مشاهدة النسخة كاملة : {}{}{}الانبياء و الرسل عليهم السلام (ابراهيم عليه السلام){}{}{}
boulboul
2007-10-12, 00:03
هو ابراهيم بن تارخ بن ناحور بن ساروغ بن راعو بن فالغ بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام.
وروى ابن عساكر من غير وجه عن عكرمة أنه قال: كان ابراهيم عليه السلام يكنى أبا الضيفان. قالوا ولما كان عمر تارخ خمساً وسبعين سنة ولد له ابراهيم عليه السلام وناحور وهاران وولد لهاران لوط. وعندهم أن ابراهيم عليه السلام هو الأوسط وأن هاران مات في حياة أبيه في أرضه التي ولد فيها وهي أرض الكلدانيين (يعنون أرض بابل). وهذا هو الصحيح المشهور عند أهل السير والتواريخ والأخبار. صحح ذلك الحافظ ابن عساكر بعد ما روي من طريق هشام بن عمار بن الوليد عن سعيد بن عبدالعزيز عن مكحول عن ابن عباس قال ولد ابراهيم بغوطة دمشق في قرية يقال لها برزة في جبل يقال له قاسيون. ثم قال والصحيح أنه ولد ببابل وإنما نسب إليه هذا المقام لأنه صلى فيه إذ جاء معيناً للوط عليه السلام. قالوا فتزوج ابراهيم سارة وناحور ملكاً ابنة هاران (يعنون بابنة أخيه) قالوا وكانت سارة عاقراً لا تلد قالوا وانطلق تارخ بابنه ابراهيم وامرأته سارة وابن أخيه لوط بن هاران فخرج بهم من أرض الكلدانيين إلى أرض الكنعانيين فنزلوا حران فمات فيها تارخ وله مئتان وخمسون سنة وهذا يدل على أنه لم يولد بحران وإنما مولده بأرض الكلدانيين (وهي بلاد بيت المقدس) فأقاموا بحران (وهي أرض الكشدانيين في ذلك الزمان وكذلك أرض الجزيرة والشام أيضاً) وكانوا يعبدون الكواكب السبعة والذين عمروا مدينة دمشق كانوا على هذا الدين يستقبلون القطب الشمالي ويعبدون الكواكب السبعة بأنواع من الفعال والمقال ولهذا كان على كل باب من أبواب دمشق السبعة القديمة هيكل لكوكب منها ويعملون لها أعياداً وقرابين. وهكذا كان أهل حران يعبدون الكواكب والأصنام وكل من كان على وجه الأرض كانوا كفار سوى ابراهيم الخليل وامرأته وابن أخيه لوط عليهم السلام وكان الخليل عليه السلام هو الذي أزال الله به تلك الشرور وأبطل به ذاك الضلال فإن الله سبحانه وتعالى أتاه رشده في صغره وابتعثه رسولاً واتخذه خليلاً في كبره قال تعالى (ولقد آتينا ابراهيم رشده من قبل وكنا بهعالمين) أي كان أهلا بذلك.
ثم ذكر تعالى مناظرته لأبيه وقومه وكان أول دعوته لأبيه وكان أبوه ممن يعبد الأصنام لأنه أحق الناس بإخلاص النصيحة له، كما قال تعالى (واذكر في الكتاب ابراهيم إنه كان كان صديقاً نبياً. إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً).
فذكر تعالى ما كان بينه وبين أبيه من المحاورة والمجادلة وكيف دعا أباه إلى الحق بألطف عبارة وأحسن إشارة بين له بطلان ما هو عليه من عبادة الأوثان التي لا تسمع دعاء عابدها ولا تبصر مكانه فكيف تغني عنه شيئاً أو تفعل به خيراً من رزق أو نصر. ثم قال منبها على ما أعطاه الله من الهدى والعلم النافع وإن كان أصغر سناً من أبيه: (يا أبت إنه قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهك صراطاً سوياً) أي مستقيماً واضحاً سهلاً حنيفاً يفضي بك إلى الخير في دنياك وأخراك فلما عرض على هذا الرشد عليه وأهدى هذه النصيحة إليه لم يقبلها منه ولا أخذها عنه بل تهدده وتوعده قال: (أراغب أنت عن آلهتي يا ابراهيم لئن لم تنته لأرجمنك) قيل بالمقال وقيل بالفعال (واهجرني مليا) أي واقطعني وأطر هجراني فعندها قال له ابراهيم: (سلام عليك) أي لا يصلك مني مكروه ولا ينالك مني أذى بل أنت سالم من ناحيتي وزاده خيراً فقال: (سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا).
قال ابن عباس وغيره أي لطيفاً يعني في أن هداني لعبادته والإخلاص له ولهذا قال: (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا). وقد استغفر له ابراهيم عليه السلام كما وعده في أدعيته فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه كما قال تعالى: (وما كان استغفار ابراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن ابراهيم لأواه حليم).
وقال البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يلقى ابراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول له ابراهيم ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول له أبوه فاليوم لا أعصيك فيقول ابراهيم يا رب إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون وأي خزي أخزى من أبي الابعد؟ فيقول الله: إني حرمت الجنة على الكافرين. ثم يقال يا ابراهيم ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا هو بذبح متطلخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار. هكذا رواه في قصة ابراهيم منفرداً.
وقيل في التفسير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : بنحوه وقال تعالى: (وإذ قال ابراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة إني اراك وقومك في ضلال مبين) هذا يدل على أن اسم أبي ابراهيم آزر. وجمهور أهل النسب منهم ابن عباس على أن اسم أبيه تارح. وأهل الكتاب يقول تارخ بالخاء المعجمة فقيل أنه لقب بصنم كان يعبده اسمه آزر.
وقال ابن جرير والصواب أن اسمه آزر ولعل له اسمان علمان أو أحدهما لقب والآخر علم. وهذا الذي قاله محتمل. والله أعلم ثم قال تعالى: (وكذلك نري ابراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من المقونين. فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين. فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين. وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء الله ربي شيئاً وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون. الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون. وتلك حجتنا آتيناها ابراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم) وهذا المقام مقام مناظرة لقومه وبيان لهم أن هذه الأجرام المشاهدة من الكواكب النيرة لا تصلح للألوهية ولا أن تعبد مع الله عزوجل لأنها مخلوقة مربوبة مصنوعة مدبرة مسخرة تطلع تارة وتأفل أخرى فتغيب عن هذا العالم والرب تعالى لا يغيب عنه شيء ولا تخفى عليه خافية بل هو الدائم الباقي بلا زوال لا إله إلا هو ولا رب سواه فبين لهم أولاً عدم صلاحية الكواكب قيل هو الزهرة لذلك ثم ترقى منها إلى القمر الذي هو أضوأ منها وأبهى منها حسناً. ثم ترقى إلى الشمس التي هي أشد الأجرام المشاهدة ضياء وسناء وبهاء فبين أنها مسخرة مقدرة مربوبة.
(قال أتعبدون ما تنحتون. والله خلقكم وما تعلمون. قالوا ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم. فأرادوا به كيداً فجعلناهم الأسفلين) يخبر الله تعالى عن ابراهيم خليله عليه السلام أنه أنكر على قومه عبادة الأوثان وحقرها عندهم وانتقصها فقال: (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) أي معتكفون عندها. وخاضعون لها. قالوا: (وجدنا آباءنا لها عابدين) ما كان حجتهم إلا صنيع الآباء والأجداد وما كانوا عليه من عبادة الأنداد (قال لقد كنتم وآباؤكم في ضلال مبين) كما قال تعالى: (إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون. أئفكا آلهة دون الله تريدون. فما ظنكم برب العالمين). وقال لهم (هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون. قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) سلموا له أنها لا تسمع دعيا ولا تنفع ولا تضر شيئاً وإنما الحامل لهم على عبادتها الاقتداء بأسلافهم ومن هو مثلهم في الضلال من الآباء الجهال ولهذا قال لهم: (أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين) وهذا برهان قاطع على بطلان إلهية ما ادعوه من الأصنام لأنه تبرأ منها وتنقص بها فلو كانت تضر لضرته أو تؤثر لأثرت فيه (قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين) يقولون هذا الكلام الذي تقوله لنا وتنتقص به آلهتنا وتطعن بسببه في آبائنا تقوله محقاً جاداً فيه أم لاعباً (قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين) يعنيك بل أقول لكم ذلك جاداً محقاً وإنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو ربكم ورب كل شيء فاطر السموات والأرض الخالق لهما على غير مثال سبق فهو المستحق للعبادة وحده لا شريك له وأنا على ذلكم من الشاهدين. وقوله (وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين) أقسم أنه قال هذا خفية في نفسه. وقال ابن مسعود: سمعه بعضهم وكان لهم عيد يذهبون إليه في كل عام مرة إلى ظاهر البلد فدعاه أبوه ليحضره فقال: إني سقيم كما قال تعالى: (فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم) عرض لهم في الكلام حتى توصل إلى مقصوده من إهانة أصنامهم ونصرة دين الله الحق في بطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام التي تستحق أن تكسر وأن تهان غاية الإهانة. فلما خرجوا إلى عديهم واستقر هو في بلدهم: (راغ إلى ألهتهم) أي ذهب إليها مسرعاً مستخفياً فوجدها في بهو عظيم وقد وضعوا بين أيديها أنواعاً من الأطعمة قرباناً إليها (فقال) لها على سبيل التهكم والازدراء (ألا تأكلون. مالكم لا تنطقون. فراغ عليهم ضرباً باليمين) لأنها أقوى وأبطش وأسرع وأقهر، فكسرها بقدوم في يده كما قال تعالى (فجعلهم جذاذا) أي حطاماً كسرها كلها (إلا كبيراً لهم لعلهم يرجعون) قيل: أنه وضع القدوم في يد الكبير إشارة إلى أنه غار أن تعبد معه هذه الضغار فلما رجعوا من عيدهم ووجدوا ما حل بمعبودهم: (قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين).
وهذ فيه دليل ظاهر لهم لو كانوا يعقلون،وهو ما حل بآلهتهم التي كانوا يعبدونها فلو كانت آلهة لدفعت عن أنفسها من أرداها بسوء لكنهم قالوا من جهلهم وقلة عقلهم وكثرة ضلالهم وخيالهم: (من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين. قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له ابراهيم) أي يذكرها بالعيب والتنقص لها والازدراء بها فهو المقيم عليها والكاسر لها.
وعلى قول ابن مسعود: أي يذكرهم بقوله وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين: (قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون) أي في الملأ الأكبر على رؤوس الاشهاد لعلهم يشهدون مقالته ويسمعون كلامه ويعاينون ما يحل به من الاقتصاص منه وكان هذا أكبر مقاصده عليه السلام أن يجتمع الناس كلهم فيقيم على على جميع عباد الأصنام لحجة على بطلان ما هم عليه. فلما اجتمعوا وجاءوا به كما ذكروا: (قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم. قال بل فعله كبيرهم هذا) قيل: معناه هو الحامل لي على تكسيرها وإنما عرض لهم في القول: (فاسألوهم إن كانوا ينطقون) وإنما أراد بقوله هذا أن يبادروا إلى القول بأن هذه لا تنطق فيعترفوا بأنها جماد كسائر الجمادات. (فرجعوا 'لى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون) فعادوا على أنفسهم بالملامة فقالوا: إنكم أنتم الظالمون في تركها لا حافظ لها ولا حارس عندها (ثم نكسوا على رؤوسهم) قال السدى: أي ثم رجعوا إلى الفتنة. فعلى هذا يكون قوله (إنكم أنتم الظالمون) أي في عبادتها. وقال قتادة: أدركت القوم حيرة سوء أي فأطرقوا ثم قالوا: (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) أي لقد علمت يا ابراهيم أن هذه لا تنطق فكيف تأمرنا بسؤالها؟ فعند ذلك قال لهم الخليل عليه السلام (أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم، أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون) كما قال (فأقبلوا إليه يزفون) قال مجاهد: يسرعون. قال: (أتعبدون ما تنحتون) أي كيف تعبدون أصناماً أنتم تنحتونها من الخشب والحجارة وتصورونها وتشكلونها كما تريدون (والله خلقكم وما تعلمون) وسواء كانت ما مصدرية أو بمعنى الذي فمقتضى الكلام: أنكم مخلوقون، هذه الأصنام مخلوقة فكيف يعبد مخلوق لمخلوق مثله؟ فإنه ليس عبادتكم لها بأولى من عبادتها لكم وهذا باطل فالآخر باطل للتحكم إذ ليست العبادة تصلح ولا تجب إلا للخالق وحده لا شريك له (قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم. فأرادوا به كيداً فجعلناهم الأسفلين) عدلوا عن الجدال والمناظرة لما انقطعوا وغلبوا ولم تبق لهم حجة ولا شبهة إلا استعمال قوتهم وسلطانهم لينصروا ما هم عليه من سفههم وطغيانهم. فكادهم الرب جل جلاله وأعلى كلمته ودينه وبرهانه، كما قال تعالى: (قالوا احرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين. قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على ابراهيم وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين) وذلك أنهم شرعوا يجمعون حطباً من جميع ما يمكنهم من الأماكن، فمكثوا مدة يجمعون له، حتى أن المرأة منهم كانت إذا مرضت تنذر: لئن عوفيت لتحملن حطباً لحريق ابراهيم. ثم عمدوا إلى جوبة (حفرة) عظيمة فوضعوا فيها ذلك الحطب، اطلقوا فيه النار، فاضطرمت وتأججت والتهبت وعلا لها شرر لم ير مثله قط، ثم وضعوا ابراهيم عليه السلام في كفة منجنيق صنعه لهم رجل من الأكراد يقال له: هزن.وكان ظاول من صنع المجانيق، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل (يظل كذلك) فيها إلى يوم القيامة. ثم أخذوا يقيدونه ويكتفونه وهو يقول: لا إله إلا أنت سبحانك، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك.
وضع الخليل عليه السلام في كفة المنجنيق مقيداً مكتوفاً ثم ألقوه منه إلى النار قال: حسبنا الله ونعم الوكيل. كما روى البخاري عن ابن عباس أنه قال: حسبنا الله ونعم الوكيل. قالها ابراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قيل له: (إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء) آل عمران 173 - 174.
عن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم ولما ألقي ابراهيم في النار قال: اللهم إنك في السماء واحد وأنا في الأرض واحد أعبدك).
وذكر بعض السلف: أن جبريل عرض له في الهواء فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا. ويروى عن ابن عباس وسعيد بن جبير أنه قال: جعل ملك المطر يقول: متى أومر فأرسل المطر؟ فكان أمر الله أسرع: (قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على ابراهيم) الأنبياء 69. قال علي بن أبي طالب: أي لا تضريه. وقال ابن عباس وأبو العالية: لولا أن الل قال: (وسلاماً على ابراهيم) لأذى ابراهيم بردها. وقال كعب الأحبار: لم ينتفع أهل الأرض يومئذ بنار، ولم يحرق منه سوى وثاقه. وقال الضحاك: يروى أن جبريل عليه السلام كان معه يمسح العرق عن وجهه لم يصبه منها شيء غيره، وقال السدى: كان معه أيضاً ملك الظل. وصار ابراهيم عليه السلام في ميل الجوبة، حوله النار،وهو في روضة خضراء والناس ينظرون إليه. لا يقدرون على الوصول إليه، ولا هو يخرج إليهم فعن أبي هريرة أنه قال: أحسن كلمة قالها أبو ابراهيم إذ قال لما رأى ولده على تلك الحال: نعم الرب ربك يا ابراهيم. وروى ابن عساكر عن عكرمة: أن أم ابراهيم نظرت إلى ابنها عليه السلام فنادته: يا بني، إني أريد أن أجيء إليك، فادع الله أن ينجيني من حر النار حولك. فقال: نعم. فأقبلت إليه لا يمسها شيء من حر النار، فلما وصلت إليه عانقته وقبلته ثم عادت. وعن المنهال بن عمرو أنه قال: أخبرت أن ابراهيم مكث هناك إما أربعين وإما خمسين يوماً، وأنه قال: ما كانت أياماً وليالي أطيب عيشاً وإذ كنت فيها، ووددت أن عيشي وحياتي كلها مثل إذ كنت فيها، صلوات الله وسلامه عليه. فأرادوا أن ينتصروا فخذلوا، وأرادوا أن يرتفعوا فاتضعوا، وأرادوا أن يغلبوا فغلبوا، قال الله تعالى: (وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين) وفي الآية الأخرى (الأسفلين) ففازوا بالخسارة والسفال، هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فإن نارهم لا تكون عليهم برداً ولا سلاماً، ولا يلقون فيها تحية ولا سلاماً، بل هي كما قال تعالى: (إنها ساءت مستقراً ومقاماً) الفرقان 69.
قال البخاري: حدثنا عبدالله بن موسى أو ابن سلام عنه أنبأنا ابن جريج عن عبدالحميد بن جبير عن سعيد بن المسيب عن أم شريك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ (البرص) عن سمامة مولاة الفاكه بن المغيرة قالت: دخلت على عائشة فرأيت في بيتها رمحاً موضوعاً، فقلت: يا أم المؤمنين ما تصنعين بهذا الرمح؟ قالت: هذا لهذه الأوزاغ نقتلهن به، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا: أن ابراهيم حين ألقي في النار لم يكن في الأرض من دابة إلا تطفئ عنه النار، غير الوزغ كان ينفخ عليه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله.
boulboul
2007-10-12, 00:04
قال الله تعالى: (ألم تر إلى الذي حاج ابراهيم في ربه) البقرة 258 يذكر الله تعالى مناظرة خليله مع هذا الملك الجبار المتمرد الذي ادعى لنفسه الربوبية، فأبطل الخليل عليه السلام دليله، وبين كثرة جهله وقلة عقله وألجمه الحجة وأوضح له طريق المحجة.
قال المفسرون وغيرهم من علماء النسب والأخبار: وهذا الملك هو ملك بابل، واسمه النمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح. قال مجاهد وغيره: وكان أحد ملوك الدنيا، فإنه قد ملك الدنيا فيما ذكروا أربعة: مؤمنان، وكافران. فالمؤمنان: ذو القرنين، وسليمان والكافران: النمرود، وبختنصر. وذكروا أن نمرود هذا استمر في ملكه طويلاً، وكان قد طغى وتجبر وعتا وآثر الحياة الدنيا، ولما دعاه ابراهيم الخليل إلى عبادة الله وحده لا شريك له حمله الجهل والضلال وطول الآمال على انكار الصانع، فحاج ابراهيم الخليل في ذلك، وادعى لنفسه الربوبية، فلما قال الخليل: ربي الذي يحيي ويميت. قال: أنا أحيي وأميت.
قال قتادة والسدى ومحمد بن إسحاق: يعني أنه إذا أتى بالرجلين قد تحتم قتلهما، فإذا أمر بقتل أحدهما وعفا عن الآخر، فإنه قد أحيا وأمات الآخر. وهذا ليس بمعارضة الخليل، بل هو كلام خارجي عن مقام المناظرة، ليس بمنع ولا بمعارضة، بل هو تشغيب محض، وهو انقطاع الحقيقة، فإن الخليل استدل على وجود الصانع بحدوث هذه المشاهدات من إحياء الحيوانات وموتها على وجود فاعل ذلك الذي لا بد من استنادها إلى وجوده ضرورة عدم قيامها بنفسها، ولابد من فاعل لهذه الحوادث المشاهدة من خلقها وتسخيرها، وتسيير هذه الكواكب والرياح والسحاب والمطر وخلق هذه الحيوانات التي توجد مشاهدة ثم إماتتها، ولهذا (قال ابراهيم ربي الذي يحيي ويميت) فقول هذا الملك الجاهل: أنا أحيي وأميت، إن عنى أنه الفاعل لهذه المشاهدة فقد كابر وعاند، وإن عنى ما ذكره قتادة والسدى ومحمد بن إسحاق فلم يقل شيئاً يتعلق بكلام الخليل، إذ لم يمنع مقدمة ولا عارض الدليل.
ولما كان انقطاع مناظرة هذا الملك قد تختفي على كثير من الناس ممن حضره وغيرهم، ذكر دليلاً آخر بين وجود الصانع وبطلان ما ادعاه النمرود وانقطاعه جهرة: (قال فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) أي هذه الشمس مسخرة كل يوم تطلع من المشرق كما سخرها خالقها ومسيرها وقاهرها، وهو الله الذي لا إله إلا هو خالق كل شيء، فإن الذي يحيي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء ولا يمانع ولا يغالب، بل قد قهر كل شيء ودان له كل شيء، فإن كنت كما تزعم فافعل هذا، فإن لم تفعله فلست كما زعمت، وأنت تعلم وكل واحد أنك لا تقدر على شيء من هذا، بل أنت أعجز وأقل من أن تخلق بعوضة أو تنصر منها. فبين ضلاله وجهله وكذبه فيما ادعاه، وبطلان ما سلكه وتبجح به عند جهلة قومه، ولم يبق له كلام يجيب الخليل به، بل امتنع وسكت لهذا قال: (فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين).
وقد ذكر السدى: أن هذه المناظرة كانت بين ابراهيم وبين النمرود يوم خرج من النار ولم يكن اجتمع به يومئذ فكانت بينهما هذه المناظرة. وقد روى عبدالرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم: أن النمرود كان عنده طعام، وكان الناس يفدون إليه للميرة (الطعام) فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة، فكان بينهما هذه المناظرة، ولم يعط ابراهيم ممن الطعام كما أعطي الناس. بل خرج وليس معه شيء من الطعام، فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب من التراب فملأ من عدليه (حمل الجمل) وقال: أشغل أهلي إذا قدمت عليهم، فلما قدم وضع رحاله، وجاء فاتكأ فنام، فقامت امرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما مملوءين طعاماً طيباً فعملت منه طعاماً، فلما استيقظ ابراهيم وجد الذي قد أصلحوه، فقال: أنى لكم هذا؟ قالت: من الذي جئت به، فعرف أنه رزق قد ساقه الله عزوجل لهم.
قال الله تعالى: (فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم. ووهبنا اسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتينا أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين) العنكبوت 26 - 27. لما هجر ابراهيم قومه في الله وهاجر من بين أظهرهم، وكانت امرأته عاقر لا يولد لها، ولم يكن له من الولد أحد، بل معه ابن أخيه لوط بن هاران بن آزر، وهبه الله تعالى بهد ذلك الأولاد الصالحين، وجعل في ذريته النبوة والكتاب، فكل نبي بعث بعده فهو من ذريته، وكل كتاب نزل من السماء على نبي من الأنبياء من بعده فعلى أحد نسله وعقبه، خلعة من الله، وكرامة له حين ترك بلاده وأهله وأقرباءه وهاجر إلى بلد يتمكن فيها من عبادة ربه عزوجل ودعوة الخلق إليه، والأرض التي قصدها بالهجرة أرض الشام، وهي التي قال الله عزوجل (إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) قال أبي بن كعب العالية وقتادة وغيرهم، وروى العوفي عن ابن عباس قوله: (إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين): مكة، ألم تسمع قوله: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين) آل عمران: 96. وزعم كعب الأحبار أنها حران، وأنه خرج من أرض بابل هو وابن أخيه لوط وأخوه ناحور وامرأة ابراهيم سارة وامرأة أخيه ملكا، فنزلوا حرام، فمات تارح أبو ابراهيم بها.
وقال السدي: انطلق ابراهيم ولوط قبل الشام فلقى ابراهيم سارة، وهي ابنة ملك حران، وقد طعنت على قومها في دينهم فتزوجها على أن لا يغيرها. والمشهور: أنها ابنة عمه هاران الذي تنسب إليه حران. ومن زعم أنها ابنة أخيه هاران أخت لوط (كما حكاه السهيلي عن القتيبي والنقاش) فقد أبعد النجعة، وقال بلا علم وادعى أن تزويج بنت الأخ كان إذ ذاك مشروعاً، فليس له على ذلك دليل. ولو فرض أن هذا كان مشروعاً في وقت كما هو منقول، فإن الأنبياء لا تفعله. ثم المشهور أن ابراهيم عليه السلام لما هاجر من بابل خرج بسارة مهاجراً من بلاده كما تقدم. وذكر: أنه لما قدم الشام أوحى الله إليه إني جاعل هذه الأرض لخلفك من بعدك، فابتنى ابراهيم مذبحاً لله شكراً على هذه النعمة. وضرب قبته شرقي بيت المقدس، ثم انطلق مرتحلاً إلى التيمن، وأنه كان جوع (أي قحط وشدة وغلاء) فارتحلوا إلى مصر، وذكروا قصة سارة مع ملكها، وأن ابراهيم قال لها: قولي: أنا أخته، وذكروا إخدام الملك إياها هاجر ثم إخراجهم منها، فرجعوا إلى بلاد التيمن (يعني أرض بيت المقدس وما والاها) ومعه دواب وعبيد وأموال.
عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في كلمات ابراهيم الثلاث التي قال ما منها كلمة إلا ما حل بها عن دين الله: فقال: إني سقيم، وقال: بل فعله كبيرهم هذا، وقال: للملك حين أراد امرأته: هي أخته. فقوله في الحديث: هي أختي، أي في دين الله وقوله لها: إنه ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، يعني زوجين مؤمنين غيري وغيرك ويتعين حمله على هذا. لأن لوطاً كان معهم وهو نبي عليه السلام. وقوله لها لما رجعت: إلهي مهيم (مهناه: ما الخبر؟) فقال: إن الله رد كيد الكافرين. وفي رواية الفاجر وهو الملك وأخدام جارية. وكان ابراهيم عليه السلام من وقت ذهب بها إلى الملك قام يصلي لله عزوجل، ويسأله أن يدفع عن أهله، وأن يرد بأس هذا الذي أراد أهله بسوء، وهكذا ودعت الله عزوجل بما تقدم من الدعاء العظيم، ولهذا قال تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة) البقرة 45. فعصمها الله وصانها، لعصمة عبده ورسوله وحبيبه وخليله ابراهيم عليه السلام.
ثم إن الخليل عليه السلام رجع من بلاد مصر إلى أرض التيمن، وهي الأرض المقدسة التي كان فيها ومعه أنعام وعبيد ومال جزيل، وصحبتهم هاجر القبطية المصرية.
نزح لوط عليه السلام بما له من الأموال الجزيلة بأمر الخليل له في ذلك أرض الغور المعروف بغور زغر، فنزل بمدينة سدوم، وهي أم تلك البلاد في ذلك الزمان، وكان أهلها أشراراً كفاراً فجاراً وأوحى الله تعالى إلى ابراهيم الخليل فأمره أن يمد بصره وينظر شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، وبشره بأن هذه الأرض كلها سأجعلها لك ولخلفك إلى آخر الدهر، وسأكثر ذريتك حتى يصيروا بعدد تراب الأرض. وهذه البشارة اتصلت بهذه الأمة، بل ما كملت ولا كانت أعظم منها في هذه الأمة المحمدية، يؤيد ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله زوى طوى إلى الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى له منها). قالوا: ثم إن طائفة من الجبارين تسلطوا على لوط عليه السلام فأسروه وأخذوا أمواله واستاقوا نعامه، فلما بلغ الخبر ابراهيم الخليل سار إليهم في ثلاثمائة وثمانية عشر رجلاً، فاستنقذ لوطاً عليه السلام استرجع أمواله وقتل من أعداء الله ورسوله خلقاً كثيراً وهزمهم، وساق في آثارهم حتى وصل إلى شرقي دمشق وعسكر بظاهرها عند برزة، وأظن مقام ابراهيم إنما سمي لأنه كان موقف جيش الخليل والله أعلم.
ثم رجع مؤيداً منصوراً إلى بلاده، وتلقاه ملوك بلاد بيت المقدس معظمين له مكرمين خاضعين، واستقر ببلاده، صلوات الله وسلامه عليه.
قال أهل الكتاب: أن ابراهيم عليه السلام سأل الله ذرية طيبة، وأن الله بشره بذلك وأنه لما كان ابراهيم ببلاد بيت المقدس عشرون سنة قالت سارة لإبراهيم عليه السلام: إن الرب قد حرمني الولد، فادخل على أمتي هذه لعل الله يرزقني منها ولداً. فلما وهبتها له، دخل بها ابراهيم عليه السلام، فخين دخل بها حملت منه قالوا: فلما حملت ارتفعت نفسها وتعاظمت على سيدتها، فغارت منها سارة، فشكت ذلك إلى ابراهيم، فقال لهاك افعلي بها ما شئت، فخافت هاجر، فهربت، فنزلت عند عين هناك، فقال لها ملك من الملائكة: لا تخافي فإن الله جاعل من هذا الغلام الذي حملت خيراً، وأمرها بالرجوع، وبشرها أنها ستلد ابناً وتسميه اسماعيل، ويكون وحش الناس، يده على الكل ويد الكل به، ويملك جميع بلاد اخوته، فشكرت الله عزوجل على ذلك. وهذه البشارة إنما انطبقت على ولده محمد صلوات الله وسلامه عليه، فإنه الذي سادت به العرب، وملكت جميع البلاد غرباً وشرقاً، وأتاها الله من العلم النافع والعمل الصالح ما لم تؤت أمة من الأمم قبلهم، وما ذاك إلا بشرف رسولها على سائر الرسل، وبركة رسالته، ويمن بشارته، وكماله فيما جاد به، وعموم بعثته لجميع أهل الأرض. ولما رجعت هاجر وضعت اسماعيل عليه السلام. قالوا: وولدته ولإبراهيم من العمر ست وثمانون سنة، قبل مولد اسحاق بثلاث عشرة سنة. ولما ولد اسماعيل أوحى الله إلى ابراهيم يبشره باسحاق من سارة، فخر لله ساجداً وقال لهك قد استجبت لك في اسماعيل وباركت عليه وكثرته ونميته، جداً كثيراً، ويولد له اثنا عشر عظيماً واجعله رئيساً لشعب عظيم. وهذه أيضاً بشارة بهذه الأمة العظيمة وهؤلاء الإثنا عشر عظيماً هم الخلفاء الراشدون الإثنا عشر المبشر بهم في حديث عبد الملك بن عمير: عن جابر بن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يكون إثنا عشر أميراً) ثم قال كلمة لم أفهمها، فسألت أبي: ما قال؟ قال: (كلهم من قريش) أخرجاه في الصحيحين. وفي رواية: (لا يزال هذا الأمر قائماً - وفي رواية عزيزاً - حتى يكون إثنا عشر خليفة كلهم من قريش. فهؤلاء منهم الأئمة الأربعة أبوبكر وعمر وعثمان وعلي، ومنهم: عمر بن عبدالعزيز أيضاً، ومنهم: بعض بني العباس.
والمقصود: أن هاجر عليها السلام لما ولد لها اسماعيل اشتدت غيرة سارة منها، وطلبت الخليل أن يغيب وجهها عنها، فذهب بها وبولدها فسار بهما حتى وضعهما حيث مكة اليوم. ويقال: أن ولدها كان آنذاك رضيعاً، فلما تركهما هناك وولى ظهره عنهما قامت إليه هاجر وتعلقت بثيابه، وقال: يا ابراهيم أين تذهب وتدعنا ههنا وليس معنا ما يكفينا؟ فلم يجبها.
فلما ألحت هاجر عليه وهو لا يجيبها قالت له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: فإذاً لا يضيعنا. وقد ذكر الشيخ أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله في كتاب النوادر: أن سارة غضبت على هاجر، فحلفت لتقطعن ثلاثة أعضاء منها، فأمرها الخليل أن تثقب أذنيها، وأن تخفضها (تختنها)، فتبر قسمها. قال السهيلي: فكانت أول من اختتن من النساء، وأول من ثقبت أذنها منهن، وأول من طوت ذيلها.
قال الختياني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم اسماعيل اتخذت منطقاً لتعفى اثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبإبنها اسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفى ابراهيم منطلقاً، فتبعته أم اسماعيل، فقال: يا ابراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها. فقالت له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم قالت: إذا لا يضيعنا ثم رجعت، فانطلق ابراهيم، حتى إذا كان عند الثنية - حيث لا يرونه - استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) ابراهيم 37. وجعلت أم اسماعيل ترضع اسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت، وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى - أو قال يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي وفعت طرف ذراعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى إذا جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحداً فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات. قال لبن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم (فلذلك سعى الناس بينهما). فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت: صه تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت أيضاً فقالت: قد أسمعت! إن كان عندك غواث؟ فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماء، فجعلت تخوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو تفور بعدما تغرف. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم (يرحم الله أم اسماعيل لو تركت زمزم) أو قال (لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً) (معن الماء سهل وسال) فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملاك: لا تخافي الضيعة، فإن ههنا بيت الله يبني هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله. وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، فكانت كذلك، حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم. مقبلين من طريق كذا، فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائراً عائفاً، فقالوا إن هذا الطائر ليدور على الماء لعهدنا بهذا الوادي وفيه ماء فأرسلوا جرياً (رسولاً) أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا. قال: وأم اسماعيل عند الماء. وقالوا: تأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء. قالوا: نعم. قال عبدالله بن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم فألقى ذلك أم اسماعيل، وهي تحب الإنس، فنزلوا، وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه إمرأة منهم.
ماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوج اسماعيل يطالع تركته فلم يجد اسماعيل، فسأل إمرأته، فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيشهم هيأتهم؟ فقالت: نحن بشر في ضيق وشدة وشكت إليه. قال: فإذا جاء زوجك اقرأي عليه السلام وقولي له: يغير عتبة بابه. فلما جاء اسماعيل كأنه آنس شيئاً، فقال: هل جاءكم من أحد؟ فقالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنه فأخبرته، وسألني كيف عيشنا فأخبرته إنا في جهد وشدة. قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول لك غير عتبة بابك. قال: ذاك أبي، وأمرني أن أفارقك فالحقي بأهلك فطلقها، وتزوج منهم أخرى ولبث عنهم ابراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد، فلم يجده، فدخل على امرأته، فسألها عنه، فقالت: خرج يبتغى لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيأتهم، فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله. فقال ما طعامكم؟ قالت: اللحم. قال: فما شربكم؟. قالت: الماء. قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم (ولم يكن لهم يومئذ حب، ولو كان لهم حب لدعا لهم فيه، فهما لا يخلو عليهما أحد بعين مكة إلا لم يوافقاه. قال: فإذا جاء زوجك فأقرئي عليه السلام، ومريه يثبت عتبة بابه. فلما جاء اسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت نعم أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته إنا بخير. قال: أفأوصاك بشيء؟ قالت: نعم هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك. قال ذاك: أبي، وأمرني أن أمسكك. ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك واسماعيل يبرى نبلاً له تحت دوحة قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الولد بالوالد والوالد بالولد. ثم قال يا اسماعيل (إن الله أمرني بأمر. قال: فاصنع ما أمرك به ربك. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتاً، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها. قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل اسماعيل يأتي بالحجارة وابراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني واسماعيل يتاوله الحجارة وهما يقولان: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) البقرة 127 قال: وجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم)
عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: اختتن ابراهيم وهو ابن مائة وعشرين سنة وعاش بعد ذلك ثمانين سنة) رواه ابن حيان في صحيحه وليس في هذا السياق ذكر قصة الذبيح ولم يذكر مقدمات ابراهيم عليه السلام إلا ثلاث مرات أولاهن: بعد أن تزوج اسماعيل بعد موت هاجر، وكيف تركهم في حين صغر الولد - على ما ذكر - إلى حين تزويجه لا ينظر في حالهم، وقد ذكر أن الأ{ض كانت تطوى له، وقيل: أنه كان يركب البراق إذا سار إليهم، فكيف يتخلف عن مطالعة حالهم، وهم في غاية الضرورة الشديدة والحاجة الأكيدة.
يتبع...
boulboul
2007-10-12, 00:06
قال الله تعالى: (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم) الصافات 99 -101، يذكر الله تعالى عن خليله ابراهيم أنه لما هاجر من بلاد قومه سأل ربه أن يهبه ولداً صالحاً، فبشره الله تعالى بغلام حليم وهو إسماعيل عليه السلام، لأنه أول من ولد له على رأس ست وثمانين سنة من عمر الخليل، وهذا ما لا خلاف فيه، لأنه أول ولده وبكره. وقوله: (فلما بلغ معه السعي) أي شب وصار يسعى في مصالحه كأبيه قال مجاهد: (فلما بلغ معه السعي) أي شب وارتحل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل فلما كان هذا رأى ابراهيم عليه السلام في المنام أنه يؤمر بذبح ولده. هذا وفي الحديث عن ابن عباس مرفوعاً: (رؤيا الأنبياء وحي) قاله عبيد بن عمير أيضاً وهذا اختبار من الله عزوجل لخليله في أن يذبح الولد (العزيز الذي جاءه) على كبر وقد طعن في السن، بعدما أمر بأن يسكنه هو وأمه في بلاد قفر وواد ليس به حسيس ولا أنيس ولا زرع ولا ضرع، فامتثل أمر الله في ذلك، وتركهما هناك ثقة بالله وتوكلاً عليه، فجعل الله لهما فرجاً ومخرجاً، ورزقهما من حيث لا يحتسبان ثم لما أمر بعد هذا كله بذبح ولده هذا الذي قد أفرده عن أمر ربه وهو بكره، ووحيده الذي ليس له غيره، أجاب ربه، وامتثل أمره، وسارع إلى طاعته. ثم عرض ذلك على ولده ليكون أطيب لقلبه، وأهون عليه من أ، يأخذه قسراً، ويذبحه قهراً: (قال يا بني إني أرى في المنام أني أّبحك فانظر ماذا ترى) فبادر الغلام الحليم سر والده الخليل ابراهيم، فقال: (يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين) وهذا الجواب غاية السداد، والطاعة للوالد ولرب العباد، قال الله تعالى: (فلما أسلما وتله للجبين) قيل: أسلما أي استسلما لأمر الله وعزما على ذلك. وقيل: هذا من المقدم والمؤخر والمعنى تله للجبين: أي ألأقاه على وجهه. قيل: أراد أن يذبحه من قفاه لئلا يشاهده في حال ذبحه. قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة الضحاك. وقيل: بل أضجعه كما تضجع الذبائح، وبقي طرف جبينه لاصقاً بالأرض، وأسلما: أي سمى ابراهيم وكبر، وتشهد الولد للموت، قال السدي وغيره: أمر السكين على حلقه فلم تقطع شيئاً ويقال: جعل بينهما وبين حلقه صفيحة من نحاس، والله أعلم. فعند ذلك نودي من الله عزوجل: (أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) أي قد حصل المقصود من اختبارك وطاعتك ومبادرتك إلى أمر ربك، وبذلك ولدك للقربان كما سمحت ببدنك للنيران، وكما مالك مبذول للضيفان، ولهذا قال تعالى: (إن هذا لهو البلاء المبين) أي الاختبار الظاهر البين. وقوله (وفديناه بذبح عظيم) أي وجعلنا فداء ذبح ولده ما يسره الله تعالى له من العوض عنه والمشهور عن الجمهور: أنه كبش أبيض أعين أقرن، رآه مربوطاً بسمرة في ثبير (جبل خارج مكة) قال الثوري: عن عبد الله بن عثمان بن حيثهم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفاً. وقال سعيد بن جبير: كان يرتع في الجنة حتى تشقق عنه ثبير، وكان عليه عهن (صوف مصبوغ) أحمر، وعن ابن عباس: هبط عليه من ثبير كبش أعين أقرن له ثغاء فذبحه، وهو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه. رواه ابن أبي حاتم.
عن ابن عباس أنه قال: المفدى إسماعيل وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود. وقال عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه: هو إسماعيل. وقال ابن أبي حاتم: سألت عن الذبيح؟ فقال: الصحيح أنه إسماعيل عليه السلام. قال ابن أبي حاتم وروى عن علي وابن عمر وأبي هريرة وأبي الطفيل وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد والشعبي ومحمد بن كعب وأبي جعفر محمد بن علي وأبي صالح أنهم قالوا: الذبيح هو إسماعيل عليه السلام. وحكاه البغوي أيضاً عن الربيع بن أنس والكلبي وأبي عمرو بن العلاء قلت: وروى عن معاوية وجاء عنه أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا ابن الذبيحين فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز ومحمد بن إسحاق عن بريدة عن سفيان بن فروة الأسلمي عن محمد بن كعب: أنه حدثهم أنه ذكر لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة إذ كان معه بالشام (يعني استدلاله بقوله بعد العصمة) فبشرناه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب. فقال له عمر: إن هذا الشيء ما كنت أنظر فيه وإني لأراه كما قلت ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهودياً فأسلم وحسن إسلامه، وكان يرى أنه من علمائهم. قال: فسأله عمر بن عبد العزيز: أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال: إسماعيل والله يا أمير المؤمنين وإن اليهود لتعلم بذلك ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه والفضل الذي ذكره الله منه لصبره لما أمر به فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق لأن إسحاق أبوهم.
قال الله تعالى: (وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين. وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين) الصافات 112 - 113 وقد كانت البشارة به من الملائكة لإبراهيم وسارة لما مروا بها مجتازين ذاهبين إلى مدائن قوم لوط عليه السلام ليدمروا عليهم لكفرهم وفجورهم.
يذكر الله تعالى أن الملائكة قالوا: (وكانوا ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل) لما وردوا على الخليل حسبهم أضيافاً فعاملهم معاملة الضيوف، فشوى لهم عجلاً سميناً من خيار بقره فلما قربه إليهم وعرض عليهم لم ير لهم همة إلى الأكل بالكلية وذلك لأن الملائكة ليس فيهم قوة الحاجة إلى الطعام (فنكرهم) إبراهيم (وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط) أي لندمر عليهم فاستبشرت عند ذلك سارة غضباً لله عليهم وكانت قائمة على رؤوس الأضياف كما جرت به عادة العرب وغيرهم فلما ضحكت استبشاراً بذلك قال الله تعالى: (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) أي بشرتهما الملائكة بذلك (فأقبلت امرأته في صرة) أي في صرخة (فصكت وجهها) أي كما تفعل النساء عند التعجب (وقالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً) أي كيف يلد مثلي وأنا كبيرة وعقيم أيضاً وهذا بعلي أي زوجي شيخاً؟! تعجبت من وجود ولد والحالة هذه ولهذا قالت: (إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد) وكلك تعجب إبراهيم عليه السلام استبشاراً بهذه البشارة وتثبيتاً لها وفرحاً بها: (قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون. قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين) أكدوا الخبر بهذه البشارة وقرروه معه فبشروهما (بغلام عليم) وهو إسحاق، وأخوه إسماعيل غلام حليم مناسب لمقامه وصبره وهكذا وصفه ربه بصدق الوعد والصبر. وقال في الآية الأخرى: (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) وهذا مما استدل به محمد بن كعب القرظي وغيره على أن الذبيح هو إسماعيل وأن إسحاق لا يجوز أن يؤمر بذبحه بعد أن وقعت البشارة بوجوده ووجود ولده يعقوب المشتق من العقب من بعده.
أحضر إبراهيم عليه السلام مع العجل الحنيذ (وهو: المشوي) رغيفاً من مكة فيه ثلاثة إكاء وسمن ولبن. وعندهم: أنهم أكلوا. وهذا غلط محض. وقيل: كانوا يودون أنهم يأكلون والطعام يتلاشى في الهواء. وعندهم أن الله تعالى قال لإبراهيم: أما سارا امرأتك فلا يدعى اسمها سارا ولكن اسمها سارة: وأبارك عليها وأعطيك منها ابناً وأباركه ويكون الشعوب وملوك الأرض منه. فخر إبراهيم على وجهه (يعني ساجداً) وضحك قائلاً في نفسه: أبعد مائة سنة يولد لي غلام؟ أو سارة تلد وقد أتت عليها تسعون سنة؟ وقال إبراهيم لله تعالى: ليت إسماعيل يعيش قدامك. فقال الله لإبراهيم: بحقي إن امرأتك سارة تلد لك غلاماً وتدعو اسمه إسحاق إلى مثل هذا الحين من قابل وأوثقه ميثاقي إلى الدهر ولخلفه من بعده وقد استجبت لك في إسماعيل وباركت عليه وكبرته ونميته جداً كثيراً ويولد له إثنا عشر عظيماً وأجعه رئيساً لشعب عظيم. فقوله تعالى: (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) دليل على أنها تستمتع بوجود ولدها إسحاق ثم من بعده بولد ولده يعقوب. أي ويلد في حياتهما لتقر أعينهما به كما قرت بولده. ولو لم يرد هذا لم يكن لذكر يعقوب وتخصيص التنصيص عليه من دون سائر نسل إسحاق فائده ولما عين بالذكر دل على أنهما يتمتعان به ويسران بولده كما سر بمولد أبيه من قبله وقال تعالى: (فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب) مريم 49. وهذا إن شاء الله ظاهر قوي ويؤيده ما ثبت في الصحيحين.
عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال أربعون سنة. قلت ثم أي؟ قال: ثم حيث أدركت الصلاة فصل، فكلها مسجد. وعند أهل الكتاب: أن يعقوب عليه السلام هو الذي أسس المسجد الأقصى، وهو مسجد إيليا بيت المقدس شرفه الله. وهذا متجه، ويشهد له ما ذكرناه من الحديث فعلى هذا يكون بناء يعقوب (وهو إسرائيل) عليه السلام بعد بناء الخليل وابنه إسماعيل المسجد الحرام بأربعين سنة سواء، وقد كان بناؤهما ذلك بعد وجود إسحاق لأن إبراهيم عليه السلام لما دعا قال في دعائه كما قال تعالى: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) إبراهيم: 35 جاء في الحديث من أن سليمان بن داود عليهما السلام لما بني بيت المقدس سأل الله خلالاً ُثلاثاً عند قوله: (رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي) ص: 35. المراد من ذلك (والله أعلم) أنه جدد بناءه كما تقدم من أن بينهما أربعين سنة ولم يقل أحد إن بين سليمان وإبراهيم أربعين سنة سوى ابن حيان في تقاسيمه وأنواعه وهذا القول لم يوافق عليه ولا سبق إليه.
يذكر الله تعالى عن عبده ورسوله وصفيه وخليله إمام الحنفاء ووالج الأنبياء عليه أفضل صلاة وتسليم: أنه بنى البيت العتيق الذي هو أول مسجد وضع لعموم الناس يعبدون الله فيه وبوأه الله مكانه أي أرشده إليه ودله عليه. وقد روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وغيره أنه أرشد إليه بوحي من الله عزوجل. وقد ذكر في صفة خلق السملولت أن الكعبة بحيال البيت المعمور بحيث أنه لو سقط لسقط عليها.
قال الله تعالى: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدي العالمين) أي أول بيت وضع لعموم الناس للبركة والهدى: البيت الذي ببكة. قيل: مكة. وقيل: محل الكعبة (فيه آيات بينات) أي على أنه بناء الخليل والد الأنبياء من بعده وإمام الحنفاء من ولده الذين يقتدون به ويتمسكون بسنته ولهذا قال: (مقام إبراهيم) أي الحجر الذي كان يقف عليه قائماً لما ارتفع البناء عن قامته فوضع له ولده هذا الحجر المشهور ليرتفع عليه لما تعالى البناء وعظم الفناء. وقد كان هذا الحجر ملصقاً بحائط الكعبة على ما كان عليه من قديم الزمان إلى أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا فإنه قد وافقه ربه في أشياء منها في قوله لرسوله صلى الله عليه وسلم: لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى؟ فأنزل الله: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) البقرة: 125 وقد كانت آثار قدمي الخليل باقية في الصخرة إلى أول الإسلام.
يعني أن رجله الكريمة غاصت في الصخرة فصارت على قدر قدمه حافية لا منتعلة ولهذا قال تعالى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) أي في حال قولهما: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) فهما في غاية الإخلاص والطاعة لله عزوجل وهما يسألان من الله السميع العليم أن يتقبل منهما ما هما فيه من الطاعة العظيمة والسعي المشكور: (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم) البقرة: 128.
والمقصود أن الخليل بنى أشرف المساجد في أشرف البقاع في واد غير ذي زرع ودعا لأهلها بالبركة وأن يرزقوا من الثمرات مع قلة المياه وعدم الأشجار والزروع والثمار أن يجعله جرماً محرماً وآمناً محتماً. فاستجاب الله - وله الحمد - له مسألته ولبى دعوته وأتله طلبته فقال تعالى: (أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم) العنكبوت: 67 وقال تعالى: (أو لم نمكن لهم حرماً آمناً يجبي إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا) القصص: 57. وسأل الله أن يبعث فيهم رسولاً منهم أي من جنسهم وعلى لغتهم الفصيحة البليغة النصيحة لتتم عليهم النعمتان الدنيوية والدينية سعادة الأولى والأخرى. وقد استجاب الله له: فبعث فيهم رسولاً وأي رسول؟ ختم به أنبياءه ورسله وأكمل له من الدين مالم يؤت أحداً قبله وعم بدعوته أهل الأرض على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وصفاتهم في سائر الأقطار والأمصار والأعصار إلى يوم القيامة، وكان هذا من خصائصه من بين سائر الأنبياء لشرفه في نفسه وكمال ما أرسل به وشرف بقعته وفصاحة لغته وكمال شفقته على أمته ولطفه ورحمته وكريم محتده وعظيم مولده وطيب مصدره ومورده ولهذا استحق إبراهيم الخليل عليه السلام إذ كان باني الكعبة لأهل الأ{ض أن يكون منصبه ومحله وموضعه في منازل السماوات ورفيع الدرجات عند البيت المعمور الذي هو كعبة أهل السماء السابعة المبارك المبرور الذي يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة يتعبدون فيه ثم لا يعودون إليه إلى يوم البعث والنشور. قال السدي: لما أمر الله إبراهيم وإسماعيل أن يبنيا البيت ثم لم يدريا أين مكانه حتى يبعث الله ريحاً يقال الخجوج لها جناحان ورأس في صورة حية فنكست لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول وإتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الأساس وذلك حين يقول تعالى: (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) فلما بلغا القواعد بنيا الركن.
قال إبراهيم لإسماعيل: يا بني اطلب لي الحجر الأسود من الهند وكان أبيض ياقوتة بيضاء مثل النعامة وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس. فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن فقال: يا أبتي من جاءك بهذا؟! قال: جاء به من هو أنشط منك. فبنيا وهما يدعوان الله: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم). وذكر ابن أبي حاتم: أنه بناه من خمسة أجبل وأن ذا القرنين - وكان ملك الأرض إذ ذاك - مربهما وهما يبنيانه فقال: من أمر كما بهذا؟ فقال إبراهيم: الله أمرنا به. فقال: وما يدريني بما تقول؟ فشهدت خمسة أكبس أنه أمره بذلك فآمن وصدق.
وذكر الأزرقي أنه طاف مع الخليل بالبيت وقد كانت على بناء الخليل مدة طويلة ثم بعد ذلك بنتها قريش فقصرت بها عن قواعد إبراهيم من جهة الشمال مما يلي الشام على ما هي عليه اليوم. وفي الصحيحين: من حديث مالك عن ابن شهاب عن سالم ابن عبدالله بن محمد بن أبي أبكر أخبر ابن عمر عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألم تر إلى قومك جين بنو الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟! فقلت: يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ فقال: لولا حدثان قومك - وفي رواية لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية أو قال بكفر - لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ولجعلت بابها بالأرض ولأدخلت فيها الحجر). وقد بناها ابن الزبير - رحمه الله - في أيامه على ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبما أخبرته خالته عائشة أم المؤمنين عنه فلما قتله الحجاج في سنة ثلاث وسبعين كتب إلى عبدالملك بن مروان الخليفة إذ ذاك فاعتقدوا أن ابن الزبير إنما صنع ذلك من تلقاء نفسه فأمر بردها إلى ما كانت عليه فنقضوا الحائط الشامي وأخرجوا منها الحجر ثم سدوا الحائط وردموا الأحجار في جوف الكعبة فارتفع بابها الشرقي وسدوا الغربي بالكلية كما هو مشاهد إلى اليوم ثم لما بلغهم أن ابن الزبير إنما فعل هذا لما أخبرته عائشة أم المؤمنين ندموا على مافعلوا وتأسفوا أم لو كانوا تركوه وما تولى من ذلك. ثم لما كان في زمن المهدي بن المنصور استشار الإمام مالك بن أنس في ردها على الصفة التي بناها ابن الزبير فقال له: إني أخشى أن يتخذها الملوك لعبة - يعني كلما جاء ملك بناها على الصفة التي يريد - فاستقر الأمر على ما هي عليه اليوم.
قال الله تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إمي حاعلك للناس إماماً. قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) البقرة 124 لما وفي ما أمره ربه به من التكالي ف العظيمة جعله للناس إماماً يقتدون به ويأتمون بهديه، وسأل الله أن تكون هذه الإمامة متصلة بسببه وباقية في نسبه وخالدة في عقبه، فأجيب إلى ما سأل ورام. وسلمت إليه الإمامة بزمام، واستثنى من نيلها الظالمون، واحتص بها من ذريته العلماء العاملون كما قال تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين) العنكبوت 27، الضمير في قوله: (ومن ذريته) عائد على إبراهيم على المشهور.
فكل كتاب أنزل من السماء على نبي من الأنبياء بعد إبراهيم الخليل فمن ذريته وشيعتهن وهذه خلعة سنية لا تضاهى، ومرتبة عليه لا تباهى. وذلك أنه ولد له لصلبه ولدان ذكران عظيمان: إسماعيل من هاجر، ثم إسحاق من سارة. وولد لهذا يعقوب أما إسماعيل عليه عليه السلام فكانت منه العرب على اختلا فقبائلها، ولم يوجد من سلالته من الأنبياء سوى خاتمهم على الإطلاق، وسيدهم، وفخر بني آدم في الدنيا والآخرة: محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم القرشي الهاشمي المكي ثم المدني، صلوات الله وسلامه عليه. فلم يوجد من هذا الفرع الشريف، والغصن المنيف، سوى هذه الجوهرة الباهرة، والدرة الزاهرةـ وواسطة العقد الفاخرة، وهو السيد الذي يفتخر به أهل الجمع، ويغبطه الأولون والآخرون يوم القيمة. وقد ثبت عنه في صحيح مسلم أنه قال: ( سأقوم مقاماً يرغب إلى الخلق كلهم حتى إبراهيم) فمدح إبراهيم أباه مدحة عظيمة في هذا السياق، ودل كلامه على أنه أفضل الخلائق بعده عند الخلائق في هذه الحياة الدنيا ويوم يكشف عن ساق.
يتبع...
boulboul
2007-10-12, 00:07
قال تعالى: (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى) البقرة: 260. ذكر المفسرون لهذا السؤال أسباباً منها: أن الله عزوجل أجابه إلى ما سأل، فأمره أن يعمد إلى أربعة من الطيور، واختلفوا في تعيينها على أقوال، والمقصود حاصل على كل تقدير، فأمره أن يمزق لحومهن وريشهن، ويخلط ما أمر به، ثم أمر أن يدعوهن بإذن ربهن، فلما دعاهن جعل كل عضو يطير إلى صاحبه، وكل ريشة تأتي إلى أختها، حتى اجتمع بدن كل طائر على ما كان عليه، وهو ينظر إلى قدرة الذي يقول للشيء كن فيكون، فأتين إليه سعيا، ليكون أبين له، وأوضح لمشاهدته من أن يأتين طيراناً. ويقال: إنه أمر أن يأخذ رؤوسهن في يده فجعل كل طائر يأتي فيلقى رأسه فيتركب على جثته كما كان، فلا إله إلا الله. وقد كان إبراهيم عليه السلام يعلم قدرة الله تعالى على إحياء الموتى علماً يقينياً لا يحتمل النقيض، لكن أحب أن يشاهد ذلك عياناً، ويترقى من علم اليقين، إلى عين اليقين، فأجابه الله إلى سؤاله، وأعطاه غاية مأمولة.وقال تعالى: (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون) آل عمران: 650. ينكر تعالى على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في دعوى كل من الفريقين كون الخليل على ملتهم وطريقتهم، فبرأه الله منهم وبين كثرة جهلهم وقلة عقلهم في قوله (وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده). أي فكيف يكون على دينكم وأنتم إنما شرع لكم ما شرع بعده بمدد متطاولة ولهذا قال: (أفلا تعقلون) إلى أن قال: (ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين) فبين أنه كان على دين الله الحنيف، كما قال تعالى: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين) .. فنزه الله عزوجل خليله عليه السلام عن أن يكون يهودياً أون صرانياً وبين أنه إنما كان حنيفاً مسلماً ولم يكن من المشركين، ولهذا اقل تعالى (إن أولى الناس إبراهيم للذين اتبعوه) يعني الذين كانوا على ملته من أتباعه في زمانه، ومن تمسك بدينه من بعدهم: (وهذا النبي) يعني محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله شرع له الدين الحنيف الذي شرعه للخليل، وكمله الله تعالى له، وأعطاه ما لم يعط نبياً ولا رسولاً قبله.
قال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما راى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت، ورأى إبراهيم وإسماعيل بأيديهما الأزلام قط) فقال: قاتلهم الله! والله إن يستقسما بالأزلام قط) لم يخرجه مسلم وفي بعض ألفاظ البخاري: (قاتلهم الله! لقد علموا أن شيخنا لم يستقسم بها قط) فقوله (أمة) أي قدوة وإماماً مهتدياً داعياً إلى الخير، مخلصاً على بصيرة ( ولم يك المشركين. شاكراً لأنعمه) أي قائماً بشكر ربه بجميع جوارحه من قلبه ولسانه وأعماله (اجتباه) أي اختاره الله لنفسه واصطفاه لرسالته واتخذه خليلاً، وجمع له بين خيري الدنيا والآخرة.
قال تعالى: (ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً واتخذ الله إبراهيم خليلاً) النساء 125. يرغب الله تعالى في اتباع إبراهيم عليه السلام، لأنه كان على الدين القويم والصراط المستقيم، وقد قام بجميع ما أمره به ربه، ومدحه تعالى بذلك فقال: (وإبراهيم الذي وفى) النجم 37. ولهذا اتخذه الله خليلاً، والخلة هي: غاية المحبة. وهكذا نال هذه المنزلة خاتم الأنبياء، وسيد الرسل، محمد صلوات الله وسلامه عليه. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أيها الناس، إن الله إتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً). وقال أيضاً في آخر خطبة خطبها: (أيها الناس لو كنت منتخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبابكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله).
عن عكرمة عن ابن عباس قال: (جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه، فخرج، حتى إذا دنا منهم سمعه يتذاكرون، فسمع حديثهم، إذا بعضهم يقول: عجب أن الله اتخذ من خلقه خليلاً فإبراهيم خليله؟!. وقال آخر: ماذا بأعجب من أن الله كلم موسى تكليماً. وقال آخر: فعيسى روح الله وكلمته وقال آخر: آدم اصطفاه الله. فخرج عليهم، فسلم وقال: قد سمعت كلامكم وعجبكم، إن إبراهيم خليل الله، وهو كذلك. وموسى كليمه، وهو كذلك، وعيسى روحه وكلمته، وهو كذلك. وآدم اصطفاه الله، وهو كذلك. ألا وإني حبيب الله، ولا فخر، ألا وإني أو شافع، وأول مشفع، ولا فخر. وأنا أول من يحرك حلق باب الجنة، فيفتحه الله، فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين. وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة، ولا فخر).
عن عكرمة عن ابن عباس قال: أتنكرون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؟! لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً ألقى في قلبه الوجل، حتى إن كان خفقان قلبه ليسمع من بعد كما يسمع خفقان الطير في الهواء. وقال عبيد بن عمير: كان إبراهيم عليه السلام يضيف الناس، فخرج يوماً يلتمس إنساناً يضيفه فلم يجد أحداً يضيفه، فرجع إلى داره فوجد فيها رجلاً قائماً، فقال: يا عبدالله، ما أدخلك داري بغير إذني؟! قال: دخلتها بإذن ربها. قال: ومن أنت؟ فقال أنا ملك الموت أرسلني ربي إلى عبد من عباده، أبشره بأن الله قد اتخذه خليلاً. قال: من هو؟ فوالله إن أخبرتني به ثم كان بأقصى البلاد لآتينه، ثم لا أبرح له جاراً حتى يفرق بيننا الموت. قال: ذلك العبد أنت. قال: أنا؟ قال: نعم. قال: فبم اتخذني ربي خليلاً؟. قال: بأنك تعطي الناس ولا تسألهم، رواه ابن أبي حاتم. وقد ذكره الله تعالى في القرآن كثيراً في غير ما موضع بالثناء عليه والمدح له فقيل: إنه مذكور في خمسة وثلاثين موضعاً، منها خمسة عشر في البقرة وحدها، وهو أحد أولي العزم الخمسة المنصوص على أسمائهم تخصيصاً من بين سائر الأنبياء في آيتي الأحزاب والشورى، وهما قوله تعالىك (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً). الأحزاب 7 ثم هو أشرف أولي العزم بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي وجده عليه السلام في السماء السابعة مسنداً ظهره بالبيت المعمور الذي يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة.
عن ابن عباس: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) البقرة 124. قال: إبتلاه الله بالطهارةك خمس في الرأس، وخمس في الجسد، في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والسواك، والاستنشاق، وفوق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء.
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط).
والمقصود أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يشغله القيام بالإخلاص لله عزوجل وخشوع العبادة العظيمة عن مراعاة مصلحة بدنه، وإعطاء كل عضو ما يستحقه من الإصلاح والتحسين، وإزالة ما يشين من زيادة شعر أو ظفر، أو وجود قلح (صفرة وخضرة تعلو الأسنان) أو وسخ. فهذا من جملة قوله تعالى في حقه من المدح العظيم: (وإبراهيم الذي وفى) عن عكرمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة قصراً - أحسبه قال - من لؤلؤة، ليس فيه خصم ولا هي (كسر ولا شق) أعده الله لخليله إبراهيم عليه السلام نزلاً).
قال الإمام أحمد: حدثنا يونس وحجين قالا حدثنا الليث عن أبي الزبير عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عرض علي الأنبياء، فإذا موسى ضرب من الرجال كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى ابن مريم فإذا أقرب من رأيت به شبهاً عروة بن مسعود، ورأيت غبراهيم فإذا أقرب من رأيت به شبهاً دحية). تفرد به الإمام أحمد من هذا الوجه وبهذا اللفظ. وقال أحمدك حدثنا أسود بن عامر حدثنا إسرائيل عن عثمان (يعني ابن المغيرة) عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رايت عيسى ابن مريم وموسى وإبراهيم، فأما عيسى فأحمر جعد عريض الصدر، وأما موسى فآدم جسيم، قالوا له: فإبراهيم؟ قال: انظروا إلى صاحبكم). يعني نفسه.
ذكر ابن جرير في تاريخه أن مولده كان في زمن النمرود بن كنعان. وهو فيما قيل: الضحاك الملك المشهور، الذي يقال:
إنه ملك ألف سنة، وكان غاية الغشم والظلم. وذكر بعضهم أنه من بني راسب الذين بعث إليهم نوح عليه السلام وإنه كان إذ ذاك ملك الدنيا وذكروا أنه طلع نجم أخفى ضوء الشمس والقمرن فهال ذلك أهل ذلك الزمان، وفزع نمرود، فجمع الكهنة والمنجمين، وسألهم عن ذلك؟ فقالوا: يولد مولود في رعيتك، يكون زوال ملكك على يديه، فأمر عند ذلك بمنع الرجال عن النساء، وأن يقتل المولودون من ذلك الحين. فكان مولد إبراهيم الخليل في ذلك الحين، فحماه الله عزوجل وصانه من كيد الفجار، وشب شباباً باهراً، وأنبته الله نباتاً حسناً، حتى كان من زمره ما تقدم. وكان مولده بالسوس. وقيل ببابل. وقيل: بالسواد من ناحية كوثي (اسم لثلاثة مواضع، موضعان بسواد العراق في أرض بابل هما: كوثي الطريق. والموضع الثالث: منزل بني عبدالدار بمكة، واختلف الناس في أيهما ولد إبراهيم عليه السلام؟ وقد رجح بعضهم أنه ولد بكوثي ربي بالعراق، وبها مشهده عليه السلام) وتقدم عن ابن عباسك أنه ولد ببرزة شرقي دمشق، فلما أهلك الله نمرود على يديه وهاجر إلى حران ثم إلى أرض الشام وأقام ببلاد إيليا وولد له إسماعيل وإسحاق، وماتت سارة قبله بقرية حبرون التي في أرض كنعان ولها من العمر مائة وسبع وعشرون سنة فيما ذكر أهل الكتاب فحزن عليها إبراهيم عليه السلام، ورثاها رحمها الله، واشترى من رجل من بني حيث يقال له: عفرون بن صخر مغارة بأربع مائة مثقال ودفن فيها سارة هنالك. قالوا: ثم خطب إبراهيم على إبنه اسحاق فزوجه رفقاً بنت بتوئيل بن ناحور بن تارح، وبعث مولاه فحملها من بلادها ومعها مرضعتها وجواريها على الإبل.
روى ابن عساكر عن غير واحد من السلف عن أخبار أهل الكتاب في صفة مجيء ملك الموت إلى إبراهيم عليه السلام أخباراً كثيرة، الله أعلم بصحتها وقد قيل: أنه مات فجأة وكذا داود وسليمان. الذي ذكره أهل الكتاب وغيرهم خلاف ذلك: قالوا: ثم مرض إبراهيم عليه السلام ومات عن مئة وخمس وسبعين. وقيل: وتسعين سنة. دفن في المغارة المذكورة التي كانت بحبرون الحيثى، عند امرأته سارة، التي في مزرعة عفرون الحيثي. وتولى دفنه إسماعيل وإسحاق، صلوات الله وسلامه عليهما، وقد ورد ما يدل أنه عاش مائتي سنة، كما قاله ابن الكلبي. وقال أبو حاتم بن حبان في صحيحه: أنبأنا المفضل بن محمد الجندي بمكة حدثنا علي بن زياد اللخمي حدثنا أبو قرة عن ابن جريج عن يحيى بن سعيد بن عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اختتن إبراهيم بالقدوم وهو ابن عشرين ومائة سنة، وعاش بعد ذلك ثمانين سنة) وقد رواه الحافظ ابن عساكر من طريق عكرمة بن إبراهيم وجعفر بن عون العمري عن يحيى بن سعيد عن سعيد عن أبي هريرة موقوفاً.
ثم قال ابن حبان: ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن رفع هذا الخبر، وهم: أخبرنل محمد بن عبدالله بن الجنيد حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اختتن إبراهيم حين بلغ مائة وعشرين سنة، وعاش بعد ذلك ثمانين سنة واختتن بقدوم) وقد رواه الحافظ ابن عساكر من طريق يحيى بن سعيد عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أتت عليه ثمانون سنة. ثم روى ابن حبان عن عبدالرزاق أنه قال: القدوم: اسم القرية. قلت: الذي في الصحيح: أنه اختتن وقد أتت عليه ثمانون سنة وفي رواية: وهو ابن ثمانين سنة. وليس فيهما تعرض لما عاش بعد ذلك. والله اعلم. وقال محمد ابن إسماعيل الحساني الواسطي زاد في تفسير وكيع عنه فيما ذكره من الزيادات حدثنا أبو معاوية عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: كان إبراهيم أول من تسرول وأول من فرق، وأول من استحد وأول من اختتن بالقدوم، وهو ابن عشرين ومائة سنة، وعاش بعد ذلك ثمانين سنة، وأول من قرى الضيف، وأول من شاب، هكذا رواه موقوفاً وهو أسبه بالمرفوع خلافاً لإبن حبان. والله أعلم.
وقال مالك: عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: كان إبراهيم أول من أضاف الضيف، وأول الناس اختتانا وأول الناس قص شاربه، وأول الناس رأى الشيب فقال: يا رب ما هذا؟ فقال الله: (وقار) فقال: يا رب زدني وقاراً. وزاد غيرهماك وأول من قص شاربه، وأول من استحد، وأول من لبس السراويل. فقبره وقبر ولده إسحاق وقبر ولد ولده يعقوب في المربعة التي بناها سليمان بن داود عليه السلام، ببلد حبرون، وهو البلد المعروف بالخليل اليوم. وهذا تلقى بالتواتر أمة بعد أمة، وجيل بعد جيل، ومن زمن بني إسرائيل، وإلى زماننا هذا، أن قبره بالمربعة تحقيقاً. فأما تعيينه منها: فليب فيه خبر صحيح عن معصوم، فينبغي أن تراعي تلك المحلة، وأن تحترم احترام مثلها، وأن تبجل، وأن تجل أن يداس في أرجائها، خشية أن يكون قبر الخليل أو أحد من أولاده الأنبياء تحتها. أول من ولد لإبراهيم عليه السلام إسماعيل من هاجر القبطية المصرية، ثم ولد له إسحاق من سارة بنت عن الخليل، ثم تزوج بعدها قنطوراً بنت يقطن الكنعانية فولدت له ستة: مدين وزمران وسرج ويقشان ونشق، ولم يسم السادس، ثم تزوج بعدها حجون بنت أمين فولدت له خمسة: كيسان وسورج وأميم ولوطان ونافس
انتهى
vBulletin® v3.8.10 Release Candidate 2, Copyright ©2000-2025, TranZ by Almuhajir