تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : #اليتيمان


محمد علي 12
2018-03-26, 12:27
#اليتيمان
كانت ليلة شتوية شديدة البرودة.. غطى فيها الثلج أسطح المنازل، وأغلق الطرق، وانحنت له أغصان الأشجار إجلالا وتعظيما..
وعصفت فيها الريح بشدة معلنة حالة الطواريء.. ومن بين شقوق ذلك الكوخ العتيق على سفح الجبل أخذت تصفر صفيرا عاليا وهي تتسرب داخله ناشرة الخوف والبرد في أركانه الحزينة..
وهناك في أحد جنباته كانت مريم بنت الست سنوات ترتعش من شدة البرد والخوف بعد أن جفا النوم جفونها.. غادرت فراشها، وفي الظلام الدامس أخذت تتلمس طريقا نحو فراش والدها.. تسللت تحت غطائه بحثا عن الدفء والأمان في أحضانه، وسرعان ما أجهشت بالبكاء وخاطبته قائلة:
ـ أبي لقد اشتقت إلى أمي كثيرا.. ما عدت أطيق الصبر على فراقها.. أشعر أن الحزن يخنق أنفاسي، يكاد يوقف دقات قلبي..
أبي.. أريد أن أموت لعلي التقي ثانية بأمي..
كل ليلة أنام على أمل أن أستيقظ على صوتها الجميل تقول لي "قومي يا عصفورتي" وهي تداعب شعري...
قالت تلك الكلمات ثم بدأ صوتها يخبو عندما بدأ الدفء ينبعث في أوصال جسمها النحيل، وأخذ النعاس يتسلل إلى جفونها، حتى غطت في نوم عميق..
أما والدها فلم يجد كلمات يواسيها بها ويخفف من حزنها.. فقد كان يخشى أن تخونه حنجرجة صوته ودموعه التي بللت وسادته، فاكتفى بالتربيت على كتفيها..
لقد كان حزنه على فراق زوجته لا يقل عن حزنها، فهو أيضا كان يشعر بقلبه يعتصر ألما على موتها.. هو أيضا لم يعد يطيق صبرا على فراقها..
فلقد كانت تعامله كما تعامل الأم الرؤوم ابنها..
لم ينسى كيف كانت تختبئ عند عودته من الحقل وتطلب منه أن يبحث عنها؛ كما يفعل الصغار..
لم ينسى كيف كانت تغضب لأتفه الأسباب، وكيف كانت الكلمة الحانية ترضيها والبسمة الصادقة تسعدها..
لقد خيل إليه في تلك الليلة من فرط حزنه أن الكون كله يشاطره شجونه..
لقد خيل إليه أن صفير الرياح ما هو إلا صوت نحيب نسيم الصباح الذي طالما تغنت به حينما كان يداعب وجهها ويتلاعب بشعرها..
لقد خيل إليه أن طقطقة السقف بفعل الثلوج المتراكمة عليه ونخر السوس في جذوعه إنما هو صوت أنينه على فراق ذلك الملاك الطاهر والروح النقية التي كانت تملأ الكوخ تحته سعادة ومرحا.. ينعي تلك المرأة التي رغم الفقر المدقع لم تكن كلمات الحمد والشكر تفارق فاها..
بدا له أن السقف كان ينعي يتيمين؛ زوج وبنت...