مشاهدة النسخة كاملة : \\\رجال صنعوا التاريخ-تابع-( موسى عليه السلام)
boulboul
2007-10-10, 00:06
موسى بن عمران بن قاهث بن عازر بن لاوى بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام. قال تعالى: (واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصاً وكان رسولاً نبياً. وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا. ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً) مريم 51 - 53. وقد ذكره الله تعالى في مواضع كثيرة متفرقة من القرآن وذكر قصته في مواضع متعددة مبسوطة مطولة وغير مطولة.
يذكر الله تعالى ملخص القصة ثم يبسطها بهد هذا فذكر أنه يتلو على نبيه صلى الله عليه وسلم خبر موسى وفرعون بالحق أي بالصدق الذي كأن سامعه مشاهد للأمر معاين له (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً) أي تجبر وعتا وطغى وبغى وآثر الحياة الدنيا وأعرض عن طاعة الرب الأعلى وجعل أهلها شيعاً: أي قسم رعيته إلى أقسام وفرق وأنواع يستضعف طائفة منهم وهم شعب بني إسرائيل الذين هم من سلالة نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وكانوا إذ ذاك من خيار أهل الأرض وقد سلط عليهم هذا الملك الظالم الغاشم الكافر الفاجر يستعبدهم ويستخدمهم في أخس الصنائع والحرف وأرداها وأدناها ومع هذا (يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين) القصص 4 وكان الحامل له علي هذا الصنيع القبيح أن بني إسرائيل كانوا يتدارسون فيما بينهم ما يأثرونه عن إبراهيم عليه السلام من أنه سيخرج من ذريته غلام يكون هلاك ملك مصر على يديه وذلك - والله أعلم - حين كان جرى على سارة امرأة الخليل من ملك مصر من إرادته إياها على السوء وعصمة الله لها وكانت هذه البشارة مشهورة في بني إسرائيل فتحدث بها القبط (المصريون) فيما بينهم ووصلت إلى فرعون فذكرها له بعض أمرائه وأساورته وهم يسمرون عنده فأمر عند ذلك بقتل أبناء بني إسرائيل حذراً من وجود هذا الغلام ولن يغني حذر من قدر.
وذكر السدلا عن أبي صالح وأبي مالك عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من الصحابة: أن فرعون رأى في منامه كأن ناراً قد أقبلت من نحو بيت المقدس فأحرق دور مصر وجميع القبط ولم تضر بني إسرائيل فلما استيقظ هاله ذلك فجمع الكهنة والحزأة والسحرة وسألهم عن ذلك؟! فقالوا: (هذا غلام يولد من هؤلاء يكون سبب هلاك أهل مصر على يديه) فلهذا أمر بقتل الغلمان وترك النسوة. ولهذ قال الله تعالى: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض) وهم بنو إسرائيل (ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) أي الذين يؤول ملك مصر وبلادها إليهم (ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) أي سنجعل الضعيف قوياً والمقهور قادراً والذليل عزيزاً، وقد جرى هذا كله لبني إسرائيل كما قال تعالى: (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا) الأعراف 137، وقال تعالى: (كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم. ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين) (الدخان 25_28)
المقصود: أن فرعون احترز كل الإحتراز أن لا يوجد موسى حتى جعل رجالاً وقوابل (جمع قابلة المولدة) يدورون على الحوامل ويعلمون ميقات وضعهن فلا تلد امرأة ذكراً إلا ذبحه أولئك الذّباحون من ساعته، وعند أهل الكتاب : إنه إنما كان يأمر بقتل الغلمان لتضعف شوكة بني اسرائيل فلا يقاومونهم إذا غالبوهم أو قاتلوهم .وهذا فيه نظر بل هو باطل وإنما هذا في الأمر بقتل الولدان بعد بعثة موسى .
لهذا قال بنو اسرائيل لموسى: (أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا) الأعراف: 129 فالصحيح: إن فرعون إنما أمر بقتل الغلمان أولاً حذراً من وجود موسى. هذا والقدر يقول: يا أيها ذا الملك الجبار المغرور بكثرة جنوده وسلطة بأسه واتساع سلطانه قد حكم العظيم الدي لا يغالب ولا يمانع ولا يخالف أقداره إن هذا المولود الذي تحترز منه وقد قتلت بسببه من النفوس ما لا يعد ولا يحصى لا يكون مرباه إلا في دارك وعلى فراشك ولا يغذي إلا بطعامك وشرابك في منزلك وأنت الذي تتبناه وتربيه وتتعهده ولا تطلع على سر معناه، يكون هلاكك في دنياك وأخراك على يديه، لمخالفتك ما جاء به من الحق المبين وتكذيبك ما أوحي إليه، لتعلم أنت وسائر الخلق أن رب السماوات والأرض هو الفعال لما يريد وأنه هو القوي الشديد ذو البأس العظيم والحول والقوة والمشيئة التي لا راد لها.
وقد ذكر غير واحد من المفسرين: أن القبط شكوا إلى فرعون قلة بني إسرائيل بسبب قتل ولدانهم الذكور وخشى أن تتفانى الكبار مع قتل الصغار فيصيرون هم الذين يلون ما كان بنو اسرائيل يعالجون فأمر فرعون بقتل الأبناء عاماً وأن يتركوا عاماً فذكروا أن هارون عليه السلام ولد في عام المسامحة عن قتل الأنبياء وأن موسى عليه السلام ولد في عام قتلهم فضاقت أمه به ذرعاً واحترزت من أول ما حملت به ولم يكن يظهر عليها مظاهر الحمل فلما وضعت الهمت أن اتخذت له تابوتاً فربطته في حبل وكانت دارها متاخمة للنيل فكانت ترضعه فإذا خشيت من أحد وضعته في ذلك التابوت فأرسلته في البحر وأسكت طرف الحبل عندها فإذا ذهبوا استرجعته اليها به. قال الله تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين) القصص:7.
هذا الوحي وحي الهام وارشاد كما قال تعالى: (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون. ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً) النحل: 68 - 69 وليس هو بوحي نبوة كما زعمه غير واحد من المتكلمين بل الصحيح الأول كما حكاه أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة والجماعة.
قال السهيلي: واسم أم موسى أيارخا. وقيل: أياذخت، والمقصود: أنها أرشدت إلى هذا وألقى في خلدها وروعها أن لا تخافي ولا تحزني فإنه إن ذهب فإن الله سيرده إليك وأن الله سبحانه سيجعله نبياً مرسلاً يعلى كلمته في الدنيا والىخرة فكانت تصنع ما أمرت به فأرسلته ذات يوم وذهلت أن تربط طرف الحبل عندما فذهب مع النيل فمر على دار فرعون (فالتقطه آل فرعون) قال الله تعالى: (ليكون لهم عدواً وحزناً) قال بعضهم: هذه لام العاقبة وهو ظاهر إن كان متعلقاً بقوله: فالتقطه. واما ان جعل متعلقاً بمضمون الكلام وهو أن آل فرعون قيضوا لالتقاطه ليكون عدواً وحزناً. صارت اللام معللة كغيرها. ويقوي هذا التقدير الثاني قوله تعالى: (إن فرعون وهامان) وهو الوزير السوء (وجنودهما) المتابعين لهما (كانوا خاطئين) أي كانوا على خلاف الصواب فاستحقوا هذه العقوبة والحسرة.
ذكر المفسرون: أن الجواري التقطنه من البحر في تابوت مغلق عليه فلم يتجاسرن على فتحه حتى وضعنه بين يدي امرأة فرعون: آسية بنت مزاحم بن عسد بن الريان بن الوليد الذي كان فرعون مصر زمن يوسف. وقيل: إنها كانت من بني إسرائيل من سبط موسى. وقيل: بل كانت عمته. حكاه السهيلي.
فلما فتحت الباب وكشفت الحجاب رأت وجهه يتلألأ بتلك الأنوار النبوية فلما رأته ووقع نظرها عليه أحبته حباً شديداً فلما جاء فرعون قال: ما هذا؟ وأمر بذبحه فاستوهبته منه ودفعت عنه (وقالت قرة عين لي ولك) فقال لها فرعون: (أما لك فنعم، وأما لي فلا. أي لا حاجة لي به (والبلاء موكل بالمنطق). وقولها (عسى أن ينفعنا) وقد أنالها الله ما رجت من النفع أما في الدنيا: فهداها الله به وأما في الآخرة فأسكنها جنته بسببه (أو نتخذه ولداً) وذلك أنهما تبنياه لأنه لم يكن يولد لهما ولد، قال الله تعالى (وهم لا يشعرون) أي لا يدرون ماذا يريد الله بهم أن قيضهم لالتقاطه من النقمة العظيمة بفرعون وجنوده. قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو عبيدة والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم: وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً - أي من أمور الدنيا إلا من موسى - إن كانت لتبدي به: أي لتظهر أمره وتسأل عن جهرة (لولا أن ربطنا على قلبها) أي، صبرناها وثبتناها (لتكون من المؤمنين) وقالت لأخته وهي ابنتها الكبيرة: (قصيه) أي اتبعي أثره واطلبي لي خبره (فبصرت به عن جنب) قال مجاهد: عن بعد. وقال قتادة: جعلت تنظر إليه وكأنها لا تريده ولهذا قال: (وهم لا يشعرون) وذلك لأن موسى عليه السلام لما استقر بدار فرعون أرادوا أن بغذوه برضاعة فلم يقبل ثدياً ولا أخذ طعاماً فحاروا في أمره واجتهدوا على تغذيته بكل ممكن فلم يفعل كما قال تعالى: (وحرمنا عليه المراضع من قبل) فأرسلوه مع القوابل والنساء إلى السوق لعلهم يجدون من يوافق رضاعته. فبينما هم وقوف به والناس عكوف عليه إذ بصرت به أخته فلم تظهر أنها تعرفه بل قالت: (هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون) قال ابن عباس: لما قالت ذلك قالوا لها: ما يدريك بنصحهم وشفقتهم عليه؟ فقالت: رغبة في صهر الملك ورجاء منفعته وأطلقوها وذهبوا معها إلى منزلهم فأخذته أمه فلما أرضعته التقم ثديها وأخذ يمتصه ويرتضعه ففرحوا بذلك فرحاً شديداً وذهب البشير إلى آسية يعلمها بذلك فاستدعتها إلى منزلها وعرضت عليها أن تكون عندها، وأ، تحسن إليها فأبت عليها، وقالت: إن لي بعلاً وأولاداً ولست أقدر على هذا إلا أن ترسليه معي فأ{سلته معها ورتبت لها رواتب وأجرت عليها النفقات والكساوي والهبات، فرجعت به تحوزه إلى رحلها وقد جمع الله شمله بشملها قال تعالى: (فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق) أي كما وعدناه برده ورسالته فهذا رده. وهو دليل على صدق البشارة برسالته (ولكن أكثرهم لا يعلمون) وقد امتن الله على موسى عليه السلام بهذا ليلة كلمه فقال فيه فيما قال: (ولقد مننا عليك مرة أخرى. إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى) طه 37 - 38 إذ قال قتادة وغير واحد من السلف: أي تطعم وترفه وتغذى بأطيب المآكل وتلبس أحسن الملابس بمرأى مني وذلك كله بحفظي وكلاءتي وعنايتي لك فيما صنعت بك لك، وقدرته من الأمور التي لا يقدر عليها غيري.
(ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين) (القصص 14). ذكر الله تعالى أنه أنعم على أمه برده لها وإحسانه بذلك وامتنانه عليها شرع في ذكر أنه لما بلغ أشده واستوى - وهو احتكام الخلق والخلق وهو سن الأربعين في قول الأكثرين - آتاه الله حكماً وعلماً وهو النبوة والرسالة. التي كان بشر بها أمه حين قال: (إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين). ثم شرع في ذكر سبب خروجه من بلاد مصر وذهابه إلى أرض مدين وإقامته هنالك حتى كمل الأجل وانقضى الأمد وكان ما كان من كلام الله له وإكرامه بما أكرمه به - كما سيأتي قال تعالى: (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها) قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والسدى: وذلك نصف النهار. وعن ابن عباس: بين العشائين (فوجد فيها رجلين يقتتلان) أي يتضاربان ويتهاوشان (هذا من شيعته) أي إسرائيل (وهذا من عدوه) أي قبطي. قاله ابن عباس وقتادة والسدى ومحمد بن اسحاق (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه) وذلك أن موسى عليه السلام كانت له بديار مصر شرح صولة، بسبب نسبته إلى تبني فرعون له، وتربيته في بيته وكانت بنو إسرائيل قد عزوا وصارت لهم وجاهة وارتفعت رؤوسهم بسبب أنهم أرضعوه وهم أخواله - أي من الرضاعة - فلما استغاث ذلك الإسرائيلي موسى عليه السلام على ذلك القبطي أقبل إليه موسى (فوكزه) قال مجاهد: طعنه بجمع كفه. وقال قتادة: بعصا كانت معه (فقضى عليه) أي فمات منها. وقد كان ذلك القبطي كافراً مشركاً بالله العظيم ولم يرد موسى قتله بالكلية وإنما أراد زجره وردعه، ومع هذا قا لموسى: (هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين) القصص 15.
يخبر تعالى أن موسى أصبح بمدينة مصر (خائفاً) أي من فرعون وملائه أن يعلموا أن هذا القتيل الذي رفع إليه أمره إنما قتله موسى في نصرة رجل من بني إسرائيل، فتقوى ظنونهم أن موسى منهم، ويترتب على ذلك أمر عظيم. فصار يسير في المدينة صبيحة ذلك اليوم (خائفاً يترقب) أي يلتفت. فبينما هو كذلك إذا ذلك الرجل الإسرائيلي الذي استنصره بالأمس (يستصرخه) أي يصرخ به ويستغيثه على آخر قد قاتله فعنفه موسى ولامه على كثرة شره ومخاصمته، قال له: (إنك لغوي مبين) ثم أراد أن يبطش بذلك القبطي الذي هو عدو لموسى وللإسرائيلي فيردعه عنه ويخلصه منه، فلما عزم على ذلك وأقبل على القبطي (قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين) القصص 19. قال بعضهم: إنما قال هذا الكلام الإسرائيلي الذي اطلع على ما كان صنع موسى بالأمس وكأنه لما رأى موسى مقبلاً على القبطي اعتقد أنه جاء إليه لما عنفه قبل ذلك لقوله: (إنك لغوي مبين) فقال ما قال إلى موسى، وأظهر الأمر الذي كان وقع بالأمس. فذهب القبطي فاستعد موسى إلى فرعون. وهذا الذي لم يذكر كثير من الناس سواه. ويحتمل أن قائل هذا هو القبطي، وأنه لما رآه مقبلاً إليه خافه، ورأى من سجيته انتصاراً جيداً للإسرائيلي، فقال ما قال من باب الظن والفراسة: إن هذا لعله قاتل ذلك القتيل بالأمس. أو لعله فهم من كلام الإسرائيلي حين استصرخه عليه ما دله على هذا. والله أعلم.
المقصود: أن فرعون بلغه أن موسى هو قاتل ذلك المقتول بالأمس، فأرسل في طلبهن وسبقهم رجل ناصح عن طريق أقرب (وجاء رجل من أقصى المدينة) ساعياً إليه مشفقاً عليه فقال: (يا موسى الملأ يتأتمرون بك ليقتلوك فاخرج) أي من هذه البلدة (إني لك من الناصحين) أي فيما أقوله لك. قال الله تعالى: (فخرج منها خائفاً يترقب) أي فخرج من مدينة مصر من فوره على وجهه، لا يهتدي إلى طريق، ولا يعرفه قائلاً: (رب نجني من القوم الظالمين) يخبر الله تعالى عن خروج عبده ورسوله وكليمه من مصر خائفاً يترقب - أي يتلفت - خشية أن يدركه احد من قوم فرعون، وهو لا يدري أين يتوجه ولا إلى أين يذهب؟ وذلك لأنه لم يخرج من مصر قبلها (ولما توجه تلقاء مدين) أي اتجه لطريق يذهب فيه (قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) أي عسى أن تكون هذه الطريق موصلة إلى المقصود. وكذا وقع، أوصلته إلى مقصود وأي مقصود (ولما واء مدين) وكانت بئراً يستقون منها، ومدين: هي المدينة التي أهلك الله فيها أصحاب الأيكة، وهم قوم شعيب عليه السلام، وقد كان هلاكهم قبل زمن موسى عليه السلام في أحد قول العلماء. ولما ورد الماء المذكور (وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان) أي تكفكفان غنهما أن تخلتلط بغنم الناس. وعند أهل الكتاب أنهن كن سبع بنات وهذا أيضاً من الغلط، وكأنه كن سبعاً ولكن إنما كان تسقى اثنتان منهن. وهذا الجمع ممكن أن كان ذاك محفوظاً، وإلا فالظاهر أنه لم يكن له سوى بنتين: (وقال ما خطبكما قالتا لا نستقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير) أي لا نقدر على ورد الماء إلا بعد صدور الرعاء، لضعفنا، وسبب مباشرتنا هذه الرعية ضعف أبينا وكبره، قال تعالى: (فسقى لهما).
قال المفسرون: وذلك أن الرعاء كانوا إذا فرغوا من وردهم وضعوا على فم البئر صخرة عظيمة، فتجيء هاتان المرأتان فيشرعان غنمهما في فضل أغنام الناس، فلما كان ذلك اليوم جاء موسى فرفع تلك الصخرة وحده، ثم استقى لهما وسقى غنمهما ، ثم رد الحجر كما كان . قال أمير المؤمنين عمر : وكان لا يرفعه إلا عشرة. وإنما استقى ذنوبا واحدا فكفاهما، ثم تولى إلا الظل، قالوا : وكان ظل شجرة من السمر روى ابن جرير عن ابن مسعود أنه رآها خضراء ترف ( قال ربي إني لما أنزلت إلي من خير فقير ) قال ابن عباس : سار من مصر الى مدين لم يأكل إلا البقل وورق الشجر وكان حافيا، فسقطت نعلا قدميه من الحفاة ، وجلس في الظل ، وهو صفوة الله من خلقه وإن بطنه لاصق بظهره من الجوع ، وإن خضرة البقل لترى من داخل جوفه، وإنه لمحتاج إلى شق تمره . لما جلس موسى عليه السلام في الظل و( قال ربي إني لما أنزلت إلي من خير فقير ) سمعت المرأتان فيما قيل ، فذهبتا الى أبيهما ، فيقال : أنه استنكر سرعة رجوعهما فأخبرتاه بما كان من أمر موسى عليه السلام، فأمر إحداهما أن تذهب اليه فتدعوه ، (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء) أي مشي الحراير (قالت إني أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ) صرحت له بهذا لئلا يوهم كلامها ريبة ، وهذا من تمام حيائها وصيانتها . فلما جاءه وقص عليه القصص ، وأخبره خبره ، وما كان من أمره في خروجه من بلاد مصر فرارا من فرعونها ، قال له ذلك الشيخ: ( لا تخف نجوت من القوم الظالمين ) أي خرجت من سلطانهم فلست في دولتهم .
boulboul
2007-10-10, 00:08
اختلفوا في هذا الشيخ من هو ؟ فقيل: هو شعيب عليه السلام . وهذا هو المشهور عند كثيرين ومما نص عليه الحسن البصري ومالك بن أنس وجاء مصرحا به في حديث ، و لكن في اسناده نظر ، وصرح طائفة بأن شعيبا عليه السلام عاش عمرا طويلا بعد هلاك قومه ، حتى أدركه موسى عليه السلام وتزوج بابنته . وروى ابن أبي حاتم وغيره عن الحسن البصري : أن صاحب موسى عليه السلام هذا اسمه شعيب ، وكان سيد الماء ، لكن ليس بالنبي صاحب مدين وقيل إنه ابن أخي شعيب وقيل ابن عمه وقيل رجل مؤمن من قوم شعيب ، وقيل رجل اسمه يثرون ، هكذا هو في كتب أهل الكتاب : يثرون كاهن مدين أي كبيرها وعالمها . قال ابن عباس وأبو عبيده بن عبد الله: اسمه يثرون ، زاد أبو عبيده وهو ابن أخو شعيب . زاد ابن عباس : صاحب مدين . بعدما أضافه وأكرم مثواه فقص عليه ما كان من أمره ، بشره بأنه قد نجى فعند ذلك قالت احدى البنتين لأبيها : يا أبي استأجره - أي لرعي غنمك- ثم مدحته بأنه قوي أمين . قال عمر وابن عباسوشريح القاضي وأبو مالك وقتاده ومحمد ابن اسحاق وغير واحد : لما قالت ذلك قال لها أبوها : وما أعلمك بهذا . فقالت : أنه رفع صخرة لا يطيق رفعها الا عشرة ،وأنه لما جئت معه تقدمت أمامه فقال كوني من ورائي ، فإذا اختلف الطريق فاقذفي لي بحصاة أعلم بها كيف الطريق . قال ابن مسعود: أفرس الناس ثلاثة : صاحب يوسف حين قال لإمرأته أكرمي مثواه ، وصاحبة موسى حين قالت : (يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين) ، وأبو بكر حين استخلف عمر بن الخطاب.(قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثمان حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين) فاستدل بهذا جماعة من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله على صحة ما إذا باعه هذين العبدين أو الثوبين ونحو ذلك أنه يصح ، لقوله : (احدى ابنتي هاتين ) وفي هذا نظر ، لأن هذه مراوضة لا معاقدة . قال البخاري : حدثنا محمد بن عبد الرحيم حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا مروان بن شجاع عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال: سألني يهودي من أهل الحيرة : أي الأجلين قضى موسى ؟ فقلت : لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله : فتقدمت فسألت ابن عباس ، فقال : قضى أكثرهما وأطيبهما ، إن رسول الله إذا قال فعل .تفرد به البخاري من هذا الوجه وقد رواه النسائي في حديث الفتون من طريق القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير . وقد رواه ابن جرير عن أحمد بن محمد الطوسي وابن أبي حاتم عن أبيه كلاهما عن الحميدي عن سفيان بن عيينه حدثني ابراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " سألت جبريل أي الأجلين قضى موسى ؟ قال : أتمهما وأكملهما " وقد رواه البزار عن أحمد بن أبان القرشي عن سفيان بن عيينه عن ابراهيم بن أعين عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره . وقد رواه سنيد عن حجاج عن ابن جريج عن مجاهد مرسلا : أن رسول الله سأل عن ذلك جبريل ، فسأل جبريل إسرافيل فسأل إسرافيل الرب عز وجل فقال : أبرهما وأوفاهما . ورواه ابن جرير من طريق محمد بن كعب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الأجلين قضى موسى ؟ قال : أوفاهما وأتمهما . عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الأجلين قضى موسى ؟ قال : أوفاهما وأبرهما .قال : وإن سئلت أي المرأتين تزوج ؟ فقل الصغرى منهما .
أراد موسى عليه السلام فراق شعيب سأل امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به. فأعطاها ما ولدت من غنمه من قالب لون من ولد ذلك العام، وكانت غنمه سوداً حساناً، فانطلق موسى عليه السلام إلى عصا قسمها من طرفها، ثم وضعها في أدنى الحوض، ثم أوردها فسقاها، ووقف موسى عليه السلام بإزاء الحوض فلم يصدر منها شاة إلا ضرب جنبها شاة شاة. قال: فائتمنت، وانثت، ووضعت كلها قوالب ألوان، إلا شاة أو شاتين ليس فيها فشوش، ولا ضبوب، ولا عزوز، ولا ثعول، ولا كموش تفوت الكف. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو اقتحمتم الشام وجدتم بقايا تلك الغنم) وهي السامرية. قال ابن لهيعة: الفشوش: واسعة السخب. والضبوب: طويلة الضرع تجره. والعزوز: ضيقة السخب، الثعول: الصغيرة الضرع كالحلمتين. والكموش: التي لا يحكم الكف على ضرعها لصغره. وفي صحة رفع هذا الحديث نظر، وقد يكون موقوفاً. كما قال ابن جرير حدثنا محمد بن المثنى حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي عن قتادة حدثنا أنس بن مالك قال: (لما دعا نبي الله موسى صاحبه إلى الأجل الذي كان بينهما، قال له صاحبه: كل شاة ولدت على لونها فلك ولدها، فعمد فوضع خيالاً على الماء ، فلما رأت الخيال فزعت، فجالت جولة، فولدن كلهن بلق (بلقات الشاة: كان فيها سواد وبياض) إلا شاة واحدة، فذهب بأولادهن ذلك العام).
تقدم أن موسى قضى أتم الأجلين وأكملهما، وقد يؤخذ هذا من قوله: (فلما قضى موسى الأجل) وعن مجاهد: أنه أكمل عشراً وعشراً بعدها. وقوله: (وسار أهله) أي من عند صهره ذاهباً. فيما ذكره غير واحد من المفسرين، وغيرهم: أنه اشتاق إلى أهله، فقصد زيارتهم ببلاد مصر في صورة متحف، فلما سار بأهله ومعه ولدان منهم وغنم قد استفادها مدة مقامه قالوا، واتفق ذلك في ليلة مظلمة باردة وتاهوا في طريقهم، فلم يهتدوا إلى السلوك في الدرب المألوف، وجعل يوري زناده فلا يورى شيئاً، واشتد الظلام والبرد، فبينما هو كذلك إذ أبصر عن بعد ناراً تأجج في جانب الطور - وهو الجبل الغربي منه عن يمينه - فقال لأهله: امكثوا إني آنست ناراً، وكأنه - والله أعلم - رآها دونهم، لأن هذه النار هي نور في الحقيقة، ولا يصلح رؤيتها لكل أحد. (لعلي آتيكم منها بخبر) أي لعلي استعلم من عندها عن الطريق (أو جذوة من النار لعلكم تصطلون) فدل على أنهم كانوا قد تاهوا عن الطريق في ليلة باردة ومظلمة، لما قصد موسى تلك النار التي رآها فانتهى إليها، وجدها تأجج في شجرة خضراء من العوسج (الشوك) وكل ما لتلك النار في اضطرام، وكل ما لخضرة تلك الشجرة في ازدياد، فوقف متعجباً، وكانت تلك الشجرة في لحف جبل غربي منه عن يمينه، كما قال تعالى: (وما كنت بجانب الغربي إذ اقتضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين) القصص 44. وكان موسى في واد اسمه طوى، فكان موسى مستقبل القبلة وتلك الشجرة عن يمينه من ناحية الغرب، فناداه ربه بالواد المقدس طوى، فأمر بخلع نعليه تعظيماً وتكريماً وتوقيراً لتلك البقعة المباركة ولا سيما في تلك الليلة المباركة.
وعند أهل الكتاب: أنه وضع يده على وجهه من شدة ذلك النور، مهابة له وخوفاً على بصره، ثم خاطبه تعالى كما يشاء قائلاً له: إنني أنا الله رب العالمين. (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة إلا له. ثم أخبره أن هذه الدنيا ليست بدار قرار، وإنما الدار الباقية يوم القيامة، التي لابد من كونها ووجودها (لتجزي كل نفس بما تسعى) أي من خير وشر، وحضه وحثه على العمل لها، ومجانبة من لا يؤمن بها ممن عصى مولاه واتبع هواه.
قال تعالى له مخاطباً ومؤانساً ومبيناً له أنه القادر على كل شيء الذي يقول للشيء كن فيكون: (وما تلك بيمينك يا موسى) أي ما هذه عصاك التي تعرفها منذ صحبتها؟ (قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها غنمي ولي فيها مآرب أخرى) أي بل هذه عصاي التي أعرفها وأتحققها (قال ألقها يا موسى. فألقاها فإذا هي حية تسعى) طه 19 - 20. وهذا خارق عظيم وبرهان قاطع على أن الذي يكلمه يقول للشيء كن فيكون. وأنه الفعال بالاختيار.
وعند أهل الكتاب: أنه سأل برهاناً على صدقه عند من يكذبه من أهل مصر. فقال له الرب عزوجل: ما هذه التي في يدك قال: عصاي، قال: ألقها إلى الأرض (فألقاها فإذا هي حية تسعى) فهرب موسى من أمامها فأمره الرب عزوجل أن يبسط يده ويأخذها بذنبها، فلما استمكن منها ارتدت عصا في يده وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى: (وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبراً ولم يعقب) أي قد صارت حية عظيمة لها ضخامة هائلة وأنياب تصك وهي مع ذلك في سرعة حركة الجان وهو ضرب من الحيات، يقال الجان والجنان وهو لطيف ولكن سريع الاضطراب والحركة جداً فهذه جمعت الضخامة والسرعة الشديدة فلما عاينها موسى عليه السلام ولى مدبراً أي هارباً منها لأن طبيعته البشرية تقتضي ذلك (ولم يعقب) أي ولم يلتفت (فناداه ربه) قائلاً له: (يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين) فلما رجع أمره الله تعالى أن يمسكها: (قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى. فيقال: إنه هابها شديداً فوضع يده في كم مدرعته، ثم وضع يده في وسط فمها، وعند أهل الكتاب: بذنبها فلما استمكن منها إذا هي قد عادت كما كانت عصا ذات شعبتين، فسبحان القدير العظيم رب المشرقين والمغربين، ثم أمره تعالى بإدخال يده في جيبه، ثم أمره بنزعها فإذا هي تتلألأ كالقمر بياضاً من غير سوء - أي من غير برص ولا بهق - ولهذا قال: (اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب) قيل: معناه إذا خفت فضع يدك على فؤادك يسكن جأشك، وهذا وإن كان خاصاً به إلا أن بركة الإيمان به حق بأن ينفع من استعمل ذلك على وجه الاقتداء بالأنبياء. يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وكليمه موسى عليه السلام، في جوابه لربه عزوجل، حين أمره بالذهاب إلى عدوه الذي خرج من ديار مصر فراراً من سطوته وظلمه، حين كان من أمره ما كان في قتل ذلك القبطي، ولهذا (قال رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون. وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردءاً يصدقني إني أخاف أن يكذبون). أي اجعله معي معيناً وردءاً ووزيراً يساعدني ويعينني على أداء رسالتك إليهم، فإنه أفصح مني لساناً وأبلغ بياناً. قال الله تعالى مجيباً له إلى سؤاله: (سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً) أي برهاناً (فلا يصلون إليكما) أي فلا ينالون منكما مكروهاً بسبب قيامكما بآياتنا. وقيل: ببركة آياتنا (أنتما ومن اتبعكما الغالبون) وقال في سورة طه: (اذهب إلى فرعون إنه طغى. قال رب اشرح لي صدي ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي) طه 24 - 28. قيل: أنه أصابه في لسانه لثغة، بسبب تلك الجمرة التي وضعها على لسانه التي كان فرعون أراد اختبار عقله، حين أخذ بلحيته وهو صغير فهم بقتله، فخافت عليه آسية وقالت: إنه طفل، فاختبره بوضع تمرة وجمرة بين يديه، فهم بأخذ التمرة فصرف الملك يده إلى الجمرة، فأخذها فوضعها على لسانه، فأصابته لثغة بسببها، فسأل زوال بعضها بمقدار ما يفهمون قوله، ولم يسال زوالها بالكلية.
قال الحسن البصري: والرسل إنما يسألون بحسب الحاجة، ولهذا بقيت في لسانه بقية، ولهذا قال فرعون قبحه الله فيما زعم إنه يعيب به الكليم: (ولا يكاد يبين) أي يفصح عن مراده، ويعبر عما في ضميره وفؤاده.
boulboul
2007-10-10, 00:10
قال موسى عليه السلام: (واجعل لي وزيراً من أهلي. هارون أخي. اشدد به أزري. وأشركه في أمري. كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً إنك كنت بنا بصيراً. قال قد أوتيت سؤلك يا موسى) (طه 29 - 36) أي قد أجبناك إلى جميع ما سألت، إلى أخيه فأوحى إليه، وهذا جاه عظيم، قال الله تعالى: (وكان عند الله وجيهاً) (الأحزاب 69) وقال تعالى: (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً) (مريم 53) وقد سمعت أم المؤمنين عائشة رجلاً يقول لأناس وهم سائرون في طريق الحج: (أي أخ أمن على أخيه)؟ فسكت القوم، فقالت عائشة لمن حول هودجها: هو موسى بن عمران، حين شفع في أخيه هارون فأوحى إليه قال الله تعالى: (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً).
فأتيا فرعون فقالا له ذلك، وبلغاه ما أرسلا به من دعوته إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له. وأن يفك أسارى بني إسرائيل من قبضته وقهره وسطوته، وتركهم يعبدون ربهم حيث شاؤوا، ويتفرغون لتوحيده ودعائه والتضرع لديه. فتكبر فرعون في نفسه وعتا وطغى، ونظر إلى موسى بعين الازدراء والتنقص قائلاً له: (ألم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين) (الشعراء 18) أي ما أنت الذي ربيناه في منزلنا، وأحسنا إليه، وأنعمنا عليه مدة من الدهر. وهذا يدل على أن فرعون الذي فر منه مات في مدة مقامه بمدين، وأن الذي بعث إليه فرعون آخر. وقوله (وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين) أي وقتلت الرجل القبطي وفررت منا وجحدت نعمتنا (قال فعلتها إذاً وأنا من الضالين) (الشعراء 20) أي قبل أن يوحى إلي وينزل علي (ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين) (الشعراء 21) ثم قال مجيباً عما امتن به من التربية والاحسان إليه (وتلك نعمة تمنهاعلي أن عبدت بني إسرائيل) أي وهذه النعمة التي ذكرت أنك أحسنت إلي وأنا رجل من بني إسرائيل، تقابل ما استخدمت هذا الشعب العظيم بكامله، واستعبدتهم في أعمالك وخدمك وأشغالك.
يذكر تعالى ما كان بين فرعون وموسى من المقاولة والمحاجة والمناظرة وما أقامه الكليم على فرعون اللئيم من الحجة العقلية المعنوية ثم الحسية وذلك أن فرعون قبحه الله إله أظهر جحد الصانع تبارك وتعالى وزعم أنه الإله (فحشر فنادى. فقال أنا ربكم الأعلى) (النازعات 23 - 24) وقال: (يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري) وهو في هذه المقالة معاند يعلم أنه عبد مربوب وأن الله هو الخالق البارئ المصور الإله الحق كما قال تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) (النمل 14) ولهذا قال لموسى عليه السلام على سبيل الإنكار لرسالته والإظهار أنه ما ثم رب أرسله (وما رب العالمين) لأنهما قالا له: (إنا رسول رب العالمين) فكأنه يقول لهما: ومن رب العالمين الذي تزعمان أنه أرسلكما وابتعثكما؟ فأجابخ موسى قائلاً: (رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين) (الشعراء 24) يعني رب العالمين خالق هذه السماوات والأرض المشاهدة وما بينهما من المخلوقات المتجددة من السحاب والرياح والمطر والنبات والحيوانات التي يعلم كل موقن أنها لم تحدث بأنفسها ولابد لها من موجد ومحدث وخالق وهو الله الذي لا 'له إلا هو رب العالمين (قال) أي فرعون لمن حوله من امرائه ومرازبته (رؤساء قومه) وزرائه على سبيل التهكم والتنقص لما قرره موسى عليه السلام: (ألا تسمعون) يعني كلامه هذا. قال موسى مخاطباً له ولهم: (ربكم ورب آبائكم الأولين) أي هو الذي خلقكم والذين من قبلكم من الآباء والأجداد والقرون السالفة في الآباء فإن كل أحد يعلم أنه لم يخلق نفسه ولا أبوه ولم يحدث من غير محدث وإنما أوجده وخلقه رب العالمين.
هذان المقامان هما المذكوران في قوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) (فصلت 53). ومع هذا كله لم يستفق فرعون من رقدته ولا نزع عن ضلالته بل استمر على طغيانه وعناده وكفرانه (قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون. قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون) أي هو المسخر لهذه الكواكب الزاهرة المسير للأفلاك الدائرة خالق الظلام والضياء ورب الأرض والسماء رب الأولين والآخرين خالق الشمس والقمر الكواكب السائرة والثوابت الحائرة خالق الليل بظلامه والنهار بضيائه والكل تحت قهره وتسخيره وتسييره سائرون وفي فلك يسبحون يتعاقبون في سائر الأوقات ويدورون فهو تعالى الخالق المالك المتصرف في خلقه بما يشاء. فلما قامت الحجج على فرعون وانقطعت شبهه ولم يبق له قول سوى العناد عدل إلى استعمال سلطانه وجاهه وسطوته (قال لإن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين قال أولو جئتك بشيء مبين. قال فات به إن كنت من الصادقين. فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين. ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين) (الشعراء 28 - 33). وهذان هما البرهانان اللذان أيده الله بهما وهما العصا واليد وذلك مقام أظهر فيه الخارق الذي بهر به العقول والأبصار حين ألقى عصاه فغذا هي ثعبان مبين أي عظيم الشكل بديع في الضخامة والهول والمنظر العظيم الفظيع الباهر حتى قيل: عن فرعون لما شاهد ذلك وعاينه أخذه رهب شديد وخوف عظيم وبحيث أنه حصل له إسهال عظيم أكثر من أربعين مرة في يوم، وكان قبل ذلك لا يتبرز في كل أربعين يوماً إلا مرة واحدة فانعكس عليه الحال. وهكذا لما أدخل موسى عليه السلام يده في جيبه واستخرجها أخرجها وهي كفلقة القمر تتلألأ نوراً بهر الأبصار فإذا أعادها إلى جيبه رجعت إلى صفتها الأولى، ومع هذا كله لم ينتفع فرعون - لعنه الله - بشيء من ذلك بل استمر على ما هو عليه وأظهر أن هذا كله سحر وأراد معارضته السحرة فأرسل يجمعهم من سائر مملكته ومن في رعيته وتحت قهره ودولته كما سيأتي بسطه وبيانه في موضعه من إظهار الحق المبين والحجة الباهرة القاطعة على فرعون وملائه وأهل دولته وملته. ولله الحمد والمنة. قال تعالى في سورة طه: (فلبث سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى واصطنعتك لنفسي. إذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا قي ذكري إذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى. قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا وأن يطغى. قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى) طه 40 - 46.
يقول تعالى مخاطباً لموسى فيما كلمه به ليلة أوحي إليه وأنعم بالنبوة عليه وكلمه منه إلأيه: قد كنت مشاهداً لك وأنت في دار فرعون وأنت تحت كنفي وحفظي ولطفي ثم أخرجتك من أرض مصر إلى أرض مدين بمشيئتي وقدرتي وتدبيري فلبث فيها سنين (ثم جئت على قدر) أي منى لذلك فوافق ذلك تقديري وتسيري (واصطنعتك انفسي) أي اصطفيتك لنفسي برسالتي وكلامي (اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري) يعني ولا تفترا في ذكري إذ قدمتما عليه ووفدتما إليه، فإن ذلك عون لكما علىمخاطبته ومجاوبته وإهداء النصيحة إليه وإقامة الحجة عليه. وقد جاء في بعض الأحاديث: (يقول الله تعالى: إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه) وقال تعالى: (يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً) الأنفال 45. ثم قال تعالى: (اذهبا إلى فرعون إنه طغى. فقولا قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى) طه 43 - 44. وهذا من حلمه تعالى وكرمه ورأفته ورحمته بخلقه مع علمه بكفر فرعون وعتوه وتجبره وهو إذ ذاك أردى خلقه وقد بعث إليه صفوته من خلقه في ذلك الزمان ومع هذا يقول لهما ويأمرهما أن يدعواه إليه بالتي هي أحسن برفق ولين، ويعاملاه معاملة من يرجو أن يتذكر أو يخشى كما قال لرسوله: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) وقال تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم) العنكبوت 46. قال الحسن البصري: (فقولا قولاً لينا) اعذرا إليه قولاً له: إن لك رباً ولك معاداً وإن بين يديك جنة وناراً.
boulboul
2007-10-10, 00:12
يذكرنا الله تعالى أنه أمرهما أن يذهبا إلى فرعون فيدعواه إلى الله تعالى أن يعبده وحده لا شريك له وأن يرسل معهما بني إسرائيل ويطلقهم من أسره وقهره ولا يعذبهم (قد جئناك بآية من ربك) وهو البرهان العظيم في العصا واليد (والسلام على من اتبع الهدى) تقيد مفيد بليغ عظيم. ثم تهدداه وتوعداه على التكذيب فقالا (إنا أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى) أي كذب بالحق بقلبه وتولى عن العمل بقالبه.
وقد ذكر السدي وغيره: أنه لما قدم من بلاد مدين دخل على أمه وأخيه هارون وهما يتعيشان من طعام فيه الطفشيل - وهو اللفت - فأكل معهما ثم قالك يا هارون إن الله أمرني وأمرك أن ندعو فرعون إلى عبادته فقم معي. فقاما يقصدان باب فرعون فإذا هو مغلق فقال موسى للبوابين والحجبة: أعلموه أن رسول الله بالباب فجعلوا يسخرون منه ويستهزئون به.
وقد زعم بعضهم أنه لم يؤذن لهما عليه إلا بعد حين طويل. وقال محمد بن اسحاق: أذن لهما بعد سنتين لأنه لم يك أحد يتجاسر على الاستئذان لهما. فالله أعلم. ويقال: أن موسى تقدم الباب فطرقه بعصاه فانزعج فرعون وأمر بإحضارهما فوقفا بين يديه فدعواه إلى الله عزوجل كما أمرهما.
وعند أهل الكتاب: أن الله قال لموسى عليه السلام أن هارون اللاوى - يعني من نسل لاوى ابن يعقوب - سيخرج ويتلقاك. وأمره أن يأخذ معه مشايخ بني إسرائيل إلى عند فرعون وأمره أن يظهر ما أتاه من الآيات وقال له: سأقسى قلبه فلا يرسل الشعب وأكثر أياتي وأعاجيبي بأرض مصر، وأوحى الله إلى هارون أن يخرج إلى أخيه يتلقاه بالبرية عند جبل حوريب، فلما تلقاه أخبره بما أمره به ربه فلما دخلا مصر جمعا شيوخ بني إسرائيل وذهبا إلى فرعون فلما بلغاه رسالة الله قال: من هو الله؟لا أعرفه؟ ولا أرسل بني إسرائيل.
يقول تعالى مخبراً عن فرعون أنه أنكر إثبات الصانع تعالى قائلاً (فمن ربكما يا موسى. قال ربنا أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) أي هو الذي خلق الخلق وقدرلهم أعمالاً وأرزاقاً وآجالاً وكتب ذلك عنده في كتابه اللوح المحفوظ ثم هدى كل مخلوق إلى ما قدره له فطابق عمله فيهم على الوجه الذي قدره وعلمه، لكمال علمه وقدرته وقدره. وهذه الآية كقوله تعالى: (سبح اسم ربك الأعلى. الذي خلق فسوى. والذي قدر فهدى) الأعلى 1 - 3. أي قدر قدراً وهدى الخلائق إلأيه (قال فما بال القرون الأولى) طه 51. يقول فرعون لموسى: فإذا كان ربك هو الخالق المقدر الهادي الخلائق لما قدره، وهو بهذه المثابة من أنه لا يستحق العبادة سواه فلم عبد الأولون غيره وأشركوا به من الكواكب والأنداد ما قد علمت، فهلا اهتدى غإلى ما ذكرته القرون الأولى؟ (قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى) أي هم وإن عبدوا غيره فليس ذلك بحجة لك ولا يدل على خلاف ما أقول، لأنهم جهلة مثلك كل شيء فعلوه مسطر عليهم في الزبر من صغير وكبير وسيجزيهم على ذلك ربي عزوجل، ولا يظلم أحداً مثقال ذرة لأن جميع أفعال العباد مكتوبة عنه في كتاب لا يضل عنه شيء ولا ينسى ربي شيئاً. ثم ذكر له عظمة الرب وقدرته على خلق الأشياء وجعله الأ{ض مهاداً، والسماء سقفاً محفوظاً وتسخيره السحاب والأمطار لرزق العباد ودوابهم وأنعامهم، كما قال: (كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك الآيات لأولي النهى) طه 54. أي لذوي العقول الصحيحة المستقيمة والفطر القويمة غير السقيمة فهو تعالى الخالق الرزاق.
يخبر الله تعالى عن شقاء فرعون وكثرة جهله وقلة عقله في تكذيبه بآيات الله، واستكباره عن اتباعها وقوله لموسى: إن هذا الذي جئت به سحر ونحن نعارضك بمثله. ثم طلب من موسى أن يواعده إلى وقت معلوم ومكان وكان هذا من أكبر مقاصد موسى عليه السلام أن يظهر آيات الله وحججه وبراهينه جهرة بحضرة الناس ولهذا قال: (موعدكم يوم الزينة) وكان يوم عيد من أعيادهم ومجتمع لهم (وأن يحشر الناس ضحى) أي من أول النهار وقت اشتداد ضياء الشمس فيكون الحق أظهر وأجلى، ولم يطلب أن يكون ذلك ليلاً في ظلام لهم كيما يروج عليهم محالاً وباطلاًن بل طلب أن يكون نهاراً جهرة لأنه على بصيرة من ربه ويقين أن الله سيظهر كلمته ودينه وأن رغمت أنوف القبط. يخبر الله تعالى عن فرعون أنه ذهب فجمع من كان ببلاده من السحرة وكانت بلاد مصر في ذلك الزمان مملوءة سحرة فضلاء في فنهم غاية فجمعوا له من كل بلد ومن كل مكان فاجتمع منهم خلق كثير وجم غفير، فقيل: كانوا ثمانين ألفاً قاله محمد بن كعب. وقيل: سبعين ألفاً. قاله القاسم بن أبي بردة. وقال السدى: بضعة وثلاثين ألفاً. وعن أبي أمامة: تسعة عشر ألفاً. وقال محمد بن إسحاق: خمسة عشر ألفا. وقال كعب الأحبار: كانوا اثني عشر ألفاً. وروى ابن أ[ي حاتم عن ابن عباس: كانوا سبعين رجلاً. وروى عنه أيضاً: أنهم كانوا أربعين غلاماً من بني إسرائيل أمرهم فرعون أن يذهبوا إلأى العرفاء فيتعلموا السحر ولهذا قالوا: وما أكرهتنا عليه من السحر. وفي هذا نظر.
حضر فرعون وأمراؤه وأهل دولته وأهل بلده عن بكرة أبيهم وذلك أن فرعون نادى فيهم أن يحضروا هذا الموقف العظيم فخرجوا وهم يقولون: لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبون وتقدم موسى عليه السلام إلى السحرة فوعضهم وزجرهم عن تعاطي السحر الباطل الذي فيه معارضة لآيات الله وحججه فقال: (ويلكم لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى فتنازعوا أمرهم بينهم) طه 61 - 62. قيل معناه: أنهم اختلفوا فيما بينهم، فقائل يقول: هذا كلام نبي وليس بساحر وقائل منهم يقول: بل هو ساحر - فالله أعلم - وأسروا التناجي بهذا وغيره: (قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أ{ضكم بسحرهما) يقولون: إن هذا وأخاه هارون ساحران عليمان مطبقان متقنان لهذه الصناعة ومرادهم أن يجتمع الناس عليهما ويصولا على الملك وحاشيته ويستاصلاكم من آخركم ويستأمروا عليكم بهذه الصناعة (فاجتمعوا كيدكم ثم أئتوا صفاً وقد أفلح اليوم من استعلى) وإنما قالوا الكلام الأول ليتدبروا ويتواصوا ويأتوا بجميع ما عندهم من المكيدة والمكر والخديعة والسحر والبهتان وهيهات كذبت والله الظنون وأخطأت الآراء أنى يتعارض البهتان والسحر والهذيان خوارق العادات التي أجراها الديان على يدي عبده الكليم ورسوله الكريم المؤيد بالبرهان الذي يبهر الأبصار وتحار في العقول والأذهان. لما اصطف السحرة وقف موسى وهارون عليهما السلام تجاههم قالوا له: إما أن تلقي قبلنا وإما أن نلقي قبلك (قال ألأقوا) الأعراف 116. أنتم وكانوا قد عمدوا إلى حبال وعصي فأودعوها الزئبق وغيره من الآلات التي تضرب بسببها تلك الحبال والعصي اضطراباً يخيل للرائي أنها تسعى باختيارها وإنما تتحرك بسبب ذلك فعند ذلك سحروا أعين الناس واسترهبوا وألقوا حبالهم وعصيهم وهم يقولون: بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون. أي خاف على الناس أن يفتتنوا بسحرهم ومحالهم قبل أن يلقي ما في يده فإنه لا يضع شيئاً قبل أن يؤمر فأوحى الله إليه الساعة الراهنة: (لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى) فعند ذلك ألقى موسى عصاه وقال: ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين (ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون) يونس 82.
حين ألقى موسى عليه السلام عصاه صارت حية عظيمة ذات قوائم فيما ذكره واحد من علماء السلف وعنق عظيم وشكر هائل مزعج بحيث أن الناس انحازوا منها وهربوا سراعاً وتأخروا عن مكانها وأقبلت هي على ما القوه من الحبال والعصي فجعلت تلقفه واحداً واحدتً في أسرع ما يكون من الحركة والناس ينظرون إليها ويتعجبون منها. وأما السحرة فإنهم رأوا ما هالهم وحيرهم في أمرهم وأطلعوا على أمر لم يكن في خلدهم و لا بالهم ولا يدخل تحت صتاعاتهم وأشغالهم. فعند ذلك وهنالك تحققوا بما عندهم من العلم أن هذا ليس بسحر ولا شعوذة ولا محال ولا خيال ولا زور ولا بهتان ولا ضلال بل حق لا يقدر عليه إلا الحق الذي ابتعث هذا المؤيد به بالحق وكشف الله عن قلوبهم غشاوة الغفلة وأنارها بما خلق فيها من الهدى وأزاح عنها القسوة وأنابوا إلى ربهم وخروا له ساجدين وقالوا جهرة للحاضرين ولم يخشوا عقوبة ولا بلوى: آمنا برب موسى وهارون كما قال تعالى: (فألقى السحرة سجداً قالوا آمنا برب موسى وهارون) طه 70.
قال سعيد بن جبير وعكرمة والقاسم بن أبي بردة الأوزاعي وغيرهم: لما سجد السحرة رأوا منازلهم وقصورهم في الجنة تعيأ لهم وتزخرف لقدموهم ولهذا لم يلتفتوا إلأى تهويل فرعون وتهديده ووعيده. وذلك لأن فرعون لما رأى هؤلاء السحرة قد أسلموا وأشهروا ذكر موسى وهارون في الناس على هذه الصفة الجميلة أفزعه ذلك ورأى أمراً أبهره وأعمى بصيرته وبصره وكان فيه كيد ومكر وخداع وصنعة بليغة في الصد عن سبيل الله فقال مخاطباً للسحرة بحضرة الناس (آمنتم له قبل أن آذن لكم) أي هلا شاورتموني فيما صنعتم من الأمر الفظيع بحضرة رعيتي. ثم تهدد وتوعد وأبرق وأرعد وكذب فأبعد قائلاً: (إنه لكبيركم الذي علمكم السحر) وقال في الآية الأخرى (إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون). وهذا الذي قاله من البهتان يعلم كل فرد عاقل ما فيه من الكفر والكذب والهذيان بل لا يروج مثله على الصبيان فإن الناس كلهم من أهل دولته وغيرهم يعلمون أن موسى لم يره هؤلاء يوماً من الدهر فكيف يكون كبيرهم الذي علمهم السحر ثم هو لم يجمعهم ولا علم باجتماعهم حتى كان فرعون هو الذي استدعاهم واجتباهم من كل فج عميق وواد سحيق ومن حواضر بلاد مصر والأطراف ومن المدن والأ{ياف. قال الله تعالى في سورة الأعراف (ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) الأعراف 103.
إن فرعون كذب وافترى وكفر غاية الكفر قوله: إنه لكبيرهم الذي علمكم السحر وأتى ببهتان يعلمه العالمون بل العالمون في قوله: (إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون) وقوله: (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف) يعني يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى وعكسه (ولأصلبنكم أجمعين) أي ليجعلهم مثلة ونكالاً لئلا يقتدى بهم أحد من رعيته وأهل ملته. ولهذا قال: (لأصلبنكم في جذوع النخل) أي على جذوع النخل لأنها أعلى وأشهر (ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى) يعني في الدنيا (قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات) أي لن نطيعك ونترك ما وقر في قلوبنا من البينات والدلائل القاطعات (والذي فطرنا) قيل: معطوف. وقيل: قسم (فاقض ما أنت قاض) أي فافعل ما قدرت عليه (إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) أي إنما حكمك علينا في هذه الحياة الدنيا فإذا انتقلنا منها إلى الدار الآخرة صرنا إلى حكم الذي أسلمنا له واتبعنا رسله (إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى) أي وثوابه خير مما وعدتنا من التقريب والترغيب (وأ[قى) أي وأدوم من هذه الدار الفانية. وفي الآية الأخرى (قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون. إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا) أي ما اجترمناه من المآثم والمحارم (أن كنا أول المؤمنين) أي من القبط بموسى وهارون عليهما السلام.
وقالوا له أيضاً: (وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا) أي ليس لنا عندك ذنب إلا إيماننا بما جاءنا به رسوله وأتباعنا آيات ربنا لما جاءتنا (ربنا أفرغ علينا صبراً) أي ثبتنا على ما ابتلينا به من عقوبة هذا الجبار العنيد والسلطان الشديد بل الشيطان المريد (وتوفنا مسلمين) وقالوا أيضاً يعظونه ويخوفونه بأس ربه العظيم: (إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى) يقولون فإياك أن تكون منهم فكان منهم (ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى) أي المنازل العالية (جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى) (طه 74 - 76) فاحرص أن تكون منهم. فحالت بينه وبين ذلك الأقدار التي لا تغالب ولا تمانع وحكم العلي العظيم بأن فرعون لعنه الله. من أهل الجحيم ليباشر العذاب الأليم يصب من فوق رأسه الحميم ويقال له على وجه التقريع والتوبيخ وهو المقبوح المنبوح والذميم اللئيم (ذق إنك أنت العزيز الكريم) (الدخان 49)
يخبر تعالى عن الملأ من قوم فرعون وهم الأمراء والكبراء أنهم حرضوا ملكهم فرعون على أنية نبي الله موسى عليه السلام ومقاتلته بدل التصديق بما جاء به بالكفر والرد والأذى قالوا: (أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك) يعنون قبحهم الله أن دعوته إلى عبادة الله وحده لا شريك له والنهي عن عبادة ما سواه فساد بالنسبة إلى اعتقاد القبط.
وقرأ بعضهم (ويذرك وآلهتك) أي وعبادتك. ويحتمل شيئين: أحدهما: ويذر دينك وتقويه القراءة الأخرى. الثاني: ويذر أن يعبدك. فإنه كان يزعم أنه إله (لعنه الله) (قال سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم) أي لئلا يكثر مقاتلتهم (وإنا فوقهم قاهرون) أي غالبون.
كان فرعون الملك وهامان الوزير وكان قارون إسرائيلياً من قوم موسى عليه السلام إلا أنه كان على دين فرعون وملائه وكان ذا مال جزيل جداً فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال) (غافر 25) وهذا القتل للغلمان من بعد بعثة موسى إنما كان على وجه الإهانة والإذلال والتقليل لملأ بني إسرائيل لئلا يكون لهم شوكة يمتنعون بها ويصولون على القبط بسببها وكانت القبط منهم يحذرون فلم ينفعهم ذلك ولم يرد عنهم قدر الذي يقول للشيء كن فيكون (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد) ولهذا يقول الناس على سبيل التهكم: (صار فرهون مذكراً) وهذا منه فإن فرعون في زعمه يخاف على الناس أن يضلكم موسى عليه السلام (وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب) (غافر 27) أي عذت بالله ولجأت إليه بجانبه من أن يسطو فرعون وغيره علي بسوء. وقوله: (من كل متكبر) أي جبار عنيد لا يرعوي ولا ينتهي ولا يخاف عذاب الله وعقابه لأنه لا يعتقد معاداً ولا جزاء. ولهذا قال: (وقار رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله) (غافر 28) وهذا الرجل ابن عم فرعون وكان يكتم إيمانه من قومه خوفاً منهم على نفسه.
قال ابن جريج: قال ابن عباس: لم يؤمن من القبط بموسى إلا هذا والذي جاء من أقصى المدينة وامرأة فرعون. رواه ابن أبي حاتم. قال الدارقطني: لا يعرف من اسمه شمعان بالشين المعجمة إلا مؤمن آل فرعون. حكاه السهيلي: وفي تاريخ الطبراني: إن اسمه خير. فالله أعلم.
هذا الرجل كان يكتم إيمانه فلما هم فرعون - لعنه الله - بقتل موسى عليه السلام وعزم على ذلك شاور ملأه فيه خاف هذا المؤمن على موسى فتلطف في رد فرعون بكلام جمع الترغيب والترهيب فقال على وجه المشورة والرأي. وقد ثبت في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أنه قال أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر) وهذا من أعلى مراتب هذا المقام فإن فرعون لأشد جوراً منه وهذا الكلام لا أعدل منه لأن فيه عصمة نبي. ويحتمل أن كاشرهم (كاشفهم) بإظهار إيمانه وصرح لهم بما كان يكتمه. والأول أظهر. والله أعلم. قال: (أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله) أي من أجل أن قال ربي الله! فمثل هذا لا يقابل بهذا بل الإكرام والاحترام والموادعة وترك الانتقام يعني لأنه: (قد جاءكم بالبينات من ربكم) أي بالخوارق التي دلت على صدقه فيما جاء به عمن أرسله فهذا إن وادعتموه كنتم في سلامة لأنه: (إن يك كاذباً فعليه كذبه) ولا يضركم ذلك (وإن يك صادقاً) وقد تعرضتم له (يصبكم بعض الذي يعدكم) أي وأنتم تشفقون أن ينالكم أيسر جزاء مما يتوعدكم به فكيف بكم إن حل جميعه عليكم.
وهذا الكلام في هذا المقام من أعلى مقامات التلطف والاحتراز والعقل التام وقوله: (يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض) يحذركم أن يسلبوا هذا الملك العزيز، وكذا وقع لآل فرعون ما زالوا في شك وريب ومخالفة ومعاندة لما جاءهم موسى به حتى أخرجهم الله مما فيه من الملك والأملاك والدور والقصور والنعمة والحبور ثم حولوا إلى البحر مهانين ونقلت أرواحهم بعد العلو والرفعة إلى أسفل السافلين ولهذا قال هذا الرجل المؤمن المصدق البار الراشد التابع للحق الناصح لقومه الكامل العقل: (ياقوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض) أي عالين على الناس حاكمين عليهم (فمن ينصرنا من بأس مالك الممالك (قال فرعون) أي في جواب هذا كله: (ما أريكم إلا ما أرى) أي ما اقول لكم إلا ما عندي (وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) وكذب في كل من هذين القولين وهاتين المقدمتين فإنه قد كان يتحقق في باطنه وفي نفسه أن هذا الذي في كل من هذين القولين وهاتين المقدمتين فإنه قد كان يتحقق في باطنه وفي نفسه أن هذا الذي جاء به موسى من عند الله لا محالة وإما كان يظهر خلافه بغياً وعدواناً وعتواً وكفراناً قال الله تعالى إخباراً عن موسى (لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً. فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعاً. وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفاً) (ال'سراء 102 - 104) وقال تعالى: (فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين. وجحدوا بها واستيقنتها أنفسكم ظلماً وعلوا فانظر كيف عاقبة المفسدين) (النمل 13 - 14) وأما قوله: (وما اهديكم إلا سبيل الرشاد) فقد كذب أيضاً فإنه لم يكن على رشاد من الأمر بل كان على سفه وضلال و خبل وخيال فكان أولاً ممن عبد الأصنام والأمثال ثم دعا قومه الجهلة إلى أن اتبعوه وطاعوه وصدقوه فيما زعم من الكفر المحال في دعواه أنه رب، تعالى الله ذو الجلال قال الله تعالى: (ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون. أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين. فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين. فلما آسفونا اتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين) (الزخرف 51 - 55) .
boulboul
2007-10-10, 00:13
قال الله تعالى: (فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين) أما الطوفان: فعن ابن عباس: هو كثرة الأمطار المتلفة للزوع والثمار. وبه قال سعيد بن جبير وقتادة والسدي واضحاك. وعن ابن عباس وعطاء: هو كثرة الموت. وقال مجاهد: الطوفان: الماء والطاعون على كل حال. وعن ابن عبا: أمر طاف بهم. وقد روى ابن جرير وابن مردويه من طريق يحيى بن يمان عن المنهال بن خليفة عن الحجاج عن الحكم بن مينا عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الطوفان الموت) وهو غريب. وأما الجراد فمعروف. وقد روى ابو داود عن أبي عثمان عن سلمان الفارسي قال: (سئل رسول الله عن الجراد؟ فقال: (أكثر جنود الله لا آكله ولا أحرمه) وترك النبي صلى الله عليه وسلم أكله إنما هو على وجه التقذر له كما ترك أكل الضب وتنزه عن أكل البصل والثوم والكراث) لما ثبت في الصحيحين عن عبدالله بن أبي أوفى قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد) وأنه استاق خضراءهم فلم يترك لهم زرعاً ولا ثماراً ولا سبداً ولا لبداً. وأما القمل: فعن ابن عباس: هو السوس الذي يخرج من الحنطة. وعنه: أنه الجراد الصغار الذي لا أجنحة له. وبه قال مجاهد وعكرمه وقتادة وقال سعيد بن جبير والحسن: هو دواب سود صغار. وقال عبدالرحمن بن زيد بن اسلم: هي البراغيث. وحكى ابن جرير عن أهل العربية: أنها الحمنان وهو صغار القردان (لإرق القمقامة) فدخل معهم البيوت والفرش فلم يقر لهم قرار ولم يمكنهم معه الغمض ولا العيش. وفسره عطاء بن السائب بهذا القمل المعروف. وقرأها الحسن البصري كذلك بالتخفيف. وأما الضفادع: فمعروفة لبستهم حتى كانت تسقط في أطعمتهم وأوانيهم حتى إن أحدهم إذا فتح لطعام أو شراب سقطت في فيه ضفدعة من تلك الضفادع. وأما الدم: فكان قد مزج ماؤهم كله به فلا يستقون من النيل شيئاً إلا وجدوه دماً عبيطاً (طرياً) ولا من نهر ولا بئر ولا شيء إلا كان دماً في الساعة الراهنة. هذا كله لم ينل بني غسرائيل من ذلك شيء بالكلية وهذا من تمام المعجزة الباهرة والحجة القاطعة أن هذا كله لم يحصل لهم من فعل موسى عليه السلام فينالهم عن ىخرهم ولا يحصل هذا لأحد من بني إسرائيل وفي هذا أدل دليل. قال محمد بن اسحاق: فرجع عدو الله فرعون حين آمنت السحرة مغلوباً مفلولاً ثم أبى إلا الإقامة على الكفر والتمادي في الشر فتابع الله عليه بالآيات فأخذه بالسنين فأرسل عليه الطوفان ثم الجراد ثم القمل ثم الضفادع ثم الدم آيات مفصلات فأرسل الطوفان وهو الماء على وجه الأرض ثم ركد لا يقدرون على أن يخرجوا ولا أن يعملوا شيئاً حتى ججهدوا جوعاً فلما بلغهم ذلك: (قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني اسرائيل) فدعا موسى ربه فكشفه عنهم فلما يفوا له بشيء أرسل الله عليهم الجراد فأكل الشجر فيما بلغني حتى أن كان ليأكل مسامير الأبواب من الحديث حتى تقع دورهم ومساكنهم فقالوا مثل ما قالوا فدعا ربه فكشف عنهم فلم يفوا له بشيء مما قالوا فأرسل الله عليهم القمل. فذكر لي: أن موسى عليه السلام أمر أن يمشي إلى كثيب حتى يضربه بعصاه فمشى إلى كثيب أهيل عظيم فضربه بها فانثال عليهم قملاً حتى غلب على البيوت والأطعمة ومنعهم النوم والقرار فلما جهدهم قالوا له مثل ما قالوا له فدعا ربه فكشف عنهم فلما لم يفوا له بشيء مما قالوا أرسل الله عليهم الضفادع فملأت البيوت والأطعمة والآنية فلم يكشف أحد ثوباً ولا طعاماً إلا وجد فيه الضفادع قد غلب عليه فلما جهدهم ذلك قالوا له مثل ما قالوا فدعا ربه فكشف عنهم فلم يفوا بشيء مما قالوا فأ{سل الله عليهم الدم فصارت مياه آل فرعون دماً لا يستقون من بئر ولا نهر ولا يغترفون من إناء إلا عاد دماً عبيطاً وقال زيد بن أسلم المراد بالدم: (الرعاف الذي يخرج من الأنف). رواه ابن أبي حاتم.
يخبر تعالى عن كفرهم وعتوهم واستمرارهم على الضلال والجهل والاستكبار عن اتباع آيات الله وتصديق رسوله مع ما أيد به من الآيات العظيمة الباهرة والحجج البليغة القاهرة التي أراهم الله إياها عياناً وجعلها عليهم دليلاً وبرهاناً وكلما شاهدوا آية وعاينوها وجهدهم وأضنكهم حلفوا وعاهدوا موسى لئن كشف عنهم هذه ليؤمنن به وليرسلن معه من هو من حزبه فكلما رفعت عنهم تلك الآية عادوا إلى شر مما كانوا عليه وأعرضوا عما جاءهم به من الحق ولم يلتفتوا إليه فيرسل الله عليهم آية أخرى هي أشد مما كانت قبلها وأقى فيقولون فيكذبون ويعدون ولا يوفون: لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فيكشف عنهم ذلك العذاب الوبيل ثم يعودون إلى جهلهم العريض الطويل هذا والعظيم الحليم القدير ينظرهم ولا يعجل عليهم ويؤخرهم ويتقدم بالوعيد إليهم ثم أخذهم بعد إقامة الحجة عليهم والإنذار إليهم أخذ عزيز مقتدر فجعلهم عبرة ونكالاً وسلفاً لمن أشبههم من الكافرين ومثلاً لمن اتعظ بهم من عباده المؤمنين.
يذكر تعالى إرساله عبده الكليم الكريم إلى فرعون الخسيس اللئيم وأنه تعالى أيد رسوله بآيات بينات واضحات تستحق أن تقابل بالتعظيم والتصديق وأن يرتدعوا عما هم فيه من الكفر ويرجعوا إلى الحق والصراط المستقيم فإذا هم منها يضحكون وبها يستهزئون وعن سبيل الله يصدعون وعن الحق يصدون فأرسل الله عليهم الآيات تتري يتبع بعضها بعضاً وكل آية أكبر من التي تتلوها لأن التوكيد أبلغ مما قبله: (وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون. وقالوا يأيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون) الزخرف 48 - 49. لم يكن لفظ الساحر في زمنهم نقصاً ولا عيباً لأن علماءهم في ذلك الوقت هم السحرة ولهذا خاطبوه به في حال احتياجهم إلأيه وضراعتهم لديه قال الله تعالى: (فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون) ثم أخبر تعالى عن تبجح فرعون بملكه وعظمة بلده وحسنها وتخرق الأنهار فيها وهي الخلجانات التي يكسرونها أمام زيادة النيل ثم تبجح نفسه وحليته وأخذ يتنقص رسول الله موسى عليه السلام ويزدريه بكونه: (لا يكاد يبين) الزخرف 52. يعني كلامه بسبب ما كان في لسانه من بقية تلك اللثغة التي هي شرف له وكمال وجمال ولم تكن مانعة له أن كلمة الله تعالى وأوحى إليه وأنزل بعد ذلك التوراة عليه وتنقصه فرعون لعنه الله بكونه لا أساور في بدنه ولا زينة عليه وإنما ذلك من حلية النساء لا يليق بشهامة الرجال فكيف بالرسل الذين هم أكمل عقلاً وأتم معرفة وأعلى همة وأزهد في الدنيا وأعلم بما أعد الله لأوليائه في الأخرى. وقوله: (أو جاء معه الملائكة مقترنين) الزخرف 53. لا يحتاج الأمر إلى ذلك إن كان المراد أن تعظمه فالملائكة يعظمون ويتواضعون لمن هم دون موسى عليه السلام بكثير كما جاء في الحديث: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع) فكيف يكون تواضعهم وتعظيمهم لموسى الكليم عليه الصلاة والتسليم والتكريم وإن كان المراد شهادتهم له بالرسالة فقد أيد من المعجزات بما يدل قطعاً لذوي الألباب ولمن قصد إلى الحق والصواب ويعمى عما جاء به من البينات والحجج الواضحات من نظر إلى القشور وترك لب اللباب وطبع على قلبه رب الألباب وختم عليه بما فيه من الشك والارتياب كما هو حال فرعون القبطي العمي الكذاب قال الله تعالى: (فاستخف قومه فأطاعوه) الزخرف 54ز أي استخف عقولهم ودرجهم من حال إلى حال إلى أن صدقوه في دعواه الربوبية لعنه الله وقبحهم (إنهم كانوا قوماً فاسقين فلما آسفونا9 أي اغضبونا (انتقمنا منهم) أي بالغرق والاهانة وسلب العز والتبدل بالذل وبالعذاب بعد النعمة والهوان بعد الرفاهية والنار بعد طيب العرش عياذاً بالله العظيم وسلطانه القديم من ذلك (فجعلناهم سلفاً) أي لمن اتبعهم في الصفات (مثلا) أي لمن اتعظ بهم وخاف من وبيل مصرعهم ممن بلغه جلية خبرهم وما كان من أمرهم.
حين تمادى قبط مصر على كفرهم وعتوهم وعنادهم متابعة لملكهم فرعون ومخالفة لنبي الله ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام وأقام الله على أهل مصر الحجج العظيمة القاهرة وأراهم من خوارق العادات ما بهر الأبصار وحير العقول وهم مع ذلك لا يرعوون ولا ينتهون ولا ينزعون ولا رجعون ولم يؤمن منهم إلا الفليل قيل: ثلاثة وهم امرأة فرعون ولا علم لأهل الكتاب بخبرها ومؤمن آل فرعون الذي تقدم حكاية موعظته ومشورته وحجته عليهم. والرجل الناصح الذي جاء يسعى من أقصى المدينة فقال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين. قاله ابن عباس فيما رواه ابن أبي حاتم عنه ومراده: غير السحرة فإنهم كانوا من القبط. وقيل: بل آمن طائفة من القبط من قوم فرعون والسحرة كلهم وجميع شعب بني إسرائيل ويدل على هذا قوله تعالى: (فما آمن لموسى إلا ذرية قومه على خوف من فرعون وملائهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين) يونس 83. فالضمير في قوله: (إلا ذرية من قومه) عائد على فرعون لأن السياق يدل عليه. وقيل: على موسى لقربه والأول أظهر وإيمانهم كان خفية لمخافتهم من فرعون وسطوته وجبروته وسلطته ومن ملائهم أن ينموا عليهم إلأيه فيفتنهم عن دينهم أوحى الله تعالى إلأى موسى وأخيه هارون عليهما السلام أن يتخذوا لقومهما بيوتاً متميزة فيما بينهم عن بيوت القبط ليكونوا على اهبة في الرحيل إذا مروا به ليعرف بعضهم بيوت بعض وقوله: (واجعلوا بيوتكم قبلة) قيل: مساجد. وقيل: معناه كثرة الصلاة فيها قاله مجاهد وأبو مالك وإبراهيم النخعي والربيع والضحاك وزيد بن أسلم وابنه عبدالرحمن وغيرهم. ومعناه على هذا: الاستعانة على ما هم فيه من الضر والشدة والضيق بكثرة الصلاة كما قال تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة) البقرة 153. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حز به أمر صلى. وقيل: معناه أنهم لم يكونوا حينئذ يقدرون على إظهار عبادتهم في مجتمعاتهم ومعابدهم فأمروا أن يصلوا في بيوتهم عوضاً عما فاتهم من إظهار شعار الدين الحق في ذلك الزمان الذي اقتضى حالهم إخفاءه خوفاً من فرعون وملائه. والكعنى الأول أقوى لقوله: (وبشر المؤمنين) وإن كان لا ينافي الثاني أيضاً والله أعلم. وقال سعيد بن جبير (واجعلوا بيوتكم قبلة) أي متقابلة (وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالافي الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك. ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم. قال قد أجيبتدعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون) هذه دعوة عظيمة دعا بها كليم الله موسى على عدو الله فرعون غضباً لله عليه لتكبره عن اتباع الحق وصده عن سبيل الله ومعاندته وعتوه وتمرده واستمراره على الباطل وكابرته الحق الواضح الجلي الحسي والمعنوي والبرهان القطعي فقال: (ربنا إنك آتيت فرعون ملأه) يعني قومه من القبط ومن كان على ملته ودان بدينه: (زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك) يونس 88. أي هذه الأموال وهذه الزينة من اللباس.والمراكب الحسنة الهنية والدور الأنيقة والقصور المبنية والمآكل الشهيرة والمناظر البهية والملك العزيز والتمكين والجاه العريض في الدنيا لا الدين (ربنا اطمس على أمرالهم) قال ابن عباس ومجاهد: أي أهلكها. وقال أبو العالية والربيع بن أنس والظحاك اجعلها حجارة منقوشة كهيئة ما كانت وقال قتادة بلغنا أن زروعهم صارت حجارة وقال محمد بن كعب جعل سكرهم حجارة وقال أيضاً صارت أموالهم كلها حجارة ذكر ذلك لعمر بن عبدالعزيز لغلام له قم ائتني بكيس فجاءه بكيس فإذا فيه حمص وبيض قد حول حجارة. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله (واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) قال ابن عباس: أي اطبع عليها وهذه دعوة غضب لله تعالى ولدينه ولبراهينه فاستجاب الله تعالى لها وحققها وتقبلها كما استجاب لنوح في قومه حيث قال: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً. إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فجاراً كفاراً) ولهذا قال تعالى مخاطباً لموسى حين دعا على فرعون وملائه وأمن أخوه هارون على دعائه فنزل ذلك منزلة الداعي أيضاً (قال قد أجبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون) يونس 89. قال المفسرون وغيرهم من أهل الكتاب: استأذن بنو إسرائيل فرعون في الخروج إلى عيد لهم فأذن لهم وهو كاره ولكنهم تجهزوا للخروج وتأهبوا له وإنما كان في نفس الأمر مكيدة بفرعون وجنوده ليتخلصوا منهم ويخرجوا عنهم وأمرهم الله تعالى فيما ذكره أهل الكتاب أن يستعيروا حلياً منهم فأعاروهم شيئاً كثيراً فخرجوا بليل فساروا مستمرين ذاهبين من فورهم طالبين بلاد الشام فلما علم بذهابهم فرعون حنق عليهم كل الحنق واشتد غضبه عليهم وشرع في استحثاث جيشه وجمع جنوده ليلحقهم ويمحقهم قال الله تعالى: (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون. فأرسل فرعون في المدائن حاشرين. إن هؤلاء لشر ذمة قليلون. وإنهم لنا لغائظون). الشعراء 52 - 54. لما ركب فرعون في جنوده طالباً بني إسرائيل يقفوا أثرهم كان في جيش كثيف عرمرم حتى قيل كان في خيوله مائة ألف فحل أدهم وكانت عدة جنوده تزيد على ألف ألف وستمائة ألف فالله أعلم. وقيل: إن بني إسرائيل كانوا نحواً من ستمائة ألف مقاتل غير الذرية وكان بين خروجهم من مصر صحبة موسى عليه السلام ودخولهم إلأيها صحبة أبيهم إسرائيل أربعمائة سنة وستاً وعشرين سنة شمسية.
والمقصود: أن فرعون لحقهم بالجنود فأدركهم عند شروق الشمس وتراءى الجمعان ولم يبق ثم ريب ولا لبس عاين كل من الفريقين صاحبه وتحققه ورآه ولم يبق إلا المقاتلة والمجادلة والمحاماة فعندها قال أصحاب موسى وهم خائفون أنا لمدركون وذلك لأنهم اضطروا في طريقهم إلى البحر فليس لهم طريق ولا محيد إلا سلوكه وخوضه وهذا ما لا يستطيعه أحد ولا يقدر عليه الجبال عن يسرتهم وعن إيمانهم وهي شاهقة منيفة وفرعون قد غالقهم وواجههم وعاينوه في جنوده وجيوشه وعدده وهم منه في غاية الخوف والذعر لما قاسوا في سلطانه من الإهانة والمنكر فشكوا إلى نبي الله ما هم فيه مما قد شاهدوه وعاينوه فقال لهم الرسول الصادق المصدوق: (كلا إن معي ربي سيهدين) الشعراء 62. وكان في الساقة فتقدم إلى المقدمة فنظر إلى البحر وهو يتلاطم بأمواجه ويتزايد زبد أجاجه وهو يقول: ههنا أمرت ومعه أخوه هارون يوشع بن نون وهو يومئذ من سادات بني إسرائيل وعلمائهم وعبادهم الكبار وقد أوحى الله إليه وجعله نبياً بعد موسى وهارون عليهما السلام كما سنذكره فيما بعد إن شاء الله - ومعهم أيضاً مؤمن آل فرعون جعل يقتحم بفرسه مراراً في البحر هل يمكن سلوكه فلا يمكن ويقول لموسى عليه السلام: يا نبي الله أههنا أمرت؟ فيقول نعم. فلما تفاقم الأمر وضاق الحال واشتد الأمر واقترب فرعون وجنوده في جدهم وحدهم وحديدهم وغضبهم وحنقهم وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر فعند ذلك أوحى الحليم العليم القدير رب العرش الكريم إلى موسى كليم الله (أن اضرب بعصاك البحر) الشعراء 63. فلما ضربه يقال أنه قال له: انفلق بإذن الله. ويقال أنه كناه بأبي خلد - فالله أعلم.
قال الله تعالى (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) الشعراء 63. ويقال: أنه انفلق اثنتي عشرة طريقاً لكل سبط طريق يسيرون فيه. حتى قيل:أنه صار أيضاً شبابيك ليرى بعضهم بعضاً وفي هذا نظر لأن الماء جرم شفاف إذا كان من ورائه ضياء حكاه. وهكذا كان ماء البحر قائماً مثل الجبال مكفوفاً بالقدرة العظيمة الصادرة من الذي يقول للشيء كن فيكون وأمر الله ريح الدبور فلقحت حال البحر فأذهبته حتى صار يابساً لا يعلق في سنابك الخيول والدواب.
لما ىل البحر إلى هذه الحال بإذن الرب العظيم الشديد المحال أمر موسى عليه السلام أن يجوزه ببني إسرائيل فانحدوا مسرعين مستبشرين مبادرين وقد شاهدوا من الأمر العظيم ما يحير الناظرين ويهدي قلوب المؤمنين فلما جاوزوه وجاوزه وخرج آخرهم منه وانفصلوا عنه كان ذلك عند قدوم أول جيش فرعون إليه ووفودهم عليه فأراد موسى عليه السلام أن يضرب البحر بعصاه ليرجع كما كان عليه لئلا يكون لفرعون وجنوده وصول إليه ولا سبيل عليه فأمره القدير ذو الجلال أن يترك البحر على هذه الحال. (واترك البحر رهوا) أي ساكناً على هيئته لا تغيره عن هذه الصفة. قاله عبدالله بن عباس ومجاهد وعكرمة والربيع والضحاك وقتادة وكعب الأحبار وسماك بن حرب وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم. فلما تركه على هيئته وحالته وانتهى فرعون فرأى ما رأى وعاين ما عاين هاله هذا المنظر العظيم وتحقق ما كان يتحققه قبل ذلك من أن هذا من فعل رب العرش الكريم فأحجم ولم يتقدم وندم في نفسه على خروجه في طلبهم والحالة هذه حيث لا ينفعه الندم لكنه أظهر لجنوده تجلداً وعاملهم معاملة العدا وحملته النفس الكافرة والسجية الفاجرة على أن قال لمن استخفهم فأطاعوه وعلى باطله تابعوه: انظروا كيف انحسر البحر لي لأدرك عبيدي الآبقين من يدي الخارجين عن طاعتي وبلدي وجعل يوري في نفسه أن ذهب خلفهم ويرجو أن ينجو وهيهات ويقدم تارة ويحجم تارات. فذكروا أن جبريل عليه السلام تبدي في صورة فارس راكب على رمكة (فرس) حايل فمر بين يدي فحل فرعون لعنه الله فحمحم إلأيها وأٌبل عليها وأسرع جبريل بين يديه فاقتحم البحر واستبق الجواد وقد أجاد فبادر مسرعاً هذا وفرعون لا يملك من نفسه ضراً ولا نفعاً فلما رأته الجنود قد سلك البحر اقتحموا وراءه مسرعين فحصلوا في البحر أجمعين أكتعين (أذلاء) أبصعين (غرقى) حتى هم أولهم بالخروج منه فعند ذلك أمر الله تعالى كليمه فيما أوحاه إليه أن يضرب البحر بعصاه فضربه فارتفع عليهم البحر كما كان فلم ينج منهم انسان قال الله تعالى: (وأنجينا موسى ومن معه أجمعين. ثم أغرقنا الآخرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين. وإن ربك لهو العزيز الرحيم) الشعراء 65 - 68 أي في إنجائه أولياءه فلم يغرق منهم أحد وإغراقه أعداءه فلم يخلص منهم أحد آية عظيمة وبرهان قاطع على قدرته تعالى العظيمة وصدق رسوله فيما جاء به عن ربه من الشريعة الكريمة والمناهج المستقيمة. يخبر تعالى عن كيفية غرق فرعون زعيم كفرة القبط وأنه لما جعلت الأمواج تخفضه تارة وترفعه تارة أخرى وبنو إسرائيل ينظرون إليه وإلى جنوده ماذا أحل الله به وبهم من البأس العظيم والخطب الجسيم ليكون أقر لأعين بني إسرائيل وأشفى لنفوسهم فلما عاين فرعون الهلكة وأحيط به وباشر سكرات الموت أناب حينئذ وتاب وآمن حين لا ينفع نفساً ايمانها كما قال تعالى: (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم) يونس 96 - 97.
boulboul
2007-10-10, 00:14
هكذا دعا موسى على فرعون وملائه أن يطمس على أموالهم ويشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم. أي حين لا ينفعهم ذلك ويكون حسرة عليهم. وقد قال تعالى لهما أي لموسى وهارون حين دعوا بهذا: (قد أجبت دعوتكما) يونس 89. فهذا من إجابة الله تعالى دعوة كليمه وأخيه هارون عليهما السلام. ومن ذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال فرعون (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل) قال: قال لي جبريل: لو رأيتني وقد أخذت من حال البحر فدسسته في فيه مخافة أن تناله الرحمة ورواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم عند هذه الآية من حديث حماد بن سلمة وقال الترمذي حديث حسن. وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة عن عدي بن ثابت وعطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال لي جبريل: لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فم فرعون مخافة أن يناله الرحمة) ورواه الترمذي وابن جرير من حديث شعبة وقال الترمذي حسن غريب صحيح. وأشار ابن جرير في رواية إلى وقفة. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما أغرق الله فرعون أشار بإصبعه ورفع صوته: (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسٍرائيل) قال: فخاف جبريل أن تسبق رحمة الله فيه غضبه فجعل يأخذ الحال بجناحيه فيضرب به وجهه فيرمسه (يرميه به) رواه ابن جرير من حديث أبي خالد به. وقد رواه ابن جرير من طريق كثير بن زاذان وليس بمعروف وعن ابن حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال لي جبريل: يا محمد لو رأيتني وأنا أغطه وأدس من الحال في فيه مخافة أن تدركه رحمة الله فيغفر له) يعني فرعون. وقد أرسله غير واحد من السلف كإبراهيم التيمي وقتادة وميمون بن مهران. ويقال: إن الضحاك بن قيس خطب به الناس. وفي بعض الروايات: إن جبريل قال: ما بغضت أحداً بغضي لفرعون حين قال: أنا ربكم الأعلى ولقد جعلت أدس في فيه الطين حين قال ما قال. وقوله تعالى: (الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) استفهام وإنكار ونص على عدم قبوله تعالى منه ذلك لأنه والله أعلم لو رد إلى الدنيا كما كان لعاد إلى ما كان عليه كما أخبر تعالى عن الكفار إذا عاينوا النار وشاهدوها أنهم يقولون: (ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) الأنعام 27. قال ابن عباس وغير واحد شك بعض بني إٍرائيل في موت فرعون حتى قال بعضهم: إنه لا يموت فأمر الله البحر فرفعه على مرتفع قيل: على وجه الماء وقيل: على نجوة من الأرض وعليه درعه التي يعرفونها من ملابسه ليتحققوا بذلك من هلاكه ويعلموا قدرة الله عليه. ولهذا قال: (فاليوم ننجيك ببدنك) أي مصاحباً درعك المعروفة بك لتكون أي أنت آية لمن خلفك أي من بني إسرائيل دليلاً على قدرة الله الذي أهلكه. ولهذا قرأ بعض السلف: لتكون لمن خلفك آية. ويحتمل أن يكون المراد ننجيك مصاحباً لتكون درعاً علامة لمن وراءك من بني إسرائيل على معرفتك وإنك هلكت والله أعلم. وقد كان هلاكه وجنوده في يوم عاشوراء كما قال الإمام البخاري في صحيحه حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء فقالوا: هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتم أحق بموسى منهم فصوموا). وأصل هذا الحديث في الصحيحين وغيرهما والله أعلم.
يذكر الله تعالى ما كان من أمر فرعون وجنوده في غرقهم وكيف سلبهم عزمهم ومالهم وأنفسهم وأورث بني إسرائيل جميع أموالهم وأملاكهم كما قال: (كذلك وأورثناها بني إسرائيل) (الشعراء 59)، وقال: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم الوارثين) (القصص 5) وقال: (وأورثناها القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون) (الأعراف 137)، أي أهلك ذلك جميعه وسلبهم عزهم العزيز العريض في الدنيا وهلك الملك وحاشيته وأمراؤه وجنوده ولم يبق ببلد مصر سوى العامة والرعايا.
وعند أهل الكتاب: أن بني إسرائيل لما أمروا بالخروج من مصر جعل الله ذلك الشهر أول سنتهم وأمروا أن يذبحوا كل أهل بيت حملاً من الغنم فإن كانوا لا يحتاجون إلى حمل فليشترك الجار وجاره فيه فإذا ذبحوه فلينضجوا من دمه على أعتاب أبوابهم ليكون علامة لهم على بيوتهم ولا يأكلونه مطبوخاً ولكن مشوياً برأسه وأكراعه وبطنه ولا يبقوا منه شيئاً ولا يكسروا له عظماً ولا يخرجوا منه شيئاً إلى خارج بيوتهم. وليكن خبزهم فطيراً سبعة أيام ابتداؤها من الرابع عشر من الشهر الأول من سنتهم وكان ذلك في فصل الربيع. فإذا أكلوا فلتكن أوساطهم مشدودة وخفافهم في أرجلهم وعصيهم في أيديهم وليأكلوا بسرعة قياماً ومهما فضل عن عشائهم فما بقي إلى الغد فليحرقوه بالنار وشرع لهم هذا عيداً لأعقابهم ما دامت التوراة معمولاً بها فإذا نسخت بطل شرعها وقد وقع.
قالوا: وقتل الله عز وجل في تلك الليلة أبكار القبط وأبكار دوابهم ليشتغلوا عنهم وخرج بنو إسرائيل حين انتصف النهار وأهل مصر في مناحة عظيمة على أبكار أولادهم وأبكار أموالهم ليس من بيت إلا وفيه عويل وحين جاء الوحي إلى موسى خرجوا مسرعين فحملوا العجين قبل اختماره وحملوا الأزواد في الأردية وألقوها على عواتقهم. وكانوا قد استعاروا من أهل مصر حلياً كثيراً فخرجوا وهم ستمائة ألف رجل سوى الذراري ما معهم من الأنعام وكانت مدة مقامهم بمصر أربعمائة سنة وثلاثين سنة، هذا نص كتابهم وهذه السنة عندهم تسمى سنة الفسخ وهذا العيد عيد الفسخ ولهم عيد الفطير وعيد الحمل وهو أول السنة وهذه الأعياد الثلاثة أكد أعيادهم منصوص عليها في كتابهم.
ولما خرجوا من مصر أخرجوا معهم تابوت يوسف عله السلام وخرجوا على طريق بحر يسوف وكانوا في النهار يسيرون والسحاب بين أيديهم يسير أمامهم في عامود نور وبالليل أمامهم عامود نار فانتهى بهم الطريق إلى ساحل البحر فنزلوا هناك وأدرهم فرعون وجنوده من المصريين وهم هناك حلول على شاطئ اليم فقلق كثير من بني إسرائيل حتى قال قائلهم كان بقاؤنا بمصر أحب إلينا من الموت بهذه البرية وقال موسى عليه السلام لمن قال هذه المقالة (لا تخشوا فإن فرعون وجنوده لا يرجعون إلى بلدهم بعد هذا) قالوا: وأمر الله موسى أن يضرب البحر بعصاه وأن يقسمه ليدخل بنو إسرائيل في البحر واليبس وصار الماء من ههنا وههنا كالجبلين وصار وسطه يبساً لأن الله سلط عليه ريح الجنوب والسموم فجاز بنو إسرائيل البحر واتبعهم فرعون وجنوده فلما توسطوه أمر الله موسى فضرب البحر بعصاه فرجع الماء كما كان عليهم. لكن عند أهل الكتاب: أن هذا كان في الليل وأن البحر ارتطم عليهم عن الصبح.
لما أغرق الله فرعون وجنوده سبح موسى وبنو إٍرائيل بهذا التسبيح للرب وقالوا: (نسبح الرب البهي الذي قهر الجنود ونبذ فرسانها في البحر المنيع المحمود) وهو تسبيح طويل. قالوا: وأخذت مريم النبية أخت هارون دفاً بيدها وخرج النساء في أثرها كلهن بدفوف وطبول وجعلت مريم ترتل لهن وتقول: سبحان الرب القهار الذي قهر الخيول وركبانها إلقاء في البحر. ولعل هذا هو الذي حمل محمد بن كعب القرظي على زعمه أن مريم بنت عمران أم عيسى عليه السلام وافقتها في الإسم واسم الأب واسم الأخ لأنهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة لما سأله أهل نجران عن قوله يا أخت هارون فلم يدر ما يقول لهم حتى يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: أما علمت أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم. رواه مسلم. وقولهم النبية كما يقال للمرأة من بيت الملك ملكة ومن بيت الأميرة الأميرة وإن تكن مباشرة شيئاً من ذلك فكذا هذه استعارة لها لا أنها نبية حقيقية يوحى إليها وضربها بالدف في مثل هذا اليوم الذي هو أعظم الأعياد عندهم دليل على أنه قد كان شرع من قبلنا ضرب الدف في العيد وهذا مشروع لنا أيضاً في حق النساء لحديث الجارتين اللتين كانتا عند عائشة تضربان بالدف في أيام منى ورسول الله صلى اللع عليه وسلم مضطجع مولي ظهره إليهم ووجهه إلى الحائط فلما دخل أبوبكر زجرهن وقال: أبمزمور الشيطار في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: دعهن يا أبابكر فإن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا. وهكذا يشرع عندنا في الأعراس ولقدوم الغياب كما هو مقرر في موضعه. والله أعلم.
وذكروا أنهم لما جاوزوا البحر وذهبوا قاصدين إلى بلاد الشام مكثوا ثلاثة أيام لا يجدون ماء فتكلم من تكلم منهم بسبب ذلك فوجدوا ماء زعاقاً أجاجاً لم يستطيعوا شربه فأمر الله موسى فأخذ خشبة فوضعها فيه فحلا وساغ شربه وعلمه الرب هنالك فرائض وسنااً ووصاه وصايا كثيرة. وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز المهيمن على ما عداه من الكتب: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون. إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون) (الأعراف 138 - 139) قالوا هذا الجهل والضلال وقد عاينوا من آيات الله وقدرته ما دلهم على صدق ما جاءهم به رسول ذي الجلال والإكرام وذلك أنهم مروا على قوم يعبدون أصناماً قيل: كانت على صور البقر فكأنهم سألوهم لم يعبدونها فزعموا لهم أنها تنفعهم وتضرهم ويستزقون بها عند الضرورات فكأن بعض الجهال منهم صدقوهم في ذلك فسألوا نبيهم الكليم الكريم العظيم أن يجعل لهم آلهة كما لأولئك آلهة فقال لهم مبيناً لهم: أنهم لا يعقلون ولا يهتدون إن هؤلاء متبر (مهلك) ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون. ثم ذكرهم نعمة الله عليهم في تفضيله إياهم على عالمي زمانهم بالعلم والشرع والرسول الذي بين أظهرهم وما أحسن به إليهم وما إمتن به عليهم من إنجائهم من قبضة فرعون الجبار العتيد وإهلاكه إياه وهم ينظرون وتوريثه إياهم ما كان فرعون وملؤه يجمعونه من الأموال والسعادة وما كانوا يعرشون وبين لهم أنه لا تصلح العبادة إلا لله وحده لا شريك له لأنه الخالق الرزاق القهار وليس كل بني إسرائيل سأل هذا السؤال.
الضمير عائد على الجنس في قوله: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم من آلهة) أي قال بعضهم كما في قوله: (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً وعرضوا على ربك صفاً لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعداً) فالذين زعموا هذا بعض الناس لا كلهم وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبدالرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن سنان بن أبي سنان الديلي عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين فمررنا بسدره (شجر النبق) فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط - وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدة ويعكفون حولها - فقال النبي صلى الله عليه وسلم (الله أكبر هذا كما قال بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم) ورواه النسائي عن محمد بن رافع عن عبدالرزاق به ورواه الترمذي عن سعيد بن عبدالرحمن المخزومي عن سفيان بن عيينة عن الزهري به ثم قال حسن صحيح. وقد روى ابن جرير من حديث محمد بن اسحاق ومعمر وعقيل عن الزهري عن سنان ابن أبي سنان عن أبي واقد الليثي: أنهم خرجوا من مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر. قال: وكان للكفار سدرة يعكفون عندها ويعلقون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط. قال: فمررنا بسدرة خضراء عظيمة. قال: فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. قال: قلتم: والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى لموسى: (اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون) والمقصود: أن موسى عليه السلام لما انفصل من مصر وواجه بيت المقدس وجدفيها قوماً من الجبارين من الحيثانيين والفزاريين والكنعانيين وغيرهم فأمرهم موسى عليه السلام بالدخول عليهم ومقاتلتهم وإجلائهم إياهم عن بيت المقدس فإن الله كتبه لهم ووعدهم إياه على لسان إبراهيم الخليل - أو موسى الكليم - الجليل - فأبوا ونكلوا عن الجهاد فسلط الله عليهم الخوف وألقاهم في التيه يسيرون ويحلون ويرتحلون ويذهبون ويجيون في مدة السنين طويلة هي من العدد أربعون كما قال الله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم مالم يؤت أحداً من العالمين) المائدة 20.
يذكرهم نبي الله نعمة الله عليهم وإحسانه عليهم بالنعم الدينية والدنيوية ويأمرهم بالجهاد في سبيل الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم) أي تنكصوا على أعقابكم وتنكلوا على قتال أعدائكم (فتنقلبوا خاسرين) أي فتخسروا بعد الربح وتنقصوا بعد الكمال (قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين) أي عتاة كفرة متمردين (وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون) خافوا من هؤلاء الجبارين وقد عاينوا هلاك فرعون وهو أجبر من هؤلاء وأشد بأساً وأكثر جمعاً وأعظم جنداً وهذا يدل على أنهم ملومون في هذه المقالة ومذمومون على هذه الحالة من الذلة عن مصاولة الأعداء ومقاومة المردة الأشقياء.
وقد ذكر كثير من المفسرين هنا آثاراً فيها مجازفات كثيرة باطلة يدل العقل والنقل علة خلافها من أنهم كانوا أشكالاً هائلة ضخاماً جداً حتى أنهم ذكروا أن رسل بني إسرائيل لما قدموا عليهم تلقاهم رجل من رسل الجبارين فجعل يأخذهم واحداً واحداً ويلفهم في أكمامه وحجزة (مكان التكة من السروال) سراويله وهم إثنا عشر رجلاً.
(قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ماداموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) فصمم ملاؤهم على النكول عن الجهاد ووقع أمر عظيم ووهن كبير، فيقال: أن يوشع وكالب لما سمعا هذا الكلام شقا ثيابهما وأن موسى وهارون سجدا إعظاماً لهذا الكلام وغضباً لله عزوجل وشفقة عليهم من وبيل هذه المقالة (قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين) قال ابن عباس: اقض بيني وبينهم (قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين) عوقبوا على نكولهم بالتيهان في الأرض يسيرون إلى غير مقصد ليلاً ونهاراً وصباحاً ومساءً، ويقال: إنه لم يخرج أحد من التيه ممن دخله بل ماتوا كلهم في مدة أربعين سنة ولم يبق إلا ذراريهم سوى يوشع وكالب عليهما السلام. لكن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر لم يقولوا له كما قال قوم موسى بل استشارهم في الذهاب إلى النفير تكلم الصديق فأحسن وغيره من المهاجرين ثم جعل يقول: أشيروا علي. حتى قال سعد بن معاذ: (كأنك تعرض بنا يا رسول الله فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن يلقى بنا عدونا غداً إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر على بركة الله) فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد وبسطه ذلك. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن مخارق بن عبدالله الأحمسي عن طارق هو ابن شهاب أن المقداد قال لرسول الل صلى الله عليه وسلم يوم بدر: يا رسول الله إنا لا نقول لك كما قالت بنو إٍسرائيل لموسى: (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون)، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. وهذا اسناد جيد من هذا الوجه وله طرق أخرى. قال أحمد: حدثنا أسود بن عامر حدثنا إسرائيل عن مخارق عن طارق بن شهاب قال: قال عبدالله بن مسعود: لقد شهدت من المقداد مشهداً لأن أكون أنا صاحبه أحب إلي مما عدل به: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين قال: (والله يا رسول الله لانقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) ولكنا نقاتل عن يمينك وعن يسارك ومن بين يديك ومن خلفك فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرق لذلك وسر بذلك. رواه البخاري في التفسير والمغازي من طرق عن مخارق به. وقال الحافظ أبوبكر مردويه: حدثنا حميد عن أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلأى بدر استشار المسلمين فأشار عليه عمر ثم استشارهم فقالت الأنصار: يا معشر الأنصار إياكم يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: إذا لا نقول له كما قال بنو إسرائيل إسرائيل لموسى: (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) والذي بعثك بالحق إن ضربت أكبادنا إلى برك الغماد لاتبعناك.
قد ذكر نكول بني إسرائيل عن قتال الجبارين وأن الله تعالى عاقبهم بالتيه وحكم بأنهم لا يخرجون منه إلى أربعين سنة - ويوشع جهزه موسى لقتال طائفة من الكفار وأن موسى وهارون وخور جلسوا على رأس أكمة ورفع موسى عصاه فكلما رفعها انتصر يوشع عليهم وكلما مالت يده بها من تعب أو نحوه غلبهم أولئك وجعل هارون وخور يدعمان يديه عن يمينه وشماله ذلك اليوم إلى غروب الشمس فانتصر حزب يوشع عليه السلام.
boulboul
2007-10-10, 00:16
قال تعالى: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون أخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) (طه 142)
قال جماعة من السلف منهم ابن عباس ومسروق ومجاهد: الثلاثون ليلة هي شهر ذي القعدة بكماله وأتمت أربعين ليلة بعشر ذي الحجة فعلى هذا يكون كلام الله له يوم عيد النحر وفي مثله أكمل الله عزوجل لمحمد صلى الله عليه وسلم دينه وأقام حجته وبراهينه.
والمقصود أن موسى عليه السلام لما استكمل الميقات وكان فيهصائماً يقال: إنه لم يستطعم الطعام فلما كمل الشهر أخذ لحاء شجرة فمضغه ليطيب ريح فمه فأمه الله أن يمسك عشراً أخرى فصارت أربعين ليلة. ولهذا ثبت في الحديث: (أن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) فلما عزم على الذهاب استخلف على شعب بني إسرائيل أخاه هارون المحبب المبجل الجليل وهو ابن أمه وأبيه ووزيره في الدعوة إلى مصطفيه فوصاه وأمره وليس في هذا لعلو منزلته في نبوته منافاة قال الله تعالى: (ولما جاء موسى لميقاتنا) أي في الوقت الذي أمر بالمجيء فيه (وكلمه ربه) أي كلمه الله من وراء حجاب إلا أنه أسمعه الخطاب فناداه وناجاه وقربه وأدناه وهذا مقام رفيع و معقل منيع ومنصب شريف ومنزل منيف. فصلوات الله عليه تترى وسلامه عليه في الدنيا و الأخرى. ولما أعطي هذه المنزلة العلية والمرتبة السنية وسمع الخطاب سأل رفع الحجاب فقال للعظيم الذي لاتدركه الأبصار القوي البرهان: (رب أرني أنظر إليك قال لن تراني) . ثم بين تعالى أنه لا يستطيع أن يثبت عند تجليه تبارك وتعالى لأن الجبل الذي هو أقوى وأكبر ذاتاً وأشد ثباتاً من الإنسان لايثبت عند التجلي من الرحمن ولهذا قال (ولكن انظر الى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) .
وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال له: يا موسى إنه لايراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده وفي الصحيحين: عن أبي موسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (حجابه النور) وفي رواية: (النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه). وقال ابن عباس في قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى لشيء لا يقوم له شيء ولهذا قال تعالى: (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين). قال مجاهد: ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) فإنه أكبر منك وأشد خلقاً فلما تجلى ربه للجبل فنظر إلى الجبل لا يتمالك وأٌبل الجبل فدك على أوله ورأى موسى ما يصنع الجبل فخر صعقاً. وذكر في التفسير ما رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه ابن جرير والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت. زاد ابن جرير وليث عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: 0فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً) قال: هكذا - بإصبعه - ووضع النبي صلى الله عليه وسلم الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر فساغ الجبل - لفظ ابن جرير - وقال السدي عن عكرمة وعن ابن عباس: ما تجلى - يعني من العظمة الأقدر - الخنصر فجعل الجبل دكاً قال: تراباً (فلما أفاق) فإن الإفاقة إنما تكون عن غشى. قال: (سبحانك) تنزيه وتعظيم وإجلال أن يراه بعظمته أحد (تبت إليك) أي فلست أسأل بعد هذه الرؤية (وأنا أول المؤمنين) أنه لا يراك حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده.
ثبت في الصحيحين من طريق عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي حسن المازني الأنصاري عن أبيه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تخيروني من بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة م قوائم العرش فلا أدري آفاق قبلي؟ أو جوزي بصعقة الطور؟) لفظ البخاري. وفي أوله: قصة اليهودي الذي لطم وجهه الأنصاري حين قال: لا والذي اصطفى موسى على البشر. فقال رسول الله: (لا تخيروني بين الأنبياء). وفي الصحيحين من طريق الزهري عن أبي سلمة وعبدالرحمن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه وفيه (لا تخيروني على موسى) وذكر تمامه. وهذا من باب الهضم والتواضع أو نهي عن التفضيل بين الأنبياء على وجه الغضب والعصبية أو ليس هذا إليكم بل الله هو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات وليس ينال هذا بمجرد الرأي بل التوقيف. ومن قال: إن هذا قاله قبل أن يعلم أنه أفضل ثم نسخ باطلاعه على أفضليته عليهم كلهم. ففي قوله هذا نظر لأن هذا من رواية أبي سعيد وأبي هريرة وما هاجر أبو هريرة إلا عام حنين متأخراً فيبعد أنه لم يعلم بهذا إلا بعد هذا. والله أعلم. ولا شك أنه صلوات الله وسلامه عليه أفضل البشر بل الخليقة قال الله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) وما كملوا إلا بشرف نبيهم. وثبت بالتواتر عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر) ثم ذكر اختصاصه بالمقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون الذي تحيد عنه الأنبياء والمرسلون حتى أولو العزم الأكملون: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش) أي آخذاً بها (فلا أدري أفاق قبلي؟ أم جوزي بصعقة الطور؟ )دليل على أن هذا الصعق الذي يحصل للخلائق في عرصات (العرصة: البقعة الواسعة التي لا بناء فيها) القيامة حين يتجلى الرب لفصل القضاء بين عباده فيصعقون من شدة الهيبة والعظمة والجلال فيكون أولهم إفاقة محمد خاتم الأنبياء ومصطفى رب الأرض والسماء على سائر الأنبياء فيجد موسى باطشاً بقائمة العرش. قال الصادق المصدوق: (لا أدري أصعق فأفاق قبلي) أي كانت صعقته خفيفة لأنه قد ناله بهذا السبب في الدنيا صعق؟ أو جوزي بصعقة الطور؟ يعني فلم يصعق بالكلية. وهذا فيه شرف كبير لموسى عليه السلام من هذه الحيثية ولا يلزم تفضيله بها مطلقاً من كل وجه. ولهذا نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على شرفه وفضيلته بهذه الصفة لأن المسلم لما ضرب وجه اليهودي حين قال: (لا والذي اصطفى موسى على البشر) قد يحصل في نفوس المشاهين لذلك هضم بجانب موسى عليه اللام فبين النبي صلى الله عليه وسلم فضيلته وشرفه. وقوله تعالى: (قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وكلامي) أي في ذلك الزمان لا ما قبله لأن إبراهيم الخليل أفضل منه كما تقدم ذلك في قصة إبراهيم ولا ما بعده لأن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل منهما كما ظهر شرفه ليلة الإسراء على جميع المرسلين والأنبياء وكما ثبت أنه قال: (سأقوم مقاماً يرغب إلى الخلق حتى 'براهيم) وقوله تعالى: (فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين على ذلك. قال الله تعالى: (وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفضيلاً لكل شيء) وكانت الألواح من جوهر نفيس ففي الصحيح: أن الله كتب له التوراة وفيها مواعظ عن الآثام وتفضيل لكل ما يحتاجون إليه من الحلال والحرام (فخذها بقوة) أي بعزم ونية صادقة قوية (وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) أي يضعوها على أحسن وجوهها وأجمل محاملها (سأريكم دار الفاسقين) أي ستروا عاقبة الخارجين عن طاعتي المخالفين لأمري المكذبين لرسلي.
يذكر تعالى ما كان من أمر بني إسرائيل حين ذهب موسى عليه السلام إلى ميقات ربه فمكث على الطور يناجيه ربه ويسأله موسى عليه السلام عن أشياء كثيرة وهو تعالى يجيبه عنها فعمد رجل منهم يقال له: هارون السامري فأخذ ما كان استعاره من الحلي فصاغ منه عجلاً وألقى فيه قبضة من التراب كان أخذها من أثر فرس جبريل حين رآه يوم أغرق الله فرعون على يديه فلما ألقاها فيه خار كما يخور العجل الحقيقي. ويقال إنه استحال عجلاً جسداً أي لحماً ودماً حياً يخور. قاله قتادة وغيره وقيل: بل كانت الريح إذا دخلت من دبره خرجت من فمه فيخور كما تخور البقرة فيرقصون حوله ويفرحون (فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي) أي فنسي موسى ربه عندنا وذهب يتطلبه وهو ههنا تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً وتقدست أسماؤه وصفاته وتضاعفت آلاءه وعداته. قال الله تعالى مبيناً بطلان ما ذهبوا إليه وما عولوا عليه من الهيتة هذا الذي قصاراه أن يكون حيواناً بهيماً وشيطاناً رجيماً: (أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً) وقال (ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهيدهم سبيلاً اتخذوه وكانوا ظالمين) فذكر أن هذا الحيوان لا يتكلم ولا يرد جواباً ولا يملك ضراً ولا نفعاً ولا يهدي إلى رشد اتخذوه وهم ظالمون لأنفسهم عالمون في أنفسهم بطلان ما هم عليه من الجهل والضلال (ولما سقط في أيديهم) أي ندموا على ما صنعوا (ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين) ولما رجع موسى عليه السلام إليهم ورأى ماهم عليه من عبادة العجل ومعه الألواح المتضمنة التوراة ألأقاها فيقال: إنه كسرها وهكذا هو عند أهل الكتاب وإن الله أبدله غيرها وليس في اللفظ القرآني ما يدل على ذلك إلا أنه ألقاها حين عاين ما عاين.
وعند أهل الكتابأنهما كانا لوحين وظاهر القرآن أنها ألواح متعددة ولم يتأثر بمجرد الخبر من الله تعالى عن عبادة العجل فأمر بمعاينة ذلك ولهذا جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن حيان عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليس الخبر كالمعاينة) ثم أقبل عليهم فعنفهم ووبخهم وهجنهم في صنيعهم هذا القبيح فاعتذروا إلأيه بما ليس بصحيح (قالوا إنا حملنا أوزارنا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري) تحرجوا من تملك الحلي آل فرعون وهم أهل حرب وقد أمرهم الله بأخذه وأباحه لهم ولم يتحرجوا بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم من عبادة العجل الجسد الذي له خوار مع الواحد الأحد الفرد الصمد القهار. ثم أقبل على أخيه هارون عليهما السلام قائلاً له: (يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعن) أي هلا لما رأيت ما صنعوا اتبعتني فأعلمتني بما فعلوا؟ فقال: خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل) أي تركتهم وجئتني وأنت قد استخلفتني فيهم (قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين) وقد كان هارون عليه السلام نهاهم عن هذا الصنيع الفضيع أشد النهي وزجرهم عنه أتم الزجر قال الله تعالى: (ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به) أي إنما قدر الله هذا العجل وجعله يخور فتنة واختباراً لكم (وإن ربكم الرحمن) أي لا هذا (فاتبعوني) أي فيما أقول لكم (وأطيعوا أمري. قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع غلينا موسى) يشهد الله لهارون عليه السلام (وكفى بالله شهيداً) إنه نهاهم وزجرهم عن ذلك فلم يطيعوه ولم يتبعوه ثم أقبل موسى على السامري (قال ما خطبك يا سامري) أي ما حملك على ما صنعت (قال بصرت بما لم يبصروا به) أي رأيت جبرائيل وهو راكب فرساً (فقبضت قبضة من اثر الرسول) أي من أثر فرس جبريل.
ذكر ابن عباس في حديث الفتون أن عبادتهم العجل كانت على أثر خروجهم من البحر. وما هو ببعيد لأنهم حين خرجوا: قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة) الأعراف 138. وهكذا عند أهل الكتاب فإن عبادتهم العجل كانت قبل مجيئهم بلاد بيت المقدس، وذلك أنهم لما أمروا بقتل من عبد العجل قتلوا في أول يوم ثلاثة آلاف، ثم ذهب موسى يستغفر لهم فغفر لهم بشرط أن يدخلوا الأرض المقدسة (واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا) الأعراف 155.
ذكر السدي وابن عباس وغيرهما: أن هؤلاء السبعين كانوا علماء بني إسرائيل ومعهم موسى وهارون ويوشع وناداب وأبيهو ذهبوا مع موسى عليه السلام ليعتذروا عن بني إسرائيل في عبادة من عبد منهم العجل وكانوا قد أمروا أن يتطيبوا ويتطهروا ويغتسلوا فلما ذهبوا معه واقتربوا من الجبل وعليه الغمام وعمود النور ساطع صعد موسى الجبل فذكر بنو غسرائيل أنهم سمعوا كلام الله وهذا وافقهم عليه طائفة من المفسرين وحملوا عليه قوله تعالى: (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) وليس هذا بلازم، لقوله تعالى: (فأجره حتى يسمع كلام الله) أي مبلغاً، هكذا هؤلاء سمعوه مبلغاً من موسى عليه السلام وزعموا أيضاً أن السبعين رأوا الله وهذا غلط منهم لأنهم لما سألوا الرؤية أخذتهم ارجفة كما قال تعالى: (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وأنتم تنظرون. ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون) البقرة 55 - 56. وقال انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم وسلوه التوبة على ما تركتم وراءكم من قومكم صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم فطلب منه السبعون ان يسمعوا كلام الله. فقال: أفعل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله ودنا موسى لدخل في الغمام وقال للقوم: ادنوا. وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهته نور ساطع، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجوداً فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل.
فلما فرغ الله من أمره وانكشف عن موسى الغمام أقبل إليهم قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. فأخذتهم الرجفة - وهي الصاعقة - فالتقت أرواحهم فماتوا جميعاً فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول: ({ب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا) أي لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء الذين عبدوا العجل منا فإنا براء مما عملوا. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جريج: إنما أخذتهم الرجفة لأنهم لم ينهوا قومهم عن عبادة العجل وقوله: (إن هي إلا فتنتك) أي اختبارك وابتلاؤك وامتحانك قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وأبو العالية والربيع بن أنس وغير واحد من علماء السلف والخلف يعني أنت الذي قدرت هذا ما كان من أمر العجل اختباراً تختبرهم به.
ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لما فرغ من خلق السماوات والأرض كتب كتاباً فهو موضوع عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي) فسأكتبها للذين يتقوه ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون) أي فسأوحيها حتماً لمن يتصف بهذه الصفات (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي) وهذا فيه تنويه يذكر محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من الله لموسى عليه السلام في جملة ما ناجاه به وأعلمه وأطلعه عليه وقد تكلمنا على هذه الآية وما بعدها في التفسير بما فيه كفاية ومقنع. ولله الحمد والمنة. وقال قتادة: قال موسى يا رب أجد في الألواح أمة خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر رب اجعلهم أمتي قال: تلك أمة أحمد. قال: رب إني أجد في الألواح أمة هو الآخرون في الخلق السابقون في دخول الجنة رب اجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرأونها وكان من قبلهم يقرأون كتابهم نظراً حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئاً ولم يعرفوه وإن الله أعطاكم أيتها الأمة من الحفظ شيئاً لم يطعه أحداً من الأمم قال: رب اجعلهم أمتي قال : تلك أمة أحمد. قال: رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر ويقاتلون الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الكذاب فاجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: رب إني أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم ويؤجرون عليها وكان من قبلهم إذا تصدق بصدقة فقبلت منه بعث الله عليها ناراً فأكلتها وإن ردت عليه تركت فتأكلها السباع والطير وإن الله أخذ صدقاتكم من غنيكم لفقيركم! قال رب فاجعلهم أمتي. قال تلك أمة أحمد. قالك رب فإني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة ثم لم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتب له عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف) قال رب اجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال رب إني أجد في الألواح أمة هم المشفعون المشفوع لهم فاجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال قتادة: فذكر لنا أن موسى عليه السلام نبذ الألواح وقال: اللهم اجعلني من أمة أحمد. وقد ذكر كثير من الناس ما كان من مناجاة موسى عليه السلام وأوردوا أشياء كثيرة لا أصل لها ونحن نذر ما تيسر ذكره من الأحاديث والآثار بعون الله وتوفيقه وحسن هدايته ومعونته وتأييده.
قال الحافظ أبو حاتم محمد بن حاتم بن حبان في صحيحه: (ذكر سؤال كليم الله ربه عزوجل عن أدنى أهل الجنة وأرفعهم منزلة): أخبرنا عمر بن سعيد الطائي بمنبج حدثنا حامد بن يحيى البلخي حدثنا سفيان حدثنا مطرف بن طريف وعبدالملك بن أبجر شيخان صالحان سمعنا الشعبي يقول سمعت المغيرة بن شعبية يقول على المنبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن موسى عليه السلام يسأل ربه عزوجل أي أهل الجنة أدنى منزلة؟ فقالك رجل يجيء بعدما يدخل أهل الجنة الجنة فيقال له: ترضى أن يكن لك من الجنة؟ وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا إخاذاتهم؟ فيقال: لك هذا ومثله ومثله فيقول: أي رب رضيت. فيقال: له لك مع هذا ما اشتهت نفسك ولذت عينك. وسأل ربه: أي أهل الجنة أرفع منزلة؟ قال سأحدثك عنهم غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ومصداق ذلك في كتاب الله عزوجل (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) الآية وهكذا رواه مسلم والرمذي كلاهما عن ابن أبي عمر عن سفيان وهو ابن عيينة به ولفظ مسلم: (فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل وملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب. فيقول لك ذلك ومثله ومثله.
boulboul
2007-10-10, 00:19
قال الله تعالى: (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو امضي حقباً فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهمافاتخذ سبيله في البحر سربا) (الكهف 60 - 61)
قال بعض أهل الكتاب: إن موسى هذا الذي رحل إلى الخضر هو موسى بن ميشا بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل. وتابعهم على ذلك بعض من يأخذ من صحفهم وينقل عن كتبهم، منهم: نوف بن فضالة الحميري الشامي البكالي، ويقال: إنه دمشقي وكانت أمه زوجة كعب الأحبار. والصحيح الذي دل عليه ظاهر سياق القرآن ونص الحديث الصحيح الصريح المتفق عليه: أ،ه موسى بن عمران صاحب بني إسرائيل. قال البخاري حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمر بن دينار أخبرني سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل. قال ابن عباس: كذب عدو الله، حدثنا أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل، فسئل، أي الناس أعلم؟ فقال: أنا فعتب الله عليه، إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال موسى: يا رب، وكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتاً فتجعله بمكتل (زنبيل، قفة)،فحيثما فقدت الحوت فهو ثم. فأخذ حوتاً فجعله بمكتل، ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه فسقط في البحر، واتخذ سبيله في البحر سرباً. وأمسك الله عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق (ما جعل كالقوس من الأبنية)، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومها وليلتهما، حتى إذا كان من الغد: (قال موسى لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً) ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به (قال) له قتاه (أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجباً) قال فكان للحوت سرباً، ولموسى ولفتاه عجباً (قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصاً) قال: فرجعا يقصان آثرهما حتى انتهيا إلىالصخرة، فإذا رجل مسجى بثوب، فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام. قال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً (قال إنك لن تستطيع معي صبراً) يا موسى إن على علم من علم الله، علمنيه الله، لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله، علمكه الله لا أعلمه، فقال: (ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً) قال له الخضر (فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً. فانطلقا) يمشيان على ساحل البحر، فمرت سفينة فكلمهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا السفينة لم يفاجأ إلا الخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم،فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها (لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمرا. قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً. قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً) قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وكانت الأولى من موسى نسياناً، قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقر هذا العصفور من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل إذ بصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده، فاقتلعه بيده، فقتله. قال له موسى: (أقتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكراً) قال: (ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً) قال وهذه أشد من الأولى: (إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل القرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض) قال: مائل. فقا ل: الخضر بيده (فأقامه) فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا (لو شئت لاتخذت عليه أجراً).
قال الزهري عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة عن ابن عباس أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى، فقال ابن عباس: هو خضر، فمر بهما ابن أبي كعب، فدعاه ابن عباس، فقال: إني ماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي يسأل السبيل إلى لقيه، فهل سمعت من رسول الله فيه شيئاً؟ قال نعم. وذكر الحديث. وقد تقصينا طرق هذا الحديث وألفاظه. في تفسير سورة الكهف، ولله الحمد. وقوله (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة) قال السهيلي: هما أصلام وصريم ابنا كاشح. (وكان تحته كنز لهما) قيل: كان ذهباً. قال عكرمة وقيل: علماً. قال ابن عباس والأشبه أن كان لوحاً من ذهب، مكتوباً فيه علم قال البزار: حدثنا ابراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا بشر بن المنذر حدثنا الحرث بن عبدالله اليحصبي عن عياش بن عباس الغساني عن بن حجيرة عن أبي ذر رفعه قال: إن الكنز الذي ذكر الله في كتابه لوح من الذهب مصت: عجبت لمن أيقن بالقدر كيف نصب؟ وعجبت لمن ذكر النار لم ضحكظ وعجبت لمن ذكر الموت كيف غفل لا إله إلا الله؟ وهكذا روي عن الحسن البصري وعمر مولى عفرة وجعفر الصادق نحو هذا. وقوله: (وكان أبوهما صالحاً) وقد قيل: إنه كان الأب السابع. وقيل العاشر. وعلى كل تقدير فيه دلالة على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته. فالله المستعان. وقوله (رحمة من ربك) دليل على أنه كان نبياً، وأنه ما فعل شيئاً من تلقاء نفسه، بل بأمر ربه، فهو نبي. وقيل: رسول. وقيل ولي وأغرب من هذا من قال: كان ملكاً. والأغرب جداً من قال هو ابن فرعون. وقل: إنه أن ضحاك الذي ملك الدنيا ألف سنة. قال بأن جرير والذي عليه حمهور أهل الكتاب: أنه كان في زمن الذي كان في زمن الخليل. وزعموا: أنه شرب من ماء الحياة فخلد، وهو باق إلى الآن. وقيل: إنه من ولد بعض من آمن بإبراهيم وهاجر معه من أرض بابل، وقيل: اسمه ملكان. وقيل: أرميا بن خلقيا. وقيل: كان نبياً. في زمن سباسب بن لهراسب. قال ابن جرير. وقد كان بين أفرديون وبين سباسب دهور طويلة لا يجهلها أحد من أهل العلم بالأنساب. قال ابن جرير: والصحيح أنه كان في أن أفريدون، واستمر حياً إلى أن أدركه موسى عليه السلام، وكانت نبوة موسى في زمن منوشهر، الذي هو من ولد أبرج بن أفريدون أحد ملوك الفرس وكان إليه الملك بعده جده أفريدون لعهده، وكان عادلاً، وهو أول من خندق الخنادق، وأول من جعل في كل قرية دهقاناً وكانت مدة ملكه قريباً من مائة وخمسين سنة. ويقال: إنه كان من سلالة اسحاق بن إبراهيم وقد ذكر عنه من الخطب الحسان والكلم البليغ النافع الفصيح ما يبهر العقل ويحير السامع، وهذا يدل على أنه من سلالة الخليل، والله أعلم. وقد قال الله تعالى (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم) (آل عمران 81).
فأخذ الله ميثاق كل نبي على أن يؤمن بمن يجيء بعده من الأنبياء وينصره، فلو كان الخضر حياً في زمانه لما وسعه إلا اتباعه والاجتماع به والقيام بنصره، ولكان من جملة من هم تحت لوائه يوم بدر كما كان تحتها جبريل وسادات من الملائكة، وقصارى الخضر عليه السلام أن يكون نبياًًًًًًً - وهو الحق - أو رسولاً - كما قيل - أو ملكاً - فيما ذكر - وأياً ما كان: فجبريل رئيس الملائكة، وموسى أشرف من الخضر، ولو كان حياً لوجب عليه الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ونصرته، فكيف إن كان الخضر ولياً كما يقوله طوائف كثيرون، فأولى أن يدخل في عموم البعثة وأحرى. ولم ينقل في حديث حسن، بل ولا ضعيف، يعتمد أنه جاء يوماً واحداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا اجتمع به، وما ذكر من حديث التعزية فيه وإن كان الحاكم قد رواه فإسناده ضعيف والله أعلم.
قال الإمام أبو عبد الرحمن النسائي، في كتاب التفسير، من سننه، عند قوله تعالى في سورة طه (وقتلت نفساً فنجيناك من الغم وفتناك فتوناً) (طه 40) (حديث الفتون): حدثنا عبدالله بن محمد حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا أصبغ بن زيد حدثنا القاسم بن أبي أيوب أخبرني سعيد بن جبير قال: سألت عبدالله بن عباس عن قول الله تعالى: (وفتناك فتوناً) فسأله عن الفتون ما هو؟ فقال: استأنف النهار يا ابن جبير، فإن لها حدثاً طويلاً. فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون، فقال: تذكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً. فقال: بعضهم إن بني إسرائيل ينتظرون ذلكن ما يشكون فيه، وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب، فلما هلك قالوا: ليس هكذا كان وعد إبراهيم. فقال فرعون: فكيف ترون؟ فأتمروا، وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشفار (حامر الشفرة كالسيف والسكين) يطوفون في بني إسرائيل، فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذبحوه، ففعلوا ذلك فلما رأوا الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، والصغار يذبحون، قالوا: توشكون أن تفنوا بني إٍسرائيل، فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي كانوا يكفونكم، فاقتلوا عاماً كل مولود ذكر فتقل بناتهم، ودعوا عاماً فلا تقتلوا منهم أحداً، فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار، فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم، فتخافوا مكاثرتهم إياكم، ولن تفتنوا بمن تقتلون، وتحتاجون إليهم، فأجمعوا أمرهم على ذلكز فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا تقتل فيه الغلمان، فولدته علانية آمنة، فلما كان من قابل (العام التالي) حملت بموسى عليه السلام، فوقع في قلبها الهم والحزن، وذلك من الفتون بابن جبير، ما دخل عليه في بطن أمه مما يراد، فأوحى الله إليها أن لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين، فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت وتلقيه في اليم، فلما ولدت فعلت ذلكن فلما توارى عنها ابنها أتاها الشيطان، فقالت في نفسها: ما فعلتبابني لو ذبح عندي فواريته وكفنته. كان أحب إلي من أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه. فانتهى الماء به حتى أوفى عند فرضة تستلقي منها جواري امرأة فرعون، فلما رأينه أخذنه فهممن أن يفتحن التابوت، فقال بعضهن: إن في هذا مالاً وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه، فحملته كهيئته لم يخرجن منه شيئاً، حتى دفعنه إليها، فلما فتخته رأت فيه غلاماً، فألقي عليها منها محبة لم تلق منها على أحد قط، وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً: ذكر كل شيء إلا من ذكر موسى فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه وذلك من الفتون بابن جبير: فقالت لهم: أقروه، فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل، حتى آتى فرعون فاستوهبته منه، فإن وهبه مني كنتم قد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر بذبحه لم ألمكم. فأتت فرعون فقالت: (قرة عين لي ولك) (القصص 9) فقال فرعون: يكون ذلك، فأما لي فلا حاجة لي فيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (والذي يحلف به، لو أقر فرعون أن يكون قرة عين ل كما أقرت امرأته لهداه الله كما هداها، ولكن حرمه ذلك) فأرسلت إلى من حولها إلى كل امرأة لها لأن تختار ظئراً (مرضعة) فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل ثديها، حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمنع اللبن فيموت، فأحزنها ذلك، فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس، ترجو أن تجد له ظئراً يأخذه منها، فلم يقبل وأصبحت أم موسى والهاً، فقالت لأخته: قصي أثره واطلبيه، هل تسمعين له ذكراً، أحي ابني أم أكلته الدواب؟ ونسيت ما كان الله وعدها فيه، فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون، والجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد وهو إلى جنبه لا يشعر به فقال من الفرح حين أعياهم الظؤرات: أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون. فقالوا: ما يدريك ما نصحهم؟ هل يعرفونه، حتى شكوا في ذلك، وذلك من الفتون بابن جبير. فقال: نصحهم له، وشفقتهم عليه ورغبتهم في صهر الملك، ورجاء منفعة الملك، فأرسلوها فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر، فجاءت أمه، فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصه، حتى امتلأ جنباه رياً.
ذكر الله تعالى مذمة قارون في غير آية من القرآن، قال الله (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين. إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب) وقال تعالى في سورة العنكبوت، بعد ذكر عاد وثمود وقارون وفرعون وهامان: (ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين) فالذي خسف به الأرض قارون والذي أغرق فرعون هامان وجنودهما أنهم كانوا خاطئين. عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: أ نه ذكر الصلاة يوماً، فقال: من حافظ عليها كانت نوراً. وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، وم لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بني خلف.
وفال الله تعالى: (واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصاً وكان رسولاً نبياً. وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجياً. ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً) وقال تعالى: (قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي). وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تفضلوني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش. فلا أدري: أصعق فأفاق قبلي؟ أم جوزي بصعقة الطور؟) وأنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب الهضم والتواضع، وإلا فهو صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء، وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، لا يحتمل النقيض. وقال تعالى: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط) إلى أن قال: (ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليماً) وقال تعالى: (يأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً) قال الإمام أبو عبدالله البخاري: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً، لا يرى جلده شيء استحياء منه، فأذاه من أذاه من بني إسرائيل، فقالوا: مايستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده، إما برص أو أدرة، أو آفة، وأن الله عزوجل أراد أن يبرأه مما قالوا لموسى، فخلا يوماً وحده فوضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها وأن الحجر عدا بثوبهن فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجرز حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عرياناً أحسن ما خلق الله، وبرأه مما يقولون، وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضرباً بعصاه، فوالله أن بالحجر لندباً من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً. قال: فذلك قوله عزوجل: (يا أيها الذين ىمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً). اتفقت الروايات كلها على أن الله تعالى لما فرض على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته خمسين صلاة في اليوم والليلة، فمر بموسى، قال ارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فإني قد عالجت بني إسرائيل قبلك أشد المعالجة، وإن أمتك أضعف سماعاً وأبصاراً وأفئدة، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله عزوجل، ويخفف عنه في كل مرة، حتى صارت إلى خمس صلوات في اليوم والليلة، فمر موسى، قال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فإني قد عالجت بني اسرائيل قبلك أشد المعالجة، وإن أمتك أضعف أسماعاً وأبصاراً وأفئدة، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله عزوجل، ويخفف عنه في كل مرة، حتى صارت إلى خمس صلوات في اليوم والليلة. وقال الله تعالى: (هي خمس وهي خمسون - أي بالمضاعفة - فجزى الله عنا محمد صلى الله عليه وسلم خيراً وجزى الله عنا موسى عليه السلام خيراً.
قال البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فلما جاءه صكه، فرجع إلى ربه عزوجلن فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت. قال: ارجع إليه، فقل له: يضع يده على متن ثور. فله بما غطت يده بكل شعرة سنة. قال: أي رب، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت. قالك فالآن. قال: فسأل الله عزوجل أن يدنيه من الأرض المقدسة ورمية بحجر. قال أبو هريرة: فقال رسول الله صلى الله علي وسلم: فلو كنت ثم للأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر. قال الإمام أحمد: جاء ملك الموت إلى موسى عليه السلام، فقال: أجب ربكز فلط موسى عين ملك الموت، ففقأها. فرجع الملك إلى الله، قال: إنك بعثتني إلى عبد لك لا يريد الموت. قال: وقد فقأ عيني. قال: فرد الله عينه، وقال ارجع إلى عبدي، فقل له: ألحياة تريد؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور، فما وارت يدك من شعره فإنك تعيس بها سنة. قال: ثم مه؟ قال. ثم الموت. قال: فالآن يا رب من قريب. فإن ملك الموت لما قال له هذا لم يعرفه، لمجيئه له على غير صورة يعرفها موسى عليه السلام، كما جاء جبريل في صورة أعرابي، وكما وردت الملائكة على إبراهيم ولوط في صورة شباب، فلم يعرفهم ابراهيم ولا لوط أولاً، وكذلك موسى لعله لم يعرفه لذلكن لطمه ففقأعينه لأ،ه دخل داره بغير إذنه.
قال السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة قالوا: ثم إن الله تعالى أوحى إلى موسى: إني متوف هارون، فأت به جبل كذا وكذا. فانطلق موسى وهارون نحو ذلك الجبل، فإذا هم بشجرة لم تر شجرة مثلها، وإذا هم ببيت مبني، وإذا هم بسرير عليه فرش، وإذا فيه ريح طيبة، فلما نظر هارون إلى ذلك الجبل، والبيت ومافيه، أعجبه، قال: يا موسى، إني أخاف أن يأتي رب هذا البيت فيغضب علي. قال له: لا ترهب، أنا أكفيك رب هذا البيت، فنم. قال: يا موسى نم معي، فإن جاء رب هذا البيت غضب علي وعليك جميعاً. فلما ناما، أخذ هارون الموت، فلما وجد حسه قال: يا موسى، خدعتني. فلما قبض، رفع ذلك البيت، وذهبت تلك الشحرة، ورفع السرير به إلى السماء. فلما رجع موسى إلى قومه وليس معه هارون، قالوا: فإن موسى قتل هارون، وحسده حب بني إسرائيل له.
boulboul
2007-10-10, 00:20
ذكر وهب بن منبه: أن موسى عليه السلام مر بملأ من الملائكة يحضرون قبراً فلم يرى أحسن منه ولا أنضر ولا أبهج فقال: يا ملائكة الله، لمن تحفرون هذا القبر؟ فقالوا: لعبد من عباد الله كريم، فإن كنت تحب أن تكون هذا العبد، فادخل هذا القبر، وتمدد فيهن وتوجه إلى ربك، وتنفس أسهل تنفس، ففعل ذلك، فمات صلوات الله وسلامه عليه، فصلت عليه الملائكة ودفنوه.
ذكر أهل الكتاب وغيرهم: أنه مات وعمره مائة وعشرون سنة. وقد قال إمام أحمد: حدثنا أمية بن خالد ويونس قالا حدثنا حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يونس رفع هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان ملك الموت يأتي الناس عياناً، قال فأتة موسى عليه السلام فلطمه، ففقأ عينه، فأتى ربه فقال: يا رب، عبدك موسى فقأ عيني، ولولا كرامته عليك لعتبت عليه. وقال يونس لشققت عليه. قال له: اذهب إلى عبدي، فقل له: فليضع يده على جلد - أو مسك (الجلد) - ثور، فله بكل شعرة وارت يده سنة. فأتاه فقال له: فقال: ما بعد هذا؟ قال: الموت. قال: فالآن. قال: فشمه شمة، فقبض روحه. قال يونس: فرد الله عليه عينه، وكان يأتي الناس خفية. وكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن مصعب بن المقدام عن حماد بن سلمة به، فرفعه أيضاً
انتهى
محمد أبو عثمان
2007-10-10, 00:36
أخي الحبيب جزاك الله خيرا على الموضوع وإن كنت أرى ان تغيير العنوان فكلمة رجال ليس مكانها مع انبياء الله ورسله أعتقد أن تجعله من قصص الأنبياء عليه الصلاة والسلام يكون أفضل بارك الله فيك مرة ثانية
vBulletin® v3.8.10 Release Candidate 2, Copyright ©2000-2025, TranZ by Almuhajir