التَّباغُض، وإنَّما يكون من أسبابه أن يسمح بعضكم لبعضكم الآخر.
قال: «وَلَا تَدَابَرُوا»، أي: لا يُلقي بعضكم إلى بعضكم الآخر بدبره.
قال: «وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْوَانًا».
وفي هذا الحديث:
• تحريم ظنَّ السَّوء في الآخرين.
• تحريم التَّحسُّس، والتَّجسُّس، والتَّنافس، والتَّحاسُد، والتَّباغض، والتَّدابر.
• وفيه أنَّ التَّجسُّس والتَّحسُّس قد يختلف حكمه باختلاف ما يلتبس به من أمور.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ»)}.
في هذا الحديث: تحريم هجرة المسلم لإخوانه المسلمين فوق ثلاث، وأمَّا ما دون الثَّلاث فإنَّه لا يدخل في هذا الخبر، فيدل الخبر على إباحة الهجر لأقل من ثلاث، ولكن لا يكون إلَّا لسببٍ مشروعٍ، وأمَّا ما زاد عن الثَّلاث فإنَّه لا يجوز، إلَّا إذا وردَ فيه شيء من الدَّليل.
قال: «يَلْتَقِيَانِ»، أي: يُقابل بعضهم بعضهم الآخر.
قال: «فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا»، يعني: أنَّهم لا يتحفَّى بعضهم ببعضٍ، وفيه أنَّه ينبغي بالإنسان أن يتحفَّى بإخوانه المسلمين.
قال: «وَخَيْرُهُمَا، الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ»، أي: خير المتهاجرين والمتقاطعين من يبدأ بالسَّلام؛ لأنَّه قد بدأ الخطوة الأولى نحوَ الاتِّفاق، وتركِ الهجرانِ فيما بينهما.
{قال المؤلف: (وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُم بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرَّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُم وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا»)}.
هذا الحديث فيه فوائد:
• الفائدة الأولى: الترغيب في الصدق والحثُّ عليه.
• الفائدة الثانية: التَّحذير من الكذب والتَّرهيب منه.
الفائدة الثالثة: أنَّ الأعمال الصَّالحة والأعمال السِّيئة بمثابة السلسلة يجرُّ بعضها بعضَها، وبالتَّالي فعلى الإنسان أن يعمل العمل الصَّالح ليجرَّ عليه عملًا صالحًا آخر؛ ولذا قال تعالى: ï´؟وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْï´¾ [محمد:17].
• الفائدة الرابعة: أنَّ مَن تكرَّرت منه الصِّفة وُصِفَ عند الله -جلَّ وعَلا- بها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الصَّادِقُ الـمَصْدُوقُ: «إِنَّ أَحَدَكُم يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ، فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤمَرَ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَو سَعِيدٌ، فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجنَّةِ فَيَدْخُلُهَا».
وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ،كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَل تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟» ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: واقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ: ï´؟فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيْلَ لِخَلْقِ اللهِï´¾ [الروم:30] الْآيَة.
وَعَنْهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِيـنَ عمَّنْ يَمُوتُ مِنْهُم صَغِيرًا، فَقَالَ: «اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ»)}.
هذه أحاديث فيها شيء من أمور القدر، والإقرار بما يُقدِّره الله -جلَّ وعَلا- ويكتبه على العبد.
أولها حديث ابن مسعود، قال: (حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الصَّادِقُ)، يعني: الْمُخْبِرُ بما يُوافق الواقع.
وقوله: (الـمَصْدُوقُ)، يعني: أنَّ الله صدقه في الوحي المنزَّل إليه، وصدقَه وعدَه بنصره.
قال: -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَحَدَكُم يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا»، أي: المرحلة الأولى من حياته أربعين يومًا يكون فيها نطفة.
قال: «ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ»، يعني: أنَّه ينتقل من كونه نُطفة -شيء من المني والدم- إلى أن يكون علقة، بأن يكون يسير لحمٍ تعلَّق بالرَّحم.
قال: «ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ»، أي: لحمًا تامًا مثل ذلك.
إذن المجموع أربعة أشهر، أربعين وأربعين وأربعين؛ فتكون مائة وعشرين يومًا.
قال: «ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ»، وجاء في حديثٍ آخر أنَّ الملك يُرسَل بعدَ اثنين وأربعين يومًا؛ فحينئذٍ نقول: إنَّ الإرسال مرتين.
قال: «فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ»، وتكون هذه بداية للرُّوح، وبالتَّالي إذا مات الجنين قبل هذه المدَّة فإنَّه لا يُصلَّى عليه ولا يلزمُ به كفَّارةٌ إذا اعتُديَ عليه، وإذا مات بعدَ ذلك فإنَّه يُصلَّى عليه ويلزم به كفَّارة إذا مات، وهذا بالنِّسبة لهذين الحكمين.
وأمَّا بالنسبة لأحكام الطهارة والنِّفاس فإنَّه يتعلق بنوعِ ما يخرج من بطنِ المرأةِ، فإن كان فيه صورة إنسان وأعضائه فإنَّه حينئذٍ يُحكَم بأنَّه جنين، فتقعد المرأة للنِّفاس، وأمَّا إذا خرج مجرَّد مُضغة لحمٍ وليس فيه شيء من تخاطيط البدن؛ فإنَّه حينئذٍ لا يكون الدم دم نفاس.
قال: «وَيُؤمَرَ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ»، أي: أنَّ الملك يُؤمر بكتب أربع كلمات.
أولها: «بِكَتْبِ رِزْقِهِ»، ماذا سيكسب من أمور الدنيا.
ثانيها: «وَأَجَلِهِ»، متى سيموت.
ثالثها: «وَعَمَلِهِ»
رابعها: «شَقِيٌّ أَو سَعِيدٌ».
وفي هذا بيانٌ أنَّ الرِّزقَ لا يجره حرص حريص، وأنَّ الإنسان ينبغي به في أُمور رِزقه أن يَعتمد على الله -جلَّ وعَلا.
وفي هذا أنَّ الإنسان يبذل إلى ما يُؤدي إلى زيادة عمله، فهكذا يبذل ما يُؤدي إلى زيادة أجله.
وليس المراد بقوله: «وَأَجَلِهِ»، أنَّ الإنسان لا يبذل سببًا لزيادة الأجل، فإنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد أمر بالتَّداوي، والتَّداوي يُراد به زيادة الأجل.
وهكذا بيَّنَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّ صلة الرَّحم مما يُنسأ به الأجل.
ثم قال مُقسِمًا: «فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيرُهُ»، وفيه القَسَم بدون أن يُطلب.
قال: «إِنَّ أَحَدَكُم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ»، أي يسبق عليه ما سُجِّل عليه في الكتاب من كونه من أهل النار فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ ويترك عمل أهل الجنة فَيَدْخُ النار.
ومن أمثلته: ذلك الذي قتل نفسه بعد اشتراكه في معركة القتال، وكونه أبلى بلاءً حسنًا، وفي آخر أَمْرِه قَتَلَ نَفْسَه.
وفي المقابل قال: «وَإِنَّ أَحَدَكُم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ»، يعني: لم يبقَ بينه وبينَ النار إلا شيئا قليلًا. قال: «فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجنَّةِ فَيَدْخُلُهَا».
الأوَّل كفَرَ في سياق الموت، والثاني آمن قبيل موته، وجاهد وشاركَ بالعمل الصَّالح.
أمَّا حديث أبي هريرة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ»، سواء كان ذكرًا أو أنثى، سواء كان من بلاد المشرق أو بلاد المغرب.
قال: «إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ»، الفطرة: هي الإقرار بحقِّ الله -جلَّ وعَلا- في الألوهيَّة والعبوديَّة، والإسلام هو الفطرة، ولذا قال في هذا الحديث: «فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ»، ولم يقل: "يجعلانه مسلمًا".
وفي هذا أنَّ اليهوديَّة والنَّصرانيَّة بما جاء فيهما من التَّحريف لم تعد مُتوافقة مع الفطرةِ، ومثله المجوسيَّة.
ثم ضربَ مثالًا قال: «كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ»، أي: كما تلد البهيمة بهيمةً كاملةً الأعضاء، وهذا مثل مَن يُولَد على الفطرَة، ثم بعد ذلك يقوم الناس بقطع آذانها وخشومها أو أطرافها؛ فقال: «هَل تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟»، يعني: لَمَّا خُلقَت أوَّلَ ما خُلِقَت كانت كاملة، ولم يكن فيها قطعٌ لشيءٍ من أعضائها، ثم بعدَ أن تولد يستجد قطع بعض أعضائها.
ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: (واقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ: ï´؟فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيْلَ لِخَلْقِ اللهِï´¾ [الروم:30] الْآيَة).
قال المؤلف: (وَعَنْهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِيـنَ عمَّنْ يَمُوتُ مِنْهُم صَغِيرًا)، الذين لم يبلغوا الحُلم ولم يبلغوا الحنث، وبالتالي هل يدخلون مع آبائهم فيكونون في النار، أو يدخلون الجنة فيكونون في كفالة إبراهيم -عليه السلام؟
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ»، فمعرفة ما ستؤول إليه أفعالهم إلى الله -جلَّ وعَلا.
فهذا شيء مما يتعلق بشرح هذه الأحاديث الثلاثة المتعلقة بمسائل القدر.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُم: اللَّهُمَّ اغْفِر لِيْ إِنْ شِئْتَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ, لِيَعْزِمْ فِي الدُّعَاءِ، فَإِنَّ اللهَ صَانِعٌ مَا شَاءَ، لَا مُكْرِهَ لَهُ»)}.
هذا الحديث أيضًا متفق عليه.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُم»، هذا نهي، والنَّهي يقتضي المنع والتحريم.
قال: «اللَّهُمَّ»، يعني: يا الله.
قوله: «اغْفِر لِيْ إِنْ شِئْت»، يعني: لا يُعلِّق طلب المغفرة بالمشيئة، ولكن يعزم المسألة فيقول: اللهم اغفر لي.
وفيه أنَّ تعليق الدُّعاء بالمشيئة حرامٌ ممنوع منه، فلا تقول: الله يغفر لك إن شاء الله، ولا تقل: اللهم ارحمني إن شاء الله.
قال: «لِيَعْزِمْ فِي الدُّعَاءِ»، يعني: لا يجعل فيها استثناء ولا مثنويَّة، فإنَّ الله -جلَّ وعَلا- لا مُكره له، يصنع ما شاء -سبحانه وتعالى- وبالتَّالي لا تحتاج إلى أن تقول: "إن شاء الله"، وإنَّما تجزم بالدُّعاء فتقول: اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني، اللهم ارزقني؛ بلا استثناء.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِني مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي»)}.
قوله: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ»، فيه تحريم تمنِّي الموت، والمراد هنا: هو تحريم تمني الموت إذا كان لأمر دنيوي، أمَّا إذا كان لأمر أخرويٍّ كمَن يتمنَى الموت في الشَّهادة فهذا لا يدخل في الحديث، ومثله في قول مريم: ï´؟يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَظ°ذَاï´¾ [مريم:23] فإنَّها اعتقدت أنَّ هذا من الفتنة، وبالتَّالي أرادت ألَّا يكون هناك فتنة تصل إليها.
وقد ورد في الحديث أنَّه قال في الدعاء: «وَإِذَا أَرَدْتَ بِعَبَادِكَ فِتْنَةً، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ» .
وقال هنا: «فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا»، يعني: إذا كان سيتمنَّى الموت ويدعو به، قال: «فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِني مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي»، يتمكَّنُ فيها من عبوديَّة الله، يُقيم الصَّلاة، ويُؤدِّي الزَّكاة، ويصل الأرحام، يتخلَّق بالأخلاق الفاضلة، وبالتَّالي تكون الحياة خير له.
قال: «وَتَوَفَّنِي إِذا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي»، أي: اقبضني إليك واخترني عندك إِذا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي.
{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ: عَطَسَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلَانِ، فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا وَلم يُشَمِّتِ الآخَرَ، فَقَالَ الَّذِي لم يُشَمِّتْهُ: عَطَسَ فُلَانٌ فَشَمَّـتَّـهُ، وعَطَسْتُ أَنا فَلَمْ تُشَمِّتْنِي، فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا حَمِدَ اللهَ، وَإِنَّكَ لَمْ تَحْمَدِ اللهَ»)}.
هذا الحديث فيه:
• جواز أن يعطس الإنسان بمحضرٍ من الآخرين، وأنَّه لا يلحقه الحرج والملامة بسبب ذلك.
• مشروعيَّة حمد الله -عز وجل- بعد العطس.
• مشروعيَّة تشميت مَن عطسَ فحمدَ الله، كما فعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والتَّشميت بأن يقول "رحمك الله" وما ماثلها من الألفاظ.
• وأن مَن لم يحمد الله فإنَّه لا يُشرَع له أن يُدعَى له بالرَّحمة على وجه التَّشميت له.
• وأن مَن لم يحمد الله بعدَ عطاسه؛ فإنَّه لا بأس أن يُترَك تذكيره بالحمد، فإنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يُذكر هذا الرَّجل بالحمد بعدَ عطاسه.
• وأنَّ الإنسان يُقابَل بمثل عمله، فمَن أدَّى الأسباب المؤدِّيَة إلى الخير كُتبَ له الخير المرتَّب عليها، بخلاف مَن لم يفعل ذلك.
• سؤال الإنسان عن تصرُّفات غيره تجاهه ليُزيل ما في نفسه، فإنَّه لَمَّا سأله عن سبب تشميت للآخر دون تشميته لصاحبه لم يعب عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك.
• التَّفريق في المعاملة بين الناس بحسب ما يفعلونَه من الأعمال، فإنَّ كل إنسانٍ يُعامَل بمثلِ عمله.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ ابْن مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذا كُنْتُم ثَلَاثَةً، فَلَا يَتَنَاجَ اثْنَانِ دونَ الآخَرِ حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحْزِنَهُ».
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا يُقيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَقْعَدِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا»)}.
هذان الحديثان فيهما معانٍ:
• حرص الإنسان على مُراعاة أحوال غيره القلبية، ولذلك قال: «مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحْزِنَهُ».
• مُراعاة المسلم لإخوانه المسلمين في جميع أمورهم، حتى فيما يتعلَّق بشعورهم، وبما يؤثر عليهم في نفسيَّاتهم.
• نهي الاثنين عن أن يتناجيا إذا كانا مع ثالث.
• جواز أن يتناجى الاثنان إذا كان معهما مجموعةٌ من الناس وقد اختلطوا بالناس.
وأمَّا حديث ابن عمر ففيه:
• النهي عن أن يُقيمَ الإنسان غيرَه من مقعده ليجلس فيه.
• استحباب أن يتفسَّحوا في المجالس، ويتوسَّعوا من أجلِ أن تتمكَّنَ المجالس من أخذهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يزَالُ هَذَا الْأَمرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنَ النَّاسِ اثْنَانِ».
وَعَنِ الْحسَنِ قَالَ: عَادَ عُبيدُ اللهِ بنُ زِيَادٍ مَعْقِلَ بنَ يَسَارٍ الـمُزَنِيِّ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ مَعْقِلٌ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَو عَلِمْتُ أَنَّ لي حَيَاةً مَا حَدَّثْتُكَ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»)}.
حديث ابن عمر فيه بقاء أمر الولاية في قبيلة قريش، بحيث يبقى في كل زمانٍ مَن يتولَّى منهم شيئًا من أمور الولاية العامَّة، وليس فيه اشتراط أن يكون صاحب الولاية العامَّة من قريش، وإنَّما فيه إخبارٌ بأنَّه سيوجَد في كلِّ زمانٍ مَن يلي ولايةً عامَّةً وهو من قريش، وكما تقدَّم أنَّ هذا لا يدل على أنَّ القرشي شرط من شروط تولِّي الولاية العامَّة.
وأمَّا حديث الحسن البصري قَالَ: (عَادَ عُبيدُ اللهِ بنُ زِيَادٍ مَعْقِلَ بنَ يَسَارٍ الـمُزَنِيِّ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ)، معقل بن يسار من صحابة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ مَعْقِلٌ: (إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَو عَلِمْتُ أَنَّ لي حَيَاةً مَا حَدَّثْتُكَ)؛ لأنَّه خشيَ أن يفهَم منه أنَّه على جهةِ الاعتراض أو على جهةِ اتَّهامه بشيءٍ ليس فيه.
قال: (إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ»)، المراد بالعبد هنا: إنسان، وفيه دلالةٌ على ما ذكرتُ قبل قليل من أنَّه لا يُشتَرَط في أمرِ الولاية أن يكون الإنسان من قريش.
قوله: «يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً»، أي: يكون عنده ولاية يتولَّى بها أمر بعض الناس الذين يكونون تحته.
وفي هذا الحديث
• النَّهيُ عن غش الرَّعيَّة، وأنَّ ذلك من كبائر الذنوب.
• وأنَّ الواجب على من تولَّى ولايةً عامَّةً أن يكون ناصحًا لرعيَّته، قاصدًا بهم الخير.
• أنَّ العبد ينبغي به ان يكون ناصحًا في كلِّ أمور الناس، سواء في لاأمورهم الدينية بحيث يُعيد الناس إلى الله، ويجعلهم يحبونه ويحبهم، وهكذا في أمور الدنيا فيما يتعلق بالتَّوسعة على الناس، وتوفير ما يحتاجون إليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بالطُّرُقَاتِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسَنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذا أَبَيْتُم إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ» قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: «غَضُّ الْبَصَرِ، وكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ»)}.
هذا الحديث فيه:
• النَّهي عن الجلوس في الطُّرقات، لأنَّ هذه الطّثرقات جُعلت لمرور النَّاس، ولم تُجعَل للجلوس فيها، والجلوس يُضيِّع على الناس المقصود الذي قُصِدَ به وضع هذه الطُّرقات.
• تحريم أن يسد الإنسان الطريق، سواء بوقوفه ، أو بسيَّارته، أو ببعضِ حوائجه.
• أنَّ كل ما أدَّى إلى إشغال الطَّريق فإنَّه يُمنَع منه، سواءٌ من بناءٍ أو درجٍ، أو زهورٌ تُغلق الطَّريق، أو نحو ذلك.
وقولهم: (مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسَنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا)، يعني: أنَّهم لا يستغنون عن هذه المجالس.
فقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذا أَبَيْتُم إِلَّا الْمَجْلِسَ»، ولم تقبلوا توجيهي السَابق؛ فحينئذٍ عليكم بمراعاة حق الطَّريق، وفيه إثبات الحقوق حتى للجمادات، فالطريق له حق، والمنزل له حق؛ فضلًا عن حقِّ ما فيه حياة كالنبات والحيوان والإنسان.
قَالُوا: (وَمَا حَقُّهُ؟)، يعني حق االطريق.
قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «غَضُّ الْبَصَرِ»، فيه الأمر بعدمِ إطلاق البصر في الطُّرقات، فلا يُطلق الإنسان نظره فيمَن حوله، يلتفت بعض الناس إلى مَن حوله في سياراتهم، أو في مشيهم في طرقاتهم.
وفي الحديث:
• الأمر بكفِّ الأذى، بأن لا يوصل الإنسان شيئًا من الأذى لغيره.
• وجوب رد السَّلام لمَن سلَّمَ عليك في الطَّريق، ولو لم تكن عارفًا له.
• مشروعيَّة الأمر بالمعروف، والمراد بالمعروف: ما جاء الشرع بالأمر به مما يتعارفه الناس، والأمر به يكون بالإلزام.
• النَّهي عن المكنر، اولمراد به: نصيحة الآخرين ليتركوا فعل الأمور المحرَّمَة، وهذا فيه دليل على أنَّه ينبغي بثُّ هذه المعاني في المواطن العامَّة، وكما أنَّ هذا يوجَد في الطُّرق الحسيَّة كذلك تتعلَّق هذه الأحكام بالطُّرق المعنويَّة، ومن ذلك وسائل التَّواصل الحديثة، فإنَّه يُشرَع فيها فعل هذه الأمور المذكورة في هذا الخبر.
وكف الأذى قد يكون بالقول وهو الأصل، بحيث لا يؤذي الآخرين بسباب أو شتام أو استنقاص أو غيبة أو نحو ذلك، ويشمل أيضًا الأذى الفعلي.
أسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يوفِّقنا وإيَّاك لكل خيرٍ، وأن يجعلنا وإغيَّاك من الهُداة المهتدين، كما أسأله سبحانه لإخواني المشاهدين الكرام التَّوفيق لما يُحبه ويرضى، وأسأله -جلَّ وعَلا- أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يُبارك في أعمالهم، وأن يجمع كلمتهم، وأن يؤلِّف ذات بينهم.
هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

احمد الصادق
2019-04-30, 08:04
الدَّرسُ التَّاسِع عَشَر (19)
معالي الشَّيخ/ الدكتور سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
الله يحييك، أرحبُ بك، وأرحبُ بإخوتي المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعلا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول المؤلِّف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ أَبي سُفْيَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدَّين، وَلَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ، ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»)}.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصَّلاة والسَّلام عَلى أفضَلِ الأنبياءِ والمرسلينَ.
أمَّا بعدُ؛ فهذا الخبرُ فيه فضيلة التَّفقُّه في الدِّين، والتَّفقُّهُ في الدِّينِ يشتملُ على ثلاثةِ أمورٍ:
الأمر الأوَّل: مَعرفة ما لله -جلَّ وعلا- وقيام الإنسان بحق ربِّ العزَّة والجلال فيما يتعلَّق بصلته بالله المباشرة خوفًا منه ورجاءً له -جلَّ وعلا.
الأمر الثَّاني: فهم كتاب الله وسنَّة نبيِّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الأمر الثَّالث: معرفة الأحكام الشَّرعيَّة المتعلِّقة بعمل الإنسان، ويسمو الإنسان في ذلك حتى يكون لديه الأهليَّة لاستخراجِ الأحكامِ من الأدلَّةِ، وهذا هو أعلَى درجاتِ رُتَبِ الفقه في الدِّين.
وقد جاءَ في الأحاديث بيان أنَّ الإنسان ربَّما يكون أفقه لِمَا يَرِد عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بسماعه ولو لم يكن قد سمعه منه مباشرة، ولذا قال: «رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» ، وفي لفظة: «وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» .
ومن هنا فإن الفقه في الدين نعمة من ربِّ العزَّة والجلال، يُعطيها من يشاء من عباده، ويكون خيرًا له في دينه ودنياه، وقد قال الله تعالى: ï´؟وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَï´¾ [التوبة: 122].
وطرائق التَّفقُّه في الدِّين كثيرة، منها:
- الإكثار مِن قراءة النُّصوصِ كتابًا وسنَّةً.
- حفظ هذه النُّصوص والتدبُّر فيها.
- حضور مجالس العلم والخير والهُدَى، ومنها هذه المجالس التي تكون في هذه الأكاديمية.
- قراءة كتب الفقه في الدِّين.
وفي الحديث:
- دلالةٌ على أنَّ مَن لم يتفقَّه في الدِّين فإنَّ الله لم يُرد به خيرًا.
- حُجِّيَّة الإجماع، فإذا أجمع الفقهاء من هذه الأمَّة على شيءٍ فهو الحق وهو الصِّدق وهو حكم الله -جلَّ وعلا.
- أنَّ قولَ الحقِّ لابدَّ أن يكونَ ظاهرًا في الأمَّة منتشرًا فيها إلى يوم القيامة.
{قال المؤلِّف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذا أَكَلَ أَحَدُكُم طَعَامًا فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا أَو يُلْعِقَهَا»)}.
هذا الحديث فيه فضيلة لعقِ الأيدِي بعد الطَّعام.
قوله: «فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ»، سواءٌ كان هذا المسح بمناديل، أو بغسلها بالماء، أو نحو ذلك.
قوله: «حَتَّى يَلْعَقَهَا»، أي: يأخذ ما عليها من الطَّعام.
قال: «أَو يُلْعِقَهَا»، أي يُمكِّن مَن له مَيَانَةٌ عليه وعنده مَحَبَّةٌ له مِن أن يقومَ بِلَعقِ الأيدي.
وبعضُ أهلِ العلم استدلَّ بهذا الحديث على فضيلة الأكلِ من الطَّعام باليدِ، وآخرون قالوا إنَّه قد ثبت أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد أكل بواسطة شيءٍ من الآلات ولم يستعمل يده، فرأوا أن ذلك عل سبيل الإباحَة، ولعل هذا أظهر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ»)}.
قوله: «لَا تَتْرُكُوا النَّارَ»، أي: لا تقوموا بإغفالِ النَّارِ وعدمِ إطفائِهَا.
وهذا الحديث فيه:
- الأمر بإطفاء النَّار قبل النَّوم، وذلك من أجل ألَّا يكون إبقاء النَّار سببًا مِن أسباب انتشار الحرائق في البيوت.
- مشروعيَّة اتِّخاذ الأسباب المؤدِّيَة إلى حفظِ النُّفوس والأمول.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: نهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ اخْـتِـنَاثِ الأَسْقِيَةِ: أَنْ يُشْرَبَ مِنْ أَفْوَاهِهَا.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- : أَنَّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَرِبَ مِنْ زَمْزَمَ مِنْ دَلْوٍ مِنْهَا, وَهُوَ قَائِمٌ.
وَعَنِ ابْنِ عُمرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: نهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يَقْرِنَ الرَّجُلُ بَينَ التَّمْرَتَينَ حَتَّى يسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ)}.
هذه الأحديث متعلقةٌ بآداب الشُّربِ والأكلِ.
أولها: حديث أبي سعيد الخدري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: (نهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ اخْـتِـنَاثِ الأَسْقِيَةِ).
المراد بالنَّهي: طلب ترك الفعل على سبيل الجزمِ، وهو دالٌّ على المنع والتَّحريم.
واخْـتِـنَاثِ الأَسْقِيَةِ: كانوا في الزّمان الماضي يشربون من القِرَب، وكان فمُ القربة جزء من أجزائها يُصنع من الجلد ونحوه، ويضعون لها فمًا، وكان بعضهم يشربُ من القربةِ من فمها، فنهى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يُشرَب من أفواه هذه القرَب، وذلك خشيةً من أن يكون هناك تأثيرٌ من لعاب الإنسان على لعاب هذه الأسقِيَة.
وقوله: (عَنِ اخْـتِـنَاثِ الأَسْقِيَةِ)، كان بعضهم إذا أراد أن يشرب من القربة قام بصفطِ رأس القربة وفمها بحيث يتمكَّن من الشرب من الجزء الدَّاخلي من فم القربة، فنهى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ذلك، واحتمال أن يكون النَّهي مِن أجلِ ما يلعقُ بفمِ الإنسان مِن أنواع الميكروباتِ والأمراضِ، وقد يكون المقصود بذلك أنَّ بعض النَّاس يستَنكِفُ أن يشربَ بعدَ غيرِهِ متى فعل ذلك، فخشيةً من أن يُترَك ذلك الماء نهى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن هذه الطَّريقة من طرائق الشُّرب.
ثم روى عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما (أَنَّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَرِبَ مِنْ زَمْزَمَ مِنْ دَلْوٍ مِنْهَا).
زمزم: البئر التي في مكَّة حولَ الكعبة، وهو الذي فجَّره الله -جلَّ وعلا- لإسماعيل وأمه -رَضِيَ اللهُ عَنْهما.
قال ابن عباس: (أَنَّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَرِبَ مِنْ زَمْزَمَ مِنْ دَلْوٍ مِنْهَا)، كانوا يأخذون الماء مِن البئر فيضعونه في الدِّلى.
قوله: (وَهُوَ قَائِمٌ)، أي: كان شربه حالَ قيامه.
وقد ورد في صحيح مسلم أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عن الشُّربِ قائمًا، وقال: «لَوْ يَعْلَمُ الَّذِي يَشْرَبُ وَهُوَ قَائِمٌ مَا فِي بَطْنِهِ لاَسْتَقَاءَ»، ولذا وقع التَّردُّد بين العلماء والاختلاف في جواز أن يشرب الإنسان قائمًا أو لا يجوز له ذلك؟
فمنع طائفةٌ وأجاز آخرون، لكن البحث في كيفيَّة الجمع بين هذين الدليلين:
- فهناك مَن رأى أنَّ حديث ابن عباس هذا خاص بزمزم، فاستحبُّوا أن يشربَ الإنسانُ ماء زمزم وهو قائم، لكنَّ مثل هذا يحتاج إلى نظرٍ، فإنَّ المعنى الذي مِن أجلهِ شُرِبَ مِن زمزم قائمًا لابدَّ أن يكون معنًى مُغايرًا، ولابدَّ من إثبات ذلك المعنى.
- وقال آخرون: إنَّ زمزم كانت مليئة من الطِّين، والنَّاس كثُر، والوارد عليه كثير، وبالتَّالي لو جلسَ ليشربَ لكانَ ذلك سببًا من أسباب ازدحام النَّاس، وجعْل النَّاس يطأ بعضهم بعضهم الآخر، ولذا شرب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منها وهو قائم، فمَن كان في مثل هذه الحالة فلا حرجَ عليه في أن يشربَ قائمًا، وأمَّا مَا عداه فإنَّه يُمنَع منه.
- وقال آخرون: إنَّ حديث الإباحة هذا يرفع التَّحريم، فتبقى معنا الكراهة، ولذا رأوا أن الشُّربَ قائمًا مكروهٌ وليسَ بمحرَّمٍ.
ولعلَّ القول الذي سبقَ هذا أرجح هذه الأقوال؛ لأنَّ الأصل أن تُحمَل أقوال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على نسقٍ واحدٍ؛ ولأنَّه لا يُخالف بينها في المعنى إلَّا لدليل.
ثُمَّ ذكر حديث ابن عمر: (نهَى رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
النَّهي: هو الطلب الجازم لترك الفعل.
قال: (أَنْ يَقْرِنَ الرَّجُلُ بَينَ التَّمْرَتَينَ)، يعني يأكل تمرتين في وقتٍ واحدٍ.
قال: (حَتَّى يسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ)، والنَّهي قد يكون لأنَّ هذه الطَّريقة في الأكل مشعرة بشراهة صاحبها، ولهذا مُنع مِن مثلِ هذا الفِعلِ، وقد يكون المقصود أنَّ مَن قرَنَ بينَ التَّمرتين ضيَّعَ الثَّمرة المرتَّبة عليها.
وقال آخرون: إنَّ النَّهي عن قَرْنِ التَّمرتين مِن أجل حقوق الآخرين، لأنَّه إذا كان كلُّ شخصٍ على تمرةٍ تمرةٍ، وهو يأكل على تمرتين؛ فسيأكل أكثر منهم.
ولعلَّ هذا المعنى هو الذي يدلُّ عليه حديث الباب، لأنه قال: (حَتَّى يسْتَأْذِنَ أَصْحَابَهُ)، لأنَّ لهم حقًّا، ولذلك اشترطَ الإذن مِن الأصحاب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا»)}.
قوله: «تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ»، أي: أكثروا مِن قراءته مِن أجلِ أن يَبقى في محفوظَاتِكم، ومِن أجلِ ألَّا تنسوه.
وفي هذا الحديث:
- فضيلة حفظ القرآن، أو حفظِ شيءٍ منه.
- فضيلة تعاهد القرآن وقراءته.
قوله: «هَذَا الْقُرْآنَ»، يعني: القرآن الكريم، والمراد أن يتعاهد الإنسان بالمراجعة والمتابعة وكثرة القراءة.
قال: «فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ»، فيه جواز القسَم بدون أن يُطلب من الإنسان.
قال: «لَهُوَ أَشَدُّ»، أي: أعظم وأكثر.
قال: «تَفَلُّتًا»، أي: هروبًا من الذِّهن.
قال: «مِنَ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا»، فإنَّ الإبل تشردُ من أصحابها، وتندر من عندهم، ولذا قال: «لَهُوَ»، يعني القرآن أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الْإِبِلِ فِي عُقُلِهَا.
وفي هذا الحديث: استحباب الأخذ بالأسباب، وأنَّه ممَّا يُؤجَر الإنسان عليه عند الله -جلَّ وعلا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُم وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُم، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُم»)}.
المراد بقوله: «انْظُرُوا إِلَى»، أن يعرف الإنسان مقدار نعمة الله -جلَّ وعلا- عليه، فانظروا لتكون المقارنة بينكم وبين مَن يكون كذلك.
قوله: «مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُم»، أي: أقل مالًا وأقل في أمور الدنيا.
قال: «وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُم»، أي لا يكن شأنكم أن تتأمَّلوا فيمَن أعطاه الله من أمور الدُّنيا من مالٍ أو منصبٍ أو نحو ذلك؛ فإنَّه متى كانَ الإنسانُ كذلك فإنَّه سيعرف مقدار نعمَة الله عليه لأنَّه قارنَ بينَ نفسِه وبينَ مَن هو أقل منه، ولذا قال: «فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُم».
وإذا نظرَ الإنسان إلى مَن هو أعلى منه فإنَّه قد يأتيه الشَّيطان فيجعله يستقل نِعَم الله -عز وجل- عليه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا قَاتَلَ أَحَدُكُم أَخَاهُ، فَلْيَجْتَنِبِ الوَجْهَ, فإنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ على صُورَتِهِ»)}.
قوله: «إذا قَاتَلَ أَحَدُكُم أَخَاهُ»، أي: إذا كانت هناك خصومة وشجار تمدَّدَ لأن يكون قتالًا.
قال: «فَلْيَجْتَنِبِ الوَجْهَ»، أي: لا يقصد الوجه بنوعٍ من أنواعٍ الأذيَّة، وذلك لأنَّ الوجه مَجمَع المحاسن، والوجه يُلاقى به النَّاس، ولو أصيب الوجه بشيء من المصائب فسيؤثر على الإنسان في مكانته وسمعته.
قال: «فإنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ على صُورَتِهِ»، أي: على هيئته -سبحانه وتعالى.
وفي الحديث:
- إثبات أنَّ آدمَ مخلوقٌ.
- التَّرغيب في اجتناب الضَّربِ على الوجهِ والفَمِ.
- تكريم الله -عز وجل- لآدم -عليه السَّلام.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَسُبُّ أَحَدُكُم الدَّهْرَ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ، وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُم لِلْعِنَبِ الْكَرْمَ، فَإِنَّ الْكَرْمَ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ»)}.
قوله: «لَا يَسُبُّ»، أي: لا يقدح ولا يستنقص ولا يُقلِّل.
قال: «لَا يَسُبُّ أَحَدُكُم الدَّهْرَ»، فينسب إلى الدَّهر شيئًا مِن المصائب الدُّنيويَّة، فيقول مثلًا: هذا الشَّهر جعلنا بالقحطِ، وهذا النَّجم هو محلُّ الخطأ العظيم، ونحو ذلك، فعندما ينسب الإنسان المقدَّرات للدَّهرِ فإنَّه يكونُ قد سبَّ خالقَه، لأنَّك إذا سببتَ آلةً ليس لذات الآلةِ فإنَّك حينئذٍ تكون بمثابةِ مَن سبَّ خالقَ الدَّهر -سبحانه وتعالى.
قوله: «فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ»، يعني هو خالق الدَّهر، يقلبه كيف يشاء، وليس هذا من أسماء الله -سبحانه وتعالى- فقوله «فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ»، يعني خالق الدهر، ومَن ظنَّ أنَّ الدَّهر من أسماء الله فإنَّه مُخطئ حينئذٍ.
قوله: «وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُم لِلْعِنَبِ الْكَرْمَ»، العنب معروفٌ بهذا الاسم، وقد جاءت فيه آيات كثيرات من قوله: ï´؟وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍï´¾ [الأنعام: 99]، ونحو ذلك، ولا يُعرَف أنَّ العنب محلٌّ للقدحِ والسَّبِّ، ولكن كانوا في السَّابق قد يُطلِقُون عليه لفظة "الكَرْم" فنهى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن إطلاق هذا اللفظ على الأعناب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُم: اسْقِ رَبَّكَ, أَطْعِمْ رَبَّكَ، وَضِّئْ رَبَّكَ، وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُم: رَبِّي, وَلْيَقُلْ: سَيِّدي، مَوْلَايَ، وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُم: عَبْدِي، أَمَتِي، وَلْيَقُل: فَتَايَ، فَتَاتِي، غُلامِي».
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُم خَبُثَتْ نَفْسِي، وَلْيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي». مُتَّفَقٌ عَلَى هَذِه الْأَحَادِيثِ وَاللَّفْظُ فِيهَا كُلُّهَا لمسْلمٍ، وَبَعْضُ أَلْفَاظِهِ أَتَمُّ مِنْ أَلْفَاظِ البُخَارِيِّ، فَإِنَّ فِيهَا زِياداتٍ لمْ يَذْكُرْهَا البُخَارِيُّ)}.
هذه الأحاديث متعلِّقةٌ بتصحيحِ الألفاظِ التي يتكلَّم بها الإنسان، وذلك أنَّ الألفاظ ثلاثة أنواع:
- ألفاظ قبيحة مخالفة: فلا يجوز النُّطق بها.
- ألفاظٌ صحيحةٌ طيِّبةٌ: فلا بأسَ من النُّطق بها ما لم يكن مانعٌ آخر.
- ألفاظ متردِّدَةٌ بينَ معنيين -حقٍ وباطل- فمثل هذه الألفاظ يجب اجتنابها، قال تعالى: ï´؟وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًاï´¾ [الأحزاب: 70]، يعني: أنَّهم لا يقولون القول غير السَّديد ولا المتردد، وهكذا جاء في قوله تعالى: ï´؟يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُواï´¾ [البقرة: 104]؛ لأنَّ لفظة "راعنا" متردِّدةٌ بين معنيين، إمَّا من الرِّعاية أو الرُّعونة؛ ولذلك نُهي عن مثل هذا اللفظ.
وهكذا هذه الألفاظ التي ذكر المؤلِّف في هذه الأحاديث ينبغي اجتنابها لما يترتَّب عليها من آثارٍ في الدُّنيا وفي الآخرة، فنَهى عن سبِّ الدَّهر، وقال: «وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُم لِلْعِنَبِ الْكَرْمَ»، وقال: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُم: اسْقِ رَبَّكَ»، يعني إذا كان عنده سيد فيقول: "اسقِ ربَّك" يعني: سيدك الذي يقوم بك ويرعاك، مرَّات قد تُطلق هذه اللفظة على القَريب، فيقول بعضهم: "اسقِ ربَّك، أطعم ربَّك" والله -جلَّ وعلا- غنيٌّ لا يحتاج إلى طعامٍ ولا إلى شرابٍ.
وبعضهم يقول: "وضِّئ ربَّكَ"، يُريد به سيده الذي يملكه، وفي الحقيقة ينطبق على الرَّب الخالق -سبحانه وتعالى- وهو غنيٌّ عن جميعِ المخلوقات.
قال: «وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُم: رَبِّي»، يعني: لا يقول لسيِّدهِ ولمَن يعمَل عنده "ربِّي"، وإنَّما يقول له: "سيدي ومولاي".
وهكذا بالنِّسبة للسَّيد فيما يتكلَّم به عن الرَّجل التَّابع له أو المرأة التَّابعة له، قال: «وَلَا يَقُلْ أَحَدُكُم: عَبْدِي، أَمَتِي»، ولو كان مملوكًا له، لأنَّه قد يُشعر بالعبوديَّة التي فيها صرفُ شيءٍ من العبادات لغير الله -جلَّ وعلا.
قال: «وَلْيَقُل: فَتَايَ، فَتَاتِي، غُلامِي»، فهذه الألفاظ ليس فيها شيء من المعنى المحظور الذي ذكرتُ قبل ذلك.
ثم أوردَ حديث عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قالت: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُم خَبُثَتْ نَفْسِي، وَلْيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي»، في هذا الحديث نهي عن أن يتكلَّم الإنسان بهذا اللفظ، فلا يقول: "خبُثت نفسي، هلكت نفسي، نفسي مخالفة لشرع الله ولدينه"، ولكن ليقل: "لَقِسَت نفسي"، فإنَّ هذا بتأثير قُدرة ربِّ العزَّة والجلال على النَّفس، والمعنى الإجمال بين اللفظين واحد، ولكن اللفظ الأوَّل قد يُحمَّل مَا لا يحتمله.
وهذه الأحاديث التي ذكرَ المؤلِّف في هذا الباب هي أحاديث صحيحة متَّفقٌ عليها بينَ أهل العلم، وهي أربعون حديثًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»)}.
أوردَ المؤلِّف الأحاديث التي رواها الإمام البخاري وحده، حديث عبد الله بن عمرو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».
ظاهر هذا الحديث: وجوب تبليغ الشَّريعة، ووجوب دعوة النَّاس إلى معرفة سنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله: «وَلَوْ آيَةً»، أي: ولو علامةً ظاهرةً من الأحكام الشَّرعيَّة، ولا يلزم أن يكون الإنسان داعيًا في كل أوقاته، أو أن يُبلغ الكلام الكثير، فقد يأتي إنسان فيُبلغ كلمةً لحديث نبويٍّ شريف فيكون لها من الأثر في النُّفوس في استقامتها وصلاحها، وكونها على ما يُرضي الله -جلَّ وعلا- بخلاف ما لو أتى غيره فتكلَّم بالكلام الطَّويل الكثير ونقل الأحاديث العديدة.
وكما تقدَّم أنَّ كلمة «بلِّغوا» الأصل فيها أنَّها أمر، والأوامر للوجوب، ولكن بعض أهل العلم حملها على النَّدب، ويدل عليه قوله: «وَحَدِّثُوا»، فإنَّه وإن كانَ أمرًا إلَّا أنَّه ليس من الأمور الواجبات، وإنَّما من الأمور المستحبَّات.
وفي هذا مشروعيَّة نقل الأحاديث النَّبويَّة وإيصالها للمجتمعات البشريَّة.
قال: «وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ»، إسرائيل: هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم -عليهم السَّلام- وقد جعل الله له اثني عشرَ ابنًا، وهم الأسباط، وهم بنو إسرائيل، ثم تسَلْسَلَت قبائل بني إسرائيل بعد ذلك.
قوله: «وَلَا حَرَجَ»، يعني: لا إثم عليكم، وهذه الكلمة تجعلنا نصرف الأمر في قوله «حَدِّثُوا» من كونه للوجوب إلى كونه للإباحةِ، لأنَّ نفي الحرج يعني الإباحة.
قال: «وَمَنْ كَذَبَ»، يعني أي واحدٍ يكذب، فــ "مَن" اسم شرط.
قال: «مَن كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا»، أي: نسبَ إلى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شيئًا لم يقلْه وهو على جهة العمد لا على جهةِ النِّسيان.
قال: «فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»، أي: فليخترْ، أو لِيجلس في مقعده من نار جهنم -أعاذنا الله جل وعلا وإياكم منها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذا لَمْ تَسْتَحِي فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ»)}.
حديث ابن مسعود رواه البخاري، أنَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ»، هذا فيه دلالة على أنَّ الحكمَة تؤخذ -خصوصًا- من الأنبياء، وقد استدلَّ به بعضهم على حجيَّة شرائع الأنبياء السَّابقين.
قوله: «إِذا لَمْ تَسْتَحِ»، فيه مشروعيَّة الحياء وفضيلته، وإثبات الأجر لأصحابه.
اختلفت أوجه أهل التفسير في تفسير هذا للفظ:
الوجه الأول: إذا لم تكن من أهل الحياء؛ فإنَّك حينئذٍ لن تتورَّع عن أي فعل، وستفعل ما تريد من الأفعال.
الوجه الثَّاني: أيَّ فعلٍ إذا فعلته لم يكن عليكَ حياءٌ من الناس فيه فافعله، بمعنى أنَّ الفعل الذي تستحي من أن يراكَ الناس وأنت تفعله فلا تفعله.
الوجه الثَّالث: أنَّ هذا على جهةِ التَّهديد، فكونك لا تستحي فحينئذٍ أنا أهدِّدُكَ أن تصنَع ما شئت.
وقوله: «فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» فيه بيان أنَّه لا يُحمَد فعل الإنسان الذي يفعل كلَّ ما يشتهيه وما تحبه نفسه، وإنَّما يثمدَح مَن قصر نفسه على ما أحلَّه الله -جلَّ وعلا- ولم يتجاوزه إلى غيره.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ تبَاركَ وَتَعَالَى قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إليَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَني لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِن اسْتَعاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤمنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ»)}.
قوله: «إِنَّ اللهَ تبَاركَ وَتَعَالَى قَالَ»، فيه إثبات صفة القول لله، فالله يتكلم بما يشاء متى شاء -سبحانه وتعالى.
قوله: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا»، فيه إثبات صفة الولاية وأنَّ هناك من النَّاس مَن هو وليٌّ لله -جلَّ وعلا- ولكن لا يكون الإنسان من أهل الولاية حتى يكونَ متَّصفًا بصفتين: الإيمان والتَّقوى؛ كما قال تعالى: ï´؟أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَï´¾ [يونس 62، 63]، يعني أنَّهم مستمرون على التَّقوَى.
قوله: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ»، فيه تحريم معاداة أولياء الله، وشدَّة عقوبة مَن آذى أولياء الله في الدُّنيا والآخرة، ولذا قال: «فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ»، فمَن يصبر على الحرب من الله!!
ثم قال: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إليَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ»، يعني أنَّ أفضل القربات قربات الفرائض، وأحسن الأجور أجور الواجبات، وفي الحديث:
- أنَّ الواجبات مقدَّمةٌ على النَّوافل والمستحبَّات.
- و أنَّ الفرائض أمورٌ لازمةٌ وحتمٌ واجبٌ لا سبيل للعبدِ إلى تركه، ولكن لا يعني هذا أن نغفل النوافل، فالنوافل نكمل بها الفرائض، وتعيننا على أداء الفرائض، وأيضًا تُعلِّق قلوبنا بالربِّ -سبحانه وتعالى.
قال: «وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ»، فيه إثباتُ صِفةِ المحبَّة لله -جلَّ وعلا.
قال: «فَإِذا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ»، أي: أنَّ الله يحميه في سمعه.
قال: «وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ»، أي: أنَّ الله يحميه في بصره، فلا يستعمله إلَّا فيما ينفع، ولا يؤدِّي إلى عطبٍ عاجلٍ.
قال: «وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا»، أي: أنَّ الله يتولَّى شأنه كلَّه.
قال: «وَلَئِنْ سَأَلَني لأُعْطِيَنَّهُ»، يعني متى طلب منِّي شيئًا من حوائج الدنيا والآخرة فإنَّني سأقومُ بإعطائه، وهذا من كرمِ ربِّ العزَّةِ والجلال، والله قد وعدَ النَّاس بإجابة دعائهم فقال: ï´؟وقال ربكم ادعوني أستجب لكمï´¾ [غافر:60]، فكلُّ النَّاس يُستجاب لهم، ولكن بعضَ النَّاسِ يُستجابُ له بمثل دعوته، وبعضَ النَّاس يؤتى له من الخيرِ ما يُماثل دعوتَه، وبعضهم يُصرَف عنه من الشَّرِّ ما يُماثل دعوته، وبعضهم يؤخَّر جوابُ مسألته إلى يوم القيامة بخلاف مَن كان على مثل ما ذُكرَ في الحديث من فعل الفرائض والنَّوافل.
قال: «وَلَئِن اسْتَعاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ»، أي: إذا طلبَ منِّي أن أُبعِدَ عنه كلَّ ما يؤذيه فعلتُ ذلك.
قال: «وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤمنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ»، أي أنَّ الله -عزَّ وجل- يُريد أن يقبض نفسه، وهو يُريدها أن تتأخَّر فلا يُقبَض عليها.
{أحسن الله إليكم..
هل يُوصف الله تعالى بالتَّردُّد؟}.
ليسَ المراد بالتَّردُّد هنا الذي على جهةِ الشَّكِّ والاحتمال، وإنَّما المراد به في تطبيق قواعد السُّنَن الكونيَّة في مثل تلك الأبواب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالقَطِيفَةِ وَالخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ»)}.
قوله: «تَعِسَ»، أي: قلَّ شأنه، وأصيب بالنَّكبات والمصائب.
قال: «عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ»، الدِّينار مِن الذَّهب، والدِّرهم مِن الفضَّة، يعني الذي لا يفعل شيئًا إلَّا من أجلهما، فأين المحبَّة في الله! أينَ القيام مع الإخوان!
قال: «وَالقَطِيفَةِ»، هي نوع من أنواع اللباس.
قال: «وَالخَمِيصَةِ»، نوعٌ من اللباس كذلك.
فهذا اللذي وصفه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقوله: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ»، من صفته: «إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ»، أي: لم يقبل بما آتاه الله -جلَّ وعلا- له.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذا عَطَسَ أَحَدُكُم فَلْيَقُلْ: الْحَمْدُ للهِ، وَلْيَقُلْ أَخُوهُ -أَو صَاحِبُهُ- يَرْحَمُكَ اللهُ، فَإِذا قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللهُ وَيصْلِحُ بَالَكُم»)}.
هذا فيه تعليمٌ لبعضِ السُّنن القوليَّة المتعلِّقة بالعُطَاسِ.
قال: «إِذا عَطَسَ أَحَدُكُم»، هذا يشمل الذكر والأنثى.
قال: «فَلْيَقُلْ: الْحَمْدُ للهِ»، يعني الذي يسَّرها وسهَّلها، والذي لا زالت نِعمه متتابعة على العبد.
قال: «وَلْيَقُلْ أَخُوهُ -أَو صَاحِبُهُ»، لأنَّ هؤلاء هم أولياء الشَّخص العَاطِس.
قال: «وَلْيَقُلْ أَخُوهُ -أَو صَاحِبُهُ يَرْحَمُكَ اللهُ»، يدعو له بالرَّحمةِ.
قال: «فَإِذا قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللهُ وَيصْلِحُ بَالَكُم»، تقدَّم معنا أنَّ مَن عطَسَ فلم يحمد الله فإنَّه لا يُشرَع تشميته ولا الدُّعاء له بالرَّحمة.
وذهب كثيرٌ مِن أهلِ العلم إلى أنَّ وإجابة الحمد بعدَ العطاس إلى وجوبها على سبيل البدليَّةِ، فإذا أجابَ أحد النَّاس أجزأ حينئذٍ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ للنَّبِيِّ أَوْصِني، قَالَ: «لَا تَغْضَبْ», فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ: «لَا تَغْضَبْ»)}.
قوله: (أَنَّ رَجُلًا قَالَ للنَّبِيِّ أَوْصِني)، فيه مشروعيَّة طلب الوصيَّة من الرَّجل الصَّالح والعالم الفاضل.
قوله: «لَا تَغْضَبْ», الغضب: صفةٌ من الصِّفات التي تكون عندَ صاحبها سبب تأثُّره بما حوله.
وقوله هنا: «لَا تَغْضَبْ» فيه إشكال، وذلك أنَّ الغضب صفةٌ ذاتيَّةٌ وأفعالٌ تحدث بنفسها، فيكيف يُقال له "لا تغضب" فالإنسان لا يمسك نفسه بحيث يتمكَّن من إبعاد الغضب عنه؛ ولذلك فُسِّرَت بعددٍ من التفسيرات:
التَّفسير الأوَّل: لا تُعرِّض نفسَك للمواقف التي قد تغضب منها.
التَّفسير الثَّاني: أنَّ المراد بقوله: «لَا تَغْضَبْ»، أي: لا تستثير الأسباب التي تدعوك إلى الغَضب.
التَّفسير الثَّالث: أن قوله: «لَا تَغْضَبْ» أي: لا يُخرجك تأثُّرك وتغيُّركَ عن طورِكَ، وبالتَّالي تتصرَّف بأمورٍ غير مناسبة.
التَّفسير الرَّابع: أن قوله: «لَا تَغْضَبْ» معناه أنَّك إذا غضبتَ فلا تُنفِذ غَضبَك.
قوله: «فَرَدَّدَ مِرَارًا»، أي كلمة «لَا تَغْضَبْ» وذلك لعظمِ فائدتها وكثرة ثمرتها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا، يُصِبْ مِنْهُ»)}.
قوله: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا»، يعني: أي شخصٍ أراد الله به الخير فإنَّه يُقدِّر عليه مصائب من مصائب الدُّنيا مِن أجلِ أن يمحو الله -جلَّ وعلا- سيئاته.
قال: «يُصِبْ مِنْهُ»، أي تأتيه شيء مِن المصائب والأمراض التي تصيبه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ»)}.
هذا الحديث رواه البخاري.
قوله: «نِعْمَتَانِ»، أي فضيلتان تفضَّلَ الله بها على العبادِ.
قوله: «مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ»، أي أنَّ هذه النِّعمة مع عِظَمِهَا وكِبَرها إلَّا أنَّ بعض النَّاس لا يستفيد منها الاستفادة المناسبة المتعلِّقة بها.
النِّعمة الأولَى: قال: «الصِّحَّةُ»، الصِّحة: هي عدم طروء الأمراض على الأبدان.
النِّعمَة الثَّانية: قال: «وَالفَرَاغُ»، فإنَّ الفراغ يتمكَّن الإنسان به من قضاء حوائجه والتفكير فيها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَنْكِبِي فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَو عَابِرُ سَبِيلٍ». فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذا أَمْسَيْتَ فَلَا تنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لَمَوْتِكَ)}.
هذا الحديث من الأحاديث التي فيها موعظة وعبرة.
قال: (أَخَذَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَنْكِبِي)، وهو طرفُ العظامِ الذي يَقعُ بين الكَتِف والذِّراع، وفيه جوازُ إمساكِ هذا الجزء مِن البَدَن مِن وراء حائلٍ ولو مِن الرِّجال الأجانب.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لابن عمر: «كُنْ فِي الدُّنْيَا»، أي: ليكن شأنك وطريقتك.
قال: «كَأَنَّكَ غَرِيبٌ»، أي مسافرٍ جاء إلى بلدٍ مغايرٍ لبلده.
قال: «أَو عَابِرُ سَبِيلٍ»، أي أنَّه مجتازٌ لهذا الموطن.
قال: (فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذا أَمْسَيْتَ فَلَا تنْتَظِرِ الصَّبَاحَ)، يعني: إذا دَخَلَ عليك المساء فلا تدري هل يَصِل إليك وقت الصَّباح أو لا يصل إليك.
قال: (وَإِذا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ)، وما ذاك إلَّا لأنَّ الأمور والأقدار تقع ولا يُمكن لأحدٍ مِن النَّاس أن يردَّها.
قال: (وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرضِكَ)؛ لأنَّك إذا مرضت ستعجز عن كثيرٍ من العبادات، وبالتَّالي يُشرَع أن تأخذ من صحَّتكَ ما يقومُ بحالك.
قال: (وَمِنْ حَيَاتِكَ لَمَوْتِكَ)، أي: خُذْ مِن حياتِك ما تنتفعُ به يومَ موتك لربِّ العزَّةِ والجلال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ خَوْلَةَ الْأَنْصَارِيَّةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّصُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»)}.
هذا الحديث يتعلَّق بالأموال العامَّة، سواء أموال غنائم أو أموال بيت مالٍ أو نحوها.
يقول: «إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّصُونَ فِي مَالِ اللهِ»، أي: لا يتورَّعونَ عن شيءٍ ممَّا فيهِ مالٌ لله -عزَّ وجل.
قال: «بِغَيْرِ حَقٍّ»، أي بغيرِ برهانٍ ولا بيِّنةٍ ولا دليلٍ على أنَّه من مالهم.
قال: «فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، لأنَّهم قد خاضوا ذلك الفعل الشَّنيع بأخذ شيءٍ من مال الله -جلَّ وعلا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: إِنَّكُم لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُم مِنَ الشَّعْرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الـمُوبِقَاتِ)}.
هذا الخبرُ يُفيد تقليل أثر السَّيئة على العبد هو مِن شَأنِ أهلِ النِّفاق، أمَّا أهلُ الإيمان فإنَّهم يرونَ الشَّيءَ اليسير مؤثرًا عليهم.
قال: (إِنَّكُم لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُم مِنَ الشَّعْرِ)، فيه مشروعيَّة تجنُّب الأعمال التي من المعاصي ولو كانت يسيرة.
قال: (إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الـمُوبِقَاتِ)، أي من المهلكات.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ جَابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ»)}.
قوله: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ»، أي: كل فعلٍ جميل يتعارف الناس على حسنه فإنَّه يعتبر بمثابةِ الصَّدقةِ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ يزِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ: نهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ النُّهْبَى والـمُثْلَةِ.
وَعَنِ الْمِقْدَامِ بنِ مَعْدِيَ كَرِبَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كِيلُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ». أَخْرَجَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ البُخَارِيُّ)}.
قوله (نهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ النُّهْبَى والـمُثْلَةِ).
النُّهبَى: أخذُ الشَّيء مِن غيرِ أن يَكونَ هناك تَرتيبٌ ولا تَنظيمٌ لأخذِهِ.
والـمُثْلَة: تَقطيع بعضِ أطرافِ الحيوان الميت، فكانوا يُقطِّعونَ آذانه ونحوها، من أجل أن يجعلوه بمثابة الكُرةِ.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كِيلُوا طَعَامَكُمْ»، يعني: اعرفوا مقداره.
قال: «يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ»، أي: يكون له آثار النَّماء والزَّيادة.
ثمَّ بيَّن المؤلِّف أنَّ هذه الأحاديث جميعها قد رواها الإمام البخاري في صحيحه.
ولعلَّنا -إن شاء الله- أن نتدارَسَ في أيَّامنا المستقبلة الأحاديث التي أخرجها الإمام مسلم في صحيحه.
بارك الله فيكم، ووفَّقكُم الله للخيرِ، وجعلنا الله وإيَّاكم مِن الهداة المهتدي، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

احمد الصادق
2019-04-30, 08:04
المحرر في الحديث (4)
الدَّرسُ العِشْرُون (20)
معالي الشَّيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
حيَّاكَ الله، وأهلًا وسهلًا، أرحبُ بك، وأرحبُ بإخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعلا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
{اللهم آمين..
نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «رَغِمَ أَنفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُه» قَيْلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَو كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ»)}.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعدُ؛ فإنَّ المؤلف في "كتاب الجامع" لَمَّا فرغ من الأحاديث المتفق عليها والأحاديث التي أخرجها الإمام البخاري؛ ابتدأ بذكر الأحاديث التي أخرجها الإمام مسلم -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى- وقد ابتدأها بهذا الحديث الذي فيه الحث على برِّ الوالدين، والنَّهي عن عقوقهما، فقال فيه: «رَغِمَ أَنفُ»، أي: ذلَّ وخصعَ، وأصبحَ أنفُ الإنسانِ في التُّراب، وهو كناية عن ذلِّه.
قال بعض العلماء: إنَّ لفظ «رَغِمَ أَنفُ» على جهة الخبر؛ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُخبر بأنَّ ذلك سيكون أمره.
وقيل: إنَّ المراد بهذا الدُّعاء عليه لمَّا أخطأَ وتركَ أمرَ البرِّ بالوالدين أُمِرَ بذلك.
قوله: (قَيْلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟)، فيه اهتمام الصحابة بأحاديث النُّبوَّة وبأخبارِ مَن أخبر عنه النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فقال لهم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ»، أي: أنَّه تمكَّن من أن يعيش مع أبويه عند كبر سنِّهما.
قال: «أَحَدَهُمَا أَو كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ»، في هذا الحديث:
- أنَّ البر بالوالدين عند كبر السِّنِّ والعجز منهما من أسباب دخول الجنَّة.
- وأنَّ البرَّ مع وجود الحاجة له يكون أجره أعظم، ويكون ثوابه أكثر.
- وأنَّه كلَّما كان الدَّاعي للفعل الحسن والصَّدقة أكثر كان الأجر أكثر.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِّيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، إحْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، واسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِن أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَو أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ»)}.
هذا الحديث فيه فوائد كثيرة، منهـــا: التَّرغيبُ في تقوية المؤمن لنفسه، والقوَّة قد تكون في قوَّة البدن، وقد تكون في قوَّة العلم، وقد تكون في قوَّة التَّمكين؛ وكل قوَّةٍ يُمكن أن تُستعمل في الخير فإنَّه مرغَّبٌ فيها، وبالتَّالي فإنَّ بذلَ الأسباب لتحصيل هذه القوى متى كان مراد الإنسان منها أن يكون محبوبًا عند الله تكون عملًا صالحًا يُؤجَرُ عليه.
وقوله: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِّيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ»، فيه إثبات صفة المحبَّةِ لله -جلَّ وعلا.
قال: «وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ»، أي: كلٍّ من المؤمن الضَّعيف والمؤمن القوي.
وفي الحديث:
- الترغيب في أن ينتفع الإنسان في أمور حياته، فيسعَى فيما يُحقِّق له النَّفع.
- وأنَّ المؤمن يتوكَّل على الله ويستعين به في أموره، فقوله: «واسْتَعِنْ بِاللَّهِ»، أي: اطلب العون من الله -جلَّ وعلا.
والعون قد يكون في الإرادة بحيث يطلب العبد من ربِّه أن يُعينه في تكوين إرادة عنده للخير، فإنَّ إرادة الخير نعمة من عند الله -عزَّ وجلَّ- يُنعم بها على بعض عباده، وكذلك يُراد بها العون على تحقيق المراد الخيِّر، وتحقيق النَّتائج التي تكون من وراء ذلك العمل.
وقوله: «وَلَا تَعْجَزْ»، أي: لا تُصاب بالعجز، وبالتَّالي تؤدي الأسباب التي توصلك إلى تحقيق مرادك.
قوله: «وَإِن أَصَابَكَ شَيْءٌ»، يعني: إن لحقك شيء من المصائب والأقدار المؤلمة، سواء ما كان منها صادًّا لك عن مرادك وعن رغبتك في تنفيذ أمر الله -عزَّ وجلَّ- أو ما كان من المصائب في غير ذلك، فإنَّ العبد في الدنيا لا يسلم من المصائب، وقد تكون المصائب خيرًا للعبد كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا، يُصِبْ مِنْهُ»، وقال: «أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل».
فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِن أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَو أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا»، هذه اللفظة متى قيلَت على وجه التَّحسُّر وعلى وجه التَّأسُّف والنَّدمِ على ما يُقدِّره الله على العبدِ كانت مذمومة، وأمَّا لو كانت على جهة الحثِّ في المستقبل فإنَّها لا تدخل في هذا النَّهي، كما لو قلت لشخص: لو فعلت الخير أثابك الله عليه الثَّواب الجزيل؛ فهذا ليس مرادًا هنا؛ لأنَّ المراد من النَّهي عن "لــو" التي تتعلَّقُ بأمرٍ ماضٍ، وتكون على جهةِ التَّأسُّفِ والتَّحسُّرِ على فوات أقدار الله، ولذا قال: «وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ»، فيه عموم مشيئة الله، وأنَّ مشيئة الله نافذة، وأنَّه مهما فعل العبد فلن يتجاوز هذه المشيئة.
وفي الحديث: وجوب التَّسليم بأقدار الله، وعدم الاعتراض عليها ولو كانت من المصائب، ومتى كان الإنسان مؤمنًا بقضاء الله وقدره كان ذلك أهنأ لنفسه وأريح لبالِهِ.
قال: «فَإِنَّ لَوْ»، يعني: فإنَّ استعمال كلمة "لو" على جهةِ التَّأسُّف والتَّحسُّرِ من الأقدار. «تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ»؛ لأنَّها تُمكِّنُ الشَّيطان من أن يُحسِّفَ العبدَ.
وقد جاء في النُّصوص أنَّ الشَّيطان يُريد أن يُنزل الحزن في قلوب المؤمنين كما قال -جلَّ وعلا: ï´؟إِنَّمَا النَّجْوَىظ° مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًاï´¾ [المجادلة:10].
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذا قَامَ أَحَدُكُم مِنَ اللَّيْلِ، فَاسْتَعْجَمَ الْقُرْآنَ عَلَى لِسَانِهِ فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ، فَلْيَضْطَجِعْ».
وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ فَلْيَفْتَتِحْ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ».
وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ»)}.
هذه الأحاديث الثلاثة متعلقةٌ بالصَّلاة، وخصوصًا صلاة الليل، وكلها من أحاديث الصَّحابي الجليل أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
الحديث الأوَّل: قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذا قَامَ أَحَدُكُم مِنَ اللَّيْلِ»، أي: إذا استيقظَ الإنسان من الليل من أجل أن يؤدِّيَ صلاة الليل.
قال: «فَاسْتَعْجَمَ الْقُرْآنَ عَلَى لِسَانِهِ»، أي: أصبح ثقيلًا لا يُدرك معانيه ولا يتمكَّنُ من تلاوته بنسقه؛ فحينئذٍ يُستحبُّ له أن يضطج، فكانَّه لمَّا كان عسرًا النُّطق به لتعب الإنسان أصبح بمثابة الكلام الأعجمي، ولذا قال: «فَاسْتَعْجَمَ الْقُرْآنَ عَلَى لِسَانِهِ».
قال: « فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ»، أي: لم يكن يتمعَّن في معاني القرآن ويتدبَّر في ألفاظه.
قال: «فَلْيَضْطَجِعْ»، أي: ليرقد من أجل أن يكون هذا من أسباب رجوع نفسه إليه وراحة باله، وبالتَّالي يتمكَّن من فهم القرآن.
وفي هذا دلالة على أنَّ القراءة التي تكون بتدبُّرٍ وفهمٍ للمعاني أعظمُ أجرًا من القراءة التي لا تكون كذلك.
ويُفهم منه أنَّ بعض الوسائل التي تُتَّخذ للمقاصد قد تكون أولى من ذات المقصد، من أجل أن تلك الوسيلة تحقق المقصد على أعلى درجاته، فقراءة القرآن وقيام الليل مقصود للشَّاع، وراحة البدن وسيلة لذلك، فإذا لم يُمكن أن يؤدِّي الإنسان المقصد على أكمل وجوهه إلَّا بأداء الوسيلة؛ كان أداء الوسيلة مقدَّمًا كما في هذا الخبر.
وأمَّا الحديث الثَّاني: فقال: «إِذا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ»، أي: إذا قام للصَّلاة.
قال: «فَلْيَفْتَتِحْ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ»، صلاة الليل عمل عظيمٌ فيه ثوابٌ جزيلٌ، وقد قال -جلَّ وعلا- في وصف المؤمنين: ï´؟تَتَجَافَىظ° جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَï´¾ [السجدة:16]، وقال تعالى في وصف المتقين: ï´؟كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَï´¾ [الذاريات:17].
وكان من شأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يقومَ من الليل، ومَن لم يستطع أن يقومَ آخر الليل فيُستحبُّ له أن يؤدِّيَ صلاة الليل من أوَّلِ ليله، ليكونَ بذلك حائزًا على الأجر والثَّواب؛ لأنَّ قوله: «إِذا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ» لم يُفرِّق فيه بين أوَّل الليلِ وآخره.
قال: «فَلْيَفْتَتِحْ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ»، فيه استحباب تقديم ركعتين خفيفتين قبل صلاة الليل، وهذا بمثابة تهيئة النَّفس لأداء هذه الصَّلاة، ولطرد العدو الشيطان الرَّجيم.
والحديث فيه دلالة على استحباب تطويل الصَّلاة بعدَ هاتين الرَّكعتين، وليس التطويل مستحبًّا دائمًا؛ بل يُطوَّل فيما جاء الشَّرعُ فيه بالتَّطويل، ويُخفَّف فيما جاء الشَّرعُ بالتَّخفيف.
وأمَّا الحديث الثَّالث: حديث أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ»، وهذا القرب يؤدِّي إلى أن يسمع الله -جلَّ وعلا- منه ويستجيب دعواته، ولذا قال: «فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ»، يعني: في أثناء السجود.
وفي الحديث: أنَّ السجود موطنٌ فاضل، وأنَّه من مواطن إجابة الدَّعوات، وفيه التَّرغيب في كثرة الدُّعاء.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنِ النَّوَاسِ بنِ سَمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ، فَقَالَ: «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ»)}.
قوله: (سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ)، كأنَّ السؤل عن خصال البرِّ والإثمِ؛ فإنَّ النُّصوص قد جاءت بالتَّرغيب في البرِّ والنَّهي عن الإثم، كما قال تعالى: ï´؟وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىظ° غ– وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِï´¾ [المائدة:2]، وقال تعالى: ï´؟ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَظ°كِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَï´¾ [البقرة:177]، الآية. فالبرُّ أمرٌ محمودٌ، ولذا قال في آخر هذه الآيات ï´؟أُولَظ°ئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا غ– وَأُولَظ°ئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَï´¾ [البقرة:177].
وضده الإثم، ولذا قال تعالى: ï´؟قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَï´¾ [الأعراف:33].
ثم ذكر بعدَ ذلك خصال البرِّ فقال: «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُق»، المراد بالخُلُق: التَّعامُل، وحُسنه أن يؤدِّيه الإنسان على أفضل صوره، وقد يكون هذا في تعامل الإنسان مع الله -جلَّ وعلا-، وقد يكون في تعامله مع عباد الله؛ فكلُّ ما كان حسنًا من الأخلاقِ وما كان محمودًا فاضلًا من التَّصرُّفات فإنَّه برٌّ محمودٌ عليه.
ثم قال: «وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ»، حاكَ أي: لجلجَ وتردَّدتَّ فيه، وخشيتَ من أن يكون عليكَ إثمٌ في مزاولته، وفي هذا التَّرغيب في أن يكون الإنسان على حالٍ بعيدًا فيها عن الشُّبهات التي قد تشتبه على حالِ الإنسان.
قال: «وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ»، أي: أنَّ الإنسانَ إذا أدَّى عملًا يخاف من اطلاع الآخرين عليه فهذا فيه إشارة إلى ما فيه من إثمٍ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ سعيدِ بنِ عبدِ الْعَزِيزِ، عَنْ رَبِيعَةَ بن يَزِيدَ، عَنْ أَبي إِدْرِيسَ الْخَولَانِيِّ، عَن أَبي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- -فِيمَا يَرْويهِ عَنِ اللهِ تبَاركَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُم، يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُم، يَا عِبَادي، إِنَّكُم تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُم، يَا عِبَادِي، إِنَّكُم لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادي، لَو أَنَّ أَوَّلَكُم وَآخِرَكُم وَإِنْسَكُم وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُم، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي، لَو أَنَّ أَوَّلَكُم وَآخِرَكُم، وَإِنْسَكُم وَجِنَّكُم كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَو أَنَّ أَوَّلَكُم وَآخِرَكُم وَإِنْسَكُم وَجِنَّكُم، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُم أُحْصِيْهَا لَكُم، ثُمَّ أُوَفِّيْكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ». قَالَ سَعيدٌ: كَانَ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَولَانِيُّ إِذا حَدَّثَ بِهَذَا الحَدِيثِ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ)}.
هذا الحديث عظيمَ النَّفعِ كثيرَ الفوائد، وخلاصته: ترغيب العبد في أن يُكثر الاتِّصال بالله -عزَّ وجلَّ- في جميع أحواله.
وهذا الحديث من الأحاديث القدسيَّة، ولذا قال: (فِيمَا يَرْويهِ عَنِ اللهِ تبَاركَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي...»)، ناداهم بهذا الاسم الذي هو من أعظم الأسماء مزيَّة، والذي فيه مقام العبوديَّة، وقد كان من شأنِ الآيات القرآنيَّة عندَ ذكر النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المواطن الشَّريفة أن يُذكر بوصف العبوديَّة، فقال: ï´؟سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَىï´¾ [الإسراء:1].
قوله: «إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ»، المراد بالظُّلم: عدم أداء الحقوق لأصحابها، وأخذُ مالِ الآخرين منهم.
قال: «إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي»، أي: امتنعتُ من ذلك، وهذا من كمالِ عدلِ الله -جلَّ وعلا- فإنَّ نفيَ صفةٍ مذمومةٍ بحقِّ الله -جلَّ وعلا- إنَّما هو من أ"جلِ إثبات كمالِ ذدِّها، فالله -جلَّ وعلا- أعدل مَن يكون، وأعدل مَن حكمَ.
قوله: «وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا»، الأوَّل حرمه على نفسه، وجعل الظُّلمَ محرَّمًا بينَ العباد.
والمراد بالمحرَّم: ما نهى الله عنه نهيًا جازمًا، ويترتَّبُ على فعله الإثم.
قال: «فَلَا تَظَالَمُوا»، أي: لا يظلم بعضُكُم بعضَكم الآخر.
قال: «يَا عِبَادي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ»، فمَن لم يكن عنده دليلٌ من الشَّرع يهتدي به فهو ضالٌّ، وفيه إثبات أنَّ الهداية فضلٌ من الله -جلَّ وعلا- ولذا طلبَ منهم أن يدعوا الله بها، فقال: «فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ»، أي: اطلبوا من الله الهداية، فإنَّ من طلب الهداية من الله فإن الله سيهديه.
قوله: «يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ،»، فيه أنَّ التَّفضُّل بالأرزاق منَّةٌ من الله -جلَّ وعلا- على عباده.
وقوله: «فَاسْتَطْعِمُونِي»، أي: اُطلبوا منِّي الطَّعام.
قال: «أُطْعِمْكُم»، أي: أستجيب دعواتكم.
وفيه أنَّه يُستحبُّ للإنسان أن يدعو الله بجميع حوائجه حتى ولو ما ظنَّ أنَّه من الأمور القليلة.
قوله: «يَا عِبَادِي»، تكرار لهذا اللفظ من أجل أن يكون داعيًا للخلق لأن يعودوا إلى الله -جلَّ وعلا- وفيه تذكير من الله للعباد بالعلاقة التي بينه وبينهم.
قال: «كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ»، أي: لا يجدُ لباسًا يلبسه، فنعمة اللباس هي منَّةٌ من الله -جلَّ وعلا- ولذا قال: «فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُم»، أي: أتفضّلأ بإعطائكم اللباس الذي تحتاجونَ إليه.
ثمَّ ذكَّرهم بفتحِه سبحانه لباب التَّوبةِ لمَن أخطأ من العباد فقال: «يَا عِبَادي، إِنَّكُم تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ»، أي: يكون منكم تجاوز في حقِّ الله -جلَّ وعلا.
ومن أنواع التَّجاوز:
ïƒک الذنوب والمعاصي.
ïƒک وعدم شكر الله على نعمه.
ïƒک والغفلة عن طاعة الله -جلَّ وعلا- وعن ذكره، فكم من الأوقات مرَّت بنا لم نذكره -سبحانه وتعالى- وذكر الله فيه خير الدُّنيا والآخرة.
قال: «وَأَنا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا»، فهذا باب التَّوبة جعله الله -جلَّ وعلا- للعبادِ، وغفران الذُّنوب بإزالتها وإزالة آثارها.
قال: «فَاسْتَغْفِرُونِي»، أي: اُطلبوا من الله أن يغفر لكم، وفيه الحث على الاستغفار وهو طلب المغفرة.
قال: «أَغْفِرْ لَكُم»، أي: أنَّ الاستغفار من أسباب المغفرة.
قال: «يَا عِبَادِي، إِنَّكُم لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي»، أي: أنَّ الله غنيٌّ عن العباد غير محتاجٍ لهم، وغيرُ خائفٍ منهم؛ بل هو سبحانه القويُّ العزيزُ الممتنع، وهو الذي يملك مقاليد الأمورِ ويتصرَّفُ في الخلق بما يشاء -سبحانه وتعالى.
قال: «يَا عِبَادي، لَو أَنَّ أَوَّلَكُم وَآخِرَكُم وَإِنْسَكُم وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُم، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي»، فإنَّ الله -جلَّ وعلا- هو المتصرِّف في الكون، وهو المالك للخلق أجمعين.
قال: «لَو أَنَّ أَوَّلَكُم وَآخِرَكُم، وَإِنْسَكُم وَجِنَّكُم كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا»، فالله -جلَّ وعلا- لا ينتفع بطاعة الطَّائعين، ولا يتضرَّر من معصية العاصينَ لكمال ملكه ونفاذ أمره -سبحانه وتعالى.
ثم قال: «يَا عِبَادِي، لَو أَنَّ أَوَّلَكُم وَآخِرَكُم وَإِنْسَكُم وَجِنَّكُم، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي»، أي: طلبوا حوائجهم كلها.
قال: «فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذا أُدْخِلَ الْبَحْرَ»، المخيط: آلة الخياطة، وهي دقيقةٌ صغيرةٌ إذا أُدخِلَت في البحر فلن تأخذ من البحر شيئًا تشاهده العين؛ بل هو أمرٌ يسيرٌ، فهكذا لو حُقِّقَت أماني النَّاس جميعًا، واستًجيبَ لدعواتهم كلِّها؛ فإنَّه حينئذٍ لن ينقصَ ذلك من مُلكِ الله -جلَّ وعلا- وإنَّما هو نقلُ مُلكٍ من جهةٍ إلى جهةٍ أخرى، فإنَّ العبدَ وما يملك مُلكٌ لله -جلَّ وعلا- قادرٌ على سلبه منه في لحظةٍ واحدةٍ.
ثم قال: «يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُم أُحْصِيْهَا لَكُم»، أي: هذا الجزاء الذي تُجزونَ به، وهذا الثواب أو العقاب من دخول الجنان أو النيران؛ لإنَّما هي نتيجة أفعالكم، ولذا قال: «إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُم أُحْصِيْهَا لَكُم»، أي أنَّ الله يأمر ملائكته بتسجيلها وتقييدها.
قال: «ثُمَّ أُوَفِّيْكُمْ إِيَّاهَا»، أي: أُنيلكم ثوابها وجزاءها.
وفي هذا دلالةٌ على أنَّ الثواب والعقاب إنَّما يكون سببِ أعمالِ الإنسانِ، وليست على جهة المقابلَة فتماثلها في الجزاء؛ وإنما هي سبب لها، وقد يحصل الأمر العظيم بالسبب اليسير.
قال: «فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللهَ»، أي: ليشكره -سبحانه- لأنَّه -جلَّ وعلا- هو الذي تفضَّلَ على العبدِ فهداه ويسَّر له سبيل الطَّاعة.
قال: «وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ»، أي وجدَ غيرَ الإحسان وغير الخير «فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ»، أي لِيَرجع باللائمة والعتاب على نفسه، فهو الذي قصَّرَ في طاعة الله -جلَّ وعلا- وهو الذي لم يقم بشكر نعم الله، ولا بالصَّبرِ على قضائه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ جَابرِ بنِ عبدِ اللهِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ»)}.
هذا الحديث فيه النَّهي عن خلقين شنيعين عظيمين:
أولهما: الظَّلم، وهو التَّعدِّي على حقوق الآخرين ومنعهم مالهم، وبيَّن سوء عاقبته فقال: «فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، أي: لا يُشاهد الإنسانُ طريقَهُ ولا يستبصرُ ما يسير فيه.
ثانيهما: الشُّح، وهو إمساك نِعَمِ الله وعدم بذلها خصوصًا في الواجبات من الزَّكاة والنَّفقةِ على النَّفسِ والأقارب، أو المستحبَّات بأنواعها.
قال: «فَإِنَّ الشُّحَّ»، أي الإمساك للنَّعَمِ وعدم إنفاقها في مواطنها «أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ»، أي كان سببًا في هلاكهم، وذلك أنَّهم تشاحُّوا على النِّعَمِ فاقتتلوا من أجل ذلك، ولذا قال: «حَمَلَهُمْ» أي: الشُّح «عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ»، أي: قتل بعضُهم بعضَهم الآخر بدعوى طلب الإنسان لما يُريده وما يكون من حقِّه.
قال: «وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ»، أي: أنَّهم تناولوا المحرَّمات من المحارم ولم يتورَّعوا فيها، وما ذاك إلَّا من الشَّحِّ والظُّلم.
فهذه الأحاديث أحاديث عظيمة فيها فوائد كثيرة ومعانٍ جليلة، ينبغي بالإنسان أن يستبصرَ فيها، وفيها تذكير بسنن الله في الكون.
بارك الله فيك، وجزاك الله خيرًا، وأشكركَ على حسن الترتيب والتهيئةِ، وعلى جميل القراءة، وأسأله -جلَّ وعلا- أن يهبكَ علمًا نافعًا، وعملًا صالحًا، وهكذا الدُّعاء لكم إخواني، كان الله معكم، وكان الله معينًا لكم على الخير، باركَ الله فيكم، ورضي الله عنكم، وأصلح الله أحوالكم، وجعلكم تسيرون على طاعته، كما أسأله -جلَّ وعلا- أن يوفقك ولاة أمور المسلمين، وأن يجعلهم من أسباب الخير والهُدَة والتُّقى والصَّلاح، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

احمد الصادق
2019-05-07, 07:44
المحرر في الحديث (4)
الدَّرسُ الحَادِي وَالعشرُون (21)
معالي الشَّيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
حيَّاكَ الله، وأهلًا وسهلًا، أرحبُ بك، وأرحبُ بإخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعلا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
{اللهم آمين..
نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من (حديث أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: «لَتُؤَدَّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ القَرْنَاءِ»)}.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، أمَّا بعد،،
فلازلنا في سياق الأحاديث التي ذكرها المؤلف في كتاب الجامع في آخر كتاب المحرر من الأحاديث التي انفرد بروايتها الإمام مسلم -رحمه الله تعالى.
قوله: «لَتُؤَدَّنَّ الْحُقُوقَ»، أي: أنَّ الله -جلَّ وعلا- في إيصال كل حق لصاحبه يوم القيامة.
وقوله: «لَتُؤَدَّنَّ» مبنية للمجهول، وقوله: «الْحُقُوقَ» نائب فاعل.
قوله: «إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أي: إلى أصحاب الحقوق.
قوله: «حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الجَلْحَاءِ» أي: التي ليس لها قُرون.
قوله: «مِنَ الشَّاةِ القَرْنَاءِ» أي: التي نطحتها في الدُّنيا، وهذا لعُموم عدل الله -جَلَّ وَعَلا، وفيه تحذير من الظلم وأَمْرٌ بالاحتياط فيما يتعلق بحقوق الآخرين.
السؤال الأول:
أجمع الفقهاء على أنَّه لا يوجد قصاص بين البهائم بعضهم مع بعض يوم القيامة.
خطأ
https://www.youtube.com/embed/yaqCWhGqxtE

{( وَعَنْ أَبي ذَرٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم: «يَا أَبَا ذَرٍّ، إِذا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وتَعَاهَدْ جِيْرَانَكَ».
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّم: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئاً وَلَو أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ»)}
قوله في الحديث الأول: «إِذا طَبَخْتَ مَرَقَةً»، المرقة: ماءٌ يُوضعُ فيه شيئٌ من الخضار أو من اللحم.
قال: «فَأَكْثِرْ مَاءَهَا»، أي: أكثر من وضع الماء في تلك المرقة من أجل أن يتمكن من الانتفاع والشرب بها خلقٌ كثير.
«وتَعَاهَدْ جِيْرَانَكَ»، أي: أرسل إليهم من تلك المرقة التي كَثُرَ ماؤُها، وفي هذا:
- استحباب الصدقة والهدية.
- الترغيب في القيام بحق الجار.
- حق الجار يكون فيما يَحتاج إليه الجار، وقد يختلف ما بين زمانٍ وآخر.
ففي زمان قد يكون احتياجه للقمة يأكلها، وفي زمان آخر قد يكون احتياجه لأشياء أُخر.
وقوله في الحديث الآخر: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئاً»، أي: لا تستنقص من الفعل الجميل ولو كان قليلاً؛ فإن الجميل ولو كان قليلا له تأثيرٌ عظيم، وفيه الترغيب في فِعل الخير ولو كان يَسيرًا.
وقد جاء في حديثٍ آخر قوله صلى الله عليه وسلم: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» ، وذَكَرَ النَّبي -صلى الله عليه وسلم: مَنِيحَةَ العَنْز ، أي: يقوم بتمكين جاره من حَلْبِ شاته أو عَنْزِه من أجل أن يأخذ حَلِيبها.
قال: «وَلَو أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ»، كلمة «لَو» هُنا ليست على الجِهة المذمومة، وإنَّما فيها التَّرغيب في فِعْلٍ في المستقبل، وإنَّما التي تُذَمُّ هي ما كان مُتَعَلِّقًا بالماضي على جهة التَّأسُف والتَّحَسُّر عليه كما تقدم.
السؤال الثاني:
يجب على المرء أن يبذل من جميع أفعال الخير بحسب قدرته ولو كان شيئًا يسيرًا.
صواب
https://www.youtube.com/embed/jzBLHLw3Sy8

وفيه تذكير بحق الإخوة الإيمانية فيما بين النَّاس، وفيه التَّرغيب في بشاشة الوجه وانطلاقه، فإنَّه مَتى كان الوجه مُنْطَلِقًا شَرح صُدُور مَن يُقابله.
قال المؤلف -رحمه الله: {(وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عيله وسلم- يَقُولُ: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ»)}.
هذا الحديثُ فيه عُموم قَدَرِ الله -جَلَّ وَعَلا، وأنَّ قَدَرَ الله نافذ، وأنَّه لا يَترُكُ شيئًا من أحوال الخلق، وبالتالي يجب على الإنسان أن يُؤمِنَ بِقَضاءِ الله وقَدَرِه، وأن يَصبر على ما يكون مِنَ الأقدار المؤلمة.
وفي هذا بيانُ أنَّ السموات والأرضين مخلوقة كائنةٌ بعد أن لم تَكُن.
وفي هذا أيضًا بيانُ أنَّ العَرش مخلوقٌ وأنَّه وُجِدَ قبل خلق السموات والأرضين.
السؤال الثالث:
الراجح أن العرش خُلق ..... خلق السموات والأرض.
قبل – بعد – مع
https://www.youtube.com/embed/tuzdLw9eOCU

{سؤال: هذا الحديث بيَّنَ أنَّ الكتابة حدثت قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وفي حديث ابن مسعود قبل أربعة أشهر، فكيف نجمع؟}
جاء في حديث ابن مسعود أنَّ مقادير الإنسان تكتب بعد أربعة أشهر، أي هذا يتعلق بالشخص الذي سيولد بعد أن يتكون في بطن أمه في أربعة أشهر يكتب ما يتعلق به هو، بينما هذه مقادير جميع الخلائق، (إنسان – حيوان – جماد – سير الهواء – البحار وما يكون فيها من أمواج، وما يكون فيها من غرق، .... إلى غير ذلك مما يكون من أنواع الخلق، وليس هذا قاصرًا على ما في هذا الكوكب، بل في جميع الكواكب وفي جميع الأفلاك).
ثُم الكتب الذي جاء في حديث ابن مسعود هو أخذ من كتاب القدر العام لما يتعلق بذلك الشخص.
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدَىً، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثامُ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثامِهِم شَيْئاً»
قوله: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدَىً» فيه فضيلة الدعوة إلى الله، والدعوة إلى الله لا يُشترط أن تكون بمحاضرة أو بخطبة جمعة، فكل دعوة وإرشادٍ إلى الخير ولو بكلمة أو تسجيل أو إشارة فإنها تدخل في هذا اللفظ.
وجاء في فضل الدعوة إلى الله نصوصٌ، قال تعالى: ï´؟وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَï´¾ [فصلت:33]، وفي هذا أنَّ الْمُبتَدئ بالخير الذي يُقتدى به فيه؛ يكون له مثل أُجور مَن تبعه؛ لأنه قد دعا الناس إلى الله بفعله، وفيه أنَّ الدَّاعي إلى الله يَحوز أُجورًا مُماثلة لأُجور مَن تبعه.
قوله: «لَا يُنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً»، أي: أَخْذهُ من هذه الأجور «لَا يُنْقُصُ» من أُحور العاملين شيئًا، فهم ينالون أجورًا كاملة، وهو ينال أجرًا كاملاً.
قوله: «وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ»، أي: إلى طريق سُوء مخالف للحق.
قوله: «كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ»، أي: على الدَّاعي.
«مِثْلُ آثامُ مَنْ تَبِعَهُ»، الدَّعوة إلى الضَّلالة قد تكون بنشر شُبهة، وقد تكون بنشر فعلٍ مُنكَرٍ، أو بتصويرِ مقطعٍ سيءٍ يَقْتَدي الآخرون به، أو بإظهار مظهرٍ وسُلوك مخالفٍ لشرع الله ومخالف لدينه.
مثال: تأتي امرأةٌ فتتبرج فيُقتَدى بها؛ فيكون عليها مِثل إثم مَنْ تَبرج.
وقد تأتي امرأةٌ فتدعو الناس إلى الخير والعفة والتستر فيتبعونها ويسيرون معها فيكون لها مثلُ أجورهم، وهكذا في كلِ عملٍ صالح، كصدقة أو إحسانٍ إلى الآخرين أو صلاة أو زكاة أو صيام أو حج.
السؤال الرابع:
الدعوة إلى ضلالة أو هُدى قد تكون بمجرد الفعل، أو بإظهار سلوك مخالف للشرع الحنيف.
صواب
https://www.youtube.com/embed/Yg6RKyyYvBg

قوله: «لَا يُنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثامِهِم شَيْئاً»، أي: لا يُنقص كتابة الإثم على الدَّاعي الأول من آثام الفاعلين للإثم شيئًا.
وبعضهم روى: «لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا»

{قال المؤلف -رحمه الله: (وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ على مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمَاً سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيِهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمَاً سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَينَهُم، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ»)}
هذا الحديث من الأحاديث التي تُرشدُ إلى مكارم الأخلاق، وترشد إلى الأفعال الجميلة، وأول ما يدعو له هذا الحديث هو تنفيس الكروبات عن الآخرين، والتنفيس قد يكون بموعظةٍ وكلام يشرح صدر الإنسان ويزيل ما في صدره من الهموم، وقد يكون بإبعاد مشكلة ونزاع يكون فيما بين الآخرين، وقد يكون بالوقوف معه في ضائقته، وقد يكون بأداء عمل يجعله يتمكن من آداء مَهامه ومسؤولياته، وكُربُ الدنيا كثيرة.
قوله: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا» أصلها من النَّفَس، كأنَّه جعل فيه هواءً يُوَسِّعه ويُزيل ما فيه مِنَ الضَّيق والكربة.
قال: «نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ»؛ لأنَّ في يوم القيامة من الكُرب الشيء العظيم، وفي هذا بيان أنَّ الجزاء من جنس العمل؛ لأنَّه لَمَّا نَفَّسَ عنه كُربة من كرُب الدُّنيا نَفَّسَ الله عنه كُربة مِن كُرب يوم القيامةِ، وتلك الكُرب أعظم وأشدُّ.
قال: «وَمَنْ يَسَّرَ على مُعْسِرٍ» المعسر هو من كان في ضائقةٍ ماليةٍ وعليه دُيون، والتيسير إمَّا بإنظاره وتأجيله، وإمَّا بإبرائه ومُسامحته، وإمَّا بمساعدته على سداد دينه.
قوله: «يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»، أي: جعل الله حياته يسيرةً سهلة، وقال تعالى: ï´؟إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىظ° وَاتَّقَىظ° (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىظ° (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىظ° (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىظ° (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَ (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىظ° (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىظ°ï´¾ [الليل:4-11].
ثُمَّ رَغَّبَ في فضيلةٍ أُخرى، وهي الستر على الآخرين، وعدم إظهار مَعايبهم وذُنُوبهم، فقال: «وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمَاً سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»، أي: غَطَّى ما عنده من العيوب والذنوب؛ «سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»، ابن آدم خطاء ويحتاج إلى أن يَستر الله عليه، فمن ستر على الآخرين ستر اللهُ عليه، وفي هذا تحريم السباب، وتحريم الغيبة، والقدح في الآخرين؛ لأنَّ هذه الأفعال تتنافى مع مبدأ التَّستر الذي جاء به الشَّرع.
وبعض العُلماء استثنى من هذا ما كان على جِهة التعزير، وإن كان الأولى التَّخفيف من ذلك ما استطعنا إليه سبيلا، وذلك من أجل الكتم على معايب الآخرين، وبالتالي لا يُقتدى بهم فيها.
ثُمَّ قال في بيانِ خصلة أُخرى: «وَاللهُ فِي عَوْنِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيِهِ»، أي أنَّ الله يتولى شأنُ العبد ويُعِينه ويُقويه على آداء مهامه متى ما كان العبد يقوم في حوائج إخوانه؛ فإنَّ الجزاء من جنس العمل.
ثم قال: «وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمَاً سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَى الْجَنَّةِ»، وفي هذا الترغيب في طلب العلم، والترغيب في بذل الأسباب الموصلة إليه، وسلوك الطريق كناية عن بذل الأسباب في التعلم.
وقوله: «يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمَاً» هذه نكرة في سياق الشرط، فالأصل أنَّها تشمل جميع العلوم، ولكنَّ خطاب الشَّارع يُفَسَّر باصطلاحه هو، وبالتالي يُفَسَّر هذا اللفظ عند جماهير العلماء بأنَّ المراد به العلم الشَّرعي، والذي يكون فقهًا في الدين ومعرفة بالكتاب والسُّنَّة.
السؤال الخامس
ذهب جماهير أهل العلم إلى أنَّ قوله: «يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمَاً» يُقصد به العِلم الدنيوي دون الشرعي.
خطأ
https://www.youtube.com/embed/wlQryqOd2bA

وقوله: «سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَى الْجَنَّةِ»، أي: يسَّره عليه، وهداه لِأَن يفعل أعمالاً صالحة تكون من أسباب دخوله للجنة.
ثم قال: «وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ»، قد يكونُ المراد به المسجد، وقد يكون المراد به كُلُّ ما كان وقفًا لله، مثل: المدارس والجامعات، وقد يكون المراد به جميع المواطن والمحال فإنَّها مُلكٌ لله -جَلَّ وَعَلا – ولو كانت مملوكة لابن آدم.
«وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ»، فيه فضيلة الاجتماع على طلب العلم؛ ليشجع النَّاسُ بعضهم بعضهم الآخر على ذلك.
قوله: «يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ»، أي: يقرأونه ويشرحونه، ويصوب بعضهم بعضًا في قِراءته.
قوله: «وَيَتَدَارَسُونَهُ بَينَهُم»، أي: يتفهمونه، ويتأملون معانيه، ويُعيدونه ويكررون قراءته.
قوله: «إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ»، أي: إَّلا كان ثوابهم أن تنزل عليهم السكينة، وهي الطُمأنينة، وفيها سُكون النَّفس وسُكونُ القلب، بحيث لا يجزع الإنسان عندما يُصاب بالأقدار المؤلمة، ولا يتسخط من أقدار الله -جَلَّ وَعَلا- ولايُسارع في الَّردِّ والاستجابة لما قد يُقلقه، بل يتأمل فيه، ويفكر فيه حتى يتأكد أنَّ استجابته سائرة على مُقتضى شرع الله وأمره.
قوله: «وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ»، أي: غَطَّتهُم مِن كُلِّ مكان، ورحمة الله -جَلَّ وَعَلا- أمرٌ عظيم.
قوله: «وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ»، أي: جاءت على أطرافهم تستمع الذكر وتُعِينهُم عليه.
قوله: «وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»، أي: يذكر الله هؤلاء الذين يجتمعون لقراءة القرآن، وتلاوة القُرآن لا تقتصر على مجرد قراءة لفظه، بل تأمُّلُ مَعانيه، والنَّظرُ في تفاسيره، ومعرفة أحكامه، وكُلُّها ممَّا يدخل في دراسة القرآن، ولذلك فإنَّ الفقه والعقيدة وشُروح الحديث ممَّا يدخل في تدارس القرآن.
السؤال السادس:
الأجر المترتب على قوله: «يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ» يقتصر على قراءة لفظ القرآن فقط.
خطأ
https://www.youtube.com/embed/jQBmNHlGnjg

قوله: «وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ»، أي: من لم يكن له عمل كثير ترتفع به درجته؛ فحينئذ لم ينتفع بنسبه، ولذا قال: «لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ».
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَعَنْ أَنَسِ بنِ مَالكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ العَبْدِ يَأْكُلُ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، وَيَشْرَبُ الشُّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا»)}.
في هذا الحديث إثبات صفة الرِّضا لله -جل وعلا، وفيه أنَّ العمل القليل قد يترتب عليه الثَّواب الجزيل؛ فالحمد بعد الشُّرب والأكل كان من أسباب رضا الله -جل وعلا.
وفي الحديث فضلُ حمد الله عند نُزول النِّعم بالعبد، وأنَّه ينبغي للعبد أن يُكثر من الحمد لله -عز وجلا- خصوصًا عند نُزُولِ النِّعم.
السؤال السابع:
صفة الرضا خاصة بالمخلوقين ولا يجوز إلحاقها بالله سبحانه وتعالى باتفاق.
خطأ
https://www.youtube.com/embed/17jHdf1NtFA

{قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَعَنْ سَعْدِ بنِ أَبي وَقَّاصٍ قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ العَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ»)}.
في هذا الحديث إثبات صفة المحبة لله -جلَّ وَعلا، وفيه فضيلة التقوى وعِظم أجرها، وأنَّها من أسباب محبة الله للعبد.
وقوله: «الْغَنِيَّ»، يعني: غير الْمُحتاج لغيره بحيث يَكتفي بنفسه، وقيل: إنَّ الغني هو كثير المال.
وقوله: «الْخَفِيَّ»، يعني: مَن لا يُظهر عبادته وطاعته للآخرين، بل يدعو الله بِخُفْية، ويُكثِرُ مِنْ نَوَافل العبادات خُفيةً، وفيه فضل خَفاءِ بعض الطاعات إذا لم يكن من إظهارها تحقيق مَقصودٍ شَرعي.
السؤال الثامن:
اتفق الفقهاء على عدم جواز إظهار العبادات أمام الناس حتى وإن كان إظهارها لغرض شَرعي صحيح.
خطأ
https://www.youtube.com/embed/HNdloWTavgw

{قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (وَعَن عِيَاضِ بنِ حمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: «أَلا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُم مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا:
كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدَاً حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُم، وَإِنَّهُم أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَـتْهُم عَنْ دِينِهِم، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِم مَا أَحْلَلْتُ لَهُم، وَأَمَرَتْهُم أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَاناً.
وَإِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْـتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابَاً لَا يَغْسِلُهُ المَاءُ، تَقْرَؤُهُ قَائِمَاً وَيَقْظَانَ، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشَاً، فَقُلْتُ: رَبِّ إِذَاً يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً.
قَالَ: استَخْرِجْهُم كَمَا أَخْرَجُوكَ، وَاغْزُهُم نُغْزِكَ، وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقُ عَلَيْكَ، وَابْـعَثْ جَيْشَاً نَبْعَثُ خَمْسَةً مِثْلَهُ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ.
قَالَ: وَأَهْلُ الجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيْقُ القَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيْفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ.
قَالَ: وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ: الضَّعِيْفُ الَّذِي لا زَبْرَ لَهُ، الَّذِينَ هُمْ فِيْكُمْ تَبَعَاً، لا يَبْتَغُونَ أَهْلاً وَلا مَالاً، وَالخَائِنُ الَّذِي لا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ -وَإِنْ دَقَّ- إِلَّا خَانَهُ، وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ»، وَذَكَرَ البُخْلَ أَو الكَذِبَ، وَالشَّنْظِيْرُ: الفَحَّاشُ، وَفِي لَفْظٍ: «إِنَّ اللهَ تَعَالى أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ»)}.
هذا حديثٌ أخرجه مسلم، وهو حديثٌ عظيم النفع والفوائد، وهو كثير المعاني، ولكن قبل أن أدخل في بيان أحكامه وفوائده أُشير إلى أنَّه ينبغي بالإنسان أن يجعل له مُعَلِّمًا يُدَرِّسُه؛ ليكونَ بذلكَ آَمِنًا من اللحنِ في قراءته، وآَمِنًا من الفَهم السيء، وآمِنًا من تنزيل الكلام على غيرِ الْمُرادِ مِنه، ولذلك لو التفت إلى بعض الألفاظ المذكورة في هذا الخبر، وتأملتَّ في قراءة بعضهم لوجدتها مُخالفة لأصل دين الإسلام.
فمثلا: لو قال: وَحَرَّمتُ عليهم ما أحللت لهم، لكان كلامًا مُتناقضًا يؤدي إلى أمورٍ مُخالفة إلى أُصًول الشريعة، وهكذا في اللفظة التي بعدها «وَأَمَرَتْهُم وَأَمَرَتْهُم أَنْ يُشْرِكُوا بِي»، فإذا قرأها الإنسان ("وَأَمرْتُهُم" أَنْ يُشْرِكُوا بِي)؛ لكان هذا مُخالًفا لأصل دين الإسلام.
قوله: (قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ)، فيه: الاستفادة من الخطبة سواء كانت جمعة أو غيرها.
قوله: «أَلا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُم مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا»، فيه أنَّ الجهل صفة أساسية في الإنسان، وأنَّه لا يرفعها إلَّا العلم والتَّعلم، والعلم يكون بمراجعة النُّصوص، ولا يجوز للإنسان أن يقول: بل أرجع إلى عقلي؛ لأنَّ الرجوع إلى العقل المُجرد هو سببٌ من أسباب الجهل، وإلا لما كان هناك حاجة لنزول الكتب ولا لإرسال الرُّسُل، ومن ذا يُعلِّم النَّاس أن صلاة الظُّهر أربع ركعات وأنَّ صلاة المغرب ثلاثُ ركعات، وأنَّ صلاةَ الفجر ركعتان إلَّا بتعلم العلوم، ومن أَمَرَ النَّاس بمراجعة عقولهم فقد أضلهم.
قوله: «كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدَاً حَلَالٌ»، يعني: مَن تَمَلَّكَ مالاً بطريقٍ مشروع حَلَّ له الانتفاع به.
ثم قال: «وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُم»، أي: مائلين من الشِّرك إلى التَّوحيد، وهذا الْمُراد به الفِطرة التي يقول فيها النَّبي -صلى الله عليه وسلم: «كُلّ موْلودٍ يُولدُ على الفِطرَة» .
قوله: «وَإِنَّهُم أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَـتْهُم عَنْ دِينِهِم»، أي: حَرَّفَتهم عن الفطرة، وفيه دلالة على أنَّ الفطرة هي دين الإسلام.
قال: «وَحَرَّمَتْ» أي: هذه الشيطان. «عَلَيْهِم مَا أَحْلَلْتُ لَهُم» فأصبحوا يستبيحون المحرمات، ويرون أنَّها من الْمُباحات.
قال: «وَأَمَرَتْهُم» أي أنَّ هذه الشياطين أمرتهم «أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَاناً»؛ فيصرف شيئًا من حُقوق الله لغيره، عبادةً أو طاعةً في أمرٍ ممَّا يختص الله به.
قال: «وَإِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ»، أي: تفقدهُم وَعَرَفَ أحوالهم «فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ»، أي: غضب عليهم، وما ذاك إلَّا لسوء حالهم، ولمخالفتهم طريقة ما جاء به أنبياء الله عليهم السلام.
قال: «إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ»، أي: كانوا على دينِ أنبيائهم السابقين، لم يُبدِّلوا فيه ولم يُحرِّفو فيه.
ثم قال ربُّ العزَّةِ والجلال: «إِنَّمَا بَعَثْـتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ»، أي: أختبرك، هل تنفذ أمر الله، وتدعو عباد الله لدخول دار الجنة، أو أنَّك تتركهم؟
«وَأَبْتَلِيَ بِكَ»، أي: أختبرهم بك، هل يُصَدِّقونك؟ وهل يطيعونك؟ وهل يقتصرون في عباداتهم على ما جئت به؟ وهل ينتهون عمَّا نهيتهم عنه أو لا؟
قال: «وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابَاً»، هذا الكتاب هو القرآن العظيم. «وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابَاً لَا يَغْسِلُهُ المَاءُ»، أي: أنَّ النَّاس يحفظونه وبالتالي فغسل أبدانهم بالماء لا يُزيل هذا القُرآن. «تَقْرَؤُهُ قَائِمَاً وَيَقْظَانَ».
قال: «وَإِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشَاً»، أي: أخبره أنَّه سيفعل ذلك بهم، وذلك أنَّه سينزل بهم العقوبات، وقد حصل ذلك في المعارك التي جاءت بينه وبينهم، والتَّحريق ليس المراد به التحريق بالنار، وذلك لِمَا وَرَدَ في الأحاديث أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّهُ لا ينْبَغِي أنْ يُعَذِّب بالنَّارِ إلَّا ربُّ النَّارِ» ، كما أنَّ هذا ليس على جهة الأمر، وإنَّما على جهة الخبر، فيخبره الله بأنَّه سيفعل ذلك، وإلَّا فلا شَكَّ أنَّ دعوة الناس إلى الحق واستجابتهم له أولى من عقوبتهم.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «فَقُلْتُ: رَبِّ»، يعني: يا ربي. «إِذَاً يَثْلَغُوا رَأْسِي»، أي: يشقوه ويكسروه ويضربوه حتى يكون فيه الجروح الشديدة.
قال: «فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً»، أي: كيف أُنزل بهم العقوبات وهُم المقتدرون القائمون الذين عندهم القوة؟!
قَالَ: «استَخْرِجْهُم كَمَا أَخْرَجُوكَ»، أي: كما أنهم أبعدوك عن بلدك فاستخرجهم وأزلهم من مثل هذه البلدان.
قَالَ: «وَاغْزُهُم نُغْزِكَ»، أي: قُم بمقاتلتهم، والمشاهد من حال النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قاتل على سبيل المقابلة والجزاء، وقاتل لإزالة القوة الظالمة الجائرة التي تمنع الناس من الدخول في دين الله -جلَّ وعلا.
قَالَ: «وَأَنْفِقْ»، أي: ابذل من المال، «فَسَنُنْفِقُ عَلَيْكَ»، فمن أعطى في سبل الخيرات فإنَّ الله يتفضل عليه بالخلف كما قال تعالى: ï´؟وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَï´¾ [سبأ:39]
قَالَ: «وَابْـعَثْ جَيْشَاً»، يعني: لمقاتلة الأعداء الذين يُقاتلونك. «نَبْعَثُ خَمْسَةً مِثْلَهُ»، أي: نبعث خمسة جيوش يُناصرون الجيش الأول.
قَالَ: «وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ»، أي: من لم يستجب لدعوتك، وليس المراد به جميع المعاصي، وإنَّما المُراد به الإعراض عن دعوة النُّبوة.
السؤال التاسع:
قوله: «وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ» يدل على أنَّ النَّبي أُمِر بمقاتلة كُلُّ من عصاه.
خطأ
https://www.youtube.com/embed/QAlWH9suc7g

ثم قال: «وَأَهْلُ الجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ»، أي: أنَّ أهل الجنة على ثلاثة أصناف.
«ذُو سُلْطَانٍ»، يعني: صاحب ولاية، «مُقْسِطٌ»، أي: عادل. «مُتَصَدِّقٌ»، أي: يبذل في سُبُل الخيرات، «مُوَفَّقٌ» أي: أنَّ الله يُرشده على ما يعود عليه بالخير، ويعود على الناس بالنفع.
وفي هذا دلالة على أنَّ عمل الولاية عملٌ عظيم، وأنَّ القائمين عليها لهم أُجورٌ كثيرة، وثوابٌ جزيل، متى صلُحت نياتُهم، وقصدوا بأعمالهم الله والدَّار الآخرة.
وأمَّا الثاني من أهل الجنة: فـ «وَرَجُلٌ رَحِيمٌ»، أي: يرحمُ عباد الله ويُشفق عليهم. «رَقِيْقُ القَلْبِ»، أي: أنَّه يتأثر بمعرفة أحوالهم. «لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ».
وأمَّا الثالث من أهل الجنة: فـ «وَعَفِيْفٌ»، أي: لا يقتحم المعاصي والفواحش، «مُتَعَفِّفٌ»، أي: أنَّه لا يتطلع إلى أموال الآخرين. «ذُو عِيَالٍ»، أي: عنده أسباب تجعله يُنفق النفقات الكثيرة ومع ذلك فهو عَفِيْفٌ مُتَعَفِّفٌ.
السؤال العاشر:
كل ما يأتي يعد من أهل الجنة تبعًا لحديث «وَأَهْلُ الجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ» عدا ......
ذو سلطان مقسط – عفيف متعفف – ضعيف لا زبر له
https://www.youtube.com/embed/fkBUYdgKDFA

ثم ذكر أهل النَّار، وبين أنهم خمسة أصناف، فأولهم:
«الضَّعِيْفُ»، أي: الذي ليس لديه قوة.
«لا زَبْرَ لَهُ»، أي: لا عائق عنده يمنعه من الإقدام على المعاصي والذنوب.
«الَّذِينَ هُمْ فِيْكُمْ تَبَعَاً»، أي: يتبعون غيرهم.
«لا يَبْتَغُونَ أَهْلاً وَلا مَالاً»، أي: ليس لهم مقاصد، فهذا الضعيف الذي لا عقل له، وليس له مقصد، وليس له أهل،ـ وليس له مال، وإنَّما يتبع من يسير في طريق السوء والشر ويقتدي به ويُحرضه عليه.
وأمَّا الصنف الثاني: «وَالخَائِنُ»، أي: الذي يخون فيبطن سوء التعامل ويظهر حُسن التعامل، والخائن يستولي على أموال الاخرين وهو مُظهرٌ أنَّه مُحسنٌ إليهم.
قال: «وَالخَائِنُ الَّذِي لا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ -وَإِنْ دَقَّ- إِلَّا خَانَهُ»، أي: متى ما ظهر له أي نوع من أنواع الطمع طمع، وأخذ حقوق الاخرين، وخان من ائتمنه، ومن وضعه في حق الأمانة.
وأمَّا الصنف الثالث: فـ «رَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ»، أي:يريد أن يستولي على أموال، ويريد أن يستولي على أهلك.
وأمَّا الصنف الرَّابع: فـ «البخيل أو الكذاب»، فهذان الصنفان ليستا من صفات أهل الإيمان والجنة.
وأمَّا الصنف الخامس: فـ «الشَّنْظِيْرُ: الفَحَّاشُ»، والفَحَّاش أي: كثير الفُحش الذي يُقدم على الفواحش سواءً بفرجه أو بلسانه.
ثم قال: (وَفِي لَفْظٍ: «إِنَّ اللهَ تَعَالى أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا»، أي: ليخضع بعضكم لبعض ولا يتكبر بعضكم على بعض بحيث لا يحتقر الآخرين ولا يجحد حقوقهم.
قال: «حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ»، أي: لا يِتَرفع أحدٌ من النَّاس على غيره.
قال: «وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ»، أي لا يتجاوز الحقوق المشروعة له، فهذا الحديث عظيم النفع كثير الفوائد.
بارك الله فيكم، ووفَّقكُم الله للخيرِ، وجعلنا الله وإيَّاكم مِن الهداة المهتدي، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

احمد الصادق
2019-05-07, 07:45
المحرر في الحديث (4)
الدرس الثاني والعشرون (22)
معالي الشَّيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
حيَّاكَ الله، وأهلًا وسهلًا، أرحبُ بك، وأرحبُ بإخواني المشاهدين الكرام، وأسأل الله -جلَّ وعلا- أن يجعل هذا اللقاء لقاءً نافعًا مباركًا.
{اللهم آمين..
في هذه الحلقة -بإذن الله- نشرع في حديث (وَعَنْ هَمَّامٍ، عَنْ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطاءِ بنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا تكْـتُـبُوا عَنِّي، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ، وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَليَّ -قَالَ هَـمَّامٌ: أَحْسَبُهُ قَالَ:- مُتَعَمِّدًا فَليَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»)}.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعدُ؛ أوَّلُ هذا الحديث فيه النَّهي عن كتابةِ الأحاديثِ النَّبويَّة، وكان ذلك في أوَّلِ الإسلام، وذلك خشيةً من النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يختلِطَ القرآنُ بالسُّنَّة، ولكن لَمَّا استقرَّ الأمرُ وحَفِظَ طائفةٌ كثيرةٌ من الصَّحابةِ كتابَ الله -عزَّ وجَلَّ- وارتفعت الخشية مِن اختلاط الكتاب بالسُّنَّة؛ أذن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالكتابةِ، فقال: «اُكْتُبُوا لأَبِي شَاه» ، وكان النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يكتب بعض أحاديثه، وقال علي: "ليس عندي غير القرآن إلَّا ما في هذه الصَّحيفة".
وقال أبو هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلاَ أَكْتُبُ" .
وبالتَّالي هذا الحكم أصبح مرفوعًا.
وفي الحديث:
ïƒک التَّرغيب في كتابةِ آياتِ القرآنِ.
ïƒک التَّرغيب في نَشْرِ المصحفِ مكتوبًا؛ لأنَّه قد فُهِمَ من هذا اللفظ التَّرغيب في الكتابة للقرآن.
ïƒک التَّرغيب في نقلِ أحاديث النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولذا قال: «وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلَا حَرَجَ»، أي: لا إثمَ عليكم، كأنَّه لَمَّا منعَ الكتابة أجاز لهم الحديث بلا كتابةٍ.
ثم حذَّر -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أمرٍ آخر؛ ألا وهو الكذب عليه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبيَّنَ أنَّه من كبائر الذُّنوبِ، فقال: «وَمَنْ كَذَبَ عَليَّ مُتَعَمِّدًا فَليَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».
وإنَّ مِن الأسباب التي تجعلنا نحكمُ على الفعل بأنَّه كبيرة: ورود الوعيد عليه بالنَّار.
ومِن أنواعِ الكذب: أن يُحدِّث الإنسانُ عن الكذَّابين، أو يُحدِّثُ بما يغلب على ظنِّه أنَّه لا تصح نسبته إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأُخِذَ من هذا المنع من التَّحديث بالأحاديثِ الضَّعيفة التي لا شاهدَ لها، خُصوصًا إذا كانَ ذلك على العوام.
وبعضُ النَّاس أجازَ أن يُحدَّثَ بالحديثِ الضَّعيفِ متى كانَ مُرغِّبًا في عملٍ صالحٍ قد ثبتَ بدليلٍ صحيحٍ، فإنَّ روايته إنَّما تحثُّ النَّاسَ على فعل ذلك الأمر الذي ثبتَ حكمه في الدليل الآخر، وأمَّا ما لم تثبت مشروعيَّته من الأعمال فإنَّه لا يجوز أن يُثبَتَ كونه من الطاعات بمجرد الأحاديث الضَّعيفة؛ لأنَّ هذه الأحاديث لم تثبت عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الدَّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «للهِ، ولِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، ولأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وعَامَّتِهِم»)}.
قوله: «الدَّينُ»، هنا مُبتدأٌ معرَّف، والأصل في المبتدأ المعرَّف أنَّه ينحصرُ في الخبرِ، فكأنَّه قال: الدِّين منحصرٌ في النَّصيحة.
وأصلُ كلمة "الدين": الطَّاعة التي تكون لله -جلَّ وعَلا.
وأمَّا قوله: «النَّصِيحَةُ»، فيُقصَدُ به: العملُ الصَّالح الذي لا مُخالطةَ للسُّوءِ فيه، فإذا قدَّمتَ خيرًا لغيرك فقد نصحتَه، وإذا أرشدته على ما ينفعه فقد نصحته.
قوله: (قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟)، أي: لِمَن نُقدِّم هذه النَّصيحة؟
فقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «للهِ»، والنُّصحُ كما قال تعالى: ï´؟إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِï´¾ [التوبة:91].
والنُّصحُ لله: يكون بتوحيد ربِّ العزَّةِ والجلال، وإخلاصِ الأعماِل له، والرَّغبةِ في رضاه -سبحانه وتعالى- والأمل في فضله -جلَّ وعَلا.
قال: «ولِكِتَابِهِ»، النَّصيحةُ لكتابه تكونُ بصيانتِهِ والدَّعوةِ إليه، ونشرهِ بينَ الناس، والاستجابة لِمَا فيه من الأوامر.
قال: «وَلِرَسُولِهِ»، النَّصيحة لرسولِ الله تتضمَّنُ تصديقَه، وتتضمَّنُ القيام معه، ونصرة دينه.
قال: «ولأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ»، أئمَّة المسلمين: مَن لهم ولاية على المسلمين، والأصل أن تُطلَق على مَن له الولاية العامَّة، وقد تصدُق على مَن يكون أدنى من ذلك.
والنُّصحُ لأئمَّةِ المسلمين يكون بمعاونتهم على الطَّاعةِ، والاستجابةِ لهم فيما يأمرون به من غير المعاصي، وفي القيامِ معهم في تحقيق ما يعودُ بالنَّفعِ على العبادِ والبلادِ.
ومن النَّصيحة لهم: إرشادهم، وتذكيرهم، ولكن بشرط أن يكون على جهةِ السِّرِّ لا على جهةِ العلنِ.
قال: «وعَامَّتِهِم»، النَّصيحةُ لعامَّة المسلمين تكون بتمنِّي الخير لهم، وبإرشادهم ونصحهم، وبالقيام معهم ومعاونتهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلغُرَبَاءِ»)}.
قوله: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا»، أي: لم يؤمِن به في أوَّلِ وقته إلَّا أفرادٌ قلائل، فكان الإسلام غريبًا في ذلك الزمان، يستغربه النَّاس ولا يتقبلونه.
قال: «وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ»، أي: سينقُص ويتناقص حتى يكون غريبًا في الناس.
وفي هذا الحديث من الفوائد:
ïƒک أنَّ العبرة ليست بالكثرةِ، وإنَّما العبرة بانتهاج نهجِ الحقِّ والسَّيرِ عليه.
ïƒک وأنَّ العبدَ لا ينبغي به أن تضعف نفسه متى لم يجد مُعاونًا على الخير.
ïƒک وأنَّ الغُربةَ الحقيقيَّة هي ما يكونُ من غُربة الدِّينِ، وليس غُربة الأسفار.
قوله: «فَطُوبَى لِلغُرَبَاءِ»، أي: أنَّ المقام العالي في جنَّاتِ الخُلدِ تحتَ شجرةِ طوبى يكون للغرباء الذين كانوا على الحقِّ، أمَّا مَن كان غريبًا لكنَّه على باطلٍ فهذا مضادٌّ لِمَا أُريدَ بالحديث.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»)}.
قوله: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ»، فيه جواز القَسَم ولو لم يُطلَب من الإنسان القَسَم.
قال: «لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ»، الأمَّة على نوعين:
ïƒک أمَّةُ الإجابة: وهم الذين استجابوا له، وهؤلاء من المسلمين.
ïƒک أمَّة الدَّعوة، وتشمل كل مَن وجبَ عليه طاعة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والاستجابة لدعوتِهِ.
قال: «لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»، فيه فوائد:
ïƒک أنَّ اليهوديَّةَ والنَّصرانيَّة أديانٌ مَنسوخة، وأنَّها قد رُفِعَت.
ïƒک وأنَّ اليهوديَّ والنَّصرانيَّ إذا سمع بالنَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَزِمَه أن يبحثَ عن حقيقته؛ ليستجيب له.
ïƒک وأنَّ مَن لم يسمع بهذه الدَّعوة الكريمة مِنَ اليَهود والنَّصارى فإنَّه لا يُعاقَبُ.
ïƒک فضيلةُ الإيمان بالله -جلَّ وعَلَا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، مَاتَ مِـيْـتَةً جَاهِلِيَّةً»)}.
قوله: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ»، أي: مَن نقَضَ البيعةَ، واعتقدَ أن لا ولاية لصاحب الولاية عليه.
قال: «لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ»، فإنَّ مَن أمرَ الله بطاعتهم حُجَّة على العباد، وفي هذا فوائد:
ïƒک وجوب طاعة صاحب الولاية والتَّأكيد على ذلك.
ïƒک وأنَّ النَّاس يحتجُّونَ يومَ القيامة، وأمَّا مَن خلعَ الطَّاعة فهذا يأتي يوم القيامة ولا حجَّةَ له.
ïƒک وجوب اعتقاد ولاية الأئمَّة، فلا تكفي المصافحة باليد؛ بل لابدَّ من اعتقاد في القلب أنَّ صاحب الولاية تجب طاعته.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذا بُويِعَ لِخَلِيفَتَينِ فَاقْتُلُوا الآخِرَ مِنْهُمَا»)}.
هذا الحديث فيه: تنظيم أحوال المسلمين، فقوله: «إِذا بُويِعَ لِخَلِيفَتَينِ»، أي: في مكانٍ واحدٍ، أمَّا إذا اختلفت بنيانهم فلكلِّ بلدٍ حكمه.
وفي هذا إطلاق اسم البيعة -وهو اسمٌ شرعيٌّ- على ما لا يُعتبَرُ شرعًا بيعةً.
قوله: «فَاقْتُلُوا الآخِرَ مِنْهُمَا»، أي: المتأخِّر في ادِّعاء الخلافة، وذلك أنَّ النَّاس إذا كان لهم إمامٌ واحدٌ استقرَّت أمورهم وسكُنَت أحوالهم، أمَّا إذا وُجدَ التَّنازُع من أصحابِ الولاية فسينتصر لهذا أشخاص ولذلك أشخاص؛ وبالتَّالي يقع بينهم من الاضطراب الشيء الكثير.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْهُ قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَنْ رَأَى مِنْكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»)}.
قوله: «مَنْ رَأَى مِنْكُم»، الأصل في الرؤية أن يُراد بها الرؤية الحقيقيَّة لا الرُّؤية المجازيَّة التي تشمل السَّماع.
وقوله: «مُنْكَرًا» نكرة في سياق الشَّرطِ، فتكون عامَّة لجميع المنكرات.
قال: «فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ»، التَّغييرُ باليد إمَّا بإتلاف آلة المعصية، أو بمنعِ العاصي من العصيانِ، ونحو ذلك، والتَّغييرُ باليد إنَّما هو لأصحاب الولايات، مثل: الإمام الأعظم في دولته، ومثل: المدير في مدرسته، ومثل: المدرِّس في فصلِه، ومثل: الوالد في بيته ونحو ذلك.
قال: «فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَبِلِسَانِهِ»، يعني: إذا لم يتمكَّن من تغيير المنكرِ بيده فليغيره بلسانه، يُبيِّن للناس أنَّ هذا الفعل منكر، وأنَّه مخالَفَةٌ للشَّرع.
قال: «فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ»، أي: إذا لم يستطع التَّغيير لا باليدِ ولا باللسان فحينئذٍ نتوجَّه إلى قلبه، فنقول له: أَنكِر هذه المعصية.
قال: «وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»، أي: أنَّ هذا الإنكار بالقلب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ»)}.
في هذا الحديث:
ïƒک التَّرغيب في الدَّعوةِ والدِّلالةِ على الخير.
ïƒک وأنَّ جميعَ أنواعِ الخيرِ محمودةٌ ومحمودٌ أصحابها.
ïƒک تفضُّل الله -عزَّ وجَلَّ- على العبد الدَّاعي إلى أفعال الخير بأن يكون له مثل أجرِ مَن عمل ذلك الخير.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُون وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ، وَلَكِن مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ»، فَقَالُوا: أَفَلا نُقَاتِلُهُم؟ قَالَ: «لَا، مَا صَلَّوْا»)}.
هذا الحديث بيانُ أنَّه ستكون أمراء في الزَّمان الماضي والزَّمان المستقبَل.
قوله: «فَتَعْرِفُون»، أي: يوجَد منهم أفعال من أفعال المعروف والخير.
قال: «وَتُنْكِرُونَ»، أي: ستجدون منهم أفعالًا أخرى هي محلٌّ للإنكار.
قال: «فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ»، هذه الرُّتبة الأولى، أي: مَن عرفَ أنَّ هذا منكر وكرِهَه بقلبه فقد تبرَّأ من فعل المنكر ومِن فاعله.
قال: «وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ»، هذه الرُّتبة الثَّانية، وهذا في الإقرارات في الغالب، يُقرُّ بشيءٍ ثم بعد ذلك ينكسُ.
قال: «وَلَكِن مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ»، هذه الرُّتبة الثَّالثة، أي: إنَّما تكون الشَّرهةُ والعقوبةُ على مَن رضي بالمنكرات التي كانت تُفعَل وتابعها، فهو المؤاخَذ والمعاقب عليه إن لم يفعله.
قال: (فَقَالُوا: أَفَلا نُقَاتِلُهُم؟ قَالَ: «لَا، مَا صَلَّوْا»)، فيه أنَّ الأئمَّة والولاة إن كانوا من أهل الصَّلاة لا يجوز أن يُخرَج عليهم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذا سَافَرْتُمْ فِي الخِصْبِ فَأَعْطُوا الْإِبِلَ حَظَّهَا مِنَ الأَرْضِ، وَإِذَا سَافَرْتُم فِي السَّنَةِ فَبَادِرُوا بِهَا نِقْيَهَا وَإِذا عَرَّسْتُم فَاجْتَنبُوا الطَّرِيقَ، فَإِنَّهَا طُرُقُ الدَّوَابِّ وَمَأْوَى الْهَوَامِّ بِالَّليْلِ»)}.
قوله: «إِذا سَافَرْتُمْ فِي الخِصْبِ»، المراد به: الأرض التي يكثُر فيها أنواع النبات.
قال: «فَأَعْطُوا الْإِبِلَ حَظَّهَا مِنَ الأَرْضِ»، أي: مَكِّنُوها من رعي الأرض.
قال: «وَإِذَا سَافَرْتُم فِي السَّنَةِ»، يعني: القحط والجدب.
قال: «فَبَادِرُوا بِهَا نِقْيَهَا»، يعني: أعطوها الطَّعام قبل أن تطلب هي.
قال: «وَإِذا عَرَّسْتُم»، أي: نزلتم آخر الليل.
قال: «فَاجْتَنبُوا الطَّرِيقَ»، أي: لا تجلسوا في الطريق.
قال: «فَإِنَّهَا طُرُقُ الدَّوَابِّ وَمَأْوَى الْهَوَامِّ بِالَّليْلِ»، يعني: قد تعترض عليكم الدَّواب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذا أَكَلَ أَحَدُكُم فَلْيَأْكُل بِيَمِينِهِ، وَإِذا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ»)}.
هذا الحديث فيه النهي عن الأكل بالشِّمال، والشُّرب بالشِّمال، وفيه النَّهي عن التَّشبُّه بالشَّيطان؛ لأنَّ ما ذُكِرَت هذه الأشياء إلَّا لأنَّها من صفات الشَّيطان.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَائِمًا، فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِيءَ»)}.
قوله: «لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَائِمًا، فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِيءَ»، وردت الأحاديث بالنَّهي عن الشُّربِ قائمًا.
وأوردَ هنا العلَّة في ذلك وهي أنَّ الشُّرب قائمًا من أسباب شيء من الأمراض ونحوها، ولذا أمر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأن يستَسقِيَ الإنسان منه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ فِي غَزْوَةٍ غَزَوْنَاهَا: «اسْتَكْثِرُوا مِنَ النِّعَالِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَزَالُ رَاكِبًا مَا انْتَعَلَ»)}.
لُبس الحذاء فيه فوائد من وقاية القدم من هوام الأرض ومن رمضائها ونحو ذلك، فجابر يقول: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ فِي غَزْوَةٍ غَزَوْنَاهَا: «اسْتَكْثِرُوا مِنَ النِّعَالِ»)؛ لأنَّ النِّعال يطرأ عليها أمور تشققها وتفرقها. قال: «فَإِنَّ الرَّجُلَ لَا يَزَالُ رَاكِبًا مَا انْتَعَلَ».
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ فَلَا يَرُدَّهُ، فَإِنَّهُ خَفِيفُ الْمَحْمَلِ طَيِّبُ الرِّيْحِ»)}.
هذه أحاديث فيها شيء مما يحتاج إليه الناس، ومن ذلك ما يتعلق بالهدايا، فالهدايا أمرٌ مرغوبٌ فيه، وينال به الإنسان الأجرَ الكثير، وقد ورد قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تهادوا تحابوا»، فهذه الأفعال مرغَّبٌ فيها شرعًا.
قال: «مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ»، فيه جواز أن تُعرَض الهديَّة للمُهدَى له قبل أن تُهدَى له، فيُنظَر ما رأيه وكيف سيفعل بها. قال: «فَلَا يَرُدَّهُ، فَإِنَّهُ خَفِيفُ الْمَحْمَلِ طَيِّبُ الرِّيْحِ».
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَن سُلَيْمَانَ بنِ بُرَيْدَةَ، عَن أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيْرِ فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ»)}.
قوله: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيْرِ»، النَّرْدَشِيْرِ: لعبة قائمة على المصادفة، يستعملون فيها الزَّهرة التي لها ستَّة أوجه، في وجهٍ نقطة واحدة، ووجه نقطتين، وهكذا..
وكانوا في السَّابق يلعبون هذه الألعاب ويضعونها في برنامجهم، ووردَ أنَّ عمر أنكر على النُّعمان بن البشير حينما تعامل مع بعض اليهود فكان يُعطيهم دوابَّه من أجل أن يستوفوا منها متى اغتنوا.
قوله: «فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ»، فيه أنَّ الخنزير نجس، وأنَّ لحمَه ودمَه من النَّجاساتِ.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَنْ أَبي هُرَيرةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِـيْـبَـةُ؟» قَالُوا: اللهُ وَرَسُولَهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ» قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ». أَخْرَجَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ مُسلِمٌ)}.
هذا الحديث يشتمل على نوعٍ من أنواع الأدب الإسلامي الرَّفيع الذي جاء به ديننا القويم، ألا وهو: النَّهي عن ذكر معايب الآخرين، سواءٌ بحضرتهم أو لم يكن كذلك، وذلك أنَّه لا فائدة من مقابلة الآخرين بمثل هذا المُنقِص لحقوقهم.
قال: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِـيْـبَـةُ؟»، أي: هل تعرفون ما هي؟ وهل تعرفون الطَّريق الموصل إليها؟
قال: (قَالُوا: اللهُ وَرَسُولَهُ أَعْلَمُ)، فردُّوا العلم إلى الله -جلَّ وعلا.
قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ»، أي: أمرٍ يكرهه، فإنَّه عندما يجلس عندك أو عندما تجلس معه تتذكَّر المنافع الكثيرة التي حصلت منه.
قال: (قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ»)؛ لأنَّ هذه حقيقة الغِيبَة.
قال: «وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ»، أخرجه مسلم.
أسأل الله -جلَّ وعلا- أن يوفقنا وإيَّاكم لكل خير، وأن يجعلنا وإيَّاكم من الهداة المهتدين، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختامِ نشكركم معالي الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

احمد الصادق
2019-05-07, 07:45
المحرر في الحديث (4)
الدَّرسُ الثَّالِثُ والعِشرون (23)
معالي الشَّيخ/ د. سعد بن ناصر الشثري

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بمعالي الشَّيخ الدكتور سعد بن ناصر الشثري. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
حيَّاكَ الله، وأهلًا وسهلًا، أرحبُ بك، وأرحبُ بإخواني وزملائي وأحبتي ممن يشاهدوننا في هذا اللقاء، وأسأل الله -جلَّ وعلا- لهم التوفيق لكل خيرٍ، وأن يجعلهم من الهداة المهتدين.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من كتاب الطِّبِّ.
قال المؤلف -رحمه الله: (كِتَابُ الطِّبِّ
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ دَاءٍ إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَن جَابرٍ عَن رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذا أُصِيْبَ دَوَاءُ الدَّاءِ، بَرِأَ بِإِذْنِ اللهِ». رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَعَنْ أُسَامَةَ بنِ شَرِيكٍ قَالَ: قَالَتِ الْأَعْرَابُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَتَدَاوَى؟ قَالَ: «نَعَمْ يَا عِبَادَ اللهِ، تَدَاوَوا، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً، إِلَّا دَاءٌ وَاحِدٌ» قَالُوا: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: «الْهَرَمُ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ- وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ-وَصَحَّحَهُ أَيْضًا.
وَعَنْ أَبي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوَوْا، وَلَا تَدَاوَوا بِمُحَرَّمٍ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ إِسْمَاعِيلَ بنِ عَيَّاشٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بنِ مُسْلِمٍ الْخَثْعَمِيِّ الشَّامِيِّ، عَنْ أَبي عِمْرَانَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاء عَنْهُ، و(إِسْمَاعِيلٌ) فِيهِ كَلَامٌ، و(ثَعْلَبَةٌ) لَيْسَ بِذَاكَ الْمَشْهُورِ، وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَبُو عِمْرَانَ صَالحُ الحَدِيثِ، قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ.
وَعَنْ عَلْقَمَةَ بنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ وَائِلِ الْحَضْرَمِيِّ، أَنَّ طَارقَ بنَ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيَّ سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْخَمْرِ؟ فَنَهَاهُ، أَو كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا، فَقَالَ: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا للدَّواءِ، فَقَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلكِنَّهُ دَاءٌ». رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي السَّكَرِ: إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُم فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُم. ذَكَرَهُ البُخَارِيُّ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا)}.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضلِ الأنبياءِ والمرسلين.
أمَّا بعدُ؛ فلا زال عُلماء الإسلام يعقدون بابًا يتحدَّثونَ فيه عن الأحكامِ الفقهيَّةِ المتعلِّقة بالطِّبِّ، وبابُ الطِّبِّ ليس مِن بابِ العباداتِ بحيث يُبحث فيه عن دليلٍ شرعيٍّ لكلِّ علاجٍ يستخدمه النَّاس، وإنَّما هو من أبوابِ العادات المعروفة بالتَّجارب والخبرات، ولذلك فلا نحتاج إلى دليلٍ شرعيِّ في كلِّ أمرٍ طبِّيٍّ.
والأمور الواردة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الطب على أنواع:
- فمنها ما ورد على جهةِ الفعل، فهذا يعتريه أشياء كثيرة، منها: أنه يحتمل أن يكون خاصًّا بأهل المدينة ومَن جاورهم، ومنها: ما يكون خاصًّا بالبلدان الحارَّة، وقد يكون خاصًّا بذلك الشخص الذي عالجه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
- وهناك ألفاظ عامَّة قوليَّة، فهذه تبقى على عُمومها، ويُقرُّ بما جاء فيها، وقد يخفى وجه كون ذلك الأمر من أنواع العلاجات على ما سيأتي في بعض الأمور، وبالتَّالي فإنَّ العلاج قد يُعرَف من طريقين: من طريق الدَّليل الشَّرعيِّ، ومن طريق التَّجربة والخبرة.
- وقد يكون ما ورد فيه دليل بكونه علاجًا إنَّما يكون علاجًا باستعماله على طريقةٍ مُعيَّنةٍ، فمتى استعمل بغير تلك الطريقة قد لا يكون مُؤديًا للشِّفاء والعلاج -بإذن الله- ومن المعلوم أن أمر الشِّفاء والعلاج هو نعمة من الله، وهو قدرٌ من أقدار الله -عزَّ وجَلَّ- وقد يكون عند الإنسان من الموانع أو من فَقدِ الشُّروط ما يجعل الدواء غَير مُؤثِّرٍ فيه.
وأوردَ المؤلف عددًا من الأحاديث، أولها حديث أبي هريرة عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: «مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ دَاءٍ إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً».
في هذا الحديث:
- فضل الله على العباد.
- إثبات أنَّ العلاج يَشفي، ولكنَّ شفاءه بأمر الله -سبحانه وتعالى- خلافًا لبعض الطَّوائف التي تقول: لا علاقة بين الدواء وبين الشِّفاء؛ فهذا الحديث ينقض مذهبهم.
- إثبات أن الأمراض والأدواء قدرٌ من أقدار الله -جلَّ وعَلا.
ثم أورد حديث جابر مرفوعًا: «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذا أُصِيْبَ دَوَاءُ الدَّاءِ، بَرِأَ بِإِذْنِ اللهِ».
في هذا الحديث: إثبات أنَّ العلاج له تأثيرٌ في الشِّفاء، ولكنَّ ذلك التَّأثير مرتبط بقضاء الله -جلَّ وعَلا- وقدره.
ثم أورد حديث أُسَامَةَ بنِ شَرِيكٍ قَالَ: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَتَدَاوَى؟)، يعني: هل نبذل الأسباب في التَّداوي؟
لأنَّهم جاءهم وهمٌ بأنَّ أقدار الله جارية، فظنُّوا أنَّ الدَّواء لا يُؤثِّر ما دام أنَّ كلَّ شيءٍ مكتوب، ومن ذلك حال العلاج وحال الشِّفاء وحال المرض؛ فوردَ لهم هذا السؤال، ولذا قالوا: (أَنَتَدَاوَى؟)، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ يَا عِبَادَ اللهِ، تَدَاوَوا»، وفي هذا دليلٌ على جواز التَّداوي.
والعلماء لهم أقوالٌ مَشهورةٌ في أحكام التَّداوي:
- فمنهم من يقول بكراهية التَّداوي، وقد ورد ذلك عن بعض فُقهاء الحنابلة، ولكن هذا القول محجوجٌ بمثل هذه الرِّواية، وليس من الاتِّكال على الله ترك التَّداوي؛ بل إنَّ التَّداوي سببٌ من الأسباب، وبالتَّالي فإنَّ فعله يُعدُّ من أسباب العلاج، وبالتَّالي لا يصح هذا القول.
- وقال طائفة: إنَّ التَّداوي واجبٌ؛ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال في هذا الحديث: «تَدَاوَوا»، والأصل في الأوامر أن تكون للوجوب.
- وقال آخرون: إنَّ التَّداوي مُستحبٌّ، ورأوا أنَّ لفظ «تَدَاوَوا» هنا مَصروفةٌ عن الوجوب؛ لأنَّ الأمر هنا وردَ بعدَ توهُّم عدمِ جواز التَّداوي، فلم يكن للوجوبِ.
وممَّا يدل على ردِّ مَن قال باستحباب ترك التَّداوي أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تداوى واستعمل العلاج، فبعد غزوة أحد استعمل -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العلاج لِمَا أصابه من شجاج وجراحٍ في ذلك اليوم، وهكذا تَنَاوَل العلاج في عددٍ من الوقائع.
والقول بوجوبه يُعارضه ما ورد في الخبر من أنَّ الصَّحابة -رضوان الله عليهم- (أعطوا النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دواءً، فنهاهم عن أن يُعطوه فَلَدُّوه)، أي: غصبوه على الدَّواء، (فعاقبهم بأن لدَّهم كما لدُّوه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وفي هذا أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ترك التَّداوي مما يدل على عدم وجوبه.
ثم قال: «فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً، إِلَّا دَاءٌ وَاحِدٌ» قَالُوا: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: «الْهَرَمُ».
هذا الحديث قد أخرجه أَحْمدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وهو حديثٌ جيد الإسناد.
ثم أوردَ من حديث أبي الدرداء بإسنادٍ لأهل العلم فيه كلام؛ لأنَّه من رواية مجهول، فهو من رواية إسماعيل بن عياش، وهو إذا روى عن غير الشاميين فإنَّه يُضعَّف.
قال: رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوَوْا، وَلَا تَدَاوَوا بِمُحَرَّمٍ».
في هذا الحديث: النَّهي عن التَّداوي بالمحرمات، وظاهر هذا أنَّ المحرَّم قد يحصل به التَّداوي، ولكن جاء في الحديث الآخر أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلكِنَّهُ دَاءٌ»، وقال: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا»، فَدَلَّ ذلك على أنَّ المحرمات لا شفاء فيها.
ولكن ينبغي أن نفرق بين ما كان للعلاج وما كان للغذاء، فما كان يُعيد البدن إلى قوَّته ونشاطه فهذا ينقسم إلى قسمين:
- ما كان مُوقيًا للبدن فهو طعام.
- وما كان مُعالجًا لحالة اختلال في البدن فهو دواء.
فيُفرَّق بينهما؛ فيجوز للإنسان أن يتناول المحرم من الطعام عند الاضطرار إلى ذلك المحرم، كما قال تعالى: ï´؟وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِï´¾ [الأنعام:119]، بخلاف ما كان على جهةِ التَّداوي.
وأشير إلى شيءٍ؛ وهو أنَّه في مرَّاتٍ يستعمل في الدواء أمرٌ محرَّم لا للتَّداوي به، وإنَّما لمقصدٍ آخر، كما قد تستعمل بعض الأشياء التي توضع في الدَّواء من أجل حفظه وعدم تلفه، لا يُراد التَّداوي بتلك المادَّة، وإنما يُراد بها حفظ الدواء بالمادة الموضوعة فيه.
ومن هذا مثلًا: بعض أجزاء البدن إذا اختلَّت فقد يضعون أجزاء حيوانات محرَّمة، مثل خنزير أو كلب أو نحوه؛ فهذا من باب التَّداوي، لأنَّه تعويض نقصٍ حاصلٍ في البدنِ، وليس من باب معالجة اعتلال في البدن وإعادته إلى حالته الطَّبيعيَّة، وقد يكون ذلك في الصَّمَّامات أو بعض الأوعية حاجة إلى استعمال هذه الأشياء المحرَّمة، فاستعمالها ليس على جهة التَّداوي؛ لأنَّه لا يُعيد البدن من حال الاعتلال إلى حال الصِّحَّة، وإنَّما هو من باب تغذية البدن وتقويته، فيكون له أحكام الطَّعام.
ثم أورد المؤلف حديثًا أخرجه الإمام مسلم عن عَلْقَمَةَ بنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ وَائِلِ الْحَضْرَمِيِّ، (أَنَّ طَارقَ بنَ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيَّ سَأَلَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْخَمْرِ؟)، والخمر قد وردت النُّصوص بتحريمها، قال تعالى: ï´؟يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَï´¾ [المائدة/90].
قال: (فَنَهَاهُ، أَو كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا، فَقَالَ طارق: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا للدَّواءِ، فَقَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلكِنَّهُ دَاءٌ»)، فهذا فيه دليلٌ لِمَا قد ذكرناه من كون المحرمات لا يجوز التَّداوي بها، وأنها ليست بدواء في نفسها.
قال: (وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي السَّكَرِ: إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُم فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُم)، وفي الحديث: «إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها».
{قال -رحمه الله: (وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ، وَأَنَا أَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الكَيِّ». رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَنْ جَابرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى أُبيِّ بنِ كَعْبٍ طَبِـيْـبًا، فَقَطَعَ مِنْهُ عِرْقًا، ثُمَّ كَواهُ عَلَيْهِ. رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَعَنْ سَعيدِ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ الجُمَحِيِّ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ احْتَجَمَ لِسَبْعَ عَشَرَةَ وتِسْعَ عَشَرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرينَ كَانَ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي تَوْبَةَ بنِ الرَّبِيعِ بنِ نَافِعٍ عَنْهُ، وَقَدْ رَوَى مُسلمٌ لـ(سَعِيدٍ)، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ حِبَّانَ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ : "يَهِمُ فِي الشَّيْءِ بَعْدَ الشَّيْءِ"، وَقَدْ سُئِلَ أَحْمدُ عَنْ هَذَا الحَدِيثِ فَقَالَ: "لَيْسَ ذَا بِشَيْءٍ".
وَعَنِ الْمُغيرَةِ بنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اكْتَوَى أَوِ اسْتَرْقَى فَقَدْ بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ». رَوَاهُ أَحْمدُ وَابْن مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ -وَصَحَّحَهُ)}.
هذه الأحاديث تتكلَّم عن أنواع ما يَستعمله العرب في علاجات فيما بينهم، وكما تقدَّم أنَّ العلاج مرجعه إلى التَّجربةِ والتَّكرار، فما ثبت نجاحه بطريق التَّجربة فإنَّه دواءٌ يصح الاستناد عليه بإذن الله -جلَّ وعَلا.
وقد أورد المؤلف في هذا حديث ابن عباس مرفوعًا، قال: «الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ، وَأَنَا أَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الكَيِّ»، وفي هذا دليل على جواز التَّداوي بهذه الطَّرائق الثَّلاث، وكما تقدَّمَ أنَّ العلاج لا يتعيَّن بطريق واحد، ولذلك نقول: إنَّ أصل العلاج مُستحبٌّ وقد يجب، ولكن طريقة العلاج ليست من الواجبات؛ لأنَّ هناك طرائق مُتعددة توصل إلى نفس النتيجة -بإذن الله جل وعلا.
وخصوصًا أنَّ التَّداوي مما ترغبه النُّفوس، وبالتَّالي لم يكن مِن طرائقه أن يُشترط فيه الحكم الشَّرعي، فإنَّ ما ترغبه النُّفوس أوكله الشَّارع إلى النفوس، ولم يؤكد الطلب فيه.
أمَّا الأول: فهو الحجامة، وكانت العرب تستعملها، واستعملها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولازال الناس يستعملونها، وهي -كما تقدم- على الإباحة.
وأمَّا الثَّاني: شربة العسل، وهي نوع من أنواع العلاج، وقد قال تعالى: ï´؟فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِï´¾ [النحل:69].
وأمَّا الثالث: فكيَّةٌ بنارٍ، والكيُّ علاج يعرفه المختصون به، ولكن إذا دخل فيه من لا يعرفه فإنَّه حينئذٍ لن يُحصِّل له نتيجة، فإنَّ العلاج بالكي له طرائق معيَّنة، وله مواضع محدَّدة، وله أحجام مخصَّصة، وبالتَّالي ليس كل واحد من الناس يعرف العلاج بالكي.
قال: «وَأَنَا أَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الكَيِّ»، يعني: أنا لا أرغبهم فيه، وإلَّا فقد ثبتَ أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كوى وأمر بالكيِّ كما في حديث جابر بعده، قال: (بَعَثَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى أُبيِّ بنِ كَعْبٍ طَبِـيْـبًا)، فهذا دليل على مشروعيَّة التَّدواي، وأنَّه لا يكون من الأحاديث الواردة أنَّ هناك مَن يدخلون الجنَّة بغير حسابٍ ولا عذاب، فقد وردَ في الصحيحين من حديث ابن عباس أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «يدخل من أمتي الجنة بغير حساب ولا عذاب سبعون ألفًا»، ثم بيَّنهم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: «هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون»، فقوله «لا يسترقون»، يعني: أنهم لا يطلبون الرقية، وليس المراد أنهم لا يفعلون الرقية، بل هم يرقون غيرهم، وإذا رقاهُم غيرهم مِن غيرِ طلب لم يُمانعوا من ذلك.
والمقصود هنا: أنَّ التَّداوي من الأمور الجائزة المباحة، ومن أنواع التَّداوي: قطع العروق متى رأى الطَّبيب أنَّ ذلك من طرائق العلاج جازَ استعماله، ومثله أيضًا الكي -على ما تقدَّم.
ثم أوردَ المؤلف حديثًا من رواية سَعيدِ بنِ عبدِ الرَّحْمَنِ الجُمَحِيِّ، وسعيد هذا قد تُكلِّمَ فيه وأنَّ عنده أوهام.
قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ احْتَجَمَ لِسَبْعَ عَشَرَةَ وتِسْعَ عَشَرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرينَ كَانَ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ»، كما تقدَّم أنَّ هذا الخبر فيه ضعفٌ كبيرٌ، وبالتَّالي لا يثبت عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم أورد حديث الْمُغيرَةِ بنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اكْتَوَى أَوِ اسْتَرْقَى فَقَدْ بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ»، هذا الخبر لأهل العلم فيه كلام من جهةِ صحة إسناده.
وقوله: «مَنِ اكْتَوَى»، أي: استعمل الكي في العلاج.
قوله: «أَوِ اسْتَرْقَى»، أي: طلب الرُّقية، وليس فيه النَّهي عن رقية الآخرين، وليس فيه الامتناع من أن يرقيه الآخرون؛ إنَّما الممنوع طلب الرُّقية.
قوله: «فَقَدْ بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ»، أي: برئ من أعلى درجات التَّوكُّل، والتَّوكُّل هو: تفويض الأمور إلى الله -جلَّ وعَلا- وليس من معنى التَّوكُّل ترك بذل الأسباب.
{قال -رحمه الله: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِنَّ فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلَّا السَّامُ». والسَّامُ: الْمَوْت. والحَبَّةُ السَّوْدَاءُ: الشُّونِيزُ.
وَعَنْ أُمِّ قَيسٍ بِنْتِ مِـحْصَنٍ أُخْتِ عُكَّاشَةَ قَالَتْ: دَخَلْتُ بِابْنٍ لي عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ فَبَالَ عَلَيْهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَرَشَّهُ، قَالَتْ: وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ بِابْنٍ لي قَدْ أَعْلَقْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُذْرَةِ، فَقَالَ: «عَلَامَهْ تَدْغَرْنَ أَوْلَادَكُنَّ بِهَذَا العِلاقِ؟ عَلَيْكُنَّ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ، فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ، مِنْهَا: ذَاتُ الْجَنْبِ يُسْعَطُ مِنَ الْعُذْرَةِ ويُلَدُّ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ».
وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ الْـخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: إِنَّ أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْقِهِ عَسَلًا»، فَسَقَاهُ، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: إِنِّي سَقَيْتُهُ عَسَلًا، فَلم يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ لَهُ -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ: «اسْقِهِ عَسَلًا»، فَقَالَ: لَقَدْ سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ اللهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ»، فَسَقَاهُ فَبَرَأَ. مُتَّفقٌ عَلَيْهَا، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ)}.
هذه ثلاثة أحاديث في طرائق علاج الأمراض.
أولها: ما يتعلَّق بالحبَّة السَّوداء، وهي ثمرة نبات صغيرة الحجم، وأصلها خضراء ثم تسودُّ إذا بقيَت، ولذلك يُسميها بعضهم الخضيراء، وبعضهم يُسميها الشُّونيز، وبعض الأطباء قال: إنَّها تزيدُ في مناعة البدنِ، وبالتَّالي تتمكَّن من تقوية البدن، بحيث لا تتمكَّن الأمراض من دخوله.
والإكثار من الحبة السوداء قد يكون له أثرٌ سيء على البدن، ولذلك ما يؤتَى منه إلَّا بنسبٍ قليلةٍ جدًّا.
ثم أورد المؤلف حديث أُمِّ قَيسٍ بِنْتِ مِـحْصَنٍ أُخْتِ عُكَّاشَةَ الذي قال فيه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سبقك بها عكاشة».
قَالَتْ: (دَخَلْتُ بِابْنٍ لي عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ)، أي: صغير.
قالت: (فَبَالَ عَلَيْهِ)، وضعته في حجر النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فبال عليه.
قالت: (فَدَعَا بِمَاءٍ فَرَشَّهُ)، فيه أنَّ بول الصبي الذَّكر الذي لم يأكل الطَّعام ليست نجاسته نجاسة مُغلظة؛ بل نجاسته نجاسة مخففة يكفي فيه النَّضح والرَّش.
قَالَتْ: (وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ بِابْنٍ لي قَدْ أَعْلَقْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْعُذْرَةِ)، العَذِرة: هي النجاسة الخارجة من البدن؛ لكن العُذَرة مرض وغالبًا ما يُصيب الصبيان، ويكون وجعٌ في الحلق وهناك ورم، وبالتَّالي يعلقون عليه شيء من أجل أن يزول هذا الورم، ومرة يُدخلن أصابعهن من أجل إزالة هذا الورم.
فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَامَهْ تَدْغَرْنَ أَوْلَادَكُنَّ بِهَذَا العِلاقِ؟»، يعني: ما السبب الذي جعلكن تضعن هذا الشيء الذي يُدخل في البدن من أجل أن تُرفع هذه العذرة؟
هم يُريدون أن يقف الدم الذي يخرج من هذا الورم، ويظنون أنَّ المرأة إذا وضعت أصبعها فرفعت هذه العذرة، فإنه حينئذٍ يُشفَى بإذن الله، فأرشدهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى دواءٍ آخر، فقال: «عَلَيْكُنَّ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ، فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ، مِنْهَا: ذَاتُ الْجَنْبِ»، ذات الجنب مرض يصيب الرئة، بحيث تعلق الرئة بعظام الصَّدر، وبالتَّالي يستعملون العود الهندي من أجل أن يكون سببًا من أسباب انفكاك الرئة عن عظام الصدر.
قال: «ذَاتُ الْجَنْبِ، يُسْعَطُ مِنَ الْعُذْرَةِ»، أي: أنَّ هذا علاج ثانٍ، فالعود الهندي يُستخدم لعلاج ذات الجنب، وكذلك أيضًا يستخدم في العذرة التي جاءت أم قيس بولدها مريضًا به.
والسَّعوط: ما يوضع في الأنف، فيجعلون الصبيان يشمونه وبالتَّالي لا يُصاب به.
قال: «ويُلَدُّ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ»، أي: أنَّ مريض ذات الجنب يُسقى بالعود الهندي لدودًا.
ثم أورد حديث أَبي سَعِيدٍ الْـخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: إِنَّ أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ؟)، أي: كان عنده إسهالٌ كثير.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْقِهِ عَسَلًا»، لعلَّ كان في بطنه شيء من الغَشش، وأراد أن يطهر ما في بطنه بالعسل.
قال: (فَسَقَاهُ، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: إِنِّي سَقَيْتُهُ عَسَلًا، فَلم يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ لَهُ -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ- ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْقِهِ عَسَلًا»، فَقَالَ: لَقَدْ سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ اللهُ»)، أي: عندما قال عن العسل: ï´؟فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِï´¾ [النحل:69].
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ»، أي: أنَّ هناك أشياء في البطن جعلته لم يستجب لهذا العلاج.
قال: (فَسَقَاهُ فَبَرَأَ)، بفضل الله -عزَّ وجَلَّ.
{قال -رحمه الله: (وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الرُّقْيَةِ مِنَ الْعَيْنِ، والحُمَةِ، والنَّمْلَةِ. رَوَاهُ مُسلمٌ.
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَأْمُرُنِي أَنْ أَسْتَرْقِيَ مِنَ الْعَيْنِ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الْعَيْنُ حَقٌّ، وَلَو كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرِ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ، وَإِذا استُغْسِلْتُم فَاغْسِلُوا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ)}.
هذه الأحاديث تتعلق بالعين وما ماثلها.
أولها: حديث أنس، قال: (رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، والتَّرخيص: هو الإباحة.
قال: (فِي الرُّقْيَةِ)، الرُّقية: قراءة وتعاويذ تُقال على المريض، والأصل فيها أن تكون بنفثٍ، وقد يكون هناك طرائق أخرى للرقية، وكما قلنا سابقًا: إنَّ طرائق العلاج لا يجب أن تكون منصوصة في الأدلَّة الشَّرعيَّة، وإنَّما تُعرف بطرائق التَّجربة، وقد قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اعرضوا عليَّ رقاكم، لا بأس بالرقية ما لم تكن شركًا».
قوله: (مِنَ الْعَيْنِ)، العين: أن يُصابَ شخصٌ بسببِ إعجاب غيره بما عنده من نعمٍ في بدنه أو في ماله بحيث يتعلَّق قلبه بذلك، ومَن كان مِن أهل العين فإنَّه يوصَى بأن يُكثر من ذكر الله -جلَّ وعَلا.
والرُّقية تنفع في علاج العين، وفي علاج الحمة، وهي لدغات الحيونات المسمومة، سواء العقارب، أو الحيَّات.
قال: «والنَّمْلَةِ»، وهو مرضٌ يكون فيه قروح تخرج من جنب الإنسان، فمثل هذا تنفع فيه الرقية.
ثم أورد حديث عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَأْمُرُنِي أَنْ أَسْتَرْقِيَ مِنَ الْعَيْنِ)، هذا الحديث استدلَّ به بعضهم على أنَّ طلب الرقية لا شيء فيه، والجمهور على أنَّ طلب الرقية ليس الحالة العليا.
والمعنى في هذا: أنَّ الشَّارع يتطلَّع إلى ألَّا يُطالب أهلُه الآخرين بشيء، فكلَّما حاولت أن تستغني بالله عن خلقه فهو أعلى لشأنك.
ثم أورد حديث ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- في صحيح مسلم، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الْعَيْنُ حَقٌّ»، أي: أنَّ إصابة النَّاس في أبدانهم أو أموالهم بسبب هذه العين من الأمور الحقَّة الصَّادقة التي لا تشكيك فيها.
قال: «وَلَو كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرِ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ»، يعني: لو قُدِّرَ أنَّ هناك أشياء تسبق القدر لسبقته العين.
والظاهر أنَّ العين نوعٌ من أنواع القدر، ولو كانت مُغيِّرة للقدر، كما أنَّ الزَّواج من القدر وإن كان سيؤدي إلى وجود الولد.
قال: «وَإِذا استُغْسِلْتُم فَاغْسِلُوا»، أي: إذا طلب الآخرون منكم أن تقدِّموا لهم غِسالةً تكون بعدَ وضوئكم ونحوه؛ فأعطوا أثر هذا الغَسل لمَن طلب الغسل منكم.
{قال -رحمه الله: (وَعَنْ ثَابتٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ اشتَكَيْتُ، فَقَالَ أَنَس: أَلا أَرْقِيكَ بِرُقْيَةِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: بلَى، قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ، مُذْهِبَ الْبَأْسِ اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شَافِيَ إِلَّا أَنْتَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا. رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَشْتَكَيْتَ؟ قَالَ: «نَعَمْ». فَقَالَ: بِسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيْكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ، أَوْ عَينِ حَاسِدٍ، اللهُ يُشْفِيكَ، بِسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ.
وَعَنْ عُثْمَانَ بنِ أَبي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ: أَنَّهُ شَكَى إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَألَّمَ مِنْ جَسَدِكَ، وَقُلْ: بِسِمِ اللهِ -ثَلَاثًا- وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدْ وَأُحَاذِرُ». رَوَاهُمَا مُسلمٌ.
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا- قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بالـمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ. جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ وأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْ يَدَيَّ. مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لمسلمٍ)}.
هذه أحاديث فيها شيء من طرائق التَّعامل مع المرضي، وليُعلَم أولًا أنَّ عيادة المرضى عبادة وعمل صالح، وقد ورد في الخبر أنَّ «الْمُسْلِمَ إِذَا عَادَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ» ، يعني: في ثمارها.
وقد جاء في الحديث أنَّ الله -عزَّ وجَلَّ- يقول للعبد يوم القيامة: «مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي. الَ : أَيْ رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قال: يَقُولُ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ وَجَدْتَنِي عِنْدَهُ» ، وكان النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحرص على عِيادة المرضى.
قال ثَابت: (قلتُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ)، وهو أنس بن مالك.
قوله: (اشتَكَيْتُ)، أي: مرضتُ.
فَقَالَ أَنَس: (أَلا أَرْقِيكَ بِرُقْيَةِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قَالَ: بلَى)، هنا أنس قام بالرقية ابتداءً.
قَالَ: «اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ»، يا الله يا مُنظِّمًا لأحوال النَّاس وقائمًا بشؤونهم.
قال: «مُذْهِبَ الْبَأْسِ»، أي: مُزيل جميع أنواع البأس من مرضٍ ونحوه.
قال: «اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي»، أي: أَنزل الشِّفاء.
قوله: «لَا شَافِيَ إِلَّا أَنْتَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا»، فيه إثبات أنَّ العلاج لا يُؤثِّر بنفسه، فهو له تأثير ولكن بإذن الله -جلَّ وعَلا.
ثم أورد حديث أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَشْتَكَيْتَ؟ قَالَ: «نَعَمْ»)، فيه جواز إخبار الإنسان عن بدنه وما فيه من الأمراض والشَّكوى، ولكن لا يُقال ذلك إلَّا لمَن يُرجَى أن يكون له أثرٌ في تخفيف ذلك، أو في إزالته، وأمَّا التَّكلُّم بالمصائب والشَّكوى أمام النَّاس فليس من الأمور المستحسنة.
فَقَالَ جبريل: «بِسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيْكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ، أَوْ عَينِ حَاسِدٍ، اللهُ يُشْفِيكَ، بِسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ»، الرُّقية -كما تقدم- نوعٌ من القراءةِ والنَّفثِ على المريض.
وقوله: «مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ، أَوْ عَينِ حَاسِدٍ، اللهُ يُشْفِيكَ، بِسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ»، مع طولِ هذه المدَّة احتاج إلى أن يدعو بمثل هذا الدُّعاء.
قال المؤلف: (وَعَنْ عُثْمَانَ بنِ أَبي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ: أَنَّهُ شَكَى إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ضَعْ يَدَكَ»)، هنا لم يُفرِّق بينَ اليُمنى واليُسرَى، والأولى أن يضع اليد اليُمنَى.
قال: «ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَألَّمَ مِنْ جَسَدِكَ»، أي: يوجد فيه ألم.
قال: «وَقُلْ: بِسِمِ اللهِ -ثَلَاثًا- وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدْ وَأُحَاذِرُ»، وقد وردَ عند النَّسائي أنَّ مَن قال ذلك لكان ذلك من أسباب علاجه.
والمعنى: ألتجئ إلى الله وقدرته من المرض.
ثم أورد حديث عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا- قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ)، أي: أصابه شيءٌ من الأمراض.
قالت: (نَفَثَ عَلَيْهِ بالـمُعَوِّذَاتِ)، أي: قرأ عليه المعوذات، وهي سورة الإخلاص والفلق والنَّاس؛ لأنَّه جمعها، والجمعُ يصدقُ على الثَّلاث، وفيه أنَّ من أولى ما يُقرأ المعوذات.
قالت: (فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ. جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ)، هنا لم يطلب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منها أن تقرأ عليه، وإنما ابتدأت عائشة بذلك. قالت: (وأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْ يَدَيَّ).
وهذا أواخر ما يتعلَّق بكتاب "المحرَّر" للحافظ العلامة أبي عبد الله محمد بن عبد الهادي المقدسي، المتوفى سنة سبعمائة وأربعٍ وأربعين من الهجرة، أسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يُوفقنا وإياكم لكل خير، وأن يجعلنا وإياكم من الهُداة المهتدين، كما أسأله -جلَّ وعَلا- صلاحًا لنيَّاتنا، ورفعةً لشأننا، وعلوًّا لمنازلنا، وقضاءً لحوائجنا، وكما أسأله -جلَّ وعَلا- ألَّا يحرمكم الأجر والثواب فيما سمعتموه، وفيما قرأتموه، وفيما كتبتموه، بارك الله فيكم جميعًا.
كما أشكر أخي فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن أحمد العمر، بارك الله فيه على حسن تقديمه في هذا اللقاء، وفي اللقاءات السابقة، وأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يهبه العلم النَّافع، والعمل الصالح، كما أشكر إخواني ممن يرتب هذه اللقاءات من خلفِ هذه الشاشات، وفي مُقدمتهم الدكتور راشد والأخ سعيد وبقية الإخوة؛ جزاهم الله خيرًا وبارك فيهم، وأسبغَ عليهم نِعمه.
كما أسأل الله -جلَّ وعَلا- لجميع المسلمين اجتماعًا لكلمتهم، وتآلفًا بينَ قلوبهم، ورغدًا في عيشهم، وصلاحًا في أحوالهم، وأسأله -جلَّ وعَلا- لولاة أمور المسلمين التَّوفيق لكل خير، وأن يكونوا من أسباب الهُدَى والتُّقَى والصَّلاح والسَّعادة، كما أسأله -جلَّ وعَلا- أن يوفِّق خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لكل خير، وأن يجعلهم من أسباب الهدى والتَّقى، وأن يجزيهم على ما يقومون به من أعمالٍ صالحةٍ في عمارة الحرمين، وفي خدمة ضيوف الرحمن، وفي نشر دين الإسلام، وفي الوقوف مع قضايا المسلمين، جزاهم الله خير الجزاء، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي ختامِ هذا الفصل المبارك أشكركم معالي الشيخ على ما تُقدِّمونه، أسأل الله أن يجعله في موازين حسناتكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.