مشاهدة النسخة كاملة : الفقه وأصوله
*عبدالرحمن*
2018-03-08, 04:55
اخوة الاسلام
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
https://d.top4top.net/p_7927bchs1.gif (https://up.top4top.net/)
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا أحمده سبحانه جعل كتابه للمؤمنين هدى وأصلي واسلم علي نبينا وحبيبنا وشفيعنا محمد صلي الله عليه وسلم أما بعد :
الفقه
والفقه في الدين هو: الفقه في كتاب الله عز وجل
والفقه في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو الفقه في الإسلام من جهة أصل الشريعة
ومن جهة أحكام الله التي أمرنا بها، ومن جهة ما نهانا عنه سبحانه وتعالى، ومن جهة البصيرة بما يجب على العبد من حق الله وحق عباده، ومن جهة خشية الله وتعظيمه ومراقبته.
فإن رأس العلم خشية الله سبحانه وتعالى وتعظيم حرماته ومراقبته عز وجل فيما يأتي العبد ويذر، فمن فقد خشية الله ومراقبته فلا قيمة لعلمه، إنما العلم النافع
والفقه في الدين الذي هو علامة السعادة هو العلم الذي يؤثر في صاحبه خشية الله، ويورثه تعظيم حرمات الله ومراقبته، ويدفعه إلى أداء فرائض الله وإلى ترك محارم الله، وإلى الدعوة إلى الله عز وجل، وبيان شرعه لعباده
فمن رزق الفقه في الدين على هذا الوجه فذلك هو الدليل والعلامة على أن الله أراد به خيراً، ومن حرم ذلك وصار مع الجهلة والضالين عن السبيل، المعرضين عن الفقه في الدين، وعن تعلم ما أوجب الله عليه، وعن البصيرة فيما حرم الله عليه فذلك من الدلائل على أن الله لم يرد به خيراً
وقد وصف الله الكفار بالإعراض عما خلقوا له وعما أنذروا به، تنبيها لنا على أن الواجب على المسلم أن يقبل على دين الله، وأن يتفقه في دين الله، وأن يسأل عما أشكل عليه وأن يتبصر
اخوة الاسلام
ينقسم علم الفقه واصوله
الي قسم مجمل
والي اقسام فرعيه
- مصادر التشريع
https://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=2133218
- التكليف
https://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=2133485
-
- البدعه
https://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=2133634
و قد سبق نشر
الجزء الاول بعنوان
الفقه الإسلامي تعريفه وأصوله وفروعه
https://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=2132684
حقوق وواجبات الاسرة
https://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=2131065
سلسله الاداب الاسلامية
https://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=2127558
التوحيد .. سؤال وجواب
https://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=2129136
مكانة الحج والعمرة
https://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=2139099
مكانه الصلاة في الاسلام
https://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=2137434
مكانه الصوم في الإسلام
https://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=2137985
الطهارة في الاسلام
https://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=2135224
المعاملات الإسلامية
https://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=2148944
العادات و تاثيرها الايجابي و السلبي
https://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=2159872
الحدود والتعزيرات الإسلامية
https://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=3997690318#post3997690318
اخوة الاسلام
هذه الموسوعه الشامله ليست ك مثيلتها الغرض النشر فقط
بل وارحب بكل من لاديه استفسار او سؤال وسوف ابذل قصاري
جهدي لتوضيحه او احضاره من كبار العلماء والائمة
واخيرا
اسالكم الدعاء بظهر الغيب
*عبدالرحمن*
2018-03-08, 05:04
القسم المجمل
........
شبهات حول حجية السنة النبوية
السؤال :
لدي إستفسار في نقطتين أولا : هل هذا الحديث متواتر تواتر لفظي ؟
قَالَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ ) ؟
أو يوجد صيغة أخري له متواترة تواترا لفظيا؟ أو أي حديث يوضح بشكل مباشر حجية السنة النبوية يكون متواترا تواترا لفظيا ؟
ثانياً هل كل ما هو في صحيح البخاري ومسلم صحيح وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم؟
أنا قرأت أن صحيح مسلم والبخاري الغير متواتر ظني الثبوت ، فكيف نأخذ ونعمل بشئ كجزء من الدين ونحن لسنا متأكدين تماماً بنسبته الي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
الجواب :
الحمد لله
أولا :
حديث: ( تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ )
رواه الإمام مالك في "الموطأ" (3338) بلاغا بلا إسناد، وقد أسنده غيره.
ورغم أن ابن عبد البر، رحمه الله تعالى، يرى أنه مشهور تغني شهرته عن اسناده، حيث قال:
" وهذا أيضا محفوظ معروف مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم ، شهرة يكاد يُستغنى بها عن الإسناد، وروي في ذلك من أخبار الآحاد أحاديث من أحاديث أبي هريرة وعمرو بن عوف "
انتهى، من "التمهيد" (24 / 331).
إلا أن اسانيده لا تبلغ حد التواتر، فهو ليس من الأحاديث التي حكم عليها أهل العلم أنها بلغت حد التواتر.
وقد ورد الأمر بالاعتناء بالسنة متواترا؛ وهو قول رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ ) رواه الترمذي (2656) من حديث زَيْد بْن ثَابِتٍ، وقال: " وَفِي البَابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَنَسٍ: حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ ".
فهذا الحديث قد ورد بأسانيد كثيرة ؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" وهو حديث مشهور خرج في السنن أو بعضها من حديث ابن مسعود وزيد بن ثابت وجبير بن مطعم وصححه ابن حبان والحاكم، وذكر أبو القاسم بن مندة في تذكرته: رواه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أربعة وعشرون صحابيًا، ثم سرد أسماءهم، وقد تتبعت طرقه فوقع لي أكثرها وزيادة ستة، فأقتصر هنا على القوي منها ... "
انتهى، من "موافقة الخبر الخبر" (1 / 363).
ولذا عدّه بعض أهل العلم متواترا؛ كالسيوطي رحمه الله تعالى في كتابه " قطف الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة" (ص 28).
ثانيا :
يجب الانتباه إلى أن وجوب الأخذ بالسنة النبوية، هو أمر ثابت في شريعتنا على وجه القطع واليقين.
قال الله تعالى:
( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) الحشر/ 7.
وقال الله تعالى:
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) النساء/59.
قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى:
" والصواب من القول في ذلك أن يقال: هو أمرٌ من الله بطاعة رسوله في حياته فيما أمرَ ونهى، وبعد وفاته باتباع سنته. وذلك أن الله عمّ بالأمر بطاعته، ولم يخصص بذلك في حال دون حال، فهو على العموم حتى يخصّ ذلك ما يجبُ التسليم له "
انتهى، من "تفسير الطبري" (7 / 175 - 176).
وقال ابن حزم رحمه الله تعالى:
" وصح لنا بنص القرآن أن الأخبار هي أحد الأصلين المرجوع إليهما عند التنازع؛ قال تعالى: ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) والبرهان على أن المراد بهذا الرد إنما هو إلى القرآن والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأمة مجمعة على أن هذا الخطاب متوجه إلينا ، وإلى كل من يخلق ويُركب روحه في جسده إلى يوم القيامة من الجنة والناس، كتوجهه إلى من كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من أتى بعده عليه السلام وقبلنا ولا فرق ... "
انتهى، من "الاحكام" (1 / 97).
وعلى هذا أجمعت الأمة التي لا يجوز مخالفة اجماعها.
قال الله تعالى:
( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) النساء /115.
قال الشافعي رحمه الله تعالى:
" لم أسمع أحدا نسبه الناس أو نسب نفسه إلى علم يخالف في أن فرض الله عز وجل اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتسليم لحكمه؛ بأن الله جل ثناؤه لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه، وأنه لا يلزم قول بكل حال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن ما سواهما تبع لهما، وأن فرض الله علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد ، لا يُختلف في أن الفرض والواجب قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... "
انتهى، من "الأم" (9 / 5).
وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" وأجمع أهل العلم من أهل الفقه والأثر في جميع الأمصار، فيما علمت، على قبول خبر الواحد العدل وإيجاب العمل به، إذا ثبت ولم ينسخه غيره من أثر أو إجماع، على هذا جميع الفقهاء في كل عصر من لدن الصحابة إلى يومنا هذا، إلا الخوارج وطوائف من أهل البدع شرذمة لا تعد خلافا "
انتهى، من "التمهيد" (1 / 2).
ثالثا:
أحاديث صحيح البخاري وصحيح مسلم هي صحيحة باتفاق أهل العلم بالحديث، إلا أحاديث يسيرة ، فيها بحث لأهل العلم ، وهي محصورة ، والبحث فيها معروف لأهل العلم .
قال ابن الصلاح رحمه الله تعالى:
" وأعلاها الأول- أي مراتب الحديث الصحيح -، وهو الذي يقول فيه أهل الحديث كثيرا: "صحيح متفق عليه". يطلقون ذلك ويعنون به اتفاق البخاري ومسلم، لا اتفاق الأمة عليه. لكن اتفاق الأمة عليه لازم من ذلك ، وحاصل معه، لاتفاق الأمة على تلقي ما اتفقا عليه بالقبول.
وهذا القسم جميعه مقطوع بصحته ...
ما انفرد به البخاري أو مسلم : مندرج في قبيل ما يقطع بصحته ، لتلقي الأمة كل واحد من كتابيهما بالقبول على الوجه الذي فصلناه من حالهما فيما سبق، سوى أحرف يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ، كالدارقطني وغيره، وهي معروفة عند أهل هذا الشأن، والله أعلم." انتهى، من "المقدمة" (ص 28 - 29).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" ولكن جمهور متون الصحيحين متفق عليها بين أئمة الحديث ، تلقوها بالقبول ، وأجمعوا عليها، وهم يعلمون علما قطعيا أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها "
انتهى، من "مجموع الفتاوى" (1 / 257).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" وأهل الحديث متفقون على أحاديث الصحيحين، وإن تنازعوا في أحاديث يسيرة منها جدا وهم متفقون على لفظها ومعناها، كما اتفق المسلمون على لفظ القرآن ومعناه "
انتهى، من "الصواعق المرسلة" (2 / 655).
*عبدالرحمن*
2018-03-08, 05:05
رابعا:
أحاديث صحيح البخاري وصحيح مسلم، مما يقطع بصحة نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لأجماع الأمة واتفاقها على صحتها إلا أحاديث يسيرة، والأمة لا تجتمع على باطل.
قال ابن الصلاح رحمه الله تعالى:
" والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ، ولهذا كان الإجماع المبتنى على الاجتهاد حجة مقطوعا بها، وأكثر إجماعات العلماء كذلك.
وهذه نكتة نفيسة نافعة، ومن فوائدها: القول بأن ما انفرد به البخاري أو مسلم مندرج في قبيل ما يقطع بصحته، لتلقي الأمة كل واحد من كتابيهما بالقبول ، على الوجه الذي فصلناه من حالهما فيما سبق، سوى أحرف يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ، كالدارقطني وغيره، وهي معروفة عند أهل هذا الشأن، والله أعلم "
انتهى، من "معرفة أنواع علم الحديث" (ص 97).
وعلى هذا محققو أهل العلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" ولهذا كان أكثر متون الصحيحين مما يعلم علماء الحديث علما قطعيا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله؛ تارة لتواتره عندهم، وتارة لتلقي الأمة له بالقبول.
وخبر الواحد المتلقى بالقبول يوجب العلم عند جمهور العلماء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وهو قول أكثر أصحاب الأشعري كالإسفراييني وابن فورك؛ فإنه وإن كان في نفسه لا يفيد إلا الظن؛ لكن لما اقترن به إجماع أهل العلم بالحديث على تلقيه بالتصديق ، كان بمنزلة إجماع أهل العلم بالفقه على حكم مستندين في ذلك إلى ظاهر أو قياس أو خبر واحد؛ فإن ذلك الحكم يصير قطعيا عند الجمهور ، وإن كان بدون الإجماع ليس بقطعي؛ لأن الإجماع معصوم، فأهل العلم بالأحكام الشرعية لا يجمعون على تحليل حرام ولا تحريم حلال، كذلك أهل العلم بالحديث لا يجمعون على التصديق بكذب ، ولا التكذيب بصدق "
انتهى، من "مجموع الفتاوى" (18 / 41).
ويلتحق بهذا كل حديث خارج الصحيحين مما اتفقت الأمة على صحته.
ولمزيد الفائدة راجع الفتوى رقم (197164).
وأما الأحاديث التي اختلف في صحتها، فمن ترجح عنده صحة حديث منها على وفق القواعد الحديثية، فإن عليه أن يعمل به، لأن الظن في هذه الحالة هو ظن غالب؛ وغلبة الظن الناتجة عن طريق استدلال علمي صحيح، هو ظن يعمل به .
وهذه قاعدة شرعية لها أدلة وشواهد كثيرة جدا من الكتاب والسنة، وعلى هذا جميع العقلاء، في جميع مجالات الحياة، فمثلا كل قضاة الدنيا يحكمون في أموال الناس ودماءهم بغلبة الظن، وطلب اليقين الجازم في كل قضية هو أمر محال، ولا تستقيم الحياة به.
أما الظن المذموم الذي على المسلم أن يجتنبه، فهو الظن الناتج عن غير استدلال صحيح، وإنما هو مجرد توهم، كما كان حال المشركين في شركهم فإن ظنونهم كانت ناتجة عن التخيلات الفاسدة، كزعمهم أن الملائكة إناث فهم لم يطلعوا على الغيب حتى يحكموا بهذا الحكم، فمثل هذه الظنون هي التي نهى عنا الشرع.
قال الله تعالى:
( إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى ، وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) النجم /27 – 28.
والله أعلم.
*عبدالرحمن*
2018-03-08, 05:08
مذهب الحنابلة في قبول خبر الكافر المتأول والفاسق المتأول
السؤال :
ما هو رأي الحنابلة المتأخرين في قبول خبر الآحاد من الكافر المتأول والفاسق المتأول ؟
الجواب :
الحمد لله
المذهب عند الحنابلة عدم قبول خبر الكافر والفاسق مطلقا، أي سواء كانا متأولين أو غير متأولين.
وذهب بعضهم كأبي الخطاب إلى قبول خبر المتأول – كافرا كان أو فاسقا- إذا لم يكن داعية.
والكافر المتأول: هو من كفر ببدعة، لكنه مستند في بدعته إلى ما يظنه دليلا من الكتاب أو السنة، كدعوى غلاة الرافضة حلول الإلهية في علي، أو القول بتحريف القرآن. وينظر: "تيسير الوصول إلى قواعد الأصول"، للشيخ عبد الله الفوزان، ص 110
والفاسق المتأول: من فسق ببدعة ، كالاعتزال.
قال ابن قدامة رحمه الله: "ويعتبر في الراوي المقبول روايته أربعة شروط:
الإسلام، والتكليف، والعدالة، والضبط.
أما الإسلام: فلا خلاف في اعتباره؛ فإن الكافر متهم في الدين.
فإن قيل: هذا يتجه في كافر لا يؤمن بنبينا -صلى الله عليه وسلم- إذ لا يليق بالسياسة تحكيمه في دين لا يعتقد تعظيمه، أما الكافر المتأول: فإنه معظم للدين، يمتنع من المعصية، غير عالم أنه كافر، فلم لا تقبل روايته؟
قلنا: كل كافر : متأولٌ ؛ فاليهودي – أيضًا – متأول ؛ فإن المعاند هو الذي يعرف الحق بقلبه ، ويجحده بلسانه، وهذا يندر، بل تورّع هذا من الكذب ، كتورع اليهودي، فلا يلتفت إلى هذا، ولا يستفاد هذا المنصب بغير الإسلام.
وقال أبو الخطاب -في الكافر والفاسق المتأولين-: إن كان داعية فلا يقبل خبره؛ فإنه لا يؤمن أن يضع حديثًا على موافقة هواه، وإن لم يكن داعية...
واختار أبو الخطاب: قبول رواية الفاسق المتأول، لما ذكرناه، وأن توهم الكذب منه كتوهمه من العدل؛ لتعظيمه المعصية وامتناعه منها، وهو مذهب الشافعي...
الرابع: العدالة:
فلا يقبل خبر الفاسق؛ لأن الله -تعالى- قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} وهذا زجر عن الاعتماد على قبول [قول] الفاسق، ولأن من لا يخاف الله -سبحانه- خوفًا يزعه عن الكذب ، لا تحصل الثقة بقوله" "
انتهى من "روضة الناظر" (1/ 329).
وقال ابن النجار رحمه الله:
" وَمِنْ شُرُوطِ رَاوٍ: عَقْلٌ" إجْمَاعًا؛ إذْ لا وَازِعَ لِغَيْرِ عَاقِلٍ يَمْنَعُهُ مِنْ الْكَذِبِ، وَلا عِبَارَةَ أَيْضًا، كَالطِّفْلِ.
"وَ" مِنْهَا "إسْلامٌ" ، إجْمَاعًا ؛ لِتُهْمَةِ عَدَاوَةِ الْكَافِرِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِشَرْعِهِ...
"وَ" مِنْهَا "عَدَالَةٌ" ، إجْمَاعًا ؛ لِمَا سَبَقَ مِنْ الأَدِلَّةِ، "ظَاهِرًا وَبَاطِنًا"، عِنْدَ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا. وَذَكَرَهُ الآمِدِيُّ عَنِ الأَكْثَرِ...
"وَيُرَدُّ مُبْتَدِعٌ دَاعِيَةٌ" ، أَيْ رِوَايَةُ مُبْتَدِعٍ يَدْعُو النَّاسَ إلَى بِدْعَتِهِ.
وَالْمُبْتَدِعُ وَاحِدُ الْمُبْتَدِعَةِ، وَهُمْ أَهْلُ الأَهْوَاءِ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُمْ.
وَالْمُرَادُ إذَا كَانَتْ بِدْعَتُهُ غَيْرَ مُكَفِّرَةٍ. كَالْقَوْلِ بِتَفْضِيلِ عَلِيٍّ عَلَى سَائِرِ الصَّحَابَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ "أَوْ مَعَ بِدْعَةٍ مُكَفِّرَةٍ" ، كَالْقَوْلِ بِإِلاهِيَّتِهِ أَوْ غَيْرِهِ....
وَعُلِمَ مِمَّا فِي الْمَتْنِ: أَنَّ الْمُبْتَدِعَ غَيْرَ الدَّاعِيَةِ ، وَغَيْرَ الْمُكَفَّرِ بِبِدْعَتِهِ : تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ.
وَهَذَا الصَّحِيحُ مِنْ الرِّوَايَاتِ عَنْ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِعَدَمِ عِلَّةِ الْمَنْعِ، وَلِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الرِّوَايَةِ عَنْ الْمُبْتَدَعَةِ. كَالْقَدَرِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ وَالْمُرْجِئَةِ، وَرِوَايَةِ السَّلَفِ وَالأَئِمَّةِ عَنْهُمْ"
انتهى من "شرح الكوكب المنير" (2/ 379- 403).
والله أعلم.
*عبدالرحمن*
2018-03-08, 05:10
هل تصح قصة بيع زوجة أيوب عليه السلام لضفيرتها ؟
السؤال :
كنت أناقش أهلي في قضية وصل الشعر ، فإذا بأاخي يقول : إن زوجة سيدنا أيوب باعت ضفائرها (شعرها) ، فكيف ذلك وهو محرم في الشريعة الإسلامية أن يوصل الشعر ، وأن الأولي دفن الشعر ؟
فكان ردي أن الشريعة الإسلامية جاءت ناسخة لما قبلها ، وأن حديث الرسول صل الله عليه وسلم في لعن الوصل هو حديث صحيح ـ ولا خلاف فيه ، فأرجو توضيح الأمر ، وتصحيح إجابتي .
الجواب :
الحمد لله
نقل أهل العلم في تفسير قوله تعالى: ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) ص /44.
أن أيوب عليه السلام أقسم أن يضرب زوجته بسبب تصرف صدر منها؛ ونقلوا أقوالا حول هذا السبب ؛ ومن ضمن ذلك ؛ أنها باعت ضفيرتها لحاجتهما إلى المال.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: " وقوله : ( وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ ) : وذلك أن أيوب عليه السلام كان قد غضب على زوجته، ووجد عليها في أمر فعلته.
قيل: إنها باعت ضفيرتها بخبز، فأطعمته إياه ، فلامها على ذلك، وحلف إن شفاه الله ليضربنها مائة جلدة ، وقيل: لغير ذلك من الأسباب " انتهى من "تفسير ابن كثير" (7 / 76).
لكن هذا السبب لم يثبت بنص من الوحي؛ والظاهر أنه مما نقله أهل العلم عن أهل الكتاب.
قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى:
" والتقدير: وقلنا خذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث . وهذا إفتاء برخصة !!
وهذا له قصة أخرى ، أشارت إليها الآية إجمالا ؛ ولم يرد في تعيينها أثر صحيح " انتهى من "التحرير والتنوير" (23 / 273).
ثانيا:
قد اختلف أهل العلم في مسألة: هل شرع من قبلنا من الأنبياء، هل هو شرع لنا ؟
لكن ما ينسب إلى زوجة أيوب عليه السلام من بيع ضفيرتها؛ وربما اشترتها من تصل به شعرها؛ فهذا التصرف باتفاق أهل العلم لا يعتبر دليلا في شرعنا على جواز الوصل ، ولا يعتبر من شرع من قبلنا فيكون شرعا لنا.
لأنه – أولا - لم يثبت بسند صحيح أنه من شرع أيوب عليه السلام؛ وعلى فرض ثبوت القصة؛ فأيوب عليه السلام لم يقرّها عليه ، بل غضب منها لما فعلت ذلك ، وحلف ليعاقبنها ، إن شفاه الله !! على ما جاء في الرواية .
فإذا علمنا أنه قد ثبت في شرعنا تحريم الوصل ؛ تبين بوضوح أنه لا معنى لذكر هذه القصة في مقام الوصل ، والاحتجاج على عمله أصلا .
ومما ورد في تحريم الوصل :
عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " أَنَّ جَارِيَةً مِنَ الأَنْصَارِ تَزَوَّجَتْ ، وَأَنَّهَا مَرِضَتْ فَتَمَعَّطَ شَعَرُهَا، فَأَرَادُوا أَنْ يَصِلُوهَا، فَسَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ( لَعَنَ اللَّهُ الوَاصِلَةَ وَالمُسْتَوْصِلَةَ ) رواه البخاري (5934) ، ومسلم (2123).
قال الشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" وحاصل تحرير المقام في مسألة "شرع من قبلنا"؛ أن لها واسطة وطرفين:
طرف يكون فيه شرعا لنا ، إجماعا: وهو ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعا لمن قبلنا، ثم بين لنا في شرعنا أنه شرع لنا، كالقصاص، فإنه ثبت بشرعنا أنه كان شرعا لمن قبلنا، في قوله تعالى: ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) الآية، وبين لنا في شرعنا أنه مشروع لنا في قوله: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ).
وطرف يكون فيه غير شرع لنا إجماعا، وهو أمران:
أحدهما: ما لم يثبت بشرعنا أصلا أنه كان شرعا لمن قبلنا، كالمتلقَى من الإسرائيليات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن تصديقهم، وتكذيبهم فيها، وما نهانا - صلى الله عليه وسلم - عن تصديقه لا يكون مشروعا لنا إجماعا.
والثاني : ما ثبت في شرعنا أنه كان شرعا لمن قبلنا، وبين لنا في شرعنا أنه غير مشروع لنا ... "
انتهى من "أضواء البيان" (2 / 81 - 82).
والله أعلم.
*عبدالرحمن*
2018-03-08, 05:15
مدى صحة القول ؛ بأنّ تدخين السجائر
لو كان حراما لأخبر بذلك الوحي
السؤال :
في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الله أطلعه على ما هو كائن إلى يوم القيامة ، فهل المقصود أنه أطلعه على كل شي صغير ، أم الكبير المهم ، أم لا ، أم اطلعه بالمجمل
أم أطلعه على الفتن فقط ؟ فبعضهم يقول : إن الدخان ليس بحرام ؛ ذلك أن الله أطلع نبينا على كل شي ، فلو كان حراما لأخبر عنه ، أو أشار إليه ، وإن تحريم الدخان لم يكن لو لم يسأل الناس عنه بحجة لا تسألوا عن أشياء إن تبدا لكم تسؤكم .
الجواب :
الحمد لله
أولا:
عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: ( لَقَدْ خَطَبَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً، مَا تَرَكَ فِيهَا شَيْئًا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا ذَكَرَهُ، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ، إِنْ كُنْتُ لَأَرَى الشَّيْءَ قَدْ نَسِيتُه، فَأَعْرِفُه مَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ إِذَا غَابَ عَنْهُ فَرَآهُ فَعَرَفَهُ )
رواه البخاري (6604) ومسلم (2891).
الظاهر من الحديث أنه أخبر بما هو كائن من الحوادث والفتن إلى قيام الساعة.
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى:
" فعمومات هذه الأحاديث يراد بها الخصوص؛ إذ لا يمكن أن يحدث في يوم واحد، بل: ولا في أيام، ولا في أعوام بجميع ما يحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم تفصيلا؛ وإنما مقصود هذه العمومات الإخبار عن رؤوس الفتن والمحن ورؤسائها، كما قال حذيفة بعد هذا حين قال: لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يحدّث مجلسا أنا فيه عن الفتن ... "
انتهى، من "المفهم" (7 / 221).
إذًا ، فليس المقصود من هذا الحديث أن الله تعالى أطلع النبي صلى الله عليه وسلم على كل شيء كائن إلى يوم القيامة ، ولا أنه حدثه في ذلك المقام بخبر كل كائن ، صغير أو كبير ، وحكم كل شيء ، رآه الناس ، أو سوف يحدث في المستقبل ، ولم يره الناس في زمانهم ؛ فهذا لا يقول به أحد من أهل العلم أصلا ، ولا يمكن أن يقوله .
ثانيا :
إذا لم يرد نص شرعي خاص يحرم شيئا ما ، فهل هذا يعني أنه حلال ؟
والجواب : لا ، لأن دلالة الشرع على الأحكام ليست بالنص الخاص فقط ، بل تكون بغير ذلك ، كالألفاظ العامة التي يدخل تحتها ما يستجد من المسائل ، أو بالقياس .. أو بغير ذلك .
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" ولكن مما ينبغي أن يعلم: أن ذكر الشيء بالتحريم والتحليل مما قد يخفى فهمه من نصوص الكتاب والسنة، فإن دلالة هذه النصوص قد تكون بطريق النص والتصريح، وقد تكون بطريق العموم والشمول، وقد تكون دلالته بطريق الفحوى والتنبيه، كما في قوله تعالى: ( فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا )، فإن دخول ما هو أعظم من التأفيف من أنواع الأذى يكون بطريق الأولى، ويسمى ذلك مفهوم الموافقة.
وقد تكون دلالته بطريق مفهوم المخالفة، كقوله: ( في الغنم السائمة الزكاة ) فإنه يدل بمفهومه على أنه لا زكاة في غير السائمة، وقد أخذ الأكثرون بذلك، واعتبروا بمفهوم المخالفة، وجعلوه حجة.
وقد تكون دلالته من باب القياس، فإذا نص الشارع على حكم في شيء لمعنى من المعاني، وكان ذلك المعنى موجودا في غيره، فإنه يتعدى الحكم إلى كل ما وجد في ذلك المعنى عند جمهور العلماء، وهو من باب العدل والميزان الذي أنزل الله، وأمر بالاعتبار به، فهذا كله مما يعرف به دلالة النصوص على التحليل والتحريم.
فأما ما انتفى فيه ذلك كله، فهنا يستدل بعدم ذكره بإيجاب أو تحريم على أنه معفو عنه "
انتهى، من "جامع العلوم والحكم" (2 / 164 - 165).
وعلى هذا ؛ فالصواب أن يقال :
إذا لم يدل دليل شرعي على تحريم الدخان : فإنه يكون حلالا .
لكن الدخان قد دلت الأدلة الشرعية على تحريمه لما فيه من الضرر ، فقد ثبت ضرره على الأبدان بما لا يتنازع فيه اثنان .
ولما فيه من تضييع المال وإنفاقه في غير منفعة ، بل فيما فيه مضرة .
ولما فيه من خبث الطعم ، والرائحة .
فهو ، بما اجتمع فيه من ذلك كله : من جملة الخبائث التي حرمها الله تعالى .
ثالثا :
سؤال المسلم لأهل العلم عن أحكام الأشياء -التي لم يأت فيها نص خاص من الوحي- هو من باب التفقه وطلب الهدى، ومعرفة حدود الله تعالى، وهو سؤال مأمور به ومحمود بالإجماع.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" فمن سأل مستفهما راغبا في العلم، ونفي الجهل عن نفسه، باحثا عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه، فلا بأس به، فشفاء العي السؤال.
ومن سأل معنتا غير متفقه ولا متعلم، فهذا لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره " انتهى."التمهيد" (21 / 292).
وقال البغوي رحمه الله تعالى:
" المسألة وجهان: أحدهما: ما كان على وجه التبين والتعلم فيما يحتاج إليه من أمر الدين، فهو جائز مأمور به، قال الله تعالى: ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )، وقال الله تعالى: ( فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ ) وقد سألت الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مسائل، فأنزل الله سبحانه وتعالى بيانها في كتابه ... "
انتهى. "شرح السنة" (1 / 310).
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يشكل عليهم من أمر دينهم .
كقوله تعالى:
( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) البقرة (219).
وكقوله تعالى:
( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) المائدة (4).
وعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: إِنَّا قَوْمٌ نَصِيدُ بِهَذِهِ الكِلاَبِ؟ فَقَالَ: ( إِذَا أَرْسَلْتَ كِلاَبَكَ المُعَلَّمَةَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ، فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَإِنْ قَتَلْنَ، إِلَّا أَنْ يَأْكُلَ الكَلْبُ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ خَالَطَهَا كِلاَبٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلاَ تَأْكُلْ )
رواه البخاري (5483) ومسلم (1929).
وعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ البِتْعِ، وَهُوَ نَبِيذُ العَسَلِ، وَكَانَ أَهْلُ اليَمَنِ يَشْرَبُونَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ ) رواه البخاري (5586) ومسلم (2001).
والأحاديث في هذا كثيرة جدا .
وأما قوله تعالى :
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) المائدة (101).
فليس المراد به النهي عن سؤال أهل العلم عمّا يستجد من الأشياء والنوازل، وإنما تنهى عن السؤال الذي لا فائدة منه، أو مايصدر من باب التنطع وليس من باب طلب الهدى، وغيرها من أنواع الأسئلة التي لا نفع فيها، وعلى هذا الوجه فسّرها أهل العلم.
قال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى:
" ذُكِر أن هذه الآية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب مسائل كان يسألها إياه أقوام، امتحانًا له أحيانًا، واستهزاءً أحيانًا ...
وبنحو الذي قلنا في ذلك تظاهرت الأخبار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "
انتهى. "تفسير الطبري" (9 / 13).
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى:
" ثم قال تعالى: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) هذا تأديب من الله تعالى لعباده المؤمنين، ونهي لهم عن أن يسألوا ( عَنْ أَشْيَاءَ ) مما لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها؛ لأنها إن أظهرت لهم تلك الأمور ربما ساءتهم وشق عليهم سماعها "
انتهى. "تفسير ابن كثير" (3 / 203).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: ( كَانَ قَوْمٌ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِهْزَاءً، فَيَقُولُ الرَّجُلُ: مَنْ أَبِي؟ وَيَقُولُ الرَّجُلُ تَضِلُّ نَاقَتُهُ: أَيْنَ نَاقَتِي؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الآيَةَ: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) حَتَّى فَرَغَ مِنَ الآيَةِ كُلِّهَا )
رواه البخاري (4622).
والله أعلم.
*عبدالرحمن*
2018-03-08, 05:21
مراعاة المصالح والمفاسد ومناصرة
الشواذ بحجة وقوفهم مع المسلمين
السؤال
: في كثير من الأحيان يتبنى العلماء هنا في الغرب باب المصلحة العامة ، أو الأخذ بالجيد وترك السئ ، وهو أمر أتفهمه ، ولكن ذلك يخلق لبسًا كبيرًا لدى العامة ، فعلى سبيل المثال : مسألة أنه ينبغي علينا مناصرة من يطالبون بحقوق الشاذين جنسيًا ؛ لإن كثيرا منهم يقفون ضد الحظر المفروض على المسلمين ، وعليه لا يمكننا القول بأننا ضد المثليين
فذلك سيؤي إلى مزيد من العنصرية، ، وكذلك مسألة مصافحة المرأة ، وعدم إعفاء اللحية ؛ حتى يتمكن الرجل من العمل ، وإطعام عائلته ، فضلًا أننا لا نريدهم أن يظنوا أننا ضد المرأة ، وكذلك الأمر بالنسبة للقروض الربوية لشراء المنزل للعيش في استقرار ، فآمل توضيح الموقف الصحيح من هذه الأقوال .
الجواب :
الحمد لله
الشريعة قائمة على تحصيل المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها.
والموازنة بين المصالح والمفاسد والترجيح بينها باب دقيق من أبواب الفقه، فقد يترك الواجب، لدفع مفسدة أعظم، ويرتكب أهون الشرين لدفع أعلاهما.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فصل نافع سماه: "فصل جامع في تعارض الحسنات؛ أو السيئات؛ أو هما جميعا" جاء فيه:
"فالتعارض إما بين:
1 - حسنتين لا يمكن الجمع بينهما؛ فتقدم أحسنهما بتفويت المرجوح.
2 - وإما بين سيئتين لا يمكن الخلو منهما؛ فيدفع أسوأهما باحتمال أدناهما.
3 - وإما بين حسنة وسيئة لا يمكن التفريق بينهما؛ بل فعل الحسنة مستلزم لوقوع السيئة؛ وترك السيئة مستلزم لترك الحسنة؛ فيرجح الأرجح من منفعة الحسنة ومضرة السيئة"
انتهى من مجموع الفتاوى (20/ 48).
والمقصود أن الموازنة بين المصالح والمفاسد باب دقيق، ولا يقوم بها إلا العلماء المتقنون.
وقد ذكرت في سؤالك أمورا متفاوتة، فالفاحشة والشذوذ والربا: ليستا كمصافحة الأجنبية، وحلق اللحية، مثلا .
فإن الشذوذ كبيرة عظيمة من كبائر الذنوب، وانتشارها في المجتمع من أسباب الهلاك ونزول العذاب، والإقرار بحق الشواذ قد يفهم منه إباحة ذلك ، وأنه ليس محرما ولا جرما، وهذا كفر بيِّن.
وكيفما كان الأمر ، فلا نرى رخصة في مجاملة الشواذ بحجة تقليل العنصرية، أو كون هؤلاء يقفون مع قضايا المسلمين، فإن انتشار الشذوذ هلاك للمجتمع، ومضرته ستعود على المسلمين وغيرهم. ومفسدة الرضا بمنكرهم العظيم ، أو الإقرار به : أعظم في ميزان الشرع ، من كل ما يتوهم من المصالح في ذلك .
والربا كبيرة من كبائر الذنوب أيضا، وفاعله متوعَّد باللعن والمحق والحرب، فلا يباح إلا عند الضرورة.
والحاجة إلى السكن تندفع بالاستئجار، ولهذا يخطئ من يرخص في الربا لشراء أو بناء المسكن.
وأما مصافحة المرأة الأجنبية فمحرمة، وقد يترتب على تركه مفسدة نفور المرأة من الإسلام وظنها أن ذلك إهانة للمرأة، لكن هذه المفسدة يمكن دفعها بالبيان والشرح، وفي غير المسلمين من لا يصافح النساء أيضا، أو من لا تصافح الرجال، فتفهّم هذه المسألة سهل ويسير غالبا.
وأما حلق الرجل لحيته فمحرم، لكن إن أُكره على حلقها، أو لحق به ضرر معتبر فلم يتمكن من العمل وإعالة نفسه وأهله إلا بحلقها ، أو تخفيفها : جاز ذلك، من باب ارتكاب أهون الشرين وأخف المفسدتين .
والحاصل :
أن إعمال الموازنة بين المصالح والمفاسد لابد منه، ولا يكون ذلك إلا على يد العلماء، وقد يخطئ بعضهم في ذلك فلا يتابع على خطئه.
والله أعلم.
*عبدالرحمن*
2018-03-08, 05:35
الأدلة المختلف فيها وأثرها في الخلاف الفقهي
السؤال :
ما هي الأدلة الشرعية المختلف فيها بين الأصوليين، وما أثرها في الخلاف الفقهي ؟
الجواب :
الحمد لله
أولا:
الأدلة المختلف فيها كثيرة منها:
الاستصحاب، وقول الصحابي، وشرع من قبلنا، والاستحسان، والمصالح المرسلة.
وينظر في الكلام على هذه الأدلة كتب الأصول، ومنها: مذكرة أصول الفقه، للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، ص249- 266، معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة، د. محمد حسين الجيزاني، ص207- 242، وتجدهما على المكتبة الشاملة.
ولا يتسع مقام الفتوى للتعريف بهذه الأدلة، ولا ذكر الخلاف فيها.
ثانيا:
نتج عن اختلاف الفقهاء في حجية هذه الأدلة : اختلافهم في كثير من الفروع الفقهية التي كان دليلها واحدًا من هذه الأدلة المختلف فيها.
وننصحك بالرجوع إلى "بداية المجتهد" لابن رشد، فإنه يعنى بذكر أسباب اختلاف الفقهاء في أكثر ما يورده من مسائل.
ونسوق هنا بعض الأمثلة:
1-الاستصحاب:
ومن أمثلة الخلاف المبني على حجيته:
ميراث المفقود، وهل يعتبر المفقود ميتا فيورث، أم يعتبر حيا فلا يورث؟
"ذهب الإمام الشافعي رحمه الله إلى أنه يعتبر حيا، فلا يورث، ويرث من غيره. والأصل في ذلك أن الأصل حياته، فيستصحب الأصل حتى يظهر خلافه...
وذهبت الحنفية إلى أنه لا يورث ولا يرث، وحجتهم في عدم إرثه من غيره ما ذكره صاحب الهداية: " ولا يرث المفقودُ أحداً مات في حال فقده؛ لأن بقاءه حيا في ذلك الوقت باستصحاب الأصل، وهو لا يصلح حجة في الاستحقاق"" انتهى من "أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء" للدكتور مصطفى سعيد الخِنّ، ص548
2-قول الصحابي:
ومن أمثلة الخلاف المبني على حجية قول الصحابي: اختلاف الفقهاء في حكم سجود التلاوة، فذهب الحنفية إلى وجوبه اعتمادا على الأمر بالسجود، وذم من تركه.
وذهب الجمهور إلى أنه سنة، احتجاجا بما روى مالك في الموطأ (16) أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ سَجْدَةً، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. فَنَزَلَ فَسَجَدَ، وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، ثُمَّ قَرَأَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى. فَتَهَيَّأَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ، فَقَالَ: «عَلَى رِسْلِكُمْ. إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا، إِلَّا أَنْ نَشَاءَ». فَلَمْ يَسْجُدْ، وَمَنَعَهُمْ أَنْ يَسْجُدُوا.
قال ابن رشد في بداية المجتهد (1/ 233): " فأما حكم سجود التلاوة: فإن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: هو واجب، وقال مالك والشافعي: هو مسنون وليس بواجب.
وسبب الخلاف: اختلافهم في مفهوم الأوامر بالسجود، والأخبار التي معناها معنى الأوامر بالسجود، مثل قوله تعالى: (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا) [مريم: 58] هل هي محمولة على الوجوب، أو على الندب ؟ فأبو حنيفة حملها على ظاهرها من الوجوب، ومالك والشافعي اتبعا في مفهومهما الصحابة، إذ كانوا هم أقعد بفهمهم الأوامر الشرعية، وذلك أنه لما ثبت: أن عمر بن الخطاب قرأ السجدة يوم الجمعة، فنزل وسجد، وسجد الناس معه فلما كان يوم الجمعة الثانية وقرأها، تهيأ الناس للسجود فقال: على رسلكم إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء، قالوا: وهذا بمحضر الصحابة، فلم ينقل عن أحد منهم خلاف، وهم أفهم بمغزى الشرع، وهذا إنما يحتج به من يرى قول الصحابي - إذا لم يكن له مخالف – حجة" انتهى.
3-شرع من قبلنا:
ومن أمثلة الخلاف المبني عليه: مشروعية النكاح بلفظ الإجارة.
قال ابن رشد: " أما (النكاح) على (الإجارة) ففي المذهب فيه ثلاثة أقوال: قول بالإجازة، وقول بالمنع، وقول بالكراهة. والمشهور عن مالك الكراهة. ولذلك رأى فسخه قبل الدخول، وأجازه من أصحابه أصبغ، وسحنون. وهو قول الشافعي، ومنعه ابن القاسم وأبو حنيفة ، إلا في العبد ؛ فإن أبا حنيفة أجازه.
وسبب اختلافهم سببان:
أحدهما: هل شرع من قبلنا لازم لنا حتى يدل الدليل على ارتفاعه؟ أم الأمر بالعكس؟
فمن قال: هو لازم - أجازه؛ لقوله تعالى: (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج) [القصص: 27] الآية. ومن قال: ليس بلازم - قال: لا يجوز النكاح بالإجارة" انتهى من بداية المجتهد (3/ 47).
وذكر الإسنوي أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا عند الشافعية، خلافا للحنفية، وفرّع على ذلك مسائل.
قال رحمه الله: " ويتفرع عن هذا الأصل مسائل:
منها إذا نذر ذبح ولده: لم ينعقد نذره عندنا، إذ لا أصل له في شرعنا، وينعقد عندهم، تمسكا بقضية الخليل عليه السلام.
ومنها : أن الأضحية غير واجبة عندنا، لانتفاء مدارك الوجوب فيها، وعندهم تجب لقوله تعالى حكاية عن الخليل عليه السلام: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت) والأمر في شرعه: أمر في شرعنا" انتهى من "التمهيد في تخريج الفروع على الأصول" ص370
4-المصالح المرسلة:
ومن الأمثلة المترتبة على الخلاف في حجيتها:
قتل الجماعة بالواحد، وحبس مدعي الفلس إذا لم يُعلم صدقه.
وينظر: "أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء" للدكتور مصطفى سعيد الخِنّ، ص560
ومن الكتب المفيدة في معرفة ذلك والوقوف على أثره : كتب "تخريج الفروع على الأصول" ، مثل كتاب "الزنجاني" الشافعي ، بهذا الاسم نفسه ، وكتاب " التمهيد في تخريج الفروع على الأصول" للإسنوي الشافعي ، وكتاب " مفتاح الوصول في تخريج الفروع على الأصول" ، للتلمساني المالكي .
ومن الدراسات المعاصرة المتخصصة في هذه المسألة كتاب " أثر الأدلة المختلف فيها ، في الفقه الإسلامي" ، للدكتور مصطفى ديب البغا
حاري رفع الكتاب
والله أعلم.
رابط التحميل
https://up.top4top.net/downloadf-797r5flq1-rar.html
*عبدالرحمن*
2018-03-08, 05:43
الأصل في الحيوانات الإباحة
وفي الذبائح واللحوم التحريم
السؤال :
ثمة قاعدة فقهية أوردها العلامة السعدي في منظومته نصها أن الأصل في اللحوم الحرمة ، وقد علق عليها تلميذه ابن عثيمين بأنها لا تشمل الحيوانات ، بل هذه الأصل بها الإباحة ، لكن القاعدة في اللحم كصيد سقط في الماء أو ذبيحة مجهول ذابحها ، وقد تكلم العلامة العلوان بكلام بنحو هذا حينما كان يرد على هذه القاعدة في كلام العلامة ابن القيم فأنكرها عليه ، لكن أقر بنحو كلام ابن عثيميين في أنه إذا تداخل سبب تحريم وسبب حل فيقدم التحريم ، وذكر مسألة الصيد لو سقط في الماء
واستدل على رد القاعدة بأكل الصحابة الحمر الأهلية قبل تحريمها ، ولم يكن قد ورد فيها دليل على حلها ، فذكر أنه لم يكن من خلاف بين الصحابة في حل اللحوم ، أما هذا الخلاف فنشأ فيمن بعدهم ، وقد ذكر هذه القاعدة أهل الفقة ، فهل ذكرها في كتبهم يحمل على إطلاقها من حيث أن الأصل في اللحم والحيوانات الحرمة ؟ ومن الفقهاء المتقدمين أخذ بهذه القاعدة على إطلاقها و من منهم قيدها ضمن التفصيل الذي ذكره الشيخ ابن عثيمين من حيث أنها تشمل اللحوم دون الحيوانات ؟
الجواب :
الحمد لله
أولا:
الأصل في الذبائح أو اللحوم التحريم، فلا تحل الذبيحة إلا إذا علمنا أنها ذكيت على الوجه المشروع .
ومن كلام أهل العلم في تقرير هذا الأصل:
1- قال النووي رحمه الله: "فيه بيان قاعدة مهمة وهي أنه إذا حصل الشك في الذكاة المبيحة للحيوان : لم يحل؛ لأن الأصل تحريمه، وهذا لا خلاف فيه"
انتهى من شرح صحيح مسلم (13/116).
2-وقال الرافعي رحمه الله: "وليست اللحوم على الإباحة أيضاً؛ ألا ترى أنه لو ذبح المشرف على الموت وشك في أن حركته عند الذبح كانت حركة المذبوح أو حياة مستقرة، يغلب التحريم" انتهى من فتح العزيز شرح الوجيز (1/280).
3-وقال ابن القيم رحمه الله: "ثم النوع الثاني : استصحاب الوصف المُثْبِت للحُكم ، حتى يثبت خلافه ، وهو حجة ، كاستصحاب حكم الطهارة ، وحكم الحدث ، واستصحاب بقاء النكاح ، وبقاء المِلك ، وشغل الذمة بما تشغل به ، حتى يثبت خلاف ذلك ، وقد دل الشارع على تعليق الحكم به في قوله في الصيد : (وإن وجدته غريقاً فلا تأكله ؛ فإنك لا تدري الماءُ قتله أو سهمك) ، وقوله : (وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل ؛ فإنك إنما سميت على كلبك، ولم تسمِّ على غيره).
لمَّا كان الأصل في الذبائح : التحريم ، وشك : هل وجد الشرط المبيح أم لا ؟ بقي الصيد على أصله في التحريم"
انتهى من "إعلام الموقعين" (1/339، 340).
وقال أيضاً: "إن باب الذبائح على التحريم، إلا ما أباحه الله ورسوله، فلو قدر تعارض دليلي الحظر والإباحة، لكان العمل بدليل الحظر أولى لثلاثة أوجه:
أحدها: تأييده الأصل الحاظر.
الثاني: أنه أحوط.
الثالث: أن الدليلين إذا تعارضا تساقطا ورجعا إلى أصل التحريم" انتهى من أحكام أهل الذمة (1/538، 539).
4-وقال ابن رجب الحنبلي : "وما أصله الحظر، كالأبضاع ولحوم الحيوان: فلا يحل إلا بيقين حله من التذكية والعقد، فإن تردد في شيء من ذلك لظهور سبب آخر: رجع إلى الأصل، فبنى عليه، فيبني فيما أصله الحرمة، على التحريم .
ولهذا نهى النبي عن أكل الصيد الذي يجد فيه الصائد أثر سهم غير سهمه ، أو كلب غير كلبه، أو يجده قد وقع في ماء ؛ وعلل: بأنه لا يدري هل مات من السبب المبيح له أو من غيره"
انتهى من جامع العلوم والحكم ص93.
5-وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في منظومة القواعد :
"والأصل في الأبضاع واللحوم *** والنفس والأموال للمعصوم
تحريمها حتى يجيء الحلُّ *** فافهم هداك الله ما يُمَلُّ".
ثم قال رحمه الله في شرحها:
"يعني أن الأصل في هذه الأشياء التحريم حتى نتيقن الحل.
فالأصل في الأبضاع : التحريم . والأبضاع: وطء النساء، فلا يحل إلا بيقين الحل، إما بنكاح صحيح، أو ملك يمين .
وكذلك اللحوم، الأصل فيها التحريم، حتى يُتيقن الحل.
ولهذا إذا اجتمع في الذبيحة سببان: مبيح ، ومحرِّم، غلِّب التحريم، فلا يحل المذبوح والمصيد"
انتهى من المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ السعدي، الفقه (1/ 142) .
6-وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين : "الأصل في الذبائح والذكاة التحريم ، حتى نعلم كيف وقع الذبح، وكيف وقعت الذكاة، وذلك لأن من شروط الحل : أنه ذكي أو ذبح على وجه شرعي"
انتهى من فتاوى الصيد (ص26-27) إعداد : عبدالله الطيار.
ثانيا:
قد يعبر بعضهم بقوله: الأصل في الحيوان التحريم، ويريد الحيوان المذبوح وأنه لابد من ثبوت التذكية المعتبرة، ولا يريد الحيوان الحي .
ومن ذلك قول الخطابي رحمه الله : "البهيمة أصلها على التحريم ، حتى تتيقن وقوع الذكاة؛ فهي لا تستباح بالأمر المشكوك"
انتهى من معالم السنن (4/282).
وقول الشاطبي رحمه الله: "فالأصل في الأبضاع المنع ، إلا بالأسباب المشروعة، والحيوانات : الأصل في أكلها المنع ، حتى تحصل الذكاة المشروعة، إلى غير ذلك من الأمور المشروعة"
انتهى من الموافقات (1/401).
ثالثا:
أما الحيوان الحي : فالأصل فيه الحل إلا ما استثني؛ لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) البقرة/29
وهي دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة، ويدخل في ذلك الحيوانات والنباتات وغيرها، حتى يثبت موجب التحريم، كالنهي عن أكله، كما نهي عن أكل الخنزير، والحمر الأهلية، أو أكل كل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير، أو النهي عن قتله، كالنهي عن قتل الهدهد والصُّرد، أو الأمر بقتله، كالأمر بقتل الحية والفأر، أو ثبوت ضرره، أو كونه مستخبثا؛ لقوله تعالى: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) الأعراف/157
وفي الموسوعة الفقهية (18/ 336):
" ما يتأتى أكله من الحيوان يصعب حصره، والأصل في الجميع الحل في الجملة إلا ما استثني فيما يلي:
الأول الخنزير: فهو محرم بنص الكتاب والسنة وعليه الإجماع.
واختلفوا فيما عداه من الحيوان: فذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يحل أكل كل ذي ناب من السباع: كالأسد، والنمر، والفهد، والذئب، والكلب وغيرها، ولا ذي مخلب من الطير كالصقر، والبازي. والنسر، والعقاب والشاهين وغيرها. لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير.
ثم اختلفوا في تحليل وتحريم بعض آحاد الحيوان، كالخيل، والضبع، والثعلب، وأنواع الغراب وغيرها. ينظر تفصيلها في مصطلح (أطعمة) .
وانعقد المذهب عند المالكية في رواية، أنه يؤكل جميع الحيوان من الفيل إلى النمل والدود، وما بين ذلك ، إلا الآدمي والخنزير فهما محرمان إجماعا.
وكذلك لا يحرم عندهم شيء من الطير في رواية، وبه قال الليث والأوزاعي، ويحيى بن سعيد. واحتجوا بعموم الآيات المبيحة، وقول أبي الدرداء وابن عباس: ما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه .
الثاني: ما أمر بقتله كالحية، والعقرب، والفأرة، وكل سبع ضارٍ كالأسد، والذئب، وغيرهما مما سبق.
الثالث: المستخبثات: فإن من الأصول المعتبرة في التحليل والتحريم : الاستطابة، والاستخباث. ورآه الشافعي رحمه الله الأصل الأعظم والأعم. والأصل في ذلك قوله تعالى: (ويحرم عليهم الخبائث) ، وقوله تعالى: (يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات) " انتهى.
وينظر: الموسوعة الفقهية (5/ 132- 147) ففيها تفصيل الكلام على الحيوان البري وأنه ثلاثة عشر نوعا، مع ذكر الخلاف الوارد فيها.
والحاصل :
أن التفريق بين الحيوان الحي، واللحم أو الذبيحة، تفريق معلوم ثابت، وأن الأصل في الحيوان الحي الإباحة، بخلاف اللحم أو الذبيحة فالأصل فيها التحريم.
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " الأصل في اللحوم هو الحل أو التحريم؟
فأجاب: الأصل في اللحوم التحريم لا في الحيوان، الأصل في الحيوان الحل ، والأصل في اللحوم التحريم حتى نعلم أو يغلب على ظننا أنها مباحة.
يعني: لو شككنا في هذا الحيوان هل هو حلال أو حرام؟ فهو حلال فنذكيه ونأكله، لكن لو شككنا في هذا اللحم هل هو مذكى أو ميتة؟ فالأصل التحريم، حتى يغلب على ظننا أنه حلال..."
انتهى من لقاء الباب المفتوح (234/ 9).
والله أعلم.
*عبدالرحمن*
2018-03-08, 05:47
شرح قاعدة الحكم يدور مع علته وجودا وعدما
السؤال :
كل ما حرم في الإسلام على العباد ، فتحريمه له سبب . والسؤال : هل لو اختفى سبب التحريم ، يزول معه تحريم ذلك الشيء ؟
الجواب :
الحمد لله
الأحكام الشرعية نوعان:
الأول: ما كان معللا، وعُرفت علته بالنص أو بالاستنباط، فإذا انتفت العلة انتفى الحكم، ومن قواعد الفقه: الحكم يدور مع علته وجوداً أو عدماً.
قال ابن القيم رحمه الله: " ولهذا إذا علَّق الشارع حكمًا بسبب أو علة زال ذلك الحكم بزوالها، كالخمر علق بها حكم التنجيس، ووجوب الحد لوصف الإسكار . فإذا زال عنها وصارت خلًا زال الحكم.
وكذلك وصف الفسق : علق عليه المنع من قبول الشهادة والرواية، فإذا زال الوصف زال الحكم الذي علق عليه.
وكذلك السفه والصغر والجنون والإغماء : تزول الأحكام المعلقة عليها بزوالها.
والشريعة مبنية على هذه القاعدة"
انتهى من "إعلام الموقعين" (5/ 528).
وقال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله:
" وكلُّ حكم دائرٌ مع عِلّتهْ *** وهي التي قد أوجبتْ شرعيَّتَهْ
قال الشيخ سعد الشثري حفظه الله في شرحه:
"هذا البيت متعلق بدوران الحكم الشرعي مع علته، والمراد بالحكم هنا: قد يراد به الأحكام الشرعية فقط، وقد يراد به عموم الأحكام حتى في أمورنا الخاصة: في أطعمتنا، وأدويتنا، وغيرها.
وقوله: "دائر" يعني: أنه يثبت الحكم إذا وجدت علته، وينتفي الحكم إذا انتفت علته .
والمراد بالعلة في اللغة ما اقتضى تغيرا؛ لذلك قيل: علة المريض .
وفي الاصطلاح يراد بالعلة: الوصف الظاهر المنضبط الذي يحصل من ترتيب الحكم عليه مصلحة...
والعلة تؤخذ من الأدلة الشرعية، فتؤخذ من صريح الأدلة مثل: إذا ورد مع اللفظ "من أجل" أو "كي" أو "إن" هذا يسمى دلالة صريحة على العلة، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم " (إنما حرم ذلك من أجل الدافة) يعني: ادخار لحوم الأضاحي.
وقوله صلى الله عليه وسلم : (إنها من الطوافين عليكم والطوافات) "إن" هنا حرف تعليل صريح، ومثل قوله عز وجل : ( كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ) "كي"، هذه أدوات صريحة للتعليل.
وقد يكون بطريق التنبيه، مثل قوله - عز وجل – ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) رتب الحكم: ( فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) على الوصف: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) بالفاء، (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) وصف مناسب للحكم.
ومثل قوله: (من بدل دينه فاقتلوه) رتبه بصيغة الجزاء، فهذه تسمى دلالة تنبيه على العلة، وليست صريحة مثل الأولى.
وقد يكون بطريق الإجماع، بأن تُجمع الأمة على هذا الوصف هو علة الحكم.
وقد يكون بطريق الاستنباط، نستنبط أن هذا الوصف هو علة الحكم ...
هذه القاعدة، وهي: كون الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، يدل عليها كلُّ دليل دال على العلية، فإن معنى كون الوصف علة أن يثبت الحكم بوجوده، وينتفي بانتفائه، ولا زال العقلاء يستخدمون هذه القاعدة في سائر حياتهم، حتى في الأدوية والأغذية، في أحكامهم على مجريات الأمور.
ولا بد أن يلاحظ أن الوصف لا بد أن يتوفر فيه عدد من الشروط حتى يكون علة صحيحة، مثل أن يكون منضبطا، فلا يصح التعليل بالأوصاف غير المنضبطة، ومنها ألا يعود على أصله بالإبطال، فإذا عاد الوصف على أصله المسألة بالإبطال لم يصح التعليل به.
مثال ذلك: الحنفية قالوا بأن العلة في بدأ الصلاة بالتكبير هو تعظيم الله - عز وجل - ؛ فلو ابتدأ الإنسان الصلاة بقوله: الله أعظم أو الله العظيم، أجزأه ذلك، وقال الجمهور: لا يجزئه.
وهذه العلة تعود على أصل الحكم بالإبطال، وأصل الحكم هو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " وتحريمها التكبير " ؛ ومما يؤخذ بدلالة اللغة : انحصار المبتدأ في الخبر ، معناه: أنه لا يقع تحريم للصلاة إلا بالتكبير، فلو قلنا: إن العلة هي تعظيم الله؛ فإنه حينئذ تعود على أصلها، وهو الحديث بالإبطال، إلى غير ذلك من شروط التعليل"
انتهى من "شرح منظومة القواعد الفقهية"، ص119 ترقيم الشاملة
وقال الدكتور محمد صدقي آل بورنو في "موسوعة القواعد الفقهية" (3/ 195) في شرح قاعدة "الحكم يدور مع علته وجودا وعدما":
" إذا وجدت العلة أو السبب ثبت الحكم بها، فإذا زالت العلة أو السبب ، زال الحكم بزوالها ، وانتهى بانتهائها؛ لأن الحكم يدور مع علته وسببه وجوداً وعدماً".
وذكر من أمثلة القاعدة ما يلي:
" ومنها: الجلّالة التي تأكل النجاسة ، قد نهى عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا حبست حتى تطيب، كَانت حلالاً باتفاق المسلمين؛ لأن علة النهي والتحريم كانت النجاسة، فلما زالت، صارت طاهرة.
ومنها: الخمر المنقلبة بنفسها إلى الخَلَّية: تطهر باتفاق المسلمين، فإن النجاسة إذا زالت بأي وجه زال حكمها" انتهى.
والنوع الثاني من الأحكام: الاحكام التي لا نعلم علتها ، وتسمى التعبدية، أو غير معقولة المعنى، وهذه لا تنتفي بانتفاء العلة؛ لعدم الوقوف على علتها.
ومن ذلك تحديد أعداد الركعات في الصلوات الخمس، وتحديد مقادير الأنصبة في الأموال التي تجب فيها الزكاة، ومقادير ما يجب فيها، ومقادير الحدود والكفّارات، وفروض أصحاب الفروض في الإرث.
وينظر: علم أصول الفقه، للدكتور عبد الوهاب خلاف، ص62
وأكثر الأحكام من النوع الأول، وهو المعلل المعروف علته.
على أننا ننبه تنبيها مؤكدا : أن البحث في العلة ومسالكها ، وتعليل الأحكام الشرعية من عدمه ، والنظر في ثبوت العلة أو انتفائها ، وما يتعلق بذلك كله = هذا البحث إنما هو وظيفة العالم الفقيه ، والإمام المجتهد ، لا وظيفة آحاد الناس ، ولو بلغ من الثقافة ما بلغ ، أو الشهادات ما حصل ؛ فإن ذلك البحث ليس من شأنه ، ولا من وظيفته ، إنما هي وظيفة من ذكرنا .
ومن سواه من الناس ؛ فإنما عليه أن يسأل عالم وقته ، وبلده ، الذي اشتهر علمه ، وثبتت أمانته، ثم يأخذ بقوله ، ويعمل بفتواه ، وهذا فرض العامي ، ومنتهاه .
والله أعلم.
*عبدالرحمن*
2018-03-08, 05:51
هل يلزم فرض الكفاية بالشروع فيه
فيحرم على طالب الطب ترك دراسته
السؤال :
علمت أن دراسة الطب فرض كفاية للمجتمع ، هل الفئة التي قررت أداء هذه المهمة الطلاب تصبح الدراسة فرض عين عليها ، وإن أهمل طالب الطب في دراسته فهل هو آثم ؟
الجواب :
الحمد لله
أولا:
دراسة الطب وغيره من العلوم التي تحتاجها الأمة كالحساب والهندسة فرض كفاية؛ إذ بها قوام أبدانهم ومعاشيه، وبفقدها يحصل للناس ضرر عظيم في ذلك.
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: " بيان العلم الذي هو فرض كفاية:
اعلم أن الفرض لا يتميز عن غيره إلا بذكر أقسام العلوم، والعلوم بالإضافة إلى الغرض الذي نحن بصدده : تنقسم إلى شرعية ، وغير شرعية. وأعني بالشرعية ما استفيد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، ولا يرشد العقل إليه مثل الحساب، ولا التجربة مثل الطب، ولا السماع مثل اللغة.
فالعلوم التي ليست بشرعية : تنقسم إلى ما هو محمود وإلى ما هو مذموم، وإلى ما هو مباح، فالمحمود ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا ، كالطب والحساب، وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية، وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة.
أما فرض الكفاية : فهو علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا ، كالطب؛ إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان، وكالحساب، فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما. وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها: حرِج أهل البلد، وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين، فلا يُتعجب من قولنا: إن الطب والحساب من فروض الكفايات، فإن أصول الصناعات أيضا من فروض الكفايات، كالفلاحة والحياكة والسياسة، بل الحجامة والخياطة، فإنه لو خلا البلد من الحجام تسارع الهلاك إليهم، وحرِجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك، فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء، وأرشد إلى استعماله، وأعد الأسباب لتعاطيه، فلا يجوز التعرض للهلاك بإهماله.
وأما ما يعد فضيلة لا فريضة، فالتعمق في دقائق الحساب وحقائق الطب، وغير ذلك مما يستغنى عنه، ولكنه يفيد زيادة قوة في القدر المحتاج إليه.
وأما المذموم فعلم السحر والطلسمات، وعلم الشعبذة والتلبيسات.
وأما المباح منه فالعلم بالأشعار التي لا سُخف فيها، وتواريخ الأخبار وما يجري مجراه"
انتهى من إحياء علوم الدين (1/ 34).
وفي الموسوعة الفقهية (13/ 5): " تعلم العلم تعتريه الأحكام الآتية: قد يكون التعلم فرض عين وهو تعلم ما لا بد منه للمسلم، لإقامة دينه وإخلاص عمله لله تعالى، أو معاشرة عباده. فقد فرض على كل مكلف ومكلفة - بعد تعلمه ما تصح به عقيدته من أصول الدين - تعلمُ ما تصح به العبادات والمعاملات ، من الوضوء والغسل والصلاة والصوم، وأحكام الزكاة، والحج لمن وجب عليه، وإخلاص النية في العبادات لله. ويجب تعلم أحكام البيوع على التجار ليحترزوا عن الشبهات والمكروهات في سائر المعاملات، وكذا أهل الحرف، وكل من اشتغل بشيء يفرض عليه تعلم حكمه، ليمتنع عن الحرام فيه.
وقد يكون التعلم فرض كفاية، وهو تعلم كل علم لا يستغنى عنه في قيام أمور الدنيا، كالطب والحساب والنحو واللغة والكلام والقراءات وأسانيد الحديث ونحو ذلك..." انتهى.
ثانيا:
فرض الكافية هل يلزم بالشروع فيه فيصير فرض عين؟
في ذلك خلاف بين الأصوليين.
قال الدكتور محمد مصطفى الزحيلي: " فرض الكفاية هل يلزم بالشروع؟
التوضيح: فرض الكفاية هو ما طلب الشارع فعله طلباً جازماً من مجموع المكلفين، وإذا
فعله البعض سقط الإثم عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثموا جميعاً، فإذا شرع فيه إنسان فهل يتعين عليه بالشروع؛ أي يصير فرض عين، أي مثلَه في حرمة القطع، ووجوب الإتمام، أو لا يتعين ؟
فيه خلاف، رجح في (المطلب) الأول، ورجح العلامة هبة الله بن عبد الرحيم البارزي في (التمييز) الثاني، قال في (الخادم) :
"ولم يرجح الرافعي والنووي شيئاً، لأنها عندهما من القواعد التي لا يطلق فيها الترجيح، لاختلاف الترجيح في فروعها ".
التطبيقات:
1 - صلاة الجنازة: الأصح تعيينها بالشروع، لما في الإعراض عنها من هتك حرمة الميت.
2 - الجهاد، لا خلاف أنه يتعين بالشروع، نعم، جرى خلاف في صورة منه، وهي ما إذا بلغه رجوع من يتوقف غزوه على إذنه، والأصح أنه تجب المصابرة، ولا يجوز الرجوع.
3 - إذا شرع في إنقاذ غريق، ثم حضر آخر لإنقاذه، جاز قطعه ؛ قطعاً.
المستثنى:
العلم: فمن اشتغل به، وحصل منه طرفاً، وأنس منه الأهلية، هل يجوز له تركه، أو يجب عليه الاستمرار؟
وجهان، الأصح الأول، ويجوز تركه، ووجهه بأن كل مسألة مستقلة برأسها، منقطعة عن غيرها"
انتهى من "القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة (2/ 952).
وينظر: البحر المحيط للزركشي (1/ 325)، القواعد والفوائد الأصولية للبعلي، ص255
والراجح أن فرض الكفاية لا يصير فرض عين إلا في مسائل معينة، كالجهاد، لأنه لو صار كذلك، لتعيّنت الحرف على أصحابها، ولأثموا بتركها.
قال الفقيه عبد الله بن سليمان الجَرْهَزي اليمني الزبيدي (1201 هـ): " المعتمد ما في (التحفة) من أنه يحرم قطع فرض الكفاية الذي هو جهاد، أو نسك، أو صلاة جنازة، كفرض العين.
وجزم جمع بتحريمه مطلقاً إلا الاشتغال بالعلم، لأن كل مسألة مستقلة بنفسها، وصلاة الجماعة لأنها وقعت صفة تابعة.
وهذا رأي ضعيف، وإن أطال التاج السبكي في الانتصار له، وإلا لزم حرمة قطع الحِرَف والصنائع، ولا قائل به" انتهى من "القواعد الفقهية وتطبيقاتها" (2/954).
وبهذا يتبين أنه لم يقل أحد من العلماء بتأثيم أهل الحرف ، إذا تركوا أعمالهم .
وعليه: فلو ترك إنسان دراسة الطب بعد شروعه فيها، فإنه لا يأثم، وهكذا في بقية العلوم والصناعات ، التي تعلمها ، أو القيام بها : فرض كفاية.
والله أعلم.
و اخيرا
الحمد لله الذي بفضلة تتم الصالحات
اخوة الاسلام
اكتفي بهذا القدر و لنا عوده
ان قدر الله لنا البقاء و اللقاء
و اسال الله ان يجمعني بكم دائما
علي خير
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين
محمود العجرودى
2018-03-08, 14:55
بارك الله فيك أخى.
*عبدالرحمن*
2018-03-09, 01:35
بارك الله فيك أخى.
الحمد لله الذي بفضله تتم الصالحات
اسعدني تواجدك الاكثر من رائع
بارك الله فيك
وجزاك الله عني كل خير
https://d.top4top.net/p_795sbakq1.gif (https://up.top4top.net/)
.
*عبدالرحمن*
2018-03-09, 01:43
اخوة الاسلام
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
https://d.top4top.net/p_7927bchs1.gif (https://up.top4top.net/)
أفعال النبي صلى الله عليه وسلم
التشريعية وغير التشريعية والخاصة .
السؤال :
ما الدليل على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في أفعاله ، خصوصا أن قاعدة العبرة بالعموم فيها اختلاف . هل الأصل التشريع والنبي صلى الله عليه وسلم متساوٍ مع أمته في الشرائع . هل فيها اتفاق وما الدليل على اتباع طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وإذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم فعلا في الخفاء ورآه أحد الصحابة هل يتبع في ذلك مثل رؤيته وهو يبول واقفا ، وهل علي شيء في التفكير بهذه الأشياء ؟ إبليس يوسوس بي عند اتباع طريقة النبي ؟
الجواب :
الحمد لله
أولا:
أفعال النبي صلى الله عليه وسلم أنواع، فمنها ما هو تشريع، ومنها ما يفعله بمقتضى الجبلة البشرية كالأكل والنوم، ومنها ما يحتمل التشريع والجبلة كحجه راكبا، واضطجاعه بعد سنة الفجر.
فأما الأفعال المتمحضة للتشريع كصلاته صلى الله عليه وسلم، وصومه وحجه، وأذكاره، وما اقترن بِحَثِّ أمته عليه كالسواك، والتسمية عند الأكل، ودخول المسجد باليمين، ونحو ذلك، فالأصل اتباعه فيه؛ لقوله تعالى : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ) الأحزاب/21، وقوله: ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) آل عمران/31، وقوله: ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) الحشر/7
وأما الأفعال الجبلية، التي يفعلها بمقتضى البشرية والعادة كالأكل والشرب والنوم والمشي ، ونحو ذلك ، فهذه لا يطلب فيها التأسي.
وما احتمل التشريع والجبلة، فهو محل خلاف.
قال في مراقي السعود:
وفعله المركوز في الجبلهْ **** كالأكل والشرب فليس مِلّهْ
من غير لمح الوصف والذي احتمل **** شرعا ففيه قل تردد حَصَلْ
فالحج راكبا عليه يجرى **** كضجعة بعد صلاة الفجر
وقوله: "من غير لمح الوصف" أي أن الأكل في الأصل جبلي، لكن كونه باليمين، ومما يلي الإنسان، والتسمية قبله، فهذا مما يشرع فيه التأسي.
قال الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله:
" أفعال النبي صلى الله عليه وسلم بالنظر إلى الجبلة والتشريع ثلاثة أقسام:
القسم الأول: هو الفعل الجبلي المحض: أعني الفعل الذي تقتضيه الجبلة البشرية بطبيعتها؛ كالقيام، والقعود، والأكل، والشرب، فإن هذا لم يفعل للتشريع والتأسي، فلا يقول أحد: أنا أجلس وأقوم تقربا لله ، واقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم ، لأنه كان يقوم ويجلس؛ لأنه لم يفعل ذلك للتشريع والتأسي. وبعضهم يقول: فعله الجبلي يقتضي الجواز، وبعضهم يقول: يقتضي الندب.
والظاهر ما ذكرنا : من أنه لم يفعل للتشريع، ولكنه يدل على الجواز.
القسم الثاني: هو الفعل التشريعي المحض. وهو الذي فعل لأجل التأسي والتشريع، كأفعال الصلاة ، وأفعال الحج ، مع قوله: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، وقوله: «خذوا عني مناسككم».
القسم الثالث ، وهو المقصود هنا : هو الفعل المحتمل للجبلي والتشريعي.
وضابطه: أن تكون الجبلة البشرية تقتضيه بطبيعتها، ولكنه وقع متعلقا بعبادة ، بأن وقع فيها ، أو في وسيلتها، كالركوب في الحج، فإن ركوبه صلى الله عليه وسلم في حجه محتمل للجبلّة ; لأن الجبلة البشرية تقتضي الركوب، كما كان يركب صلى الله عليه وسلم في أسفاره غير متعبد بذلك الركوب، بل لاقتضاء الجبلة إياه، ومحتمل للشرعي ; لأنه صلى الله عليه وسلم فعله في حال تلبسه بالحج، وقال: «خذوا عني مناسككم» .
ومن فروع هذه المسألة: جلسة الاستراحة في الصلاة، والرجوع من صلاة العيد في طريق أخرى غير التي ذهب فيها إلى صلاة العيد، والضجعة على الشق الأيمن، بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح، ودخول مكة من كَداء - بالفتح والمد - والخروج من كُدى - بالضم والقصر - والنزول بالمُحصّب بعد النفر من منى، ونحو ذلك.
ففي كل هذه المسائل خلاف بين أهل العلم ; لاحتمالها للجبلي والتشريعي" انتهى من أضواء البيان (4/ 300).
ثانيا:
الأصل مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم أمته في الأحكام، إلا أن يدل الدليل على الخصوصية.
ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يقتدون به صلى الله عليه وسلم فيما فعله ، ولم يكونوا يسألونه هل هذا الفعل خاص به أم لا ؟ كما في حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ ، فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالَهُمْ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : (لِمَ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ ؟) فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، رَأَيْنَاكَ خَلَعْتَ فَخَلَعْنَا ، قَالَ : (إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ بِهِمَا خَبَثًا ، فَإِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَقْلِبْ نَعْلَهُ فَلْيَنْظُرْ فِيهَا ، فَإِنْ رَأَى بِهَا خَبَثًا فَلْيُمِسَّهُ بِالْأَرْضِ ، ثُمَّ لِيُصَلِّ فِيهِمَا) رواه أحمد ( 17 / 242 ، 243 ) وصححه محققو المسند.
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم غضب من بعض أصحابه لمَّا نسبوا فعلاً فعله صلى الله عليه وسلم للخصوصية .
فعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي أُصْبِحُ جُنُبًا ، وَأَنَا أُرِيدُ الصِّيَامَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : (وَأَنَا أُصْبِحُ جُنُبًا وَأَنَا أُرِيدُ الصِّيَامَ فَأَغْتَسِلُ وَأَصُومُ ) ، فَقَالَ الرَّجُلُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّكَ لَسْتَ مِثْلَنَا ! قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ : ( وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّبِعُ ) رواه أبو داود ( 2389 ) وصححه الألباني في " صحيح أبي داود " .
قال ابن حزم رحمه الله: "ولا يجوز أن يقال في شيء فعله عليه السلام إنه خصوص له إلا بنص في ذلك ؛ لأنه عليه السلام قد غضب على من قال ذلك ، وكل شيء أغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حرام" انتهى من " الإحكام في أصول الأحكام " ( 4 / 433 ).
وقال ابن القيم رحمه الله: "الأصل : مشاركة أمته له في الأحكام ، إلا ما خصه الدليل ، ولذلك قالت أُمُّ سلمة رضي الله عنها : (اخرُجْ ولا تُكَلِّمْ أحدَاً حتى تَحْلِقَ رأسك وتنحر هَدْيك) ، وعلمت أن الناس سيتابعونه"
انتهى من زاد المعاد ( 3 / 307 ).
ثالثا:
كل ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففيه التفصيل السابق، فإن لم يكن من أفعال الجبلّة، فإنه موضوع للتأسي إلا أن تثبت خصوصيته بدليل، ولا فرق بين أن يراه جمع من الصحابة أو يراه واحد.
والبول أصله جبلي، لكن صفته من قيام أو قعود، تدخل في التشريع ، ويتعلق بها التأسي؛ لورود النهي عن البول قائما؛ والنهي تشريع وحقه الامتثال. ثم ثبوت فعله صلى الله عليه وسلم له قائما، فينظر هنا في كيفية الجمع.
فقد روى ابن ماجه (309) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبُولَ قَائِمًا» لكنه حديث ضعيف. قال البوصيري في الزوائد: اتفقوا على ضعفه. وقال الألباني: ضعيف جدا.
وروى الترمذي (12) عَنْ عُمَرَ، قَالَ: رَآنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُولُ قَائِمًا، فَقَالَ: «يَا عُمَرُ، لَا تَبُلْ قَائِمًا»، فَمَا بُلْتُ قَائِمًا بَعْدُ. والحديث ضعفه الترمذي والألباني.
وروى البزار عن بريدة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من الجفاء أن يبول الرجل قائماً". والحديث أشار إليه الترمذي ، وقال إنه غير محفوظ.
وعليه : فالنهي عن البول قائما لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم .
لكن روى الترمذي (12) والنسائي (29) عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبُولُ قَائِمًا فَلَا تُصَدِّقُوهُ، مَا كَانَ يَبُولُ إِلَّا قَاعِدًا» وصححه الترمذي والنسائي.
قال الشوكاني في نيل الأوطار (1/ 16): " والحديث يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان يبول حال القيام، بل كان هديه في البول القعود ، فيكون البول حال القيام مكروها .
ويدل على جواز البول قائما: ما روى البخاري (224) ومسلم (273) عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ : «أَتَى النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلم سُبَاطَةَ قَوْمٍ ، فَبَالَ قَائِمًا، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَجِئْتُهُ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ» .
والسباطة: موضع يلقى فيها الكناسة.
قال ابن قدامة رحمه الله: " وقد رويت الرخصة فيه عن عمر وعلي ، وابن عمر وزيد بن ثابت وسهل بن سعد وأنس وأبي هريرة وعروة.
وروى حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم ، فبال قائما. رواه البخاري ، وغيره.
ولعل النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لتبيين الجواز ، ولم يفعله إلا مرة واحدة .
ويحتمل أنه كان في موضع لا يتمكن من الجلوس فيه.
وقيل: فعل ذلك لعلة كانت بمَأْبِضِه. والمأبض ما تحت الركبة من كل حيوان " انتهى من "المغني" (1/ 108).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " وقد ثبت عن عمر وعلي وزيد بن ثابت وغيرهم أنهم بالوا قياما، وهو دال على الجواز من غير كراهة ، إذا أمن الرشاش ، والله أعلم.
ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عنه شيء ... والله أعلم"
انتهى من فتح الباري (1/ 330).
رابعا:
ينبغي الحذر من الوسوسة فإنها داء وشر، وليس من الوسوسة التفقه في الدين، ومعرفة السنة، والحرص على الاقتداء بها.
زادك الله علما وحرصا على الخير.
والله أعلم.
*عبدالرحمن*
2018-03-09, 01:47
هل هناك علاقة
بين القواعد الفقهية ومسائل العقيدة؟
السؤال:
هل هناك علاقة بين القواعد الفقهية والمسائل العقيدة ؟
وهل يجوز استعمال هؤلاء على المسائل العقيدة كما يستعمل بعض المفتيين ؟
الجواب :
الحمد لله
أولا :
القواعد جمع قاعدة ، والقاعدة الفقهية : "حكم أغلبي ، يأتي تحته مسائل فقهية فرعية ، يُتَعَرَّف من خلاله على أحكام تلك المسائل" انتهى.
وهذا العلم علم عظيم له أهميته الكبرى عند المجتهدين، وفي ذلك يقول العلامة القرافي المالكي: "وهذه القواعد مهمة في الفقه ، عظيمة النفع ، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه ويَشْرُف ، ويظهر رونق الفقه ويُعرف ، وتتضح مناهج الفتاوى وتُكشف ، فيها تنافس العلماء ، وتفاضل الفضلاء، وبرَّز القارِح على الجَذَع
وحاز قصب السبق من فيها برع، ومن جعل يُخَرج الفروع بالمناسبات الجزئية، دون القواعد الكلية : تناقضت عليه الفروع واختلفت ، وتزلزلت خواطره فيها واضطربت، وضاقت نفسه لذلك وقنطت، واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي لا تتناهى ، وانتهى العمر ولم تقض نفسه من طلب مناها ، ومن ضبط الفقه بقواعده : استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات ، لاندراجها في الكليات، واتحد عنده ما تناقض عند غيره وتناسب، وأجاب الشاسع البعيد وتقارب ، وحصل طلبته في أقرب الأزمان ، وانشرح صدره لما أشرق فيه من البيان ، فبين المقامين شأو بعيد ، وبين المنزلتين تفاوت شديد"
انتهى من "الفروق " للقرافي (1 / 3).
ولا شك أن علم القواعد الفقهية علم مستقل عن علم العقيدة ، إذ إن موضوعهما مختلف، فإن علم العقيدة يختص بمسائل الإيمان والغيبيات، أما علم القواعد الفقهية : فيضع ضوابط وكليات للمسائل الفقهية ، التي تختص بالأحكام الشرعية العملية ، لا الاعتقادية .
ولكن لا ينكر أن يكون لبعض القواعد الفقهية اتصالٌ مَّا بعلم العقيدة ، وخصوصا أحكام الكفر والإيمان، وبيان ذلك فيما يلي:
من القواعد الفقهية الشهيرة قاعدة (اليقين لا يزول بالشك) ، يقول ابن نجيم : " القاعدة الثالثة: اليقين لا يزول بالشك ، ودليلها ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا، أو يجد ريحا "انتهى من "الأشباه والنظائر" لابن نجيم (1 / 48).
وهذه القاعدة لها اتصال بقضايا الكفر والإيمان، لأن من ثبت إيمانه بيقين ، فلا يحق لنا أن نخرجه عنه إلا بيقين أيضا، يقول ابن حجر الهيتمي الشافعي في "تحفة المحتاج في شرح المنهاج" (9 / 88):
"يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي أَنْ يَحْتَاطَ فِي التَّكْفِيرِ مَا أَمْكَنَهُ ، لِعَظِيمِ خَطَرِهِ ، وَغَلَبَةِ عَدَمِ قَصْدِهِ ، سِيَّمَا مِنْ الْعَوَامّ وَمَا زَالَ أَئِمَّتُنَا عَلَى ذَلِكَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا ، بِخِلَافِ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ ؛ فَإِنَّهُمْ تَوَسَّعُوا بِالْحُكْمِ بِمُكَفِّرَاتٍ كَثِيرَةٍ مَعَ قَبُولِهَا التَّأْوِيلَ ، بَلْ مَعَ تَبَادُرِهِ مِنْهَا . ثُمَّ رَأَيْتُ الزَّرْكَشِيَّ قَالَ عَمَّا تَوَسَّعَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ: إنَّ غَالِبَهُ فِي كُتُبِ الْفَتَاوَى نَقْلًا عَنْ مَشَايِخِهِمْ ، وَكَانَ الْمُتَوَرِّعُونَ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ يُنْكِرُونَ أَكْثَرَهَا وَيُخَالِفُونَهُمْ ، وَيَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَعْرُوفِينَ بِالِاجْتِهَادِ ، وَلَمْ يُخَرِّجُوهَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، لِأَنَّهُ خِلَافُ عَقِيدَتِهِ ؛ إذْ مِنْهَا : أَنَّ مَعَنَا أَصْلًا مُحَقَّقًا، هُوَ الْإِيمَانُ ؛ فَلَا نَرْفَعُهُ إلَّا بِيَقِينٍ .
فَلْيُتَنَبَّهْ لِهَذَا ، وَلْيُحْذَرْ مِمَّنْ يُبَادِرُ إلَى التَّكْفِيرِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مِنَّا وَمِنْهُمْ ، فَيُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَكْفُرْ؛ لِأَنَّهُ كَفَّرَ مُسْلِمًا" انتهى.
ويقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب
: " لا شك أنه متى وجد الإيمان يقيناً ، فلا يزيله إلا ما ينافيه يقيناً، فلا يزول بالشك ، ولا بالظن ، استصحاباً للأصل السابق ، لما قارنه من اليقين ، وتقديماً له على الوصف اللاحق به ، لنزوله عن درجته، "
انتهى من "التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق وتذكرة أولي الألباب في طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب" (1 / 196).
كذلك من القواعد الفقهية المتفق عليها قادة (الأمور بمقاصدها) . يقول السبكي في "الأشباه والنظائر" (1 / 54): " القاعدة الخامسة: الأمور بمقاصدها، وأرشق وأحسن من هذه العبارة: قول من أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات".
ولا شك أن لهذه القاعدة تطبيقات تختص بأمور الكفر والإيمان ، ولذا فإن من تلفظ بكلمة الكفر خطأ أو إكراها : لا يحكم بكفره ، لأنه لا يقصد الكفر، قال تعالى : ( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا )الأحزاب/ 5، وقال تعالى : ( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) النحل/ 106.
كذلك فإن من القواعد الفقهية قاعدة ( المشقة تجلب التيسير) أو ( الضرورات تبيح المحظورات) وهذه أيضا لها اتصال بمسائل الكفر والإيمان، فإن من تلفظ بكلمة الكفر اضطرارا لا يحكم بكفره لقوله تعالى : ( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) النحل/ 106.
والله أعلم.
*عبدالرحمن*
2018-03-09, 01:54
هل يمكن أن يكون القول المعتمد في المذهب
خلاف ما عليه إمام المذهب؟
السؤال :
هل يمكن أن يخالف مذهبٌ ما قولَ إمام المذهب، بحيث يكون هو المعتمد عندهم، بمعنى أن يقال إن قول المالكية هو كذا، ويكون قول الإمام بخلاف ما ذهب إليه أتباع المذهب؟
الجواب :
الحمد لله
نشأةُ المذاهب تبتدئ من تقليد أقوال الفقيه المجتهد، والالتزام باجتهاداته واختياراته، أو على الأقل الاقتداء بمنهجه الفقهي والأصولي العام، ولكن هذه النشأة تغيرت وتطورت مع الزمن، حين تولى تلك المهمة "التقليدية" مجموعة من الفقهاء الكبار المؤسسين، الذين تولوا مهمة التنظير والتأسيس والتكميل للمعمار المذهبي الأول
من خلال التخريج على الأقوال، والقياس عليها، وإضافة القيود اللازمة، والمقارنة بين نصوص الأئمة والترجيح بينها، الأمر الذي أفرز عملية تصحيحية وتحريرية واسعة، اصطلح على تسمية ثمارها فيما بعد باسم "المذهب".
وذلك يعني أن "المذهب" هو تلك "المؤسسة التفقهية" الممتدة عبر الزمن، والمعنية بالمنهج الفقهي الخاص بأحد الأئمة، مع جميع ما لحق ذلك المنهج من تطوير وتحرير بعد ذلك. حيث يتعذر أن تكون أقوال واحد من البشر – مهما علا كعبه في العلم – كافية لجميع حوادث الناس في شؤون دينهم ودنياهم، فضلا عن أن تكون متناسبة مع تغير الزمان والمكان والحال.
ولهذا لم يجد فقهاء المذاهب المحرِّرون غضاضة في مخالفة قول الإمام الأول نفسه ، إذا اقتضى الأمر ذلك، وتقرير القول الجديد الذي يؤسَّس باجتهاد خاص، معبرا وناطقا باسم "المذهب المدرسة"، أو "المذهب الاصطلاحي" ، وليس "المذهب الفرد"، أو "المذهب الشخصي" .
وذلك بحمد الله ما انتهجه علماء الأمة الكبار، البانون الأوائل للمذاهب وعلوم الفقه عامة، كلهم تحدث بشكل واضح وصريح عن ضرورة استمرار عملية الاجتهاد والمراجعة، كي لا تموت المذاهب في مهدها ، نتيجة عدم قدرتها على الحراك في خضم أمواج المتغيرات العديدة.
لكن المبالغة في هذا الباب ربما تقود إلى المغالطة، فالمسائل التي يخالف فيها فقهاء المذهب نص إمامهم محصورة ومعدودة، وغالبا ما تكون مخالفتهم مستندة إلى تخريجات ، أو روايات ، أو أقوال أخرى للإمام نفسه، الشأن الذي ينبغي التنبه له، كي تبقى ماهية "المذهب" في إطارها الطبيعي الأصلي الذي حده العلماء وعرفوه به.
جاء في "حاشية العدوي على شرح مختصر خليل للخرشي" (1/ 34):
"يطلق المذهب عند المتأخرين من أئمة المذهب على ما به الفتوى، من إطلاق الشيء على جزئه الأهم ، كالحج عرفة؛ لأن ذلك هو الأهم عند الفقيه المقلد.
والمراد بـ"مذهبه" : ما قاله هو وأصحابه على طريقته .
ونسب إليه مذهبا؛ لكونه يجري على قواعده ، وأصله الذي بني عليه مذهبه .
وليس المراد ما ذهب إليه وحده دون غيره من أهل مذهبه" انتهى.
وهذا كلام صريح في المقصود، في أن المقصود بالمذهب : هو المدرسة كلها ، وما يحرره روادها وأئمتها عبر تاريخها، وليست أقوال الإمام الأول فحسب.
يقول ابن عابدين رحمه الله:
"قد يرجحون دليل أصحابه ، على دليله ، فيفتون به.
ولا يظن بهم أنهم عدلوا عن قوله ، لجهلهم بدليله، فإنا نراهم قد شحنوا كتبهم بنصب الأدلة، ثم يقولون: الفتوى على قول أبي يوسف ، مثلا"
انتهى من "شرح عقود رسم المفتي" (ص50)
علق عليه الشيخ محمد تقي العثماني بقوله:
"بما أن جميع أقوال أصحاب أبي حنيفة رواية عنه أيضا، كما سبق تفصيله، فهم يأخذون منها ما يترجح دليله عندهم.
فالمسألة التي رجحها هؤلاء ، يجب على المفتي المقلد اتباعها، سواء أكان المرجَّح قولا للإمام الأعظم، أم لأحد من أصحابه، فهم يرجحون مذهب الصاحبين تارة، ومذهب أحدهما أخرى، بل رجحوا قول زفر في عشرين مسألة ذكرها ابن عابدين ، ونظمها في باب النفقة من رد المحتار. فما رجحه أصحاب الترجيح مقدم على كل ما سواه؛ لأنهم مع شدة ورعهم ، والتزامهم بالمذهب ، رجحوا هذا القول لأسباب وضحت لهم ؛ من قوة الدليل، ومن ضرورة الناس، وتغير الزمان ، والعرف ، وغير ذلك، فالعمل بترجيحهم أولى"
انتهى من "أصول الإفتاء" (ص173)
ومن هذه القاعدة قرر فقهاء الحنفية أن يؤخذ في مسائل القضاء بقول أبي يوسف، لخبرته الطويلة في هذا الباب، كما قال ابن عابدين في منظومته في رسم المفتي:
وكل فرع بالقضا تعلقا ** قولُ أبي يوسف فيه يُنتقى.
ويقول الدكتور محمد إبراهيم علي:
"فمن المسلم به أن أصحاب مالك رضي الله عنه – كابن القاسم وغيره – قيدوا ما أطلق، وخصصوا ما عمم من الآثار، وقد نقل أن ابن القاسم خالف مالكا في أكثر من مسألة، وإن كان بعض العلماء حصرها في أربعة مسائل. كما اختار يحيى بن يحيى الليثي – أحد كبار تلاميذ مالك ، وناشر مذهبه في الأندلس ، وصاحب الرواية المشهورة في الموطأ – رأيا مخالفا لمذهب مالك في مسائل معينة، تابعه أهل الأندلس في أكثرها"
انتهى من "اصطلاح المذهب عند المالكية" (ص23-24)
وسئل الإمام شهاب الدين الرملي الشافعي رحمه الله:
"عما إذا خالف نص الشافعي الجديد ما عليه الشيخان. فما المعمول به ؟
إن قلتم: النص، فما بال علماء عصرنا ينكرون على من خالف كلام الشيخين.
أو ما عليه الشيخان، فقد صرحا بأن نص الإمام في حق المقلد كالدليل القاطع، وكيف يتركانه ويذكران كلام الأصحاب؟
(فأجاب)
بأن من المعلوم أن الشيخين رحمهما الله ، قد اجتهدا في تحرير المذهب غاية الاجتهاد، ولهذا كانت عنايات العلماء العاملين، وإشارات من سبقنا من الأئمة المحققين ، متوجهة إلى تحقيق ما عليه الشيخان، والأخذ بما صححاه بالقبول والإذعان، مؤيدين ذلك بالدلائل والبرهان.
وإذا انفرد أحدهما عن الآخر ، والعمل بما عليه الإمام النووي المذهب [ كذا ] ، وما ذاك إلا لحسن النية، وإخلاص الطوية.
وقد اعترض على الشيخين وغيرهما بالمخالفة لنص الشافعي، وقد كثر اللهج بهذا، حتى قيل: إن الأصحاب مع الشافعي ، كالشافعي ونحوه من المجتهدين مع نصوص الشارع، ولا يسوغ الاجتهاد عند القدرة على النص ؟
وأجيب بأن هذا ضعيف؛ فإن هذه رتبة العوام.
أما المتبحر في المذهب ، فله رتبة الاجتهاد المقيد ، كما هو شأن أصحاب الوجوه الذين لهم أهلية التخريج والترجيح، وترك الشيخين لذكر النص المذكور ، لكونه ضعيفا ، أو مفرعا على ضعيف .
وقد ترك الأصحاب نصوصه الصريحة لخروجها على خلاف قاعدته، وأولوها، كما في مسألة من أقر بحريته ثم اشتراه ؛ لمن يكون إرثه ؟
فلا ينبغي الإنكار على الأصحاب في مخالفة النصوص، ولا يقال لم يطلعوا عليها، وإنها شهادة نفي، بل الظاهر أنهم اطلعوا عليها، وصرفوها عن ظاهرها بالدليل، ولا يخرجون بذلك عن متابعة الشافعي، كما أن المجتهد يصرف ظاهر نص الشارع إلى خلافه لذلك، ولا يخرج بذلك عن متابعته، وفي هذا كفاية لمن أنصف" انتهى من "فتاوى الرملي" (4/263).
وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله :
"واعلمْ أن قول العلماء: مذهب فلان، يُراد به أمران:
الأول: المذهب الشَّخصي.
الثاني: المذهب الاصطلاحي.
والغالب عند المتأخِّرين إذا قالوا: هذا مذهب الشَّافعي، أو أحمد، أو ما أشبه ذلك، فالمراد المذهب الاصطلاحي، حتى إِنَّ الإِمام نفسَه قد يقول بخلاف ما يُسمَّى بمذهبه، ولكنهم يجعلون مذهبه ما اصطلحوا عليه"
انتهى من الشرح الممتع (1/21) .
ولا ينكر أن يكون للعوامل التاريخية ، أو الحراك الاجتماعي ، والتأثير والتأثر ، لا ينكر أن يكون لذلك كله آثار في التطور التاريخي للمذهب الاصطلاحي ، في بعض قضاياه ومسائله ، وما يترتب عليه من مخالفات لنص الإمام ، في بعض هذه الأحوال .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في طرَف من تأريخ ذلك الجانب في مذهب مالك، ومدوناته :
" ومعلوم أن مدونة ابن القاسم : أصلها مسائل أسد بن الفرات التي فرَّعها أهل العراق ، ثم سأل عنها أسدٌ ابنَ القاسم. فأجابه بالنقل عن مالك [ تارة ] ، وتارة بالقياس على قوله ، ثم أصلها في رواية سحنون .
فلهذا يقع في كلام ابن القاسم طائفة من الميل إلى أقوال أهل العراق ، وإن لم يكن ذلك من أصول أهل المدينة.
ثم اتفق أنه لما انتشر مذهب مالك بالأندلس ، وكان يحيى بن يحيى عامل الأندلس ، والولاة يستشيرونه ، فكانوا يأمرون القضاة أن لا يقضوا إلا بروايته عن مالك ، ثم رواية غيره .
فانتشرت رواية ابن القاسم عن مالك لأجل من عمل بها ، وقد تكون مرجوحة في المذهب ، وعمل أهل المدينة ، والسنة .
حتى صاروا يتركون رواية الموطأ الذي هو متواتر عن مالك ، وما زال يحدث به إلى أن مات ، لرواية ابن القاسم !!
وإن كان طائفة من أئمة المالكية أنكروا ذلك ؛ فمثل هذا ، إن كان فيه عيب ؛ فإنما هو على من نقل ذلك ، لا على مالك "
. انتهى ، من "مجموع الفتاوى" (20/328) .
والخلاصة :
أن القول المعتمد في "المذهب" يمكن أن يكون على خلاف نص إمام المذهب، ولكنه لا بد أن يجري على قاعدة الإمام ، وأصل مذهبه ونسقه الاجتهادي.
والله أعلم.
*عبدالرحمن*
2018-03-09, 02:00
حكم تقليد قول العالم الذي يستعمل
القياس ولا يأخذ بالإجماع
السؤال:
هل تؤخذ فتوى العالم الذي يستخدم القياس في جميع المسائل ، ولا يأخذ بالإجماع ؟
الجواب :
الحمد لله
القياس لا يلجأ إليه المجتهد ، إلا عند عدم النصوص الشرعية المصرحة بالحكم ، أو الإجماع الثابت .
فإذا عدم النص ، فحينئذ يلجأ المجتهد إلى القياس الصحيح ليستنبط منه الحكم الشرعي .
والقياس الصحيح من جملة العدل الذي أمر الله تعالى به، وحقيقته الجمع بين المتماثلين، والتفريق بين المختلفين، وذلك يكون باعتبار المعاني المؤثرة التي جعلها الله تعالى مناطا للأحكام.
وقد قال الله تعالى : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) الحديد/ 25 .
والميزان المذكور في الآية الكريمة هو العدل ، ويدخل فيه القياس الصحيح الذي يقتضي التسوية بين المتماثلين، والتفريق بين المختلفين
يقول ابن تيمية - رحمه الله تعالى – في "المستدرك على مجموع الفتاوى" (2 / 155) ـ :
"القياس الصحيح هو التسوية بين المتماثلين، والتفريق بين المختلفين، والجمع بين الأشياء التي جمع الله ورسوله بينها فيه ، والتفريق بينها فيما فرق الله ورسوله بينها فيه.
والقياس: هو اعتبار المعنى الجامع المشترك الذي اعتبره الشارع وجعله مناطا للحكم، وذلك المعنى يكون لفظًا شرعيًّا عامًا أيضًا، فيكون الحكم ثابتا بعموم لفظ الشارع ، ومعناه" انتهى.
ويقول في "مجموع الفتاوى" أيضا (19 / 176) :
" الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ حَقٌّ؛ فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ رُسُلَهُ بِالْعَدْلِ ، وَأَنْزَلَ الْمِيزَانَ مَعَ الْكِتَابِ ، وَالْمِيزَانُ يَتَضَمَّنُ الْعَدْلَ ، وَمَا يُعْرَفُ بِهِ الْعَدْلُ .
وَقَدْ فَسَّرُوا إنْزَالَ ذَلِكَ : بِأَنْ أَلْهَمَ الْعِبَادَ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ .
وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ يُسَوِّي بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ ؛ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ"انتهى.
وقال الزركشي في "البحر المحيط في أصول الفقه" (7 / 30):" وَاحْتَجَّ ابْنُ سُرَيْجٍ [يعني على حجية القياس] بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) [النساء: 83] فَأُولُو الْأَمْرِ هُمْ الْعُلَمَاءُ، وَالِاسْتِنْبَاطُ هُوَ الْقِيَاسُ.
فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ، كَالنَّصِّ فِي إثْبَاتِهِ.
وقَوْله تَعَالَى: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ) [البقرة: 26] الْآيَةَ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ تَشْبِيهُ الشَّيْءِ ، فَإِذَا جَازَ مِنْ فِعْلِ مَنْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ ، لِيُرِيَكُمْ وَجْهَ مَا تَعْلَمُونَ ؛ فَهُوَ مِمَّنْ لَا يَخْلُو مِنْ الْجَهَالَةِ وَالنَّقْصِ : أَجْوَزُ.
وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ) [يس/ 79] ؛ فَهَذَا صَرِيحٌ فِي إثْبَاتِ الْإِعَادَةِ ، قِيَاسًا....
وَاحْتَجَّ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) [النحل: 90] ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعَدْلَ: هُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ مِثْلَيْنِ فِي الْحُكْمِ فَيَتَنَاوَلُهُ عُمُومُ الْآيَةِ " انتهى.
وقد جاءت بعض الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم صريحة في إثبات حجية القياس.
قال الزركشي :
" الثَّانِي : دَلَالَةُ السُّنَّةِ: كَحَدِيثِ مُعَاذٍ " أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي وَلَا آلُو "، وَقَالَ النَّبِيُّ فِي خَبَرِ الْمَرْأَةِ: «أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيك دَيْنٌ» ، «وَقَالَ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ أَيَقْضِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيُؤْجَرُ عَلَيْهِ؟ قَالَ أَرَأَيْت لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ فَكَذَلِكَ إذَا وَضَعَهَا فِي حَلَالٍ كَانَ لَهُ أَجْرٌ» ، «وَقَالَ لِرَجُلٍ مِنْ فَزَارَةَ أَنْكَرَ وَلَدَهُ لَمَّا جَاءَتْ بِهِ أَسْوَدَ هَلْ لَك مِنْ إبِلٍ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ؟ قَالَ: لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ . قَالَ: وَهَذَا لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ» .
قَالَ الْمُزَنِيّ: فَأَبَانَ لَهُ بِمَا يَعْرِفُ أَنَّ الْحُمْرَ مِنْ الْإِبِلِ ، تُنْتِجُ الْأَوْرَقَ ؛ فَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْبَيْضَاءُ تَلِدُ الْأَسْوَدَ، فَقَاسَ أَحَدَ نَوْعَيْ الْحَيَوَانِ عَلَى الْآخَرِ.
«وَقَالَ لِعُمَرَ، وَقَدْ قَبَّلَ امْرَأَتَهُ وَهُوَ صَائِمٌ فَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت وَمَجَجْته؟ فَقَالَ: لَا بَأْسَ فَقَالَ: فَفِيمَ؟» . قَالَ الْمُزَنِيّ: فَبَيَّنَ لَهُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، كَمَا لَا شَيْءَ فِي الْمَضْمَضَةِ .
...... وَهُوَ كَثِيرٌ.
وَصَنَّفَ النَّاصِحُ الْحَنْبَلِيُّ جُزْءًا فِي أَقْيِسَةِ النَّبِيِّ.
وَثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ كَقَوْلِ عُمَرَ لِأَبِي مُوسَى: وَاعْرِفْ الْأَشْبَاهَ وَالْأَمْثَالَ وَقِسْ الْأُمُورَ عِنْدَك"
انتهى من "البحر المحيط في أصول الفقه "(7 / 32).
وعلى ذلك فإن كان هذا الرجل من أهل العلم ، ويستعمل القياس الصحيح بشروطه التي من أهمها : ألا يكون القياس في مقابلة النص الشرعي ، أو الإجماع الثابت ، وألا يلجأ إلى ذلك إلا بعد استفراغ وسعه في طلب النص ، ومعرفة مواضع الإجماع والخلاف عند أهل العلم .
فإذا حقق شروط الاجتهاد والقياس : فلا مانع من الأخذ بفتواه.
أما إذا كان هذا العالم لا يأخذ بالإجماع لأنه لا يراه حجة ، فهذا قول ضعيف شاذ
وفي هذه الحالة يؤخذ من فتاواه ما لا يخالف الإجماع ، أما ما خالف الإجماع فلا عبرة به .
بل مثل هذا يتحرز المسلم فيما يقوله ويفتي به مطلقا ، ما أمكنه الاستغناء عنه بغيره من أهل العلم الثقات .
والله أعلم.
*عبدالرحمن*
2018-03-09, 02:06
أقوال الصحابة والتابعين ليست
من مصادر المعرفة في العلوم الطبيعية
السؤال:
أريد أن أسأل عن موضوع فهم الصحابة والسلف، وتفسيرهم لبعض الآيات أو الأحاديث التي تتناول المواضيع الدنيوية ، أو بعض الإعجاز العلمي في العلوم الطبيعية ، هل نحن كوننا من السلفية - وهي فهم القرآن والسنة بفهم سلف الأمة - ملزمون باتباعهم في هذا التفسير للآية أو الحديث في هذا الجانب الدنيوي ؛ لأنه قد سألني أحد الناس عن مثل هذه
وكان فيما معنى كلامه أن تعريف السلفية هكذا بأن فيه نقص ؛ لأنه يرى عدم الالتزام بتفسير السلف في الأمور الطبيعية ، أي يفترض أن يكون التعريف: هو فهم القرآن والسنة، بفهم سلف الأمة ، في الأمور الشرعية فقط ، فهل ما قاله صحيح ؟
الجواب :
الحمد لله
العلوم الطبيعية ليست من مقاصد القرآن الكريم ، ولا من علوم الشريعة الإسلامية ، وإنما هي جهود بشرية ، ناتجة عن عمليات عقلية وتجريبية متراكمة عبر التاريخ والحضارات ، أما نصوص الوحي المتمثلة بالكتاب والسنة النبوية الصحيحة فليست مكانا للمباحث التجريبية ، ولا محلا لسبر أغوار العلوم الطبيعية ، بل نطاقها أعلى وأرقى من ذلك
وهو البحث في هداية البشرية لأفضل الأعمال والأقوال والاعتقادات، وخطاب الأرواح والعقول والنفوس بما يضفي إلى وجودها معاني الحق والعدل والخير والسعادة ، كما هي رسالة الإسلام كله في قول الله عز وجل : ( الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) إبراهيم/1.
وكذلك الشأن في الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين ، هي في معظمها المطلق : تركز على جوانب التزكية والتربية والفقه والعقيدة ، وتصب كليتها في الإطار الإصلاحي على جميع المستويات العلمية والعملية .
أما العلوم الطبيعية فليست من علوم العرب في ذلك الوقت ، رغم أهميتها وجلالة قدرها، ورغم وجود آثار من علوم الفلك في البيئة العربية ، وبقايا علوم أخرى متناثرة ، يمكن الاطلاع عليها في كتاب "الأنواء" لابن قتيبة (ت276هـ) ، وكتاب "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" لجواد علي، ولكن ذلك لم يبلغ شأنا يذكر في مجتمع مكة والمدينة ،
ولم يكن من اشتغالاتهم ، لأسباب عديدة ليس هذا محل شرحها، وإطلالة سريعة على كتب الآثار كفيلة بإقناع القارئ بهذه الحقيقة ، حيث يندر أن يقف فيها على أقوال للصحابة أو التابعين تتعلق بالعلوم الطبيعية ، وإن وردت إنما ترد عَرَضًا لا قصدا، في سياق الحديث عن عبادة أو عقيدة أو تزكية .
نقرر هذا كي نستدل به على أن أقوال الصحابة في العلوم الطبيعية ليست مناط احتجاج ، ولا تمثل عند أحد من الأصوليين أو الفقهاء أو المحدثين دليلا كافيا لبناء معرفة طبيعية أو تجريبية، فليست هذه المساحة من النطاق التشريعي كي يخوض فيها علماء الشريعة
ولا من المجالات التي أمرت النصوص بالالتزام بها والاحتجاج فيها.
ولو تأملنا النصوص التي استدل بها العلماء على حجية الإجماع ، ومنه أخذ كثير من العلماء الاحتجاج على حجية " فهم السلف الإجماعي" ، لوجدناها مقيدة بالنطاق الإيماني ، الذي يشمل العلم والعمل ، أما النطاق الطبيعي فلا يفهم من النص ولا من السياق.
تأمل قول الله عز وجل: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) النساء/ 115 ، فوصف "المؤمنين" هنا مشتق ، يُشْعِرُ بالعِلِّيَّة المقيِّدة ، التي هي "النطاق الإيماني" كما سبق بيانه .
ومنه أيضا قوله تعالى: ( فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاق ٍ) البقرة/ 137، فقوله: (بمثل ما آمنتم به) واضح الدلالة على أن الاقتداء بإجماع السلف المقصود به الاقتداء الإيماني ، وليس شيئا غيره .
وليس ذلك انتقاصا من قدرهم الجليل
ولا تناقضا مع دليل الإجماع القطعي الذي هو أحد مصادر التشريع ، بل هو التزام بالأمر النبوي نفسه ، وحمل له على وجهه الصحيح ، والمقصود هنا ما ثبت عن أَنَسٍ رضي الله عنه : " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ ، فَقَالَ: ( لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ) قَالَ: فَخَرَجَ شِيصًا ، فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ: ( مَا لِنَخْلِكُمْ ؟ )
قَالُوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَ،. قَالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ) رواه مسلم (2363) (إِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ ، فَإِذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ) ، وفي لفظ في "مسند الإمام أحمد" (20/19): ( إِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بِهِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ فَإِلَيَّ ) .
ومما يؤكد ذلك أن العلماء كثيرا ما ردوا مرويات أثرية عن الصحابة أو التابعين، تعلقت بعلوم طبيعية، لِما يرد عليها من إشكالات أساسية ، منها التلقي عن بني إسرائيل، ومخالفة الواقع المشاهد
ونحو ذلك من الأسباب التي تدفعهم لرد مثل تلك الآثار.
الأمر الذي يعني بوضوح أنها لا حجية فيها في هذا النوع من الاستدلالات.
ومن الأمثلة على ذلك ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير ظاهرة "قوس قزح"، فقد ورد عنه رضي الله عنه أنه فسرها بأنها علامة لأهل الأرض على أمانهم من الغرق بعد الطوفان العظيم الذي ملأ الأرض زمن نوح عليه السلام، روى ذلك الإمام البخاري رحمه الله في "الأدب المفرد" (رقم765)، والطبراني في "المعجم الكبير" (10/243) بسندهما إلى ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (المَجَّرةُ بابٌ مِن أَبْوَابِ السَّمَاءِ، وَأَمَّا قوسُ قُزح فَأَمَانٌ مِنَ الغَرق بَعْدَ قَوْمِ نوح عليه السلام)
ولكن مما لا يخفى على أحد اليوم أن هذا القوس الملون قد يظهر في أفق السماء عند العواصف المغرقة، وعقب السيول الجارفة، كما أن تفسيره كظاهرة جوية معلومة السبب ، بات من المسلمات اليوم لدى جميع العلماء ، بل ويمكن صنعه في المختبرات الصغيرة على أساس نشر أطياف الضوء ودرجاته .
كل ذلك يدلنا على التوقف فيما ورد عن ابن عباس ، والتفتيش عن مَكْمَن الخطأ فيما نقل عنه، إن كان بسبب الاجتهاد الخاطئ، أو الأخذ عن أهل الكتاب ، أو الخطأ في الرواية .
لذلك علق عليه الشيخ الألباني رحمه الله بقوله:
"إذا ثبت أن الحديث موقوف، فالظاهر حينئذ أنه من الإسرائيليات التي تلقاها بعض الصحابة عن أهل الكتاب، وموقف المؤمن تجاهها معروف، وهو عدم التصديق ولا التكذيب، إلا إذا خالفت شرعا أو عقلا"
انتهى باختصار من "السلسلة الضعيفة"، (رقم/872) .
ويقول الدكتور مساعد الطيار حفظه الله:
"في تفسير قوله تعالى: (ق والقرآن المجيد)، ورد عن بعض السلف في تفسير (ق) أنه جبل محيط بجميع الأرض يقال له جبل قاف. وهذا الخبر غريب جدا، وقد استنكره بعض الأئمة، كابن كثير الدمشقي، ولم يسنده الطبري كعادته، بل ذكره من دون ذكر قائله، ومحله عندما تعرضه على عقلك كما ترى.
لكن هل يستحيل عقلا وجود مثل هذا الجبل؟
لو قال قائل - ممن سبقنا ولم يدرك صور الأرض من الفضاء -: لا يلزم أن يكون الإنسان أدرك جميع التفاصيل المتعلقة بالأرض وأحوالها، وقد يكون هذا الجبل موجودا لكن لم يدركه الإنسان، ولم يعرف كنهه، ويكون مما أخبرت به بعض الأنبياء، فبقي مكتوبا عند بني إسرائيل، فيبقى الأمر محتملا للتصديق والتكذيب، وليس مما تحيله العقول ... =
فإن قوله من جهة التحليل العلمية : قول صحيح، ولا يمكن أن يُخَطَّأ بدعوى عدم قبول العقل لها.
فإذا وجد من يقول بهذا من السابقين، فإننا اليوم - وقد جاب الباحثون الفضاء ، فلم يظهر لهم جبل قاف - يمكننا أن ننكره بالحس" انتهى .
باختصار من بحث له بعنوان "تصحيح طريقة معالجة تفسير السلف في بحوث الإعجاز العلمي"، نشر في "مجلة معهد الإمام الشاطبي"، العدد2، ذو الحجة، 1427هـ، (ص121 – 123)
والخلاصة :
أن أقوال الصحابة والتابعين ليست من مصادر المعرفة في العلوم الطبيعية والتجريبية.
والله أعلم.
*عبدالرحمن*
2018-03-09, 02:15
لماذا التقيد بفهم السلف
وهل أغلق باب الاجتهاد والنظر في الأدلة
السؤال :
أريد أن أسال لماذا يجب علينا أن نأخذ بفهم الأئمة الأربعة عن الإسلام ونأخذ فهم ابن تيمية وغيرهم بحيث أن زمنهم يختلف عن زمننا وحاجاتنا مختلفة ، بحيث لماذا توقف خروج أشخاص يفقهون بالدين أكثر منهم، زمننا الحالي ما أتى بجديد للدين ولا فهم جديد وما أدرانا أن فهم من سبقنا هو الصحيح ، بحيث أي شخص متعلم ومثقف جاء بفهم جديد لنص معين بالكتاب أو السنة يخالف ويعتبر خارج عن نهج السلف ؟
الجواب :
الحمد لله
أولا:
قد أنعم الله تعالى على هذه الأمة بحفظ كتابها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، وهذان هما المصدران الأساسيان للتشريع، ويتفرع عنهما الإجماع والقياس.
وهذه المصادر يمكن لأي عالم استنباط الأحكام بالنظر فيها، إذا توفرت فيه شروط الاجتهاد والنظر، من معرفته باللغة، والناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، أو ما يطلق عليه شروط الاجتهاد، وحاصلها ما يلي:
أولا: أن يكون عالماً بنصوص الكتاب والسنة .
ولا يشترط أن يكون حافظاً للسنة ، بل يكفي أن يكون متمكناً من استخراجها من مواضعها ، وآكد ذلك العلم بما في دواوين السنة المشهورة ، (صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داود وسنن الترمذي وسنن النسائي وسنن ابن ماجه) وما يلتحق بها .
ويكون عالماً بالصحيح منها والضعيف .
ثانيا: أن يكون عارفاً بمسائل الإجماع .
ثالثا: أن يكون عالماً بلسان العرب .
ولا يشترط حفظه له عن ظهر قلب ، وإنما يتمكن من معرفة معاني اللغة وخواص تراكيبها .
رابعا: أن يكون عالماً بأصول الفقه ، ومنه : القياس ، لأن أصول الفقه هو الأساس الذي يُبنى عليه استنباط الأحكام .
خامسا: أن يكون عالماً بالناسخ والمنسوخ .
وينظر: "إرشاد الفحول" للشوكاني (2/297 – 303) .
وهذا الاجتهاد حاصل بحمد الله، فلا يزال في الأمة من يجتهد ويستنبط الأحكام على مر العصور، وليس الأمر كما ظننت، ولهذا فإن عشرات المسائل المستجدات تكلم فيها العلماء المعاصرون، كقضايا الاسستنساخ، والتلقيح الصناعي، والهندسة الوراثية، والاستصناع، وعقود التوريد، وبطاقات الائتمان، وغير ذلك، مما تجدينه في قرارات المجامع الفقهية المعتبرة، والهيئات العلمية المتخصصة.
هذا مع الإقرار بضعف الاجتهاد، وقلة المجتهدين في العصور المتأخرة لأسباب كثيرة ، منها ضعف الهمم، وعدم التفرغ، وإيثار التقليد، وغير ذلك.
ثانيا:
لا يستغني عالم أو مجتهد عن النظر في فقه السلف، فإن وجد إجماعا لزمه الأخذ به؛ لأن الإجماع حجة قاطعة، وإن وجد اختلافا، استفاد من وقوفهم على الأدلة، وكيفية النظر فيها، وأعمل ذهنه وأدواته في الترجيح بين أقوالهم، فإن كانت المسألة مستجدة لم يتكلم فيها المتقدمون، فإنه ينظر في أصولها، وأقربِ المسائل إليها شبها، فيستنير بما قاله المتقدمون، فإن العلم يتصل بعضه ببعض، ولا يكاد يستغني متأخر عن متقدم في علم من العلوم، واعتبري ذلك بالعلوم الرياضية والفلكية والطبية ؛ فإنه مع تطور هذه العلوم لا يُستغنى فيها عن كلام المتقدمين.
ثالثا:
مما ميز علم السلف عمن جاء بعدهم، قربهم من عهد الرسالة، وتمكنهم من اللغة وأدوات الاستنباط بالسليقة، مع تفرغهم للعلم، غالبا ، وإقبالهم عليه ، وبذلهم الوسع فيه، ووجودهم في بيئة معينة على ذلك، وهذا ، أو أكثره ، يفقده المتأخر ، لا سيما مع بعد العهد ، وتعقد الحياة وأساليبها ، وأنماط المعيشة .
وأما المذاهب الأربعة فقد امتازت فوق ذلك على توفر همم الأفذاذ من العلماء على خدمتها، جمعا، وتنقيحا، وشرحا، وتعليقا، ومراجعة، وتمحيصا، مما جعل منها بناء محكما ، يستوعب عامة الأبواب الفقهية، ولا يكاد يخرج عنها إلا النوازل المستجدة التي لم تكن في عصرهم ، أو عصر من بعدهم، مع كون أصولهم، وكثير من فروعهم، ترشد إلى حكم هذه النوازل، إذا أحاط الفقيه بها، وأحسن النظر فيها.
رابعا:
إذا لم يكن في المسألة إجماع، فالمعيار الذي يحكم به بصحة قول أو خطئه هو الدليل الشرعي، فكل قول يؤخذ منه ويرد، كما قال مالك رحمه الله.
خامسا:
من جاء بفهم جديد لنص من الكتاب أو السنة، نُظر في فهمه، وطريقة استنباطه، ومدى موافقتها لقواعد الاستنباط الصحيحة، فيقبل منه ما وافق ذلك، وهذا لا يتصور في أكثر آيات القرآن الكريم، وإنما يتصور في بعض الآيات التي أشكل تفسيرها على المتقدمين، أو أن يكون قوله جامعا لأقوال من سبقه، أو منتزعا منها، وذلك أن الصحابة والتابعين أولوا القرآن عناية تامة، ونقلوا في تفسيره ما أخذوه عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولم يفتهم من ذلك إلا الشيء اليسير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وأما التفسير الثابت عن الصحابة والتابعين : فذلك إنما قبلوه لأنهم قد علموا أن الصحابة بلغوا عن النبي صلى الله عليه وسلم لفظ القرآن ومعانيه جميعا ، كما ثبت ذلك عنهم .." .
" وهل يتوهم عاقل أنهم كانوا إنما يأخذون منه مجرد حروفه ، وهم لا يفقهون ما يتلوه عليهم ، ولا ما يقرؤونه ، ولا تشتاق نفوسهم إلى فهم هذا القول ، ولا يسألونه عن ذلك ، ولا يبتدئ هو بيانه لهم ؟ هذا مما يعلم بطلانه ، أعظم مما يعلم بطلان كتمانهم ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله." .
" فقولنا بتفسير الصحابة والتابعين : لعلمنا بأنهم بلغوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يصل إلينا إلا بطريقهم، وأنهم علموا معنى ما أنزل الله على رسوله ، تلقيا عن الرسول ؛ فيمتنع أن نكون نحن مصيبين في فهم القرآن ، وهم مخطئون .
وهذا يُعلم بطلانه ، ضرورة ، عادة وشرعا." انتهى .
انظر : "بغية المرتاد" (330-332) .
وأما السنة فقد تولى العلماء –عبر قرون- جمعها، وشرحها، والاستنباط منها، ومع ذلك فقد يجد المجتهد مجالا في تصحيح حديث ضُعّف، أو العكس، أو استنباط معنى خفي، أو ترجيح معنى على معنى، وفضل الله يؤتيه من يشاء.
وينظر للفائدة : رسالة "فهم السلف الصالح" للدكتور عبد الله بن عمر الدميجي ، وفقه الله .
والحاصل : أن باب الاجتهاد مفتوح لمن يملك أدواته، وإنما يجب الحذر من اجتهاد إنسان لم يملك أدوات الاجتهاد، فلا علم له باللغة، ولا بطرق الاستنباط، ولا بجمع الأدلة في الموطن الواحد، فهذا قلما يصيب، بل يأثم باجتهاده، ويفتن نفسه وغيره بالكلام في دين الله بغير علم، وما أكثر هؤلاء في هذه الأزمنة.
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة (5/ 25): " هل باب الاجتهاد مغلق أم غير مغلق؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
باب الاجتهاد لم يغلق بل هو مفتوح : لأهل العلم والإيمان والبصيرة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وكلام من سلف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان من أهل العلم والإيمان.
أما من ليس كذلك : فالواجب عليه سؤال أهل الذكر، كما نص على ذلك أهل العلم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز" انتهى.
وجاء في " الموسوعة الفقهية " (1 / 40- 43) :
" من استطاع أن يجتهد : فعليه أن يجتهد ؛ متى توفرت له أسبابه ، وتوفرت فيه شروطه التي سنبينها بالتفصيل - إن شاء الله - في الملحق الأصولي لهذه الموسوعة.
ومن العجب :أن بعض هؤلاء المغالين يقول: إنه يكفي الشخص ليكون مجتهدا أن يكون لديه مصحف ، وسنن أبي داود وقاموس لغوي، فيصبح بذلك مجتهدا لا حاجة له إلى تقليد إمام من أئمة المسلمين، فلو أنه يكتفي بالمصحف وبسنن أبي داود والقاموس لكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم مجتهدين؛ لأنهم إما عرب خلص، أو نشأوا في بيئة عربية خالصة، وشاهدوا أحداث التنزيل، وقريبو عهد برسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك الادعاء يكذبه الواقع...
ومن العجب أن أكثر هؤلاء الذين يدعون الاجتهاد ، ويدعون إليه في هذه الأيام : لا يحسن أحدهم أن يقرأ آية صحيحة من المصحف، فضلا عن أن يستنبط منها حكما شرعيا !!
فأقل ما يجب أن يتصف به المجتهد : أن يكون متعمقا في اللغة العربية، عالما بالناسخ والمنسوخ، والعام والخاص والمطلق والمقيد، إلى غير ذلك مما يتطلب إعدادا خاصا ، لا يتوفر إلا للقلة القليلة المتفرغة...
إقفال باب الاجتهاد:
38 - ما إن أهل القرن السادس الهجري ، حتى نادى بعض العلماء بإقفال باب الاجتهاد، وقالوا: لم يترك الأوائل للأواخر شيئا !!
وكانت حجتهم في ذلك : قصور الهمم وخراب الذمم، وتسلط الحكام المستبدين، وخشية أن يتعرض للاجتهاد من ليس أهلا له، إما رهبة أو رغبة، فسدا للذرائع : أفتوا بإقفال باب الاجتهاد.
وتعرض بعض من خالف الأوائل في آرائهم لسخط العامة والخاصة، ولكن مع هذا فقد كان يظهر بين الفينة والفينة من ادعى الاجتهاد ، أو ادُّعِيَ له، وكانت لهم اجتهادات لا بأس بها ، كابن تيمية وتلميذه ابن القيم، والكمال بن الهمام ، الحنفي المذهب. فقد كانت له اجتهادات خرج فيها على المذهب. . . ومن هؤلاء تاج الدين السبكي صاحب جمع الجوامع، وأبوه من قبله.
وأيا ما كان ، فقد كان اجتهاد هؤلاء لا يخرج عن ترجيح رأي على رأي، أو حل لمشكلة عارضة لم يتعرض لها الأئمة المتقدمون.
والذي نَدين الله عليه: أنه لا بد أن يكون في الأمة علماء متخصصون، على علمٍ بكتاب الله، وسنَّة رسوله، ومواطن الإجماع، وفتاوى الصحابة، والتابعين، ومن جاء بعدهم .
كما ينبغي أن يكونوا على خبرة تامة باللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم، ودونت بها السنَّة النبوية .
وأن يكونوا ، قبل ذلك ، وبعد ذلك : على الصراط المستقيم، لا يخشون في الله لومة لائم، لترجع إليهم الأمة فيما نزل بها من أحداث، وما يجدّ من نوازل .
وألا يُفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، فيلج فيه من لا يحسن قراءة آية من كتاب الله في المصحف، كما لا يُحسن أن يجمع بين أشتات الموضوع، ويرجح بعضها على بعض.
والذين أفتوا بإقفال باب الاجتهاد : إنما نزعوا عن خوفٍ من أن يدَّعي الاجتهاد أمثال هؤلاء، وأن يفتري على الله الكذب، فيقولون هذا حلال وهذا حرام، من غير دليل ولا برهان ...
فقد رأينا في عصرنا هذا من أفتى بحل الربا الاستغلالي دون الاستهلاكي، بل منهم من قال بحله مطلقاً؛ لأن المصلحة - في زعمه - توجب الأخذ به .
ومنهم مَن أفتى بجواز الإجهاض ابتغاء تحديد النسل، لأن بعض الحكام يرى هذا الرأي، ويسميه " تنظيم الأسرة " .
ومنهم من يرى أن إقامة الحدود لا تثبت إلا على من اعتاد الجريمة الموجبة للحدِّ .
ومنهم ... ومنهم ...
فأمثال هؤلاء هم الذين حملوا أهل الورع من العلماء على القول بإقفال باب الاجتهاد.
ولكنا نقول:
إن القول بحرمة الاجتهاد ، وإقفال بابه جملة وتفصيلاً : لا يتفق مع الشريعة ، نصّاً وروحاً .
وإنما القولة الصحيحة : هي إباحته، بل وجوبه على من توفرت فيه شروطه؛ لأن الأمَّة في حاجة إلى معرفة الأحكام الشرعية فيما جدَّ من أحداث ، لم تقع في العصور القديمة" انتهى.
والله أعلم.
*عبدالرحمن*
2018-03-09, 02:18
من هو العالم؟
السؤال :
من الذي يصح أن يطلق عليه اسم عالم؟
هل يصح أن يطلق هذا اللقب على مدرس الإسلامية؟
أم إنه فقط للمشائخ الكبار، لأن هذه القضية محط نقاش في الأوساط السلفية هنا في بلدي (نيجيريا).
الجواب :
الحمد لله
العالم والفقيه والمجتهد ألقاب تدل على معنى واحد ، وهو مَنْ يبذل جهده في الوصول إلى الحكم الشرعي ، وتكون عنده القدرة على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها .
وهذا يحتاج إلى تحصيل أدوات هذا الاجتهاد ، فلا يوصف بهذا الوصف (العالم أو المجتهد أو الفقهيه) إلا من توفرت فيه شروط الاجتهاد .
وقد اعتنى العلماء بهذه الشروط ، حتى لا يُفتح الباب لكل أحد ، من صغير أو كبير ، أن يقول في دين الله ما لا علم له به .
غير أننا نكتفي بنقلين اثنين فقط ، يحصل بهما بيان هذه الشروط .
الأول : عن الشوكاني رحمه الله ، وحاصل ما ذكره خمسة شروط :
الشرط الأول : أن يكون عالماً بنصوص الكتاب والسنة .
ولا يشترط أن يكون حافظاً للسنة ، بل يكفي أن يكون متمكناً من استخراجها من مواضعها ، وآكد ذلك العلم بما في دواوين السنة المشهورة ، (صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داود وسنن الترمذي وسنن النسائي وسنن ابن ماجه) وما يلتحق بها .
ويكون عالماً بالصحيح منها من الضعيف .
الشرط الثاني : أن يكون عارفاً بمسائل الإجماع .
الشرط الثالث : أن يكون عالماً بلسان العرب .
ولا يشترط حفظه له عن ظهر قلب ، وإنما يتمكن من معرفة معاني اللغة وخواص تراكيبها .
الشرط الرابع : أن يكون عالماً بأصول الفقه ، ومنه : القياس ، لأن أصول الفقه هو الأساس الذي يُبنى عليه استنباط الأحكام .
الشرط الخامس : أن يكون عالماً بالناسخ والمنسوخ .
انظر : "إرشاد الفحول" (2/297 – 303) .
النقل الثاني : عن الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله :
فقد ذكر شروط المجتهد بما لا يختلف كثيراً مع ما ذكره الشوكاني رحمه الله ، غير أنه أسهل منه عبارةً : فقال :
"للاجتهاد شروط ، منها :
1- أن يعلم من الأدلة الشرعية ما يحتاج إليه في اجتهاده ، كآيات الأحكام وأحاديثها .
2- أن يعرف ما يتعلق بصحة الحديث وضعفه ، كمعرفة الإسناد ورجاله ، وغير ذلك .
3- أن يعرف الناسخ والمنسوخ ومواقع الإجماع ، حتى لا يحكم بمنسوخ أو مخالف للإجماع.
4- أن يعرف من الأدلة ما يختلف به الحكم من تخصيص ، أو تقييد ، أو نحوه ، حتى لا يحكم بما يخالف ذلك .
5- أن يعرف من اللغة وأصول الفقه ما يتعلق بدلالات الألفاظ ؛ كالعام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين ، ونحو ذلك ؛ ليحكم بما تقتضيه تلك الدلالات .
6- أن يكون عنده قدرة يتمكن بها من استنباط الأحكام من أدلتها" انتهى .
"الأصول من علم الأصول" (صـ 85 ، 86) وشرحه (صـ 584 – 590) .
ونَبَّه في الشرح على سهولة الرجوع إلى السنة الآن أكثر من ذي قبل ، بسبب الكتب المؤلفة في السنة .
فمن توفرت فيه هذه الشروط فهو العالم ، الذي يستطيع استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها ، وما دون ذلك فلا يصح أن يوصف بأنه عالم أو فقيه أو مجتهد .
وينبغي التنبه هنا : إلى أن هذا الوصف (العالم أو المجتهد أو الفقيه) مصطلح شرعي ، له معناه عند العلماء ، وله شروطه ، فلا يجوز التساهل في إطلاقه على كل من تكلم في الأحكام الشرعية ، أو درس المواد الإسلامية في المدارس والجامعات ، أوعمل في الدعوة إلى الله ، فقد يكون الرجل داعية إلى الله ، ويبذل فيها جهده ، ولكنه لم يصل إلى درجة العالم .
نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا ، وأن يزيدنا علماً .
والله أعلم
*عبدالرحمن*
2018-03-09, 02:23
السؤال
هل ما زال باب الاجتهاد مفتوحاً ؟
الجواب
الحمد لله
" الاجتهاد لغة : مأخوذ من الجَهد ، وهو المشقة ، أو الوسع ، أو الطاقة .
وأما الاجتهاد عند علماء الفقه ، أو الأصول : فقد عرَّفوه بتعاريف متقاربة في ألفاظها ، ومعانيها ، وكلها تدور حول بذل الجَهد ، والطاقة لمعرفة الحكم الشرعي من دليله .
وأدق ما قيل في تعريفه : "إن الاجتهاد هو : بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حكم شرعي ظنِّي" انتهى .
" الموسوعة الفقهية " ( 1 / 18 ، 19 ) .
ولم تزل الأمة تمر عليها النوازل ، ويحتاج المسلمون إلى معرفة حكم الله تعالى فيها ، ولا يتم ذلك إلا بالاجتهاد في النظر في الأدلة الشرعية لمعرفة الحكم الشرعي لها .
وقد اجتهد الصحابة رضي الله عنهم في معرفة الأحكام الشرعية ، واجتهد التابعون ومن بعدهم العلماء ونُقلت إلينا اجتهاداتهم .
وفي أوائل القرن السادس ظهرت الدعوة إلى غلق باب الاجتهاد ، وكان من أسباب ذلك : التعصب الذي وُجد في تلك العصور لمذاهب الأئمة ، حتى قال البعض بالمنع من الخروج عن أقوال الأئمة المدونة في كتبهم وكتب أتباعهم ، فأطلقوا تلك الدعوى (غلق باب الاجتهاد) حتى يقطعوا الطريق أمام من يجتهد في فهم النصوص ويستنبط أحكاماً تخالف ما قاله الأئمة السابقون .
ومما لا شك فيه أن هذه الدعوى غير صحيحة ، فهناك الكثير والكثير من المسائل المستجدات يحتاج الناس إلى بيان حكم الله تعالى فيها ، ولم يتكلم فيها الأئمة السابقون ، لأنها لم تكن موجودة في زمنهم .
فالقول بإغلاق باب الاجتهاد يعني أن يبقى المسلمون لا يعلمون حكم الله في وقائع كثيرة ومسائل كثيرة .
ثم القائل بغلق باب الاجتهاد إنما قال هذا القول اجتهاداً منه ، لم يقل به الأئمة السابقون ، فكيف يسمح لنفسه بالاجتهاد ويجعل هذا آخر اجتهاد يُقبل من المسلمين ، ويعلن إغلاق الباب بعد اجتهاده هذا ؟!
وقد ذهب آخرون إلى هذه الدعوة "غلق باب الاجتهاد" لما رأوه من جراءة البعض على الأحكام الشرعية ، وصاروا يتلاعبون بالنصوص والأحكام بدعوى الاجتهاد .
ولكن الموقف الصحيح تجاه هؤلاء : أن يُبين خطؤهم وتلاعبهم ، ويُكشف تزويرهم وكذبهم ، لا أن يُغلق باب الاجتهاد .
وقد وضع العلماء شروطاً وضوابط للاجتهاد حتى يكون مقبولاً ، وهذه الشروط تضمن له ألا يتحول الاجتهاد إلى التلاعب بالنصوص ، فليست المسألة فوضى ، يقول مَنْ شاء ما شاء ، بل هناك شروط للاجتهاد ، يجب على المجتهد التقييد بها ، وإلا كان اجتهاده نوعاً من التلاعب والعبث .
جاء في " الموسوعة الفقهية " ( 1 / 42 ، 43 ) :
"والذي نَدين الله عليه : أنه لا بد أن يكون في الأمة علماء متخصصون ، على علمٍ بكتاب الله ، وسنَّة رسوله ، ومواطن الإجماع ، وفتاوى الصحابة ، والتابعين ، ومن جاء بعدهم ، كما ينبغي أن يكونوا على خبرة تامة باللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم ، ودونت بها السنَّة النبوية ، وأن يكونوا قبل ذلك وبعد ذلك على الصراط المستقيم ، لا يخشون في الله لومة لائم ، لترجع إليهم الأمة فيما نزل بها من أحداث ، وما يجدّ من نوازل ، وألا يُفتح باب الاجتهاد على مصراعيه ، فيلج فيه من لا يحسن قراءة آية من كتاب الله في المصحف ، كما لا يُحسن أن يجمع بين أشتات الموضوع ، ويرجح بعضها على بعض .
والذين أفتوا بإقفال باب الاجتهاد إنما نزعوا عن خوفٍ من أن يدَّعي الاجتهاد أمثال هؤلاء ، وأن يفتري على الله الكذب ، فيقولون هذا حلال وهذا حرام ، من غير دليل ولا برهان ، وإنما يقولون ذلك إرضاء للحكام ، ولقد رأينا بعض من يدَّعي الاجتهاد يتوهم أن القول بكذا وكذا فيه ترضية لهؤلاء السادة ، فيسبقونهم بالقول ، ويعتمد هؤلاء الحكام على آراء هؤلاء المدعين ، فقد رأينا في عصرنا هذا من أفتى بحل الربا الاستغلالي دون الاستهلاكي ، بل منهم من قال بحله مطلقاً ؛ لأن المصلحة - في زعمه - توجب الأخذ به ، ومنهم مَن أفتى بجواز الإجهاض ابتغاء تحديد النسل ، لأن بعض الحكام يرى هذا الرأي ، ويسميه " تنظيم الأسرة " ، ومنهم من يرى أن إقامة الحدود لا تثبت إلا على من اعتاد الجريمة الموجبة للحدِّ ، ومنهم ... ومنهم ... فأمثال هؤلاء هم الذين حملوا أهل الورع من العلماء على القول بإقفال باب الاجتهاد .
ولكنا نقول : إن القول بحرمة الاجتهاد وإقفال بابه جملة وتفصيلاً لا يتفق مع الشريعة نصّاً وروحاً ، وإنما القولة الصحيحة هي إباحته ، بل وجوبه على من توفرت فيه شروطه ؛ لأن الأمَّة في حاجة إلى معرفة الأحكام الشرعية فيما جدَّ من أحداث لم تقع في العصور القديمة" انتهى .
وسئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء :
هل يعتبر باب الاجتهاد في الأحكام الإسلامية مفتوحاً لكل إنسان ، أو أن هناك شروطاً لا بد أن تتوفر في المجتهد ؟ وهل يجوز لأي إنسان أن يفتي برأيه ، دون معرفته بالدليل الواضح ؟ فأجابوا :
"باب الاجتهاد في معرفة الأحكام الشرعية لا يزال مفتوحاً لمن كان أهلاً لذلك ، بأن يكون عالماً بما يحتاجه في مسألته التي يجتهد فيها ، من الآيات والأحاديث ، قادراً على فهمهما ، والاستدلال بهما على مطلوبه ، وعالماً بدرجة ما يستدل به من الأحاديث ، وبمواضع الإجماع في المسائل التي يبحثها حتى لا يخرج على إجماع المسلمين في حكمه فيها ، عارفاً من اللغة العربية القدر الذي يتمكن به من فهم النصوص ؛ ليتأتَّى له الاستدلال بها ، والاستنباط منها ، وليس للإنسان أن يقول في الدين برأيه ، أو يُفتي الناس بغير علم ، بل عليه أن يسترشد بالدليل الشرعي ، ثم بأقوال أهل العلم ، ونظرهم في الأدلة ، وطريقتهم في الاستدلال بها ، والاستنباط ، ثم يتكلم ، أو يفتي بما اقتنع به ، ورضيه لنفسه ديناً" انتهى .
الشيخ عبد العزيز بن باز ، الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، الشيخ عبد الله بن غديان ، الشيخ عبد الله بن قعود .
" فتاوى اللجنة الدائمة " ( 5 / 17 ، 18 ) .
وذكر الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله في كتابه "الأصول من علم الأصول" شروط الاجتهاد ، فقال : "للاجتهاد شروط منها :
1- أن يعلم من الأدلة الشرعية ما يحتاج إليه في اجتهاده كآيات الأحكام وأحاديثها .
2- أن يعرف ما يتعلق بصحة الحديث وضعفه ، كمعرفة الإسناد ورجاله ، وغير ذلك .
3- أن يعرف الناسخ والمنسوخ ومواقع الإجماع حتى لا يحكم بمنسوخ أو مخالف للإجماع .
4- أن يعرف من الأدلة ما يختلف به الحكم من تخصيص ، أو تقييد ، أو نحوه حتى لا يحكم بما يخالف ذلك .
5- أن يعرف من اللغة وأصول الفقه ما يتعلق بدلالات الألفاظ ، كالعام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين ، ونحو ذلك ؛ ليحكم بما تقتضيه تلك الدلالات .
6- أن يكون عنده قدرة يتمكن بها من استنباط الأحكام من أدلتها" انتهى .
"الأصول من علم الأصول" (ص 85 ، 86) .
وبهذه الشروط يكون الاجتهاد منضبطاً ، بعيداً عن التلاعب والهوى .
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-09, 02:26
الألفاظ والمصطلحات التي لم يحدّها
الشرع يرجع فيها إلى العرف
السؤال :
هل المصطلحات الإسلامية من حيث الاستعمال قابلة للتغييرات حسب البلدان بحجة أن المصطلح يتفاوت استخدامه بما هو رائج ؟
الجواب :
الحمد لله
المصطلحات الشرعية نوعان:
الأول: ما جاء مبينا معناه من قبل الشارع ، كالإسلام والإيمان والإحسان، والصلاة، والزكاة، ونحو ذلك.
والثاني: ما لم يحدّه الشارع، فيرجع فيه إلى العرف، وذلك كالحِرز، والقبض، والسفر، ونحو ذلك.
وهذا يختلف باختلاف الأعراف، فما عده الناس حِرزا للمال في بلد، قد لا يعدونه حرزا في بلد آخر، وما يعد سفرا يختلف أيضا باختلاف الناس، وهكذا، ولعل هذا النوع هو مراد السائل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " ومما ينبغي أن يُعلم أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث، إذا عرف تفسيرها وما أريد بها من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم .
ولهذا قال الفقهاء: الأسماء ثلاثة أنواع:
نوع يعرف حده بالشرع؛ كالصلاة والزكاة.
ونوع يعرف حده باللغة؛ كالشمس والقمر.
ونوع يعرف حده بالعرف ، كلفظ القبض، ولفظ المعروف في قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] ، ونحو ذلك" انتهى ، من كتاب الإيمان، ص224 .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في منظومته:
" وكلُّ ما أَتَى ولم يُحَدَّدِ *** بالشرعِ كالحرزِ فبالعرفِ احْدُدِ".
وشرحه بقوله:
" هذه من القواعد المهمة ؛ وهي أن ما جاء في الكتاب والسنّة مطلقاً ، بغير تحديد بزمن ، أو مكان، أو عدد ، أو صفة ، فإنه يرجع في تحديده إلى العرف ، لأن المطلق يحمل على ما يتعارفه المخاطبون بينهم .
وليُعلم أن الألفاظ إذا أطلقت فلا تخلو من إحدى حالات ثلاث :
1 ـ إما أن يكون النص قد بَيَّن أن المرجع في ذلك إلى العرف، فهنا نرجع للعرف .
2 ـ وإما أن يكون النص قد بَيَّن أن المرجع في ذلك إلى الشرع، فهنا نرجع إلى الشرع .
3 ـ وإما أن لا نعلم هذا ولا هذا، فيرجع إلى العرف .
بيان ذلك :
1 ـ ما أحيل فيه على العرف مثل : جميع حقوق الزوجة يرجع فيها إلى العرف بنص الشرع ، قال تعالى : {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] ، {وَعَلَى الْمَولُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] ؛ فهذا واضح أنه أحيل فيه على العرف فيؤخذ به.
2 ـ ما أحيل فيه على الشرع: فيرجع فيه إلى الشرع وَيُلْغَى العرف.
مثال هذا: لو كان من عادة الناس أن الإنسان إذا باع عبده واشترط أن الولاء له وافقوا على ذلك، فهنا لا نرجع إلى العرف بل: هذا مرجعه إلى الشرع. ولهذا أبطل النبي صلّى الله عليه وسلّم هذا الشرط وقال : « قضاء الله أحق ، وشرط الله أوثق ، وإنَّما الولاء لمن أعتق ».
ومثل ذلك : المواريث ، فالزوجة لها نصيب ، والأم لها نصيب ، والأب له نصيب ، وهذا محدد بالشرع .
3 ـ ما لم يقيد بالشرع ولا بالعرف : فهذا يرجع فيه إلى العرف .
مثاله : الحِرْز في السرقة ، ذكر العلماء - رحمهم الله - أنَّ يد السارق لا تقطع إلا إذا سرق من حرز.
والحرز : هو كل ما تحفظ به الأموال ، وهو يختلف باختلاف السلطان والمكان والزمان وأنواع المال ، وغير ذلك ، فحرز الذهب والفضة ليس كحرز المواشي ، فالذهب والفضة يحرزان بالصناديق المغلقة وراء الأبواب ، والغنم بالحظائر ، وَفَرَّقَ بينهما العرف .
_ رجل أعطاك دراهم على أنها وديعة ، فذهبت إلى حظيرة الغنم فألقيت الدراهم في مكان الغنم ، وجاء السارق فسرقها ، فإنك تضمن ؛ لأن هذا ليس بحرز ؛ لكن لو وضعتها في صندوق ، وأغلقت عليها ، ثم جاء السارق وكسر الصندوق وأخذها ، فلا ضمان عليك لأن هذا حرز في العادة .
ـ كذلك السفر: جاء مطلقاً في القرآن والسنة ولم يحدد؛ قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ} [النساء: 101] . فأطلق الضرب ولم يحدده لا بزمان ولا بمسافة، فيرجع فيه إلى العرف، وما ورد عن بعض السلف ، من أنه مِنْ مكانِ كذا وكذا سفرُ قصرٍ ، يعني وما دونه فليس سفرَ قصرٍ، فإنما هو من باب المثال لِمَا كان سفراً في عرفهم، ولهذا لم يحدد النبي صلّى الله عليه وسلّم زمناً ولا مسافة في سفر القصر، بل قال أنس بن مالك - رضي الله عنه - : ( كان النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - إذا خرج ثلاثة أميال صلى ركعتين).
فيرجع في ذلك إلى العرف ، فما سماه الناس سفراً فهو سفر ، وما ليس سفراً في عرف الناس فليس بسفر .
وكذلك الإقامة أثناء السفر في بلد أو مكان بَرِّي : لم يحددها الشرع بأيام معلومة ، أو أشهر معلومة ، أو سنوات معلومة ، ولهذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقيم إقامات متعددة مختلفة ، ويقصر فيها الصلاة ، فقد أقام في تبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة ، وأقام في مكة تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة ، وذلك في غزوة الفتح ، وأقام في مكة في آخر سفر سافره في حجة الوداع ، عشرة أيام كما ثبت ذلك في صحيح البخاري رحمه الله ( لما سئل أنس بن مالك رضي الله عنه : كم أقام النَّبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - ) لأنه قدم في يوم الأحد ، الرابع من شهر ذي الحجة ، وسافر من مكة في صبيحة اليوم الرابع عشر ، فهذه عشرة أيام يقصر فيها الصلاة ، ولم يقل النبي - صلّى الله عليه وسلّم - : مَنْ أقام كذا لزمه القصر ، ومن أقام دون ذلك لم يقصر، فدل ذلك على أنه ما دام الإنسان لم يَعُدْ إلى بلده ، فهو مسافر.
ومن ذلك أيضاً الخُفان : وردت السنة : « أنَّ النبيَّ - صلّى الله عليه وسلّم - مسح على الخفين » ولم يشترط النبيُّ - صلّى الله عليه وسلّم - في الخفين شرطاً معيناً ، إلا أنَّهُ لبسهما طاهرتين ، وأن مسحهما في مدة معينة، ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر ، ويوم وليلة للمقيم ، فإذاً نقول : يمسح على كل ما يسمى خفاً عرفاً ، وهذا هو القول الراجح ، وأننا لا نشترط شروطاً في جواز مسح الخفين لم تثبت في الكتاب ولا في السنة ، لأننا إذا شرطنا شروطاً ضيقنا نطاق المسح ، وليس لأحد تضييق ما وَسَّعه الله .
ومن أمثلة ما أحيل فيه على العرف : النفقة ، يقول الله عزّ وجل: { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ } [الطلاق: 7] وأطلق الإنفاق ، فيرجع في ذلك للعرف ، فما تعارف عليه الناس من نفقة الغني وجب على الزوج الغني ، وما تعارفوا عليه من نفقة الفقير وجب عليه .
كذلك المعاشرة : قال الله - عزّ وجل - : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [النساء : 19] ولم يحدد شيئاً معيناً ، بل جعل ذلك إلى العرف .
وهذه قاعدة نافعة تنفع في أبواب كثيرة في الفقه : أن كل شيء أتى في النص ، من كتاب الله وسنة رسوله - صلّى الله عليه وسلّم - ولم يحدد ، فإنه يرجع فيه إلى العرف .
وما سبق من الحالات الثلاث إنَّما هو في باب المعاملات ، وأما في باب العبادات فَعَرفنا من قبل أنه لا يمكن أن يعمل الإنسان عبادة إلا بإذن الشارع . " .
انتهى من "منظومة في أصول الفقه وقواعده" للشيخ ابن عثيمين، ص273- 276
والله أعلم.
*عبدالرحمن*
2018-03-09, 02:30
ظهر له رجحان خلاف مذهبه ، فهل ينتقل إليه ؟
السؤال :
أنا اتبع في مسألة قراءة الفاتحة للمأموم المذهب الشافعي ، وأردت أن آخذ بأقوال الحنابلة في هذه المسألة ؛ لأني رأيته الأصوب والأرجح ، فهل يجوز الانتقال؟
الجواب :
الحمد لله
من كان يأخذ بقول في مسألة ثم تبين له رجحان غيره فإنه ينتقل إلى القول الذي تبين له رجحانه ، ويكون مثابا على ذلك .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله :
" إن كان انتقاله من مذهب إلى مذهب لأمر ديني ، مثل أن يتبين رجحان قول على قول
فيرجع إلى القول الذي يرى أنه أقرب إلى الله ورسوله : فهو مثاب على ذلك ، بل واجب على كل أحد إذا تبين له حكم الله ورسوله في أمر ألا يعدل عنه ، ولا يتبع أحداً في مخالفة الله ورسوله ؛ فإن الله فرض طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم على كل أحد في كل حال ..."
انتهى من" مجموع الفتاوى " ( 20 / 223 ) .
والله أعلم.
و اخيرا
الحمد لله الذي بفضلة تتم الصالحات
اخوة الاسلام
اكتفي بهذا القدر و لنا عوده
ان قدر الله لنا البقاء و اللقاء
و اسال الله ان يجمعني بكم دائما
علي خير
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين
*عبدالرحمن*
2018-03-10, 05:01
اخوة الاسلام
أحييكم بتحية الإسلام
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
https://d.top4top.net/p_7927bchs1.gif (https://up.top4top.net/)
أسباب اختلاف الفقهاء في القراءة خلف الإمام
السؤال:
قرأت إجابتك لسؤالك المتعلق بحكم "قراءة سورة الفاتحة خلف الإمام" ، ولكن يوجد لدي بعض اللبس في الأمر ، فما سمعته هو أن الإمام مالك عاش حياته في المدينة وتعلم الدين هناك، فلماذا قال : إن سورة الفاتحة لا يجب أن تقرأ عندما يتلوها الإمام جهرًا؟ ، وقد وُلِد في عام 93 هجريًا ، وكان أقرب الأئمة ، مثل الإمام الشافعي والإمام ابن حنبل ، إلى وعهد النبي صلى الله عليه وسلم
فلماذا يوجد اختلاف في مذهبه ومذاهب الآخرين؟ وهناك فرق آخر متعلق بوضع اليدين على بعضهما في أثناء القيام ، أرجو التوضيح ، وإن أمكن أرجو تقديم إشارات من موطأ الإمام مالك أيضًا ، أعي أن الإمام أبو حنيفة كان الأقرب إلى عهد النبي صلة الله عليه وسلم ، ولكن بما أنه كان في العراق فمذهبه مختلف في أمور كثيرة
ولكن هل صحيح أن طلابه صححوا كثيرًا من الأحاديث عندما أتوا إلى المدينة ؟
مثلما سمعت أن أحد طلابه وهو أبوعبد الله قد صحح ما يقرب من 3000 حديث تعلمها من أبو حنيفة عندما أتى إلى المدينة .
الجواب :
الحمد لله
أولا:
قراءة الفاتحة خلف الإمام في الصلاة الجهرية ، مسألة اجتهادية ، وقد قال فيها كل إمام بما أداه إليه اجتهاده
.
ثانيا:
الأمر لا يتعلق بكون الإمام مالك رحمه الله عاش في المدينة ، أو كان قريبا من عهد النبوة ، فهذا قد يفيد في مسألة بلوغه الحديث أو عدم بلوغه ، لكن الأمر المؤثر هنا غالبا هو الاجتهاد في فهم النص ، فقد احتج مالك في "الموطأ" (193) بحديث أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة ، فقال : (هل قرأ معي منكم أحد آنفا ؟) ، فقال رجل : نعم ، أنا يا رسول الله
قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إني أقول ما لي أنازع القرآن )، فانتهي الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا يدل على أنه يرى القراءة كانت أول الأمر ثم منعت.
وقد ذهب إلى قريب من هذا من المعاصرين الشيخ الألباني رحمه الله ، ورأى أن القراءة خلف الإمام في الجهرية منسوخة، وقد أجبنا عن دعوى النسخ وبينا أن قوله: "فانتهى الناس عن القراءة" ليس من قول أبي هريرة ، بل هو من قول ابن شهاب الزهري ، فلا حجة فيه
.
ومالك رحمه الله قد احتج بالأمر بالإنصات في القرآن ، وبهذا الحديث وبعمل أهل المدينة.
قال ابن عبد البر رحمه الله :
" فأين المذهب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وظاهر كتاب الله عز وجل وعمل أهل المدينة ؟ ألا ترى إلى قول ابن شهاب : فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة حين سمعوا منه "ما لي أنازع القرآن" .
وقال مالك : الأمر عندنا أنه لا يقرأ مع الإمام فيما جهر فيه الإمام بالقراءة ، فهذا يدلك على أن هذا عمل موروث بالمدينة" ا
نتهى من " التمهيد " (11/ 34).
وقال الباجي: "
وقوله : فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة حين سمعوا ذلك ؛ يريد : أنهم تلقوا إنكاره عليهم القراءة فيما جهر فيه بالانتهاء عما نهاهم عنه ، وترك ما أنكر عليهم . وهذا الحديث أصل مالك رحمه الله في ترك المأموم القراءة خلف الإمام في حال الجهر ، لأنه لما علق حكم الامتناع من القراءة على الجهر ، كان الظاهر أن الجهر علة ذلك الحكم .
وذهب الشافعي إلى أن القراءة واجبة على المأموم على كل حال ، والدليل على صحة ما ذهب إليه مالك قوله تعالى: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) وهذا يقتضي منع القراءة جملة وجميعِ الكلام ووجوبَ الإنصات عند قراءة كل قارئ إلا ما خصه الدليل، ودليلنا من جهة السنة ما رواه أبو صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا كبر فكبروا ، وإذا قرأ فأنصتوا) وهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب. ودليلنا من جهة القياس أن هذا حال ائتمام فوجب أن تسقط معها القراءة عن المأموم ، أصله ما لو أدركه راكعا"
انتهى من "المنتقى شرح الموطأ" (1/ 161).
وليس المراد مناقشة الأقوال في المسألة ، وإنما بيان أن مالكا وغيره من الأئمة إنما يصدرون عن اجتهاد وإعمال للنظر في الأدلة، فيترجح لهم قول معين، ويترجح لغيرهم قول آخر.
وتأمل ذلك هنا، فإن حديث أبي هريرة فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما لي أنازع القرآن)، وحديث عبادة بن الصامت فيه قوله: (كُنَّا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ ، فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ : ( لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُونَ خَلْفَ إِمَامِكُمْ ؟) قُلْنَا : نَعَمْ ، هَذًّا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : ( لا تَفْعَلُوا إِلا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ، فَإِنَّهُ لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا ) رواه أبو داود ( 823 )
وهذا صريح في منع القراءة خلف الإمام في الجهرية إلا الفاتحة، وهو مخصص لعموم الأمر بالإنصات، ومقو لعموم قوله: (مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ ثَلَاثًا غَيْرُ تَمَامٍ) رواه مسلم (395).
وأما عمل أهل المدينة ، فلا يسلّم، فقد روى كثير من الصحابة في المدينة القراءة خلف الإمام.
قال النووي رحمه الله: "والذى عليه جمهور المسلمين القراءة خلف الإمام في السرية والجهرية.
قال البيهقى: وهو أصح الأقوال على السنة وأحوطها، ثم روى الأحاديث فيه، ثم رواه بأسانيده المتعددة عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وأبى بن كعب ومعاذ بن جبل وابن عمر وابن عباس وأبي الدرداء وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدرى وعبادة بن الصامت وأبى هريرة وهشام بن عامر وعمران وعبد الله بن مغفل وعائشة رضى الله عنهم. قال: ورويناه عن جماعة من التابعين فرواه عن عروة بن الزبير ومكحول والشعبي وسعيد بن جبير والحسن البصري رحمهم الله"
انتهى من "المجموع" (3/ 365).
ثالثا:
ما قيل في هذه المسألة يقال في غيرها من مسائل الخلاف عامة، ومنها قبض اليدين أثناء القيام في الصلاة. بل هذه جاء فيها عن مالك ما يوافق قول الجمهور.
قال الحافظ ابن حجر :" قال ابن عبد البر : لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلاف ، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين ، وهو الذي ذكره مالك في الموطأ ، ولم يحك ابن المنذر وغيرُه عن مالك غيرَه .
وروى ابن القاسم عن مالك الإرسال ، وصار إليه أكثر أصحابه .
وعنه : التفرقة بين الفريضة والنافلة .
ومنهم من كره الإمساك . ونقل ابن الحاجب أن ذلك حيث يمسك معتمدا لقصد الراحة " .
انتهى من "فتح الباري" ( 2 / 224 ) .
رابعا:
الإمام أبو حنيفة رحمه الله أحد الأئمة الأعيان، والناس في الفقه عيال عليه كما قال الشافعي رحمه الله.
وهو معظّم للكتاب والسنة، ولا يقول إلا بما أداه إليه اجتهاده، فهو بين الأجرين والأجر، إن شاء الله ، وربما فاته شيء من السنة لبعده عن المدينة ، ولهذا قد يخالفه صاحباه إذا وقفا على شيء من السنة لم يبلغه ، وقد يخالفانه لاختلاف النظر والاجتهاد فيما وقفوا عليه جميعا من الأدلة.
ولم نقف على ما ذكرته من تصحيح أحد تلاميذه لجملة من الأحاديث إلخ.
والنصيحة لك أن تقبل على تعلم العلم ، وألا تنشغل باختلاف الأئمة ، فكلهم مجتهدون مأجورون ، والنظر في الاختلاف والأدلة إنما يكون بعد التمكن والإتقان وتحصيل كثير من العلوم كاللغة وأصول الفقه.
نسأل الله لنا ولك التوفيق والسداد.
والله أعلم.
*عبدالرحمن*
2018-03-10, 05:05
هل للمأموم أن يقرأ من المصحف خلف إمامه بغير قراءة الإمام ؟
السؤال
أصلي مقتدياً خلف الإمام في صلاة التراويح ، ولكن بعد تأمينه وقراءتي الفاتحة أقرأ من مصحف في يدي من ختمتي الخاصة ، ثم أتابع الإمام في سائر الصلاة ، فهل يجوز قراءتي بعد الفاتحة من مصحفي مع العلم أني أقرأ بسورة مختلفة عما يقرأ الإمام ؟.
الجواب
الحمد لله
أولاً :
الواجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة ثم ينصت لقراءة إمامه ، ولا يجوز له أن يقرأ زيادة على الفاتحة ، سواء قرأها من حفظه أم من مصحف .
فقد أمرَ الله تعالى المصلِّين وغيرهم أن يستمعوا وينصتوا إذا قُرِئ عليهم القرآن ، فقال تعالى : ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) الأعراف/204 .
وهكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فعَنْ أَبِي موسى الأشعري رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا ، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا ) رواه مسلم ( 404 ) .
ولا يُستثنَى من هذا إلا قراءة الفاتحة فقط .
فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ : كُنَّا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ ، فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ : ( لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُونَ خَلْفَ إِمَامِكُمْ ؟) قُلْنَا : نَعَمْ ، هَذًّا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : ( لا تَفْعَلُوا إِلا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ، فَإِنَّهُ لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا ) رواه أبو داود ( 823 ) وصححه الشيخ ابن باز في "فتاواه" (11/221) .
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله :
" لا يجوز للمأموم في الصلاة الجهرية أن يقرأ زيادة على الفاتحة بل الواجب عليه بعد ذلك الإنصات لقراءة الإمام لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُونَ خَلْفَ إِمَامِكُمْ ) قُلْنَا : نَعَمْ ، قَالَ : ( لا تَفْعَلُوا إِلا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا ) ، ولقول الله سبحانه : ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) وقوله صلى الله عليه وسلم : ( إِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا ) .
وإنما يستثنى من ذلك قراءة الفاتحة فقط للحديث السابق ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ ) متفق على صحته " انتهى .
" مجموع فتاوى الشيخ ابن باز " ( 11 / 234 ) .
ثانياً :
وقد سبق في جواب السؤال رقم (52876) أنه ينبغي للمأموم ألا يحمل المصحف خلف إمامه ، وأن حمله له خلاف السنة ، هذا إذا كان سيتابع قراءة إمامه ، إما إذا كان سيحمل المصحف ويقرأ غير قراءة الإمام فقد سبق أن ذلك حرام ، لأنه لا يجوز للمأموم في الصلاة الجهرية أن يزيد على قراءة الفاتحة .
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-10, 05:09
قراءة الفاتحة في الصلاة
السؤال
سؤالي يتعلق بالطريقة الصحيحة لتأدية صلاة الفريضة خلف الإمام ، وبالتحديد قراءة سورة الفاتحة .
1- هل يجب علينا أن نقرأ سورة الفاتحة بصوت منخفض والإمام يقرأ بها جهرا خلال الركعتين الأوليتين من صلوات الفريضة ؟
2- هل يجب علينا أن نقرأ سورة الفاتحة في نفس الحالة لكن في الركعة الثالثة أو الركعة الرابعة ، أي في الركعات التي يُسرّ فيها الإمام بالقراءة ؟
لقد أثير هذا السؤال نتيجة لأن جماعة الحي السكني ترغب في تصحيح طريقة صلاتنا . وأهل الحي على رأيين ، أحدهما هو : إذا كان الإمام يصلي فإن علينا أن نستمع فقط سواء أكان يقرأ جهرا (الركعتين الأولى والثانية) أو سرا (في الثالثة والرابعة) ؛ أما أصحاب الرأي الآخر فقالوا بأن الصلاة لا تقبل بدون قراءة سورة الفاتحة ، سواء أقرأ بها الإمام جهرا أم سرا .
أرجو أن تبين لنا الصواب وتزودنا بأكبر عدد ممكن من الدلائل ..
الجواب
الحمد لله
قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة في كل ركعة في حق الإمام والمنفرد ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا صَلاة لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ) رواه البخاري (الأذان/714) ، أما قراءة الفاتحة للمأموم خلف الإمام في الصلاة الجهرية فللعلماء فيها قولان :
القول الأول : أنها واجبة ، والدليل عليها عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) ولمّا علّم النبي صلى الله عليه وسلم المُسِيء صلاته ، أمره بقراءة الفاتحة .
وصحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرؤها في كل ركعة ، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري : " وَقَدْ ثَبَتَ الإِذْنُ بِقِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ الْفَاتِحَةَ فِي الْجَهْرِيَّةِ بِغَيْرِ قَيْد , وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ فِي " جُزْء الْقِرَاءَة " وَاَلتِّرْمِذِيّ وَابْن حِبَّانَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ رِوَايَة مَكْحُول عَنْ مَحْمُود بْن الرَّبِيع عَنْ عُبَادَة " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فِي الْفَجْرِ , فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ : لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُونَ خَلْفَ إِمَامِكُمْ ؟ قُلْنَا : نَعَمْ . قَالَ : فَلَا تَفْعَلُوا إِلا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ , فَإِنَّهُ لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا " ا.هـ .
القول الثاني : أن قراءة الإمام قراءة للمأموم ، والدليل على ذلك قول الله تعالى : ( وإذا قُرِئ القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون ) الأعراف /204 ، قال ابن حجر : " وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَسْقَطَهَا عَنْهُ فِي الْجَهْرِيَّةِ كَالْمَالِكِيَّةِ بِحَدِيث ( وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا ) وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِي .
والذين يقولون بوجوبها ، فإنهم يقولون إنها تُقرأ بعد أن يفرغ الإمام من قراءة الفاتحة ، وقبل أن يَشْرَع في قراءة السورة الأخرى ، أو أنها تُقرأ في سَكَتَاتِ الإمام قال ابن حجر : " يُنْصِتُ إِذَا قَرَأَ الإِمَام وَيَقْرَأُ إِذَا سَكَتَ " إ.هـ . قال الشيخ ابن باز : المقصود بسكتات الإمام أي سكتة تحصل من الإمام في الفاتحة أو بعدها ، أو في السورة التي بعدها ، فإن لم يسكت الإمام فالواجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة ولو في حال قراءة الإمام في أصح قولي العلماء .
انظر فتاوى الشيخ ابن باز ج/11 ص/221
وقد سئلت اللجنة الدائمة عن مثل هذا السؤال فأجابت :
الصحيح من أقوال أهل العلم وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة على المنفرد والإمام والمأموم في الصلاة الجهرية والسرية لصحة الأدلة الدالة على ذلك وخصوصها ، وأما قول الله تعالى : ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ) فعام ، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( وإذا قرأ فأنصتوا )
عام في الفاتحة وغيرها . فيخصصان بحديث : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) جمعا بين الأدلة الثابتة ، وأما حديث : ( من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة ) فضعيف ، ولا يصح ما يقال من أن تأمين المأمومين على قراءة الإمام الفاتحة يقوم مقام قراءتهم الفاتحة ، ولا ينبغي أن تجعلوا خلاف العلماء في هذه القضية وسيلة إلى البغضاء والتفرق والتدابر ، وإنما عليكم بمزيد من الدراسة والاطّلاع والتباحث العلمي
وإذا كان بعضكم يقلّد عالماً يقول بوجوب قراءة الفاتحة على المأموم في الصلاة الجهرية وآخرون يقلدون عالماً يقول بوجوب الإنصات للإمام في الجهرية والاكتفاء بقراءة الإمام للفاتحة فلا بأس بذلك ، ولا داعي أن يشنِّع هؤلاء على هؤلاء ولا أن يتباغضوا لأجل هذا .
وعليهم أن تتسع صدورهم للخلاف بين أهل العلم ، وتتسع أذهانهم لأسباب الخلاف بين العلماء ، واسألوا الله الهداية لما اختلف فيه من الحق إنه سميع مجيب ، وصلى الله على نبينا محمد
*عبدالرحمن*
2018-03-10, 05:14
هل كانت قراءة الفاتحة للمأموم في الصلاة الجهرية واجبة أول الأمر ، ثم نُسخت ؟
السؤال:
هل قراءة الفاتحة في الصلاة الجهرية واجبة في حق المأموم ؟
لقد كنت أقرؤها باستمرار ، فنبهني أحد أساتذتي إلى أنه لا يجب قراءتها ، مشيرا إلى كلام للشيخ الألباني ذكر فيه أن قراءتها كان واجبا في أول الأمر ثم نُسخ . فأرجو توضيح المسألة بالدليل مع التعرض لرأي الألباني ، لأني أريد عرض ما ستقولون على الأستاذ .
الجواب:
الحمد لله
أولا :
سبق أن ذكرنا اختلاف العلماء في هذه المسألة ، وشيئا من الأدلة التي استدلوا بها ، وأن الراجح هو وجوب قراءة الفاتحة على المأموم في الصلاة الجهرية
ثانيا :
أما الشيخ الألباني رحمه الله ، فإنه يرى أن القراءة خلف الإمام منسوخة ، واستدل على ذلك بما رواه أبو داود (826) ، والترمذي (312) ، وأحمد (7270) ، وابن حبان (1851) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ: ( هَلْ قَرَأَ مَعِيَ أَحَدٌ مِنْكُمْ آنِفًا؟ ) ، فَقَالَ رَجُلٌ : نَعَمْ ، يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ: ( إِنِّي أَقُولُ مَالِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ؟ ) ، قَالَ: فَانْتَهَى النَّاسُ عَنِ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِرَاءَةِ مِنَ الصَّلَوَاتِ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " .
غير أن العلماء بينوا أن قوله في الحديث : " فَانْتَهَى النَّاسُ عَنِ الْقِرَاءَةِ ... إلخ" ليس من كلام أبي هريرة رضي الله عنه ، وإنما هو من كلام ابن شهاب الزهري رحمه الله ، فلا يكون فيه حجة حينئذ .
قال أبو داود بعد روايته للحديث :
"سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ، قَالَ: قَوْلُهُ: "فَانْتَهَى النَّاسُ" مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ " .
وهكذا قال الترمذي أيضا :
" وَرَوَى بَعْضُ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ هَذَا الحَدِيثَ، وَذَكَرُوا هَذَا الحَرْفَ: قَالَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: "فَانْتَهَى النَّاسُ عَنِ القِرَاءَةِ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" .
وقال البيهقي في "السنن" (2/ 226):
" حَفِظَ الْأَوْزَاعِيُّ كَوْنَ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ، فَفَصَلَهُ عَنِ الْحَدِيثِ "
وقال ابن عبد البر رحمه الله :
" وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : " فَانْتَهَى النَّاسُ عَنِ الْقِرَاءَةِ " إِلَى آخَرِ الْحَدِيثِ : فَأَكْثَرُ رُوَاةِ ابن شهاب عنه لهذا الحديث يجعلونه من كلام ابن شِهَابٍ "
انتهى من"الاستذكار" (1/ 464).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" قَوْلُهُ : " فَانْتَهَى النَّاسُ " إلَى آخِرِهِ ، مُدْرَجٌ فِي الْخَبَرِ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ ، بَيَّنَهُ الْخَطِيبُ ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ ـ فِي التَّارِيخِ ـ وَأَبُو دَاوُد وَيَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ وَالذُّهْلِيُّ وَالْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُمْ " .
انتهى من "التلخيص الحبير" (1/ 565) .
وقال ابْن الْمُلَقِّنِ رحمه الله :
" قَوْلهُ: " فَانْتَهَى النَّاسُ" إِلَخْ ، هُوَ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ لَا مَرْفُوعًا، قَالَهُ الْبُخَارِيُّ ، وَالذَّهَبِيُّ ، وَابْنُ فَارِسٍ ، وَأَبُو دَاوُدَ ، وَابْنُ حِبَّانَ ، وَالْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُمُ "
انتهى من "مرقاة المفاتيح" (2/ 701) .
ومما يدل على أن هذا الكلام ليس من قول أبي هريرة رضي الله عنه ، أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يأمر بقراءة الفاتحة خلف الإمام .
قال البيهقي في "المعرفة" (3/ 77) :
" كَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَأْمُرُ بِالْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ ، فِيمَا جَهَرَ بِهِ وَفِيمَا خَافَتَ ؟ " انتهى .
وقد روى النسائي في "الكبرى" (2895) حديث أبي هريرة هذا وضعفه قائلا :
" فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ راويه : ابْنُ أُكَيْمَةَ اللَّيْثِيِّ ، وَهُوَ رَجُلٌ مَجْهُولٌ لَمْ يُحَدِّثْ إِلَّا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَحْدَهُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ عَنْهُ غَيْرُ الزُّهْرِيِّ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ رَآهُ يُحَدِّثُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ . وقَالَ الْحُمَيْدِيُّ فِي حَدِيثِ ابْنِ أُكَيْمَةَ: هَذَا حَدِيثٌ رَوَاهُ رَجُلٌ مَجْهُولٌ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ غَيْرُهُ قَطُّ .
قَالَ النسائي : فِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي السَّائِبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ ) فَقُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ: إِنِّي أَكُونُ أَحْيَانًا وَرَاءَ الْإِمَامِ قَالَ: فَغَمَزَ ذِرَاعِي وَقَالَ: " يَا فَارِسِيُّ: اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ "
وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَاوِي الْحَدِيثَيْنِ، وهذا دَلِيلٌ عَلَى ضِعْفِ رِوَايَةِ ابْنِ أُكَيْمَةَ ، أَوْ أَرَادَ بِمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ أُكَيْمَةَ الْمَنْعَ عَنِ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ ، أَوِ الْمَنْعَ عَنْ قِرَاءَةِ السُّورَةِ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ بِالْقِرَاءَةِ " انتهى .
فالحاصل :
أن الصحيح أن هذا الكلام مدرج من كلام الزهري ، وليس من كلام أبي هريرة رضي الله عنه .
وعلى فرض أنه صحيح من قول أبي هريرة ، فالمراد به : النهي عن الجهر بالقراءة خلف الإمام ، أو النهي عن قراءة سورة بعد الفاتحة ، أو نحو ذلك .
وأما المنع من قراءة الفاتحة ، والقول بأنه منسوخ - كما ذهب إليه الشيخ الألباني رحمه الله في "صفة الصلاة" (ص97) فقد تبين ما فيه ، وعدم صحة الأصل الذي بني عليه .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" وأما حديث أبي هريرة الذي في السنن أيضا وفيه أنه قال .. : ( فانتهى الناس عن القراءة فيما يجهر به النبي صلى الله عليه وسلم ) ؛ فالمراد بالقراءة التي انتهى الناس عنها : هي قراءة غير الفاتحة؛ لأنه لا يمكن أن ينتهوا عن قراءة سورة قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها).
ولهذا كان الصواب أن قول من ادعى أنه منسوخ، أي أن القراءة خلف الإمام الذي يجهر منسوخة . قوله هذا ليس بصواب ؛ لأنه لا يمكن ادعاء النسخ مع إمكان الجمع ، ومن المعلوم أنه إذا أمكن الجمع بطريق التخصيص ، فإنه لا يصار إلى النسخ " .
انتهى من "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (13/ 131) .
أن الاستدلال بهذا الحديث على نسخ القراءة خلف الإمام : غير ظاهر ، ولا متجه ؛ لأن هذا القول لم يثبت أنه من كلام أبي هريرة ، وإنما هو من كلام الزهري .
وعلى فرض أنه من كلام أبي هريرة : فالمراد أن الناس انتهوا عن قراءة ما زاد على الفاتحة ، حتى يُجمع بذلك بين جميع الأدلة الواردة في هذه المسألة .
وينبغي أن يتنبه أن هذه المسألة هي من مسائل الاجتهاد ، فمن كان عنده القدرة على النظر في الأدلة والترجيح بينها : فإنه يعمل بما ترجح لديه ، ومن لم يكن عنده القدرة على ذلك فإنه يقلد عالما يثق في دينه وعلمه ، ولا يجوز أن تُتخذ هذه المسألة الاجتهادية مثارا للطعن في العلماء ، أو الجدال المؤدي إلى التعصب والتفرق واختلاف القلوب
.
والله تعالى أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-10, 05:18
هل يقرأ المأموم الفاتحة أم يستمع لقراءة الإمام؟
السؤال
أمر الله سبحانه وتعالى بالاستماع والتزام الصمت والقرآن يقرأ ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) كما أن النبي صلى الله عليه وسلم حذرنا من أن الصلاة التي لا يقرأ فيها بالفاتحة تبطل .
أرجو أن تخبرني ماذا أفعل دون الوقوع في ما يتعارض مع أي من هذين الأمرين إذا كان الإمام لا يترك مجالا للمأمومين لقراءة الفاتحة ؟ وما هو الصحيح في المسألة ؟
الجواب
الحمد لله
أولا :
سبق في جواب السؤال السابق بيان أن قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة في حق الإمام والمأموم والمنفرد .
ثانياً :
وأما السكتة التي يسكتها بعض الأئمة بعد قراءتهم للفاتحة ، فليس سكتة طويلة يتمكن المأموم فيها من قراءة الفاتحة ، وإنما هي سكتة يسيرة ، يحصل بها الفصل بين قراءة الفاتحة ، وقراءة السورة .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
"السكتة بين قراءة الفاتحة ، وقراءة سورة لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، على ما ذهب إليه بعض الفقهاء من أن الإمام يسكت سكوتا يتمكن به المأموم من قراءة الفاتحة ، وإنما هو سكوت يسير يتراد به النفس من جهة ، ويفتح الباب للمأموم من جهة أخرى ، حتى يشرع في القراءة ويكمل ، ولو كان الإمام يقرأ ، فهي سكتة يسيرة ليست طويلة " انتهى.
"فتاوى أركان الإسلام" (ص323-324 ) .
فإذا كان الإمام لا يسكت سكتة طويلة بعد قراءة الفاتحة ، فإن المأموم عليه أن يقرأ الفاتحة ، ولو مع قراءة الإمام السورة ، لأن هذا هو الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في صلاة الفجر .
روى أبو داود (823) عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ : كُنَّا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ ، فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ : ( لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُونَ خَلْفَ إِمَامِكُمْ ! قُلْنَا : نَعَمْ ، يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ : لَا تَفْعَلُوا إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ، فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا ) .
وقد حسنه الترمذي وصححه البيهقي والخطابي وغيرهم ، وهو نص في وجوب قراءة الفاتحة على المأموم في الصلاة الجهرية.
قال الشيخ ابن باز :
" فإن لم يسكت الإمام فالواجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة ولو في حال قراءة الإمام في أصح قولي العلماء "
انتهى من "فتاوى الشيخ ابن باز" (11/221) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
"فإن قيل : إذا كان الإمام لا يسكت فمتى يقرأ المأموم الفاتحة ؟
فنقول : يقرأ الفاتحة والإمام يقرأ ؛ لأن الصحابة كانوا يقرؤون مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : ( لا تفعلوا إلا بأم القرآن ؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها ) " انتهى .
"فتاوى أركان الإسلام" ( ص322 ) .
وأما قوله تعالى : (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) فهذا عام مخصوص بغير الفاتحة ، بمعنى أنه يجب الإنصات لقراءة الإمام القرآن في الصلاة إلا إذا كان المأموم يقرأ الفاتحة فقط ، بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لَا تَفْعَلُوا إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ، فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا ) وكان ذلك في صلاة الفجر ، وهي صلاة جهرية كما هو معلوم .
فيكون المأموم مأمور بالإنصات إلا عن قراءة الفاتحة .
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-10, 05:24
يسأل عن المسائل التي اختلف فيها الأئمة الأربعة
السؤال:
ما النقاط التي اختلف فيها الأئمة الأربعة ؟ وما الأدلة الصحيحة لكل منهم في ذلك ؟
لأن معرفة ذلك سيساعدني كثيراً في توضيح مسألة ضرورة التقليد الأعمى واتباع مذهب بعينه ، وهي مسألة كثيراً ما يثيرها المسلمون ويدعون إليها .
الجواب :
الحمد لله :
أولا : النقاط التي اختلف فيها الأئمة الأربعة المتبعون كثيرة ولا يمكن تتبعها في جميع أبواب الفقه في مثل هذا الجواب ، مع أن الوقوف عليها ممكن في كتب الخلاف ، مثل : :المغني" لابن قدامة ، و"بداية المجتهد" لابن رشد ، ونحوهما .
ولكن من الممكن هنا تسليط الضوء على بعض أسباب اختلاف الفقهاء بصفة عامة ، فمن أسباب اختلافهم على سبيل المثال :
1. تعارض الأدلة الشرعية في نظر المجتهد ، فتختلف طرائق الفقهاء في الترجيح أو الجمع بينها , قال علماء اللجنة الدائمة في بيان أسباب اختلاف العلماء : " تعارض الأدلة: فيختلف نظر الفقهاء في الترجيح أو الجمع بينها ، مثل : حديث النهي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ، وحديث نهي من دخل المسجد عن الجلوس حتى يصلي ركعتين تحية للمسجد ؛ فاختلف الفقهاء في تطبيق ذلك على من دخل المسجد في وقت نهي عن الصلاة فيه ، فمنهم من قدم أحاديث النهي عن الصلاة ، ومنهم من قدم حديث تحية المسجد ، ولكل أدلة في ترجيح ما اختاره".
انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" - 1 (5 / 31).
2. اختلاف يرجع إلى اللغة العربية ، كاختلافهم في تفسير "المشترك" في اللغة ، وهو اللفظ الذي يدل في اللغة على معنيين أو أكثر ، مثل قوله تعالى ( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ ) البقرة/ 228 ، فلفظ "القرء" في اللغة العربية مشترك بين معنيين ، يطلق لغة على الطهر ، وعلى الحيض أيضا ، والنص دل على أن المطلقات يتربصن ثلاثة قروء ، فيحتمل أن يراد ثلاثة أطهار ، ويحتمل أن يراد ثلاث حيضات
وقد سبق بيان ذلك في الفتوى رقم (170581) . يقول ابن القيم – رحمه الله – في الصواعق المرسلة (2 / 565): " ومن هذا : الخلافُ العارض من جهة كون اللفظ مشتركا أو مجملا أو مترددا بين حمله على معناه عند الإطلاق ، وهو المسمى بالحقيقة ، أو على معناه عند التقييد ، وهو المسمى بالمجاز ، كاختلافهم في المراد من القرء : هل هو الحيض ، أو الأطهار ، ففهمت طائفة منه الحيض ، وأخرى الطهر" انتهى.
3. اختلافهم في الأدلة الإجمالية من حيث الاعتبار وعدمه ، مثال ذلك : عمل أهل المدينة فيما كان طريقه النقل ، فقد كان الإمام مالك - رحمه الله - شديد الاعتناء بعمل أهل المدينة ، ويرى أنه حجة في دين الله تعالى ، وأنه لا يجوز مخالفة جماعتهم .
4. اختلاف يرجع إلى التفاوت في الإحاطة بالعلم ، وقوة الفهم في النصوص الشرعية ، قال علماء اللجنة الدائمة: " أما أسباب اختلاف العلماء فكثيرة ، منها : أن كل واحد منهم لا يحيط بالعلم كله ، فقد يخفى عليه ما علم غيره ، وقد يفهم من النصوص ما لا يفهمه غيره عندما يختفي عليه الدليل الواضح ".
انتهى من فتاوى اللجنة الدائمة - 1 (2 / 178).
5. اختلاف يرجع إلى السنة المطهرة ؛ كاختلافهم في تصحيح الحديث أو تضعيفه ، يقول ابن القيم – رحمه الله – في الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (2 / 556) وهو يوضح أسباب الخلاف : " السبب الثالث: اعتقاد ضعف الحديث باجتهاد قد خالفه فيه غيره , فقد يعتقد أحد المجتهدين ضعف رجل ويعتقد الآخر ثقته وقوته , وقد يكون الصواب مع المضعِّف ؛ لاطِّلاعه على سببٍ خَفِيَ على الموثق , وقد يكون الصواب مع الآخر لعلمه بأن ذلك السبب غير قادح في روايته وعدالته" انتهى. وكاشتراط بعضهم في خبر الواحد شروطاً لا يشترطها غيره
, قال ابن القيم – رحمه الله
– في الصواعق المرسلة (2 / 559) : "السبب الرابع : اشتراط بعضهم في خبر الواحد العدل شروطا يخالفه فيها غيره ، كاشتراط بعضهم أن يكون الراوي فقيها إذا خالف ما رواه القياس ، واشتراط بعضهم انتشار الحديث وظهوره إذا كان مما تعم به البلوى ، واشتراط بعضهم أن لا يكون الحديث قد تضمن زيادة على نص القرآن لئلا يلزم منه نسخ القرآن به ، وهذه مسائل معروفة" انتهى.
6. اختلافهم فيما يتعلق بالقواعد الأصولية ؛ كاختلافهم في المراد بنص معين هل هو باق على عمومه أم دخله التخصيص ؟ وهل باق على إطلاقه أم قُيِّد بنص آخر ، وكاختلافهم في دلالة الأمر والنهي ، واختلافهم في المنطوق والمفهوم ، إلي غير ذلك .
والله أعلم.
*عبدالرحمن*
2018-03-10, 05:32
هل يلزم أهل كل بلد بمذهب فقهي معين ؟
السؤال
هل ملزم كل بلد بتتبع مذهب خاص به ، ومحاولة تعليمه للآخرين دون ذكر جميع المذاهب ، مثلا ذكر حكم خاص بأمر شرعي قاله أحده المذاهب دون الآخرين . وجزاكم الله خيرا .
الجواب
الحمد لله
الناس في البلاد – من حيث الاجتهاد والتقليد - على قسمين اثنين :
الأول : علماء مجتهدون في الشريعة ، بلغوا من العلم والمعرفة حدًّا ملكوا به أدوات الاجتهاد والاستنباط ، فهؤلاء فرضهم اتباع الحق الذي يرونه بدليله .
والقسم الثاني - وهو السواد الأعظم من الناس - : من لم يتخصص بدراسة العلوم الشرعية أو لم يبلغ فيها درجة الاجتهاد وأهلية الفتوى : من عامة الناس أو المثقفين والمتخصصين في العلوم الأخرى .
فهؤلاء فرضهم – الشرعي والطبيعي – سؤال أهل العلم ، والأخذ عنهم ، نجد ذلك في قول الله سبحانه وتعالى : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) النحل/43
إذا فأهل كل بلد ملزمون بسؤال أهل العلم واتباع فتاواهم ، ولكنها ليست تبعية مطلقة تضفي على المتبوع صفة العصمة والقداسة وحق التشريع والتصرف في دين الله – كما وقع في ذلك اليهود والنصارى والرافضة وغلاة الصوفية والباطنية – فإن ذلك خروج عن الدين ، واتخاذ للأنداد والشركاء والأرباب من دون الله ، والله سبحانه وتعالى يقول : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) التوبة/31
وإنما المقصود من لزوم اتباع فتاوى العلماء هو الوصول إلى تعلم الحكم الشرعي من طريق المتخصصين الذين درسوا قواعد الشريعة وأصولها وبلغوا الأهلية فيها بالعلم المبني على الدليل ، وليس بالقداسة الممنوحة باسم الرب أو باسم الولاية ونحو ذلك من الأباطيل .
يقول ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (20/211) :
" الله سبحانه وتعالى فرض على الخلق طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى كان صِدِّيق الأمة وأفضلها بعد نبيها يقول : أطيعوني ما أطعت الله ، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم . واتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصوما في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال غير واحد من الأئمة : كل أحدٍ مِن الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " انتهى .
ثانيا :
يبقى السؤال في تعيين أهل العلم أو المرجعية العلمية التي ينبغي الاعتماد عليها :
فيمكن القول بأن هناك مرجعيتين ينبغي الرجوع إليهما على مستوى الأمة والأفراد ، وهي :
1- المرجعية المعاصرة : المتمثلة في المجامع الفقهية واللجان الشرعية التي يقوم عليها أهل العلم والديانة والأمانة ، وكذلك أفراد العلماء وأصحاب الكفاءات من المتخصصين في العلوم الشرعية : فهؤلاء لهم حظ وافر من لزوم أخذ الناس عنهم والاستفادة من توجيهاتهم ، خاصة في أمور الناس الحياتية اليومية ، وفي النوازل الفقهية والقضايا المعاصرة ، وأيضا في المسائل التي تحتاج إلى إعادة النظر والاجتهاد فيها في ضو
الأدلة الشرعية والعقلية التي تراعي المصالح وتدرء المفاسد ، وترفع الحرج وتجتنب المشقة والضرر ، إذا كان تقليد أحد المذاهب الأربعة فيها يسبب الحرج والضيق ، فالشريعة مبنية على التيسير ، وليس فيها عنت ولا حرج .
2- المرجعية التراثية : المتمثلة في المذاهب الأربعة المشهورة : الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي ، وهذه المرجعية لها الحظ الأكبر والنصيب الأوفر من لزوم اتباع الناس لها والأخذ بما فيها : فإن القوانين التي يتواضع الناس في الرجوع إليها وتحكيمها ، ومناهج التعليم التي تقرر على طلبة العلم في حلق المساجد والمدارس
ومراتب التنشئة العلمية التي يتدرج فيها المتخصصون في علوم الفقه والشريعة ، والتراث الذي ينبغي أن يستقر في أذهان العوام ويشكل ثقافتهم الفقهية ، والمنهل الذي يؤوب إليه كل من لا يجد الفرصة من المجتهدين لدراسة المسائل الكثيرة والوصول إلى نتيجة فيها ، والانضباط الذي يحسم الشقاق والنزاع في المجتمع ، ويسد على الأهواء والآراء الشاذة الأبواب ، كل ذلك يمنح هذه المرجعية المتمثلة في المذاهب الأربعة المساحة الأرحب في لزوم التقليد وضرورة الاتباع .
يقول الحافظ ابن رجب في رسالة له اسمها "الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة" (2/624) – مطبوعة ضمن مجموع رسائله - :
" فاقتضت حكمة الله سبحانه أن ضبط الدين وحفظه : بأن نصب للناس أئمة مجتمعاً على علمهم ودرايتهم وبلوغهم الغاية المقصودة في مرتبة العلم بالأحكام والفتوى ، من أهل الرأي والحديث ، فصار الناس كلهم يعولون في الفتاوى عليهم ، ويرجعون في معرفة الأحكام إليهم ، وأقام الله من يضبط مذاهبهم ويحرر قواعدهم ، حتى ضبط مذهب كل إمام منهم وأصوله وقواعده وفصوله ، حتى ترد إلى ذلك الأحكام ويضبط الكلام في مسائل الحلال والحرام .
وكان ذلك من لطف الله بعباده المؤمنين ، ومن جملة عوائده الحسنة في حفظ هذا الدين .
ولولا ذلك لرأى الناس العجاب مِن كل أحمق متكلف معجبٍ برأيه جريء على الناس وثَّاب .
فيدعي هذا أنه إمام الأئمة ، ويدعي هذا أنه هادي الأمة ، وأنه هو الذي ينبغي الرجوع دون الناس إليه ، والتعويل دون الخلق عليه .
ولكن بحمد الله ومنته انسد هذا الباب الذي خطره عظيم وأمره جسيم ، وانحسرت هذه المفاسد العظيمة ، وكان ذلك من لطف الله تعالى لعباده ، وجميل عوائده وعواطفه الحميمة .
ومع هذا فلم يزل يظهر من يدعي بلوغ درجة الاجتهاد ، ويتكلم في العلم من غير تقليدٍ لأحد من هؤلاء الأئمة ولا انقياد .
فمنهم من يسوغ له ذلك لظهور صدقه فيما ادعاه ، ومنهم من رد عليه قوله وكذب في دعواه ، وأما سائر الناس ممن لم يصل إلى هذه الدرجة ، فلا يسعه إلا تقليد أولئك الأئمة ، والدخول فيما دخل فيه سائر الأمة " انتهى .
ويقول أيضا (2/628) :
" فإن قيل : فما تقولون في نهي الإمام أحمد وغيره من الأئمة عن تقليدهم وكتابة كلامهم ، وقول الإمام أحمد : لا تكتب كلامي ولا كلام فلان وفلان ، وتعلم كما تعلمنا . وهذا كثير موجود في كلامهم ؟
قيل : لا ريب أن الإمام أحمد رضي الله عنه كان ينهى عن آراء الفقهاء والاشتغال بها حفظاً وكتابة ، ويأمر بالاشتغال بالكتاب والسنة حفظاً وفهماً وكتابة ودراسة ، وبكتابة آثار الصحابة والتابعين دون كلام مَن بعدهم ، ومعرفة صحة ذلك من سقمه ، والمأخوذ منه والقول الشاذ المطرح منه ، ولا ريب أن هذا مما يتعين الاهتمام به والاشتغال بتعلمه أولاً قبل غيره .
فمن عرف ذلك وبلغ النهاية من معرفته - كما أشار إليه الإمام أحمد - فقد صار علمه قريباً من علم أحمد ، فهذا لا حجر عليه ولا يتوجه الكلام فيه ، إنما الكلام في منع من لم يبلغ هذه الغاية ، ولا ارتقى إلى هذه النهاية ، ولا فهم من هذا إلا النزر اليسير ، كما هو حال أهل هذا الزمان ، بل هو حال أكثر الناس منذ أزمان ، مع دعوى كثير منهم الوصول إلى الغايات والانتهاء إلى النهايات ، وأكثرهم لم يرتقوا عن درجة البدايات " انتهى .
والناظر في تاريخ الفقه والتشريع يجد أنه قد بني في جميع مراحله على مجموعة من أهل العلم الذين اشتهر في الناس علمهم ، وذاع في الآفاق فضلهم وورعهم ، يأخذون عنهم أحكام الدين ، ويرجعون في الغالب إلى تقريرهم وفتاواهم
.
يقول ابن القيم في "إعلام الموقعين" (1/17) :
" والدين والفقه والعلم انتشر في الأمة عن أصحاب ابن مسعود ، وأصحاب زيد بن ثابت ، وأصحاب عبد الله بن عمر ، وأصحاب عبد الله بن عباس ، فعلم الناس عامته عن أصحاب هؤلاء الأربعة ، فأما أهل المدينة فعلمهم عن أصحاب زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر ، وأما أهل مكة فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن عباس ، وأما أهل العراق فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن مسعود " انتهى .
وقال العلامة المحقق أحمد باشا تيمور رحمه الله في " المذاهب الفقهية الأربعة " (16-17) :
" وكانت الفتيا ـ قبل حدوث هذه المذاهب تؤخذ في عصر الصحابة والتابعين عن القراء منهم ، وهم الحاملون لكتاب الله العارفون بدلائله ؛ فلما انقضى عصرهم ، وخلف من بعدهم التابعون ، اتبع أهل كل مصرٍ فتيا من كان عندهم من الصحابة ، لا يعتدونها إلا في اليسير مما بلغهم عن غيرهم ؛ فاتبع أهل المدينة في الأكثر فتاوى عبد الله بن عمر ، وأهل الكوفة فتاوى عبد الله بن مسعود ، وأهل مكة فتاوى عبد الله بن عباس ، وأهل مصر فتاوى عبد الله بن عمرو بن العاص .
وأتى بعد التابعين فقهاء الأمصار ، كأبي حنيفة ومالك وغيرهما ممن ذكرناهم ، وممن لم نذكرهم ، فاتبع أهل كل مصر مذهب فقيه في الأكثر ، ثم قضت أسباب بانتشار بعض هذه المذاهب في غير أمصارها ، وبانقراض بعضها .. " انتهى .
ولا يعني ذلك التعصب إلى واحد من المذاهب والأقوال ، بحيث نوجب على الناس اتباعه حرفيا دون اجتهاد ولا تصويب ولا تعديل ، بل المقصود أن المدرسة الفقهية التي ينبغي أن يتخرج الناس وطلبة العلم والعلماء عليها ينبغي أن تكون مأخوذة عن واحد من المذاهب الأربعة ، ثم إن تبين – لمن لديه أهلية الاجتهاد – خطأ المذهب في مسألة معينة ترك تلك الفتوى ، وأخذ بما يراه صوابا من المذاهب الأخرى .
وبهذا يحتفظ الناس بالسبيل العلمي الذي سار عليه السلف والأئمة ، ويتخلصوا من بعض السلبيات التي أنتجها الجهل والتعصب .
جاء في "فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم" (2/10 ش2) :
" التمذهب بمذهب من المذاهب الأَربعة سائغ ، بل هو كالإجماع ، ولا محذور فيه ، كالانتساب إِلى أَحد الأَربعة ، فإِنهم أَئمة بالإِجماع .
والناس في هذا طرفان ووسط :
قوم لا يرون التمذهب بمذهب مطلقًا : وهذا غلط .
وقوم جمدوا على المذاهب ولا التفتوا إلى بحث .
وقوم رأَوا أَن التمذهب سائغ لا محذور فيه ، فما رجح الدليل مع أَي أَحد من الأَربعة أَو غيرهم أَخذوا به ، فالذي فيه نص أَو ظاهر لا يلتفت فيه إِلى مذهب ، والذي لا من هذا ولا من هذا وكان لهم فيه كلام ورأَى الدليل مع مخالفهم أَخذ به " انتهى بتصرف يسير .
وجاء في "فتاوى اللجنة الدائمة" (5/28)
:
" ما حكم التقيد بالمذاهب الأربعة ، واتباع أقوالهم على كل الأحوال والزمان ؟
الجواب : ..
- القادر على الاستنباط من الكتاب والسنة يأخذ منهما كما أخذ من قبله ، ولا يسوغ له التقليد فيما يعتقد أن الحق بخلافه ، بل يأخذ بما يعتقد أنه حق ، ويجوز له التقليد فيما عجز عنه واحتاج إليه ..
- من لا قدرة له على الاستنباط يجوز له أن يقلد من تطمئن نفسه إلى تقليده ، وإذا حصل في نفسه عدم اطمئنان سأل حتى يحصل عنده اطمئنان ...
- يتبين مما تقدم أنه لا تتبع أقوالهم على كل الأحوال والأزمان ؛ لأئهم قد يخطئون ، بل يتبع الحق من أقوالهم الذي قام عليه الدليل " انتهى باختصار ، وتصرف يسير .
وجاء فيها أيضا (5/54-55) :
" وكل هؤلاء كانوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا من أفضل أهل زمانهم رضي الله عنهم ، وقد اجتهدوا في أخذ الأحكام من القرآن وأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام وما أجمعت عليه الصحابة رضوان الله عليهم ، وبينوا للناس الحق ، ونقلت إلينا أقوالهم
وانتشرت بين المسلمين في جميع بلادهم ، وتبعهم كثير ممن جاء بعدهم من العلماء لثقتهم بهم ، وائتمانهم إياهم على دينهم ، وموافقتهم لهم في الأصول التي اعتمدوها ، ونشروا أقوالهم بين الناس ، ومن قلدهم من الأميين وعمل بما عرفه من أقوالهم نسب لمن قلده ، وعليه مع ذلك أن يسأل من يثق به من علماء عصره ، ويتعاون معه على فهم الحق من دليله .
ومما تقدم يتبين أنهم أتباع للرسول صلى الله عليه وسلم ، وليس الرسول تابعا لهم ، بل ما جاء به عن الله من شريعة الإسلام هو الأصل الذي يرجع إليه هؤلاء الأئمة وغيرهم من العلماء رضي الله عنهم ، وكل مسلم يسمى حنيفيا لاتباعه الحنيفية السمحة التي هي ملة إبراهيم وملة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم " انتهى .
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-10, 05:35
هل يقدم المذهب على الحديث
السؤال :
يتعلق سؤالي بالأحاديث وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وبالمذهب، يتبع أهل بلادي مذهب الإمام الشافعي . وفي بعض الحالات فإن المذهب يُقدم على الحديث والسنة، فهل أتبع المذهب أم السنة في هذه الحالة ؟
على سبيل المثال ، ينتقض وضوء الرجل، في المذهب الشافعي، إذا لمس الرجل امرأة عامدا أو عن طريق الخطأ ، وسواء أكانت من المحارم أم ليست من المحارم . وقد وجدت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرك رجل عائشة رضي الله عنها أثناء تأديته لصلوات الفجر.
مثلا : يُعلم المسلمون في بلادي أنه أثناء الحج فإن نية الوضوء تحول من المذهب الشافعي إلى المذهب الحنبلي، وهم يتوضئون كما يفعل أتباع المذهب الحنبلي. والسبب وراء ذلك هو ذاته الوارد في المثال أعلاه. فهل يصح هذا، أي التحول من مذهب لآخر أثناء تأدية الحج؟
مثلا، في المذهب الشافعي، يُعد دعاء القنوت أثناء صلاة الفجر سنة مؤكدة.فهل فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أثناء صلاة الفجر؟ وما هو الحكم في من لا يقنت؟.
الجواب :
الحمد لله
الواجب اتباع ما دلَّ عليه الدليل من الكتاب والسنة وإن خالف المذهب المتبوع ، لكن لابد أن يكون فهم الكتاب والسنة كما فهمه السلف لا بأفهامنا المجردة ، والمقصود بالسلف الصحابة والتابعين .
والمثال الذي ذكرته القول الصحيح أن مس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقاً سواء أكان بشهوة أم بدونها ، لحديث أنه صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه وخرج إلى الصلاة ولم يتوضأ ) إلا أن يخرج منه شيء بسبب الشهوة فيتوضأ لا للمس ولكن للخارج منه .
وأما الآية وهي قوله تعالى : ( أو لامستم النساء ) فالمراد به الجماع على الصحيح .
2- لا تحتاج إلى التحول من مذهب على مذهب وفريضة الحج تُؤدى كما أدها النبي صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم : ( خذوا عني مناسككم ) .
3- القنوت في الفجر الصحيح أنه سنة عند النوازل فقط يعني إذا نزلت بالمسلمين أو بعضهم مصيبة فإنه يستحب أن يُقنَت ويُدعى الله تعالى ليصرفها عنهم ، أما في الحالات المعتادة فالصحيح أنه لا يستحب هذا ما دل عليه الدليل . ومن ترك القنوت فصلاته صحيحة حتى عند الشافعية رحمهم الله .
والله تعالى أعلم .
الشيخ محمد صالح المنجد
*عبدالرحمن*
2018-03-10, 05:39
التقليد واتباع الدليل ، وهل كان ابن حزم حنبليّاً ؟
السؤال
كيف يمكن للشخص أن لا يكون مقلداً وفي نفس الوقت يتبع أحد الأئمة الأربعة ؟
أسأل هذا السؤال لأنني في سيرة ابن حزم قرأت أنه يتبع مذهب الإمام أحمد ولم يكن مقلداً . أرجو أن توضح هذا لي.
الجواب
الحمد لله
أولاً :
المتبعون للمذاهب ليسوا على درجة واحدة ، بل منهم المجتهد في المذهب ، ومنهم المقلد الذي لا يخالف مذهبه في شيء .
فالبويطي والمزني والنووي وابن حجر من أتباع الإمام الشافعي لكنهم مجتهدون ويخالفون إمامهم إذا تبين لهم الدليل وكذلك ابن عبد البر من المالكية لكنه يخالف مالكاً إذا كان الصواب مع غيره ، ومثل هذا يقال في كبار أئمة الحنفية كأبي يوسف ومحمد الشيباني ، وكذا أئمة الحنابلة كابن قدامة وابن مفلح وغيرهم .
فتتلمذ الطالب على مذهب لا يعني أنه لا يخرج عنه إذا تبين له الدليل ، بل لا يفعل هذا إلا من رق دينه وقلَّ عقله من المتعصبة .
ووصية الأئمة الكبار هي أن يأخذ طلاب العلم من حيث أخذوا ، وأن يضربوا قول أئمتهم عرض الحائط إذا خالف حديث النبي صلى الله عليه وسلم .
قال أبو حنيفة : هذا رأيي فمن جاء برأي خير منه قبلناه ، وقال مالك : إنما أنا بشر أصيب وأخطئ , فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة ، وقال الشافعي : إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط , وإذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فهي قولي ، وقال الإمام أحمد : لا تقلدني ولا تقلد مالكاً , ولا الشافعي , ولا الثوري , وتعلم كما تعلمنا , وقال : لا تقلد في دينك الرجال , فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا .
فليس لأحدٍ أن يقلِّد إماماً بعينه لا يخرج عن أقواله ، بل الواجب عليه أن يأخذ بما وافق الحق سواء كان من إمامه أم من غيره .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
وليس على أحدٍ من الناس أن يقلِّد رجلاً بعينه في كل ما يأمر به وينهى عنه ويستحبه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما زال المسلمون يستفتون علماء المسلمين فيقلدون تارة هذا وتارة هذا ، فإذا كان المقلِّد يقلد في مسألة يراها أصلح في دينه أو القول بها أرجح أو نحو ذلك : جاز هذا باتفاق جماهير علماء المسلمين لم يحرم ذلك لا أبو حنيفة ولا مالك ولا الشافعي ولا أحمد .
" مجموع الفتاوى " ( 23 / 382 ) .
وقال الشيخ العلامة سليمان بن عبد الله رحمه الله :
بل الفرض والحتم على المؤمن إذا بلغه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعلم معنى ذلك ، في أي شيء كان ، أن يعمل به ، ولو خالفه من خالفه ، فبذلك أمرنا ربنا تبارك وتعالى ، ونبينا صلى الله عليه وسلم ، وأجمع على ذلك العلماء قاطبة ، إلا جهال المقلدين وجفاتهم ، ومثل هؤلاء ليسوا من أهل العلم
كما حكى الإجماع على أنهم ليسوا من أهل العلم أبو عمر ابن عبد البر وغيره .
" تيسير العزيز الحميد " ( ص 546 ) .
وعلى هذا لا بأس أن يكون المسلم تابعاً لمذهب معين ، ولكن إذا تبين له الحق في خلاف مذهبه ، وجب عليه اتباع الحق .
ثانياً :
أما ابن حزم فقد كان إماماً مجتهداً ، وهو يحرِّم التقليد ، ولم يكن تابعاً لأحد من الأئمة ، لا الإمام أحمد ولا غيره ، بل كان هو إمام أهل الظاهر في زمانه وإلى الآن ، ولعل انتسابه للإمام أحمد ( إن صح هذا النقل ) كان في مسائل العقيدة والتوحيد ، على أن عنده مخالفات ومجازفات كثيرة في مسائل الأسماء والصفات .
وانظر ترجمته في سير أعلام النبلاء ( 18 / 184- 212 )
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-10, 05:41
الالتزام بالمذهب مع العلم بأنه مرجوح
السؤال
ما حكم الالتزام بالمذهب ولو تبيّن أنه مرجوح ؟.
الجواب
الحمد لله
الذي يلتزم بمذهب معين ثم تبين له أنّه مرجوح بمقتضى الأدلة فهذا خطر عظيم على الفاعل ولا يجوز وهذا يدخل في قوله تعالى ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) التوبة/31 وهذا فيه إعراض عن هديه تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
*عبدالرحمن*
2018-03-10, 05:51
مسائل متعددة في الإفتاء والاستفتاء والتقليد
السؤال:
قرأت في مسألة الاختلاف السائغ : عليَّ النظر في الدليل ، ثم اتباع العالم الذي أراه أعلم وأوثق. لكن لي بعض التساؤلات : 1. هل أنا مؤهل للنظر في الأدلة أم لا ؛ فإني في بداية طلب العلم الذي ينفعني ولم أبدأ بحفظ القرآن ودراسة أصول الفقه ؟
2. هل يجوز لي ان أتبع موقع إنترنت ثقة مشرف عليه عالم ثقة عوضاً عن إتباع عالم
، 3. في حالة عدم وجود الحكم في مسألة معينة عند العالم الذي أتبعه : هل يجوز لي أن آخذ الحكم من عالم آخر ؟ .
4. في حالة وجود الحكم في مسألة معينة عند عالم ثقة لكن ليس الذي أتبعه هل عليَّ البحث على الحكم عند العالم الذي أتبعه أم أكتفي بهذا العالم الثقة ؟
. 5. هل يجوز اختيار العالم الذي أقرب إلى " فقه الواقع " و " تيسر الوصول إليه " وليس الذي أراه أعلم وأوثق ؟
. 6. إذا كان العالم الذي أراه أعلم وأوثق قد توفي - رحم الله جميع علماء أهل السنَّة - هل يجوز اختيار عالم حي خاصة للاستفتاء ؟
. 7. وهل أعيد أخذ الفتاوى التي أخذتها سابقا من العالم الذي أتبعه ؟
. 8. في الاستفتاء - خاصة في المعاملات - هل يجوز استفتاء عدة علماء أم الأفضل استفتاء عالم واحد فقط لمعرفة هذا العالم بي على العكس عند استفتاء عدة علماء ؟
وهل في هذا تأثير على الفتوى من باب المصالح والمفاسد أو فقه الأولويات أو فقه النفس ؟ .
فأفتوني بارك الله فيكم وجزاكم الله خير الجزاء .
الجواب :
الحمد لله
أولاً:
إذا كنت في أول طلب العلم ، ولم تبدأ بعدُ بحفظ القرآن ، ولا أنت على علم بعلوم الآلة ، فالذي ينبغي عليك أن تبدأ أولا بحفظ القرآن الكريم ، وإتقان تلاوته ، ومعرفة معاني كلماته ، ثم الاهتمام بتعلم تفسيره ، ومعرفة فقهه وأحكامه ، وهذا كله يتطلب منك إلماما مناسبا بعلوم الآلة : اللغة وعلومها ، وأصول الفقه ، ونحو ذلك .
فإذا فرغت من حفظ القرآن فاجتهد في أن تحفظ ما تقدر عليه من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، خاصة أحاديث الأحكام ؛ ويفضل أن تبدأ أولا بحفظ شيء يسير ، كالأربعين النووية ، ثم بعدها تشرع في حفظ ما هو أكبر ، إما من متون أحاديث الأحكام ، كعمدة الأحكام للحافظ عبد الغني المقدسي ، أو بلوغ المرام ، للحافظ ابن حجر ، أو منتقى الأخبار ، لمجد الدين ابن تيمية .
ولو شرعت في حفظ الأحاديث المتفق عليها من " اللؤلؤ والمرجان " أو " الجمع بين الصحيحين " ، فهو حسن .
والذي ينبغي عليك أن تشغل به نفسك في هذه المرحلة : أن تحفظ ، وتحصل ما تستطيعه من العلوم ، وأنت في سن الطلب والتحصيل ، قبل أن تتقدم سنك ، وتكثر مشاغلك ، ويضعف حفظك .
وأما أن تشغل نفسك بالبحوث المطولة في المسائل الخلافية ، والنظر في أدلة كل قول : فهذا مما لا يفيدك كبير شيء في هذه المرحلة ، ولا أنت مؤهل له ، وسوف يفوت عليك بسببه ما هو أولى بك منه .
على أن هناك من المسائل الواضحات التي تعترض طالب العلم ، ربما لا يحتاج فيها إلى كبير اجتهاد ، أو تضييع زمان في تتبع أقوال المذاهب ، ودلالة النصوص عليها ظاهرة ، مثل كثير من مسائل السنن المستحبات ، وفضائل العبادات ، والأحكام الواضحة : فهذه لا يستغني طالب العلم عن معرفتها ، ومراجعة أدلتها ، مع أنه في ذلك كله سوف يكون آخذا من أهل العلم الذين مهدوا له الطريق ؛ فمجرد ترجمة العالم على الحديث ، أو الآية : باب استحباب كذا ، أو وجوب كذا ، أو كراهة كذا ، أو تحريم كذا : كل ذلك هو نوع دلالة ، وتمهيد له لفهم النص ، ومعرفة مدلوله .
ثانياً:
الواجب على العامي ، أو طالب العلم الذي لم يتأهل للنظر أن يرجع في أمر دينه ، والنوازل التي تواجهه ، إلى أهل العلم الثقات ، فيسألهم ، ويصدر عن كلامهم . قال الله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) الأنبياء/43-44 .
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله :
" وعموم هذه الآية فيها مدح أهل العلم، وأن أعلى أنواعه العلم بكتاب الله المنزل ؛ فإن الله أمر من لا يعلم بالرجوع إليهم في جميع الحوادث ، وفي ضمنه تعديل لأهل العلم وتزكية لهم حيث أمر بسؤالهم ، وأن بذلك يخرج الجاهل من التبعة ، فدل على أن الله ائتمنهم على وحيه وتنزيله ... "
انتهى من "تفسير السعدي" (441).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" واجتهاد العامة هو طلبهم العلم من العلماء ، بالسؤال والاستفتاء ، بحسب إمكانهم "
انتهى من "جامع الرسائل" (2/318) .
والرجوع إلى المواقع العلمية الموثوقة ، والتي يقوم عليها من تثق فيه من أهل العلم : هو نوع من ذلك الرجوع إلى أهل العلم ، واستفتائهم .
غير أنه في الواقع لا يغني عن الرجوع المباشر إلى أهل العلم الثقات الذين يمكنك الوصول إليهم ، والتعلم منهم ، ومناقشتهم بصورة مباشرة فيما ينزل بك ، أو تستشكله .
وهذا كله ـ بالطبع ـ بحسب استطاعة كل إنسان ، وما تسمح به ظروف بلده ، وقد قال الله تعالى : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) التغابن/16 .
ثالثاً:
في حالة عدم وجود الحكم في مسألة ما عند من تستفيته في دينك ممن ترضى دينه وعلمه : فإنه لا حرج في الانتقال إلى مفتٍ آخر يتصف بمواصفات المفتي الأول الذي ارتضيت دينه وعلمه – فيما ترى وتعلم عنه - ، وإنما المحظور هو أن يكون الانتقال لمجرد الهوى والبحث عن الرخصة ؛ فإن هذا فعل محرَّم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"مَن التزم مذهباً معيَّناً ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه ، ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك ، ومِن غير عذر شرعي يبيح له ما فعله : فإنه يكون متبعاً لهواه ، وعاملاً بغير اجتهاد ولا تقليد ، فاعلاً للمحرم بغير عذر شرعي ، فهذا منكر"
.انتهى من" مجموع الفتاوى " ( 20 / 220 ) .
رابعاً:
الأصل في المقلِّد أن لا يتحول عن إمامه الذي يقلده إلا إن كان ثمة عذر له في ذلك ، كأن تكون المسألة لم يتطرق لها عالمه – كما سبق قريباً - ، أو يكون رأى غيره أعلم منه في هذه المسألة تحديداً ، فمثل هذا يكون معذوراً في البحث عن الفتوى عند عالمٍ آخر غير الذي يقلده في الأصل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"فإذا ترجح عند المستفتي أحد القولين : إما لرجحان دليله - بحسب تمييزه - ، وإما لكون قائله أعلم وأورع : فله ذلك وإن خالف قوله المذهب" .
انتهى من" مجموع الفتاوى " ( 33 / 168 ) .
وقال – رحمه الله - :
"وأما إن كان انتقاله من مذهب إلى مذهب لأمر ديني ، مثل أن يتبين رجحان قول على قول ، فيرجع إلى القول الذي يرى أنه أقرب إلى الله ورسوله : فهو مثاب على ذلك ؛، بل واجب على كل أحد إذا تبين له حكم الله ورسوله في أمر ألا يعدل عنه ولا يتبع أحداً في مخالفة الله ورسوله ؛ فإن الله فرض طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم على كل أحد في كل حال ..."
.انتهى من" مجموع الفتاوى " ( 20 / 223 ) .
خامساً:
إن العالِم الشرعي الذي يكون أهلاً لأن يُستفتى لا يكون كذلك وهو يجهل واقع ما يُفتي به ؛ فإن العلم بالواقع من شروط الفتوى
فإذا كان قصد السائل هو ما فهمنا عنه : فليس عليه ملامة ولا حرج ، وأما إن كان يقصد بـ " فقه الواقع " من يشتغل بمتابعة الأخبار السياسية ويحللها ويناظر فيها : فهذه الأمور لا تؤهل صاحبها للحكم في مسائل الشرع إن كان خالياً من العلم الشرعي ، فالعلم بالأخبار العالمية السبق فيه للمتفرغ لمتابعتها ، والتحليل السياسي يحسنه الكفار كما يحسنه المسلمون ، فليس هذا مما يجعل العالم بذلك الواقع مؤهلا للإفتاء ، وليس لك أن تقدمه على غيره من أهل العلم الثقات ، وإن هؤلاء العلماء الثقات يتورعون عن القول فيما لا يعرفونه ، فإما تكون منهم إحالة على شخص بعينه أو هيئة بعينها ، أو تختار أنت غيره لكن بما ذكرناه من الشروط وهو أن يكون في ظنك أكثر علماً وأكثر ديانة .
سادساً:
إذا كان العالِم الذي تتبع فتواه وتأخذ منه العلم له مصنفات ، أو علم منقول محفوظ ، أو أشرطة مسجلة : فلا فرق أن يكون على قيد الحياة أو ميتاً ، ولا حاجة إلى إعادة استفتاء عالم آخر حي في نفس النازلة . قال ابن النجار رحمه الله :
" "وَلَهُ" أَيْ وَلِلْعَامِّيِّ "تَقْلِيدُ" مُجْتَهِدٍ "مَيِّتٍ" كَتَقْلِيدِ حَيٍّ؛ لأَنَّ قَوْلَهُ بَاقٍ فِي الإِجْمَاعِ ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . وَفِيهِ يَقُولُ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : الْمَذَاهِبُ لا تَمُوتُ بِمَوْتِ أَرْبَابِهَا. "
انْتَهَى من " شرح الكوكب المنير" (4/513) .
وأما إذا لم يكن له شيء من ذلك ، أو احتجت لمسألة لم تجدها عنده في كتاب ولم تسمعها منه من قبل : فكيف سيكون طريق معرفتك لحكم الله إلا بسؤال عالِم تثق بدينه وعلمه ممن هو على قيد الحياة ، فتسأله ، فيجيبك .
وهنا نؤكد للأخ السائل – ولغيره – ليس في دين الله تعالى ما يوجب عليك اتباع عالمٍ بعينه ، بل كل من تسمع منه حكم الله في مسألة ، وترى أنه يصلح للفتوى : فخذ بقوله إذا كان عندك من أهل العلم والدين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
"وإذا نزلت بالمسلم نازلة : فإنه يستفتي من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله من أي مذهب كان ، ولا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء في كل ما يقول ، ولا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يوجبه ويخبر به ، بل كل أحدٍ من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
واتباع شخص لمذهب شخص بعينه لعجزه عن معرفة الشرع من غير جهته : إنما هو مما يسوغ له ليس هو مما يجب على كل أحد ، إذا أمكنه معرفة الشرع بغير ذلك الطريق ، بل كل أحد عليه أن يتقي الله ما استطاع ويطلب علم ما أمر الله به ورسوله فيفعل المأمور ويترك المحظور"
.انتهى من" مجموع الفتاوى " ( 20 / 208 ، 209 ) .
سابعاً:
إذا انتقلت إلى عالِم حيٍّ ، وصرت تأخذ منه الفتوى : فلا تُعِدْ مسائلك التي أخذتها من الأول على هذا الثاني ، إلا بالشروط التي ذكرناها سابقاً ، وهو أنك ترى أن هذا الثاني أعلم من الأول ، فإن كنت تراه أعلم عموماً فلك إعادة المسائل التي أخذتها عن الأول عليه ، وإن كنت تراه أعلم في جوانب معينة – كالمعاملات الاقتصادية – فلا تعد إلا المسائل من هذا الجنس دون غيرها .
وهكذا تشرع الإعادة إذا وقعت في الصدر حزازة وتردد من فتوى الأول .
والمهم في كل ما سبق أن لا يكون إعادة المسائل على الآخر ، والانتقال إليه دافعه الهوى وتتبع الرخص ، وإنما لعذر ولما تراه أنه أعلم وأوثق .
والله أعلم
*عبدالرحمن*
2018-03-10, 05:56
متى يحق للشاب أن يجتهد ويفتي
السؤال :
متى يحق للشاب أن يجتهد ويفتي ؟
حيث أن عددا من الشباب إذا تدينوا ، قد يخوضون في الأدلة ، ويتكلمون في أحكام الحوادث والمسائل التي تقع تحليلا وتحريما ، ويقولون بآرائهم في الأحكام الفقهية لبعض المستجدات في الأمور .
الجواب :
الحمد لله
إن الاجتهاد في المسائل له شروط ، وليس يحق لكل فرد أن يفتي ويقول في المسائل إلا بعلم وأهلية ، وقدرة على معرفة الأدلة
وما يكون منها نصا أو ظاهرا
والصحيح والضعيف
والناسخ والمنسوخ
والمنطوق والمفهوم
والخاص والعام
والمطلق والمقيد
والمجمل والمبين
ولا بد من طول ممارسة
ومعرفة بأقسام الفقه وأماكن البحث ، وآراء العلماء والفقهاء ، وحفظ النصوص أو فهمها ، ولا شك أن التصدي للفتوى من غير أهلية ذنب كبير ، وقول بلا علم ، وقد توعد الله على ذلك بقوله تعالى : " ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون " سورة النحل 116
وفي الحديث : " من أفتى بغير ثبت فإنا إثمه على من أفتاه " صحيح رواه الإمام أحمد ( 2/ 321 ) ، وعلى طالب العلم أن لا يتسرع في الفتوى ، ولا يقول في المسألة إلا بعد أن يعرف مصدر ما يقوله ودليله ومن قال به قبله ، فإن لم يكن أهلا لذلك فليعط القول باريها ، وليقتصر على ما يعرف ، ويعمل بما حصل عليه ، ويواصل التعلم والتفقه حتى يحصل على حاله يكون فيها أهلا للإجتهاد ، والله الهادي إلى الصواب .
الشيخ محمد صالح المنجد
و اخيرا
الحمد لله الذي بفضلة تتم الصالحات
اخوة الاسلام
اكتفي بهذا القدر و لنا عوده
ان قدر الله لنا البقاء و اللقاء
و اسال الله ان يجمعني بكم دائما
علي خير
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين
*عبدالرحمن*
2018-03-11, 15:31
اخوة الاسلام
أحييكم بتحية الإسلام
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
https://d.top4top.net/p_7927bchs1.gif (https://up.top4top.net/)
كيف تعرف الأحاديث المنسوخة من الناسخة ؟
وهل يمكن أن يشتبه الأمر علينا ؟
السؤال :
عندي سؤال عن مسألة النسخ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم : كيف يمكن لنا التأكد من أنّ الأحاديث الصحاح التي توجد بين أيدينا اليوم لم تنسخ بالفعل بعد أن رويت ، وأنّ الحكم اختلف بعد ذلك ، فبما أنه توجد أحاديث نسخت فإنّ ذلك يعني أنه من الممكن أن تكون هناك أحاديث نسخت ولكننا لا نعلم عنها، فكيف يمكن لنا أن نعمل بالصحيح والحسن ، دون أن نعلم على وجه اليقين أنها لم تنسخ ؟
الجواب :
الحمد لله
النسخ : أن يرفع الشارع حكما سابقا متقدما ، بحكم آخر ـ من الشارع أيضا ـ لكنه متأخر عن الحكم الأول ، لاحق له .
والنسخ يعرف بأمور:
الأول : أن ينص الشارع على النسخ .
الثاني: أن ينص الصحابي على ذلك .
الثالث : أن تجمع الأمة على أن الحديث منسوخ.
الرابع : أن يتعارض حديثان، ولا يمكن الجمع بينهما بوجه من الوجوه، ويعرف المتقدم منهما من المتأخر، فيكون المتقدم منسوخا.
قال النووي رحمه الله:
" أما النسخ فهو رفع الشارع حكما منه متقدما ، بحكم منه متأخر .
هذا هو المختار فى حده ...
ثم النسخ يعرف بأمور منها:
تصريح رسول الله صلى الله عليه وسلم به ، كـ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ) رواه مسلم 977].
ومنها قول الصحابى: ( كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار ) .
ومنها ما يعرف بالتاريخ .
ومنها ما يعرف بالإجماع ، كقتل شارب الخمر في المرة الرابعة ؛ فإنه منسوخ ، عرف نسخه بالإجماع.
والإجماع لا يَنسخ ، ولا يُنسخ ، لكن يدل على وجود ناسخ ، والله أعلم.
وأما اذا تعارض حديثان في الظاهر ، فلا بد من الجمع بينهما ، أو ترجيح أحدهما .
وإنما يقوم بذلك غالبا الأئمة الجامعون بين الحديث والفقه ، والأصوليون المتمكنون في ذلك ، الغائصون على المعاني الدقيقة ، الرائضون أنفسهم في ذلك، فمن كان بهذه الصفة ، لم يُشكِل عليه شيء من ذلك ، إلا النادر ، في بعض الأحيان .
ثم المختلف قسمان: أحدهما: يمكن الجمع بينهما، فيتعيّن، ويجب العمل بالحديثين جميعا.
ومهما أمكن حمل كلام الشارع على وجه يكون أعم للفائدة : تعيّن المصير إليه .
ولا يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع ؛ لأن في النسخ إخراج أحد الحديثين عن كونه مما يعمل به .
ومثال الجمع حديث ( لا عدوى ) مع حديث ( لا يورِد مُمْرِض على مُصِحّ ) .
وجه الجمع : أن الأمراض لا تُعدِي بطبعها ، ولكن جعل الله سبحانه وتعالى مخالطتها سببا للإعداء، فنفى في الحديث الأول ما يعتقده أهل الجاهلية من العدوى بطبعها، وأرشد في الثاني إلى مجانبة ما يحصل عنده الضرر عادة ، بقضاء الله وقدره وفعله.
القسم الثاني: أن يتضادا ، بحيث لا يمكن الجمع بوجه :
فإن علمنا أحدهما ناسخا : قدمناه .
وإلا ؛ عملنا بالراجح منهما، كالترجيح بكثرة الرواة ، وصفاتهم ، وسائر وجوه الترجيح، وهى نحو خمسين وجها ، جمعها الحافظ أبو بكر الحازمي في أول كتابه : "الناسخ والمنسوخ" . وقد جمعتها أنا مختصرة ، ولا ضرورة إلى ذكرها هنا كراهة للتطويل"
انتهى من " شرح مسلم " (1/ 60-61).
وقال الحازمي رحمه الله فيما يعرف به الناسخ والمنسوخ:
"ويعرف ذلك بأمارات عدة :
منها : أن يكون لفظ النبي صلى الله عليه وسلم مصرحا به ؛ نحو قوله عليه السلام : ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ؛ ألا فزوروها ) .
أو يكون لفظ الصحابي ناطقا به ، نحو حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة ، ثم جلس بعد ذلك ، وأمرنا بالجلوس ) .
ومنها : أن يكون التاريخ معلوما ؛ نحو ما رواه أبي بن كعب رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله إذا جامع أحدنا ، فأكسل [أي لم ينزل] ؟ فقال النبي : ( يغسل ما مس المرأة منه ، وليتوضأ ثم ليصل ) .
هذا حديث يدل على أن لا غسل مع الإكسال ، وأن موجب الغسل الإنزال .
ثم لما استقرأنا طرق هذا الحديث ، أفادنا بعض الطرق أن شرعية هذا كان في مبدأ الإسلام ، واستمر ذلك إلى بعد الهجرة بزمان .
ثم وجدنا الزهري قد سأل عروة عن ذلك ، فأجابه عروة أن عائشة رضي الله عنها حدثته ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ، ولا يغتسل . وذلك قبل فتح مكة ، ثم اغتسل بعد ذلك ، وأمر الناس بالغسل .
ومنها : أن تجتمع الأمة في حكمه على أنه منسوخ
فهذه معظم أمارات النسخ...
وإن لم يمكن التمييز بينهما ، بأن أُبهم التاريخ ، وليس في اللفظ ما يدل عليه ، وتعذر الجمع بينهما ، فحينئذ يتعين المصير إلى الترجيح .
ووجوه الترجيحات كثيرة ، أنا أذكر معظمها ..."
انتهى من " الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار " (ص8 )، لأبي بكر محمد بن موسى بن عثمان الحازمي الهمداني، (المتوفى : 584هـ)، وكتابه من أنفع الكتب في هذا الباب.
وبهذا يتبين لك أن الأمر ليس مشكلا، فأكثر الأحاديث الثابتة ليست منسوخة ، ولا يتطرق النسخ إلا للأحاديث المتعارضة التي لا يمكن الجمع بينها، فهذه قد ينص الشارع فيها على النسخ، وقد ينص الصحابي أو ينعقد الإجماع على كون الحديث فيها منسوخا. وقد يُعلم النسخ من جهة التقدم والتأخر.
ولم يترك فقهاء الحديث ، وشرّاح السنة ، شيئا من ذلك إلا بينوه ، ولله الحمد والمنة ؛ فلا وجه لتطريق الاحتمالات ، وإدخال الوساوس والشكوك ، من غير طائل ، ولا موجب من العلم .
والله أعلم.
*عبدالرحمن*
2018-03-11, 15:48
هل يدل حديث : ( خذوا عني مناسككم على اشتراط الطهارة في الطواف ) ؟
السؤال:
أرجو توضيح ما يلي من الناحية الأصولية: نحن مأمورون باتباع سنة الرسول عليه الصلاة والسلام : " خذو عني مناسككم ، وصلو كما رأيتموني أصلي ، وأحاديث وآيات كثيرة توجب اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام ، كيف إذا أفسر مذهب الشيخ ابن تيمية رحمه الله في رأيه بعدم اشتراط الطهارة أثناء الطواف
بحجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصرح بذلك ، مع أنه عليه الصلاة والسلام ماطاف إلا طاهرا، وإذا اعتمدنا هذا الأسلوب بألا نلتزم إلا بما صرح به الرسول عليه الصلاة والسلام فهذا يفتح الباب على أمور أخرى نتبع فيها سنة رسول الله بالفعل وليس بالقول. أرجو التوضيح .
الجواب :
الحمد لله
روى مسلم (1297) عن جَابِر قال: " رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَقُولُ : ( لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ).
وروى البخاري (6008) عن مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ : " أَتَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً فَظَنَّ أَنَّا اشْتَقْنَا أَهْلَنَا وَسَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا فِي أَهْلِنَا فَأَخْبَرْنَاهُ وَكَانَ رَفِيقًا رَحِيمًا فَقَالَ: ( ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ).
وهذان الحديثان فيهما الدعوة إلى الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أداء المناسك وفي الصلاة ، ونقل ذلك عنه ، وتبليغه للناس .
ولاشك أن من أدى المناسك كما فعل النبي صلى الله وسلم ، فقد أدى العبادة الصحيحة على وجهها، بأركانها، وواجباتها وسننها، وكذلك لو صلى كما صلى النبي صلى الله وسلم.
لكنّ هذين الحديثين ، لا يقتضيان وجوب كل فعل فعله صلى الله عليه وسلم في المناسك ، وفي الصلاة ، كما قد يُظن، وكما يقع في كلام بعض الفقهاء، فإن كثيرا من أفعال المناسك التي فعلها النبي صلى الله وسلم سنة مستحبة لا واجبة عند عامة الفقهاء ، كاستلام الحجر الأسود، والاضطباع ، والرمل، وغير ذلك .
وكذلك الصلاة ، كثير من أفعالها وأقوالها : سنة مستحبة لا تجب ، كالاستفتاح، ورفع اليدين مع التكبير، والزيادة على المرة في تسبيح الركوع والسجود، وجلسة الاستراحة، وغير ذلك.
فعلم بهذا أنه لا يستفاد تمييز الأركان ، من الواجبات ، والمستحبات ، في الحج أو في الصلاة ، من هذين الحديثين.
فلو قال قائل: إن الطهارة شرط في الطواف ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف متوضئا وقال خذوا مناسككم، لكان هذا استدلالا ضعيفا، ولقيل له: فلتقل بوجوب الرمل والاضطباع في الطواف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمل واضطبع وقال : خذوا مناسككم.
فيتعين الوقوف على أدلة أخرى خاصة ، يعلم منها الركن من الواجب من المستحب.
وقد ذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن الطهارة ليست شرطا في الطواف، لأنه لم يقم عنده دليل على اشتراطها، وهذا مروي عن أحمد رحمه الله، وإليه ذهب ابن تيمية، وهؤلاء لا ينازِعُون في أن من طاف متطهرا ، أنه أصاب السنة، وأن فعله أفضل ممن طاف على غير طهارة ، لكن البحث فيمن طاف على غير طهارة ، هل يبطل طوافه لأن الطهارة شرط ، أو يصح طوافه وعليه دم لأن الطهارة واجبة ، أو لا شيء عليه لأن الطهارة مستحبة فقط .
قال السبكي رحمه الله في قواعده ، في شأن ركعتي الطواف: " فأما قوله صلى الله عليه وسلم : "خذوا عني مناسككم"، فلا دلالة له على وجوب شيء خاص منها؛ لأن المناسك عامة في الواجب والمندوب، وإذا احتُجَّ به في وجوب فعل شيء خاصّ ، لزم طرده في الجميع، كالرَّمل، والاضطباع، وسائر المسنونات" .
انتهى نقلا عن "أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم" للدكتور عمر سليمان الأشقر (1/296).
وقال ابن القيم رحمه الله : "وقد اختلف السلف والخلف في اشتراط الطهارة للطواف على قولين : أحدهما: أنها شرط ، كقول الشافعي ومالك وإحدى الروايتين عن أحمد.
والثاني: ليست بشرط ، نص عليه في رواية ابنه عبد الله وغيره ، بل نصه في رواية عبد الله يدل على أنها ليست بواجبة ، فإنه قال: أحب إلي أن يتوضأ، وهذا مذهب أبي حنيفة.
قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية: وهذا قول أكثر السلف. قال: وهو الصحيح فإنه لم ينقل أحد عن النبي أنه أمر المسلمين بالطهارة ، لا في عُمَرهِ ولا في حجته ، مع كثرة من حج معه واعتمر، ويمتنع أن يكون ذلك واجبا ولا يبينه للأمة ، وتأخير البيان عن وقته ممتنع .
فإن قيل: فقد طاف النبي متوضأ وقال: (خذوا عني مناسككم).
قيل: الفعل لا يدل على الوجوب . والأخذ عنه هو أن يفعل كما فعل ، على الوجه الذي فعل، فإذا كان قد فعل فعلا على وجه الاستحباب ، فأوجبناه ؛ لم نكن قد أخذنا عنه ، ولا تأسينا به، مع أنه فعل في حجته أشياء كثيرة جدا لم يوجبها أحد من الفقهاء"
انتهى من حاشيته على "تهذيب السنن"
وللدكتور عمر الأشقر رحمه الله بحث مهم حول الاستدلال بهذين الحديثين على وجوب أفعال معينة في الصلاة والحج ، بحجة أن ذلك من بيان المجمل ، وقد ذهب إلى أن حديث (صلوا كما رأيتموني أصلي) كان توجيها وإرشادا لمالك بن الحويرث ومن معه، وليس فيه تعرض لبيان ما يجب وما يستحب.
ثم قال: "وأما الحديث الثاني: هو "خذوا عني مناسككم" فهو خطاب عام للأمة ، ولا يمكن فيه دعوى الخصوص، لأنه - صلى الله عليه وسلم - قاله لجمهور الحجّاج، وهو على بعيره يرمي جمرة العقبة. وفي رواية: "قاله قبل يوم التروية وخروجهم للحج. فلا يرد هنا ما قلناه في الحديث الأول من امتناع دلالته على البيان العام".
وأما الوجه الآخر الذي قلناه في الحديث السابق فيأتي هنا، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل في حجته أفعال الحج كلّها من واجب، ومندوب. ولا يتميّز بالفعل واجبه من مندوبه، فلا يصلح الفعل بياناً في ذلك، ما لم يقترن بكل فعل جزئي ، قرينة تدل على أنه بيان.
ويضاف هنا وجه ثالث، وهو أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني مناسككم" لا يتعيّن أن يكون المراد به ملاحظة أفعاله بخصوصها، بل يصدق على الأخذ عنه - صلى الله عليه وسلم - من أقواله ، بسؤاله عما يُشكل عليهم، والاستماع إلى ما يأمر به ، ويرشد إليه.
فأقصى ما يدل عليه الحديث، أن يدل على مشروعية أفعاله - صلى الله عليه وسلم - في الحج، أما التفريق بين واجبها ومندوبها ، فلا بدّ من المصير إلى وجه آخر في الدلالة على ذلك.
وحكم أفعاله - صلى الله عليه وسلم - من هذه الناحية حكم سائر الأفعال المجرّدة.
والخلاصة:
أن هذين الحديثين لا يصلحان دليلاً على أن أفعاله - صلى الله عليه وسلم – في الصلاة والحج واجبة، بناء على أنها بيان للواجب. بل أفعاله - صلى الله عليه وسلم - في هاتين العبادتين مختلطة واجبها بمندوبها ، غير متميزة، والعمدة في تمييز ذلك على الأدلة الأخرى. وينظر في كل فعل بخصوصه ما يحتفّ به من القرائن.
لقد كثر في كلام الفقهاء إيجاب كثير من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة والحج ، اعتماداً على أن هذين الحديثين دليل على أن أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة والحج بيان للمجمل الواجب، ولا يوجبون أفعالًا منها كثيرة أخرى، حتى ليعجب الناظر من تفريقهم في ذلك.
والصواب إن شاء الله ، ما ذكرناه ؛ من أنّ أفعاله - صلى الله عليه وسلم - فيهما ليست مميِّزة للواجب من المندوب ؛ إلّا فعلاً خاصاً ، عليه دلالة خاصة أنه بيان لذلك. والله أعلم" .
انتهى من "أفعال الرسول" (1/ 294- 301).
وما ذكره السائل من محذور عدم الالتزام بالسنة، كلام مجمل، فإن السنة فيها الواجب والمستحب، فمن ترك الواجب أثم، ومن ترك المستحب فلا حرج عليه.
وتمييز هذا من هذا يحتاج إلى أدلة خاصة، وليس الاعتماد على هذين الحديثين الكريمين، وإلا لكانت جميع أفعال الصلاة والحج واجبة، وهذا لا قائل به، وفيه حرج عظيم على الأمة.
والله أعلم.
*عبدالرحمن*
2018-03-11, 15:53
الفرق بين المجتهد المطلق والمجتهد في مذهب إمامه
السؤال:
ما الأساس الذي عليه نعتبر اجتهادات العالم مذهبًا ؟
يعني لماذا نقول مذهب الشافعي ، ولا نقول مذهب النووي ، أو مذهب المقدسي. وما هو الضابط الذي على أساسه ننسب أحد العلماء إلى مذهب معيّن، بالرغم من أن هذا العالم قد يكون بلغ درجة الاجتهاد المطلق ؟
الجواب :
الحمد لله
أولا:
المذهب : هو الطريق الواضح . يقال: ذهب مذهباً حقاً ، وذهاباً وذهوباً .
والمراد به في الاصطلاح : طريق الأئمة ، أي : آراؤهم واختيارهم ، وما ذهبوا إليه من الأدلة والأحكام
.
قال في القاموس: "المذهب المعتقد الذي يذهب إليه ، والطريقة ، والأصل"
انتهى من " التحبير شرح التحرير" للمرداوي (1/127) بتصرف يسير.
فآراء الإمام المجتهد المطلق، تسمى مذهبا.
وأما غير المجتهد، فلا يصح إن ينسب له مذهب ، ولا يصح أن يستقل باختيار جديد ، بل ينبغي أن يسير على مذهب مجتهد قبله ، ويسلك مسلكه .
وثمة علماء توفرت فيهم شروط الاجتهاد، كالنووي وابن قدامة وغيرهما ، لكنهم لم يستقلوا بأنفسهم ، بل سلكوا طريقة إمامهم في الاجتهاد وانتسبوا إليه، أو كان اجتهادهم ضمن الأصول التي اعتمدها إمامهم ، فلهذا لم تعتبر آراؤهم مذاهب جديدة ، ولم تنسب إليهم ، وهؤلاء يطلق عليهم: المجتهدون في المذهب ، أي في مذهب إمامهم.
قال المرداوي رحمه الله في بيان أصناف المجتهدين: " واعلم أن المجتهد ينقسم إلى أربعة أقسام: مجتهد مطلق، ومجتهد في مذهب إمامه، أو في مذهب إمام غيره، ومجتهد في نوع من العلم، ومجتهد في مسألة أو مسائل، ذكرها في " آداب المفتي والمستفتي " ، فقال:
القسم الأول " المجتهد المطلق " وهو الذي اجتمعت فيه شروط الاجتهاد التي ذكرها المصنف في آخر " كتاب القضاء " على ما تقدم هناك إذا استقل بإدراك الأحكام الشرعية، من الأدلة الشرعية العامة والخاصة، وأحكام الحوادث منها، ولا يتقيد بمذهب أحد...
قال في آداب المفتي والمستفتي: ومن زمن طويل عدم المجتهد المطلق ، مع أنه الآن أيسر منه في الزمن الأول، لأن الحديث والفقه قد دونا، وكذا ما يتعلق بالاجتهاد من الآيات، والآثار، وأصول الفقه، والعربية، وغير ذلك، لكن الهمم قاصرة، والرغبات فاترة، وهو فرض كفاية، قد أهملوه وملوه، ولم يعقلوه ليفعلوه. انتهى..
قلت: قد ألحق طائفة من الأصحاب المتأخرين بأصحاب هذا القسم: الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمة الله عليه، وتصرفاته في فتاويه وتصانيفه تدل على ذلك.
القسم الثاني " مجتهد في مذهب إمامه، أو إمام غيره "، وأحواله أربعة:
الحالة الأولى: أن يكون غير مقلد لإمامه في الحكم والدليل، لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتوى، ودعا إلى مذهبه، وقرأ كثيرا منه على أهله ، فوجده صوابا وأولى من غيره، وأشد موافقة فيه وفي طريقه، قال ابن حمدان في " آداب المفتي " وقد ادعى هذا منا ابن أبي موسى، في شرح الإرشاد الذي له، والقاضي أبو يعلى وغيرهما ، ومن الشافعية خلق كثير .
قلت: ومن أصحاب الإمام أحمد - رضي الله عنه -، فمن المتأخرين: كالمصنف [أي ابن قدامة]، والمجد، وغيرهما .
وفتوى المجتهد المذكور، كفتوى المجتهد المطلق في العمل بها، والاعتداد بها في الإجماع والخلاف.
الحالة الثانية: أن يكون مجتهدا في مذهب إمامه، مستقلا بتقريره بالدليل، لكن لا يتعدى أصوله وقواعده، مع إتقانه للفقه وأصوله، وأدلة مسائل الفقه، عالما بالقياس ونحوه، تام الرياضة، قادرا على التخريج والاستنباط، وإلحاق الفروع بالأصول والقواعد التي لإمامه...
وهذا شأن أهل الأوجه والطرق في المذاهب، وهو حال أكثر علماء الطوائف الآن .
فمن علم يقينا هذا، فقد قلد إمامه دونه [أي : فقد قلد الإمام الذي ينتسب إليه هذا المجتهد ، ولم يقلد هذا المجتهد] ؛ لأن معوّله على صحة إضافة ما يقول إلى إمامه؛ لعدم استقلاله بتصحيح نسبته إلى الشارع بلا واسطة إمامه...
فالمجتهد في مذهب الإمام أحمد - رضي الله عنه - مثلا: إذا أحاط بقواعد مذهبه، وتدرب في مقاييسه وتصرفاته: ينزل ، من الإلحاق بمنصوصاته وقواعد مذهبه ، منزلة المجتهد المستقل ، في إلحاقه ما لم ينص عليه الشارع بما نص عليه، وهذا أقدر على ذا من ذاك على ذاك، فإنه يجد في مذهب إمامه قواعد ممهدة، وضوابط مهذبة، ما لا يجده المستقل في أصول الشارع ونصوصه ...
والحاصل: أن المجتهد في مذهب إمامه: هو الذي يتمكن من التفريع على أقواله، كما يتمكن المجتهد المطلق من التفريع على كل ما انعقد عليه الإجماع، ودل عليه الكتاب والسنة والاستنباط...
الحالة الثالثة : أن لا يبلغ به رتبة أئمة المذهب ، أصحاب الوجوه والطرق، غير أنه فقيه النفس، حافظ لمذهب إمامه، عارف بأدلته، قائم بتقريره، ونصرته، يصور، ويحرر، ويمهد، ويقوي، ويزيف، ويرجح، لكنه قصر عن درجة أولئك إما لكونه لم يبلغ في حفظ المذهب مبلغهم وإما لكونه غير متبحر في أصول الفقه ونحوه على أنه لا يخلو مثله في ضمن ما يحفظه من الفقه ، ويعرفه من أدلته : عن أطراف من قواعد أصول الفقه ونحوه، وإما لكونه مقصرا في غير ذلك من العلوم التي هي أدوات الاجتهاد الحاصل لأصحاب الوجوه والطرق .
وهذه صفة كثير من المتأخرين الذين رتبوا المذاهب، وحرروها، وصنفوا فيها تصانيف، بما يشتغل به الناس اليوم غالبا، ولم يلحقوا من يخرج الوجوه، ويمهد الطرق في المذاهب...
الحالة الرابعة: أن يقوم بحفظ المذهب، ونقله وفهمه، فهذا يعتمد نقله وفتواه به فيما يحكيه من مسطورات مذهبه: من منصوصات إمامه، أو تفريعات أصحابه المجتهدين في مذهبه، وتخريجاتهم، ... ويكفي استحضاره أكثر المذهب، مع قدرته على مطالعة بقيته قريبا.
القسم الثالث " المجتهد في نوع من العلم "، فمن عرف القياس وشروطه: فله أن يفتي في مسائل منه قياسية، لا تتعلق بالحديث، ومن عرف الفرائض: فله أن يفتي فيها، وإن جهل أحاديث النكاح وغيره، وعليه الأصحاب، وقيل: يجوز ذلك في الفرائض دون غيرها، وقيل: بالمنع فيهما، وهو بعيد، ذكره في آداب المفتي.
القسم الرابع " المجتهد في مسائل، أو مسألة "، وليس له الفتوى في غيرها .
وأما فيها : فالأظهر: جوازه .
ويحتمل المنع؛ لأنه مظنة القصور والتقصير، قاله في آداب المفتي والمستفتي .
قلت: المذهب الأول، قال ابن مفلح في أصوله: يتجزأ الاجتهاد عند أصحابنا وغيرهم، وجزم به الآمدي، خلافا لبعضهم، وذكر بعض أصحابنا مثله، وذكر أيضا قولا : يتجزأ في باب، لا مسألة. انتهى. وقد تقدم ذلك في أواخر " كتاب القضاء " .
فهذه أقسام المجتهد، ذكرها ابن حمدان في آداب المفتي والمستفتي"
انتهى من "الإنصاف"(12/258-265) مختصرا.
وينظر : "صفة الفتوى" لابن حمدان (16-24) ، "التحبير" للمرداوي (8/3886) وما بعدها .
وبان بهذا أن مجتهدي المذهب، قد يكون فيهم من استجمع شروط الاجتهاد ، لكنه انتسب لإمامه، أو تقيد بأصوله، فلهذا لا تنسب آراؤه إليه باعتبارها مذهبا خاصا ، ولا يعد صاحب مذهب، بل هو نفسه منتسب إلى مذهب إمامه.
والله أعلم.
*عبدالرحمن*
2018-03-11, 15:58
إذا أفتى وتغير اجتهاده هل يلزمه إعلام المستفتي ؟
السؤال:
إذا سألنى رجل فى مسألة وأجبته بالدليل وكنت أدين الله بأن هذا هو الراجح فيها ، وبعد ذلك مع القراءة تبين لي فيها قول آخر راجح فهل يجب على أن أعلم الرجل الذى سألني أنى رجعت عما أجبته به أم لا يجب على ؟
الجواب :
الحمد لله
أولا:
من اجتهد في حكم مسألة وأفتى فيها، ثم تغير اجتهاده، فهل يلزمه إعلام المستفتي؟
اختلف العلماء في ذلك ، فقيل: يلزمه، وقيل: لا يلزمه.
ورجح ابن القيم رحمه الله التفصيل، فإن كان الحكم الأول مخالفا لنص الكتاب أو السنة الذي لا معارض له، أو مخالفا للإجماع، لزمه الإعلام، وإن لم يكن مخالفا لشيء من ذلك فلا يلزمه .
قال ابن القيم رحمه الله :
" فإن قيل فما تقولون لو تغير اجتهاد المفتي فهل يلزمه إعلام المستفتي؟
قيل: اختُلف في ذلك ، فقيل : لا يلزمه إعلامه ؛ فإنه عمل أولا بما يسوغ له ، فإذا لم يعلم بطلانه ، لم يكن آثما، فهو في سعة من استمراره.
وقيل: بل يلزمه إعلامه؛ لأن ما رجع عنه ، قد اعتقد بطلانه ، وبان له أن ما أفتاه به ليس من الدين ، فيجب عليه إعلامه، كما جرى لعبد الله بن مسعود حين أفتى رجلا بحل أم امرأته التي فارقها قبل الدخول ، ثم سافر إلى المدينة وتبين له خلاف هذا القول، فرجع إلى الكوفة وطلب هذا الرجل ، وفرق بينه وبين أهله .
وكما جرى للحسن بن زياد اللؤلؤي لما استفتي في مسألة ، فأخطأ فيها ولم يعرف الذي أفتاه به، فاستأجر مناديا ينادي : إن الحسن بن زياد استُفتي في يوم كذا وكذا
في مسألة فأخطأ ؛ فمن كان أفتاه الحسن بن زياد بشيء فليرجع إليه ، ثم لبث أياما لا يفتي حتى جاء صاحب الفتوى ، فأعلمه أنه قد أخطأ ، وأن الصواب خلاف ما أفتاه به.
قال القاضي أبو يعلى في كفايته : من أفتى بالاجتهاد ، ثم تغير اجتهاده : لم يلزمه إعلام المستفتي بذلك إن كان قد عمل به ، وإلا ، أعلمه.
والصواب التفصيل: فإن كان المفتي ظهر له الخطأ قطعاً ، لكونه خالف نص الكتاب أو السنة التي لا معارض لها ، أو خالف إجماع الأمة : فعليه إعلام المستفتي.
وإن كان إنما ظهر له أنه خالف مجرد مذهبه ، أو نص إمامه : لم يجب عليه إعلام المستفتي. وعلى هذا تخرّج قصة ابن مسعود رضى الله عنه ، فإنه لما ناظر الصحابة في تلك المسألة ، بينوا له أن صريح الكتاب يحرمها ، لكون الله تعالى أبهمها ، فقال تعالى: (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ) وظن عبد الله أن قوله: (الَّلاتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) راجع إلى الأول والثاني، فبينوا له أنه إنما يرجع الى أمهات الربائب خاصة، فعرف أنه الحق ، وأن القول بحلها ، خلاف كتاب الله تعالى، ففرق بين الزوجين ولم يفرق بينهما بكونه تبين له أن ذلك خلاف قول زيد أو عمرو" .
انتهى من " إعلام الموقعين " (4/224).
وهذا كما ترى في شأن العالم المجتهد.
وأما لو كان المفتي قد أفتى بغير علم واجتهاد، ثم علم الصواب ، فإنه يلزمه إعلام المستفتي.
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : إذا أفتى الإنسان فتوى لأحدٍ من الناس ثم ذهب هذا المفتي وبعد حين من الزمن راجع هذا المفتي أقوال أهل العلم فوجد فتواه خطأ فماذا يعمل ؟ وهل عليه إثم ؟ نرجو الإفادة بهذا .
فأجاب رحمه الله تعالى: " إذا كانت الفتوى الأولى عن اجتهاد، وكان هو جديراً بأن يجتهد ، ثم بعد البحث والمناقشة تبين له خطأ اجتهاده الأول : فإنه لا شيء عليه.
وقد كان الأئمة الكبار يفعلون مثل هذا ، فتجد عن الواحد منهم في المسألة الواحدة عدة أقوال.
أما إذا كانت فتواه الأولى عن غير علم وعن غير اجتهاد ، ولكنه يظن ظنًّا ، وبعض الظن إثم، فإنه يحرم عليه أصلاً أن يفتي بمجرد الظن أو الخرص؛ لأنه إذا فعل ذلك فقد قال على الله بلا علم ، والقول على الله بلا علم من أكبر الذنوب ؛ لقوله تعالى: ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) .
وعليه أن يبحث عن الذي استفتاه حتى يخبره بأن فتواه خطأ وغلط، فإذا فعل هذا فأرجو أن يتوب الله عليه.
ومسألة الفتيا بغير علم مسألة خطيرة ، لأنه لا يضل بها المستفتي وحده ، بل ربما ينشرها المستفتي بين الناس ، ويَضِل بها فئام من الناس ، وهي خطأ وظلم" .
انتهى من " فتاوى نور على الدرب ".
ثانيا:
ينبغي أن يعلم الأصل : وهو أن الفتوى للمجتهد ، لا للمقلد، إلا عند الحاجة ، فينقل طالب العلم كلام الأئمة.
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " ما هي الشروط التي يجب أن تتوفر في المفتي ؟
فأجاب رحمه الله تعالى: الشروط في المفتي : هي أن يكون مطلعاً على غالب أقوال أهل العلم، ومطلعاً على الأدلة الشرعية في هذا الحكم الذي أفتى به .
وأما مجرد الظن والتقليد : فإنه لا يفتي به، لكن التقليد إذا كان ليس هناك مجتهد ، وليس بإمكان الإنسان أن يجتهد ، وهو من طلبة العلم الذين يعرفون ما كتبه العلماء : فلا حرج عليه أن يفتي به للضرورة"
انتهى من " فتاوى نور على الدرب ".
والله أعلم.
و اخيرا
الحمد لله الذي بفضلة تتم الصالحات
اخوة الاسلام
اكتفي بهذا القدر و لنا عوده
ان قدر الله لنا البقاء و اللقاء
و اسال الله ان يجمعني بكم دائما
علي خير
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين
*عبدالرحمن*
2018-03-13, 16:08
اخوة الاسلام
أحييكم بتحية الإسلام
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
https://d.top4top.net/p_7927bchs1.gif (https://up.top4top.net/)
أهمية فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد
السؤال:
أريد أن أفهم مسألة ، وهي "فقه التنازل" ، حيث قرأت مقالا لأحدّ الدّكاترة بعنوان "هل يجوز التّنازل عن الواجبات مراعاة للمصالح والمفاسد وعند الحاجات والضرورات" وتجدونه في الشّبكة ، وسؤالي الآن 1-هل يتنازل عن واجب من أجل مصلحة مثل الّذي يصافح أجنبية عنه وهي من قريباته اللواتي تربين معه مثلا ؛ حتّى لا ينفّرها عنه
ويتدرّج معهم في الدّعوة ، فهل هذا الفعل صحيح ؟ وهو تنازل خفيف مقارنة بالمصلحة المرجوّة ؟
2-ما هو الضّابط لهذا التّنازل ؟
مثلا يقال التّنازل لا يكون إلا في المحرّم تحريم وسائل مثلا؟
أم أنّ التنازل لا يدخل إلا في باب المستحبّ والمكروه ؟
أرجو التفصيل مع ذكر كلام أهل العلم .
الجواب :
الحمد لله
أولا:
هذه المسألة تعرف بفقه الموازنة ، أو مراعاة المصالح والمفاسد ، وهو باب من الفقه دقيق ، وأساس متين ، قامت عليه الشريعة ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان ، ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعا، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعا " .
انتهى من " مجموع الفتاوى " (23/343).
وهذه الموازنة تدخل في الضروريات والحاجيات والتحسينيات
اخوة الاسلام
في الاجابت التالية اكثر توضيح
اسره منتدي الحلقه الاسلامي
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فصل نافع سماه: " فصل جامع في تعارض الحسنات ؛ أو السيئات ؛ أو هما جميعا " جاء فيه:
" فالتعارض إما بين:
1- حسنتين لا يمكن الجمع بينهما؛ فتقدم أحسنهما بتفويت المرجوح.
2- وإما بين سيئتين لا يمكن الخلو منهما؛ فيدفع أسوأهما باحتمال أدناهما.
3- وإما بين حسنة وسيئة لا يمكن التفريق بينهما؛ بل فعل الحسنة مستلزم لوقوع السيئة؛ وترك السيئة مستلزم لترك الحسنة؛ فيرجح الأرجح من منفعة الحسنة ، ومضرة السيئة.
فالأول: كالواجب والمستحب ؛ وكفرض العين وفرض الكفاية ؛ مثل تقديم قضاء الدين المطالب به ، على صدقة التطوع .
وكتقديم نفقة الأهل على نفقة الجهاد الذي لم يتعين ؛ وتقديم نفقة الوالدين عليه كما في الحديث الصحيح : ( أي العمل أفضل ؟ قال : الصلاة على مواقيتها ، قلت : ثم أي ؟
قال : ثم بر الوالدين . قلت . ثم أي ؟ قال : ثم الجهاد في سبيل الله ).
وتقديم الجهاد على الحج كما في الكتاب والسنة، متعين على متعين، ومستحب على مستحب [يعني : تقديم الجهاد الواجب المتعين على الحج الواجب المتعين ، وتقديم الجهاد المستحب على الحج المستحب] ، وتقديم قراءة القرآن على الذكر إذا استويا في عمل القلب واللسان، وتقديم الصلاة عليهما إذا شاركتهما في عمل القلب، وإلا فقد يترجح الذكر بالفهم والوجل على القراءة التي لا تجاوز الحناجر . وهذا باب واسع.
والثاني : كتقديم المرأة المهاجرة لسفر الهجرة بلا محرم على بقائها بدار الحرب، كما فعلت أم كلثوم التي أنزل الله فيها آية الامتحان : (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات) ، وكتقديم قتل النفس على الكفر كما قال تعالى : (والفتنة أكبر من القتل) ، فتقتل النفوس التي تحصل بها الفتنة عن الإيمان؛ لأن ضرر الكفر أعظم من ضرر قتل النفس، وكتقديم قطع السارق ورجم الزاني وجلد الشارب على مضرة السرقة والزنا والشرب ، وكذلك سائر العقوبات المأمور بها فإنما أمر بها مع أنها في الأصل سيئة وفيها ضرر ؛ لدفع ما هو أعظم ضررا منها ؛ وهي جرائمها ؛ إذ لا يمكن دفع ذلك الفساد الكبير إلا بهذا الفساد الصغير .
وكذلك في " باب الجهاد " وإن كان قتل من لم يقاتل من النساء والصبيان وغيرهم حراما فمتى احتيج إلى قتال قد يعمهم مثل: الرمي بالمنجنيق ، والتبييت بالليل جاز ذلك ، كما جاءت فيها السنة في حصار الطائف ورميهم بالمنجنيق ، وفي أهل الدار من المشركين يبيّتون، وهو دفع لفساد الفتنة أيضا بقتل من لا يجوز قصد قتله ...
وأما الثالث : فمثل أكل الميتة عند المخمصة ؛ فإن الأكل حسنة واجبة لا يمكن إلا بهذه السيئة ، ومصلحتها راجحة ، وعكسه الدواء الخبيث ؛ فإن مضرته راجحة على مصلحته من منفعة العلاج لقيام غيره مقامه ؛ ولأن البرء لا يتيقن به ، وكذلك شرب الخمر للدواء .
فتبين أن السيئة تحتمل في موضعين: دفع ما هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها، وتحصيل ما هو أنفع من تركها إذا لم تحصل إلا بها.
والحسنة تترك في موضعين : إذا كانت مفوتة لما هو أحسن منها ؛ أو مستلزمة لسيئة تزيد مضرتها على منفعة الحسنة ، هذا فيما يتعلق بالموازنات الدينية .
وأما سقوط الواجب لمضرة في الدنيا ؛ وإباحة المحرم لحاجة في الدنيا ؛ كسقوط الصيام لأجل السفر ؛ وسقوط محظورات الإحرام وأركان الصلاة لأجل المرض، فهذا باب آخر يدخل في سعة الدين ورفع الحرج الذي قد تختلف فيه الشرائع ؛ بخلاف الباب الأول ؛ فإن جنسه مما لا يمكن اختلاف الشرائع فيه وإن اختلفت في أعيان ه، بل ذلك ثابت في العقل كما يقال : ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر ، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين "
.
إلى أن قال: " فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما لم يكن الآخر في هذه الحال واجبا، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة ، وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرما في الحقيقة ، وإن سمي ذلك ترك واجب ، وسمي هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر ، ويقال في مثل هذا: ترك الواجب لعذر
وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة ؛ أو لدفع ما هو أحرم ، وهذا كما يقال لمن نام عن صلاة أو نسيها : إنه صلاها في غير الوقت المطلق قضاء . هذا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ، فإن ذلك وقتها ، لا كفارة لها إلا ذلك) .
وهذا باب التعارض باب واسع جدا لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة، فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة، فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات : وقع الاشتباه والتلازم
فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة أو يتبين لهم فلا يجدون من يعينهم على العمل بالحسنات وترك السيئات ؛ لكون الأهواء قارنت الآراء ، ولهذا جاء في الحديث : (إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات) . فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل"
انتهى من " مجموع الفتاوى " باختصار (20/48-58). وراجعه بتمامه فإنه مهم.
ولابن القيم رحمه الله تقرير نافع أيضا في هذا الباب .
قال رحمه الله:
" هذا فصل عظيم النفع جدا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به؛ فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد".
ثم قال: " ونحن نذكر تفصيل ما أجملناه في هذا الفصل بحول الله وتوفيقه ومعونته بأمثلة صحيحة:
المثال الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ، ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه ، وأبغض إلى الله ورسوله : فإنه لا يسوغ إنكاره ، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم ، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر .
وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها وقالوا: أفلا نقاتلهم ؟ فقال : لا ؛ ما أقاموا الصلاة .
وقال: من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينزعن يدا من طاعته.
ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك مع قدرته عليه خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء...
المثال الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى أن تقطع الأيدي في الغزو). رواه أبو داود. فهذا حد من حدود الله تعالى وقد نهى عن إقامته في الغزو خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره، من لحوق صاحبه بالمشركين حمية وغضبا، كما قاله عمر وأبو الدرداء وحذيفة وغيرهم..."
انتهى من " إعلام الموقعين " (3/3-5).
ثانيا:
أما مصافحة الأجنبية القريبة لدرء مفسدة نفورها من الدعوة، فهنا مفسدتان، والظاهر أنه يمكن دفعهما معا فلا يتعين ارتكاب واحدة منهما.
وذلك بأن يقرن عدم المصافحة ببيان الحكم الشرعي وأنه ما امتنع من ذلك إلا امتثالا لأمر الشرع، مع إقراره بمكانة هذه القريبة وحقها عليه، ونحو ذلك مما يطيب خاطرها، ويمنع نفورها.
ثالثا:
المحرمات درجات، فالمحرم تحريم مقاصد أشد من المحرم تحريم وسائل، وهذا الأخير يباح للحاجة، كما أبيح النظر للمخطوبة، ونظر الطبيب لموضع الألم، لأن تحريم النظر هو من باب تحريم الوسائل. قال ابن القيم رحمه الله: (وما حرم تحريم الوسائل، فإنه يباح للحاجة، أو المصلحة الراجحة، كما يباح النظر إلى المخطوبة، ومن شهد عليها، أو يعاملها، أو يطبّها)
انتهى من " زاد المعاد " (2/242).
اخوة الاسلام
في الاجابت التالية اكثر توضيح
اسره منتدي الحلقه الاسلامي
وهذا داخل في فقه الموازنة ، فإذا تعارضت المصلحة الحاجية، مع المفسدة التي حرمت تحريم وسائل ، ارتكتبت المفسدة ، وهذا لا يعارض قاعدة: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"، فإنها مقيدة بما إذا استوت المصلحة والمفسدة في الرتبة
اخوة الاسلام
في الاجابت التالية اكثر توضيح
اسره منتدي الحلقه الاسلامي
ومما سبق يعلم جواب سؤالك الأخير، فالموازنة لا تختص بالمستحبات والمكروهات، بل تدخل في عموم المراتب.
والخلاصة :
أن هذا الباب من أبواب العلم هو من أدق الأبواب ، ويحتاج إلى فقهٍ دقيق بالمصالح والمفاسد الحقيقية – لا المتوهمة- ومعرفة مراتبها حتى يمكن الترجيح بينها بعلم وعدل ، والناس في هذا طرفان ووسط ، كما تقدم في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
اخوة الاسلام
في الاجابت التالية اكثر توضيح
اسره منتدي الحلقه الاسلامي
والله أعلم.
*عبدالرحمن*
2018-03-13, 16:12
فقه الموازنات
السؤال:
ما هو فقه الموازنات , وما موقف الإسلام منه ؟
الجواب :
الحمد لله
فقه الموازنات يقصد به الفقه الذي يتعلق بالمصالح والمفاسد , وطرق الترجيح بين المصالح عند التعارض والتزاحم , وكذا الترجيح بين المفاسد إذا تعين فعل بعضها .
وقد عَرَّفه كثير من المعاصرين بتعريفات متقاربة , منها ما ذكره الدكتور عبد الله الكمالي بأنه "المفاضلة بين المصالح والمفاسد المتعارضة والمتزاحمة لتقديم أو تأخير الأوْلى بالتقديم أو التأخير"
انتهى من " تأصيل فقه الموازنات " ، عبد الله الكمالي (ص 49) .
وقد جاء في نصوص القرآن الكريم ما يشهد لهذا النوع من الفقه بالاعتبار ,
فمن ذلك قوله تعالى في قصة موسى والخضر عليهما السلام : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا . وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا . فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا )الكهف / 79 – 81، فالخضر عليه السلام بما علَّمه الله من علم وحكمة أقدَم على مفسدة خرق السفينة ليدفع مفسدة ضياعها بالكلية على يد الملك الظالم الذي يأخذ كل سفينة غصبا , وأقدم على مفسدة قتل الغلام ليدفع مفسدة إرهاق أبويه طغيانا وكفرا , وكانت هذه الصورة الأخيرة جائزة في حقه غير جائزة في شرعنا .
وفي ذلك يقول العز بن عبد السلام في " قواعد الأحكام في مصالح الأنام " (2 / 58)
: " ولو اطلع موسى على ما في خرق السفينة من المصلحة ، وعلى ما في قتل الغلام من المصلحة، وعلى ما في ترك السفينة من مفسدة غصبها، وعلى ما في إبقاء الغلام من كفر أبويه وطغيانهما ، لما أنكر عليه ولساعده في ذلك وصوب رأيه ، لما في ذلك من القربة إلى الله - عز وجل -، ولو وقع مثل ذلك في زماننا هذا لكان حكمه كذلك ، وله أمثلة كثيرة : منها: أن تكون السفينة ليتيم يخاف عليها الوصي أن تغصب ، وعلم الوصي أنه لو خرقها لزهد الغاصب عن غصبها، فإنه يلزمه خرقها حفظا للأكثر بتفويت الأقل ، فإن حفظ الكثير الخطير بتفويت القليل الحقير من أحسن التصرفات وقد قال تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) [الأنعام: 152] " انتهى .
وفي السنة المطهرة ما يدل على ذلك أيضا , ومن ذلك:
أولا: أخرج البخاري (1586) ، ومسلم (1333) عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا : ( يَا عَائِشَةُ ، لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالأَرْضِ ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ ، بَابًا شَرْقِيًّا ، وَبَابًا غَرْبِيًّا ، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ ) .
فهذا دليل على تقديم أولى المصلحتين ودفع أكبر المفسدتين .
وفي ذلك يقول النووي رحمه الله تعالى عند شرحه لهذا الحديث : "فِيهِ دَلِيلٌ لِتَقْدِيمِ أَهَمِّ الْمَصَالِحِ عِنْدَ تَعَذُّرِ جَمِيعِهَا "
انتهى من " شرح النووي على مسلم" (9 / 90).
وفي " شرح الزرقاني على الموطأ " (2 / 448):
" وَفِيهِ تَرْكُ مَا هُوَ صَوَابٌ خَوْفَ وُقُوعِ مَفْسَدَةٍ أَشَدَّ، وَاسْتِئْلَافُ النَّاسِ إِلَى الْإِيمَانِ ، وَاجْتِنَابُ وَلِيِّ الْأَمْرِ مَا يَتَسَارَعُ النَّاسُ إِلَى إِنْكَارِهِ ، وَمَا يُخْشَى مِنْهُ تَوَلُّدُ الضَّرَرِ عَلَيْهِمْ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا ، وَتَأَلُّفَ قُلُوبِهِمْ بِمَا لَا يُتْرَكُ فِيهِ أَمْرٌ وَاجِبٌ ، كَمُسَاعَدَتِهِمْ عَلَى تَرْكِ الزَّكَاةِ وَشِبْهِ ذَلِكَ ، وَفِيهِ تَقْدِيمُ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ مِنْ دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ ، وَجَلْبِ الْمَصْلَحَةِ ، وَأَنَّهُمَا إِذَا تَعَارَضَا بُدِئَ بِرَفْعِ الْمَفْسَدَة " انتهى .
ثانيا:
ما أخرجه البخاري (220) ، ومسلم (284) :
" أن أَعْرَابِيا بَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ ، فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ) . قال النووي في شرحه على مسلم (3 / 191): " وَفِيهِ دَفْعُ أَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَخَفِّهِمَا ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (دَعُوهُ) قَالَ الْعَلَمَاءُ: كَانَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (دَعُوهُ) لِمَصْلَحَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ عَلَيْهِ بَوْلَهُ تَضَرَّرَ وَأَصْلُ التَّنْجِيسِ قَدْ حَصَلَ فَكَانَ احْتِمَالُ زِيَادَتِهِ أَوْلَى مِنْ إِيقَاعِ الضَّرَرِ بِهِ . وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ التَّنْجِيسَ قَدْ حَصَلَ فِي جُزْءٍ يَسِيرٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فَلَوْ أَقَامُوهُ فِي أَثْنَاءِ بَوْلِهِ لَتَنَجَّسَتْ ثِيَابُهُ وَبَدَنُهُ وَمَوَاضِعُ كَثِيرَةٌ من المسجد" انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في " فتح الباري " (1 / 324) :
" لَمْ يُنْكِرِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّحَابَةِ ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ لِمَ نَهَيْتُمُ الْأَعْرَابِيَّ ، بَلْ أَمَرَهُمْ بِالْكَفِّ عَنْهُ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ ، وَهُوَ دَفْعُ أَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَيْسَرِهِمَا ، وَتَحْصِيلُ أَعْظَمِ الْمَصْلَحَتَيْنِ بِتَرْكِ أَيْسَرِهِمَا " انتهى .
وقال الإمام بدر الدين العيني في " عمدة القاري شرح صحيح البخاري " (3 / 127):
" فيه دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما، فإن البول فيه مفسدة ، وقطعه على البائل مفسدة أعظم منها ، فدفع أعظمهما بأيسر المفسدتين ، وتنزيه المسجد عنه مصلحة وترك البائل إلى الفراغ مصلحة أعظم منها، فحصل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما" انتهى.
ولم يستخدم الفقهاء الأوائل مصطلح (فقه الموازنات) وإنما تحدثوا عن مضمونه ومحتواه عند حديثهم عن تعارض المصالح وتزاحمها , وكذا المفاسد .
ومثال ذلك قول العز بن عبد السلام في " قواعد الأحكام في مصالح الأنام " (1 / 5): "
ومعظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل ، وذلك معظم الشرائع ؛ إذ لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع أن تحصيل المصالح المحضة ، ودرء المفاسد المحضة ، عن نفس الإنسان وعن غيره : محمود حسن ، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها : محمود حسن ، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها : محمود حسن ، وأن تقديم المصالح الراجحة على المرجوحة : محمود حسن، وأن درء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن " انتهى.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (20 / 57) : "
فإذا ازْدَحَمَ وَاجِبَانِ لَا يُمْكِنُ جَمْعُهُمَا ، فَقُدِّمَ أَوْكَدُهُمَا : لَمْ يَكُنْ الْآخَرُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَاجِبًا , وَلَمْ يَكُنْ تَارِكُهُ لِأَجْلِ فِعْلِ الْأَوْكَدِ : تَارِكَ وَاجِبٍ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَكَذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَ مُحَرَّمَانِ لَا يُمْكِنُ تَرْكُ أَعْظَمِهِمَا ، إلَّا بِفِعْلِ أَدْنَاهُمَا : لمْ يَكُنْ فِعْلُ الْأَدْنَى فِي هَذِهِ الْحَالِ مُحَرَّمًا فِي الْحَقِيقَةِ , وَإِنْ سُمِّيَ ذَلِكَ تَرْكَ وَاجِبٍ ، وَسُمِّيَ هَذَا فِعْل مُحَرَّمٍ ، بِاعْتِبَارِ الْإِطْلَاقِ : لَمْ يَضُرَّ، وَيُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا تَرْكُ الْوَاجِبِ لِعُذْرِ ، وَفِعْلُ الْمُحَرَّمِ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ أَوْ لِلضَّرُورَةِ ؛ أَوْ لِدَفْعِ مَا هُوَ أحرم" انتهى .
وجاء في " الفروق" للقرافي (3 / 22) : "
إنَّ شَأْنَ الشَّرَائِعِ دَفْعُ أَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِإِيقَاعِ أَدْنَاهَا ، وَتَفْوِيتُ الْمَصْلَحَةِ الدُّنْيَا بِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ الْعُلْيَا" انتهى.
وجاء في " المنثور في القواعد الفقهية " (1 / 348): " وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: مِنْ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ : أَنْ تُدْرَأَ أَعْظَمُ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَيْسَرِهِمَا" انتهى.
والخلاصة :
أن فقه الموازنات يعتمد على تقديم المصلحة الكبرى على المصلحة الصغرى , ومصلحة العامة على مصلحة الخاصة , ومصلحة الكثرة على مصلحة القلة , ويعتمد أيضا تقديم الضروريات على الحاجيات , وتقديم الحاجيات على التحسينيات , وهكذا أبدا: تقديم الأهم على المهم , والراجح على المرجوح .
والله أعلم.
*عبدالرحمن*
2018-03-13, 16:17
قاعدة درء المفاسد أولى من جلب المصالح
مقيدة بحالة التكافؤ
السؤال:
قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله رحمة واسعة - وهو يشرح هذا البيت :
ومع تساوى ضرر ومنفعة ... يكون ممنوعاً لدرء المفسدة في منظومته- رحمه الله - في القواعد الفقهية ص 21 : " القاعدة الثالثة : وهي التي يعبر عنها العلماء بقولهم : " درء المفاسد أولى من جلب المصالح " ولكنها مقيدة بما ذكرناه في هذا البيت . وهو أنه : إذا اجتمع في الشيء المنافع ، وتساوت المنافع والمضار
فإنه يكون ممنوعاً من أجل المفسدة ، وهذا القيد الذى ذكره الناظم قيد لا بد منه ، وهو قيد لما اشتهر من قول العلماء : إذا اجتمعت مصلحة ومفسدة غلب جانب المفسدة . و هذا ليس على إطلاقه ، بل هو مع التساوي ، أما إذا ترجحت المنفعة فإنه يؤخذ بها ، وإذا ترجحت المفسدة فإنه يغلب جانبها " .
والسؤال : في الجزء الأخير قوله رحمه الله : " أما إذا ترجحت المنفعة فإنه يؤخذ بها ، وإذا ترجحت المفسدة فإنه يغلب جانبها ". هل هذا على إطلاقه ، أم إنه مقيد بأن تكون المنفعة من الضرورات أو من الحاجات . أرجو منكم التوضيح ؟
الجواب :
الحمد لله
عند اجتماع المصالح والمفاسد في الحالة الواحدة فإن فقه الموازنة بينهما في قسمة العقل لا يخرج عن ثلاث حالات :
الحالة الأولى : أن تكون المصلحة هي الراجحة فتقدَّم ، وتحتمل المفسدة الأدنى ، في سبيل تحصيل المصلحة الأعظم ، ومن أمثلته جواز التلفظ بكلمة الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان في حالة الإكراه ، وذلك تقديما لمصلحة حفظ الروح على مفسدة الكفر اللساني .
ولا يخفى أن تقرير كون المصلحة أرجح وأعظم من المفسدة في هذه الحالة ، من المباحث الدقيقة التي تقتضي كثيراً من التأني والتأمل في الأدلة الشرعية ، ومن ذلك مراعاة تعلق المصلحة أو المفسدة بالضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات ، واعتبار هذه المستويات أثناء المقارنة الترجيحية بينهما ، وإلا وقع الخطأ والخلل ، واضطربت القواعد بسبب الإجمال .
وهذا يدل على أن تقديم المصالح على المفاسد يدخل في جميع الدرجات : الضرورية والحاجية والتحسينية ؛ إذ ليس ثمة ما يمنع من انطباق القاعدة على التحسينيات .
ولما قرر العز بن عبد السلام رحمه الله هذه القاعدة قسم المصلحة التي ترجح على المفسدة إلى أقسام ، فقال : " وهذه المصالح أقسام : أحدها ما يباح . والثاني : ما يجب لعظم مصلحته . والثالث : ما يستحب لزيادة مصلحته على مصلحة المباح . والرابع : مختلف فيه " انتهى.
فتأمل كيف أدخل المصالح المباحة تحت هذه القاعدة ، وهي مصالح تحسينية ، ومؤكد أنه لن يتم تقديم مصلحة تحسينية على مفسدة تتعلق بالضروريات ، بل لا بد من مراعاة اندراجها تحت ميزان واحد .
وأمثلة المنافع الضرورية أو الحاجية توسع بذكرها العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه الفذ : " قواعد الأحكام في مصالح الأنام "، يمكن مراجعته لمن أراد التوسع .
وأما أمثلة ترجيح المصلحة على المفسدة في بعض القضايا التحسينية أو التكميلية فهي قليلة ، ولكنها موجودة ، منها على سبيل المثال :
أولا :
ما ذكره العلماء في شرح حديث ذهاب ابن عمر إلى سرادق الحجاج في الحج وقوله له : ( الرواح إن كنت تريد السنة ) رواه البخاري (1660) وفي ذلك يقول الحافظ ابن حجر : " فيه احتمال المفسدة الخفيفة لتحصيل المصلحة الكبيرة ، يؤخذ ذلك من مضي ابن عمر إلى الحجاج وتعليمه "
انتهى من " فتح الباري " (3/512) .
ثانياً : من الأمثلة التي ذكرها العز بن عبد السلام ، ونراها تنطبق على سؤال السائل ، قوله رحمه الله : " هجرة المسلم محرمة لما فيها من المفسدة ، لكنها جازت في ثلاثة أيام دفعا للمشقة عن المحرج الغضبان ... والحجر على المرضى فيما زاد على الثلث مفسدة في حقهم ، لكنه ثبت نظرا لمصلحة الورثة في سلامة الثلثين لهم ، كما ثبت تقديم حقه في الثلث على حقوقهم "
انتهى باختصار من " قواعد الأحكام " (1/104) .
الحالة الثانية : أن تكون المفسدة هي الراجحة ، وأعظم من المصلحة ، فدرؤها مقدم على جلب المصلحة ، كمن خير بين مصلحة المال ومفسدة قتل النفس ، فلا شك أن الأولى أن يضحي بالمال لأجل درء القتل .
يقول العز بن عبد السلام رحمه الله :
" فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة : درأنا المفسدة ، ولا نبالي بفوات المصلحة ، قال الله تعالى : ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ) البقرة/ 219 ، حرمهما لأن مفسدتهما أكبر من منفعتهما " .
انتهى من " قواعد الأحكام " (1/98) .
الحالة الثالثة : أن تستوي المصلحة والمفسدة ، فهنا يأتي محل القاعدة المشهورة " درء المفاسد مقدم على جلب المصالح "، هذا مع العلم أن هذه الحالة الثالثة محل نزاع بين العلماء ، فقد أنكر كثير منهم وقوعها ، وقالوا من المتعذر الحكم بتساوي المصالح والمفاسد في إحدى الحالات ، بل لا بد من تأثير إحدى المرجحات لتنقل الحالة إلى الصورة الأولى أو الثانية .
يقول الإمام السبكي رحمه الله :
" درء المفاسد أولى من جلب المصالح . ويستثنى مسائل ، يرجع حاصل مجموعها إلى أن المصلحة إذا عظم وقوعها ، وكان وقع المفسدة [أخف] : كانت المصلحة أولى بالاعتبار . ويظهر بذلك أن درء المفاسد ؛ إنما يترجح على جلب المصالح إذا استويا ".
انتهى من " الأشباه والنظائر " (1/105).
ويقول الأمير الصنعاني رحمه الله :
" دفع المفاسد أهم من جلب المصالح عند المساواة "
انتهى من " إجابة السائل " (ص/198) .
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله :
" عند التكافؤ فدرء المفاسد أولى من جلب المصالح "
.
انتهى من " رسالة لطيفة جامعة في أصول الفقه المهمة " (ص/104) .
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-13, 16:24
اباحة المحرم للضرورة وشروط ذلك
السؤال :
أعرف أن المحرمات تكون حلالاً إذا وجدت ضرورة لفعلها ، فهل لهذا الحكم شروط ، حتى يكون تطبيقه صحيحاً؟
الجواب
الحمد لله
من القواعد المقررة في الشريعة الإسلامية ، والتي اتفق عليها العلماء : أن "الضرورات تبيح المحظورات" .
وقد دل على هذه القاعدة أدلة كثيرة من القرآن الكريم والسنة النبوية ، قمن ذلك قوله الله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) المائدة/3 .
وقوله تعالى : (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) الأنعام/119 .
ومن أمثلة هذه القاعدة :
1- أكل الميتة لمن لم يجد غيرها وخشي الموت من الجوع .
2- التلفظ بكلمة الكفر تحت وطأة التعذيب والإكراه .
3- دفع الصائل المعتدي الظالم ولو أدى ذلك إلى قتله .
انظر : "الأشباه والنظائر" لابن نجيم ص 85 .
والضرورة هي : ما يلحق الإنسان ضرر بتركه ، وهذا الضرر يلحق الضروريات الخمس وهي : (الدين ، والنفس ، والعرض ، والعقل ، والمال) .
وأما شروط إباحة المحرم للضرورة ، فقد ذكر الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله شرطين لذلك ، وشرحهما شرحاً وافياً مع الأمثلة وذكر بعض الاعتراضات والجواب عليها ، ولهذا نكتفي بذكر كلامه ، قال رحمه الله :
"وهذه القاعدة من القواعد الفقهية الأصولية التي دل عليها الشرع ، "كل شيء ممنوع فإنه يحل للضرورة" ...
فالممنوع يباح للضرورة ولكن بشرطين :
الشرط الأول :
أن نضطر إلى هذا المحرم بعينه ، بمعنى : أن لا نجد شيئاً يدفع الضرورة إلا هذا الشيء المحرم ، فإن وجد سواه فإنه لا يحل ، ولو اندفعت الضرورة به .
الشرط الثاني : أن تندفع الضرورة به ، فإن لم تندفع الضرورة به فإنه يبقى على التحريم ، وإن شككنا هل تندفع أو لا ؟ فإنه يبقى أيضاً على التحريم ، وذلك لأن ارتكاب المحظور مفسدة متيقنة ، واندفاع الضرورة به مشكوك فيه ، ولا ينتهك المحرم المتيقن لأمر مشكوك فيه.
ومن ثَمَّ يختلف الحكم في رجل جائع لم يجد إلا ميتة ، فهنا نقول : كُلْ من الميتة . فإذا قال : هذا انتهاك للمحرم ، قلنا : حَلَّ لك للضرورة ، لأنه ليس عندك ما تأكله سوى هذا ، ولأنك إذا أكلت اندفعت الضرورة به .
ورجل قيل له : إن تناول الخمر يشفيك من المرض ، فهنا نقول : لا يحل لك أن تتناول الخمر ولو قيل لك : إنه يشفيك من المرض . لماذا؟
أولاً : لأنه لا يتيقن الشفاء به ، فإنه ربما يشربه ولا يبرأ من المرض ، فإننا نرى كثيراً من المرضى يتناولون أدوية نافعة ، ثم لا ينتفعون بها .
ثانياً : أن المريض قد يبرأ بدون علاج ، بتوكله على الله ، ودعائه ربه ، ودعاء الناس له ، وما أشبه ذلك . هذا من حيث التعليل .
أما من حيث الدليل ؛ فقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) فهذا الحكم معقول العلة ، لأن الله سبحانه لم يحرمه علينا إلا لأنه ضار بنا ، فكيف يكون المحرم شفاءً ودواءً؟
ولهذا يحرم التداوي بالمحرم ، كما نص عليه أهل العلم ، ولا يقال : هذا ضرورة ؛ كما يظنه بعض الناس .
لو قال قائل : إنسان غَصَّ ، وليس عنده إلا كوب خمر ، فهل يجوز أن يشرب هذا الكوب لدفع الغصة؟
الجواب : يجوز ، لأن الشرطين وجدا فيه .
فهو قد اضطر إلى هذا بعينه ، ونتيقن زوال الضرورة به ، فنقول : اشرب الخمر ، ولكن إذا زالت الغصة فكفَّ عن الشراب .
لو قال قائل : رجل وجد لحماً مذبوحاً حلالاً ولحماً لحيوان ميت ، فهل له أكل الميت لكونه مضطراًّ لذلك؟
الجواب : ليس له ذلك ، لأن الضرورة تندفع بغيره ، فلا يحل ، لعدم تحقق الشرط الأول .
ولو قال : أنا عطشان وليس عندي إلا كوب خمر . فهل أشرب؟
الجواب : لا ، كما قال العلماء ، لأنه لا تندفع به الضرورة ، بل لا يزيده إلا عطشاً ، فإذاً لا فائدة من انتهاك المحرم ، لأنه لا تندفع به الضرورة ، فلم يتحقق الشرط الثاني .
ولو قال قائل : لو اضطر المريض إلى شرب الدم للتداوي به فهل يجوز له ذلك؟
الجواب : لا يجوز له ذلك ، لانتفاء الشرطين" انتهى .
"شرح منظومة أصول الفقه وقواعده (صـ 59 – 61) .
والله أعلم
*عبدالرحمن*
2018-03-13, 16:27
شروط إباحة المحرم عند الضرورة
السؤال :
أعرف أن من الأمور ما تكون حراماً ثم لظروف معينة تصير حلالاً بدافع الضرورة ، أرجو أن تدلني على شروط ذلك .
الجواب :
الحمد لله
من القواعد المقررة في شريعتنا أن " الضرورات تبيح المحظورات " ، وقد دل على هذه القاعدة أدلة كثيرة ، من الكتاب ، والسنَّة ، منها : قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) البقرة/ 173 .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله :
(فَمَنِ اضْطُرَّ) أي : ألجئ إلى المحرَّم ، بجوع ، أو عدم [يعني : عدم وجود طعام غير الميتة] ، أو إكراه .
(غَيْرَ بَاغٍ) أي : غير طالب للمحرَّم ، مع قدرته على الحلال ، أو مع عدم جوعه .
(وَلا عَادٍ) أي : متجاوز الحد في تناول ما أبيح له اضطراراً ، فمَن اضطر وهو غير قادر على الحلال ، وأكل بقدر الضرورة : فلا يزيد عليها .
(فَلا إِثْمَ) أي : جناح عليه ، وإذا ارتفع الجناح - الإثم - : رجع الأمر إلى ما كان عليه ، والإنسان بهذه الحالة مأمور بالأكل ، بل منهي أن يلقي بيده إلى التهلكة ، وأن يقتل نفسه ، فيجب إذًا عليه الأكل ، ويأثم إن ترك الأكل حتى مات ، فيكون قاتلاً لنفسه , وهذه الإباحة والتوسعة من رحمته تعالى بعباده ، فلهذا ختمها بهذين الاسمين الكريمين المناسبين غاية المناسبة فقال : (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
ولما كان الحِلُّ مشروطاً بهذين الشرطين ، وكان الإنسان في هذه الحالة ربما لا يستقصي تمام الاستقصاء في تحقيقها : أخبر تعالى أنه غفور ، فيغفر ما أخطأ فيه في هذه الحال ، خصوصاً وقد غلبته الضرورة ، وأذهبت حواسه المشقة .
وفي هذه الآية دليل على القاعدة المشهورة : " الضرورات تبيح المحظورات " ، فكل محظور اضطر إليه الإنسان : فقد أباحه له الملك الرحمن ، فله الحمد والشكر ، أولاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً .
" تفسير السعدي " ( ص 81 ) .
ومن أدلة السنَّة :
عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّا بِأَرْضٍ تُصِيبُنَا بِهَا مَخْمَصَةٌ ، فَمَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ الْمَيْتَةِ ؟ قَالَ : (إِذَا لَمْ تَصْطَبِحُوا وَلَمْ تَغْتَبِقُوا وَلَمْ تَحْتَفِئُوا بَقْلًا فَشَأْنُكُمْ بِهَا) رواه أحمد (36/227) ، وحسنه المحققون لطرقه وشواهده .
تصطبحوا : المراد به الغداء .
تغتبقوا : المراد به العشاء .
تحتفئوا : بقلا . أي : تجمعوا بقلاً وتأكلوه .
وقد مَثَّل العلماء على الضرورات تبيح المحظورات – غير أكل الميتة عند المخمصة - : إساغة اللقمة بالخمر , والتلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه , ودفع المعتدي ولو أدى إلى قتله .
انظر : "الأشباه والنظائر" ( ص 85 ) لابن نجيم .
والضرورة التي تبيح فعل المحرم هي :
ما يلحق العبد ضرر بتركه - وهذا الضرر يلحق الضروريات الخمس : الدِّين ، والنفس ، والنسل ، والعقل ، والمال .
وأما شروط إباحة المحرم للضرورة فقد قال الدكتور عبد الله التهامي – وفقه الله - في بيان ذلك :
"هناك شروط ، وقيود ، لا بد من حصولها في حالةٍ ما ؛ ليسوغ تسميتها ضرورة شرعية ، ولا يمكن أن تكون تلك الحالة ضرورة شرعية مع تخلف شيء من هذه الضوابط ، وإليك بيان هذه الضوابط ، مع الاستدلال لها :
1. أن يترتب على الامتثال للدليل الراجح المحرّم ضرر متعلق بإحدى الكليات الخمس ، كأن تتعرض نفسه للهلاك إن لم يأكل من الميتة .
2. أن يكون حصول الضرر أمراً قاطعاً ، أو ظنًّا غالباً ، ولا يلتفت إلى الوهم والظن البعيد ، كأن يكون المضطر في حالة تسمح له بانتظار الطعام الحلال الطيب ، فلا يقدم على تناول الميتة والحالة كذلك حتى يجزم بوقوع الضرر على نفسه ، فيجوز حينها تناول الميتة ، ودليل ذلك : ما علم في الشريعة من أن الأحكام تناط باليقين والظنون الغالبة ، وأنه لا التفات فيها إلى الأوهام ، والظنون المرجوحة البعيدة .
3. ألاّ يُمكن دفع هذا الضرر إلا بالمخالفة ، وعدم الامتثال للدليل المحرِّم ، فإن أمكن المضطر أن يدفع هذا الضرر بأمرين أحدهما جائز والآخر ممنوع : حرُم عليه ارتكاب المخالفة للدليل المحرم ، ووجب عليه دفع الضرر بالأمر الجائز ، كأن يغص بلقمة وأمامه كأسان من الماء ، والخمر .
4. ألا يعارِض هذه الضرورة عند ارتكابها ما هو أعظم منها ، أو مثلها ، كأن يأكل المضطر طعام مضطر آخر ، ووجه ذلك : ما ورد من قواعد مثل : " الضرر لا يزال بمثله" انتهى من "مجلة البيان" (عدد 120 ، ص 8) .
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله : "ليس هناك ضرورة تبيح المحرم إلا بشرطين :
1. أن نعلم أنه لا تزول ضرورته إلا بهذا .
2. أن نعلم أن ضرورته تزول به" انتهى .
"لقاء الباب المفتوح" (3/19) .
وعلى هذا ، فشروط إباحة المحرم للضرورة هي :
1- وجود الضرورة .
2- ألا توجد وسيلة لدفع الضرر إلا بفعل هذا المحرم .
3- أن يكون فعل المحرم مزيلاً للضرورة قطعاً ، فإن حصل شك هل تزول الضرورة بهذا الفعل أم لا؟ فلا يجوز فعل المحرم حينئذ .
4- ألا يعارض هذه الضرورة ما هو مثلها أو أعظم منها .
والله أعلم
*عبدالرحمن*
2018-03-13, 16:29
ليس كل حرام يباح للحاجة؟
السؤال :
أعرف أن من الأمور ما تكون حراماً ثم لظروف معينة تصير حلالاً بدافع الضرورة ، وقد وجدتُ رجلاً واسع العلم يقول لي : إن الحرام ينقلب حلالاً بدافع الحاجة أيضاً ، فهل هذا حقيقي ؟
وإلى أي مدى ؟
وما هي شروط تحقيق ذلك ؟
وأنا أسأل ذلك لما نواجهه في البلدان غير الإسلامية .
الجواب :
الحمد لله
سبق الكلام على قاعدة "إباحة المحرم للضرورة" وبيان شروط ذلك .
أما إباحة المحرم للحاجة ، فهذا صحيح ، وله أمثلة جاء بها الشرع ، وسيأتي ذكر بعضها إن شاء الله .
والفرق بين الحاجة والضرورة : أن الضرورة ما يلحق الإنسان ضرر بعدمه ، ولا يوجد غيره يقوم مقامه . وأما الحاجة فهي ما يلحق الإنسان بتركه مشقة ، وقد يقوم غيره مقامه .
وقد ذكر العلماء شرطاً لإباحة المحرم للحاجة ، وهو :
أن يكون هذا المحرم محرماً تحريم الوسائل ، لا المقاصد .
وذلك أن المحرمات نوعان :
الأول : محرم تحريم مقاصد ، كأكل الميتة ، وشرب الخمر ، فهذا لا يباح للحاجة ، وإنما يباح للضرورة .
النوع الثاني : محرم تحريم وسائل ، كلبس الحرير ، وربا الفضل ... فهذا يباح للحاجة .
قال أبو عبد الله الزركشي رحمه الله :
فالضرورة : بلوغه حدّاً إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب كالمضطر للأكل ، واللبس بحيث لو بقي جائعاً أو عرياناً لمات ، أو تلف منه عضو ، وهذا يبيح تناول المحرم .
والحاجة : كالجائع الذي لو لم يجد ما يأكل لم يهلك ، غير أنه يكون في جهد ومشقة ، وهذا لا يبيح المحرَّم .
"المنثور في القواعد" (2/319) .
ومثال ذلك : جواز لبس الرجل لثوب حرير من أجل حكة به . وقد جاءت السنة بذلك .
مثال آخر : إباحة ربا الفضل للحاجة ، فقد رخص الرسول صلى الله عليه وسلم في بيع الرطب على رؤوس النخل بتمر كيلاً ، مع أن الأصل تحريم هذه المعاملة ، لأنه لا يمكن حصول التساوي بين الرطب والتمر ، لأن الرطب ينقص إذا جف ، فتكون هذه الصورة داخلة في ربا الفضل ، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم رخص فيها للحاجة .
انظر : "إعلام الموقعين" (2/137) .
وقد نظم ذلك القول والمثال : الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في منظومته في أصول الفقه وقواعده ، فقال :
لكنَّ ما حُرِّمَ للذَّرِيعَةِ ... يَجُوزُ للحَاجَةِ كَالعَريَّةِ
وقد شرح ذلك بقوله :
"هذا مستثنى من قوله : (وكل ممنوع فللضرورة يباح) لأن ظاهره أنه لا يباح المحرم إلا عند الضرورة ، فاستثنى من ذلك ما كان محرماً للذريعة ، فإن حكمه حكم المكروه ، يجوز عند الحاجة .
مثاله : العَرِيَّة وهي : عبارة عن بيع الرطب على رؤوس النخل بالتمر ، وأصل بيع الرطب بالتمر حرام ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع التمر بالرطب فقال : (أينقص إذا جف؟) قالوا : نعم ، فنهى عن ذلك .
ووجهه : أن بيع التمر بالتمر لابد فيه من التساوي ، ومعلوم أن الرطب مع التمر لا يتساويان ، فإذا كان هذا الفلاح عنده الرطب على رؤوس النخل ، وجاء شخص فقير ليس عنده دراهم يشتري رطباً يتفكه به مع الناس ، لكن عنده تمر من العام الماضي ، فلا حرج أن يشتري الرطب بالتمر للحاجة لأنه ليس عنده دراهم ، ولو باع التمر أولاً ثم اشترى رطباً ففيه تعب عليه ، وربما ينقص ثمن التمر ، فيجوز له أن يشتري الرطب بالتمر للحاجة بشروط :
1- أن لا يتجاوز خمسة أوسق .
2- وأن لا يدع الرطب حتى يتمر .
3- وأن يكون الرطب مخروصاً بما يؤول إليه تمراً ، مثل أن يقال : هذا الرطب إذا صار تمراً صار مماثلاً للتمر الذي بذله للمشتري .
4- وأن لا يجد ما يشتري به سوى هذا التمر .
5- وأن يكون الرطب على رؤوس النخل ، لئلا يفوته التفكه شيئاً فشيئاً .
فإذا قال قائل : ألا يمكن أن يبيع التمر ويشتري الرطب كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فيما إذا كان عند الإنسان تمر رديء ، وأراد تمراً جيداً أنه لا يبيع التمر الرديء بتمر جيد أقل منه ، بل أمر أن يباع الرديء بالدراهم ، ثم يشتري بالدراهم تمراً جيداً ، فلماذا نقول بالعَرِيَّة ، ولا نقول : بع التمر ثم اشتر بالدراهم رطباً؟
فالجواب على هذا : أولاً : أن السنة فرقت بينهما ، وكل شيء فرق الشرع فيه فإن الحكمة بما جاء به الشرع ، لأننا نعلم أن الشرع لا يفرق بين متماثلين ، ولا يجمع بين متفرقين ، وما فرق الشرع بينهما وظننا أنهما متماثلان ، فإن الخطأ في فهمنا ، فيكفي أن نقول : جاء الشرع بحل هذا ومنع هذا ، لكن مع ذلك يمكن أن نجيب عقلاً عن هذا ، فيقال : إن الصحابة رضي الله عنه كانوا يبيعون التمر الرديء بالتمر الجيد مع التفاضل ، وهذا ربا صريح لا يحل .
أما في مسألة العَرِيَّة فيجب أن يخرص الرطب بحيث يساوي التمر لو أتمر ، بمعنى : أننا نخرص الرطب بحيث يكون هذا الرطب إذا يبس وصار تمراً على مقدار التمر الذي اشترى الرطب به .
ثانيا : أن نقول : إن ربا الفضل إنما حُرم لكونه ذريعة إلى ربا النسيئة ، وذلك لأن ربا الفضل لا يمكن أن يقع بين متماثلين جنساً ووصفاً ، بل لابد أن يكون هناك فرق بينهما في الوصف من أجل زيادة الفضل ، وتتشوف النفوس إلى زيادة الدين إذا تأجل ، وتقول النفس : إذا كانت الزيادة تجوز لطيب الصفة ، والنقص يجوز لرداءة الصفة ، فلتجز الزيادة لزيادة المدة بتأخير الوفاء ، فترتقي النفس من هذا إلى هذا ، والنفس طماعة لا سيما في البيع والشراء ، ولا سيما مع قلة الورع كما في الأزمنة المتأخرة ، لذلك سُدَّ الباب ، وقيل : لا يجوز ربا الفضل ، ولو مع التقابض في المجلس .
والذي يمكن أن يقع في العرية هو ربا الفضل ، وتحريم ربا الفضل علمنا من التقرير الذي ذكرناه أنه إنما يحرم لئلا يكون ذريعة إلى ربا النسيئة ، والذي حرم لكونه ذريعة فإنه يباح عند الحاجة .
فإن قال قائل : الفقير الذي لا دراهم عنده ما ضرورته إلى أن يشتري الرطب بالتمر؟
الجواب : ليس هناك ضرورة ، لأنه يمكن أن يعيش على التمر ، لكن هناك حاجة ، يريد أن يتفكه كما يتفكه الناس ، فلهذا رخِّص له في العرية .
مثال آخر : النظر إلى وجه المرأة الأجنبية حرام ، لأنه وسيلة إلى الفاحشة ، ولهذا جاز للحاجة ، فالخاطب يجوز أن يرى وجه مخطوبته ، والشاهد إذا أراد أن يعرف عين المرأة المشهود عليها ، يجوز أن يرى وجهها ليشهد على المرأة بعينها ، لأن التحريم هنا تحريم وسيلة ، وما كان تحريمه تحريم وسيلة فإنه يجوز عند الحاجة .
مثال آخر : الحرير على الرجال حرام ، لأنه وسيلة إلى أن يتخلق الرجل بأخلاق النساء من الليونة والرقة ، والتشبه بالنساء حرام ، فلما كان تحريمه تحريم وسيلة جاز عند الحاجة ، فإذا كان الإنسان فيه حكة يجوز أن يلبس الحرير من أجل أن تبرد الحكة ، لأن تحريمه تحريم وسائل" انتهى .
"شرح منظومة أصول الفقه وقواعده" (ص 64 – 67) .
والله أعلم
اخوة الاسلام
هكذا تم التوضيح
*عبدالرحمن*
2018-03-13, 16:40
حكم القياس في الرخص
السؤال :
ما حكم القياس على الرخص ، كمن يقيس رخصة الصلاة في البيت حال المطر ، بغيرها من الأمور التي من شأنها أن تسبب عائقاً للمرء أو إزعاجا ؟ ومن العلماء من قاس جواز تأخير الصلاة عند قدوم الطعام ، بغيرها من المسائل التي ينشغل فيها ذهن المرء ، فجعلوا انشغال الذهن سبباً موجباً لاتخاذ الرخصة وتأخير الصلاة .
وماذا لو لم يتوفر الموجب للرخصة ، ولكن توفرت الحالة ؛ كأن تكون السماء ممطرة ، ولكن مع وجود المظلة أو السيارة بحيث يستطيع الوصول إلى المسجد دون أن يبتل ؟ هذا على اعتبار أن البلل هو سبب حيازة الرخصة . وقل مثل ذلك في السفر، فقد يتوفر للمرء السفر على الدرجة الأولى في ظروف مريحة جداً، فهل يجوز له القصر والجمع ؟
وإذا ما جاز ، قلنا فما باله لا يقصر من يعمل عملاً شاقاً ؟ أليس في حالة يصبح فيها أكثر احتياجاً إلى القصر من ذلك المسافر المرتاح على أريكته ؟
الجواب :
الحمد لله
أولا:
القياس على الرخص مختلف فيه عند علماء أصول الفقه ، وقد حكى الدكتور عبد الكريم النملة الخلاف في كتابه " المهذب في علم أصول الفقه المقارن" (4 / 1939) ورجح إثبات الرخص بالقياس وأجاب عن أدلة القائلين بالمنع فقال : " هل يجوز القياس في الرخص كقياس الثلج على المطر في جواز الجمع بين الصلاتين بجامع أن كلًّا منهما يتأذى منه المسلم ؟ اختلف في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يجوز إثبات الرخص بالقياس ، ولا مانع من ذلك ، إذا عرفنا العِلَّة وتحققنا منها. وهو مذهب جمهور العلماء ، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة:
الدليل الأول: عموم الأدلة المثبتة لحجية القياس من الإجماع والكتاب والسُّنَّة والمعقول - كما سبق بيانه -؛ حيث إنها دلَّت على أن القياس يجري في جميع الأحكام الشرعية ، إذا عرفت العلَّة ، وتحققت في الفرع ، ووجدت جميع شروط القياس ، فإن تلك الأدلة لم تفرق بين حكم وحكم ، وبما أن الرخصة حكم من الأحكام الشرعية
فإنها تدخل في هذا العموم.
الدليل الثاني: أن الرخص تثبت بخبر الواحد ، فكذلك تثبت بالقياس ، ولا فرق ؛ بجامع: أن كلًّا منهما يفيد الظن ، ويجوز الخطأ والسهو في كل منهما.
المذهب الثاني: لا يجوز إجراء القياس في الرخص. وهو مذهب الحنفية، وقول للإمام مالك، وقول للإمام الشافعي .
أدلة هذا المذهب:
الدليل الأول: أن الرخص مخالفة للدليل ، فالقول بجواز القياس عليها ، يؤدي ويفضي إلى كثرة مخالفة الدليل ، فوجب أن لا يجوز.
جوابه: أن الدليل إنما يخالفه صاحب الشرع ، لمصلحة تزيد على مصلحة ذلك الدليل ؛ عملاً بالاستقراء ؛ وتقديمُ الأرجح : هو شأن صاحب الشرع، فإذا وجدنا تلك المصلحة التي خولف الدليل لأجلها في صورة أخرى ، وجب أن يخالف الدليل بها - أيضاً - عملاً برجحانها -
فنحن حينئذٍ قد أكثرنا موافقة الدليل ، لا مخالفته.
الدليل الثاني: أن الرخص منح من اللَّه - تعالى - وعطايا ؛ فلا يتعدى بها عن مواضعها؛ حيث إن في قياس غير المنصوص ، على المنصوص ، في الأحكامالاحتكامَ على المُعطي في غير محل إرادته ، وهذا لا يجوز، فينتج من ذلك: عدم جواز إثبات الرخص بالقياس.
جوابه: أن مدار إجراء القياس : على إدراك العلَّة ، والمعنى من شرع الحكم .
وكون الرخص تتصف باليسر والتخفيف : لا يمنع من إجراء القياس فيها ؛ فمتى أدركنا العلَّة التي من أجلها شرعت تلك الرخصة ، ووجدنا تلك العلَّة في شَيء آخر فإننا نعدي تلك الرخصة إلى ذلك الشيء؛ تكثيرا لمنح اللَّه ، وحفظا لحكمة الوصف من الضياع.
وقال إمام الحرمين - في الجواب عن ذلك الدليل -: هذا هذيان ، فإن كل ما يتقلب فيه العباد من المنافع : فهي منح من اللَّه تعالى" انتهى.
وبناء على هذا ؛ فإذا عرفت العلة من مشروعية الرخصة ، وتحققنا من وجود هذه العلة في النوع : فحينئذ يصح القياس .
وهذا القياس لا يمكن أن ينطبق على قصر الصلاة ، لأن العلة في قصر الصلاة هي السفر ، وليست هي المشقة ، فالمسافر يقصر الصلاة ، سواء وَجَد مشقة أم لم يجد ، وغير المسافر (المقيم) لا يقصر الصلاة ، ولو وجدت المشقة .
ولذلك نص العلماء على أنه لا يصح القياس على الرخصة التي لا توجد علتها في غير ما شرعت فيه ، (كرخص السفر) ؛ فإن علة السفر لا توجد في الإقامة ، وكذلك لا يصح القياس إذا لم نعرف علة الرخصة .
جاء في " البحر المحيط في أصول الفقه " (7 / 75):
" وَقَالَ إلْكِيَا: إنَّمَا نَمْنَعُ الْقِيَاسَ عَلَى الرُّخَصِ إذَا كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى حَاجَاتٍ خَاصَّةٍ ، لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الرُّخْصَةِ ؛ فَيَمْتَنِعُ الْقِيَاسُ لِعَدَمِ الْجَامِعِ ، كَغَيْرِ الْمُسَافِرِ يُعْتَبَرُ بِالْمُسَافِرِ فِي رُخَصِ السَّفَرِ ؛ إذْ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ تَخْصِيصِ الشَّرْعِ ...
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يَحْتَمِلُ التَّفْصِيلَ بَيْنَ أَنْ لَا يَظْهَرَ لِلرُّخْصَةِ مَعْنًى : فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا ، وَبَيْنَ أَنْ يَظْهَرَ : فَيُقَاسُ.
وَيَنْزِلُ الْخِلَافُ عَلَى هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ.
وَرَأَيْت فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ التَّفْصِيلَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ مَنْصُوصًا: فَيَجُوزُ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادًا : فَلَا. فَحَصَلَ مَذَاهِبُ" انتهى.
وينظر ـ للفائدة ـ مذهب إمام الحرمين في ذلك : "البحر المحيط" (7/79) .
ثانيا :
أما تأخير الصلاة إذا أحضر الطعام ، فليست العلة هي حضور الطعام ، ولكن العلة هي انشغال الذهن ، وذهاب الخشوع أو قلته ، ولذلك صح أن يقاس على حضور الطعام كل ما يشغل ذهن المصلي ويقلل خشوعه .
قال النووي رحمه الله في شرحه لحديث ( لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ ، وَلَا هُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ ) . رواه مسلم (560) . قال:
"فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث : كَرَاهَة الصَّلَاة بِحَضْرَةِ الطَّعَام الَّذِي يُرِيد أَكْله ، لِمَا فِيهِ مِنْ اِشْتِغَال الْقَلْب بِهِ ، وَذَهَاب كَمَالِ الْخُشُوع ، وَكَرَاهَتهَا مَعَ مُدَافَعَة الْأَخْبَثِينَ وَهُمَا : الْبَوْل وَالْغَائِط ، وَيَلْحَق بِهَذَا مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ يَشْغَل الْقَلْب وَيُذْهِب كَمَال الْخُشُوع .
، وَهَذِهِ الْكَرَاهَة إِذَا صَلَّى كَذَلِكَ وَفِي الْوَقْت سَعَة ، فَإِذَا ضَاقَ بِحَيْثُ لَوْ أَكَلَ أَوْ تَطَهَّرَ خَرَجَ وَقْت الصَّلَاة : صَلَّى عَلَى حَاله ، مُحَافَظَة عَلَى حُرْمَة الْوَقْت ، وَلَا يَجُوز تَأْخِيرهَا" انتهى .
وقال العز بن عبد السلام رحمه الله في "قواعد الأحكام"(1/38) :
"وكذلك تؤخر الصلاة بكل ما يشوش الخشوع ، كإفراط الظمأ والجوع " انتهى .
وأما التخلف عن صلاة الجماعة من أجل المطر ، فليست العلة هي المطر ، ولكن العلة هي المشقة الحاصلة بسبب السعي إلى الصلاة في المطر ، ولذلك اشترط العلماء في المطر أن يبل الثياب ، لأن هذا هو الذي تحصل به المشقة .
قال البهوتي في " كشاف القناع "(4/12) :
"يُعْذَرُ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ : خَائِفٌ مِنْ ضَرَرٍ فِي مَالِهِ ، أَوْ فِي مَعِيشَةٍ يَحْتَاجُهَا ، أَوْ أَطْلَقَ الْمَاءَ عَلَى زَرْعِهِ ، أَوْ بُسْتَانِهِ ، يَخَافُ إنْ تَرَكَهُ فَسَدَ ، أَوْ كَانَ مُسْتَحْفَظًا عَلَى شَيْءٍ يَخَافُ عَلَيْهِ الضَّيَاعَ إنْ ذَهَبَ وَتَرَكَهُ ، كَنَاطُورِ (حارس) بُسْتَانٍ وَنَحْوِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ اللَّاحِقَةَ بِذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ بَلِّ الثِّيَابِ بِالْمَطَرِ ، الَّذِي هُوَ عُذْرٌ بِالِاتِّفَاقِ " انتهى .
ومثل المطر : ما قد يحصل به التأذي في مثل تلك الحال ؛ كشدة الريح ، أو شدة البرد ، أو الوحل .
قال البهوتي في "الروض المربع" (2/362) وهو يذكر أعذار التخلف عن صلاة الجماعة : "أو : حصل له أذى بمطر ووحل ، وكذا ثلج وجليد وبرد ، وبريح باردة شديدة في ليلة مظلمة" انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمين في "الشرح الممتع" (4/317) :
"فإذا خافَ الأذى بمطرٍ أو وَحْلٍ، أي: إذا كانت السَّماءُ تمطرُ، وإذا خَرَجَ للجُمُعةِ أو الجماعةِ تأذَّى بالمطرِ : فهو معذورٌ.
والأذيَّة بالمطرِ : أن يتأذَّى في بَلِّ ثيابه ، أو ببرودة الجَوِّ، أو ما أشبه ذلك، وكذلك لو خاف التأذِّي بوَحْلٍ .
وكان النَّاسُ في الأول يعانون مِن الوحلِ ؛ لأن الأسواقَ طين ، فيحصُلُ فيها الوَحْلُ والزَّلَقُ، فيتعبُ الإِنسانُ في الحضور إلى المسجدِ، فإذا حصلَ هذا فهو معذورٌ .
وأما في وقتنا الحاضرِ : فإن الوَحْلَ لا يحصُل به تأذٍّ ، لأنَّ الأسواقَ مزفَّتة ، وليس فيها طين، وغاية ما هنالك أن تجدَ في بعض المواضع المنخفضة مطراً متجمِّعاً، وهذا لا يتأذَّى به الإِنسانُ ، لا بثيابه ولا بقدميه، فالعُذرُ في مثل هذه الحال إنما يكون بنزولِ المطرِ ، فإذا توقَّفَ المطرُ : فلا عُذر، لكن في بعض القُرى التي لم تُزفَّت يكون العُذرُ موجوداً" انتهى .
والحاصل :
أن ما عرفت علته من الرخص ، وتحققت تلك العلة في الفرع : صح فيه القياس ، وما لم تعلم علته ، أو كانت علته قاصرة لا توجد في غير ما شرعت فيه : لم يصح فيه القياس حينئذ .
والله أعلم .
و اخيرا
الحمد لله الذي بفضلة تتم الصالحات
اخوة الاسلام
اكتفي بهذا القدر و لنا عوده
ان قدر الله لنا البقاء و اللقاء
و اسال الله ان يجمعني بكم دائما
علي خير
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين
*عبدالرحمن*
2018-03-18, 07:42
اخوة الاسلام
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
يسأل عن ضابط الخلاف المعتبر
السؤال:
هل هناك شروط لكي يكون الخلاف معتبرا أو غير معتبر ، حيث إننا نسمع في المسألة الواحدة بعض العلماء يجعل الخلاف فيها معتبراً ، والآخرون يجعلونه شاذاً أو غير معتبر ؟
الجواب :
الحمد لله
تقدير الخلاف ، والحكم عليه بأنه "سائغ" ، "معتبر" ، أو خلاف ذلك ؛ مرجعه إلى النظر إلى دليله ، في أكثر تعريفات الفقهاء والأصوليين ، فما بُني على " حجة " معتبرة من حيث الثبوت ، أو الدلالة ، أو القياس ، أو المصلحة ، أو الإجماع والآثار ، أو العقل والعرف والعادة ، فهو قول معتبر ، والخلاف الذي أحدثه معترف به.
جاء في كتاب " الرسالة " للشافعي (1/ 560):
" قال : فإني أجد أهل العلم قديماً وحديثاً مختلفين في بعض أمورهم ، فهل يسعهم ذلك ؟
قال : فقلت له : الاختلاف من وجهين :
أحدهما : محرم . ولا أقول ذلك في الآخر .
قال : فما الاختلاف المحرم ؟
قلت : كل ما أقام الله به الحجة في كتابه ، أو على لسان نبيه ، منصوصاً بيِّناً : لم يحل الاختلاف فيه ، لمن علمه .
وما كان من ذلك يحتمل التأويل ، ويُدرك قياساً ، فذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس ، وإن خالفه فيه غيره : لم أقل إنه يَضِيق عليه ضِيقَ الخلاف في المنصوص " انتهى.
ويقول الإمام العز ابن عبد السلام رحمه الله :
" الضابط في هذا :
أن مأخذ المخالف ، إن كان في غاية الضعف والبعد من الصواب ، فلا نظر إليه ، ولا التفات عليه ، إذا كان ما اعتمد عليه لا يصح نصه دليلا شرعا ، ولا سيما إذا كان مأخذه مما يُنقض الحكمُ بمثله "
انتهى من " قواعد الأحكام في مصالح الأنام " (1/ 253) .
ويقول الإمام الشاطبي رحمه الله :
" إنما يعد في الخلاف : الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة ، كانت مما يقوى أو يضعف.
وأما إذا صدرت عن مجرد خفاء الدليل، أو عدم مصادفته ، فلا .
فلذلك قيل : إنه لا يصح أن يعتد بها في الخلاف ، كما لم يعتد السلف الصالح بالخلاف في مسألة ربا الفضل ، والمتعة ، ومحاشي النساء ، وأشباهها من المسائل التي خفيت فيها الأدلة على من خالف فيها " انتهى.
ويقول الإمام تاج الدين السبكي رحمه الله – في حديثه عن شرط الخلاف المعتبر -:
" أن يقوى مدرك الخلاف . فإن ضعُف ونأى عن مأخذ الشرع : كان معدودا من الهفوات ، والسقطات ، لا من الخلافيات المجتهدات ...
وهناك تنبيه على أنه لا نظر إلى القائلين من المجتهدين ، بل إلى أقوالهم ومداركها قوة وضعفا ، ونعني بالقوة ما يوجب وقوف الذهن عندها ، وتعلق ذي الفطنة بسبيلها ؛ لانتهاض الحجة بها ؛ فإن الحجة لو انتهضت بها لما كنا مخالفين لها .
إذَا عرفت هذا : فمن قوي مدركُه اعتُد بخلافه ، وإن كانت مرتبته في الاجتهاد دون مرتبة مخالفه ، ومن ضعف مدركُه لم يُعتدّ بخلافه ، وإن كانت مرتبته أرفع ، وربما قوي مدرك بعضهم في بعض المسائل دون بعض ؛ بل هذا لا يخلو عنه مجتهد .
وقوة المدرك وضعفه : مما لا ينتهي إلى الإحاطة به إلا الأفراد ، وقد يظهر الضعف أو القوة بأدنى تأمل ، وقد يحتاج إلى تأمل وفكر ، ولا بد أن يقع هنا خلاف في الاعتداد به ، ناشئا عن المدرك قوي أو ضعيف "
انتهى من " الأشباه والنظائر " (1/ 112) .
فإذا تبين أن المدار على " المَدرك " قوة وضعفا ، ثبوتا ووهاء ، علمنا أن البحث في هذا الشأن هو من ولاية العلماء والفقهاء ، الذين يميزون مدارك الأحكام ، وموارد الأفهام ، ولهم باع وتخصص في تعاطي أقوال الفقهاء ، والحجاج الفقهي والأصولي ، ولهم في كل مسألة نظر خاص ، فقد يكون الاحتجاج بقول الصحابي في مسألة احتجاجا معتبرا ، في حين أنه احتجاج ضعيف غير معتبر في مسألة أخرى ، بسبب ثبوت الإجماع مثلا ، أو ضعف الرواية ، أو حكاية تراجع ذلك الصحابي ، ونحو ذلك من احتمالات تقليب الأدلة بين العلماء .
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله :
"فإن قيل : فماذا يُعَرِّف من الأقوال ، ما هو كذلك ، مما ليس كذلك ؟
فالجواب :
أنه من وظائف المجتهدين ، فهم العارفون بما وافق أو خالف
.
وأما غيرهم ، فلا تمييز لهم في هذا المقام .
ويعضد هذا أن المخالفة للأدلة الشرعية على مراتب :
فمن الأقوال ما يكون خلافا لدليل قطعي، من نص متواتر ، أو إجماع قطعي ، في حكم كلي.
ومنها ما يكون خلافا لدليل ظني . والأدلة الظنية متفاوتة ، كأخبار الآحاد ، والقياس الجزئية .
فأما المخالف للقطعي ؛ فلا إشكال في اطراحه ، ولكن العلماء ربما ذكروه للتنبيه عليه وعلى ما فيه ، لا للاعتداد به .
وأما المخالف للظني ؛ ففيه الاجتهاد ، بناء على التوازن بينه وبين ما اعتمده صاحبه من القياس أو غيره "
انتهى من " الموافقات " (5/139-140) .
ولا أحد يدعي – في مقام التمييز بين الخلاف المعتبر ، وغير المعتبر – أنه يملك خطا أحمر محددا ودقيقا في جميع المسائل ، لا يجوز لأحد أن يخالف فيه ، بل هذه القضية التمييزية نفسها ، يدخلها قدر من الاختلاف والنزاع في التنزيل والتطبيق .
ولكن اختلاف العلماء في بعض المسائل : إن كانت من الخلاف السائغ ، أو المردود ؛ لا يلغي الضوابط العامة ، والمناط الكلي الذي ذكروه ، ونقلناه سابقا ، وهكذا دائما وقوع الخلاف في بعض الصور والتطبيقات : لا ينبغي أن يلغي الأصول الكلية ، والفوارق العامة .
ولهذا كله يكفيك أن تخرج من جوابنا هذا بخطوط عريضة ، تقرب إليك ضابط المسألة - دون حسم لكل الجزئيات أو الخلافيات التي تتفاوت فيها الأنظار - يمكننا إجمال خلاصتها بالنقاط الآتية:
1. إذا كان القول المخالف مناقضا للنصوص الصريحة القطعية من الكتاب والسنة : فلا عبرة به .
2. إذا وقع على خلاف الإجماع الصحيح المنضبط : فلا عبرة به .
3. إذا كان قولا مهجورا يتقيه العلماء على مدار تاريخ الفقه ، ويضربون به المثل في الضعف ، والإبعاد .
4. إذا كان الخلاف مناقضا لمقاصد الشريعة ، وقواعد المصالح التي جاءت بها ، فأدى إلى عنت شديد ، وخروج بحياة الناس عن اعتدالها إلى العنت ، فالخلاف فيه غير معتبر .
ومن ذلك تتبين أيضا أن أكثر اختلاف العلماء في مسائل الشريعة ، إنما هو من الخلاف المعتبر ، كما نص على ذلك الشاطبي رحمه الله حيث قال : " الخلاف الذي لا يعتد به قليل "
انتهى من "الموافقات" (1/164) .
وذلك من رحمة الله بهذه الأمة ، حيث حفظ عليها أفهامها السائغة للشرع ، ووسع عليهم في طرق التدبر والاستنباط ؛ كي لا تتيه في بيداء النزاع التأويلي ، ولا تقع الأمة ـ بمجموعها ـ في حرج أو عنت ، ولا تنقلب عن منهاجها كأمة وسط أخرجت لهداية الناس .
وأقرب علامة يستعين بها غير المختص ، على الفرق بين الخلاف السائغ المعتبر ، والخلاف غير السائغ وغير المعتبر ، هي : أن ينظر ما عليه السواد الأعظم من المسلمين ، فإذا وجد قولا محدثا يخالفهم ، فخلافه ـ في الغالب ـ غير معتبر .
وفي مثل ذلك ، عادة ما يقول الإمام ابن جرير الطبري – عن أحد الأقوال -:
" هذا قول لا نعلم قائلا له من أهل التأويل ، وكفى خطأ بقوله خروجه عن أقوال أهل العلم ، لو لم يكن على خطئه دلالة سواه . فكيف وظاهر التنزيل ينبئ عن فساده ! " .
انتهى من " جامع البيان " (10/55)
ويقول الشاطبي رحمه الله :
"فإن قيل :
فهل لغير المجتهد من المتفقهين في ذلك ضابط يعتمده أم لا ؟
فالجواب :
إن له ضابطا تقريبيا ، وهو أن ما كان معدودا في الأقوال غلطا وزللا : قليل جدا في الشريعة ، وغالب الأمر أن أصحابها منفردون بها ، قلما يساعدهم عليها مجتهد آخر .
فإذا انفرد صاحب قول عن عامة الأمة ، فليكن اعتقادك أن الحق في المسألة مع السواد الأعظم من المجتهدين ، لا من المقلدين"
انتهى من " الموافقات " (5/139-140) .
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-18, 07:46
هل العلم الحديث يرفع الحكم الشرعي
من النجاسة إلى الطهارة مثلا؟
السؤال:
هل يمكن أن يؤثر العلم الحديث في الفتاوى الشرعية ، فمثلا : اختلف العلماء في طهارة الدم ، فلو أخذنا عينة من الدم ووضعناها تحت المجهر ، ووجدنا أن مكونات الدم كلها مواد طاهرة كالماء ، فهل يحكم بطهارته ؟
الجواب :
الحمد لله
تغيير العلم الحديث الأحكامَ الشرعية الثابتة سؤالٌ مغالط ، لا يمكن أن يُتصور أو يقع ؛ ومتناقض في أصله ؛ ذلك أن حقائق الكون وحقائق الشرع مصدرُهما واحد ، وهو الخالق جل وعلا ، وحينئذ لا يمكن أن يقع بينهما التناقض بحيث يرفع أحدهما الآخر أو يلغيه ، وكل من يعتقد خلاف ذلك إنما أُتي من ضعف بحثه وتحريه ، وأُتي من خطئه في تصور العلم الحديث ، أو خطئه في الوصول إلى الحكم الشرعي .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" فأما القطعيان فلا يجوز تعارضهما - سواء كانا عقليين أو سمعيين ، أو أحدهما عقلياً والآخر سمعياً - وهذا متفق عليه بين العقلاء ؛ لأن الدليل القطعي هو الذي يجب ثبوت مدلوله ، ولا يمكن أن تكون دلالته باطلة ، وحينئذ فلو تعارض دليلان قطعيان ، وأحدهما يناقض مدلول الآخر ، للزم الجمع بين النقيضين ، وهو محال .
بل كل ما يعتقد تعارضه من الدلائل التي يعتقد أنها قطعية ، فلا بد من أن يكون الدليلان ، أو أحدهما غير قطعي ، أو أن لا يكون مدلولاهما متناقضين ، فأما مع تناقض المدلولين المعلومين : فيمتنع تعارض الدليلين"
انتهى من " درء تعارض العقل والنقل " (1/79) .
ويقول أيضا رحمه الله :
" تأملت ، ووجدت : ما يعلم بصريح العقل لم يخالفه سمعٌ [السمع هو الكتاب والسنة] قط ، بل السمع الذي يقال إنه يخالفه: إما حديث موضوع ، أو دلالة ضعيفة ، فلا يصلح أن يكون دليلاً لو تجرد عن معارضة العقل الصريح ، فكيف إذا خالفه صريح المعقول !
ونحن نعلم أن الرسل لا يخبرون بمحالات العقول ، بل بمحارات العقول ، فلا يخبرون بما يعلم العقل انتفاءه ، بل يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته " .
انتهى من "درء تعارض العقل والنقل" (1/147) .
ولهذا ؛ فالفرضية الواردة في السؤال غير واقعية ؛ لأن الحكم الشرعي الثابت لا يمكن أن يأتي العقل أو العلم بخطئه ومناقضته ، بل يأتي كل منهما مؤكدا للآخر .
قال ابن أمير الحاج رحمه الله تعالى :
" لا مانع في الشرع والعقل من تعاضد الأدلة وتأكد بعضها ببعض ... وقد ملأ السلف كتبهم بالتمسك بالنص والمعقول في حكم واحد ، ولم ينقل عن أحد في ذلك نكير ، فكان إجماعا على جوازه "
انتهى من " التقرير والتحبير " ( 3 / 178 ) .
والمثال الذي ذكرته في سؤالك غير واقعي أيضا ، فالدم ثبتت نجاسته بالأدلة والإجماع ،
ثم ، من قال : إن مناط الحكم على العين بالنجاسة ، أو التحريم : هو مكوناتها الأولية ، التي يكشف عنها المجهر ؟
فالنجاسات المغلظة ، إذا حللناها : ماذا تظن أن تعطينا ؟
فإن مناط الحكم بالطهارة أو النجاسة هو للدليل الشرعي الذي يتعبدنا الله عز وجل به وباتباعه ، وليس المناط اكتشاف المكونات إن كانت مستقذرة أم غير مستقذرة ، فالاستقذار لا يستلزم النجاسة ، ألا ترى أن الشريعة حكمت بطهارة مخاط الأنف ومني الإنسان وقذى العين ، رغم كونها من المستقذرات عرفا وعادة ، وأيضا رجح المحققون من العلماء طهارة بول وروث ما يؤكل لحمه من الحيوانات رغم كونه مستقذرا ، وأيضا حكمت الشريعة بنجاسة لحم الخنزير رغم عدم استقذاره من جهة كثير من الناس !!
وهذا لا ينفي إمكان الإفادة من العلوم الحديثة في جوانب مهمة من الفتاوى الشرعية ، وذلك عبر البحث في تحقيق المناط الذي جاءت به الشريعة ، كالبحث في مضار بعض المواد وتعاطيها من خلال أدوات العلم الحديث ، فإن تبين الضرر تأكدنا من تحقق مناطه فأفتينا بالمنع والتحريم .
ومثله البحث في المواد المسكرة مثلا ، من خلال المختبرات الفنية ، فإن تبين إسكار الكثير من الشراب حرم القليل منه .
ومثله أيضا الاستعانة بنتائج العلوم الحديثة في فهم شرح العلماء لبعض الأحاديث النبوية ، كما تقرر في فهم حديث ( لا عدوى ) متفق عليه ، وأن المقصود به نفي العدوى التي كان يؤمن بها أهل الجاهلية ، والتي تنتقل بذاتها ، ويعدونها المسبب وليست مجرد سبب ، وأما كون العدوى سببا بإذن الله لانتقال المرض فهذا يؤكده الطب الحديث ، وبينه العلماء أيضا في شرح الحديث الشريف.
هذه بعض الجوانب المهمة التي يمكن الإفادة فيها من العلوم الحديثة في الفتاوى الشرعية الاجتهادية.
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-18, 07:50
هل انعقد إجماع على جواز التقليد
التام لأحد المذاهب الأربعة ؟
السؤال:
هل يوجد هناك إجماع على جواز التقليد التام لأحد المذاهب الأربعة في القرن الثالث للهجرة؟
وما المقصود بالآيات التالية: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ) فقد قرأت أنّ هذه الآية تشير إلى تقليد المذاهب الأربعة
وأنّ الأمر في الجزء الثاني من الآية هو مختص بأهل الاجتهاد وليس للعامة ؟ وهل يعني ذلك أنّ العلماء فقط هم من يمكنهم فهم القران والسنة ، وأنّ غيرهم من الناس يجب عليهم تقليد أي من هذه المذاهب الأربعة ؟
الجواب :
الحمد لله
لا يجب على المسلم اتباع مذهب بعينه من المذاهب الأربعة أو غيرها ، ولا يجوز لأحد أن يقلد أحدا في دين الله تعالى ، بحيث لا يخالفه لا في صغير ولا كبير .
وفي ذلك يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى في "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" (7 / 307): " وَأَمَّا نَوْعُ التَّقْلِيدِ الَّذِي خَالَفَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ الصَّحَابَةَ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْخَيْرِ، فَهُوَ تَقْلِيدُ رَجُلٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ دُونَ غَيْرِهِ ، مِنْ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ ، فَإِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ التَّقْلِيدِ لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْخَيْرِ.
وَهُوَ مُخَالِفٌ لِأَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، فَلَمْ يُقِلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالْجُمُودِ عَلَى قَوْلِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ دُونَ غَيْرِهِ، مِنْ جَمِيعِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ.
فَتَقْلِيدُ الْعَالِمِ الْمُعَيَّنِ مِنْ بِدَعِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ ، وَمَنْ يَدَّعِي خِلَافَ ذَلِكَ ، فَلْيُعَيِّنْ لَنَا رَجُلًا وَاحِدًا مِنَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ ، الْتَزَمَ مَذْهَبَ رَجُلٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ ، وَلَنْ يَسْتَطِيعَ ذَلِكَ أَبَدًا ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعِ الْبَتَّةَ " انتهى .
وقد كان الأئمة رضوان الله عليهم ينهون عن تقليدهم فقد قال الإمام أحمد : " لَا تُقَلِّدْنِي وَلَا تُقَلِّدْ مَالِكًا وَلَا الثَّوْرِيَّ وَلَا الْأَوْزَاعِيَّ ، وَخُذْ مِنْ حَيْثُ أَخَذُوا" ، وَقَالَ أيضا : "مِنْ قِلَّةِ فِقْهِ الرَّجُلِ أَنْ يُقَلِّدَ دِينَهُ الرِّجَالَ"
انتهى من " إعلام الموقعين عن رب العالمين " (2 / 139).
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" ما تقول السادة العلماء أئمة الدين - رضي الله عنهم أجمعين - في رجل سئل : إيش مذهبك؟ فقال: (محمدي) ؛ أتبع كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم .
فقيل: ينبغي لكل مؤمن أن يتبع مذهبا ، ومن لا مذهب له فهو شيطان .
فقال: إيش كان مذهب أبي بكر الصديق والخلفاء بعده - رضي الله عنهم -؟
فقيل له: لا ينبغي لك إلا أن تتبع مذهبا من هذه المذاهب ؛ فأيهما المصيب ؟ " .
فأجاب:
" الحمد لله ، إنما يجب على الناس طاعة الله والرسول .
وهؤلاء ـ أولو الأمر الذين أمر الله بطاعتهم في قوله : {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} ـ : إنما تجب طاعتهم تبعا لطاعة الله ورسوله ، لا استقلالا ، ثم قال: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} .
وإذا نزلت بالمسلم نازلة فإنه يستفتي من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله ، من أي مذهب كان ، ولا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء في كل ما يقول ، ولا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول صلى الله عليه وسلم ، في كل ما يوجبه ويخبر به ؛ بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واتباع شخص ، لمذهب شخص بعينه ، لعجزه عن معرفة الشرع من غير جهته : إنما هو مما يسوغ له ، ليس هو مما يجب على كل أحد إذا أمكنه معرفة الشرع بغير ذلك الطريق ؛ بل كل أحد عليه أن يتقي الله ما استطاع ، ويطلب علم ما أمر الله به ورسوله ؛ فيفعل المأمور ، ويترك المحظور. والله أعلم"
انتهى من "مجموع الفتاوى" (20/208-209) .
وأما قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) النساء/ 59 .
فليس فيه ما يدل على تقليد الأئمة الأربعة ، بل فيه الأمر بطاعة الله تعالى ورسوله الكريم وطاعة ولاة الأمر ، وولاة الأمور هم الأمراء الذين يحكمون بما أنزل الله ، والعلماء والفقهاء المتبعون لأمر الله جل وعلا ، دون تخصيص ذلك بعالم معين ، قال البغوي في تفسيره (2 / 239): " اخْتَلَفُوا فِي (أُولِي الْأَمْرِ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: هُمُ
الْفُقَهَاءُ وَالْعُلَمَاءُ الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ مَعَالِمَ دِينِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ، وَدَلِيلُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النِّسَاءِ -83) . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: هُمُ الْأُمَرَاءُ وَالْوُلَاةُ ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَقٌّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ، وَيُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَحَقٌّ عَلَى الرَّعِيَّةِ أَنْ يَسْمَعُوا وَيُطِيعُوا" انتهى.
وأما قوله تعالى : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) فالمخاطب به كل من كانت له أهلية النظر في الأدلة، أما من لم تكن عنده أهلية النظر ، فعليه سؤال أهل العلم والعمل بفتاواهم .
قال الآمدي في "الإحكام في أصول الأحكام" (4 / 228):
" العامي ، ومن ليس له أهلية الاجتهاد، وإن كان محصلا لبعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد : يلزمه اتباع قول المجتهد ، والأخذ بفتواه عند المحققين من الأصوليين " انتهى.
والله أعلم.
*عبدالرحمن*
2018-03-18, 07:56
عقد التحكيم وشروطه في الشريعة الإسلامية
السؤال:
ما حكم عقد التحكيم أو شرط التحكيم ؟
وهل يندرج تحت الصلح أم لا ؟
الجواب :
الحمد لله
التحكيم بين الناس في الخصومات والخلافات : مشروع بكتاب الله تعالى ، وبسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم , قال تعالى : ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ) النساء/ 35 .
وهذه أقوال أهل العلم في المسألة :
مذهب الحنفية :
يجيز فقهاء الحنفية التحكيم ، ويشترطون في المحكَّم أن يكون صالحا للقضاء، وأن يكون مسلما ، إذا كان سيحكم بين مسلمين ، وأن يكون بالغا غير محدود في قذف ، ويجيزون تحكيم الفاسق والمرأة ، خلافا للجمهور .
قال الزيلعي في " تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق " (4 / 193):
"(بَابُ التَّحْكِيمِ) : لَمَّا كَانَ الْمُحَكَّمُ مِنْ أَنْوَاعِ الْحُكَّامِ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْقَاضِي .
وَهُوَ جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ .
أَمَّا الْكِتَابُ : فَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ) [النساء: 35] ؛ نَزَلَتْ فِي تَحْكِيمِ الزَّوْجَيْنِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ : فَمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «تَرَكَهُمْ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» .
وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ .
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (حَكَّمَا رَجُلًا لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا فَحَكَمَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ أَوْ نُكُولٍ فِي غَيْرِ حَدٍّ وَقَوَدٍ وَدِيَةٍ عَلَى الْعَاقِلَةِ صَحَّ لَوْ صَلَحَ الْمُحَكَّمُ قَاضِيًا) ، لِمَا تَلَوْنَا وَرَوَيْنَا ، وَلِأَنَّ لَهُمَا وِلَايَةَ أَنْفُسِهِمَا ، فَصَحَّ تَحْكِيمُهُمَا ، وَيَنْفُذُ حُكْمُهُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَاكِمِ فِي حَقِّهِمَا .
وَشُرِطَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِقْرَارِ أَوْ النُّكُولِ ؛ لِيَكُونَ مُوَافِقًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ .
وَشُرِطَ لِنُفُوذِ حُكْمِهِ : أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ حَدٍّ وَقَوَدٍ وَدِيَةٍ عَلَى الْعَاقِلَةِ ؛ لِأَنَّ تَحْكِيمَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الصُّلْحِ بَيْنَهُمَا ، وَلَيْسَ لَهُمَا وِلَايَةٌ عَلَى دَمِهِمَا ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكَانِ إبَاحَتَهُ ، وَكَذَا لَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَى الْعَاقِلَةِ ، فَلَا يَنْفُذُ حُكْمُ مِنْ حَكَّمَاهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَلَا عَلَى الْقَاتِلِ ، لِعَدَمِ الْتِزَامِ الْعَاقِلَةِ حُكْمَهُ ، وَلِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَا عَلَى الْقَاتِلِ ، وَلَوْ ثَبَتَ الْقَتْلُ بِإِقْرَارِهِ ، أَوْ ثَبَتَ جِرَاحَتُهُ بِبَيِّنَةٍ ، وَأَرْشُهَا أَقَلُّ مِمَّا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ خَطَأً ، كَانَتْ الْجِرَاحَةُ خَطَأً أَوْ عَمْدًا ، أَوْ كَانَ قَدْرُ مَا تَتَحَمَّلُهُ ، وَلَكِنَّ الْجِرَاحَةَ كَانَتْ عَمْدًا لَا تُوجِبُ الْقِصَاصَ : نَفَذَ حُكْمُهُ عَلَيْه ِ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُهُ .
وَأَجَازَ فِي الْمُحِيطِ التَّحْكِيمَ فِي الْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ .
وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِلْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي فِيمَا بَيْنَهُمَا ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْقَاضِي، حَتَّى لَوْ حَكَّمَا كَافِرًا ، أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا ، أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ ، أَوْ صَبِيًّا : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ قَاضِيًا ، لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ ؛ فَكَذَا حَكَمًا.
وَإِنْ حَكَّمَا فَاسِقًا أَوْ امْرَأَةً : جَازَ ، كَمَا فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ .
وَكَذَا : الْكَافِرُ فِي حَقِّ الْكَافِرِ ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ فِي حَقِّهِ ، وَكَذَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ الْقَضَاءَ لِيَحْكُمَ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّة " انتهى
.
مذهب المالكية :
وأما المالكية : فإنهم يجيزون تحكيم العدل المسلم الحر البالغ العاقل ، فلا يجيزون تحكيم امرأة ولا فاسق .
قال القرافي في "الذخيرة" (10 / 34):
" المبحث الثَّانِي : فِي الْوِلَايَةِ الْخَاصَّةِ ، وَهِيَ التَّحْكِيمُ .
وَفِي الْجَوَاهِرِ : جَائِزٌ فِي الْأَمْوَالِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا ، فَلَا يُقِيمُ الْمُحَكَّمُ حَدًّا ، وَلَا يُلَاعِنُ ، وَلَا يَحْكُمُ فِي قِصَاصٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ وَلَاءٍ ، لِقُصُورِ وِلَايَتِهِ وَضَعْفِهَا ، وَهَذِهِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ تَحْتَاجُ إِلَى أَهْلِيَّةٍ عَظِيمَةٍ.
...
وَبِجَوَازِ التَّحْكِيمِ قَالَ الْأَئِمَّةُ ؛ لِمَا فِي النَّسَائِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قَالَ لأبي شريح : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ ؛ فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ ؟ قَالَ : إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي ، فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ ، فَرَضِيَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ بِحُكْمِي . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - مَا أَحْسَنَ هَذَا !! فَمَنْ أَكْبَرُ وَلَدِكَ ؟ قَالَ : شُرَيْح . قَالَ : فَأَنت أبو شريح ) .
وَعنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم – : (مَنْ حَكَمَ بَيْنَ اثْنَيْنِ تَرَاضَيَا ، فَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا : فَهُوَ مَلْعُونٌ) ؛ وَهُوَ دَلِيلُ الْجَوَازِ ، وَالْإِلْزَامِ ؛ وَإِلَّا لَمَا لُعِنَ ؛ لِأَنَّ لَهُمَا تَرْكَ حُكْمِهِ إِذا كَانَ جَوْرا " انتهى باختصار يسير.
مذهب الشافعية:
وأما الشافعية : فإنهم يجيزون تحكيم من يصلح للقضاء .
قال الشيرازي في "المهذب" (3 / 378) : " فإن تحاكم رجلان إلى من يصلح أن يكون حاكماً ، ليحكم بينهما : جاز ؛ لأنه تحاكم عمر وأبي بن كعب إلى زيد بن ثابت ، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم .
واختلف قوله في الذي يَلزم به حكمه ؛ فقال في أحد القولين : لا يلزم الحكم إلا بتراضيهما بعد الحكم ، وهو قول المزني رحمه الله تعالى ، لأنا لو ألزمناهما حكمه ، كان ذلك عزلاً للقضاة ، وافتياتاً على الإمام ، ولأنه لما اعتُبر تراضيهما في الحكم ، اعتُبر رضاهما في لزوم الحكم .
والثاني: أنه يلزم بنفس الحكم ، لأن من جاز حكمه ، لزم حكمه ؛ كالقاضي الذي ولاه الإمام . واختلف أصحابنا فيما يجوز فيه التحكيم ؛ فمنهم من قال يجوز في كل ما تحاكم فيه الخصمان ، كما يجوز حكم القاضي الذي ولاه الإمام ، ومنهم من قال : يجوز في الأموال ، فأما في النكاح والقصاص واللعان وحد القذف : فلا يجوز فيها التحكيم ، لأنها حقوق بنيت على الاحتياط ، فلم يجز فيها التحكيم" انتهى.
مذهب الحنابلة:
ومذهبهم في هذه المسألة يكاد يتطابق مع مذهب الشافعية .
قال ابن قدامة في "الكافي" (4 / 224):
" فإن تحاكم رجلان إلى من يصلح للقضاء ، فحكماه ليحكم بينهما : جاز ؛ لما روى أبو شريح أنه «قال: يا رسول الله إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني، فحكمت بينهم، فرضي علي الفريقان، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما أحسن هذا» . رواه النسائي؛ ولأن عمر وأبياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، تحاكما إلى زيد بن ثابت وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم. فإذا حكم بينهما، لزم حكمه ؛ لأن من جاز حكمه، لزم، كقاضي الإمام.
فإن رجع أحد الخصمين عن تحكيمه ، قبل شروعه في الحكم ، فله ذلك؛ لأنه إنما صار حكماً لرضاه به، فاعتبر دوام الرضى .
وإن رجع بعد شروعه فيه، وقبل تمامه، ففيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأن الحكم لم يتم، أشبه ما قبل الشروع.
والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه يؤدي إلى أن كل واحد منهما، إذا رأى من الحكم ما لا يوافقه، رجع، فيبطل المقصود بذلك.
واختلف أصحابنا فيما يجوز فيه التحكيم، فقال أبو الخطاب: ظاهر كلام أحمد أن تحكيمه يجوز في كل ما يتحاكم فيه الخصمان، قياساً على قاضي الإمام.
وقال القاضي: يجوز حكمه في الأموال الخاصة. فأما النكاح والقصاص، وحد القذف، فلا يجوز التحكيم فيها؛ لأنها مبنية على الاحتياط، فيعتبر للحكم فيها قاضي الإمام، كالحدود" انتهى.
من هذه النصوص السابقة لفقهاء المذاهب يتلخص ما يلي:
1. يجوز أن يحكِّم المتخاصمان مَنْ يحكم بينهما ، على وفق أحكام الله جل وعلا.
2. يشترط في هذا المحكَّم أن يكون : مسلما عدلا ذكرا بالغا ، عالما بأحكام الله جل وعلا.
3. إذا حكم المحكَّم بين المتخاصمين : فإن حكمه ينفذ ، ولو لم يرضيا به ، لأنه لو لم ينفذ حكمه ، كان تحكيمه عبثا.
4. اختلف العلماء فيما يحكم فيه المحكَّم فقال بعضهم: يحكم في كل شيء مما يحكم فيه القاضي ، وقال بعضهم : بل يحكم في الأموال خاصة ، وهذا الأخير هو الراجح ؛ لأن الحكم في الدماء والأعراض أمر يتطلب ولاية عظيمة ، كتلك التي تتوفر في الدولة , بالإضافة إلى أن الدول في زماننا هذا لن تسمح للأفراد بإقامة الحدود وتنفيذ القصاص من الأفراد ، لما يسببه من القلق والاضطراب والفتن ، فالأصح قصر التحكيم على باب الأموال خاصة.
وأما علاقة التحكيم بالصلح : فبعض الفقهاء قد اعتبره من باب الصلح ؛ لأنه لا يثبت جبرا , بل بتراضي الخصمين ، وهذا فيه معنى التصالح .
جاء في " العناية شرح الهداية "(7 / 316):
" التَّحْكِيم صُلْح مَعْنًى ؛ حَيْثُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِتَرَاضِي الْخَصْمَيْنِ ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ " انتهى .
وجاء في " البحر الرائق شرح كنز الدقائق " (7 / 26): "
... لِأَنَّ تَحْكِيمَهُمَا بِمَنْزِلَةِ صُلْحِهِمَا" انتهى.
والله أعلم.
و اخيرا
الحمد لله الذي بفضلة تتم الصالحات
اخوة الاسلام
اكتفي بهذا القدر و لنا عوده
ان قدر الله لنا البقاء و اللقاء
و اسال الله ان يجمعني بكم دائما
علي خير
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين
*عبدالرحمن*
2018-03-20, 02:45
اخوة الاسلام
أحييكم بتحية الإسلام
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
https://d.top4top.net/p_7927bchs1.gif (https://up.top4top.net/)
الجمع في النية بين سنة العصر وقضاء سنة الظهر
السؤال:
ما حكم الجمع في النية بين سنة العصر المستحبة القبلية وقضاء سنة الظهر ؟
الجواب
:
الحمد لله
أولا :
من شرط العبادتين المتداخلتين التي يصح للمسلم أن ينويهما معا ، ويحصل له ثوابهما بفعل واحد :
أن تكون العبادتان ، أو إحداهما ، غيرَ مقصودة لذاتها ، كتحية المسجد ، وكصوم ثلاثة أيام من كل شهر وغسل الجمعة .
.. ونحو ذلك .
فيصح أن يصلي السنة القبلية للفجر أو الظهر بنيتها ، مع نية تحية المسجد ، ويصوم يوم عرفة ، وينوي به يوما من الأيام الثلاثة من كل شهر ، ويغتسل للجنابة وينوي به رفع الحدث وغسل الجمعة ، ونحو ذلك .
ثانيا :
تبعية النافلة لصلاة قبلها أو بعدها ، يجعلها مقصودة بذاتها ، فلا يصح تداخل سنة ما قبل العصر مع قضاء راتبة الظهر ؛ لأن راتبة الظهر مقصودة بالتبعية لفريضة الظهر ، وسنة العصر مقصودة بالتبعية لصلاة العصر .
ومما قاله ابن حجر الهيتمي رحمه الله أثناء كلامه عن التداخل بين العقيقة والأضحية ، وامتناع ذلك :
" وبالقول بالتداخل : يبطل المقصود من كل منهما ، فلم يمكن القول به ؛ نظير ما قالوه في سنة غسل الجمعة وغسل العيد ، وسنة الظهر وسنة العصر .
وأما تحية المسجد ونحوها : فهي ليست مقصودة لذاتها ، بل لعدم هتك حرمة المسجد ؛ وذلك حاصل بصلاة غيرها . وكذا صوم نحو الاثنين ، لأن القصد منه إحياء هذا اليوم بعبادة الصوم المخصوصة ، وذلك حاصل بأي صوم وقع فيه .
وأما الأضحية والعقيقة : فليستا كذلك "
انتهى من " الفتاوى الفقهية الكبرى " (4/256) .
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-20, 02:49
هل يمكن أن يصلي ركعتين بأكثر من نية ؟
السؤال:
هل يمكن دمج النية عند أداء صلاة النافلة ، كأن أصلي ركعتين ناويا بأن تكونا نافلة عن ركعتي الوضوء وسنة المغرب البعدية ؟
الجواب:
الحمد لله
تداخل العبادات قسمان :
القسم الأول :
يصح تداخل العبادات فيه ، وضابط ذلك: أن تكون إحدى العبادتين غير مرادة لذاتها ، فهنا يجوز التداخل ، بحيث يكفي عن الفعلين فعل واحد فقط .
مثال ذلك : ركعتا تحية المسجد وركعتا الوضوء ونحوهما مما ليس مقصودا لذاته ؛ فيجوز أن يصلي شخص ركعتين بنية ركعتي الوضوء ، ونية نافلة المغرب كما ذكر السائل ؛ لأن المراد من ركعتي الوضوء أن يصلي المسلم عقب وضوئه ، سواء كانت صلاته راتبة ، أو صلاة ضحى أو غيرها .
ومثل ذلك يقال في تحية المسجد ؛ لأن المراد منها أن لا يجلس الداخل للمسجد حتى يصلي .
قال الشيخ خالد المشيقح : " تحية المسجد ليست مقصودة لذاتها فإنها تدخل مع غيرها كالسنة الراتبة ، فإذا دخلت المسجد لصلاة الظهر فإنك تصلي ركعتين تنوي بهما السنة الراتبة وتنوي تحية المسجد ، فإذا نويت تحية المسجد والسنة الراتبة حصل لك صلاتان بركعتين ، وإذا توضأت وأتيت المسجد تنوي السنة الراتبة ، وتحية المسجد ، وركعتي الوضوء يحصل لك ثلاث صلوات بركعتين فهذه من فوائد النية ، وكذلك إذا توضأ الإنسان للضحى وصلى ركعتين ينوي بهما ركعتي الوضوء وركعتي الضحى يحصل له صلاتان بركعتين " .
انتهى من " العقد الثمين " (ص161) بترقيم الشاملة .
القسم الثاني :
لا يصح تداخل العبادات فيه ، وذلك فيما إذا كانت العبادتان مقصودتين ، فهنا لا يمكن أن تُدخَل نيتان في فعل واحد .
مثّل لذلك الشيخ ابن عثيمين فقال : " إنسان فاتته سنة الفجر حتى طلعت الشمس ، وجاء وقت صلاة الضحى ، فهنا لا تجزئ سنة الفجر عن صلاة الضحى ، ولا الضحى عن سنة الفجر ، ولا الجمع بينهما أيضا ؛ لأن سنة الفجر مستقلة وسنة الضحى مستقلة ، فلا تجزئ إحداهما عن الأخرى .
وكذلك إذا كانت الأخرى تابعة لما قبلها فإنها لا تتداخل ، فلو قال إنسان : أنا أريد أن أنوي بصلاة الفجر صلاة الفريضة والراتبة ، قلنا: لا يصح هذا؛ لأن الراتبة تابعة للصلاة فلا تجزئ "
.
وقال : " وهكذا أيضا سنة الطواف مع سنة الفجر، مثلا: لو انتهى الإنسان من طوافه بعد أذان الفجر وقبل الإقامة، فنوى بالركعتين سنة الطواف وراتبة الفجر فإنها لا تغني إحداهما عن الأخرى ؛ لأن سنة الطواف سنة مقصودة بذاتها ، وسنة الفجر سنة مقصودة بذاتها " .
انتهى من " لقاءات الباب المفتوح " .
وقال السيوطي نقلا عن النووي "... السنتين إذَا لَمْ تَدْخُل إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى لَا يَنْعَقِد التَّشْرِيك بَيْنهمَا ، كَسُنَّةِ الضُّحَى وَقَضَاء سُنَّة الْفَجْر ، بِخِلَافِ تَحِيَّة الْمَسْجِد وَسُنَّة الظُّهْر مَثَلًا ؛ لِأَنَّ التَّحِيَّة تَحْصُل ضِمْنًا "
انتهى من " الأشباه والنظائر " (ص23)
وينظر " المجموع شرح المهذب " (5/57) .
وممن زاد هذه القاعدة بيانا وأفاض فيها
العلامة ابن رجب رحمه الله في كتابه " القواعد " (ص23) .
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-20, 02:58
هل للحيوانات عقل ؟
السؤال:
هل للحيوانات عقل وفهم مثل الإنسان : فإن كانت الإجابة " لا "، فكيف فهم هدهد سيدنا سليمان عليه السلام سجود بلقيس للشمس ، وتعجب من ذلك ، إضافة إلى أن الله عز وجل أخبرنا أن الطيور والحيوانات تسجد
وتصلي ، وتسبح ، وتنطق ، فكيف تفعل كل هذا وهي لا تملك فهما ولا عقلا . وإن كانت الإجابة " نعم "، فلماذا لم تصبح مكلفة مثل الإنسان ، طالما أن لديها عقلا مثله ، وما وجه تكريم الإنسان عن بقية الكائنات ؟
الجواب :
الحمد لله
يتفق جميع العلماء والعقلاء على أن الإدراك الذي ركبه الله عز وجل في الحيوانات ليس هو العقل الغريزي ، أو ما يسميه الفلاسفة " الهيولاني " الذي كان الفارق الحقيقي بين الإنسان والحيوان ، والذي أدخل الإنسان دائرة التكليف والمسؤولية .
وأما الحيوان ، فما وهبه الله سبحانه مما نراه في إدراكه طرق تدبير معيشته ، والخضوع لخالقه ، سماه القرآن الكريم " هداية "، وذلك في قول الله سبحانه : ( قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) طه/50. ويسميه العلماء في كتبهم " إدراك الحيوان "، أو " فطنة الحيوان "، أو " حيلة الحيوان "، ونحو ذلك من الأسماء.
يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله :
" أُعطِيَت [يعني الحيوانات] من التمييز والإدراك ما تتم به مصلحتها ومصلحة من ذللت له ، وسلبت من الذهن والعقل ما ميز به عليها الإنسان ، وليظهر أيضا فضيلة التمييز والاختصاص "
انتهى من " مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة " (1/ 234) .
نعم ، سمى بعض العلماء هذه " الفطنة الحيوانية " عقلا ، كما فعل ابن العربي رحمه الله في كتابه " أحكام القرآن " (3/472-473) .
لكن مثل هذا الوصف للحيوان بالعقل لا يقصد به على الإطلاق : "العقل الإنساني" الذي هو " ملكة حاصلة بالتجارب ، يستنبط بها المصالح والأغراض ، ويحصل به الوقوف على العواقب ، و[التمييز] بين الأمور الحسنة ، والقبيحة " كما في " شرح التلويح " (2/312) .
وإنما يراد به ، ما سبق ذكره ، من أنه إدراك تدبير شؤون معاشها بالغريزة والحيلة ، وإدراك ما ألهمها الله سبحانه ، وركبه في طبيعة خلقها من أمور تهتدي بها إلى مصالحها ، وقوام عيشها .
هكذا ينبغي أن نفهم النصوص التي تتحدث عن " هداية الحيوان "، سواء في القرآن الكريم أم في السنة النبوية .
ولهذا لم يكن الحيوان مكلفا أبدا ، لأنه لا يملك العقل الذي ينمو ويدرك عواقب الأمور ، ويصبح هو المحرك للفعل الحيواني .
يقول السرخسي رحمه الله :
" [العقل] عبارة عن الاختيار الذي يبتني عليه المرء ما يأتي به وما يذر ، مما لا ينتهي إلى إدراكه سائر الحواس ، فإن الفعل أو الترك لا يعتبر إلا لحكمة وعاقبة حميدة ، ولهذا لا يعتبر من البهائم ، لخلوه عن هذا المعنى .
والعاقبة الحميدة لا تتحقق فيما يأتي به الإنسان من فعل أو ترك له إلا بعد التأمل فيه بعقله ، فمتى ظهرت أفعاله على سنن أفعال العقلاء ، كان ذلك دليلا لنا على أنه عاقل مميز ، وأن فعله وقوله ليس يخلو عن حكمة وعاقبة حميدة "
انتهى من " أصول السرخسي " (1/ 347)
ويقول نجم الدين الطوفي رحمه الله :
" العقل قوة غريزية ، يدرَك بها الكليات وغيرها ، وهو يوجد بوجود الإنسان ، ثم يتزايد بتزايد البدن تزايدا تدريجيا خفيا عن الحس ، كتزايد الأجسام النباتية والحيوانية في النماء ، وضوء الصبح ، وظل الشمس ، ونحوها من المتزايدات الخفية ، فلا يمكن الوقوف على أول وقت يفهم فيه الخطاب ، فجعل الشرع بلوغه عَلَمًا ظاهرا على أهليته للتكليف ، وضابطا له " ا
نتهى من " شرح مختصر الروضة " (1/ 186)
أما ما وقع من الهدهد في قصته مع سليمان عليه السلام ، فقد قال بعض العلماء : إن هذه حالة متقدمة لا يقاس عليها ، ولا نظير لها في الحيوانات ، جعلها الله تعالى معجزة خاصة بنبي الله سليمان ، فلا يقاس عليها شأن سائر الحيوان .
قال ابن حزم رحمه الله :
" وقد علمنا بضرورة الحس أن الله تعالى إنما خص بالنطق - الذي هو التصرف ومعرفة الأشياء على ما هي عليه ، والتصرف في الصناعات على اختلافها - الإنسانَ خاصة ، وأضفنا إليهم بالخبر الصادق مجرد الجن ، وأضفنا إليهم بالخبر الصادق وببراهين أيضا ضرورية الملائكة .
وإنما شارك من ذكرنا سائر الحيوان في الحياة الخاصة ، وهي الحس ، والحركة الإرادية ، فعلمنا بضرورة العقل أن الله تعالى لا يخاطب بالشرائع إلا من يعقلها ، ويعرف المراد بها ، وبقوله تعالى : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها
ووجدنا جميع الحيوان - حاشا الناس - يجري على رتبة واحدة في تصرفها في معايشها وتناسلها ، لا يجتنب منها واحد شيئا يفعله غيره . هذا الذي يدرك حسا فيما يعاشر الناس في منازلهم ، من المواشي والخيل والبغال والحمير والطير وغير ذلك ، وليس الناس في أحوالهم كذلك ، فصح أن البهائم غير مخاطبة بالشرائع .
فإن اعترض معترض بفعل النحل ، ونسج العنكبوت !
قيل له وبالله التوفيق :
إن هذه طبيعة ضرورية ؛ لأن العنكبوت لا يتصرف في غير تلك الصفة من النسج ، ولا توجد أبدا إلا كذلك .
وأما الإنسان فإنه يتصرف في عمل الديباج ، والوشي ، والقباطي ، وأنواع الأصباغ ، والدباغ ، والخرط ، والنقش ، وسائر الصناعات من الحرث والحصاد والطحن والطبخ والبناء والتجارات ، وفي أنواع العلوم من النجوم ، ومن الأغاني ، والطب ، والجبر ، والعبارة ، والعبادة ، وغير ذلك . ولا سبيل لشيء من الحيوان إلى التصرف في غير الشيء الذي اقتضاه له طبعه ، ولا إلى مفارقة تلك الكيفية .
فإن اعترض معترض بقول الله تعالى : ( عُلِّمنا مَنطِقَ الطَّير )، وبما ذكر الله تعالى من قول النملة : ( يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ) الآية ، وقصة الهدهد .
قيل له وبالله تعالى التوفيق :
لم ندفع أن يكون للحيوان أصوات عند معاناة ما تقتضيه له الحياة من طلب الغذاء ، وعند الألم ، وعند المضاربة ، وطلب الفساد ، ودعاء أولادها ، وما أشبه ذلك ، فهذا هو الذي علمه الله تعالى سليمان رسوله عليه السلام ، وهذا الذي يوجد في أكثر الحيوان ، وليس هذا من تمييز دقائق العلوم والكلام ، ولا من عمل وجوه الصناعات كلها في شيء ، وإنما عنى الله تعالى بمنطق الطير أصواتها التي ذكرنا ، لا تمييز العلوم ، والتصرف في الصناعات الذي من ادعاه لها أكذبه العيان ، والله تعالى لا يقول إلا الحق .
وأما قصة النملة والهدهد فهما معجزتان خاصتان لذلك النمل ، ولذلك الهدهد ، وآيتان لسليمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ككلام الذراع ، وحنين الجذع ، وتسبيح الطعام لمحمد صلى الله عليه وسلم ، آيات لنبوته عليه السلام ، وكذلك حياة عصا موسى عليه السلام آية لرسول الله موسى عليه السلام ؛ لأن هذا النطق شامل ولأنواع هذه الأشياء "
انتهى باختصار من " الفصل في الملل والأهواء والنحل " (1/69-71)
ويقول أبو حامد الغزالي رحمه الله :
" العقل اسم يطلق بالاشتراك على أربعة معان :
فالأول : الوصف الذي يفارق الإنسان به سائر البهائم ، وهو الذي استعد به لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الخفية الفكرية ، وهو الذي أراده الحارث بن أسد المحاسبي حيث قال في حد العقل : إنه غريزة يتهيأ بها إدراك العلوم النظرية . وكأنه نور يقذف في القلب به يستعد لإدراك الأشياء .
الثاني : هي العلوم التي تخرج إلى الوجود في ذات الطفل المميز ، بجواز الجائزات ، واستحالة المستحيلات ، كالعلم بأن الاثنين أكثر من الواحد ، وأن الشخص الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد ، وهو الذي عناه بعض المتكلمين حيث قال في حد العقل : إنه بعض العلوم الضرورية .
الثالث : علوم تستفاد من التجارب بمجاري الأحوال ، فإن من حنكته التجارب ، وهذبته المذاهب ، يقال : إنه عاقل في العادة ، ومن لا يتصف بهذه الصفة فيقال : إنه غبي غمر جاهل . فهذا نوع آخر من العلوم يسمى عقلا .
الرابع : أن تنتهي قوة تلك الغريزة إلى أن يعرف عواقب الأمور ، ويقمع الشهوة الداعية إلى اللذة العاجلة ويقهرها ، فإذا حصلت هذه القوة سمى صاحبها عاقلا ، من حيث إن إقدامه وإحجامه ، بحسب ما يقتضيه النظر في العواقب ، لا بحكم الشهوة العاجلة .
وهذه أيضا من خواص الإنسان التي بها يتميز عن سائر الحيوان .
فالأول هو الأس والمنبع ، والثاني هو الفرع الأقرب إليه ، والثالث فرع الأول والثاني ، إذ بقوة الغريزة والعلوم الضرورية تستفاد علوم التجارب ، والرابع هو الثمرة الأخيرة ، وهو الغاية القصوى فالأولان بالطبع والأخيران بالاكتساب "
انتهى من " إحياء علوم الدين " (1/85-86)
والخلاصة : أن العقل الذي هو مناط التكليف هو من خصائص الإنسان التي تميزه عن سائر الحيوان .
وأن ما نشهده من سلوك الحيوانات تجاه إصلاح معاشها والتصرف بمحيطها إنما هو " هداية " غريزية ، أودعها الله الحيوان ، من غير تعقل قادر على تقبل العلوم وتطوير المهارات .
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-20, 03:09
تعددت عليها الفتاوى فأخذت بما اطمأنت إليه
السؤال:
علمت أن العامي لا يملك الترجيح بين الأدلة ، وليس عليه سوى سؤال من يثق بعلمه . ولكن معنى ذلك أنه لا يستفتي قلبه أبدا ، ولا يحكم عقله إذا قرأ أدلة كل طرف . فأنا تعودت ألا أسأل شيخا بعينه ؛ لأن هناك شيوخا موثوقا بهم يكون لهم آراء شاقة وغير مبنية على فقه الواقع ، فألجأ إلى البحث في أدلة الطرفين ، مثل من يقول بخروج جميع الجماعات الإسلامية من الطائفة الناجية . فأصبحت أعتمد على شيئين :
1. اتباع الدليل . 2. التخفيف من مقاصد الشريعة . فأحيانا أسأل سؤالا فيجاب علي بإجابة أجدها متساهلة ، فأسأل من هو أكثر تشددا فإن جاوب علي بدليل واضح من الكتاب والسنة فآخذ برأيه ، والعكس ، أحيانا أسأل سؤالا فيجاب علي بإجابة أجدها شاقة ومتعنتة ، فأسأل شيخا آخر ، فإن كان رأيه أيسر (ويؤكده الدليل) آخذ به .
ومثال على ذلك الرأي القائل بعدم إعادة الصلاة التي ترك صاحبها شرطا من شروط الصلاة جهلا ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر بإعادة ما سبق عن جهل ، كما أن فيها مشقة لأنني كل فترة أكتشف خطأ كنت أفعله في الصلاة عن جهل ، فهل كل فترة سأقوم بتعويض الصلوات ، وهل سأقضي عمري كله في تعويض الصلاة !
وسؤالي هنا :
هل ما أفعله صحيح ؛ وهو : اتباع العامي للدليل المقنع إذا شك فيما أفتي به ، والبعد عن الفتاوى التي فيها مشقة واضحة لأن التخفيف من مقاصد الشريعة ؟ وللتوضيح فأمثلتي على الآراء التي أعمل بها لوجود مشقة في الرأي المقابل لها ما يلي : عدم إعادة الصلاة لترك شرط من شروطها جهلا . عدم الحكم بالكفر على من استمع إلى الاستهزاء بالدين دون رضا . تغطية القدم بالجوارب دون إسدال العباءة في الصلاة وغيرها للقدرة على الحركة .
الجواب :
الحمد لله
أولا :
الخطر الذي يجب على الجميع اجتنابه ، سواء كان عالما أو عاميا ، هو : الانتقاء لمجرد الهوى وموافقة الرغبة والشهوة ، وتقصد اختيار الفتاوى التي يتحلل بها المسلم من جميع القيود ، وتفتح له أبواب العفو عن كل التزام ، أو عن التزام ما يخالف هوى النفس ، أو يشق عليها فعله ، أدنى مشقة
لأن نفسه الأمارة بالسوء تطلب ذلك وتهواه .
فمن كان هذا حاله فهو على خطر عظيم ؛ لأن مآل حاله إلى التحلل من الشرائع ، فالنفس لا يقف هواها عند حد ، فإن أصبحت هي المعيار الذي يحدد الاختيار بين الفتاوى فقد وجدت مشروعية ذلك الهوى الفاسد ، وحينئذ يصعب العلاج ، ويتعذر الدواء . قال تعالى : ( وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) يوسف/53 ، وقال عز وجل : ( وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) ص/26، وقال سبحانه : ( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) النازعات/40-41.
يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله :
" لا يجوز للمفتي أن يعمل بما يشاء من الأقوال والوجوه من غير نظر من الترجيح ولا يعتد به ، بل يكتفي في العمل بمجرد كون ذلك قولا قاله إمام ، أو وجها ذهب إليه جماعة ، فيعمل بما يشاء من الوجوه والأقوال ، حيث رأى القول وفق إرادته وغرضه عمل به ، فإرادته وغرضه هو المعيار ، وبها الترجيح ، وهذا حرام باتفاق الأمة .
وهذا مثل ما حكى القاضي أبو الوليد الباجي عن بعض أهل زمانه - ممن نصب نفسه للفتوى - أنه كان يقول : إن الذي لصديقي علي إذا وقعت له حكومة ، أو فتيا ، أن أفتيه بالرواية التي توافقه .
وقال : وأخبرني من أثق به ، أنه وقعت له واقعة ، فأفتاه جماعة من المفتين بما يضره ، وأنه كان غائبا ، فلما حضر سألهم بنفسه ، فقالوا : لم نعلم أنها لك . وأفتوه بالرواية الأخرى التي توافقه .
قال : وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ، ممن يعتد بهم في الإجماع ، أنه لا يجوز ، وقد قال مالك رحمه الله : في اختلاف الصحابة رضي الله عنهم : مخطئ ومصيب ، فعليك بالاجتهاد.
وبالجملة ، فلا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي ، والتخير ، وموافقة الغرض ، فيطلب القول الذي يوافق غرضه ، وغرض من يحابيه ، فيعمل به ، ويفتي به ، ويحكم به ، ويحكم على عدوه ويفتيه بضده ، وهذا من أفسق الفسوق ، وأكبر الكبائر ، والله المستعان " .
انتهى من " إعلام الموقعين " (4/162) .
وهذا معنى ما نجده في كتب العلماء من تحريم " تتبع الرخص "، فالتتبع هنا مقصود ، يعني التلقُّط ، داعيتُه الهوى والرغبة النفسية ، وسببه البحث عن الترخص والتشهي والتحلل من الأحكام ، فهذا هو الممنوع والمحرم .
قال سليمان التيمي :
" إن أخذت برخصة كل عالم ، اجتمع فيك الشر كله" .
وعلق عليه أبو عمر ابن عبد البر بقوله : "هذا إجماع ، لا أعلم فيه خلافا والحمد لله " .
انتهى من " جامع بيان العلم وفضله " (2/ 927) .
وسئل الإمام النووي رحمه الله :
" هل يجوز لمن تمذهب بمذهب أن يقلد مذهبًا آخرَ فيما يكون به النفع ، ويتتبع الرخص ؟
فأجاب بقوله :
" لا يجوز تتبع الرخص "
انتهى من " فتاوى النووي "(ص: 235) .
ويقول الإمام الشاطبي رحمه الله :
" إذا صار المكلف في كل مسألة عنَّت له يتبع رخص المذاهب ، وكل قول وافق فيها هواه ؛ فقد خلع ربقة التقوى ، وتمادى في متابعة الهوى ، ونقض ما أبرمه الشارع ، وأخر ما قدمه "
.
انتهى من " الموافقات " (3/ 123) .
ثانيا :
أما إذا نظر العامي في أدلة المجتهدين أو المفتين ، وراعى في نظره هذا محذور المشقة الخارجة عن المعتاد ، التي قد يؤدي إليها أحد الأقوال ، وتشكلت لديه قناعة معينة ، بسبب ما قرأ من تعليق العلماء وشرحهم ، وتوسعهم في الاستدلال لبعض أقوالهم ، فلا حرج عليه في تقليد ما اقتنع به ، ضمن هذه المعطيات .
كما لا بأس عليه في اتباع اختياره ، وإن وافق القول الأيسر ؛ لأنه لم يختر الأيسر بباعث الهوى والرغبة النفسية ، وإنما بباعث شرعي مقصود ، وهو اطمئنان القلب بالدليل المقنع ، وحسن الظن بالشريعة أنها لا تؤدي بالناس إلى العنت الخارج عن المعتاد، وليس تقصدا لتتبع الرخص أو الخروج عن التكاليف .
بل نحن ندعو العامي إلى سلوك هذا الطريق ، ولا نفضل أن يأخذ بقول من يفتيه مسلما ، بل نحثه على البحث والتأمل والتفكر ، ومحاولة الاطلاع على بعض أدوات البحث الشرعي ، ويستزيد من علومه الشرعية ، ولكن ضمن دائرة العلم والعلماء ، من غير اجتهاد مستقل ، وإحداث أقوال طارئة ، أو استطالة على العلماء وخروج عن أقوالهم .
يقول الإمام النووي رحمه الله :
" إذا اختلف عليه فتوى مفتيين ، ففيه خمسة أوجه للأصحاب ... الخامس : يتخير ، فيأخذ بقول أيهما شاء ، وهذا هو الأصح عند الشيخ أبي إسحاق الشيرازي ، وعند الخطيب البغدادي ، ونقله المحاملي في أول المجموع عن أكثر أصحابنا ، واختاره صاحب الشامل فيما إذا تساوى المفتيان في نفسه ... والظاهر أن الخامس أظهرها ؛ لأنه ليس من أهل الاجتهاد ، وإنما فرضه أن يقلد عالما أهلا لذلك ، وقد فعل ذلك بأخذه بقول من شاء منهما "
انتهى من " المجموع " (1/56) .
فإذا أجاز العلماء للمستفتي تقليد من شاء بشرط أن يكون من الفقهاء المجتهدين ، وأن لا يتبع هواه وشهوته ، فمن باب أولى أن يقال بجواز تقليد من يطمئن العامي لتقليده لقوة أدلته واقتناعه بها .
وقد نقل الشافعية عن العلامة ابن دقيق العيد ، تجويزه لهذا النوع من الاختيار بين المفتين ، بشرط:
" انشراح صدره للتقليد المذكور ، وعدم اعتقاده لكونه متلاعبا بالدين ، متساهلا فيه ، ودليل اعتبار هذا الشرط قوله : ( والإثم ما حاك في نفسك )، فهذا تصريح بأن ما حاك في نفسك ففعله إثم "
انتهى من " البحر المحيط " (8/377) .
وجاء في " المسودة في أصول الفقه " (ص: 518):
" إذا جوز للعامي أن يقلد من شاء ، فالذي يدل عليه كلام أصحابنا وغيرهم أنه لا يجوز له تتبع الرخص مطلقا ، فإن أحمد أثر مثل ذلك عن السلف ، وأخبر به ، فروى عبد الله بن أحمد عن أبيه قال : سمعت يحيى القطان يقول : لو أن رجلا عمل بكل رخصة بقول أهل المدينة في السماع ، يعنى في الغناء ، وبقول أهل الكوفة في النبيذ ، وبقول أهل مكة في المتعة ، لكان فاسقا " انتهى.
ثم يتأكد اتباع القول الأيسر : متى كان القول المقابل له يوقع المكلف في حرج ، أو مشقة خارجة عن المعتاد في شأن التكليف ، ولم يكن الدليل على ذلك القول بينا محكم الدلالة بالنسبة للمكلف المعين ، أو لم يبلغه دليل أصلا في المسألة ، أو تعارضت عليه وجوه الترجيح ، إن كان ينظر ويرجح ، أو تعارضت عليه
قوال المفتين ، وليس عنده ما يرجح بينها ؛ فلا حرج عليه في ذلك أن يبني ترجيح أحد القولين على التيسير ، ودفع المشقة ، ورفع الحرج ؛ فهذا أصل شرعي معتبر ، تكاثرت النصوص الشرعية في الدلالة عليه ، من حيث الجملة .
وأما من استمع ، وأنكر بقلبه : فلم نجد من يقول بتكفيره ، وإن كان يلحقه الإثم إذا تمكن من المخالفة أو الإنكار ولم يفعل .
والله أعلم .
وننبه هنا إلى أن المسائل الثلاثة التي ذكرتها في سؤالك قد سبق تقرير الجواب عليها في الاجابات التاليه
*عبدالرحمن*
2018-03-20, 03:14
المرأة إذا لم تستر قدميها في الصلاة جهلاً
فهل تلزمها إعادة الصلاة ؟
السؤال :
سمعت فتوى للشيخ ابن باز رحمه الله ذكر فيها أن من صلت وقدمها مكشوف ، فعليها الإعادة . سؤالي : ما حكم الصلوات التي صليت قبل معرفة الحكم ؟ وماذا علي الآن هل أقوم بإعادتها ؟ وإذا كنت لا أحصي العدد ، فما العمل ؟
الجواب :
الحمد لله
أولاً :
اختلف أهل العلم رحمهم الله : في حكم ستر المرأة للقدمين في الصلاة ، فذهب جمهور العلماء : إلى أنه يجب على المرأة أن تستر قدميها في الصلاة ، ومال إلى هذا القول الشيخ ابن باز رحمه الله ، وقد سبق في جواب السؤال رقم : ( 1046 ) نقل كلامه رحمه الله ، فينظر فيه للفائدة .
والقول الثاني : عدم الوجوب ، وهو مذهب الأحناف ، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية ، ومال إليه ابن عثيمين رحمة الله على الجميع .
جاء في " الموسوعة الفقهية " (7/86) :
" وأما القدمان ، فهما عورة عند المالكية والشافعية غير المزني , وهو المذهب عند الحنابلة , وهو رأي بعض الحنفية .
والمعتمد عند الحنفية أنهما ليستا بعورة , وهو رأي المزني من الشافعية , والشيخ تقي الدين ابن تيمية من الحنابلة " انتهى .
واستدل الجمهور على القول بالوجوب : بما رواه أبو داود (640) عن أم سلمة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم : أتصلي المرأة في درع وخمار ليس عليها إزار ؟ قال : ( إِذَا كَانَ الدِّرْعُ سَابِغًا يُغَطِّي ظُهُورَ قَدَمَيْهَا ) .
قال الخطابي رحمه الله : " وفي الخبر دليل على صحة قول من لم يجز صلاتها إذا انكشف من بدنها شيء ، ألا تراه يقول : إذا كان سابغا يغطي ظهور قدميها ، فجعل من شرط جواز صلاتها ، أن لا يظهر من أعضائها شيء "
انتهى من " معالم السنن " (1/ 159) – ترقيم الشاملة - .
واستدل أصحاب القول الثاني : بأن القدمين مما يظهر غالباً في المرأة في بيتها ، ومع هذا لم يثبت في وجوب تغطية القدمين حديث .
وأجابوا على حديث أم سلمة رضي الله عنها ، بأنه موقوف .
قال أبو داود في " سننه " بعدما روى الحديث : " روى هذا الحديث مالك بن أنس وبكر بن مضر وحفص بن غياث وإسمعيل بن جعفر وابن أبي ذئب وابن إسحق عن محمد بن زيد عن أمه عن أم سلمة ، لم يذكر أحد منهم النبي صلى الله عليه وسلم ، قصروا به على أم سلمة رضي الله عنها " انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في " الشرح الممتع " (2/ 161) :
" ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن الحرة عورة إلا ما يبدو منها في بيتها ، وهو الوجه والكفان والقدمان ، وقال : إن النساء في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام كن في البيوت يلبسن القمص، وليس لكل امرأة ثوبان ، ولهذا إذا أصاب دم الحيض الثوب غسلته وصلت فيه ، فتكون القدمان والكفان غير عورة في الصلاة ، لا في النظر .
وبناء على أنه ليس هناك دليل تطمئن إليه النفس في هذه المسألة ، فأنا أقلد شيخ الإسلام في هذه المسألة ، وأقول : إن هذا هو الظاهر إن لم نجزم به ؛ لأن المرأة حتى ولو كان لها ثوب يضرب على الأرض ، فإنها إذا سجدت سوف يظهر باطن قدميها " انتهى .
ثانياً :
إذا صلت المرأة زمناً بدون أن تستر قدميها ، وهي جاهلة بالحكم ، فإنه لا يلزمها قضاء الصلوات الفائتة ؛ لأنها معذورة بالجهل ، وتقضي الصلاة الحاضرة إذا لم يخرج وقتها .
قال الشيخ محمد شمس الحق العظيم آبادي رحمه الله :
" وقال مالك بن أنس : إذا صلت المرأة ، وقد انكشف شعرها ، أو ظُهُور قدميها ، تعيد ما دامت في الوقت "
انتهى من " عون المعبود شرح سنن أبي داود " (2/242) – ترقيم الشاملة - .
وللشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله فتوتان : الأولى مع أعضاء اللجنة الدائمة برئاسته رحمه الله ، والفتوى الثانية له رحمه الله خاصة من فتاوى نور على الدرب ، وكلا الفتوتيين فيهما : أن من كانت جاهلة بالحكم ، فإنه لا يلزمها القضاء .
جاء في " فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الثانية " (5/143) : سمعت في برنامج ديني : أنه يحرم على المرأة أن تصلي ورجلاها ظاهرتان ، فما الحكم ؟
فأجابوا : " يجب على المرأة أن تستر جميع بدنها في الصلاة ، بما في ذلك القدمان يجب سترهما ، وأما الوجه ، فإنها تكشفه إذا لم يكن عندها رجال غير محارم لها ، وما مضى من ظهور بعض قدميك في الصلاة ، فإنه معفو عنه إن شاء الله من أجل الجهل ، وبالله التوفيق " انتهى .
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله : " أما كونها تقضي ما مضى من صلاتها ، فهذا من باب أنها أخلَّت بالشرط ، فإذا كانت صلت صلوات ليست ساترة لقدميها فيها ، فإن الواجب قضاؤها ، لكن إذا كانت جاهلة بالحكم الشرعي ، فلعلَّ الله جل وعلا يعفو عنها فيما مضى ، ولا يكون عليها قضاء ، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما رأى رجلاً يصلي وينقر صلاته ، فقال له عليه الصلاة : ( ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ ) .
... ، متفق على صحته ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد هذه الصلاة الحاضرة ، ولم يأمره أن يعيد الصلوات الماضية للجهل ، فإن ظاهر حاله أنه يصلي هذه الصلاة فيما مضى ، ولكن لما كان جاهلاً عذره صلى الله عليه وسلم في الأوقات الماضية وأمره أن يعيد الحاضر ، فدل ذلك على أن من جهل شيئاً من فرائض الصلاة ثم نبه في الوقت الحاضر فإنه يعيد الحاضر ، أما التي مضت فتجزئه من أجل الجهل ، هذا هو مقتضى هذا الحديث ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر هذا المسيء في صلاته أن يعيد صلواته الماضية
بسبب الجهل وما في ذلك من المشقة ، فهكذا التي صلت صلوات كثيرة قبل أن تعلم وجوب ستر القدمين ، فإنها لا إعادة عليها إن شاء الله على الصحيح ؛ لأنها معذورة بالجهل ، وإنما تلتزم في المستقبل وتستقيم في المستقبل على ستر قدميها وبقية بدنها ، ما عدا الوجه والكفين ، فإنهما ليسا عورة في الصلاة ، عند أهل العلم ، ولكن إذا سترت الكفين خروجاً من خلاف بعض أهل العلم ، فهذا حسن "
انتهى بتصرف يسير من " فتاوى نور على الدرب لابن باز " .
والحاصل : أن ستر القدمين في الصلاة للمرأة محل خلاف بين العلماء ، والأحوط للمرأة : أن لا تكشف قدميها في الصلاة ؛ خروجاً من خلاف أهل العلم ، وأما ما مضى من صلوات ، فإنه لا يلزمها قضائها ؛ لأنها معذورة بالجهل .
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-20, 03:17
هل الفتاة المحجبة يجب عليها أن تغطي قدميها ؟
السؤال
هل الفتاة المحجبة يجب عليها أن تغطي قدميها ؟ ماذا لو ارتدت حذاء مكشوف الوجه (صندل) مع جوارب أو أي شيء يغطي قدميها ؟ هل هذا جائز ؟
الجواب
الحمد لله
كانت النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يحرصن على الستر الكامل ، ومن ذلك تغطية القدمين ، وكنَّ يطلن ذيل لباسهن ، فسألت إحداهن رسولَ الله عليه وسلم عن لمس هذا الذيل لما على الأرض مما يقذره فقال : (يطهره ما بعده) ، وعندما قال صلى الله عليه وسلم – في موقف آخر – إن النساء يرخين ذيولهن شبراً قالت إحداهن : (إذن تنكشف أقدامهن) ، فهو يدل على حرصهن على تغطية القدمين ، وأنهما مما يجب ستره .
فقد سألت امرأة أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر ، فقالت أم سلمة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يطهره ما بعده) رواه الترمذي (143) وأبو داود (383) وابن ماجه (531) والحديث صححه الشيخ الألباني في "صحيح أبي داود" (407) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من جرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ، فقالت أم سلمة : فكيف يصنعن النساء بذيولهن ؟ قال : يرخين شبراً ، فقالت : إذا تنكشف أقدامهن ، قال : فيرخينه ذراعاً لا يزدن عليه) رواه الترمذي (1731) وقال : قال هذا حديث حسن صحيح ، والنسائي (5336) والحديث صححه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1864) .
فلا يجوز للمرأة أن تلبس حذاءً مكشوفاً يَظهر منه قدماها ، فإذا كان اللباس طويلاً وهي تلبس الجوارب : فلا حرج عليها ، والأفضل أن تُغطَى القدمان بالثوب لا بالجوارب .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
لو لبست المرأة سراويل أو خفا واسعا صلبا كالموق وتدلى فوقه الجلباب بحيث لا يظهر حجم القدم لكان هذا محصلا للمقصود بخلاف الخف اللين الذي يبدي حجم القدم ; فإن هذا من لباس الرجال .
" مجموع الفتاوى " ( 22 / 148 ) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
يجوز للمرأة أن تُنزل ثوبها إلى أسفل من الكعبين ، بل إن هذا هو المشروع في حقها من أجل أن تستر بذلك قدميها ، فإن ستر قدمي المرأة أمر مشروع بل واجب عند كثير من أهل العلم ، فالذي ينبغي للمرأة : أن تستر قدميها إما بثوبٍ ضافٍ عليها ، وإما بلباس شراب [ - أي : جوارب - ] أو كنادر أو شبهها .
" فتاوى المرأة المسلمة " ( 1 / 437 ) .
والله أعلم
*عبدالرحمن*
2018-03-20, 03:21
حكم من جلس يشاهد فيلما يُسَبّ
فيه الدين أو يستهان فيه بالشريعة
السؤال
لا شك أن مشاهدة الفيديو كليب أو المسلسلات أو برامج الغناء : حرام ، لكن هل لك نفس إثمهم أم إنك تأثم فقط ؛ فهل مثلا إدا شاهدت فيلما يسب الدين تعتبر كافرا للمشاهدة فقط ، أم إنك آثم؟
الجواب :
الحمد لله
حرمت نصوص الشريعة المطهرة كل معصية ، وسدت أبواب الوسائل إليها ، ونهت عن التعاون على الإثم والعدوان ، وعن التشبه بالعصاة ، وبينت أن من أحب قوما حشر معهم ، ومن تشبه بقوم فهو منهم .
وكان مما حرمته الشريعة مشاهدة تلك الأفلام والمسلسلات وبرامج الغناء والترفيه المتضمنة لغير لون من ألوان المعصية .
ومشاهدة مثل هذه الأمور إقرار لأصحابها على باطلهم ، ومن رأى المنكر فأقرّ به ورضيه ولم ينكره كان في حكم فاعله .
قال الله تعالى : ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ) النساء / 140 .
قال ابن كثير رحمه الله :
" أي : إنكم إذا جلستم معهم وأقررتموهم على ذلك ، فقد ساويتموهم في الذي هم فيه " انتهى .
"تفسير ابن كثير" (3 / 278)
وقال السعدي رحمه الله :
" أي : إن قعدتم معهم في الحال المذكورة فأنتم مثلهم ؛ لأنكم رضيتم بكفرهم واستهزائهم ، والراضي بالمعصية كالفاعل لها ، والحاصل أن من حضر مجلسا يعصى الله به ، فإنه يتعين عليه الإنكار عليهم مع القدرة ، أو القيام مع عدمها " انتهى .
"تفسير السعدي" (ص 210)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله :
" لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَحْضُرَ مَجَالِسَ الْمُنْكَرِ بِاخْتِيَارِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ : ( مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ ) وَرُفِعَ لِعُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَوْمٌ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فَأَمَرَ بِجَلْدِهِمْ فَقِيلَ لَهُ : إنَّ فِيهِمْ صَائِمًا . فَقَالَ : ابْدَءُوا بِهِ ، أَمَا سَمِعْتُمْ اللَّهَ يَقُولُ : ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِثْلُهُمْ ) .
بَيَّنَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ حَاضِرَ الْمُنْكَرِ كَفَاعِلِهِ ، وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ : إذَا دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ فِيهَا مُنْكَرٌ كَالْخَمْرِ وَالزَّمْرِ لَمْ يَجُزْ حُضُورُهَا ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا بِإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ، فَمَنْ حَضَرَ بِاخْتِيَارِهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِتَرْكِ مَا أَمَرَهُ بِهِ مِنْ إنْكَارِهِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الَّذِي يَحْضُرُ مَجَالِسَ الْخَمْرِ بِاخْتِيَارِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا يُنْكِرُ الْمُنْكَرَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ هُوَ شَرِيكُ الْفُسَّاقِ فِي فِسْقِهِمْ فَيَلْحَقُ بِهِمْ " انتهى .
"مجموع الفتاوى" (28 / 221-222)
وقد روى مسلم (1854) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ ) .
فمن جلس يستمع لمثل هذا المنكر أو يشاهده فهو شريك أصحابه في الإثم ، وإذا تضمّن كفرا – والعياذ بالله – كسبّ الدين أو الطعن في الرسالات أو المرسلين أو الاستهانة بأحكام الدين وشرائعه والسخرية منها كاللحية والنقاب – كما يصنع كثير من الضلال اليوم – فجلس يصغي إليهم ، ولا يغضب لله ، وهو راض بما يقولون فهو مثلهم .
قال الله تعالى : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ) التوبة / 65 ، 66.
فمن أتى بكلمة الكفر أو بفعل استوجب الكفر وهو يعلم أنه كفر فهو كافر ، سواء أتى به جادا أو هازلا ، ومن أصغى إليه ولم ينكر عليه ، ورضي بما قال أو فَعَل : فهو كافر مثله .
بل لو لم يرض بذلك المنكر ، وكرهه بقلبه ، ثم لم يقم من مكانه ، وهو قادر على ذلك : كان آثما بمجرد الجلوس ؛ فلو سلم من الكفر ، لم يسلم من الوقوع في إثم الجلوس في ذلك المكان.
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
أنا شاب ملتزم وأجلس في هذه الليالي المباركة في استراحة مع بعض الشباب، لكن قد يأتي من يدخن وقد يأتي من يشرب الشيشة، فماذا أصنع في هذه الحالة؟
فأجاب : " قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه) فإذا حضر إلى مجالسكم حاضر وشرب الدخان فانصحه أولاً، فإن انتهى فهذا خير لك وله، وإن لم ينته وأنت قادر على إخراجه من المكان فأخرجه لأنك تقدر على تغيير المنكر بيدك، وإن لم تقدر بأن كان المكان لغيرك فاخرج؛ لأنك لم تستطع بلسانك ولا تستطيع بفعلك، ما الذي بقي؟
القلب. القلب لا يمكن أن ينكر شيئاً ويبقى مع صاحبه أبداً ، فاخرج ، قال بعض الناس : إنه يجلس معهم وهو كاره بقلبه . نقول : سبحان الله العظيم ! هذا تناقض ، لو كنت كارهاً بقلبك فمن الذي أجبرك ؟ لا يوجد إجبار ، فكل إنسان ينكر الشيء بقلبه فلا بد أن يفارق مكانه ، وإن ادعى أنه منكر بقلبه وهو باق في مكانه فهو كاذب " .
"اللقاء الشهري" (3 / 45) .
والحاصل :
أن من شاهد ذلك وسمعه ورضي به فحكمه حكم الفاعل له، وأما إذا كره ذلك بقلبه ولكنه استمر في المشاهدة والاستماع فهو على خطر عظيم ، وإن سلم من الكفر لم يسلم من الوقوع في الإثم والمعصية .
والله تعالى أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-20, 03:26
هل يجوز أن يأخذ بمذهب مالك في الطهارة
حتى يدفع عن نفسه الوسواس؟
السؤال:
أنا شاب مصاب بالوسواس في الطهارة ، وأنا أعلم أن النجاسة تنتقل إذا كانت يابسة والجسم الملموس رطبا أو مبتلا ففي هذا القول أجد بعض المشقة ، وسؤالي هو : هل يجوز لي الأخذ بفتاوى المذهب المالكي بخصوص الطهارة وذلك لكثرة اليسر من خلال هذا المذهب ؟
الجواب :
الحمد لله
لا شك أن المسلم متى تبينت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان الواجب عليه لزومها .
قال الإمام الشافعي رحمه الله : " أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ اسْتَبَانَتْ لَهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَدَعَهَا لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ "
انتهى من من "إعلام الموقعين" (1/6) .
وسنة رسول الله عليه وسلم ، وشرعه بصفة عامة : يسر لا حرج فيه ؛ فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة .
وأما مسائل الاجتهاد ، فهذه لا حرج فيها على العامي ونحوه : أن يقلد مذهبا من المذاهب الأربعة المتبوعة المشهورة عند أهل العلم ، ولا يلزمه أن يتقيد بمذهب معين ، في جميع مسائله ، على القول الراجح عند الأصوليين ، لا سيما إذا كان اختياره لمذهب في مسألة معينة ، أو في باب معين : لمقصد ديني شرعي معتبر ، وليس لمجرد التشهي واتباع الهوى ؛ فإن هذا هو الممنوع .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْتِزَامَ الْمَذَاهِبِ وَالْخُرُوجَ عَنْهَا :
إنْ كَانَ لِغَيْرِ أَمْرٍ دِينِيٍّ ، مِثْلَ: أَنْ يَلْتَزِمَ مَذْهَبًا لِحُصُولِ غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ مِنْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا مِمَّا لَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ ، بَلْ يُذَمُّ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ وَلَوْ كَانَ مَا انْتَقَلَ إلَيْهِ خَيْرًا مِمَّا انْتَقَلَ عَنْهُ ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يُسْلِمُ إلَّا لِغَرَضِ دُنْيَوِيٍّ أَوْ يُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ لِامْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا أَوْ دُنْيَا يُصِيبُهَا .
..
وَأَمَّا إنْ كَانَ انْتِقَالُهُ مِنْ مَذْهَبٍ إلَى مَذْهَبٍ : لِأَمْرِ دِينِيٍّ ، مِثْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ رُجْحَانَ قَوْلٍ عَلَى قَوْلٍ فَيَرْجِعَ إلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ مُثَابٌ عَلَى ذَلِكَ .." .
انتهى من "مجموع الفتاوى" (20/222-223) ، وينظر أيضا : "البحر المحيط" (8/375) .
ولا شك أن قصد تصحيح العبادة ، ورفع الحرج ، والمشقة الزائدة ، ودفع الوساوس لا شك أن ذلك كله من المقاصد الشرعية الدينية المعتبرة .
ويترجح القول بمشروعية اتباعك لمذهب الإمام مالك في الطهارات ، بأمور :
الأمر الأول : أن هذا هو مذهب عامة الناس في بلدك ، وعليه علماؤكم ، وأمر الفتوى والأحكام في بلدكم ـ غالبا ـ كما هي عادة الناس فيما ينتشر بينهم من مذاهب .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وَأَكْثَرُ النَّاسِ إنَّمَا الْتَزَمُوا الْمَذَاهِبَ ، بَلْ الْأَدْيَانَ بِحُكْمِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَنْشَأُ عَلَى دِينِ أَبِيهِ أَوْ سَيِّدِهِ أَوْ أَهْلِ بَلَدِهِ ، كَمَا يَتْبَعُ الطِّفْلُ فِي الدِّينِ أَبَوَيْهِ وَسَابِيهِ [يعني : سيده] وَأَهْلَ بَلَدِهِ ، ثُمَّ إذَا بَلَغَ الرَّجُلُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْصِدَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَيْثُ كَانَتْ ...
وَكَذَلِكَ : مَنْ تَبَيَّنَ لَهُ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ الْمَسَائِلِ الْحَقُّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ ثُمَّ عَدَلَ عَنْهُ إلَى عَادَتِهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ.
وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَقَدْ اتَّبَعَ فِيهَا مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ قَوْلَ غَيْرِهِ أَرْجَحُ مِنْ قَوْلِهِ فَهُوَ مَحْمُودٌ يُثَابُ ، لَا يُذَمُّ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُعَاقَبُ .."
انتهى من "مجموع الفتاوى" (20/225) .
الأمر الثاني : أن مذهب مالك فيه من التيسير والسعة : ما هو أقرب للحنيفية السمحة التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وَمَنْ تَدَبَّرَ مَذْهَبَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَكَانَ عَالِمًا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، تَبَيَّنَ لَهُ قَطْعًا أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، الْمُنْتَظِمَ لِلتَّيْسِيرِ فِي هَذَا الْبَابِ ـ يعني : باب أعيان النجاسات ـ : أَشْبَهُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَذْهَبِ الْمُنْتَظِمِ لِلتَّعْسِيرِ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لَمَّا بَالَ الْأَعْرَابِيُّ فِي الْمَسْجِدِ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّبِّ عَلَى بَوْلِهِ قَالَ: {إنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ} "
انتهى من "مجموع الفتاوى" (20/339) .
ولأجل ما في مذهب مالك من موافقة أصول التيسير في الشريعة ، كان أبو حامد الغزالي يتمنى أن يكون مذهب الشافعي في ذلك الباب ، كمذهب مالك ، رحمهم الله ، ويرى أن ذلك أعون على التيسير ، وأبعد عن المشقة والحرج .
فإذا اتفق أن شخصا ابتلي بمشقة زائدة ، أو وسواس في نفسه ، وكان اتباعه لمذهب مالك من شأنه أن يدفع عنه ذلك الحرج ، لم يكن في أصول الشرع ما يمنع ذلك ، بل فيه ما يؤكده ، ويرغبه فيه .
قال أبو حامد :
" وَيَخْرُجُ الْمَاءُ عَنِ الطَّهَارَةِ : بِأَنْ يَتَغَيَّرَ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ ، طَعْمُهُ ، أَوْ لَوْنُهُ ، أَوْ رِيحُهُ .
فَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ ، وكان قريباً من مائتين وخمسين مَنَّا ، وهو خمسمائة رطل برطل العراق : لَمْ يَنْجُسْ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً ) .
وإن كان دونه : صار نجساً عند الشافعي رضي الله عنه . هذا في الماء الراكد .
وأما الماء الجاري : إذا تغير بالنجاسة ، فالجرية المتغيرة نجسة .. " .
ثم استطرد في بعض مسائل المذهب في هذا الباب ، ثم قال :
" هذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه ؛ وكنت أود أن يكون مذهبه كمذهب مالك رضي الله عنه ، في أن الماء وإن قل : لا ينجس إلا بالتغير ؛ إذ الحاجة ماسة إليه ، ومثار الوسواس : اشتراط القلتين ؛ ولأجله شق على الناس ذلك ، وهو لعمري سبب المشقة ، ويعرفه من يجربه ويتأمله "
انتهى من "إحياء علوم الدين" (1/129) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ أَنْ يُقَلِّدَ رَجُلًا بِعَيْنِهِ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ ، وَيَسْتَحِبُّهُ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يَسْتَفْتُونَ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ ، فَيُقَلِّدُونَ تَارَةً هَذَا ، وَتَارَةً هَذَا.
فَإِذَا كَانَ الْمُقَلِّدُ يُقَلِّدُ فِي مَسْأَلَةٍ يَرَاهَا أَصْلَحَ فِي دِينِهِ ، أَوْ الْقَوْلُ بِهَا أَرْجَحُ ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ جَازَ هَذَا بِاتِّفَاقِ جَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، لَمْ يُحَرِّمْ ذَلِكَ لَا أَبُو حَنِيفَةَ وَلَا مَالِكٌ وَلَا الشَّافِعِيُّ وَلَا أَحْمَد.."
انتهى من "مجموع الفتاوى" (23/381) ، وينظر : (20/222) .
على أننا ننبه هنا على أمر مهم ، وهو أنه يجب على السائل ، وعلى غيره ممن أراد الأخذ بمذهب معين ، من المذاهب المتبوعة : أن يتيقن من قول المذهب في المسألة المعينة ، ولا يعتمد على ظن ظنه ، أو قول سمعه ، بل لابد من أن يسأل عن المذهب علماءه العارفين به ، المحققين لمسائله ، كما يسأل عن أمر دينه ـ بصفة عامة ـ أهل الذكر العالمين به .
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-20, 03:31
هل يجب اتباع أقوال ابن عباس لأن النبي
صلى الله عليه وسلم دعا له بالعلم ؟
السؤال :
هناك من يقول : بأنه لا يجوز مخالفة ابن عباس رضي الله عنهما في مسائل الفقه والتفسير، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) ودعاء رسول الله مستجاب ، فما قولكم في هذه المسألة ؟
الجواب :
الحمد لله
أولا :
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قال : " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الخَلاَءَ فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا ، قَالَ : ( مَنْ وَضَعَ هَذَا ؟) ، فَأُخْبِرَ ، فَقَالَ : (اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ ) رواه البخاري ( 143 ) ، ومسلم ( 2477 ) .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَ : ( اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الكِتَابَ) "رواه البخاري ( 75 ) .
وروى الإمام أحمد في " المسند " ( 4 / 225 ) عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : " أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَضَعَ يَدَهُ عَلَى كَتِفِي - أَوْ عَلَى مَنْكِبِي ، شَكَّ سَعِيدٌ - ثُمَّ قَالَ : ( اللهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ ) ، وصححه الألباني في " السلسلة الصحيحة " ( 6 / 173 ) .
وهذا الأحاديث فيها دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنه بالفقه في الدين والعلم بالقرآن ، وهذا ما تحقق حيث أصبح ابن عباس عالما من علماء الصحابة ومفسريهم .
ثانيا :
هذه الأحاديث لا تثبت العصمة لأقوال ابن عباس رضي الله عنه :
1- لأن ليس فيها الدعوة بالعصمة من الخطأ ، وإنما فيها الدعوة بالعلم فقط .
2- عدم إصابة العالم للحق أحيانا لا يخرجه من زمرة العلماء ولا ينزع عنه صفة العلم .
3- - لا يلزم من إثبات الفقه للعالم ، الصحابي أو غيره ، أن يصيب في جميع أقواله ، فالفقهاء ما زالوا يصيبون ويخطئون ، ولكن لا شك أن لابن عباس مزية بهذا الدعاء ، فهو أقرب إلى الصواب من غيره ، وإن كان في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، من هو أولى بالفقه والصواب منه ، كأبي بكر ، وعمر ، بل وسائر الخلفاء الراشدين ، رضوان الله عليهم جميعا .
4- وقد ورد في شأن أبي بكر من الفضل ، وفي شأن عمر رضي الله عنه ، وعلمه وأن الحق ينطق على لسانه ، وفي شأن علي ، وابن مسعود ، ومعاذ بن جبل ... إلخ ، ما هو أعظم مما ورد في شأن ابن عباس ولم يلزم من ذلك كله أن يكون الوحد منهم معصوما ، أو أن اتباعه فرض لازم على الأمة في كل حال . ولم يحتج لا عمر ولا ابن عباس
ولا غيرهما من فقهاء الصحابة وفضلائهم ، على أحد من الصحابة ، بل ولا التابعين : بما ورد في فضلهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، مما يدل على أنهم لم يفهموا من هذا أن قولهم صار صوابا في جميع الأحوال .
5- بل أدل من ذلك : أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين ، ولم يمنع ذلك أن يخالفهم بعض الصحابة في مسائل ؛ قال الزركشي رحمه الله ، في بحث مسألة "قول الخلفاء الأربعة" هل هو حجة أم لا : " .. لَنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ خَالَفَ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ فِي خَمْسِ مَسَائِلَ فِي الْفَرَائِضِ انْفَرَدَ بِهَا، وَابْنُ مَسْعُودٍ بِأَرْبَعِ مَسَائِلَ ، وَلَمْ يَحْتَجَّ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ بِإِجْمَاعِ الْأَرْبَعَةِ." .
انتهى من "البحر المحيط في أصول الفقه" (6/452) .
ثالثا :
ربما يُشكِل على هذا القائل رواية أخرى للحديث المذكور في الدعاء لابن عباس ، وهي :
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : " ضَمَّنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى صَدْرِهِ ، وَقَالَ: ( اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الحِكْمَةَ ) " رواه البخاري ( 3756 ) .
فـ " الحكمة " هنا فسرها بعض أهل العلم بأنها الإصابة في القول ، لكن هذا مجرد قول من أقوال متعددة .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى :
" واختلف الشراح في المراد بالحكمة هنا فقيل : القرآن كما تقدم ، وقيل العمل به ، وقيل السنة ، وقيل الإصابة في القول ، وقيل الخشية ، وقيل الفهم عن الله ، وقيل العقل ، وقيل ما يشهد العقل بصحته ، وقيل نور يفرق به بين الإلهام والوسواس ، وقيل سرعة الجواب مع الإصابة ... والاقرب أن المراد بها في حديث بن عباس الفهم في القرآن "
.
انتهى من " فتح الباري " ( 1 / 170 ) .
فرجح ابن حجر أن المراد بها القرآن فهي مفسرة بالرواية السابقة : ( اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الكِتَابَ )
.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى :
" وقال : ( اللهم علمه الحكمة )، وفي لفظ : ( علمه الكتاب ) وهو يؤيد من فسر الحكمة هنا بالقرآن "
انتهى من " فتح الباري " ( 7 / 100 ) .
وقال ابن الملقن رحمه الله تعالى :
" المراد بالكتاب هنا : القرآن وكذا كل موضع ذكر الله تعالى فيه الكتاب ، والمراد بالحكمة أيضًا : القرآن "
انتهى من " التوضيح لشرح الجامع الصحيح " ( 3 / 383 ) .
رابعا :
ثمّ من المتفق عليه بين أهل السنة أن لا عصمة لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" والقاعدة الكلية في هذا أن لا نعتقد أن أحدا معصوم بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، بل الخلفاء وغير الخلفاء يجوز عليهم الخطأ "
انتهى من " منهاج السنة " ( 6 / 196 ) .
وقال رحمه الله تعالى :
" اتفق أهل العلم - أهل الكتاب والسنة - على أن كل شخص سوى الرسول فإنه يؤخذ من قوله ويترك ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه يجب تصديقه في كل ما أخبر ، وطاعته في كل ما أمر ، فإنه المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى " .
انتهى من " منهاج السنة " ( 6 / 190 – 191 ) .
ولهذا يعامل أهل العلم أقوال ابن عباس كأقوال غيره من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-20, 03:41
هل أقوال علماء الصحابة حجة لا يجوز مخالفتها
السؤال :
هل قول علماء الصحابة ، العارفين بتأويل القرآن ، كابن عباس ، رضي الله عنهما ، حجة ، لا يجوز مخالفتها ؟
الجواب :
الحمد لله
قول الصحابي عند أهل العلم - إذا صحّ السند إليه - له عدة حالات– على وجه الاجمال - :
القسم الأول :
قول الصحابي الذي لا يقال مثله بالاجتهاد والرأي وإنما سبيله الرواية فقط ، كأن يكون عن أمر غيبي مثلا .
فهذا القول يعتمد عليه ويكون له حكم الرفع ، فهنا احتمال قوي أنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم ، والصحابة أحيانا يروون السنة بلفظها ومسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأحيانا بمعناها وغير مسندة خاصة إذا خرجت على سبيل الفتوى أو الجواب على سؤال .
مثال ذلك :
قال الله تعالى :
( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) البقرة ( 197 ) .
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " لَا يُحْرِمُ بِالْحَجِّ إِلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ؛ فَإِنَّ مِنْ سُنَّةِ الْحَجِّ أَنْ تُحْرِمَ بِالْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ " رواه ابن خزيمة في صحيحه ( 4 / 162 ) .
فنسبة شيء إلى السنة عمدته الرواية لا الرأي والاجتهاد .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى :
" وهذا إسناد صحيح ، وقول الصحابي : " من السنة كذا " في حكم المرفوع عند الأكثرين ، ولا سيما قول ابن عباس تفسيرا للقرآن ، وهو ترجمانه " .
انتهى من" تفسير ابن كثير " ( 1 / 541 ).
لكن يستثنى من هذا إذا كان هناك احتمال قوي أنه من الروايات الاسرائيلية المنقولة عن أهل الكتاب .
قال محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى :
" فإن كان مما لا مجال للرأي فيه فهو في حكم المرفوع ، كما تقرر في علم الحديث ، فيقدَّمُ على القياس ، ويُخَصُّ به النص , إن لم يُعْرَف الصحابي بالأخذ من الإسرائيليات "
.
انتهى من " مذكرة أصول الفقه " ( ص 256 ) .
فإذا كان الاحتمال القوي أنه من الأخبار المنقولة عن أهل الكتاب ؛ ففي هذه الحالة يكون له حكم الأخبار الإسرائيلية ؛ وحكمها كما بينه الشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى :
" من المعلوم أن ما يروى عن بني إسرائيل من الأخبار المعروفة بالإسرائيليات له ثلاث حالات : في واحدة منها يجب تصديقه ، وهي ما إذا دل الكتاب أو السنة الثابتة على صدقه . وفي واحدة يجب تكذيبه ، وهي ما إذا دل القرآن أو السنة أيضا على كذبه . وفي الثالثة لا يجوز التكذيب ولا التصديق ، وهي ما إذا لم يثبت في كتاب ولا سنة صدقه ولا كذبه " .
انتهى من " أضواء البيان " ( 4 / 238 ) .
ومثال ذلك :
" حديث الفتون " الذي رواه النسائي في " السنن الكبرى " ( 10 / 172 – 183 ) عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى : ( وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ) طه / 40 ، وهو حديث طويل جدا .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى بعد أن ذكره :
" هكذا رواه الإمام النسائي في السنن الكبرى ، وأخرجه أبو جعفر بن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما كلهم من حديث يزيد بن هارون به ، وهو موقوف من كلام ابن عباس ، وليس فيه مرفوع إلا قليل منه ، وكأنه تلقاه ابن عباس رضي الله عنه مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره ، والله أعلم . وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضا "
انتهى من " تفسير ابن كثير " ( 5 / 293 ) .
القسم الثاني :
قول الصحابي الذي يقال مثله بالاجتهاد والرأي .
وهذا له عدة حالات :
الحالة الأولى :
إذا خالف نصا شرعيا : فيقدم النص ولا يعمل بقول الصحابي .
مثال ذلك :
قال الله تعالى
:
( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ) النساء ( 11 ) .
فالله نص على نصيب ميراث البنات مع الأولاد ، ونصيب البنات لوحدهن إذا كن فوق اثنتين وعلى نصيب البنت وحدها ، ولم ينص على نصيب البنتين .
فابن عباس رضي الله عنهما أفتى بأن للبنتين نصف التركة .
وقد أجمع أهل العلم بعده على خلاف قوله وقالوا بأن لهن الثلثين .
قال ابن المنذر رحمه الله تعالى :
" وفرض الله تعالى للبنت الواحدة النصف ، وفرض لما فوق الثنتين من البنات الثلثين ، ولم يفرض للبينتين فرضاً منصوصا في كتابه .
وأجمع أهل العلم على أن للثنتين من البنات الثلثين ، فثبت ذلك بإجماعهم وتوارث في كل زمان على ذلك إلى هذا الوقت ..."
انتهى من " الإشراف " ( 4 / 316 ) .
ومما استدل به أهل العلم .
حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " جَاءَتْ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ بِابْنَتَيْهَا مِنْ سَعْدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ ، قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا ، وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا ، فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالًا وَلَا تُنْكَحَانِ إِلَّا وَلَهُمَا مَالٌ ، قَالَ: يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ ، فَنَزَلَتْ : آيَةُ المِيرَاثِ ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَمِّهِمَا ، فَقَالَ : أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ ، وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ ) رواه الترمذي ( 2092 ) وقال : " هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ " ، وصححه الحاكم والذهبي " المستدرك " ( 4 / 334 ) ، وحسنه الألباني " إرواء الغليل " ( 6 / 121 – 122 ) .
قال ابن حجر رحمه الله تعالى :
" وقد انفرد بن عباس بأن حكمهما حكم الواحدة وأبى ذلك الجمهور ، واختلف في مأخذهم فقيل حكمهما حكم الثلاث فما زاد ، ودليله بيان السنة فإن الآية لما كانت محتملة بينت السنة أن حكمهما حكم ما زاد عليهما ، وذلك واضح في سبب النزول فإن العم لما منع البنتين من الإرث وشكت ذلك أمهما قال صلى الله عليه وسلم لها ( يقضي الله في ذلك ) فنزلت آية الميراث ، فأرسل إلى العم فقال : ( اعط بنتي سعد الثلثين ) ... ويعتذر عن ابن عباس بأنه لم يبلغه فوقف مع ظاهر الآية "
انتهى من " فتح الباري " ( 12 / 15 – 16 ) .
الحالة الثانية
:
قول الصحابي إذا خالفه غيره من الصحابة .
ففي هذه الحالة لا يكون قول أحدهم حجة دون الآخر ، بل يرجح بين أقوالهم ولا يخرج عنها.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى :
"وإن تنازعوا رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول ، ولم يكن قول بعضهم حجة مع مخالفة بعضهم له باتفاق العلماء "
انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 20 / 14 ) .
ومثال لذلك :
الحاج إذا جامع زوجته بعد التحلل الأول وقبل طواف الإفاضة ، فأفتى ابن عباس رضي الله عنه ؛ بأنه يكفيه أن يخرج إلى التنعيم فيعتمر وعليه فدية .
وأفتى ابن عمر رضي الله عنه ؛ بأن حجه قد فسد ، وعليه الحج مرة أخرى .
ففي هذه الحالة يرجح بين أقوالهم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" روى قتادة عن علي بن عبد الله البارقي : ( أن رجلا وامرأة أتيا ابن عمر قضيا المناسك كلها ما خلا الطواف فغشيها – أي جامعها - ، فقال ابن عمر : عليهما الحج عاما قابلا ، فقال: أنا إنسان من أهل عمان ، وإن دارنا نائية ، فقال: وإن كنتما من أهل عمان ، وكانت داركما نائية ، حجا عاما قابلا ، فأتيا ابن عباس ، فأمرهما أن يأتيا التنعيم ، فيهلا منه بعمرة ، فيكون أربعة أميال مكان أربعة أميال ، وإحرام مكان إحرام ، وطواف مكان طواف ) رواه سعيد بن أبي عروبة في المناسك عنه ، وروى مالك عن ثور بن زيد الديلي ، عن عكرمة – قال : لا أظنه إلا عن ابن عباس - قال: " الذي يصيب أهله قبل أن يفيض : يتعمر ويهدي " ... فإذا اختلف الصحابة على قولين :
أحدهما: إيجاب حج كامل ، والثاني : إيجاب عمرة . لم يجز الخروج عنهما ، والاجتزاء بدون ذلك " انتهى من " شرح العمدة - المناسك " ( 3 / 239 – 240 ) .
الحالة الثالثة :
قول الصحابي إذا اشتهر ولم نعلم أحدا من الصحابة أنكره
.
فمثل هذا القول جعله جمهور أهل العلم حجة .
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى :
\
" وأما أقوال الصحابة ؛ فإن انتشرت ولم تنكر في زمانهم فهي حجة عند جماهير العلماء".
انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 20 / 14 ) .
وقال محمد الامين الشنقيطي رحمه الله تعالى :
" وإن كان – أي قول الصحابي – مما للرأي فيه مجال ، فإن انتشر في الصحابة ولم يظهر له مخالف فهو الإجماع السكوتي ، وهو حجة عند الأكثر " .
انتهى من " مذكرة أصول الفقه " ( ص 256 ) .
ومثال ذلك :
قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمًا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فِيمَ تَرَوْنَ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ : ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ ) ؟ قَالُوا : اللَّهُ أَعْلَمُ ، فَغَضِبَ عُمَرُ فَقَالَ : قُولُوا نَعْلَمُ أَوْ لاَ نَعْلَمُ ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ ، قَالَ عُمَرُ : يَا ابْنَ أَخِي قُلْ وَلاَ تَحْقِرْ نَفْسَكَ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : ضُرِبَتْ مَثَلًا لِعَمَلٍ . قَالَ عُمَرُ : أَيُّ عَمَلٍ ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لِعَمَلٍ ، قَالَ عُمَرُ: لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ لَهُ الشَّيْطَانَ فَعَمِلَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى أَغْرَقَ أَعْمَالَهُ " رواه البخاري ( 4538 ) .
وهذا تفسير من ابن عباس ، أقره عليه عمر رضي الله عنه ، ولم ينكر عليهما أحد ممن حضر ، فيكون قولا معتمدا في تفسير هذه الآية .
ولهذا قال ابن كثير رحمه الله تعالى بعد أن أورده :
" وفي هذا الحديث كفاية في تفسير هذه الآية "
انتهى من " تفسير ابن كثير " ( 1 / 696 ) .
الحالة الرابعة :
قول الصحابي إذا لم نعلم باشتهاره ، ولا نعلم أن أحدا من الصحابة أنكره .
فجمهور أهل العلم على قبول قوله والاعتماد عليه .
قال ابن تيمية:
"وإن قال بعضهم قولاً ولم يقل بعضهم بخلافه ولم ينتشر ؛ فهذا فيه نزاع ، وجمهور العلماء يحتجون به ؛ كأبي حنيفة ، ومالك ، وأحمد في المشهور عنه ، والشافعي في أحد قوليه ، وفي كتبه الجديدة الاحتجاج بمثل ذلك في غير موضع ... " .
انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 20 / 14 ) .
ويدخل في هذه الحالة ما استنبطه ابن عباس رضي الله عنه من التفسير ، ولم يعرف له مخالف ولا موافق من الصحابة .
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-20, 03:46
حول قاعدة : ( العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب )
السؤال:
أشكلت علي قاعدة " العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب " فقد وجدت عند شراحها أنهم قصدوا شيئا أشبه بالقياس ( كآيات الظهار ) . لكن أری أن مشايخنا يستخدمونها بعيدا عن هذا فيستخدمون مثلا قوله عز وجل : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) في مواضع النهي عن البدعة ، بينما الآية تختص بالغنائم
. وقوله : ( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة ) في أمور عامة ، بينما التهلكة المرادة في الآية هي ترك الجهاد والأمثلة في هذا كثيرة .
الجواب :
الحمد لله
نص الأصوليون والفقهاء على قاعدة هامة ، وهي أن " العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب " وهذه القاعدة متفق عليها عند جماهير أهل العلم ولم يخالف فيها إلا القليل .
جاء في " المحصول " للرازي (3/125) :
" فالحق أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب , خلافا للمزني وأبي ثور ؛ فإنهما زعما أن خصوص السبب يكون مخصصا لعموم اللفظ " انتهى .
لكن إن كان اللفظ العام قد ورد على سبب خاص ، فإن دلالته على خصوص السبب تكون قطعية , فلا يجوز إخراج السبب عن عموم اللفظ , جاء في " المسودة في أصول الفقه " (1/ 132) : " إذا ثبت أنه يؤخذ بعموم اللفظ ، ولا يقصر على خصوص السبب ، فإنه لا يجوز إخراج السبب بدليل تخصيص ، فتكون دلالته عليه قطعا " انتهى .
وهذه القاعدة التي سألت عنها هي من القواعد المهمة , وعدم اعتبارها يؤدي إلى هدم كثير من نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة , خذ مثلا قوله تعالى : ( إِنّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ) ، فقد نزلت هذه الآية ، فيما ذكره جمع من المفسرين في فتح مكة ، عندما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة ثم رده عليه .
جاء في " تفسير ابن كثير " (2/340) :
" ( إِنّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ) قال : نزلت في عثمان بن طلحة قبض منه النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة ، فدخل به البيت يوم الفتح ، فخرج وهو يتلو هذه الآية فدعا عثمان إليه ، فدفع إليه المفتاح ، قال : وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة ، وهو يتلو هذه الآية : فداه أبي وأمي ، ما سمعته يتلوها قبل ذلك " انتهى .
فهل يقال : إن العبرة هنا بخصوص السبب ، وأنه لا يجوز الاستدلال بالآية الكريمة على أداء كل أمانة من الأمانات , وهل هذا إلا هدم واضح لنصوص الوحي المعصوم ؟ .
لكن هناك أمران ينبغي ملاحظتهما عند تطبيق هذه القاعدة :
الأول : أنه يفرق بين ورود العام على سبب خاص ، فإن ذلك لا يخصصه على الصحيح , وبين دلالة السياق والقرائن على تخصيص العام فإن ذلك يخصصه , وقد نبه على ذلك العلامة ابن دقيق العيد رحمه ، فيما نقله عنه تاج الدين السبكي رحمه الله ، فقال : " يجب أن يتنبه للفرق بين دلالة السياق والقرائن على تخصيص العام وعلى مراد المتكلم , وبين ورود العام على سبب ، ولا تجري مجرى واحد
, فإن مجرد ورود العام على سبب لا يخصصه ، وأما السياق والقرائن فإنها الدالة على المراد ، وهي المرشدة إلى بيان المجملات وتعيين المحتملات . قال : فاضبط هذه القاعدة فإنها مفيدة في مواضع لا تحصي , وانظر قوله صلى الله عليه وسلم : ( ليس من البر الصيام في السفر ) من أي من القبيلين هو منزله عليه "
، قلت [ أي السبكي ] : ومن النظر إلي السياق : ما في " فروع الطلاق " من " الرافعي " : أنه لو قال لزوجته : إن علمت من أختي شيئًا ، ولم تقوليه : فأنت طالق . فتنصرف إلى ما يوجب ريبة , ويوهم فاحشة ، دون ما لا يقصد العلم به كالأكل والشراب " انتهى من " الأشباه والنظائر " للسبكي (2/135) .
الثاني : أن اعتبار عموم اللفظ دون خصوص السبب ، فيما إذا لم يكن هناك معارض , أما إذا وجد معارض ، فينبغي حمل اللفظ على خصوص السبب , وفي ذلك يقول السبكي رحمه الله تعالى في " الأشباه والنظائر " (2/136) : " إذا عرفت أن الأرجح عندنا اعتبار عموم اللفظ دون خصوص السبب ، فلا نعتقد أن ينسحب العموم في كل ما ورد وصدر ؛ بل إنما نعمم حيث لا معارض .
وفي المعارض أمثلة : منها : حديث النهي عن قتل النساء والصبيان ، أخذ أبو حنيفة بعمومه وقال : المرأة المرتدة لا تقتل ، وخصصناه نحن بسببه = فإنه ورد في امرأة مقتولة مر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته ، فنهى إذا ذاك عن قتل النساء والصبيان = لحديث : ( من بدل دينه فاقتلوه ) وغيره من الأدلة .
ومنها : حديث أنس رضي الله عنه : ( ليس من البر الصيام في السفر ) : ورد في رجل قد ظلل عليه من جهد ما وجد ، وقد تقدم الكلام فيه " انتهى .
ثم اختتم السبكي رحمه الله الكلام على هذه القاعدة بتنبيه يوضح محل الوفاق ومحل الخلاف في اعتبار هذه القاعدة ، فقال " تنبيه : قدمنا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، والخلاف في ذلك : إذا لم تكن هناك قرينة تعميم ، فإن كانت فالقول بالتعميم ظاهر كل الظهور ، بل لا ينبغي أن يكون في التعميم خلاف " انتهى من " الأشباه والنظائر " (2/136) .
من هنا يتضح أن استدلال أهل العلم بقوله تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) الحشر/7 على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في كل أمر , وترك ما نهى عنه في كل نهي – ومن ذلك البدعة – استدلال في محله ، ولا يتعارض هذا مع كون الآية وردت في خصوص الفيء .
وكذلك استدلالهم بقوله تعالى : ( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) البقرة /195 على النهي عن إيراد النفس موارد الهلكة والعطب استدلال في محله ، وإن كانت التهلكة المقصود في الآية هي ترك الجهاد وعدم بذل المال في سبيل الله تعالى , وإلا فهل يقول عاقل ، فضلا عن عالم إن ترك النفقة والجهاد إلقاء بالنفس في التهلكة منهي عنه في الآية الكريمة , وأما ركوب البحر وقت هياجه مع عدم أخذ الأسباب
أو التردي من شاهق = ليس من قبيل الإلقاء بالنفس في التهلكة ، ولا يدخل تحت عموم الآية الكريمة ؟! هذا مما لا يتصور .
والله أعلم .
و اخيرا
الحمد لله الذي بفضلة تتم الصالحات
اخوة الاسلام
اكتفي بهذا القدر و لنا عوده
ان قدر الله لنا البقاء و اللقاء
و اسال الله ان يجمعني بكم دائما
علي خير
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين
أبو عبد الرحمان 1978
2018-03-20, 15:11
بارك الله فيك أخي الطيب
*عبدالرحمن*
2018-03-21, 05:23
بارك الله فيك أخي الطيب
الحمد لله الذي بفضله تتم الصالحات
https://d.top4top.net/p_7927bchs1.gif (https://up.top4top.net/)
اسعدني وجودك الطيب مثلك
وفي انتظار مرورك العطر دائما
بارك الله فيك
https://d.top4top.net/p_7927bchs1.gif (https://up.top4top.net/)
.
*عبدالرحمن*
2018-03-21, 05:30
اخوة الاسلام
أحييكم بتحية الإسلام
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
https://d.top4top.net/p_7927bchs1.gif (https://up.top4top.net/)
حكم العامي إذا تضاربت عليه أقوال العلماء ,
وحكم من نزلت به نازلة ولم يجد كبار أهل العلم ليستفتيهم
السؤال:
سألت من قبل عن ماذا أفعل عندما أسأل سؤالا وأجد أكثر من عالم كل منهم له رأي مختلف في الإجابة , ووصلت من قبل لرأى أعتقد أنه موجود في موقعكم للشيخ ابن العثيمين أو غيره , لا أتذكر بالضبط , الجديد في الأمر أني عندما بحثت مرارا عن (ماذا تفعل عند اختلاف العلماء) وجدت أن العلماء أصلا مختلفين في هذا ,
فمنهم من يقول : "اسأل واحد من الناس الثقات العدول المتسمين بالورع والأمانة وخذ برأيه " , ووجدت من يقول : " خذ بما في مصلحتك , المهم أن يكون رأي واحد من العلماء " ، ووجدت من يقول : " لا تسأل أكثر من عالم " , ووجدت من يقول : اسأل أكثر من تثق في علمهم , ولم أجد مثلا من يتكلم في "
ماذا تفعل عندما لا تجد كبار العلماء لتسألهم " وهذا طبعا هو الحال في الواقع , لأنه من الصعب جدا الوصول لأحد العلماء الكبار لتفهم منه أو تشرح له مشكلتك , المهم أني من وجهة نظرى أنه إذا لم يكن هناك "قاعدة" غير مختلف عليها اطلاقا , تنظم هذه العملية " ماذا تفعل مع اختلاف العلماء " ,
فليس هناك دين من الأساس , لأنه تقريبا علي حد علمي أن كل المسائل فيها أكثر من رأي أو معظمها , أنا انتظر أن تردوا علي برد لا يختلف معكم أي عالم آخر أو فقيه اسأله في هذا الموضوع وهذا ما سأفعله إن شاء الله وسأنتظر أيضا أن من أسأله غيركم لا يختلف معكم أو مع من سأسأله من بعده .
الجواب :
الحمد لله
أولا :
إذا نزلت بالشخص العامي نازلة احتاج أن يعرف حكم الله تعالى فيها فيجب عليه أن يقصد أعلم وأورع من يعرفهم من أهل العلم الثقات الذين لا يتساهلون في الفتوى , فيسأله عن حكم الله تعالى في نازلته , فإن أخبره فعليه أن يعمل بفتواه , وبرهان ذلك قول الله تعالى : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) الأنبياء/43 ، وقد نص العلماء على أن مذهب العامي مذهب مفتيه , بمعنى أنه يلتزم بما أفتاه به العالم الذي سأله ، وبذلك الأمر تتوحد عليه جهة الفتوى ويسلم من الاختلاف والتضارب .
ولا يجوز للإنسان إذا استفتى عالماً واثقًا بقوله ، أن يستفتي غيره ؛ لأن هذا يؤدي إلى التلاعب بدين الله وتتبع الرخص ، بحيث يسأل فلانًا، فإن لم يناسبه سأل الثاني ، وإن لم يناسبه سأل الثالث وهكذا حتى يصل إلى شخص يفتيه بما يشتهي وما يريد , وهذا لا شك من الضلال المبين ، لأن السائل في هذه الحالة يكون متبعا لهواه وليس متبعا لشرع الله
.
ثانيا:
إذا نزلت نازلة بأحد العوام ولم يجد كبار أهل العلم ليسألهم ، فلا حرج عليه أن يقصد من هو دونهم في العلم فيسأل أحد طلاب العلم النابغين النابهين الذين يتقون الله تعالى ويعمل بفتواه , فإن فعل هذا من باب الضرورة، وفي نيته أنه إذا التقى بعالم أوثق منه في علمه ودينه سأله، فهذا لا بأس به .
ثالثا:
من لم يتوافر لديه فرصة لاستفتاء العلماء ولا طلاب العلم مشافهة ، فعليه أن يراسلهم لاستفتائهم ، أو يراسل بعض المواقع الموثوقة المشتهرة بالفتوى , وقد صارت المراسلة بفضل الله سهلة ميسورة في هذا الزمان الذي يسر الله سبحانه فيه التقنيات الحديثة في الاتصالات .
والنصيحة للسائل : ألا يكثر من تطريق الاحتمالات العقلية ، والإيرادات والشبهات ؛ فانظر يا عبد الله فيما تبين لك من دين الله : فاعمل به ، فالمحكم من دين الله وكتابه ، هو أصله ، وأساسه ، ومعظمه ، وما أشكل عليك فكله إلى عالمه ، واعلم أنه لا حجة لأحد على رب العالمين ، بل لله الحجة البالغة على خلقه ، سبحانه .
وقد قال الله تعالى : (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) البقرة/256 ، وقال تعالى : (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) التوبة/115 ، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) الشورى/6 .
فاسأل من تثق في علمه ودينه واعمل بما أفتاك به ، فذلك هو ما كُلفت به شرعا ، أما اختلافات العلماء ، فهذه يبحث فيها أهل العلم ولا مدخل للعامي فيها .
والله أعلم.
*عبدالرحمن*
2018-03-21, 05:34
يسأل عن فتوى للإمام أحمد تخالف ما عليه
مذهبه من وجوب مسح الأذنين في الوضوء
السؤال:
ذكرتم في الفتوى رقم 115246 ما نصه " وقال الخلال : كلهم حكوا عن أبي عبد الله فيمن ترك مسحهما عامدا أو ناسيا , أنه يجزئه ; وذلك لأنهما تبع للرأس , لا يفهم من إطلاق اسم الرأس دخولهما فيه , ولا يشبهان بقية أجزاء الرأس , ولذلك لم يجزه مسحهما عن مسحه عند من اجتزأ بمسح بعضه " . ما السبب وراء فتوى الإمام أحمد هذه ، مع أن أصل مذهبه ينص على وجوب مسح الأذنين ؟
الجواب
الحمد لله
أولاً :
قد ينقل عن الإمام الواحد كالأئمة الأربعة وغيرهم عدة اجتهادات في المسألة الواحدة ، وهنا يختلف أصحابه وأتباعه في اختيار أحد هذه الأقوال والاجتهادات ، ووصفه بأنه هو مذهب الإمام ، ولهم في ذلك قواعد وضوابط ، فيحاولون الجمع بين الأقوال أولا ، فإن تعذر وعُلم التاريخ ، فبعضهم يجعل القول الأخير هو المذهب ، وبعضهم يجعل الأول ، فإن لم يعلم التاريخ ، فإنه يرجح بين الأقوال ، ومن طرق الترجيح : أن القول الموافق لقواعد المذهب هو المذهب .
قال ابن بدران رحمه الله :
" وَقد يكون لَهُ (يعني : الإمام أحمد) فِي الْمَسْأَلَة الْوَاحِدَة رِوَايَات ، ثمَّ إِنَّك تنظر فِي كتب الْأَصْحَاب فتجد غالبها مَبْنِيا على قَول وَاحِد ، وَرِوَايَة وَاحِدَة أخذك الشوق إِلَى أَن تعلم كَيفَ كَانَ تصرف الْأَصْحَاب فِي ذَلِك ؟ وَمَا هِيَ طَريقَة المرجحين لإحدى الرِّوَايَات على الْأُخْرَى ... .
لَا يخفاك أَن الْأَصْحَاب أخذُوا مَذْهَب أَحْمد من أَقْوَاله ، وأفعاله ، وأجوبته ، وَغير ذَلِك ؛ فَكَانُوا إِذا وجدوا عَن الإِمَام فِي مَسْأَلَة قَوْلَيْنِ : عدلوا أَولا إِلَى الْجمع بَينهمَا بطريقة من طرق الْأُصُول ، إِمَّا بحمل عَام على خَاص ، أَو مُطلق على مُقَيّد ، فَإِذا أمكن ذَلِك : كَانَ الْقَوْلَانِ مذْهبه .
وَإِن تعذر الْجمع بَينهمَا وَعلم التَّارِيخ ، فَاخْتلف الْأَصْحَاب : فَقَالَ قوم : الثَّانِي مَذْهَب ... وَقَالَت طَائِفَة : الأول ، وَلَو رَجَعَ عَنهُ ...
فَإِن جهل التَّارِيخ ، فالمذهب أقرب الْأَقْوَال من الْأَدِلَّة ، أَو قَوَاعِد مذْهبه " انتهى من " المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل " (ص/126) .
وانظر: "المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل" (1/291) للشيخ بكر أبو زيد رحمه الله .
ولهذا يفرق بين المذهب الاصطلاحي ، والمذهب الشخصي .
فالمذهب الاصطلاحي للإمام : هو ما اختاره أصحابه ، وعولوا عليه ، وجعلوه هو المذهب ، وقد يكون الإمام أفتى بخلافه ، أو لم ينقل عنه قول في هذه المسألة بعينها .
أما المذهب الشخصي : فهو نص الإمام ، واختياره الشخصي .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله :
"وهناك فرق بين المذهب الشخصي الذي يدين به الإمام لله عزّ وجل ، وبين المذهب الاصطلاحي :
فالمذهب الاصطلاحي : قد لا يكون الإمام قاله، أو قال بخلافه، وهو ما اصطلح عليه أتباع هذا الإمام أن يكون هو مذهبهم، مثل أن يختاره أئمة من أتباعه، ويقولون: إذا اتفق فلان وفلان من أئمة أتباعه على كذا فهو المذهب، أو إذا كان أكثر الأتباع على هذا فهو المذهب، لكن المذهب الشخصي يختلف ، فهو ما يدين به لله عزّ وجل، وقد يكون موافقاً لما قيل: إنه المذهب اصطلاحاً، وقد يكون مخالفاً" انتهى .
الشرح الممتع (12/41) .
ثانياً :
مسألة مسح الأذنين في الوضوء ، تعد من تلك المسائل التي تعددت فيها الروايات عن الإمام أحمد رحمه الله .
فقد جاء في " مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني " (ص/14) :
" قُلْتُ لِأَحْمَدَ : إِذَا تَرَكَ مَسْحَ أُذُنَيْهِ نَاسِيًا يُعِيدُ الْوُضُوءَ ؟ قَالَ لَا ؛ لِأَنَّ الْأُذُنَيْنِ مِنَ الرَّأْسِ ، قُلْتُ : إِذَا تَرَكَهُ مُتَعَمِّدًا ؟ قَالَ : هَذَا أَخْشَى أَنْ يَنْبَغِيَ لَهُ أَنْ يُعِيدَ " انتهى .
وذكر المرداوي رحمه الله روايتين عن الإمام أحمد في وجوب مسح الأذنين ، فقال :
"إحْدَاهُمَا : لَا يَجِبُ مَسْحُهُمَا بَلْ يُسْتَحَبُّ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ، قَالَ الزَّرْكَشِيّ : وَهِيَ الْأَشْهَرُ نَقْلًا" . ثم ذكر من اختارها من علماء الحنابلة ، ثم قال : "وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : يَجِبُ مَسْحُهُمَا ، نَصَّ عَلَيْهِ ، قَالَ الزَّرْكَشِيّ اخْتَارَهُ الْأَكْثَرُ . انْتَهَى" ثم ذكر من اختارها أيضا ثم قال : "وهو المذهب على المصطلح"
انتهى من " تصحيح الفروع " (1/181) .
وبناء على هذا ؛ فمذهب الإمام أحمد الاصطلاحي ، وهو ما اختاره أكثر أصحابه : هو وجوب مسح الأذنين في الوضوء .
وهذا لا يمنع أن يكون للإمام أحمد قول آخر في المسألة .
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-21, 05:40
حكم التلفيق والتنقل بين المذاهب
إذا كان لاتباع الحق دون اتباع الهوى
السؤال:
هل يحرم التلفيق إذا كان في اتباع الحق والأقوى دليلا ، وليس في اتباع الهوى ؟
فقد كنت أصلي وأرى أن الإفرازات لا تنقض الوضوء ، خصوصا عند خروجي من البيت وعدم مقدرتي على الوضوء ، لاعتقادي بقوة أدلة من قال بعدم النقض ، وليس اتباعا للهوى . وعلمت أن ابن حزم قال ذلك ، وكنت أمسك يد أبي أو أخي ، ولا أتوضأ ، اتباعا لمذهبي ( الحنفية) ، ومذهب ابن حزم يقول بالنقض إذا لمست يد أبي أو أخي .
مع العلم أني قرأت عن الشيخ ابن العثيمين أنه يرى أنه إذا كانت هذه الإفرازات مستمرة : لا يجب الوضوء لكل صلاة ، ويرى أن لمس يد المحرم ونحوه لا ينقض الوضوء . ولم أستطع معرفة قول ابن حزم إلا مؤخرا ، فلم أجد كتبا لمذهبه إلا قبل فترة قليلة فهل صلاتي سابقا صحيحة ؟
الجواب :
الحمد لله
أولا:
لتلفيق في اللغة: مصدر لفَّق , يقال: لفق بين الثوبين : لأم بينهما بالخياطة , ولفق الحديث: زخرفه وموَّهه بالباطل فهو مُلَفَّق .
وأما في الاصطلاح : فهو القيام بعمل واحد يجمع فيه بين عدة مذاهب ، بحيث لا يمكن اعتبار هذا العمل صحيحا في أي مذهب من المذاهب .
جاء في " الموسوعة الفقهية الكويتية "(13 / 293) :
" الْمُرَادُ بِالتَّلْفِيقِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ : أَخْذُ صِحَّةِ الْفِعْل مِنْ مَذْهَبَيْنِ مَعًا ، بَعْدَ الْحُكْمِ بِبُطْلاَنِهِ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمُفْرَدِهِ .
وَمِثَالُهُ : مُتَوَضِّئٌ لَمَسَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً بِلاَ حَائِلٍ ، وَخَرَجَ مِنْهُ نَجَاسَةٌ ،كَدَمٍ ، مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ ، فَإِنَّ هَذَا الْوُضُوءَ بَاطِلٌ بِاللَّمْسِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ، وَبَاطِلٌ بِخُرُوجِ الدَّمِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَلاَ يُنْتَقَضُ بِخُرُوجِ تِلْكَ النَّجَاسَةِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ، وَلاَ يُنْتَقَضُ أَيْضًا بِاللَّمْسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ، فَإِذَا صَلَّى بِهَذَا الْوُضُوءِ ، فَإِنَّ صِحَّةَ صَلاَتِهِ مُلَفَّقَةٌ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ مَعًا " انتهى .
وقد اختلف العلماء في حكم هذه الصورة : فذهب بعضهم إلى عدم الجواز , بل حكى البعض الإجماع على فساد هذا العمل وبطلانه .
جاء في " الدر المختار وحاشية ابن عابدين " (1 / 383): "الْحُكْمَ الْمُلَفَّقَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ" انتهى.
وذهب بعضهم إلى الجواز , جاء في " الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي "(1 / 20):
"وَبِالْجُمْلَةِ : ففِي التَّلْفِيقِ فِي الْعِبَادَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ مَذْهَبَيْنِ طَرِيقَتَانِ : الْمَنْعُ ، وَهُوَ طَرِيقَةُ الْمَصَارِوَةِ , وَالْجَوَازُ ، وَهُوَ طَرِيقَةُ الْمَغَارِبَةِ وَرُجِّحَتْ " انتهى .
والقول بالجواز هو الراجح , جاء في " مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى " (1 / 391): " وَاَلَّذِي أَذْهَبُ إلَيْهِ وَأَخْتَارُهُ : الْقَوْلُ بِجَوَازِ التَّقْلِيدِ فِي التَّلْفِيقِ ، لَا بِقَصْدِ تَتَبُّعِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَنْ تَتَبَّعَ الرُّخَصَ فَسَقَ ، بَلْ حَيْثُ وَقَعَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا ، خُصُوصًا مِنْ الْعَوَامّ الَّذِينَ لَا يَسْعُهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ .
فَلَوْ تَوَضَّأَ شَخْصٌ ، وَمَسَحَ جُزْءًا مِنْ رَأْسِهِ مُقَلِّدًا لِلشَّافِعِيِّ ، فَوُضُوءُهُ صَحِيحٌ بِلَا رَيْبٍ ، فَلَوْ لَمَسَ ذَكَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مُقَلِّدًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ، جَازَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ وُضُوءَ هَذَا الْمُقَلِّدِ صَحِيحٌ ، وَلَمْسَ الْفَرْجِ غَيْرُ نَاقِضٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَإِذَا قَلَّدَهُ فِي عَدَمِ نَقْضِ مَا هُوَ صَحِيحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، اسْتَمَرَّ الْوُضُوءُ عَلَى حَالِهِ بِتَقْلِيدِهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ ، وَهَذَا هُوَ فَائِدَةُ التَّقْلِيدِ .
وَحِينَئِذٍ ، فَلَا يُقَالُ: الشَّافِعِيُّ يَرَى بُطْلَانَ هَذَا الْوُضُوءِ بِسَبَبِ مَسِّ الْفَرْجِ ، وَالْحَنَفِيُّ يَرَى الْبُطْلَانَ لِعَدَمِ مَسْحِ رُبْعِ الرَّأْسِ فَأَكْثَرَ ؛ لِأَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ مُنْفَصِلَتَانِ ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ قَدْ تَمَّ صَحِيحًا بِتَقْلِيدِ الشَّافِعِيِّ ، وَيَسْتَمِرُّ صَحِيحًا بَعْدَ اللَّمْسِ بِتَقْلِيدِ الْحَنَفِيِّ ، فَالتَّقْلِيدُ لِأَبِي حَنِيفَةَ إنَّمَا هُوَ فِي اسْتِمْرَارِ الصِّحَّةِ ، لَا فِي ابْتِدَائِهَا ، وَأَبُو حَنِيفَةَ مِمَّنْ يَقُولُ بِصِحَّةِ وُضُوءِ هَذَا الْمُقَلِّدِ قَطْعًا، فَقَدْ قَلَّدَ أَبَا حَنِيفَةَ فِيمَا هُوَ حَاكِمٌ بِصِحَّتِهِ" انتهى.
أما أن يُقلد الشخص مذهباً في مسألة ما ، ويقلد مذهباً آخر في مسألة أو مسائل أخرى غيرها ، فهذا ليس من التلفيق .
جاء في "
الموسوعة الفقهية الكويتية " (13 / 294) :
" أَمَّا الأخْذُ بِأَقْوَال الأئِمَّةِ فِي مَسَائِل مُتَعَدِّدَةٍ فَلَيْسَ تَلْفِيقًا , وَإِنَّمَا هُوَ تَنَقُّلٌ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ ، أَوْ تَخَيُّرٌ مِنْهَا" انتهى .
وهذ جائز ، إذا لم يكن الدافع للفعل مجرد اتباع الهوى والشهوات , لأنه لا يلزم أحدا من الناس أن يأخذ بقول إمام من الأئمة ، يقلده دون غيره في كل ما يقوله .
وفي ذلك يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في "
إعلام الموقعين عن رب العالمين" (4 / 202) :
"وَلَا يَلْزَمُ أَحَدًا قَطُّ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِمَذْهَبِ رَجُلٍ مِنْ الْأُمَّةِ ، بِحَيْثُ يَأْخُذُ أَقْوَالَهُ كُلَّهَا وَيَدْعُ أَقْوَالَ غَيْرِهِ . وَهَذِهِ بِدْعَةٌ قَبِيحَةٌ حَدَثَتْ فِي الْأُمَّةِ ، لَمْ يَقُلْ بِهَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَهُمْ أَعْلَى رُتْبَةً وَأَجَلُّ قَدْرًا وَأَعْلَمُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ أَنْ يُلْزِمُوا النَّاسَ بِذَلِكَ ، وَأَبْعَدُ مِنْهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِمَذْهَبِ عَالِمٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، وَأَبْعَدُ مِنْهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَمَذْهَبَ بِأَحَدِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ ، فَيَالَلَّهِ الْعَجَبُ، مَاتَتْ مَذَاهِبُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَذَاهِبُ التَّابِعِينَ
وَتَابِعَيْهِمْ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَبَطَلَتْ جُمْلَةً ، إلَّا مَذَاهِبَ أَرْبَعَةِ أَنْفُسٍ فَقَطْ ، مِنْ بَيْنَ سَائِرِ الْأَئِمَّةِ وَالْفُقَهَاءِ ، وَهَلْ قَالَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ ، أَوْ دَعَا إلَيْهِ ، أَوْ دَلَّتْ عَلَيْهِ لَفْظَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ كَلَامِهِ عَلَيْه " انتهى.
بقيت صورة أخرى ذات صلة بهذه المسألة ، وهي: أن يُقلد الشخص مذهباً في مسألة معينة ، فإذا تكررت معه نفس المسألة ، أخذ فيها برأي مذهب آخر ، وهذه الصورة جائزة إذا كان الدافع اتباع الحق ؛ مثل أن يتبين له أن الحق مع هذا القول الذي جاءه متأخرا , أما إن كان الدافع اتباع الهوى فلا يجوز , وفي ذلك يقول العلامة ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في " مجموع الفتاوى " (20 / 220) :
" مَنْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا ، ثُمَّ فَعَلَ خِلَافَهُ مِنْ غَيْرِ تَقْلِيدٍ لِعَالِمِ آخَرَ أَفْتَاهُ ؛ وَلَا اسْتِدْلَالَ بِدَلِيلِ يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ ، وَمِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ يُبِيحُ لَهُ مَا فَعَلَهُ ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ ، وَعَامِلًا بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ وَلَا تَقْلِيدٍ ، فَاعِلًا لِلْمُحَرَّمِ بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ ؛ فَهَذَا مُنْكَرٌ...
وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَعْتَقِدَ الشَّيْءَ وَاجِبًا أَوْ حَرَامًا ، ثُمَّ يَعْتَقِدَهُ غَيْرَ وَاجِبٍ وَلَا حَرَامٍ بِمُجَرَّدِ هَوَاهُ ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ طَالِبًا لِشُفْعَةِ الْجِوَارِ فَيَعْتَقِدَهَا أَنَّهَا حَقٌّ لَهُ ، ثُمَّ إذَا طَلَبْت مِنْهُ شُفْعَةَ الْجِوَارِ اعْتَقَدَهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ ثَابِتَةً ، أَوْ مِثْلَ مَنْ يَعْتَقِدُ إذَا كَانَ أَخًا مَعَ جَدٍّ : أَنَّ الْإِخْوَةَ تُقَاسِمُ الْجَدَّ ،
فَإِذَا صَارَ جَدًّا مَعَ أَخ اعْتَقَدَ أَنَّ الْجَدَّ لَا يُقَاسِمُ الْإِخْوَةَ ، أَوْ إذَا كَانَ لَهُ عَدُوٌّ يَفْعَلُ بَعْضَ الْأُمُورِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا كَشُرْبِ النَّبِيذِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ وَلِعْبِ الشِّطْرَنْجِ , وَحُضُورِ السَّمَاعِ ، أَنَّ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُهْجَرَ وَيُنْكَرَ عَلَيْهِ ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ صَدِيقُهُ اعْتَقَدَ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي لَا تُنْكَرُ .
فَمِثْلُ هَذَا مُمْكِنٌ فِي اعْتِقَادِهِ حِلُّ الشَّيْءِ وَحُرْمَتُهُ ، وَوُجُوبُهُ وَسُقُوطُهُ ، بِحَسَبِ هَوَاهُ ؛ هُوَ مَذْمُومٌ بِخُرُوجِهِ ، خَارِجٌ عَنْ الْعَدَالَةِ ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ.
وَأَمَّا إذَا تَبَيَّنَ لَهُ مَا يُوجِبُ رُجْحَانَ قَوْلٍ عَلَى قَوْلٍ ، إمَّا بِالْأَدِلَّةِ الْمُفَصَّلَةِ إنْ كَانَ يَعْرِفُهَا وَيَفْهَمُهَا ، وَإِمَّا بِأَنْ يَرَى أَحَدَ رَجُلَيْنِ أَعْلَمَ بِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْآخَرِ ، وَهُوَ أَتْقَى لِلَّهِ فِيمَا يَقُولُهُ ، فَيَرْجِعُ عَنْ قَوْلٍ إلَى قَوْلٍ لِمِثْلِ هَذَا , فَهَذَا يَجُوزُ ، بَلْ يَجِبُ , وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَد عَلَى ذَلِكَ" انتهى.
ثانيا:
الواجب على العامي الذي لم يتأهل للنظر أن يرجع في أمر دينه ، والنوازل التي تواجهه ، إلى أهل العلم الثقات ، فيسألهم ، ويصدر عن كلامهم . قال الله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) الأنبياء/43-44 .
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله : " وعموم هذه الآية فيها مدح أهل العلم
وأن أعلى أنواعه : العلم بكتاب الله المنزل ؛ فإن الله أمر من لا يعلم بالرجوع إليهم في جميع الحوادث ، وفي ضمنه تعديل لأهل العلم ، وتزكية لهم حيث أمر بسؤالهم ، وأن بذلك يخرج الجاهل من التبعة ، فدل على أن الله ائتمنهم على وحيه وتنزيله ... "
انتهى من "تفسير السعدي" (441).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " واجتهاد العامة : هو طلبهم العلم من العلماء ، بالسؤال والاستفتاء ، بحسب إمكانهم "
انتهى من "جامع الرسائل" (2/318) .
فإذا سأل العامي العالم الذي يثق في علمه وورعه ، فأفتاه ؛ فعليه أن يتبع فتواه , ولا يترك قوله إلى قول غيره لمجرد اتباع الهوى والأخذ بالأيسر , فإن هذا من تتبع الرخص المذموم
أما إن ترك قول مفتيه إلى قول غيره من أهل العلم ، لا لمجرد الهوى واتباع ما تشتهيه نفسه , بل لأمر ديني ، مثل أن يتبين له رجحان قول الآخر على ما قاله الأول , أو ترك قول العالم إلى من هو أعلم منه وأورع ، فهنا : لا حرج عليه , بل يجب عليه ذلك كما سبق بيانه .
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " فإذا ترجح عند المستفتي أحد القولين : إما لرجحان دليله - بحسب تمييزه - ، وإما لكون قائله أعلم وأورع : فله ذلك وإن خالف قوله المذهب" .
انتهى من" مجموع الفتاوى( 33 / 168 ) .
وقال رحمه الله :
" إن كان انتقاله من مذهب إلى مذهب لأمر ديني ، مثل أن يتبين رجحان قول على قول ، فيرجع إلى القول الذي يرى أنه أقرب إلى الله ورسوله : فهو مثاب على ذلك ، بل واجب على كل أحد إذا تبين له حكم الله ورسوله في أمر ألا يعدل عنه ، ولا يتبع أحداً في مخالفة الله ورسوله ؛ فإن الله فرض طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم على كل أحد في كل حال ..." .
انتهى من" مجموع الفتاوى " ( 20 / 223 ) .
ثالثا:
الإفرازات التي تخرج من المرأة طاهرة على القول الراجح , ولكن خروجها ينقض الوضوء على القول الراجح أيضا , بل هو قول جماهير أهل العلم خلافا لابن حزم , فإذا كانت هذه الرطوبة تنزل من المرأة باستمرار ، فإنها تتوضأ لكل صلاة بعد دخول وقتها ، ولا يضرها نزول هذه الرطوبة بعد ذلك ، ولو كانت في الصلاة ، وإذا شق عليها الوضوء لكل صلاة ، لكونها في مكان لا تستطيع فيه الوضوء ، فلها أن تجمع بين صلاتي الظهر والعصر ، وبين صلاتي المغرب والعشاء ، فتصليهما في وقت إحداهما ، بأن تتوضأ وضوءً واحداً وتصلي الصلاتين معاً .
رابعا:
لمسُكِ لمحارمِك لا ينقض الوضوء ؛ لأن الراجح من أقوال أهل العلم أن لمس الرجل للمرأة - ومثله لمس المرأة للرجل - لا ينقض الوضوء مطلقا ,
خامسا:
أما صلاتك السابقة التي أديتها مقلدة لمذهب من يقول بعدم بطلان الوضوء بهذه الإفرازات : فهي صلاة صحيحة ؛ لأنك فعلتها متأولة صواب ذلك ، مقلدة لبعض أهل العلم المجتهدين .
والله أعلم.
*عبدالرحمن*
2018-03-21, 05:43
هل يجوز للمسلم اختيار القول الأسهل من أقوال العلماء
السؤال
عندما يكون هناك خلاف بين العلماء حول مسألة ما, أسمع الكثيرين من الناس يقولون: "حسنا, بما أن في المسألة خلاف, فسأختار أسهل الآراء بالنسبة لي". فهل هذا الفهم صحيح؟ إذا كان الجواب بلا, فكيف يمكن للشخص أن يختار رأيا ليأخذ به في الأمور الخلافية؟.
الحواب
الحمد لله
ليس بصحيح أن يختار المسلم أسهل الأقوال ، لأنه بهذه الطريقة يتنصَّل من التكاليف الشرعية أو جُلِّها ، لأنَّ أغلب المسائل العلمية مختلفٌ فيها سوى الأركان ، وقديماً قالوا _ من تتبع الرخص فقد تزندق _ وعلى الشخص أن يختار من أقوال العلماء أرجحها من حيث الدليل إن كان أهلاً للنظر والموازنة ، وإن لم يكن فعليه أن يُقلِّد أوثق العلماء في نفسه علماً ، وديناً ، وورعاً .
الشيخ عبد الكريم الخضير
*عبدالرحمن*
2018-03-21, 05:48
هل يجوز للعامي أن يأخذ بمذهب معين من باب الرخصة ؟
السؤال:
أنا مذهبي مالكي ، وأحب فتاة حباً صادقاً ونظيف ونزيه يخلو من كل ما هو محرم صدقوني أحبها حبا جما ، ولما فكرت في خطبتها فاجئوني بأنها أختي من الرضاعة الغير مباشرة يعني أرضعتها المرأة التي أرضعتني ، ولذلك فكرت في مسألة ، وهي مع حبي وعشقي الشديد لها ، هل يجوز لي أن أترخص بأحد المذاهب كمذهب الشافعي الذي يشترط في ثبوت الرضاعة 5 رضاعات ، و4 شهود وأتزوجها ؟
الجواب :
الحمد لله
أولاً :
سبق الكلام في الموقع أن الرضاع المُحَرِّم هو ما كان خمس رضاعات فأكثر ؛ لقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : ( كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ، ثم نسخن بخمس معلومات ) رواه مسلم (1452) .
كما سبق في الموقع – أيضاً – ترجيح القول بقبول شهادة امرأة واحدة في إثبات الرضاع ؛ وذلك لما روى البخاري (5105) عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه قال : " تزوجت امرأة فجاءتنا امرأة سوداء ، فقالت أرضعتكما ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت : تزوجت فلانة بنت فلان ، فجاءتنا امرأة سوداء ، فقالت لي : إني قد أرضعتكما ، وهي كاذبة ، فأعرض عني فأتيته من قبل وجهه قلت : إنها كاذبة ، قال : ( كَيْفَ بِهَا وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا دَعْهَا عَنْك ) ".
وينظر : " نهاية المحتاج " للرملي (7/185) ، " الموسوعة الفقهية الكويتية " (22/254) .
ثانياً :
نص أهل العلم رحمهم الله : على أن العامي ليس له أن يتخير من المذاهب وأقوال أهل العلم ما يوافق هواه ، من باب الترخص .
قال الشاطبي رحمه الله : " ليس للمقلد أن يتخير في الخلاف ، كما إذا اختلف المجتهدون على قولين ، فوردت كذلك على المقلد ، فقد يعد بعض الناس القولين بالنسبة إليه مخيراً فيهما ، كما يخير في خصال الكفارة ، فيتبع هواه وما يوافق غرضه دون ما يخالفه ، وربما استظهر على ذلك بكلام بعض المفتين المتأخرين ، وقواه بما روى من قوله عليه الصلاة والسلام : ( أصحابي كالنجوم ) ، وقد مر الجواب عنه ، وإن صح
فهو معمول به فيما إذا ذهب المقلد عفوًا ؛ فاستفتى صحابيا أو غيره فقلده فيما أفتاه به ، فيما له أو عليه ، وأما إذا تعارض عنده قولا مفتيين ، فالحق أن يقال : ليس بداخل تحت ظاهر الحديث ؛ لأن كل واحد منهما متبع لدليل عنده يقتضي ضد ما يقتضيه دليل صاحبه ، فهما صاحبا دليلين متضادين ، فاتباع أحدهما بالهوى اتباع للهوى ، وقد مر ما فيه ؛ فليس إلا الترجيح بالأعلمية وغيرها ، وأيضًا فالمجتهدان بالنسبة إلى العامي ، كالدليلين بالنسبة إلى المجتهد ؛ فكما يجب على المجتهد ، الترجيح أو التوقف ؛ كذلك المقلد ، ولو جاز تحكيم التشهي والأغراض في مثل هذا ؛ لجاز للحاكم وهو باطل بالإجماع .
وأيضاً : فإن في مسائل الخلاف ضابطًا قرآنيًا ينفى اتباع الهوى جملة ، وهو قوله تعالى : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول ) النساء : 59 ، وهذا المقلد قد تنازع في مسألته مجتهدان ؛ فوجب ردها إلى الله والرسول ، وهو الرجوع إلى الأدلة الشرعية ، وهو أبعد من متابعة الهوى والشهوة ؛ فاختياره أحد المذهبين بالهوى والشهوة مضاد للرجوع إلى الله والرسول ....
.
وأيضاً : فإن ذلك يفضي إلى تتبع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعي ، وقد حكى ابن حزم الإجماع على أن ذلك فسق لا يحل "
انتهى من " الموافقات " (5/79-82) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
: " إذا جوز للعامي أن يقلد من يشاء ، فالذي يدل عليه كلام أصحابنا وغيرهم أنه لا يجوز له تتبع الرخص مطلقاً " .
انتهى من " المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام " (2/258) .
فعلى هذا ، إذا كان قد حصل منكما رضاع من تلك المرأة ، وكان ذلك الرضاع خمس رضاعات فأكثر ، فأنتما أخوان من الرضاع ، لا يجوز لكما الزواج ، ويكفي في ثبوت وقوع ذلك الرضاع شهادة امرأة واحدة ، على القول الراجح .
وأما ما ذكرت من حبك لهذه الفتاة ، فليس بهذا تنتهك حرمات الله ، ولا تتبع رخص الناس ، وأقوال المفتين ، بل هذا يقطع عنك بطلب الحلال من غيرها ، وعند سواها مثل ما عندها من أمر النساء ، فلا يستهوينك الشيطان بذلك .
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-21, 05:56
هل الواجب تقليد علماء البلد أم يجزئ تقليد أي عالم ؟
السؤال:
كنتم قد ذكرتم في إحدى الفتاوى أنه على العامي أن يقلد علماء بلده ، ونقلتم قولا للشيخ محمد بن عثيمين يؤيد هذا القول ، وسؤالي هو : أنا مصري ، وأقيم غالب السنة في السعودية ، فهل بناء على هذا القول لا يجوز لي تقليد إلا العلماء المصريين ؟ وهل يجوز لي تقليد علماء غير مصريين مثل الشيخ محمد بن عثيمين ؟ مع العلم أن أقوال العلماء في البلد الواحد تختلف كثيرا .
الجواب :
الحمد لله
المسائل الفقهية على نوعين:
النوع الأول:
مسائل تكتسب صفة محلية ، ولها علاقة بقضايا داخلية ، ولا تخرج عن سياقها الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي الذي وردت فيه ، كمثل الحديث عن حكم المشاركة في المجالس النيابية في بلد معين ، أو حكم الاقتتال الدائر في بلد آخر ، أو إعلان دخول رمضان والعيد ، أو حكم الحجاب وغطاء الوجه ، أو حكم قيادة النساء للسيارات ؛ حيث ارتبطت هذه المسألة بظروف مواجهة الغزو الثقافي والفكري ...
ففي هذه المسائل ونحوها نقرر أن الذي ينبغي على السائل أن يكون سؤاله ، وتقليده لعلماء البلد ، لسبب واضح شرعي ومعقول ، وهو أن علماء البلد أقدر على فهم الظروف المحيطة بالمسألة ، وأعرف بسياقها ، وأدرى بعلاقاتها المحلية ، وأقدر على فهم جميع المعطيات المرتبطة بها ، ولذلك غالبا ما يكون عالم البلد أدرى بها وأفقه .
وهذا أمر مجرب ومشاهد في جميع القطاعات ، فالسياسي أدرى بشؤون بلده ، بحكم اطلاعه اليومي على مجريات الأمور فيها ، وكذلك التاجر في المدينة أعرف بمداخل التجارة وخفاياها ، بخلاف الغر الطارئ عليها من الخارج ، وكذلك المفكرون والمثقفون يبحثون عن المختصين في شؤون بلادهم .
ولهذا كانت الجامعات ومراكز الدراسات العالمية عبر التاريخ المعاصر حريصة كل الحرص على تخصيص الباحثين الذين يركزون بحثهم في شؤون بعض البلاد ، كي تكتمل لديهم الصورة عن ذلك البلد بشكل أوضح وأجلى ، فيتخذون القرارات الأنسب في التعامل مع القضايا المتعلقة بذلك البلد محل البحث والدراسة .
ومن قبل ذلك كله كان المحدثون يقولون : الشيخ أعرف ببلديِّه ، وأعلم بمرويات بلده ، وكان كثير من الرواة إذا حدث عن شيوخ من غير أهل بلده ، يكثر منه الوهم والغلط ؛ لذلك قال حماد بن زيد رحمه الله : " بلديُّ الرجل ، أعرف بالرجل " رواه الخطيب في " الكفاية " (ص175).
أفلا يكون في ذلك مقنع أو حجة للحث على تقليد علماء البلد ، الذين هم أعلم بظرفهم من غيرهم !!
ومن هذا القسم أيضا تلك المسائل التي استقر العمل بها في أحد البلدان بمذهب إمام معين ، فالأولى بالناس مراعاة ذلك المذهب المستقر ، ما أمكن ذلك ، لمنع أسباب الاضطراب والتنازع بين الناس .
فمثلا : ليس من الحكمة أن أفتي الناس بتقليد مذهب أبي حنيفة في بلاد المغرب التي يشتهر فيها المذهب المالكي الذي نشأ الناس عليه ، وتعلموا من فقهه وأحكامه ، فإذا ما قلد العامي هناك مذهبا آخر غير المشتهر ، فإنه غالبا ما يؤدي إلى إحداث النزاع بينه وبين مجتمعه ومحيطه ، خاصة في القضايا التي تتعلق بالحقوق والمعاملات ، كالزواج والطلاق والبيوع وغيرها .
ففي جميع ما سبق نقول : الأولى تقليد علماء البلد ، ولا ننكر وجود الاستثناء في بعض الأحيان.
النوع الثاني:
المسائل الفقهية المجردة من محيط مكاني أو زماني ، والنوازل العالمية التي لا تختص ببلد دون آخر ، وإنما هي محل بحث وسؤال من قبل الجميع ، ولا ترتبط بها أحداث تؤثر في الحكم فيها ، كما أنها ليس لها معطيات خاصة تقتضي جوابا خاصا في حكمها .
كمثل بيان وجوب الصلاة والصيام وأركان الإسلام ، وبيان أحكام الربا والبيوع المنهي عنها ، وتقرير أحكام التقنيات الطبية الحديثة مثلا ، أو التكييف الفقهي لما يسمى الصكوك الإسلامية ، ونحو ذلك من القضايا النظرية العامة ، دون التنزيلية الخاصة .
وهذا النوع من المسائل هو الأكثر ، خاصة في عصرنا عصر " القرية الصغيرة " كما يقولون إن العالم كله آل إليه .
ولهذا فلا حرج على المقلد فيها أن يأخذ بقول الأعلم ، والأوثق في نفسه ، ولو كان من غير أهل بلده ، ويجوز له تقليد من يثق في علمه وديانته ، ولو لم يكن يحمل " جنسيته "، بل هذا هو الذي ينبغي في شأنه .
فمواقع الإفتاء عبر الإنترنت وبرامج الفتوى عبر الفضائيات كثيرة والحمد لله ، ولو قلنا بعدم جواز تقليد العالم إلا من أهل بلدك ، لحرم الناس هذا الخير العميم ، ولخالفنا منطق الإسلام الذي هو رسالة إلى العالم كافة ، والذي دعا أيضا إلى التوحد والتعاون على البر والتقوى .
فضلا عن أن الحجر في هذا النوع من المسائل يقيد مطلق قول الله سبحانه : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُون ) النحل/43.
ولكن لا ننسى أن نستثني ما إذا كان تقليد غير علماء البلد سيؤدي إلى فتنة أو اضطراب وتشويش ، كما سبق التمثيل عليه في الفتوى بمذهب الحنفية مثلا في البلاد التي يشتهر بها المذهب المالكي ، ونحو ذلك من الأمثلة العملية التي يعلم العلماء مفسدتها على ساحة الفتوى الشرعية .
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله السؤال الآتي:
" بعض أهل العلم يقسم الناس من حيث التلقي إلى ثلاث مراتب : مرتبة الاجتهاد وهم العلماء ، ومرتبة الاتباع وهم طلبة العلم ، ومرتبة التقليد وهم العوام . فما رأي فضيلتكم في هذه القسمة ؟
فأجاب:
نعم . الناس يختلفون ، فمنهم من يصل إلى درجة الاجتهاد ، ومنهم دون ذلك ، ومنهم من يكون مجتهداً في مسألة من المسائل ، يحققها ويبحث فيها ، ويعرف الحق فيها دون غيره ، ومن الناس من لا يعرف شيئاً .
فالعامة مذهبهم مذهب علمائهم ، ولهذا لو قال لنا قائل : إنني أشرب الدخان ؛ لأن في البلاد الإسلامية الأخرى من يقول : إنه جائز ، وأنا لي حرية التقليد .
قلنا : لا يسوغ لك هذا ؛ لأن فرضك أنت هو التقليد ، وأحق من تقلد علماؤك ، ولو قلدت من كان خارج بلادك أدى ذلك إلى الفوضى في أمر ليس عليه دليل شرعي .
ولو قال : إنه سيحلق لحيته ؛ لأن من علماء الأمصار من قال : لا بأس بذلك ، نقول له : لا يمكن ، أنت فرضك التقليد ، لا تخالف علماءك .
ولو قال : أنا أريد أن أطوف على قبور الصالحين ؛ لأن من علماء الأمصار من قال : لا بأس بذلك ، أو قال : أريد أن أتوسل بهم إلى الله ، وما أشبه ذلك . قلنا : لا يمكن هذا ، فالعامي يجب عليه أن يقلد علماء بلده الذين يثق بهم .
وقد ذكر هذا شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله ، وقال : العامة لا يمكن أن يقلدوا علماء من خارج بلدهم ؛ لأن هذا يؤدي إلى الفوضى والنزاع .
ولو قال : أنا لا أتوضأ من لحم الإبل ؛ لأنه يوجد من علماء الأمصار من يقول : لا يجب الوضوء منه ، ولقلنا : لا يمكن ، يجب عليك أن تتوضأ لأن هذا مذهب علمائك وأنت مقلد لهم .
لكن العامي إذا استفتاك فأفته بما تراه أنه الراجح ، وإذا كان الراجح يخالف ما عليه الناس ؛ فأفته به سراً ، ما دامت المسألة اجتهادية وليس فيها نص ، وقل له : هذه فتوى بيني وبينك .
أما إذا كان الذي عليه الناس مخالفا للنص ؛ فأفته علناً ولا تُبالِ ، لكن لا تذكر له الخلاف ، فإن العوام يقولون : إذا أردت أن تحيِّر فخيِّر ، ولهذا دائماً نقول للطلبة : لا تبينوا الخلاف للعامة فتذبذبوهم ، ونقول : أيضاً لمن يعرف القراءات السبع : لا تقرأ بها أمام العامة ؛ لأنك لو قرأت بقراءة أخرى غير التي في المصحف عندهم ، شوش عليهم ذلك ". انتهى من " لقاء الباب المفتوح " (32/ 20، بترقيم الشاملة آليا).
ويقول الشيخ عبد الكريم الخضير حفظه الله:
" إذا كان القول المعتمد في بلد من البلدان حمل الناس على القول الأحوط ، هذا إذا افترضنا أنهم على حد سواء ، مع أن المسألة في الحجاب ليست الأقوال مستوية ، النصوص صريحة في وجوب تغطية الوجه والكفين .
إذا فرضنا أن المسألة على حد سواء ، الأدلة متعادلة ، واعتُمد قول ، وأُفتي به في بلد من البلدان ، لا شك أن هذا القول هو المعتمد ، وأن الذي يثير غيره ، لا سيما إن كان القول الآخر تترتب عليه آثار عملية مؤثرة سلبية ، فإنه لا حظ له من النظر ، بل ينكر على من أفتى به " انتهى من " شرح الموطأ " (35/ 8، بترقيم الشاملة آليا).
والخلاصة:
أنك في المسائل من النوع الأول تقلد فيها العلماء في البلد الذي تقيم فيه ، فهذا هو المقصود بعلماء بلدك ، يعني : علماء البلد الذي تقيم فيه ، ولو كنت أجنبيا عنه ؛ وليس في البلد الذي جئت منه ، أو بلد المولد الأصلي .
أما المسائل من النوع الثاني : فتحرص فيها على تقليد الأعلم والأتقى والأورع ، ولو كان في غير بلد إقامتك .
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-21, 06:05
حكم استفتاء علماء بلد غير بلدها في مسائل الطلاق
السؤال:
أنا مصرية ، فهل يجوز الاستماع لشيوخ دولة أخرى في مسألة الطلاق ؟
الجواب :
الحمد لله
الواجب على العامي ، أو طالب العلم الذي لم يتأهل للنظر : أن يرجع في أمر دينه ، والنوازل التي تواجهه إلى أهل العلم الثقات ، فيسألهم ، ويصدر عن كلامهم ، قال الله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) النحل /43، 44 .
قال القرطبي رحمه الله في "تفسيره" (2/212) :
" فرْض العامِّي الذي لا يشتغل باستنباط الأحكام من أصولها ، لعدم أهليته ، فيما لا يعلمه من أمر دينه ، ويحتاج إليه : أن يقصد أعلم من في زمانه وبلده ، فيسأله عن نازلته فيمتثل فيها فتواه ، لقوله تعالى: ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) ، وعليه الاجتهاد في أعلم أهل وقته بالبحث عنه ، حتى يقع عليه الاتفاق من الأكثر من الناس" انتهى .
وقال الشيخ ابن سعدي رحمه الله :
" وعموم هذه الآية فيها مدح أهل العلم ، وأن أعلى أنواعه العلم بكتاب الله المنزل ؛ فإن الله أمر من لا يعلم بالرجوع إليهم في جميع الحوادث ، وفي ضمنه تعديل لأهل العلم وتزكية لهم حيث أمر بسؤالهم ، وأن بذلك يخرج الجاهل من التبعة ، فدل على أن الله ائتمنهم على وحيه وتنزيله ... "
انتهى من "تفسير السعدي" (441).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله" : واجتهاد العامة هو طلبهم العلم من العلماء ، بالسؤال والاستفتاء ، بحسب إمكانهم " ا
نتهى من "جامع الرسائل" (2/318) .
ويلزم العامي في استفتائه أهل العلم أن يقصد منهم من عُرِف بالعدالة والاجتهاد ، وتحرِّي الحق والصواب ، دون من عرف بالتهاون ، وتتبع الرخص ، واتباع الهوى ، فقد نص أهل العلم على عدم جواز استفتاء المتساهل في الفتوى .
قال النووي رحمه الله تعالى : " يحرم التساهل في الفتوى ، ومن عُرِف به :
حَرُم استفتاؤه فمن التساهل : أن لا يتثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر ؛ فإن تقدمت معرفته بالمسؤول عنه : فلا بأس بالمبادرة ، وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من مبادرة . ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرمة أو المكروهة ، والتمسك بالشبه ، طلبا للترخيص لمن يروم نفعه ، أو التغليظ على من يريد ضره " انتهى من "
آداب الفتوى والمفتي والمستفتي " (1 / 38) .
وقال ابن حمدان الحنبلي رحمه الله :
" يحرم التساهل فِي الْفَتْوَى ، واستفتاء من عرف بذلك ، إِمَّا لتسارعه قبل تَمام النّظر والفكر ، أَو لظَنّه أَن الْإِسْرَاع براعة " .
انتهى من " صفة الفتوى والمفتي والمستفتي " (ص31).
فالواجب إذن استفتاء العالم العدل الثقة ، وسواء كان هذا العدل في بلد المستفتي ، أو غيرها من البلدان ، ما دام صورة السؤال واضحة مفهومة ، ولغة السائل بينة في مراده بالنسبة للمستفتي ، لا يتوقف فهم النازلة ، ولا فهم مراد السائل من سؤاله على كونه من أهل البلد ، أو عارفا بلغتهم .
فإن استفتاه : أخذ قوله وعمل به ، ولا يجوز له حينئذ أن يترك قوله ويذهب إلى غيره لمجرد التشهي ، واتباع الهوى ، وتتبع الرخص ؛ فإن هذا تلاعب بدين الله ، واتباع لشهوات النفس الأمارة .
والله أعلم.
*عبدالرحمن*
2018-03-21, 06:10
الاستدلال بما حكاه القرآن من أقوال في قصص السابقين
لسؤال:
كيف أفهم ما يؤيد ربنا من الآيات تشريعيا : قال الله تعالى : ( فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ) (يوسف 28) أريد أعرف ( إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ) هو على سبيل نقل الأخبار فقط ، أو النقل والتأييد ؟
الجواب
:
الحمد لله
بداية لا بد أن ننبه إلى أن الآية الكريمة ( إن كيدكن عظيم ) ليست في مقام التشريع ، ولا تحمل حكما شرعيا ، وسواء قلنا إن المقام مقام إخبار فقط ، أو هو مقام إخبار وإقرار .
وإنما وردت في سياق تبين عزيزِ مصر أن ما وقع ليوسف في قصره ، إنما وقع من كيد النساء ، وحيلتهن في قلب الحقائق ، وإلقاء التهم على الآخرين ، فحكى الله عز وجل قوله : ( فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ) يوسف/28.
روى ابن أبي حاتم في " التفسير " (7/2130) عن محمد بن إسحاق قال :
" لما رأى أطيفير [اسم العزيز] قميصه قُد من دبر ، عرف أنه من كيدها ، قال : ( إنه من كيدكن ، إن كيدكن عظيم )"
انتهى . وانظر " جامع البيان " (16/59) .
ومحل الشاهد في مثل هذه المواقف ينظر فيه إلى الموقف المحكي ، أو الكلام المروي ؛ فإن وجد فيه رد هذا الكلام المحكي ، وإبطاله : فأمره واضح ؛ وإلا ، فلا بد أن يوجد في القرائن والسياق ما يستدل به على رده ، إن كان مردودا .
فإن لم يوجد رد الكلام المحكي ، لا تصريحا ، ولا باعتبار سياق الكلام وقرائنه ، فذلك دليل على صحة الكلام المحكي ، وأنه لا مناقضة فيه للمشروع .
وإن كان "الاحتجاج" بمثل هذا الكلام ، له مقام آخر .
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله :
" كل حكاية وقعت في القرآن ؛ فلا يخلو أن يقع قبلها أو بعدها - وهو الأكثر - رد لها ، أو لا:
فإن وقع رد ؛ فلا إشكال في بطلان ذلك المحكي وكذبه .
وإن لم يقع معها رد ؛ فذلك دليل صحة المحكي وصدقه .
أما الأول فظاهر ، ولا يحتاج إلى برهان ، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : ( إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ) [الأنعام: 91] فأعقب بقوله : ( قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ) الآية [الأنعام: 91] .
وقال تعالى: ( وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون ) [الفرقان: 4] فرد عليهم بقوله : ( فقد جاءوا ظلما وزورا ) [الفرقان: 4] إلى آخر ما هنالك . ومن قرأ القرآن وأحضره في ذهنه ، عرف هذا بيسر .
وأما الثاني ؛ فظاهر أيضا ، ولكن الدليل على صحته من نفس الحكاية وإقرارها ، فإن القرآن سمي فرقانا ، وهدى ، وبرهانا ، وبيانا ، وتبيانا لكل شيء ، وهو حجة الله على الخلق على الجملة والتفصيل والإطلاق والعموم ، وهذا المعنى يأبى أن يحكى فيه ما ليس بحق ، ثم لا ينبه عليه .
ومن أمثلة هذا القسم جميع ما حكي عن المتقدمين من الأمم السالفة مما كان حقا ؛ كحكايته عن الأنبياء والأولياء ، ومنه قصة ذي القرنين ، وقصة الخضر مع موسى عليه السلام ، وقصة أصحاب الكهف ، وأشباه ذلك .
ولاطراد هذا الأصل اعتمده النظار ؛ فقد استدل على أن أصحاب الكهف سبعة وثامنهم كلبهم ، بأن الله تعالى لما حكى من قولهم أنهم : ( ثلاثة رابعهم كلبهم ) [الكهف: 22] ، وأنهم : ( خمسة سادسهم كلبهم ) [الكهف: 22] ، أعقب ذلك بقوله : ( رجما بالغيب ) [الكهف: 22] ؛ أي : ليس لهم دليل ولا علم غير اتباع الظن ، ورجم الظنون لا يغني من الحق شيئا . ولما حكى قولهم : ( سبعة وثامنهم كلبهم ) [الكهف: 22] ؛ لم يتبعه بإبطال ، بل قال : ( قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل ) [الكهف: 22] ؛ دل المساق على صحته دون القولين الأولين.
ومن تتبع مجاري الحكايات في القرآن عرف مداخلها ، وما هو منها حق مما هو باطل .
وقال تعالى : ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث ... ) إلى قوله : ( وكلا آتينا حكما وعلما ) [الأنبياء: 78] ؛ فقوله : ( ففهمناها سليمان ) [الأنبياء: 79] تقرير لإصابته عليه السلام في ذلك الحكم ، وإيماء إلى خلاف ذلك في داود عليه السلام ، لكن لما كان المجتهد معذورا مأجورا بعد بذله الوسع قال : ( وكلا آتينا حكما وعلما ) [الأنبياء: 79] ، وهذا من البيان الخفي فيما نحن فيه .
قال الحسن : والله لولا ما ذكر الله من أمر هذين الرجلين ؛ لرأيت أن القضاة قد هلكوا ، فإنه أثنى على هذا بعلمه ، وعذر هذا باجتهاده .
والنمط هنا يتسع ، ويكفي منه ما ذكر ، وبالله التوفيق " .
انتهى باختصار من " الموافقات " (4/158-166).
ولهذا قال الإمام ابن كثير رحمه الله في الآية التي ذكرت عدة "أصحاب الكهف"
:
" فَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى الْأَدَبِ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَتَعْلِيمِ مَا يَنْبَغِي فِي مِثْلِ هَذَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ، ضَعَّفَ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَسَكَتَ عَنِ الثَّالِثِ ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ إِذْ لَوْ كَانَ بَاطِلًا لَرَدَّهُ كَمَا رَدَّهُمَا، ثُمَّ أَرْشَدَ عَلَى أَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى عِدَّتِهِمْ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ ، فَقَالَ فِي مِثْلِ هَذَا: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} فَإِنَّهُ مَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ إِلَّا قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ ، مِمَّنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا قَالَ: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا} أَيْ: لَا تُجْهِدْ نَفْسَكَ فِيمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَلَا تَسْأَلْهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا رَجْمَ الْغَيْبِ. فَهَذَا أَحْسَنُ مَا يَكُونُ فِي حِكَايَةِ الْخِلَافِ
: أَنْ تَسْتَوْعِبَ الْأَقْوَالَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ ، وَأَنْ تُنَبِّهَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهَا وَتُبْطِلَ الْبَاطِلَ ، وَتَذْكُرَ فَائِدَةَ الْخِلَافِ وَثَمَرَتَهُ ؛ لِئَلَّا يَطُولَ الْنِزَاعُ وَالْخِلَافُ فِيمَا لَا فَائِدَةَ تَحْتَهُ ، فَتَشْتَغِلُ بِهِ عَنِ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ ، فَأَمَّا مَنْ حَكَى خِلَافًا فِي مَسْأَلَةٍ وَلَمْ يَسْتَوْعِبْ أَقْوَالَ النَّاسِ فِيهَا فَهُوَ نَاقِصٌ ، إِذْ قَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ فِي الَّذِي تَرَكَهُ ، أَوْ يَحْكِي الْخِلَافَ وَيُطْلِقُهُ وَلَا يُنَبِّهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْأَقْوَالِ، فَهُوَ نَاقِصٌ أَيْضًا. فَإِنْ صَحَّحَ غَيْرَ الصَّحِيحِ عَامِدًا فَقَدْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ،
أَوْ جَاهِلًا فَقَدْ أَخْطَأَ، وَكَذَلِكَ مَنْ نَصَبَ الْخِلَافَ فِيمَا لَا فَائِدَةَ تَحْتَهُ ، أَوْ حَكَى أَقْوَالًا مُتَعَدِّدَةً لَفْظًا وَيَرْجِعُ حَاصِلُهَا إِلَى قَوْلٍ أَوْ قَوْلَيْنِ مَعْنًى، فَقَدْ ضَيَّعَ الزَّمَانَ، وَتَكَثَّرَ بِمَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، فَهُوَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ."
انتهى، من "تفسير ابن كثير" (1/9).
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" هنا قاعدة وهي : إذا جاء في النصوص ذكر أشياء ، فأنكر بعضها ، وسكت عن بعض ؛ دل على أن ما لم ينكر فهو حق ، مثال ذلك قوله تعالى : ( وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ) [الأعراف: 28] ، فأنكر قولهم : ( وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ) ، وسكت عن قولهم: ( وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا ) ؛ فدل على أنها حق ، ومثلها عدد أصحاب الكهف ، حيث قال عن قول : ( ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ )، وسكت عن قول : ( سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ) [الكهف:22] "
.
انتهى باختصار من " مجموع فتاوى ورسائل العثيمين " (10/ 1099) .
ولأجل ما تقرر من مراعاة السياق ، وفهم ما هو مقرر مقبول ، مما هو مردود مرذول ، قال القرافي رحمه الله : " وقال بعض العلماء : كُلُّ قصةٍ مذكورةٍ في كتاب الله تعالى فالمراد بذكرها: الانزجارُ عما في تلك القصة من المفاسد التي لابَسَها أولئك الرَّهْط ، والأمر بتلك المصالح التي لابسها المحكي عنه
انتهى من " نفائس الأصول " (9/3832).
وليست هذه المسألة هي ذاتها مسألة " شرع من قبلنا " هل هو شرع لنا أم لا ، وذلك أن قول عزيز مصر ( إن كيدكن عظيم ) ، ليس شرعا ولا عبادة ، ولم يكن هذا "العزيز" صاحب شرع ودين إلهي أصلا ، ولذلك لا يصح تنزيل كلام الأصوليين عن شرع من قبلنا تحت هذه المسألة .
وكلام الإمام الشاطبي رحمه الله الذي سبق نقله يتحدث عن هذه المسألة خصوصا ، مسألة القصص القرآني وضوابط الاستدلال به ، وقد عرض في وسطه لقضية " شرع من قبلنا "، فعلق عليها الشيخ عبد الله دراز رحمه الله بقوله :
" هذا نوع آخر غير ما ذكر في صدر المسألة ؛ فإن الأول ليس من الشرائع ، وهذا من الشرائع ، وما في حكمها ، وما دخل عليها من تحريف ، وغير ذلك " انتهى.
والحاصل مما سبق : أن قول عزيز مصر : ( إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم )، ورد في سياق القصص القرآني من غير نكير ولا إبطال ، وهو كلام مقبول في نفسه ، لكن في سياقه الخاص ، بمعنى أنه كان خطابا لنساء معينات حاضرات ، فوجه الكلام إليهن ، باعتبار ما فعلن وقلن ، فقال العزيز لهؤلاء النسوة : ( إن كيدكن عظيم ) ؛ نظرا لما فعلته امرأة العزيز من الحيلة للتخلص من فضيحتها ومعصيتها .
وهكذا يكون حال كل امرأة ، تحتال لتقلب الحق باطلا ، أو الباطل حقا ، فتتوسل بالحيلة والكيد ، لتغيير الحقائق ، وتعويض ما جبلت عليه من ضعف النفس .
يقول الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله – في معرض ذكر ما يستنبط من قوله تعالى : ( فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ )-: " عظمة كيد النساء ، وذكره تعالى ذلك غير منكر له ، مع قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنكن لأنتن صواحب يوسف)"
انتهى من " الدرر السنية في الأجوبة النجدية " (13/ 244).
وليس في هذا دليل على أن جميع نساء العالمين : كيدهن عظيم ، ولا أن جميع النساء يحتلن لقلب الحق باطلا ، وقلب الباطل حقا .
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-21, 06:15
هل الصوم عند الخروج للدعوة مع جماعة
التبليغ يضاعف أجره سبعين مرة ؟
السؤال :
قالت لي جماعة التبليغ أن أجر صيام رمضان حال الخروج للدعوة في سبيل الله يتضاعف إلى سبعين مرة ، فهل هذا صحيح ؟
الجواب :
الحمد لله
أولا :
الذي يظهر : أن من قال ذلك من هذه الجماعة ، إنما تأول حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري (2840) ، ومسلم (1153) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا ) .
ومعنى " في سبيل الله " : اختلف فيها أهل العلم على قولين :
القول الأول : " فِي سَبِيلِ اللَّهِ " : أي طاعة لله تعالى وإخلاصا له ورغبة في ثوابه .
وهذا القول هو اختيار الإمام أبو العباس القرطبي ، شارح مسلم ؛ حيث قال رحمه الله تعالى :
" ( مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) أي : في طاعة الله ، يعني بذلك : قاصدا به وجه الله تعالى .
وقد قيل فيه : إنه الجهاد في سبيل الله "
انتهى من" المفهم " ( 3 / 217 ) .
وهذا القول هو اختيار الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى ، قال :
" هذا معناه ، واللَّه أعلم ، في سبيل اللَّه : يعني في طاعة اللَّه ، أي من صام يوماً يبتغي وجه اللَّه والدار الآخرة ، فله هذا الأجر العظيم ، وهو من أسباب بعده من النار ، والسلامة من دخول النار ، والصيام من أفضل الأعمال ، ومن أفضل القرب ، وهو جُنّة للعبد من النار إذا صامه ابتغاء وجه اللَّه ، لا رياءً ولا سمعة ، ولا لمقصود آخر ، بل ابتغاء وجه اللَّه ، فله هذا الأجر العظيم "
انتهى من " الإفهام في شرح عمدة الأحكام " ( 1 / 429 – 430 ) .
القول الثاني : " فِي سَبِيلِ اللَّهِ " : أي في الجهاد ، لأن هذا هو الغالب في إطلاق " سبيل الله" ، في نصوص الشريعة على الجهاد .
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى :
" إذا أطلق ذكر "سبيل الله" : كان المشار به إلى الجهاد " .
انتهى من " كشف المشكل من حديث الصحيحين " ( 3 / 153 ) .
وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى :
" فيه فضيلة الصّيام في سبيل اللّه ، وهو محمول على من لا يتضرّر به ، ولا يفوّت به حقّا ، ولا يختلّ به قتاله ولا غيره من مهمّات غزوه . ومعناه : المباعدة عن النّار ، والمعافاة منها . والخريف : السّنَة . والمراد : سبعين سنة " .
انتهى من " شرح صحيح مسلم " ( 8 / 33 ) .
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى :
" قوله " فِي سَبِيلِ اللَّهِ " : العرف الأكثر فيه : استعماله في الجهاد ، فإذا حمل عليه : كانت الفضيلة لاجتماع العبادتين - أعني عبادة الصّوم والجهاد -
.
ويحتمل أن يراد بسبيل اللّه : طاعته كيف كانت . ويعبّر بذلك عن صحّة القصد والنّيّة فيه . والأوّل: أقرب إلى العرف "
انتهى من " احكام الأحكام " ( 2 / 36 - 37 ) .
وهذا القول ـ أن المراد به الجهاد ـ : هو اختيار الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
" الصيام في سبيل الله يعني : الصيام في الجهاد في سبيل الله ؛ لأن الصيام مع الجهاد فيه مشقه ، فلهذا كان جزاء من صام فيه وهو مجاهد في سبيل الله : أن يباعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً "
انتهى من " فتاوى نور على الدرب " ( 11 / 2 ) .
فالحاصل :
أن الصوم " في سبيل الله " محتمل لأحد معنيين : الصوم في الجهاد ، يعني : في قتال الكفار ، أو : من صام طاعة لله ، قاصدا به وجه الله تعالى .
ولعل الأقرب في هذه الفضيلة الخاصة : أنها خاص بحال الصائم في قتال الكفار ، من غير أن يضيع واجبا عليه ، أو يفرط في مقام الجهاد الذي أقامه الله فيه .
ثانيا :
إذا عرف ذلك فإن " في سبيل الله " : ليس هو من الجهاد ، بحسب الاصطلاح الخاص في الشرع ، وهو قتال الكفار .
لكن لا شك أن من خرج في الدعوة إلى الله تعالى على علم وبصيرة ، متبعا الكتاب والسنّة في أسلوب دعوته وما يدعو إليه ، مجتهدا في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في سنته
والتوقي عن باب البدع والمحدثات ، لا شك أن مثل هذا على خير عظيم ، وهو قائم بعمل من أجل الأعمال والقربات ، سواء كان قيامه في ذلك بمفرده ، أو مع آخرين يعينونه على ذلك ، وسواء كان ذلك في بلده ، أو خارجا عن بلده ، وإنما المدار في ذلك متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في سنته ، والاجتهاد في تبليغ شريعته .
قال الله تعالى : ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) فصلت /33 .
فإذا انضاف لهذا النشاط الدعوي الصوم ، فإنه يكون جامعا لعدة من الخيرات في زمن واحد ، لكنه لا يدخل في معنى : صيام يوم في سبيل الله ، على القول الذي يرى أن المراد بذلك جهاد الكفار .
وأما على القول الآخر ، وهو أن المراد به : الصيام ، مع حسن القصد ، وإخلاص النية ، فهذا لا يحتاج أن يشترط فيه : أن يكون ذلك في أثناء قيامه بذلك العمل الدعوي .
وأما الدندنة على أن "الخروج في سيبل الله" بحسب العرف الخاص لجماعة التبليغ والدعوة" ، هو "الخروج في سبيل الله" الذي ذكر في النصوص الشرعية ، فهو خطأ بين ، وتأويل باطل للنصوص الشرعية بحسب العرف الخاص والاصطلاح الحادث ، الذي لم يكن معروفا ، بهذا التنظيم الخاص ، والعرف الخاص ، على عهد الوحي ، وفي زمن النبوة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" ومن لم يعرف لغة الصحابة التي كانوا يتخاطبون بها ويخاطبهم بها النبي صلى الله عليه وسلم ، وعادتهم في الكلام ، وإلا حرف الكلم عن مواضعه ، فإن كثيرا من الناس ينشأ على اصطلاح قومه وعادتهم في الألفاظ ، ثم يجد تلك الألفاظ في كلام الله أو رسوله أو الصحابة ، فيظن أن مراد الله أو رسوله أو الصحابة بتلك الألفاظ ما يريده بذلك أهل عادته واصطلاحه ، ويكون مراد الله ورسوله والصحابة خلاف ذلك . وهذا واقع لطوائف من الناس من أهل الكلام والفقه والنحو والعامة وغيرهم "
انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 1 / 243 ) .
وقال ابن القيم رحمه الله:
" فالاختلاف والإشكال والاشتباه إنما هو في الأفهام ، لا فيما خرج من بين شفتيه – أي من النبي صلى الله عليه وسلم - من الكلام ...
وينضاف إلى ذلك تنزيل كلامه – أي كلام النبي صلى الله عليه وسلم - على الاصطلاحات التي أحدثها أرباب العلوم من الأصوليين والفقهاء وعلم أحوال القلوب وغيرهم ، فإن لكل من هؤلاء اصطلاحات حادثة في مخاطباتهم وتصانيفهم ، فيجيء من قد ألف تلك الاصطلاحات الحادثة وسبقت معانيها إلى قلبه فلم يعرف سواها ، فيسمع كلام الشارع ، فيحمله على ما ألفه من الاصطلاح ، فيقع بسبب ذلك في الفهم عن الشارع ما لم يرده بكلامه ، ويقع من الخلل في نظره ومناظرته ما يقع .
وهذا من أعظم أسباب الغلط عليه ..." .
انتهى من "مفتاح دار السعادة " ( 3 / 1596 - 1597 ).
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-21, 06:17
جماعة التبليغ ما لها وما عليها
السؤال
ما حكم الجماعات التي تقضي أربعة أشهر وأربعين يوماً في مختلف أنحاء العالم لدعوة المسلمين إلى واجباتهم الدينية ؟.
الجواب
الحمد لله
" جماعة التبليغ " من الجماعات العاملة للإسلام ، وجهدها في الدعوة إلى الله لا يُنكر ، ولكنها مثلها مثل كثير من الجماعات تقع في أخطاء ، وعليها ملاحظات ، ويمكن إجمال الملاحظات بما يلي مع الأخذ في الاعتبار أن هذه الأخطاء تختلف في الجماعة نفسها بحسب البيئة والمجتمع الموجودة به ، ففي المجتمعات التي يظهر فيها العلم والعلماء وينتشر مذهب أهل السنة والجماعة تقل أخطاؤهم إلى حد بعيد ، وفي مجتمعات أخرى قد تزيد هذه الأخطاء ، فمن أخطائهم :
1. عدم تبني عقيدة أهل السنة والجماعة ، وذلك واضح في تعدد عقائد أفرادها بل بعض قادتها .
2. عدم اهتمامهم بالعلم الشرعي .
3. تأويلهم للآيات القرآنية ونقلهم لمعانيها على غير مراد الله تعالى ، ومن ذلك تأويلهم لآيات الجهاد بأن المقصود بها " الخروج للدعوة " ، وكذا الآيات التي فيها لفظ " الخروج " ومشتقاته إلى الخروج في سبيل الله للدعوة .
4. جعلهم الترتيب الذي يحددونه في الخروج متعبَّداً به ، فراحوا يستدلون بالآيات القرآنية ويجعلون المقصود منها ما يحددونه من أيام وأشهر ، ولم يقتصر الأمر على مجرد الترتيب بل ظل بينهم شائعاً منتشراً مع تعدد البيئات وتغير البلدان واختلاف الأشخاص .
5. وقوعهم في بعض المخالفات الشرعية من نحو جعلهم رجلاً منهم يدعو أثناء خروج الجماعة للدعوة إلى الله ، ويعلقون نجاحهم وفشلهم على صدق هذا الداعي والقبول منه .
6. انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة بينهم ، وهذا لا يليق بالذي يتصدى للدعوة إلى الله .
7. عدم كلامهم عن " المنكرات " ، ظناً منهم أن الأمر بالمعروف يغني عنه ، ولذا نجدهم لا يتكلمون عن المنكرات الفاشية بين الناس مع أن شعار هذه الأمة – وهم يرددونه باستمرار – { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } آل عمران / 104 ، فالمفلحون هم الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وليس فقط من يأتي بأحدهما .
8. ما يقع من بعضهم من الإعجاب بالنفس والغرور ويؤدي به ذلك إلى ازدراء غيره – بل والتطاول على أهل العلم ووصفهم بأنهم قاعدون ونائمون - ووقوعه في الرياء ، فتجده يتحدث أنه خرج وسافر وانتقل وأنه رأى وشاهد ، وهو يؤدي إلى وقوعه فيما لا يحمد مما ذكرنا .
9. جعلهم الخروج للدعوة أفضل من كثير من العبادات كالجهاد وطلب العلم ، مع أن ما يفضلونه عليه هو من الواجبات أو قد يصير واجباً على أناس دون غيرهم .
10. جرأة بعضهم على الفتوى والتفسير والحديث ، وذلك واضح في كونهم يجعلون كل واحد منهم يخاطب الناس ويبين لهم ، وهو يؤدي إلى جرأة هؤلاء على الشرع ، فلن يخلو كلامه من بيان حكم أو حديث أو تفسير آية ، وهو لم يقرأ في ذلك شيئاً ، ولم يسمع أحداً من العلماء لينقل عنه ، وبعضهم يكون من المسلمين أو المهتدين حديثاً .
11. تفريط بعضهم في حقوق الأبناء والزوجة ، وقد بيَّنا خطر هذا الأمر في جواب السؤال رقم ( 3043 ) .
لذا فإن العلماء لم يجوزوا الخروج معهم إلا لمن أراد أن يفيدهم ويصحح الأخطاء التي تقع منهم .
ولا ينبغي لنا أن نصد الناس عنهم بإسقاطهم بالكلية بل علينا أن نحاول إصلاح الخطأ والنصيحة لهم حتى تستمر جهودهم وتكون صائبة على وفق الكتاب والسنة .
وهذه فتاوى بعض العلماء في " جماعة التبليغ " :
1. قال الشيخ عبد العزيز بن باز :
فإن جماعة التبليغ ليس عندهم بصيرة في مسائل العقيدة ، فلا يجوز الخروج معهم إلا لمن لديه علم وبصيرة بالعقيدة الصحيحة التي عليها أهل السنّة والجماعة حتى يرشدهم وينصحهم ويتعاون معهم على الخير لأنهم نشيطون في عملهم لكنهم يحتاجون إلى المزيد من العلم وإلى من يبصرهم من علماء التوحيد والسنَّة ، رزق الله الجميع الفقه في الدين والثبات عليه .
" مجموع فتاوى الشيخ ابن باز " ( 8 / 331 ) .
2. قال الشيخ صالح الفوزان :
الخروج في سبيل الله ليس هو الخروج الذي يعنونه الآن ، الخروج في سبيل الله هو الخروج للغزو ، أما ما يسمونه الآن بالخروج فهذا بدعة لم يرد عن السلف .
وخروج الإنسان يدعو إلى الله غير متقيد في أيام معينة بل يدعو إلى الله حسب إمكانيته ومقدرته ، بدون أن يتقيد بجماعة أو يتقيد بأربعين يوماً أو أقل أو أكثر.
وكذلك مما يجب على الداعية أن يكون ذا علم ، لا يجوز للإنسان أن يدعو إلى الله وهو جاهل ، قال تعالى : { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة } ، أي : على علم لأن الداعية لابد أن يعرف ما يدعو إليه من واجب ومستحب ومحرم ومكروه ويعرف ما هو الشرك والمعصية والكفر والفسوق والعصيان يعرف درجات الإنكار وكيفيته .
والخروج الذي يشغل عن طلب العلم أمر باطل لأن طلب العلم فريضة وهو لا يحصل إلا بالتعلم لا يحصل بالإلهام ، هذا من خرافات الصوفية الضالة ، لأن العمل بدون علم ضلال ، والطمع بحصول العلم بدون تعلم وهم خاطئ.
من كتاب " ثلاث محاضرات في العلم والدعوة " .
والله أعلم .
و اخيرا
الحمد لله الذي بفضلة تتم الصالحات
اخوة الاسلام
اكتفي بهذا القدر و لنا عوده
ان قدر الله لنا البقاء و اللقاء
و اسال الله ان يجمعني بكم دائما
علي خير
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين
*عبدالرحمن*
2018-03-23, 06:23
اخوة الاسلام
أحييكم بتحية الإسلام
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
https://d.top4top.net/p_7927bchs1.gif (https://up.top4top.net/)
معنى قول الفقهاء في شيء: إنه غير جائز،
وهل يشمل ذلك المحرم والمكروه؟
السؤال :
عندمـا نقول " لا يجـوز شرعاً " فما هي درجة هذا الحكم ؟
بمعنى هل الغير جائز يقارب المكروه أكثر ؟
أم يقارب المحرّم ؟ وهل فعل الغير جائز يتساوى عقابه مع عقاب المكروه والمحرّم ؟
أريد نُبذة مختصرة عن هذا الأمر .
الجواب :
الحمد لله
كثير من الفقهاء يطلقون عدم الجواز على المحرم والمكروه ، بمعنى : أنهم يقولون في المحرم : لا يجوز ، ويقولون في المكروه أيضا : لا يجوز ، وإن كان استعمال هذه الكلمة عندهم في الحرام أكثر من استعمالها في المكروه ، جاء في " التقرير والتحبير " لابن أمير الحاج (3 / 288): " لا تنافي بين غير الجائز والحرام ؛ لأن غير الجائز إما مساوي الحرام أو أعم منه " انتهى ، وفي كتب الشافعية عند الكلام عن مسألة حكم الاستنجاء باليمين ذكروا أنه لا يجوز ثم فسر بعضهم عدم الجواز بالكراهة
جاء في " المجموع شرح المهذب " (2 / 110): "
....... وَظَاهِرُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ تَحْرِيمُ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْيَمِينِ ، وَلَكِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ النَّهْيُ عَنْ الْيَمِينِ أَدَبٌ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ وَمُوَافِقِيهِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ لَا يَجُوزُ مَعْنَاهُ لَيْسَ مُبَاحًا مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ
بَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ رَاجِحُ التَّرْكِ ، وَهَذَا أَحَدُ الْمَذْهَبَيْنِ الْمَشْهُورَيْنِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَقَدْ اسْتَعْمَلَ الْمُصَنِّفُ لَا يَجُوزُ فِي مَوَاضِعَ لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً وَهِيَ تَتَخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ . فَإِنْ قِيلَ: هَذَا غَيْرُ مُعْتَادٍ فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ ، قُلْنَا : هُوَ مَوْجُودٌ فِيهَا وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا وَلَا يَمْتَنِعُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى اصْطِلَاحِ الْأُصُولِ " انتهى .
وقال الإمام الشافعي – رحمه الله –
في صلاة الكسوف لا يجوز تركها وفسره بعضهم بالكراهة ، جاء في " الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع " (1 / 189): " وَأما قَول الشَّافِعِي فِي (الْأُم) لَا يجوز تَركهَا فَمَحْمُول على الكَرَاهِيَة لتأكدها ليُوَافق كَلَامه فِي مَوَاضِع أخر ، وَالْمَكْرُوه قد يُوصف بِعَدَمِ الْجَوَاز "
انتهى ، وفي " المجموع " أيضا (8 / 257) : " وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : إنَّ الْمَكْرُوهَ لَيْسَ بِجَائِزٍ وَيُفَسَّرُ الْجَائِزُ بِمُسْتَوَى الطَّرَفَيْنِ " انتهى .
[ومستوى الطرفين هو المباح الذي لم يأمر به الشرع ولم ينهى عنه] ، وفي " أسنى المطالب في شرح روض الطالب " (1 / 285) : " وَالْمَكْرُوهُ قَدْ يُوصَفُ بِعَدَمِ الْجَوَازِ مِنْ جِهَةِ إطْلَاقِ الْجَائِزِ عَلَى مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ" انتهى.
وبعض الفقهاء يجعل المكروه من باب الجائز ، ويخص عدم الجواز بالمحرم فقط ، جاء في "
بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب " (1 / 397) :
" والجائز في اللغة : العابر، وفي الاصطلاح يطلق على معان : على المباح الشرعي ، وعلى ما لا يمتنع وجوده شرعا ، فيتناول الواجب والمندوب والمكروه " انتهى ، فيؤخذ من هذا : أن غير الجائز هو الحرام .
وخلاصة الجواب : أن العالم إذا قال : لا يجوز ، فالظاهر والأكثر استعمالا أنه يريد الحرام ، وقد يستعمل بعض العلماء أحيانا هذا اللفظ بمعنى المكروه .
أما عقاب من فعل شيئا غير جائز فيتوقف على معناه ، فإن كان حراما فإن فاعله يستحق العقاب إلا أن تتداركه رحمة الله وعفوه ، وأما المكروه فلا عقاب على فعله ولا إثم ، جاء في " مواهب الجليل في شرح مختصر خليل " (6 / 304) : " لَا مَأْثَمَ فِي فِعْلِ الْمَكْرُوهِ وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ تَرْكُه "
انتهى ، وفي " سبل السلام " (2 / 516) : "
فعل المكروه تنزيها لا يقتضي نقص شيء من الثواب " انتهى .
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-23, 06:30
أقوال الفقهاء في الجمع بين الصلاتين بسبب الثلج
وحكم اتباع الاجتهادات التي ثبت مخالفتها للسنة المطهرة
السؤال :
ما حكم الجمع بين الصلوات في الثلج ؟ وما قول العلماء في هذه المسألة ، وخصوصاً الإمام أبي حنيفة؟ وهل يتبرأ العلماء من أولئك الذين يتبعون أي اجتهاد لهم ، يظهر لاحقاً أنه خلاف السنة ؟
الجواب :
الحمد لله
أولا: اختلف العلماء في حكم جمع الصلوات لأجل الثلج :
ففي المذهب الحنفي : عدم جواز ذلك ؛ لأنهم يضيقون جدا في أمر الجمع بين الصلوات ، حتى إنهم لا يجيزون الجمع بين الصلوات إلا في عرفة بين الظهر والعصر ، وفي مزدلفة بين المغرب والعشاء لمن كان محرما بالحج ، قال الكاساني
في "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" (1 / 126):
" قال أصحابنا: إنه لا يجوز الجمع بين فرضين في وقت أحدهما إلا بعرفة والمزدلفة ؛ فيجمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر بعرفة، وبين المغرب والعشاء في وقت العشاء بمزدلفة، اتفق عليه رواة نسك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله، ولا يجوز الجمع بعذر السفر والمطر" انتهى.
وأما المالكية : فيجوز عندهم الجمع بين المغرب والعشاء خاصة لأجل الثلج ، بل هو سنة عندهم .
جاء في " الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني " (1 / 231): " الجمع ليلة المطر سنة ماضية، والأصل الحقيقة، وقد فعله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء - رضي الله تعالى عنهم - وفعلهم لا يطرأ عليه نسخ، وأُلحق بالمطر : الثلج والبَرَد " انتهى.
وجاء في " الثمر الداني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني " (1 / 190):
" فالمطر سبب للجمع بين المغرب والعشاء ، على القول المشهور ؛ بشرط أن يكون وابلا ، أي كثيرا ، وهو الذي يحمل أواسطَ الناس على تغطية الرأس ، وسواء كان واقعا أو متوقعا ، ويمكن علم ذلك بالقرينة. ومثل المطر : الثلج والبرد " انتهى.
مع التنبيه على أن الجمع - عند المالكية - إنما يختص بأهل المساجد غير المقيمين فيها.
جاء في " الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني " (1 / 231):
" وإنما يطلب ذلك الجمع في حق أرباب المساجد ، الساكنة بغيرها ، رفقا بهم في تحصيل فضل الجماعة لهم ، من غير مشقة زائدة بسبب ذهابهم قبل شدة الظلام اللاحقة لهم إن صبروا لغيبوبة الشفق، ولذلك لا يجمع أرباب المساجد المعتكفة بها ، إلا تبعا لمن منزله خارج عن المسجد ، كالمجاورين بالأزهر المنقطعين به
لا يجمعون إلا تبعا للإمام الذي منزله خارج عن المسجد ، وأما لو كان الإمام من جملتهم : لوجب عليه استخلاف من منزله خارج عن المسجد ، ويتأخر المعتكف يصلي مأموما تبعا" انتهى .
وأما الشافعية فيجوز - في المعتمد عندهم - الجمع بين الصلاتين في المطر والثلج ، إذا كان الثلج يذوب ويبل الثوب ، جاء في " المجموع شرح المهذب " (4 / 381): "قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ
وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ : فِي الْمَطَرِ . وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ قَوْلًا أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي وَقْتِ الْمَغْرِبِ ، وَلَا يَجُوزُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَقَالَ الْمُزَنِيّ : لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا .
وَالْمَذْهَبُ : الْأَوَّلُ ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ قَدِيمًا وَجَدِيدًا ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ . قَالَ أَصْحَابُنَا: وَسَوَاءٌ قَوِيُّ الْمَطَرِ وَضَعِيفُهُ ، إذَا بَلَّ الثَّوْب .
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالثَّلْجُ وَالْبَرَدُ إنْ كَانَا يَذُوبَانِ وَيَبُلَّانِ الثَّوْبَ : جَازَ الْجَمْعُ ، وَإِلَّا : فَلَا . هَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ فِي الطَّرِيقَتَيْنِ ، وَهُوَ الصَّوَابُ . وَحَكَى صَاحِبُ التَّتِمَّةِ وَجْهًا : أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بِالثَّلْجِ ، وَإِنْ لَمْ يَذُبْ ، وَلَمْ يَبُلَّ الثِّيَابَ .
وَهُوَ شَاذٌّ غَلَطٌ. وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَجْهًا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ مُطْلَقًا ، وَهُوَ وَجْهٌ ضَعِيفٌ خَرَّجَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ اتْبَاعًا لِاسْمِ الْمَطَرِ . وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ ، أَوْ بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ اسْمَ الْمَطَرِ لَيْسَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهِ ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْمَعْنَى " انتهى.
ولكن من فقهاء الشافعية من أجاز الجمع في الثلج إذا كان قطعا كبارا ، جاء في " أسنى المطالب في شرح روض الطالب " (1 / 245): " نَعَمْ ؛ إنْ كَانَ الثَّلْجُ قِطَعًا كِبَارًا : جَازَ الْجَمْعُ بِهِ ، كَمَا فِي الشَّامِلِ وَغَيْرِهِ ، وَفِي مَعْنَاهُ : الْبَرَدُ " انتهى.
وأما الحنابلة : فيجوز الجمع عندهم للثلج في المغرب والعشاء خاصة ، وبعضهم يجعل الظهرين في ذلك كالعشاءين في جواز الجمع ، جاء في الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي (2 / 337): " قوله (والمطر الذي يبل الثياب) . ومثله: الثلج والبَرَد والجليد . واعلم أن الصحيح من المذهب: جواز الجمع لذلك من حيث الجملة ، بشرطه، نص عليه، وعليه الأصحاب. وقيل: لا يجوز الجمع. وهو رواية عن أحمد.
تنبيه: مراده بقوله " الذي يبل الثياب "
: أن يوجد معه مشقة، قاله الأصحاب. ومفهوم كلامه: أنه إذا لم يبل الثياب ، لا يجوز الجمع. وهو صحيح، وهو المذهب، وعليه جمهور الأصحاب. وقيل: يجوز الجمع للطلِّ. قلت: وهو بعيد. وأطلقهما ابن تميم. قوله (إلا أن جمع المطر يختص العشاءين، في أصح الوجهين) . وهما روايتان، وهذا المذهب بلا ريب. نص عليه في رواية الأثرم. وعليه أكثر الأصحاب، منهم أبو الخطاب في رءوس المسائل ، فإنه جزم به فيها.
والوجه الآخر: يجوز الجمع كالعشاءين. اختاره القاضي، وأبو الخطاب في الهداية، والشيخ تقي الدين وغيرهم " انتهى
.
مع التنبيه على أن الحنابلة قد اشترطوا شروطا لجمع التقديم
جاء في كشاف القناع عن متن الإقناع (2/ 8):
" (ويشترط للجمع في وقت الأولى) ظهرا كانت أو مغربا، وهو جمع التقديم (ثلاثة شروط) أحدها: (نية الجمع عند إحرامها) : لأنه عمل فيدخل في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - «إنما الأعمال بالنيات» ، وكل عبادة اشترطت فيها النية اعتبرت في أولها ، كنية الصلاة . ولا تشترط نية الجمع عند إحرام الثانية. (وتقديمها)
أي الأولى (على الثانية في الجمعين) أي جمع التقديم والتأخير، فلا يختص هذا الشرط بجمع التقديم (فالترتيب بينهما) أي المجموعتين (كالترتيب في الفوائت ، يسقط بالنسيان) ، لأن إحداهما هنا تبع لاستقرارهما ، كالفوائت. والثاني: (الموالاة فلا يفرق بينهما) أي المجموعتين ؛ لأن معنى الجمع المتابعة والمقارنة
ولا يحصل ذلك مع التفريق الطويل (إلا بقدر إقامة ووضوء خفيف) لأن ذلك يسير وهو معفو عنه، وهما من مصالح الصلاة، والشرط الثالث: (أن يكون العذر) المبيح للجمع من سفر أو مرض ونحوه (موجودا عند افتتاح الصلاتين) المجموعتين (و) عند (سلام الأولى) لأن افتتاح الأولى : موضع النية ، وفراغها وافتتاح الثانية : موضع الجمع " انتهى باختصار .
والراجح من أقوال أهل العلم : جواز الجمع بين الصلوات بسبب الثلج لمن كان يقصد المسجد ليصلي فيه جماعة وكان يتأذى بهذا الثلج في طريقه ، ويشق عليه إتيان المسجد للجماعة .
جاء في " المجموع شرح المهذب " (4 / 381): " وَالْجَمْعُ بِعُذْرِ الْمَطَرِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الثَّلْجِ وَغَيْرِهِ : يَجُوزُ لمن يصلى جماعة فِي مَسْجِدٍ يَقْصِدُهُ مَنْ بَعُدَ ، وَيَتَأَذَّى بِالْمَطَرِ فِي طَرِيقِهِ" انتهى
ثانيا :
الحجة والبرهان في قول النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقوله صلى الله عليه وسلم - وحده - هو الحجة بنفسه لما ضمن الله سبحانه له العصمة من الخطأ والزلل ، أما غيره مهما بلغت منزلته وعلا قدره فهو عرضة للخطأ والغلط ، ولذا فإن الأئمة الأربعة - على علو منزلتهم وغزارة علمهم وعمق فهمهم - كانوا ينهون الناس عن اتباع أقوالهم هكذا مجردة دون حجة أو دليل ، قال ابن القيم رحمه الله تعالى في "إعلام الموقعين عن رب العالمين" (2 / 139): "
وقد نهى الأئمة الأربعة عن تقليدهم ، وذموا من أخذ أقوالهم بغير حجة؛ فقال الشافعي: مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل، يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري " انتهى. وقد كان الأئمة رضوان الله عليهم يتبرؤون من أقوالهم واجتهاداتهم إذا خالفت قول الرسول صلى الله عليه وسلم ويصرحون أن مذهبهم هو اتباع حديث رسول الله إذا ثبتت صحته ، وهذه جملة من أقوالهم:
قال ابن عابدين في حاشيته (1 / 67):
"مَطْلَبُ: صَحَّ عَنْ الْإِمَامِ (أبي حنيفة ) أَنَّهُ قَالَ: إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي " انتهى.
وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى : " إنما أنا بشر، أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكلما وافق الكتاب والسنة فخذوا به ، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه "
انتهى من " جامع بيان العلم وفضله " (1 / 775) .
وقال النووي رحمه الله :
" وصَحَّ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: " إذَا وَجَدْتُمْ فِي كِتَابِي خِلَافَ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُولُوا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعُوا قَوْلِي. وَرُوِيَ عَنْهُ إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ خِلَافَ قَوْلِي فَاعْمَلُوا بِالْحَدِيثِ وَاتْرُكُوا قَوْلِي ، أَوْ قَالَ: فَهُوَ مَذْهَبِي وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَقَدْ عَمِلَ بِهَذَا أَصْحَابُنَا (الشافعية ) فِي مَسْأَلَةِ التَّثْوِيبِ وَاشْتِرَاطِ التَّحَلُّلِ مِنْ الْإِحْرَامِ بِعُذْرِ الْمَرَضِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي كُتُبِ الْمَذْهَب "
انتهى من " المجموع شرح المهذب " (1 / 63).
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى " لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الثوري ولا الأوزاعي، وخذ من حيث أخذوا "
انتهى من " إعلام الموقعين عن رب العالمين " (2 / 139).
ثالثا:
مما سبق يُعلم أن كل قول أو رأي أو مذهب ثبت مخالفته لقول النبي صلى الله عليه وسلم : فلا يجوز اتباعه ، والأئمة الأعلام متبرئون منه وراجعون عنه ، قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله " أجمع الْمُسلمُونَ على أَن من استبان لَهُ سنة من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يحل لَهُ أَن يَدعهَا لقَوْل أحد "
انتهى من إيقاظ همم أولي الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار " (1 / 58)
وقال أيضا " كل مَا قلت ، وَكَانَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خلاف قولي ، مِمَّا يَصح : فَحَدِيث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أولى ؛ فَلَا تقلدوني" انتهى من " مختصر المؤمل في الرد إلى الأمر الأول " (1 / 58).
وقال ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى " فالواجب على كل من بلغه أمر الرسول وعرفه : أن يبينه للأمة وينصح لهم، ويأمرهم باتباع أمره ، وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة، فإن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظَّم ويقتدى به من رأي معظَّم قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ.
ومن هنا رد الصحابة ومن بعدهم من العلماء على كل من خالف سنة صحيحة، وربما أغلظوا في الرد - لا بغضاً له ، بل هو محبوب عندهم، معظَّم في نفوسهم - لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبُّ إليهم، وأمره فوق كل أمر مخلوق. فإذا تعارض أمر الرسول وأمر غيره
: فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أولى أن يقدَّم ويتَّبع، ولا يمنع من ذلك تعظيم من خالف أمره وإن كان مغفوراً له، بل ذلك المخالف المغفور له لا يكره أن يخالَف أمرُه إذا ظهر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بخلافه، بل يرضى بمخالفة أمره ومتابعة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ظهر أمره بخلافه. كما أوصى الشافعي: إذا صح الحديث في خلاف قوله؛ أن يتبع الحديث ويترك قوله "
انتهى من " الحكم الجديرة بالإذاعة " (1 / 34).
والله أعلم.
*عبدالرحمن*
2018-03-23, 06:37
هل هناك فرق بين الواجب والفرض؟
السؤال :
إن المتتبع لهدي النبي صلى الله عليه وسلم لا يرى فرقاً على الإطلاق بين الواجب والفرض، فمن أين أتت هذه التقاسيم إذا ، وما تحرير القول فيها؟ بارك الله فيكم وجزاكم خيراً.
الجواب :
الحمد لله
جمهور الأصوليين – ما عدا الحنفية ، ورواية عن الإمام أحمد - على أن الفرض والواجب مترادفان .
والفرض ، أو الواجب : هو ما أمر به الشارع على سبيل الإلزام ، بحيث يستحق فاعله الثواب ، ويستحق تاركه العقاب . وسواء ثبت لزومه بدليل قطعي ، أو دليل ظني , فلا فرق بينهما في الحكم ، ولا في الثمرة .
وأما الأحناف : فيفرقون بين الفرض والواجب ؛ فالفرض عندهم ما ثبت بدليل قطعي , والواجب ما ثبت بدليل ظني .
جاء في اللمع في أصول الفقه للشيرازي (23): " والواجب ، والفرض ، والمكتوب : واحد ؛ وهو ما يعلق العقاب بتركه .
وقال أصحاب أبي حنيفة : الواجب ما ثبت وجوبه بدليل مجتهد فيه
كالوتر والأضحية عندهم . والفرض ما ثبت وجوبه بدليل مقطوع به ، كالصلوات الخمس والزكوات المفروضة وما أشبهها . وهذا خطأ ؛ لأن طريق الأسماء : الشرع واللغة والاستعمال ، وليس في شيء من ذلك فرق بين ما ثبت بدليل مقطوع به ، أو بطريق مجتهد فيه." انتهى.
وفي قواطع الأدلة في الأصول (1 / 131): " الفرض والواجب : واحد عندنا .
وزعم أصحاب أبي حنيفة : أن الفرض ما ثبت وجوبه بدليل مقطوع به , والواجب ما ثبت وجوبه بدليل مظنون " انتهى.
وفي الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1 / 99): " فلا فرق بين الفرض والواجب عند أصحابنا (الشافعية) ...
وخص أصحاب أبي حنيفة اسم الفرض بما كان من ذلك مقطوعا به ، واسم الواجب بما كان مظنونا ... والأشبه (أي : الأرجح) ما ذكره أصحابنا من حيث إن الاختلاف في طريق إثبات الحكم حتى يكون هذا معلوما وهذا مظنونا ، غير موجب لاختلاف ما ثبت به " انتهى
والخلاف بين الجمهور وأبي حنيفة في هذه المسألة : خلاف لفظي ، لا يترتب عليه مسألة علمية ؛ لأن الجميع متفقون على أن الفرض والواجب كلاهما يلزم المكلف أن يفعلهما ، وأنه إذا تركهما فإنه يعرض نفسه لعقاب الله تعالى .
فهذا القدر متفق عليه بين جميع العلماء . وهذا هو ما يُحتاج إليه في الأحكام الفقهية .
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-23, 06:39
العمل بالعرف وشروطه
السؤال :
هل يجب علينا اتباع عادات أهل البلد؟ وما الدليل؟
الجواب :
الحمد لله
من القواعد الفقهية الكبرى التي اتفق العلماء عليها ، وتدخل في عامة أبواب الفقه ، ويتفرع عليها ما لا يحصى من المسائل ، قاعدة : "العادة محكمة" .
والعادة التي يشرع اتباعها ، أو تحكيمها ، هي ما توافر فيها شرطان :
الأول: ألا تخالف نصا شرعيا ثابتا .
الثاني: أن تكون العادة مطردة ، أما إذا اضطربت ، أو تفاوتت واختلفت : فلا تكون حجة واجبة الاتباع .
جاء في شرح التلويح على التوضيح (1 / 169): " واستعمال الناس : حجة ، يجب العمل بها "انتهى .
وجاء في القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة للدكتور محمد الزحيلي(1 / 323): " إنما تعتبر العادة إذا اطردت، فإذا اضطربت فلا" انتهى.
وقال الدكتور عبد الوهاب خلاف : " العُرف : هو ما تعارفه الناس وساروا عليه، من قول، أو فعل، أو ترك، ويسمى العادة.
وفي لسان الشرعيين: لا فرق بين العرف والعادة .
والعرف نوعان: عرف صحيح، وعرف فاسد.
فالعرف الصحيح: هو ما تعارفه الناس، ولا يخالف دليلاً شرعيا ، ولا يُحِل محرماً ، ولا يبطل واجباً، كتعارف الناس على عقد الاستصناع، وتعارفهم على تقسيم المهر إلى مقدم ومؤخر.
وأما العرف الفاسد: فهو ما تعارفه الناس ، ولكنه يخالف الشرع ، أو يحل المحرم ، أو يبطل الواجب، مثل تعارف الناس كثيرا من المنكرات في الموالد والمآتم، وتعارفهم أكل الربا ، وعقود المقامرة.
فالعرف الصحيح يجب مراعاته في التشريع وفي القضاء، وعلى المجتهد مراعاته في اجتهاده ؛ وعلى القاضي مراعاته في قضائه؛ لأن ما تعارفه الناس ، وما ساروا عليه : صار من حاجاتهم، ومتفقا ومصالحهم، فما دام لا يخالف الشرع : وجبت مراعاته .
والشارع راعى الصحيح من عرف العرب في التشريع، ففرض الدية على العاقلة، وشرط الكفاءة في الزواج ، واعتبر العصبية - [العصبة هم الأقارب الذكور من جهة الأب ، كالجد والإخوة وأبنائهم ، والأعمام وأبنائهم] - في الولاية والإرث ؛ ولهذا قال العلماء: العادة شريعة محكمة .
والعرف في الشرع له اعتبار، والإمام مالك بنى كثيرا من أحكامه على عمل أهل المدينة، وأبو حنيفة وأصحابه اختلفوا في أحكامٍ ، بناءً على اختلاف أعرافهم ...
وفي فقه الحنفية أحكام كثيرة مبنية على العرف، منها إذا اختلف المتداعيان ، ولا بينة لأحدهما : فالقول لمن يشهد له العرف، وإذا لم يتفق الزوجان على المقدم والمؤخر من المهر : فالحكم هو العرف، ومن حلف لا يأكل لحما ، فأكل سمكا : لا يحنث بناء على العرف، والشرط في العقد يكون صحيحا إذا ورد به الشرع ، أو اقتضاه العقد ، أو جرى به العرف.
وقد ألَّف العلامة ابن عابدين رسالة سماها: "نشر العَرف فيما بني من الأحكام على العرف"، ومن العبارات المشهورة: " المعروف عرفا ، كالمشروط شرطا، والثابت بالعرف كالثابت بالنص" وأما العرف الفاسد :
فلا تجب مراعاته ؛ لأن في مراعاته معارضةَ دليلٍ شرعي ، أو إبطالَ حكمٍ شرعي، فإذا تعارف الناس عقدا من العقود الفاسدة ، كعقد ربوي، أو عقد فيه غرر وخطر : فلا يكون لهذا العرف أثر في إباحة هذا العقد "
انتهى من علم أصول الفقه (88 -90) باختصار.
والله أعلم.
*عبدالرحمن*
2018-03-23, 06:44
حوارات في النفس ، وتساؤلات في العقيدة
السؤال:
إذا سألت شيخاً أثق به عن أمر متعلق بالعقيدة فكيف يمكنني التأكد أنّ ما يقوله هو فعلاً ما يعتقد به ؟
وهل من الممكن أن يضل الله من كان في يوم من الأيام على الطريق المستقيم ؟
وهل يكفي أن أقول أنني أؤمن بما يقوله هذا الشيخ ما دام أنه يتبع السلف ؟
ألا يعني وجود هذا الشك لدي أنني أشك في جزء من العقيدة ؛ لأنني لا أعلم ما في قلب الشيخ ؟
على سبيل المثال : عندما أسمع شيخاً أثق به يقول لنا أنه يجب أن نؤمن بكذا وكذا يأتيني الشيطان ويقول لي : " أثبت أنّ ما تقوله هو ما تؤمن به وإلا فادعو الله أن يدخلك النار إن كنت كاذباً " ، وبما أنني أخشى الذهاب إلى النار فلا أدعو بذلك ، فهل يعني هذا أنني أشك في العقيدة ؟
وكيف ينبغي لي التعامل مع هذا الأمر؟ هل يكفيني أن أقول أنني أؤمن بما يقول هذا الشيخ إن لم يكن ضالاً مع العلم أنه لا يمكن التأكد مما في قلبه ؟
وهل يجب على أن أدعو الله أن يدخلني النار إن كانت عقيدتي خاطئة حتى أثبت لنفسي أنني على العقيدة الصحيحة ؟
الجواب :
الحمد لله
أولا :
الواجب على العامي ، وكذلك طالب العلم المبتدئ أن يرجع في أمر دينه إلى أهل العلم الثقات ، ويعتقد صحة ما يقولونه ويعمل به ؛ لأنه لا يستطيع أن يستنبط الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة لعدم أهليته لذلك ، فلم يبق أمامه طريق لمعرفة الحق إلا بسؤال أهل العلم الثقات واتباعهم .
قال الله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) الأنبياء/43-44 .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" واجتهاد العامة هو طلبهم العلم من العلماء ، بالسؤال والاستفتاء ، بحسب إمكانهم " .
انتهى من "جامع الرسائل" (2/318) .
وحينما نقول : أهل العلم الثقات ، فذلك يعني أن هذا الشخص مشهود له بالعلم بالكتاب والسنة وأقوال السلف وأئمة أهل السنة ، وهو في الوقت ذاته ( ثقة) أي : مستقيم في أقواله وأعماله ، معظم لحرمات الله ، واقف عند حدوده ، فهذا هو الذي يجب سؤاله والعمل بفتواه .
أما من لم يشتهر بالعلم أو لم يكن ثقة ولا عدلا ، بل كان مرتكبا للمحرمات الظاهرة ، متهاونا بدينه فذلك لا يجوز الاعتماد على فتواه .
وحينئذ لا يرد سؤالك : من أين أعلم أن هذا الشيخ يعتقد بقلبه ما يقوله ؟
والجواب على هذا : أن هذا يُعلم بحاله ومدى استقامته على شرع الله ، أما الاحتمالات الضعيفة البعيدة فلا يجوز الاعتماد عليها ، ولا بناء الأحكام عليها .
ومثل ذلك : احتمال أن يكون هذا الشخص لا يعتقد ما يقوله ، فإذا كان هذا الشخص مستقيما في دينه (ثقة) فمثل هذا الاحتمال البعيد لا يلتفت إليه ، ويكون كعدمه ، ولا يجوز أن يثير شكوكا في نفس من يتبع ذلك العالم .
ثانيا :
يهدي الله من يشاء ويضل من يشاء ولا يظلم ربك أحدا ، فمن كان أهلا للهداية صالحا لها هداه وأرشده ، ومن كان لا يصلح إلا للشر ويختاره على الخير أضله .
قال الله عز وجل : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) الصف/ 5 .
قال السعدي رحمه الله :
" (أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) عقوبة لهم على زيغهم الذي اختاروه لأنفسهم ورضوه لها، ولم يوفقهم الله للهدى ، لأنهم لا يليق بهم الخير ، ولا يصلحون إلا للشر، (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) أي: الذين لم يزل الفسق وصفا لهم ، لا لهم قصد في الهدى ، وهذه الآية الكريمة تفيد أن إضلال الله لعباده ، ليس ظلما منه، ولا حجة لهم عليه
وإنما ذلك بسبب منهم ، فإنهم الذين أغلقوا على أنفسهم باب الهدى بعد ما عرفوه ، فيجازيهم بعد ذلك بالإضلال والزيغ الذي لا حيلة لهم في دفعه وتقليب القلوب عقوبة لهم وعدلا منه بهم ، كما قال تعالى: ( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) "
انتهى من " تفسير السعدي" (ص: 859)
وروى البخاري (3332) ، ومسلم (2643) عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُ الجَنَّةَ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُ النَّارَ) .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" فهو فيما يبدو للناس يعمل بعمل أهل الجنة ، أما فيما يخفى على الناس ففي قلبه سريرة خبيثة أودت به وأهلكته " انتهى من "
مجموع فتاوى ورسائل العثيمين " (5/ 238) .
فيمكن أن يكون العبد في ظاهر حاله على طريق الهداية يوما ما ثم يضله الله تعالى ، وذلك لما يعلم سبحانه من حاله وسريرة قلبه ، وإن كان - فيما يبدو للناس - صالحا .
فالذي يعتقده قلب الإنسان وتكنُّه نفسه لا يطلع عليه إلا الله ، ولكن هناك من شواهد الأقوال والأفعال ما نستطيع أن نرجح به صحة اعتقاد العبد أو فساده ، فإن كان على هدي السنة وطريق السلف أحسنا الظن به ، وإن كان على ضلالة أو بدعة لم نحسن الظن به .
ثالثا :
ينبغي للمسلم – إن كان عنده القدرة – أن يترقى في طلب العلم الشرعي ، فيقرأ تفاسير القرآن الكريم ، وشروح السنة النبوية ، ويطلع على كلام أهل العلم ، ولا يكتفي بتقليد شخص من الناس ، بل يبحث عن القول الراجح الموافق للقرآن والسنة النبوية فيأخذ به ، وكل إنسان يصيب أحيانا ويخطئ أحيانا أخرى ، وكلما اقترب المسلم من الكتاب والسنة قل خطؤه ، وكلما ابتعد عنهما ازداد خطؤه .
رابعا :
مطالبة النفس بتوافق القول والفعل والاعتقاد حسن ، ولكن لا يدخل الإنسان مع نفسه في ذلك في محنة وابتلاء ، وأي داع يدعوه إلى أن يقول لنفسه :
" أثبت أنّ ما تقوله هو ما تؤمن به ، وإلا فادع الله أن يدخلك النار إن كنت كاذباً " ؟!
هذا اتباع لوساوس الشيطان ، وسعي لهلاك النفس والدعاء عليها بالعذاب ، ولكن على المسلم أن يتعلم العلم والاعتقاد الصحيح ، ثم يجتهد ما استطاع مع نفسه ليصحح اعتقاده وليعمل بما علم ، وليس هناك داع أن يشكك الإنسان نفسه في اعتقاده ، ولا يتابع الشيطان على وساوسه ، ولا يلتفت إلى شيء من ذلك .
وعدم الدعاء بذلك ليس من باب الشك في العقيدة ، ولكن الدعاء به من اتباع الشيطان واتباع وساوسه ، والنجاة من هذه الوساوس لا يكون بالدعاء على النفس ، وإنما يكون بأن يقول المسلم : آمنت بالله ، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ، وينتهي عن التفكر والاسترسال في هذه الوساوس .
نسأل الله تعالى أن يوفقك لكل خير ، وأن يبعد عنك وساوس الشيطان .
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-23, 06:49
تقسيم الحنفية للسنة
السؤال:
إن أتباع المذهب الحنفي يدّعون عادة أن النبي صلى الله عليه وسلم واظب على نوعين من السنة ، النوع الأول هو ذاك الذي كان يمارسه من أفعال وعادات حتى اللحظة الأخيرة من حياته ، والنوع الثاني هو الذي مارسه مدة من الدهر ثم كفّ عنه قبل موته بسنوات ، وإذا كان كذلك فما الأفضل لأمّته والأكثر أجراً
أن يتابعوا النوعين أم النوع الأول فقط ؟
الجواب :
الحمد لله
يقسم الحنفية السنن إلى قسمين : سنن الهدى ، وسنن الزوائد . جاء في " الدر المختار وحاشية ابن عابدين " (1 / 103) : " وَالسُّنَّةُ نَوْعَانِ: سُنَّةُ الْهَدْيِ ، وَتَرْكُهَا يُوجِبُ إسَاءَةً وَكَرَاهِيَةً كَالْجَمَاعَةِ ، وَالْأَذَانِ ، وَالْإِقَامَةِ وَنَحْوِهَا. وَسُنَّةُ الزَّوَائِدِ ، وَتَرْكُهَا لَا يُوجِبُ ذَلِكَ كَسَيْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي لِبَاسِهِ وَقِيَامِهِ وَقُعُودِهِ ، وَالنَّفَلُ وَمِنْهُ الْمَنْدُوبُ يُثَابُ فَاعِلُهُ وَلَا يُسِيءُ تَارِكُهُ، قِيلَ: وَهُوَ دُونَ سُنَنِ الزَّوَائِدِ" انتهى.
وفيه أيضا (1 / 103) : " قَدْ مَثَّلُوا لِسُنَّةِ الزَّوَائِدِ أَيْضًا « بِتَطْوِيلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْقِرَاءَةَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ » ، وَلَا شَكَّ فِي كَوْنِ ذَلِكَ عِبَادَةً ، وَحِينَئِذٍ فَمَعْنَى كَوْنِ سُنَّةِ الزَّوَائِدِ عَادَةً أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاظَبَ عَلَيْهَا حَتَّى صَارَتْ عَادَةً لَهُ وَلَمْ يَتْرُكْهَا إلَّا أَحْيَانًا؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَسْلُوكَةُ فِي الدِّينِ
فَهِيَ فِي نَفْسِهَا عِبَادَةٌ وَسُمِّيَتْ عَادَةً لِمَا ذَكَرْنَا. وَلَمَّا لَمْ تَكُنْ مِنْ مُكَمِّلَاتِ الدِّينِ وَشَعَائِرِهِ سُمِّيَتْ سُنَّةَ الزَّوَائِدِ، بِخِلَافِ سُنَّةِ الْهَدْيِ، وَهِيَ السُّنَنُ الْمُؤَكَّدَةُ الْقَرِيبَةُ مِنْ الْوَاجِبِ الَّتِي يُضَلَّلُ تَارِكُهَا؛ لِأَنَّ تَرْكَهَا اسْتِخْفَافٌ بِالدِّينِ، وَبِخِلَافِ النَّفْلِ فَإِنَّهُ كَمَا قَالُوا مَا شُرِعَ لَنَا زِيَادَةً عَلَى الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَالسُّنَّةِ بِنَوْعَيْهَا" انتهى.
فسنة الهدى هي ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتركه ، وحكمها يقرب من الواجب عندهم ، وسنة الزوائد ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم غير أنه تركه أحيانا .
هذا الذي ذكره الحنفية في تقسيم السنن وهو الذي وجدناه في كتبهم ، أما تقسيمهم السنن إلى سنة واظب عليها النبي طوال حياته وسنة أخرى تركها آخر عمره ، فهذا لم نجده فيما بحثنا فيه من كتب المذهب الحنفي .
ولعل السائل يقصد ما جاء من ترك النبي صلى الله عليه وسلم لبعض السنن وعدم مداومته عليها مخافة أن تفرض على الأمة ؛ كقيام رمضان وصلاة الضحى مثلا ، جاء في " التقرير والتحبير علي تحرير الكمال بن الهمام " (1 / 228) : " وقد نقل في شرح المهذب عن العلماء أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يداوم على صلاة الضحى مخافة أن تفرض على الأمة فيعجزوا عنها، وكان يفعلها في بعض الأوقات" انتهى .
و تابع اجابه السؤال القادم بيان حكم قيام رمضان وسبب ترك النبي صلى الله عليه وسلم له وقد زالت هذه الخشية بوفاته صلى الله عليه وسلم فيكون حكم هذه السنن هو استحباب المداومة عليها.
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-23, 06:51
السؤال
ما فضل قيام رمضان ؟.
الجواب
الحمد لله
فضل قيام ليالي رمضان :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرغب في قيام رمضان ، من غير أن يأمرهم بعزيمة ، ثم يقول : " من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك ( أي على ترك الجماعة في التراويح ) ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر رضي الله عنه ، وصدرٍ من خلافة عمر رضي الله عنه .
وعن عمرو بن مرة الجهني قال : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من قضاعة فقال: يا رسول الله ! أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله ، وأنك محمد رسول الله ، وصليت الصلوات الخمس ، وصمت الشهر ، وقمت رمضان ، وآتيت الزكاة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من مات على هذا كان من الصديقين والشهداء "
ليلة القدر وتحديدها :
2- وأفضل لياليه ليلة القدر ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " من قام ليلة القدر { ثم وُفّقت له } ، إيماناً واحتساباً ، غفر له ما تقدم من ذنبه "
3- وهي ليلة سابع وعشرين من رمضان على الأرجح ، وعليه أكثر الأحاديث منها حديث زر بن حبيش قال : سمعت أبي ابن كعب يقول - وقيل له : إن عبد الله بن مسعود يقول : من قام السنة اصاب ليلة القدر ! - فقال أُبيّ رضي الله عنه : رحمه الله ، أراد أن لا يتكل الناس ، والذي لا إله إلا هو ، إنها لفي رمضان - يحلف ما يستثني - ووالله إني لأعلم أي ليلة هي ؟ هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها ، هي ليلة صبيحة سبع وعشرين وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها . ورفع ذلك في رواية إلى النبي صلى الله عليه وسلم . أخرجه مسلم وغيره .
مشروعية الجماعة في القيام :
4- وتشرع الجماعة في قيام رمضان ، بل هي أفضل من الانفراد ، لإقامة النبي صلى الله عليه وسلم لها بنفسه ، وبيانه لفضلها بقوله ، كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه قال : " صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان ، فلم يقم بنا شيئاً من الشهر حتى بقي سبع فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل ، فلما كانت السادسة لم يقم بنا ، فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل ، فقلت : يا رسول الله ! لو نفّلتنا قيام هذه الليلة ، فقال : " إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة " فلما كانت الرابعة لم يقم ، فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس ، فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح ، قال : قلت : وما الفلاح ؟ قال : السحور ، ثم لم يقم بنا بقية الشهر ) حديث صحيح ، أخرجه أصحاب السنن .
السبب في عدم استمرار النبي صلى الله عليه وسلم بالجماعة فيه :
5- وإنما لم يقم بهم عليه الصلاة والسلام بقية الشهر خشية أن تُفرض عليهم صلاة الليل في رمضان ، فيعجزوا عنها كما جاء في حديث عائشة في الصحيحين وغيرهما ، وقد زالت هذه الخشية بوفاته صلى الله عليه وسلم بعد أن أكمل الله الشريعة ، وبذلك زال المعلول ، وهو ترك الجماعة في قيام رمضان ، وبقي الحكم السابق وهو مشروعية الجماعة ، ولذلك أحياها عمر رضي الله عنه كما في صحيح البخاري وغيره .
مشروعية الجماعة للنساء :
6- ويشرع للنساء حضورها كما في حديث أبي ذر السابق بل يجوز أن يُجعل لهن إمام خاص بهن ، غير إمام الرجال ، فقد ثبت أن عمر رضي الله عنه لما جمع الناس على القيام ، جعل على الرجال أبيّ بن كعب ، وعلى النساء سليمان بن أبي حثمة ، فعن عرفجة الثقفي قال : ( كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يأمر الناس بقيام شهر رمضان ويجعل للرجال إماماً وللنساء إماماً ، قال : فكنت أنا إمام النساء "
قلت : وهذا محله عندي إذا كان المسجد واسعاً ، لئلا يشوش أحدهما على الآخر .
عدد ركعات القيام :
7- وركعاتها إحدى عشرة ركعة ، ونختار أن لا يزيد عليها اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه لم يزد عليها حتى فارق الدنيا ، فقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن صلاته في رمضان ؟ فقالت : " ما كان رسول الله يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة ، يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي أربعاُ فلا تسل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي ثلاثاً " أخرجه الشيخان وغيرهما
8- وله أن ينقص منها ، حتى لو اقتصر على ركعة الوتر فقط ، بدليل فعله صلى الله عليه وسلم وقوله .
أما الفعل ، فقد سئلت عائشة رضي الله عنها : بكم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر ؟ قالت : " كان يوتر بأربع وثلاث ، وست وثلاث ، وعشر وثلاث ، ولم يكن يوتر بأنقص من سبع ، ولا بأكثر من ثلاث عشرة " رواه ابو داود وأحمد وغيرهما .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم فهو : " الوتر حق ، فمن شاء فليوتر بخمس ، ومن شاء فليوتر بثلاث ، ومن شاء فليوتر بواحدة " .
القراءة في القيام :
9- وأما القراءة في صلاة الليل في قيام رمضان أو غيره ، فلم يحُد فيها النبي صلى الله عليه وسلم حداً لا يتعداه بزيادة أو نقص ، بل كانت قراءته فيها تختلف قصراً وطولاً ، فكان تارة يقرأ في كل ركعة قدر ( يا أيها المزمل ) وهي عشرون آية ، وتارة قدر خمسين آية ، وكان يقول : " من صلى في ليلة بمائة آية لم يكتب من الغافلين " ، وفي حديث آخر : " .. بمائتي آية فإنه يُكتب من القانتين المخلصين " .
وقرأ صلى الله عليه وسلم في ليلة وهو مريض السبع الطوال ، وهي سورة ( البقرة ) و ( آل عمران ) و ( النساء ) و ( المائدة ) و ( الأنعام ) و ( الأعراف ) و ( التوبة ) .
وفي قصة صلاة حذيفة بن اليمان وراء النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعة واحدة ( البقرة ) ثم ( النساء ) ثم ( آل عمران ) ، وكان يقرؤها مترسلا متمهلاً
وثبت بأصح إسناد أن عمر رضي الله عنه لما أمر أبيّ بن كعب أن يصلي للناس بإحدى عشرة ركعة في رمضان ، كان أبيّ رضي الله عنه يقرأ بالمئين ، حتى كان الذين خلفه يعتمدون على العصي من طول القيام ، وما كانوا ينصرفون إلا في أوائل الفجر .
وصح عن عمر أيضاً أنه دعا القراء في رمضان ، فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأ ثلاثين آية ، والوسط خمساً وعشرين آية ، والبطيء عشرين آية .
وعلى ذلك فإن صلى القائم لنفسه فليطوّل ما شاء ، وكذلك إذا كان معه من يوافقه ، وكلما أطال فهو أفضل ، إلا أنه لا يبالغ في الإطالة حتى يحيي الليل كله إلا نادراً ، اتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم القائل : " وخير الهدي هدي محمد " ، وأما إذا صلى إماماً ، فعليه أن يطيل بما لا يشق على من وراءه لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا قام أحدكم للناس فليخفف الصلاة ، فإن فيهم الصغير والكبير وفيهم الضعيف ، والمريض ، وذا الحاجة ، وإذا قام وحده فليُطل صلاته ما شاء .
وقت القيام :
10- ووقت صلاة الليل من بعد صلاة العشاء إلى الفجر ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله زادكم صلاة ، وهي الوتر ، فصلوها بين صلاة العشاء إلى صلاة الفجر "
11- والصلاة في آخر الليل أفضل لمن تيسر له ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : " من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله ، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل ، فإن صلاة آخر الليل مشهودة ، وذلك أفضل "
12- وإذا دار الأمر بين الصلاة أول الليل مع الجماعة ، وبين الصلاة آخر الليل منفرداً ، فالصلاة مع الجماعة أفضل ، لأنه يحسب له قيام ليلة تامة .
وعلى ذلك جرى عمل الصحابة في عهد عمر رضي الله عنه ، فقال عبد الرحمن بن عبيد القاري : " خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد ، فإذا الناس أوزاع متفرقون ، يصلي الرجل لنفسه ، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرّهط ، فقال : والله إني لأرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ، ثم عزم ، فجمعهم على أبيّ بن كعب ، قال : ثم خرجت معه ليلة أخرى ، والناس يصلون بصلاة قارئهم ، فقال : عمر ، نعمت البدعة هذه ، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون - يريد آخر الليل - وكان الناس يقومون أوله "
وقال زيد بن وهب : ( كان عبد الله يصلي بنا في شهر رمضان فينصرف بليل )
13- لما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الإيتار بثلاث ، وعلل ذلك بقوله : " ولا تشبهوا بصلاة المغرب " فحينئذ لا بد لمن صلى الوتر ثلاثاً من الخروج من هذه المشابهة ، وذلك يكون بوجهين :
أحدهما : التسليم بين الشفع والوتر ، وهو الأقوى والأفضل .
والآخر : أن لا يقعد بين الشفع والوتر ، والله تعالى أعلم .
القراءة في ثلاث الوتر :
14- ومن السنة أن يقرأ في الركعة الأولى من ثلاث الوتر : ( سبح اسم ربك الأعلى ) ، وفي الثانية : ( قل يا أيها الكافرون ) ، وفي الثالثة : ( قل هو الله أحد ) ويضيف إليها أحياناُ : ( قل أعوذ برب الفلق ) و ( قل أعوذ برب الناس ) .
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ مرة في ركعة الوتر بمائة آية من سورة ( النساء )
دعاء القنوت :
15- و.. يقنت .. بالدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم سبطه الحسن بن علي رضي الله عنهما وهو : ( اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقني شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، وإنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، لا منجا منك إلا إليك ) ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً ، لما يأتي بعده . ( ولا بأس أن يزيد عليه من الدعاء المشروع والطيّب الصحيح ) .
16- ولا بأس من جعل القنوت بعد الركوع ، ومن الزيادة عليه بلعن الكفرة ، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء للمسلمين في النصف الثاني من رمضان ، لثبوت ذلك عن الأئمة في عهد عمر رضي الله عنه ، فقد جاء في آخر حديث عبد الرحمن بن عبيد القاري المتقدم : " وكانوا يلعنون الكفرة في النصف : اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ، ويكذبون رسلك ، ولا يؤمنون بوعدك ، وخالف بين كلمتهم ، وألق في قلوبهم الرعب ، وألق عليهم رجزك وعذابك ، إله الحق ) ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويدعو للمسلمين بما استطاع من خير ، ثم يستغفر للمؤمنين .
قال : وكان يقول إذا فرغ من لعنة الكفرة وصلاته على النبي واستغفاره للمؤمنين والمؤمنات ومسألته : ( اللهم إياك نعبد ، ولك نصلي ونسجد ، وإليك نسعى ونحفد ، ونرجو رحمتك ربنا ، ونخاف عذابك الجد ، إن عذابك لمن عاديت ملحق " ثم يكبر ويهوي ساجداً .
ما يقول في آخر الوتر :
17- ومن السنة أن يقول في آخر وتره ( قبل السلام أو بعده ) :
" اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك ، لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما اثنيت على نفسك "
18- وإذا سلم من الوتر ، قال : سبحان الملك القدوس ، سبحان الملك القدوس ، سبحان الملك القدوس ( ثلاثاً ) ويمد بها صوته ، ويرفع في الثالثة .
الركعتان بعده :
19- وله أن يصلي ركعتين ( بعد الوتر إن شاء ) ، لثبوتهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً بل .. قال : " إن هذا السفر جهد وثقل ، فإذا أوتر أحدكم ، فليركع ركعتين ، فإن استيقظ وإلا كانتا له " .
20- والسنة أن يقرأ فيهما : ( إذا زلزلت الأرض ) و ( قل يا أيها الكافرون ) .
*عبدالرحمن*
2018-03-23, 06:55
دلالة صيغة الأمر إذا جاءت بعد الحظر
السؤال :
هل الأمر بعد النهي يفيد الإباحة أم أن الحكم يرجع إلى ما كان عليه في السابق ؟
وهل من مراجع مفيدة في هذه المسألة يمكنني الاطلاع عليها ؟
الجواب :
الحمد لله
الصحيح من أقوال الأصوليين أن صيغة الأمر تفيد الوجوب ما لم يصرفها صارف , فإن جاءت هذه الصيغة بعد تقدم النهي , كالأمر بالاصطياد بعد التحلل من الإحرام مثلا , كما في قوله تعالى : ( وإذا حللتم فاصطادوا ) ، فقد اختلف الأصوليون في ذلك على مذاهب ، أشهرها :
القول الأول : أَنَّ صيغة الأمر على حَالِهَا في اقْتِضَاءِ الْوُجُوبِ . وهو مذهب ابن حزم وبعض المالكية والشافعية .
والقول الثاني : أَنَّهُا على الْإِبَاحَةِ وهذا قول أكثر العلماء .
والقول الثالث : أنها تَرْفَعُ النهي السَّابِقَ وَتُعِيدُ حَالَ الْفِعْلِ إلَى ما كان قبل النهي فَإِنْ كان مُبَاحًا كانت لِلْإِبَاحَةِ أو وَاجِبًا فَوَاجِبٌ .
انظر " المحيط " للزركشي (2/112- 116) ، " المستصفى " (1/54) ، " شرح مختصر الروضة " (2/370-373) .
وهذا القول الأخير هو الراجح ، وهو ما اختاره جماعة من المحققين .
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى : ( وإذا حللتم فاصطادوا ) :
" وَهَذَا أَمُرٌ بَعْدَ الْحَظْرِ ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي يَثْبُتُ عَلَى السَّبْر : أَنَّهُ يَرُد الْحُكْمَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ النَّهْيِ ، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا رَدَّهُ وَاجِبًا ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَبًّا فَمُسْتَحَبٌّ ، أَوْ مُبَاحًا فَمُبَاحٌ . وَمَنْ قَالَ : إِنَّهُ عَلَى الْوُجُوبِ ، يُنْتَقَضُ عَلَيْهِ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ ، وَمَنْ قَالَ : إِنَّهُ لِلْإِبَاحَةِ ، يَرِدُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ ، وَالَّذِي يَنْتَظِمُ الْأَدِلَّةَ كُلَّهَا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ، كَمَا اخْتَارَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ "
انتهى من " تفسير ابن كثير " (2/12) .
وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله :
" وبهذا تعلم أن التحقيق الذي دل عليه الاستقراء التام في القرآن أن الأمر بالشيء بعد تحريمه يدل على رجوعه إلى ما كان عليه قبل التحريم من إباحة أو وجوب ، فالصيد قبل الإحرام كان جائزا فمنع للإحرام ، ثم أمر به بعد الإحلال بقوله : ( وإذا حللتم فاصطادوا ) ، فيرجع لما كان عليه قبل التحريم
وهو الجواز ، وقتل المشركين كان واجبا قبل دخول الأشهر الحرم ، فمنع من أجلها ، ثم أمر به بعد انسلاخها في قوله : ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) الآية ، فيرجع لما كان عليه قبل التحريم ، وهو الوجوب ، وهذا هو الحق في هذه المسألة الأصولية " انتهى
من " أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن " (1/327) .
وقد رجح هذا القول أيضا الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله ،
انظر : " شرح منظومة أصول الفقه وقواعده " (ص/171-173) .
أما المراجع التي تسأل عنها فقد ذكرنا بعضها ، ولا يكاد يخلو كتاب من أصول الفقه من التعرض لهذه المسألة
.
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-23, 07:00
الغفلة عن نية التقرب إلى الله
السؤال :
هل يؤثر عدم استحضار نية التقرب إلى الله على صحة العمل ، أم ينقص من الأجر فقط ، فإن نوى شخصٌ الغسلَ بنية الدخول في الإسلام ، أو رفع الحدث الأكبر ، وغفل عن نية التقرب إلى الله فهل يصح غُسلُه ؟
الجواب :
الحمد لله
أولا :
لا شك أن تصحيح النية ، واستحضارها في بداية العمل ، من أعظم ما ينبغي أن يشتغل به العابد ، فإن عليها مدار قبول العمل أو رده ، وعليها مدار صلاح القلب أو فساده ؛ فإن القلب لا يصلح إلا بأن يكون عمله وسعيه لله خالصا مما سواه .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ) متفق عليه .
قال النووي رحمه الله :
" أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عِظَمِ مَوْقِعِ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَكَثْرَةِ فَوَائِدِهِ وَصِحَّتِهِ ...
ثم قال :
قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْأُصُولِ وَغَيْرُهُمْ : لَفْظَةُ ( إِنَّمَا ) مَوْضُوعَةٌ لِلْحَصْرِ ، تُثْبِتُ الْمَذْكُورَ ، وَتَنْفِي مَا سِوَاهُ . فَتَقْدِيرُ هَذَا الْحَدِيثِ : إِنَّ الْأَعْمَالَ تُحْسَبُ بِنِيَّةٍ ، وَلَا تُحْسَبُ إِذَا كَانَتْ بِلَا نِيَّةٍ . وَفِيهِ : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ ، وَهِيَ الْوُضُوءُ ، وَالْغُسْلُ وَالتَّيَمُّمُ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِالنِّيَّةِ ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ وَالِاعْتِكَافُ وَسَائِرُ الْعِبَادَاتِ "
انتهى من " شرح مسلم للنووي " (13/47) .
وقال ابن رجب رحمه الله :
" وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ : « وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى » إِخْبَارٌ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ عَمَلِهِ إِلَّا مَا نَوَاهُ بِهِ ، فَإِنْ نَوَى خَيْرًا حَصَلَ لَهُ خَيْرٌ ، وَإِنْ نَوَى بِهِ شَرًّا حَصَلَ لَهُ شَرٌّ ، وَلَيْسَ هَذَا تَكْرِيرًا مَحْضًا لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى ، فَإِنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى دَلَّتْ عَلَى أَنَّ صَلَاحَ الْعَمَلِ وَفَسَادَهُ بِحَسَبِ النِّيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِإِيجَادِهِ ، وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ ثَوَابَ الْعَامِلِ عَلَى عَمَلِهِ بِحَسَبِ نِيَّتِهِ الصَّالِحَةِ ، وَأَنَّ عِقَابَهُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ نِيَّتِهِ الْفَاسِدَةِ ، وَقَدْ تَكُونُ نِيَّتُهُ مُبَاحَةً ، فَيَكُونُ الْعَمَلُ مُبَاحًا
فَلَا يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ ، فَالْعَمَلُ فِي نَفْسِهِ صَلَاحُهُ وَفَسَادُهُ وَإِبَاحَتُهُ بِحَسَبِ النِّيَّةِ الْحَامِلَةِ عَلَيْهِ ، الْمُقْتَضِيَةِ لِوُجُودِهِ ، وَثَوَابُ الْعَامِلِ وَعِقَابُهُ وَسَلَامَتُهُ بِحَسَبِ النِّيَّةِ الَّتِي بِهَا صَارَ الْعَمَلُ صَالِحًا ، أَوْ فَاسِدًا ، أَوْ مُبَاحًا "
انتهى من " جامع العلوم والحكم " (1/65)
وينظر : "إعلام الموقعين" (3/91) .
ثانيا :
النية التي عليها مدار الصحة والفساد ، والتي يذكرها الفقهاء : هي نية تمييز العمل عما سواه ، وأما النية التي عليها مدار قبول العمل أو رده : فهي قصد تمييز " المعمول له " ، المعبود ، عمن سواه ، وهي التي يعبَّر عنها بالإخلاص .
قال ابن رجب رحمه الله :
" وَاعْلَمْ أَنَّ النِّيَّةَ فِي اللُّغَةِ نَوْعٌ مِنَ الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فُرِّقَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِمَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهِ .
وَالنِّيَّةُ فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ تَقَعُ بِمَعْنَيَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : بِمَعْنَى تَمْيِيزِ الْعِبَادَاتِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ ، كَتَمْيِيزِ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ مَثَلًا ، وَتَمْيِيزِ صِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ صِيَامِ غَيْرِهِ ، أَوْ تَمْيِيزِ الْعِبَادَاتِ مِنَ الْعَادَاتِ ، كَتَمْيِيزِ الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ مِنْ غُسْلِ التَّبَرُّدِ وَالتَّنَظُّفِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَهَذِهِ النِّيَّةُ هِيَ الَّتِي تُوجَدُ كَثِيرًا فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ فِي كُتُبِهِمْ .
وَالْمَعْنَى الثَّانِي : بِمَعْنَى تَمْيِيزِ الْمَقْصُودِ بِالْعَمَلِ ، وَهَلْ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، أَمْ غَيْرُهُ ، أَمِ اللَّهُ وَغَيْرُهُ ، وَهَذِهِ النِّيَّةُ هِيَ الَّتِي يَتَكَلَّمُ فِيهَا الْعَارِفُونَ فِي كُتُبِهِمْ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى الْإِخْلَاصِ وَتَوَابِعِهِ ، وَهِيَ الَّتِي تُوجَدُ كَثِيرًا فِي كَلَامِ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِينَ "
انتهى من " جامع العلوم والحكم " (1/65) .
فحاصل ذلك :
أن النية التي يتوقف عليها صحة العمل : هي تمييز هذا العمل الذي يريده المكلف ؛ فيميز غسل الجنابة ، من غسل التنظف أو التبرد ، ونحو ذلك .
وهذا هو المطلوب في تصحيح العمل .
وأما نية التقرب ، فهي مما يتفاوت فيه الناس تفاوتا عظيما ، وبحسب تحقيقها وإخلاصها يكون قدر العامل وعمله عند الله .
ولا يلزم في ذلك أن يستحضر العامل نية " التقرب " ، بخصوص ذلك اللفظ ، بل لو نوى " العبادة " ، أو " التعبد لله " أو طاعته ، أو التزام أمره ، ونحو ذلك من المقاصد الشرعية الصحيحة : فهي كافية .
ينظر : " الموسوعة الفقهية " (33/92) وما بعدها ، " مقاصد المكلفين " للأشقر (50-56) .
ولعله لذلك ذهب من ذهب من الفقهاء إلى أنه لا يشترط نية " التقرب " في العمل ، بخصوصها ؛ بل يكفي أن ينوي العمل المعين ، أو العبادة المعينة ، مع تمييزها عن غيرها .
ينظر : " التلخيص في أصول الفقه " للجويني (1/486) ، " المستصفى من علم الأصول " للغزالي (1/62) .
وهذه النية المطلوبة في تصحيح العمل : عادة ما تكون حاصلة في قلب العبد عند عمله ؛ وإلا فما الذي يدفع من أراد الدخول في الإسلام : إلى الغسل ، وما الذي يدفع الحائض إذا طهرت إلى الغسل ، لا سيما في البرد الشديد ؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَكُونُ فِي قَلْبِهِ مَعَارِفُ وَإِرَادَاتٌ ، وَلَا يَدْرِي أَنَّهَا فِي قَلْبِهِ ، فَوُجُودُ الشَّيْءِ فِي الْقَلْبِ شَيْءٌ ، وَالدِّرَايَةُ بِهِ شَيْءٌ آخَرُ ; وَلِهَذَا يُوجَدُ الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ يَطْلُبُ تَحْصِيلَ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ ، وَهُوَ حَاصِلٌ فِي قَلْبِهِ ، فَتَرَاهُ يَتْعَبُ تَعَبًا كَثِيرًا لِجَهْلِهِ ، وَهَذَا كَالْمُوَسْوَسِ فِي الصَّلَاةِ ; فَإِنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا بِاخْتِيَارِهِ ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُهُ
فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَهُ ، وَوُجُودُ ذَلِكَ بِدُونِ النِّيَّةِ - الَّتِي هِيَ الْإِرَادَةُ – مُمْتَنِعٌ ، فَمَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ فَهُوَ يُرِيدُ الصَّلَاةَ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُصَلِّيَ إِلَّا وَهُوَ يُرِيدُ الصَّلَاةَ فَطَلَبُ مِثْلِ هَذَا لِتَحْصِيلِ النِّيَّةِ مِنْ جَهْلِهِ بِحَقِيقَةِ النِّيَّةِ وَوُجُودِهَا فِي نَفْسِهِ .
وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ ، وَهُوَ مُسْلِمٌ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ الصَّوْمِ ، وَهُوَ مُرِيدٌ لِلصَّوْمِ ، فَهَذَا نِيَّةُ الصَّوْمِ . وَهُوَ حِينَ يَتَعَشَّى يَتَعَشَّى عَشَاءَ مَنْ يُرِيدُ الصَّوْمَ ، وَلِهَذَا يُفَرِّقُ بَيْنَ عَشَاءِ لَيْلَةِ الْعِيدِ ، وَعِشَاءِ لَيَالِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَلَيْلَةُ الْعِيدِ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَصُومُ ، فَلَا يُرِيدُ الصَّوْمَ وَلَا يَنْوِيهِ ، وَلَا يَتَعَشَّى عَشَاءَ مَنْ يُرِيدُ الصَّوْمَ .
وَهَذَا مِثْلُ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ ، وَيَمْشِي وَيَرْكَبُ ، وَيَلْبَسُ ، إِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَفْعَالَ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُرِيدَهَا ، وَهَذِهِ نِيَّتُهَا ، فَلَوْ قَالَ بِلِسَانِهِ : أُرِيدُ أَنْ أَضَعَ يَدِيَ فِي هَذَا الْإِنَاءِ لِآخُذَ لُقْمَةً آكُلُهَا ، كَانَ أَحْمَقَ عِنْدَ النَّاسِ . فَهَكَذَا مَنْ يَتَكَلَّمُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي نِيَّةِ الصَّلَاةِ وَالطَّهَارَةِ وَالصِّيَامِ "
انتهى من " منهاج السنة النبوية " (5/398-399) .
وقال ابن القيم رحمه الله :
" النية قصد فعل الشيء ، فكل عازم على فعل فهو ناويه ، لا يتصور انفكاك ذلك عن النية فإنه حقيقتها ، فلا يمكن عدمها في حال وجودها ، ومن قعد ليتوضأ فقد نوى الوضوء ، ومن قام ليصلي فقد نوى الصلاة
ولا يكاد العاقل يفعل شيئاً من العبادات ولا غيرها بغير نية ، فالنية أمر لازم لأفعال الإنسان المقصودة ، لا يحتاج إلى تعب ولا تحصيل . ولو أراد إخلاء أفعاله الاختيارية عن نيته لعجز عن ذلك . ولو كلفه الله عز وجل الصلاة والوضوء بغير نية لكلفه ما لا يطيق ، ولا يدخل تحت وسعه "
انتهى من " إغاثة اللهفان " (1/137) .
والله أعلم .
و اخيرا
الحمد لله الذي بفضلة تتم الصالحات
اخوة الاسلام
اكتفي بهذا القدر و لنا عوده
ان قدر الله لنا البقاء و اللقاء
و اسال الله ان يجمعني بكم دائما
علي خير
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين
*عبدالرحمن*
2018-03-25, 04:38
اخوة الاسلام
أحييكم بتحية الإسلام
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
https://d.top4top.net/p_7927bchs1.gif (https://up.top4top.net/)
حول ما نسب إلى الإمام مالك - رحمه الله - من
القول بجواز قتل ثلث الخلق لاستصلاح الثلثين
السؤال:
هل صحيح بأن الإمام مالك - رحمة الله تعالى عليه - أفتى بجواز " قتل ثلث الأمة ، من أجل استصلاحها " ؟
الجواب :
الحمد لله :
أولا:
نقل بعض الأصوليين كإمام الحرمين والغزالي وغيرهما عن الإمام مالك - رحمه الله تعالى - أنه توسع في الأخذ بالمصالح المرسلة ؛ حتى أجاز قتل ثلث الأمة من أجل استصلاح الثلثين ,
قال الجويني الملقب بإمام الحرمين - رحمه الله - في "كتابه البرهان في أصول الفقه" (2 / 169):
" ومالك رضي الله عنه التزم مثل هذا في تجويزه لأهل الإيالات القتل في التهم العظيمة ؛ حتى نقل عنه الثقات أنه قال: أنا أقتل ثلث الأمة لاستبقاء ثلثيها" انتهى .
وقال الغزالي في المنخول (454):
" فاسترسل مالك - رضي الله عنه - على المصالح حتى رأى قتل ثلث الأمة لاستصلاح ثلثيها" انتهى.
وقال في موطن آخر من نفس الكتاب (612): " فأما مالك رحمه الله فقد استرسل على المصالح استرسالا جره إلى قتل ثلث الأمة لاستصلاح ثلثيها" انتهى.
ثانيا:
الذي يقتضيه المنهاج الدقيق في البحث العلمي أننا نأخذ آراء أصحاب كل مذهب من كتب أصحاب المذهب نفسه دون غيرها من الكتب , فليس من المنهج العلمي الدقيق أن نعمد إلى كتب المالكية لتحرير مذهب الشافعية – مثلا - في مسألة من المسائل , بل لو أردنا أن نحرر مذهب الشافعية في مسألة , فعلينا أن نذهب إلى كتب الشافعية أنفسهم , فهذا هو العدل , وهو ما يقتضيه المنهج العلمي الدقيق .
فإذا ذهبنا نحرر هذا النقل الذي نقله هؤلاء العلماء عن الإمام مالك - إمام دار الهجرة - من خلال كتب المذهب المالكي , لوجدنا أن فقهاء المالكية ينفونه عن الإمام مالك وينكرون نسبته إليه , ولا يثبتونه له في كتاب من كتبهم , ولنأخذ مثالا بفقيه كبير ومحقق نحرير من فقهاء المالكية وهو الإمام شهاب الدين القرافي - رحمه الله
فقد قال في "نفائس الأصول شرح المحصول" (9/ 4092)
: "وأما ما نقله من إباحة الدماء والأموال بما قاله ، فالمالكية لا يساعدونه على صحة هذا النقل عن مالك ، وكذلك ما نقله عن الإمام في البرهان من أن مالكاً يجيز قتل ثلث الأمة لصلاح الثلثين ، المالكيةُ ينكرون ذلك إنكاراً شديداً، ولم يوجد في كتبهم ، إنما هو في كتب المخالف لهم ، ينقله عنهم ، وهم لم يجدوه أصلاً". انتهى.
وقال ابن الشماع : " مَا نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَذْهَبِ , وَلَمْ يُخْبِرْ أَنَّهُ رَوَاهُ نَقَلَتُهُ ، إنَّمَا أَلْزَمَهُ ذَلِكَ ، وَقَدْ اضْطَرَبَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي ذِكْرِهِ ذَلِكَ عَنْهُ كَمَا اتَّضَحَ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ الْبُرْهَانِ"
انتهى من "منح الجليل شرح مختصر خليل" (7 / 513) .
وما ذكر هنا من أن هذا النقل ، إنما ذكروه عن مالك ، على طريق : "الإلزام" ، لمذهبه ، لا على طريق النقل والراوية ، قد سبق واضحا مبينا عن الإمام أبي بكر ابن العربي المالكي ، رحمه الله ، قال : " .. نسب الخراسانيون الحنفيون والشافعيون إلى مالك : أن هلاك بعض الأمة في الاستصلاح واجب .
وهو بريء من ذلك ؛ وإنما سمعوا من قوله اعتبار المصلحة ، فاعتبروها بزعمهم حتى بلغوا بها إلى هذا الحد ، وكان من حقهم - لجلالة أقدارهم في العلم ، من سعة حفظهم ، ودقة فهمهم - أن يتفطنوا لمقصده بالمصلحة ، وأن يجروها مجراها ، ويقفوا بها حيث انتهت ...."
انتهى من "القبس شرح الموطأ" (3/932) .
ويقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله –
: " أما دعواهم على مالك أنه يجيز قتل ثلث الأمة لإصلاح الثلثين , وأنه يجيز قطع الأعضاء في التعزيرات , فهي دعوى باطلة لم يقلها مالك ولم يروها عنه أحد من أصحابه، ولا توجد في شيء من كتب مذهبه كما حققه القرافي، ومحمد بن الحسن البناني وغيرهما، وقد درسنا مذهب مالك زمناً طويلاً وعرفنا أن تلك الدعوى باطلة "
انتهى من كتاب "المصالح المرسلة" صفحة (10).
وقال الشيخ الشنقيطي - رحمه الله - أيضا
في "مذكرة في أصول الفقه" (1 / 203):
" وما ذكره المؤلف رحمه الله من أن مالكاً - رحمه الله - أجاز قتل الثلث لإصلاح الثلثين ذكره الجويني وغيره عن مالك , وهو غير صحيح , ولم يروه عن مالك أحد من أصحابه , ولم يقله مالك كما حققه العلامة محمد بن الحسن البناني في حاشيته على شرح عبد الباقي الزرقاني لمختصر خليل" انتهى .
وقد أنصف الإمام مالكا في ذلك : جمع المحققين من غير المالكية .
قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (3 / 211):
" حُكِي أن مالكا أجاز قتل ثلث الخلق لاستصلاح الثلثين ، ومحافظة الشرع على مصلحتهم بهذا الطريق غير معلوم , قلت: لم أجد هذا منقولا فيما وقفت عليه من كتب المالكية ، وسألت عنه جماعة من فضلائهم، فقالوا: لا نعرفه " انتهى.
وقال الزركشي - رحمه الله –
: " قال الإمام (الجويني) فِي الْبُرْهَانِ ": وَأَفْرَطَ فِي الْقَوْلِ بِهِ حَتَّى جَرَّهُ إلَى اسْتِحْلَالِ الْقَتْلِ , وَأَخْذِ الْمَالِ لِمَصَالِحَ تَقْتَضِيهَا فِي غَالِبِ الظَّنِّ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهَا مُسْتَنِدًا، وَحَكَاهُ غَيْرُهُ قَوْلًا قَدِيمًا عَنْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْعِزِّ الْمُقْتَرِحُ فِي حَوَاشِيهِ عَلَى الْبُرْهَانِ ": إنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَمْ يَصِحَّ نَقْلُهُ عَنْ مَالِكٍ ، هَكَذَا قَالَهُ أَصْحَابُهُ ، وَأَنْكَرَهُ ابْنُ شَاسٍ أَيْضًا فِي التَّحْرِيرِ عَلَى الْإِمَامِ وَقَالَ: أَقْوَالُهُ تُؤْخَذُ مِنْ كُتُبِهِ وَكُتُبِ أَصْحَابِهِ، لَا مِنْ نَقْلِ النَّاقِلِينَ"
انتهى من "البحر المحيط في أصول الفقه" (8 / 84).
وقد جاء عن أحد أعلام المالكية الكبار وهو المازري ما يفهم منه تصحيح نقل الجويني عن مالك في هذه المسألة , جاء في "مواهب الجليل " (5 / 430):
" قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: وَذَكَرَ أَبُو الْمَعَالِي أَنَّ مَالِكًا كَثِيرًا مَا يَبْنِي مَذْهَبَهُ عَلَى الْمَصَالِحِ، وَقَدْ قَالَ: إنَّهُ يُقْتَلُ ثُلُثُ الْعَامَّةِ لِمَصْلَحَةِ الثُّلُثَيْنِ . الْمَازِرِيُّ: (وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي عَنْ مَالِكٍ صَحِيحٌ) انْتَهَى. وَفِي بَعْضِ نُسَخِ التَّوْضِيحِ وَلَكِنَّهُ فِي تَضْمِينِ الصُّنَّاعِ، وَانْظُرْ كَلَامَ الْقَرَافِيِّ فِي آخِرِ شَرْحِ الْمَحْصُولِ فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ بِكَلَامٍ حَسَنٍ، وَأَنْكَرَ مَا ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ إنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ فَتَأَمَّلْهُ " انتهى.
ولكن عند التدقيق نجد أن المازري - رحمه الله -
لا يقصد تصحيح القول بقتل ثلث الخلق عن مالك , بل يقصد أن يصحِّح ما جاء في أول كلام الجويني وهو أن مالكا - رحمه الله تعالى - كثيرا ما يبني مذهبه على المصالح
, جاء في "منح الجليل" (7 / 513):
" وَقَوْلُ الْمَازِرِيِّ مَا حَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي صَحِيحٌ رَاجِعٌ لِأَوَّلِ الْكَلَامِ , وَهُوَ أَنَّهُ كَثِيرًا مَا يَبْنِي مَذْهَبَهُ عَلَى الْمَصَالِحِ لَا إلَى قَوْلِهِ نُقِلَ عَنْهُ قَتْلُ الثُّلُثِ " انتهى.
ولما رأى بعض علماء المالكية كثرة النقول عن مالك في هذه المسألة حاولوا تأويلها – على فرض صحة النقل – وحملوا هذا على أن المراد قتل ثلث المفسدين إذا تعين طريقا لإصلاح بقيتهم , ولكن محققي المذهب أنكروا هذا أيضا ولم يستجيزوا قتل ثلث المفسدين ,
جاء في "منح الجليل" (7 / 514):
" وَأَمَّا تَأْوِيلُ " ز " بِأَنَّ الْمُرَادَ قَتْلُ ثُلُثِ الْمُفْسِدِينَ إذَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِإِصْلَاحِ بَقِيَّتِهِمْ : فَغَيْرُ صَحِيحٍ ، وَلَا يَحِلُّ الْقَوْلُ بِهِ ، فَإِنَّ الشَّارِعَ إنَّمَا وَضَعَ لِإِصْلَاحِ الْمُفْسِدِينَ الْحُدُودَ عِنْدَ ثُبُوتِ مُوجِبَاتِهَا، وَمَنْ لَمْ تُصْلِحْهُ السُّنَّةُ فَلَا أَصْلَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَمِثْلُ هَذَا التَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ هُوَ الَّذِي يُوقِعُ كَثِيرًا مِنْ الظَّلَمَةِ الْمُفْسِدِينَ فِي سَفْكِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ الْفَسَادِ " انتهى .
وينظر أيضا للفائدة : "التحقيق والبيان في شرح البرهان" للإبياري (4/172-173) .
والله أعلم
*عبدالرحمن*
2018-03-25, 04:47
الرد على شبهة: أن كل شيء في الإسلام
يمكن الاجتهاد فيه وتأويله !!
السؤال :
نظراً لأني أعيش في دولة غربية فعادة ما ألتقي ببعض المسلمين الذين يعيشون حسب أهوائهم فتراهم يعيشون حسب نمط الحياة الغربية وقيمها ويختارون ما يناسبهم من الفتاوى وعند نصحي لهم بأنّ ذلك لا يجوز وأذكر لهم قول الله سبحانه وتعالى: ( يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة
ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من تشبه بقوم فهو منهم ) يكون ردهم عادة: كل شيء في الإسلام يمكن الاجتهاد فيه وتأويله...فكيف يمكن الرد على ذلك وكيف يمكن نصح هؤلاء الناس؟
الجواب :
الحمد لله
هذا الكلام بهذا الإطلاق ؛ هو كلام باطل ومن الضلال ولا يقول به مسلم ؛ وبيان ذلك كالآتي :
النصوص الشرعية على ضربين :
الضرب الأول من النصوص الشرعية :
ما كان معناها مجمعا عليه بين جميع المسلمين ، كالنصوص الآمرة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت ، وكنصوص توحيد الله تعالى وإثبات الجنة والنار وقيام الساعة وغيرها الكثير من الآيات والأحاديث النبوية ، فأمثال هذه الآيات المجمع على معناها من أَوَّلَها بتأويل يخالف ما عليه الإجماع فقد اتبع سبيلا غير سبيل المؤمنين .
قال الله تعالى :
( وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) النساء / 115.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" قال - الله تعالى - : ( وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ) قال العلماء: من لم يكن متبعا سبيلهم كان متبعا غير سبيلهم ، فاستدلوا بذلك على أن اتباع سبيلهم واجب ، فليس لأحد أن يخرج عما أجمعوا عليه "
انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 7 / 173 ) .
الضرب الثاني من النصوص الشرعية :
نصوص اختلف أهل العلم في تأويلها .
فهذه لا يجوز تأويلها إلا بضوابط :
الضابط الأول : أن يكون هذا التأويل ليس بخارج عن تفسير السلف الصالح لها .
قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" من فسر القرآن أو الحديث ، وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله ، ملحد في آيات الله ، محرف للكلم عن مواضعه ، وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد ، وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام "
انتهى من " مجموع الفتاوى " (13/ 243).
وقال السيوطي رحمه الله تعالى :
" لا شك أن المجتهد يحرم عليه إحداث قول لم يقل به أحد ، واختراع رأي لم يسبق إليه ولهذا كان من شروط الاجتهاد معرفة أقوال العلماء من الصحابة فمن بعدهم ، إجماعا واختلافا ، لئلا يخرق الإجماع فيما يختاره "
انتهى من " صون المنطق " ( ص 47 ) .
الضابط الثاني : أن يكون المتأول متبعا في تأويله القواعد العلمية ولا يكون متبعا هواه ، ومن هذه القواعد ؛ يجب أن يكون التأويل موافقا لما تقتضيه لغة العرب وعاداتهم في الكلام زمن نزول القرآن لأن بهذه اللغة جاء القرآن وجاءت السنة .
قال الشاطبي رحمه الله تعالى
:
" القرآن نزل بلسان العرب على الجملة ، فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة ، لأن الله تعالى يقول: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) .
وقال: ( بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ) .
وقال: ( لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ) .
وقال: ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ) .
إلى غير ذلك مما يدل على أنه عربي وبلسان العرب ، لا أنه أعجمي ولا بلسان العجم ، فمن أراد تفهمه ، فمن جهة لسان العرب يفهم ، ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة "
انتهى من " الموافقات " ( 2 / 102 ) .
وقال رحمه الله تعالى :
" معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها حالة التنزيل ، وإن لم يكن ثَمَّ سبب خاص = لا بد لمن أراد الخوض في علم القرآن منه ، وإلا وقع في الشُّبه والإشكالات التي يتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة "
انتهى من " الموافقات " ( 4 / 154 ) .
ويجب أن يكون التأويل موافقا للثابت من نصوص الكتاب والسنة .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
" فالتأويل الذي يوافق ما دلت عليه النصوص وجاءت به السنة ويطابقها : هو التأويل الصحيح. والتأويل الذي يخالف ما دلت عليه النصوص وجاءت به السنة : هو التأويل الفاسد .
ولا فرق بين باب الخبر والأمر في ذلك ، وكل تأويل وافق ما جاء به الرسول فهو المقبول ، وما خالفه فهو المردود "
انتهى . " الصواعق المرسلة " ( 1 / 187 ) .
الضابط الثالث : أن يكون المتأول ؛ ممن له حق الاجتهاد في تفسير كلام الله تعالى ، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ويمتلك من العلم ما يؤهله لذلك .
قال الله تعالى :
( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) النحل / 43 .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى :
" وعموم هذه الآية فيها مدح أهل العلم ، وأن أعلى أنواعه العلم بكتاب الله المنزل . فإن الله أمر من لا يعلم بالرجوع إليهم في جميع الحوادث ، وفي ضمنه تعديل لأهل العلم وتزكية لهم حيث أمر بسؤالهم ، وأن بذلك يخرج الجاهل من التبعة "
انتهى من " تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان " ( ص 441 ) .
وعَنْ عُرْوَةَ ، قَالَ: حَجَّ عَلَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْزِعُ العِلْمَ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاكُمُوهُ انْتِزَاعًا ، وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ العُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ ، فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ ، يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ ، فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ ) رواه البخاري ( 7307 ) ومسلم ( 2673 ) .
قال ابن حجر رحمه الله تعالى :
" ومعنى الحديث : ذم من أفتى مع الجهل ولذلك وصفهم بالضلال والإضلال "
انتهى من " فتح الباري " ( 13 / 287 ) .
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-25, 04:52
ضابط المشقة الجالبة للتخفيف في الشريعة
وكيف يعرف الشخص أن ما نزل به يوجب التخفيف
السؤال :
ما هو ضابط المشقة والحرج الجالب للتخفيف في الشريعة ؟ يعني كيف نعرف أن هذه المشقة معتبرة لكي نأخذ بالرخصة .
الجواب :
الحمد لله
أولا:
المشقة التي تجلب التخفيف في الشريعة على قسمين
:
1- الضرورة :
وهي بلوغ الشخص حدا إن لم يتناول المحظور هلك أو قارب الهلاك ،
جاء في " المنثور في القواعد الفقهية " (2 / 319) :
" فالضرورة: بلوغه حدا إن لم يتناول الممنوع هلك ، أو قارب ، كالمضطر للأكل واللبس ؛ بحيث لو بقي جائعا أو عريانا لمات ، أو تلف منه عضو ، وهذا يبيح تناول المحرم " انتهى .
وفي " كشف الأسرار شرح أصول البزدوي " (4 / 398) :
" ومعنى الضرورة في المخمصة : أنه لو امتنع عن التناول يخاف تلف النفس أو العضو ، فمتى أكره بالقتل أو بقطع العضو على الأكل أو الشرب : فقد تحققت الضرورة المبيحة لتناول الميتة ؛ لأنه خاف على نفسه أو عضو من أعضائه ، فدخل تحت النص" انتهى.
وعرف المالكية الضرورة بقولهم : " هِيَ الْخَوْفُ عَلَى النَّفْسِ مِنْ الْهَلَاكِ ، عِلْمًا أَوْ ظَنًّا " .
انتهى من " الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي " (2 / 115) .
وفي " الموسوعة الفقهية الكويتية " (22 / 161)
: هي " حَالَةٌ مِنَ الْخَطَرِ أَوِ الْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ تطرأ على المكلف ، تَجْعَلُهُ يَخَافُ مِنْ حُدُوثِ أَذًى بِالنَّفْسِ ، أَوْ بِالْعِرْضِ ، أَوْ بِالْعَقْل ، أَوْ بِالْمَال ، أَوْ بِتَوَابِعِهَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ - عِنْدَئِذٍ - أَوْ يُبَاحُ لَهُ : ارْتِكَابُ الْحَرَامِ ، أَوْ تَرْكُ الْوَاجِبِ ، أَوْ تَأْخِيرُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ فِي غَالِبِ الظَّنِّ ، ضِمْنَ قُيُودِ الشرع " انتهى بتصرف يسير.
والضرورة تبيح الترخص وارتكاب المحظور لا مطلقا ، بل وفق قيود الشرع ، وبرهان ذلك قوله تعالى : ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) البقرة/ 173.
ومن أمثلة الضرورة التي تبيح الترخص ، المخمصة المؤدية إلى الهلاك ، فإنها تبيح الأكل من المحرم ، والإكراه فإنه يبيح التلفظ بكلمة الكفر ، والغصة الشديدة التي يخشى منها الهلاك فإنها تبيح إساغتها بالخمر
2- الحاجة :
وتطلق على الافتقار ، وهي حالة من المشقة تطرأ على المكلف بحيث لو لم يتناول المحظور لم يهلك ، ولكنه يكون في ضيق وجهد
\
جاء في " الموسوعة الفقهية الكويتية " (16 / 247) :
" الْحَاجَةُ تُطْلَقُ عَلَى الاِفْتِقَارِ ، وَعَلَى مَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ ، وَاصْطِلاَحًا هِيَ - كَمَا عَرَّفَهَا الشَّاطِبِيُّ - مَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ التَّوْسِعَةُ ، وَرَفْعُ الضِّيقِ الْمُؤَدِّي فِي الْغَالِبِ إِلَى الْحَرَجِ ، وَالْمَشَقَّةِ اللاَّحِقَةِ بِفَوْتِ الْمَصْلَحَةِ ، فَإِذَا لَمْ تُرَاعَ ، دَخَل عَلَى الْمُكَلَّفِينَ - عَلَى الْجُمْلَةِ - الْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ ، وَيَعْتَبِرُهَا الأْصُولِيُّونَ مَرْتَبَةً مِنْ مَرَاتِبِ الْمَصْلَحَةِ ، وَهِيَ وَسَطٌ بَيْنَ الضَّرُورِيِّ وَالتَّحْسِينِيِّ " انتهى.
مما سبق يعلم أنه يوجد فرق بين الضرورة والحاجة ، فالضرورة فوق الحاجة
جاء في " الموسوعة الفقهية الكويتية " (16 / 247) :
" وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ ، أَنَّ الْحَاجَةَ وَإِنْ كَانَتْ حَالَةَ جَهْدٍ وَمَشَقَّةٍ ، فَهِيَ دُونَ الضَّرُورَةِ ، وَمَرْتَبَتُهَا أَدْنَى مِنْهَا ، وَلاَ يَتَأَتَّى بِفَقْدِهَا الْهَلاَكُ " انتهى .
وكما أن الضرورة تبيح الترخص ، فكذلك الحاجة تبيح الترخص أيضا ؛ ولذا ذكر أهل العلم أن الحاجة ، خاصة كانت أو عامة ، تنزل منزلة الضرورة
جاء في " الموسوعة الفقهية الكويتية "(16 / 256) :
" الْحَاجَةَ الْعَامَّةَ أَوِ الْخَاصَّةَ : تُنَزَّل مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ . وَمَعْنَى كَوْنِ الْحَاجَةِ عَامَّةً أَنَّ النَّاسَ جَمِيعًا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا فِيمَا يَمَسُّ مَصَالِحَهُمُ الْعَامَّةَ مِنْ تِجَارَةٍ وَزِرَاعَةٍ وَصِنَاعَةٍ وَسِيَاسَةٍ عَادِلَةٍ وَحُكْمٍ صَالِحٍ . وَمَعْنَى كَوْنِ الْحَاجَةِ خَاصَّةً : أَنْ يَحْتَاجَ إِلَيْهَا فَرْدٌ أَوْ أَفْرَادٌ مَحْصُورُونَ ، أَوْ طَائِفَةٌ خَاصَّةٌ ، كَأَرْبَابِ حِرْفَةٍ مُعَيَّنَةٍ ، وَالْمُرَادُ بِتَنْزِيلِهَا مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ : أَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي الأْحْكَامِ ، فَتُبِيحُ الْمَحْظُورَ ، وَتُجِيزُ تَرْكَ الْوَاجِبِ ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَثْنَى مِنَ الْقَوَاعِدِ الأْصْلِيَّة " انتهى.
ثانيا:
مواطن الرخصة في الشريعة : منه ما هو معلوم محدد ، كالمخمصة فإنها تبيح تناول المحرم ، وكالسفر ، فإنه يبيح القصر في الصلاة والفطر في الصيام وترك الجمعة ، وكالمرض فإنه يبيح الفطر في الصيام ، وترك القيام في الصلاة المفروضة ، وكالإكراه فإنه يبيح التلفظ بكلمة الكفر ، ونحو ذلك .
ومنه ما هو غير محدد ، بل يختلف باختلاف حاجة كل شخص ، وحاله وظروفه ، وحينئذ فالواجب على الشخص الذي نزلت به النازلة ، إن لم يكن من أهل العلم : أن يقصد عالما ورعا ، فيستفتيه ، ثم يعمل بما أفتاه به .
والله أعلم.
*عبدالرحمن*
2018-03-25, 04:55
شروط إباحة المحرم عند الضرورة
السؤال :
أعرف أن من الأمور ما تكون حراماً ثم لظروف معينة تصير حلالاً بدافع الضرورة ، أرجو أن تدلني على شروط ذلك .
الجواب :
الحمد لله
من القواعد المقررة في شريعتنا أن " الضرورات تبيح المحظورات " ، وقد دل على هذه القاعدة أدلة كثيرة ، من الكتاب ، والسنَّة ، منها : قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) البقرة/ 173 .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله :
(فَمَنِ اضْطُرَّ) أي : ألجئ إلى المحرَّم ، بجوع ، أو عدم [يعني : عدم وجود طعام غير الميتة] ، أو إكراه .
(غَيْرَ بَاغٍ) أي : غير طالب للمحرَّم ، مع قدرته على الحلال ، أو مع عدم جوعه .
(وَلا عَادٍ) أي : متجاوز الحد في تناول ما أبيح له اضطراراً ، فمَن اضطر وهو غير قادر على الحلال ، وأكل بقدر الضرورة : فلا يزيد عليها .
(فَلا إِثْمَ) أي : جناح عليه ، وإذا ارتفع الجناح - الإثم - : رجع الأمر إلى ما كان عليه ، والإنسان بهذه الحالة مأمور بالأكل ، بل منهي أن يلقي بيده إلى التهلكة ، وأن يقتل نفسه ، فيجب إذًا عليه الأكل ، ويأثم إن ترك الأكل حتى مات ، فيكون قاتلاً لنفسه , وهذه الإباحة والتوسعة من رحمته تعالى بعباده ، فلهذا ختمها بهذين الاسمين الكريمين المناسبين غاية المناسبة فقال : (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
ولما كان الحِلُّ مشروطاً بهذين الشرطين ، وكان الإنسان في هذه الحالة ربما لا يستقصي تمام الاستقصاء في تحقيقها : أخبر تعالى أنه غفور ، فيغفر ما أخطأ فيه في هذه الحال ، خصوصاً وقد غلبته الضرورة ، وأذهبت حواسه المشقة .
وفي هذه الآية دليل على القاعدة المشهورة : " الضرورات تبيح المحظورات " ، فكل محظور اضطر إليه الإنسان : فقد أباحه له الملك الرحمن ، فله الحمد والشكر ، أولاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً .
" تفسير السعدي " ( ص 81 ) .
ومن أدلة السنَّة :
عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّا بِأَرْضٍ تُصِيبُنَا بِهَا مَخْمَصَةٌ ، فَمَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ الْمَيْتَةِ ؟ قَالَ : (إِذَا لَمْ تَصْطَبِحُوا وَلَمْ تَغْتَبِقُوا وَلَمْ تَحْتَفِئُوا بَقْلًا فَشَأْنُكُمْ بِهَا) رواه أحمد (36/227) ، وحسنه المحققون لطرقه وشواهده .
تصطبحوا : المراد به الغداء .
تغتبقوا : المراد به العشاء .
تحتفئوا : بقلا . أي : تجمعوا بقلاً وتأكلوه .
وقد مَثَّل العلماء على الضرورات تبيح المحظورات – غير أكل الميتة عند المخمصة - : إساغة اللقمة بالخمر , والتلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه , ودفع المعتدي ولو أدى إلى قتله .
انظر : "الأشباه والنظائر" ( ص 85 ) لابن نجيم .
والضرورة التي تبيح فعل المحرم هي :
ما يلحق العبد ضرر بتركه - وهذا الضرر يلحق الضروريات الخمس : الدِّين ، والنفس ، والنسل ، والعقل ، والمال .
وأما شروط إباحة المحرم للضرورة فقد قال الدكتور عبد الله التهامي – وفقه الله - في بيان ذلك :
"هناك شروط ، وقيود ، لا بد من حصولها في حالةٍ ما ؛ ليسوغ تسميتها ضرورة شرعية ، ولا يمكن أن تكون تلك الحالة ضرورة شرعية مع تخلف شيء من هذه الضوابط ، وإليك بيان هذه الضوابط ، مع الاستدلال لها :
1. أن يترتب على الامتثال للدليل الراجح المحرّم ضرر متعلق بإحدى الكليات الخمس ، كأن تتعرض نفسه للهلاك إن لم يأكل من الميتة .
2. أن يكون حصول الضرر أمراً قاطعاً ، أو ظنًّا غالباً ، ولا يلتفت إلى الوهم والظن البعيد ، كأن يكون المضطر في حالة تسمح له بانتظار الطعام الحلال الطيب ، فلا يقدم على تناول الميتة والحالة كذلك حتى يجزم بوقوع الضرر على نفسه ، فيجوز حينها تناول الميتة ، ودليل ذلك : ما علم في الشريعة من أن الأحكام تناط باليقين والظنون الغالبة ، وأنه لا التفات فيها إلى الأوهام ، والظنون المرجوحة البعيدة .
3. ألاّ يُمكن دفع هذا الضرر إلا بالمخالفة ، وعدم الامتثال للدليل المحرِّم ، فإن أمكن المضطر أن يدفع هذا الضرر بأمرين أحدهما جائز والآخر ممنوع : حرُم عليه ارتكاب المخالفة للدليل المحرم ، ووجب عليه دفع الضرر بالأمر الجائز ، كأن يغص بلقمة وأمامه كأسان من الماء ، والخمر .
4. ألا يعارِض هذه الضرورة عند ارتكابها ما هو أعظم منها ، أو مثلها ، كأن يأكل المضطر طعام مضطر آخر ، ووجه ذلك : ما ورد من قواعد مثل : " الضرر لا يزال بمثله" انتهى من "مجلة البيان" (عدد 120 ، ص 8) .
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله : "ليس هناك ضرورة تبيح المحرم إلا بشرطين :
1. أن نعلم أنه لا تزول ضرورته إلا بهذا .
2. أن نعلم أن ضرورته تزول به" انتهى .
"لقاء الباب المفتوح" (3/19) .
وعلى هذا ، فشروط إباحة المحرم للضرورة هي :
1- وجود الضرورة .
2- ألا توجد وسيلة لدفع الضرر إلا بفعل هذا المحرم .
3- أن يكون فعل المحرم مزيلاً للضرورة قطعاً ، فإن حصل شك هل تزول الضرورة بهذا الفعل أم لا؟ فلا يجوز فعل المحرم حينئذ .
4- ألا يعارض هذه الضرورة ما هو مثلها أو أعظم منها .
والله أعلم
*عبدالرحمن*
2018-03-25, 04:59
ترجيح الشيخ ابن عثيمين رحمه الله
في الوضوء من مس الذكر
السؤال:
قرأت كلاما للشيخ محمد بن عثيمين في عدة مواضع عن مسألة الوضوء من مس ذكره ، ورأيته رجح عدم وجوب الوضوء على من مس ذكره بدون شهوة ، ولكن في كتاب الأصول من علم الأصول قرأت له كلاما فهمت منه ترجيح العمل بحديث من مس ذكره فليتوضأ ، وذلك في باب التعارض من كتاب الأصول من علم الأصول ، فما هو مذهب الشيخ محمد بن عثيمين في هذه المسألة ؟
الجواب :
الحمد لله
مذهب الشيخ ابن عثيمين رحمه الله هو الجمع بين حديثي طلق بن علي : ( إنما هو بضعة منك) ، وبين حديث بسرة بنت صفوان : ( من مس ذكره فليتوضأ ) ، وذلك بأن يحمل الأمر في حديث بسرة على الوجوب إذا كان المس بشهوة ، وإذا كان المس لغير شهوة فإنه يستحب الوضوء ممن مس الذكر ولا يجب .
وكلام الشيخ رحمه الله في شرح كتاب "الأصول" كان مجرد نقل لكلام العلماء الذين رجحوا حديث بسرة على حديث طلق ، ثم ختم الشيخ رحمه الله الكلام ببيان الراجح عنده فقال : " ولكن بعض العلماء يقول : إن الجمع ممكن فيكون من القسم الأول ، وقالوا : إن الترجيح متعذر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل في الحديث الثاني بعلة لا يمكن رفعها ، وهي قوله : ( إنما هو بضعة منك ) ، فإذا ثبت الحكم لعلة لا تزول
لا يمكن رفعه ؛ لأنه يستلزم تكذيب هذه العلة ، مع أنها ثابتة ، فكما أنك لو لمست أذنك أو لمست فخذك أو لمست قدمك لم ينتقض الوضوء ، لأن ذلك بضعة منك ، فكذلك إذا لمست عضوك ، فما علل بعلة موجودة لا يمكن انتقالها فإنه لا يمكن أن ينسخ الحكم المعلق بهذه العلة ؛ لأنه يلزم تكذيب تعليل الحكم بهذه العلة مع قيامها ، وهذا شيء مستحيل ، ولهذا قالوا : إنه يجب الجمع... " إلى أن قال : " والأقرب أن الوضوء ليس بواجب ولكنه مستحب إلا إذا كان لشهوة ، فإن الأقرب الوجوب . ومع ذلك لو أن أحدا مس ذكره بشهوة ثم صلى بدون وضوء ، لم نأمره بالإعادة ، لاحتمال أن يكون الأمر على الاستحباب مطلقا " .
انتهى من " شرح الأصول من علم الأصول " (ص595-596) .
وقد فصَّل الشيخ رحمه الله الكلام في هذه المسألة في " شرح بلوغ المرام " (1/258-261) .
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-25, 05:04
مس الذكر هل ينقض الوضوء؟
السؤال
أعلم أن الغسل من الجنابة يجزئ عن الوضوء سواء توضأ الجنب قبل الغسل أم لم يتوضأ ولكن ماذا عن مس الذكر والإليتين أثناء الغسل ؟ فهل هذا يوجب الوضوء بعد انتهاء الغسل ؟
الجواب
الحمد لله
إذا اغتسل الجنب ومس ذكره أثناء الاغتسال ، هل يجب عليه الوضوء أم لا ؟
ينبني هذا على اختلاف العلماء في نقض الوضوء بمس الذكر ، فمن رأى أنه ناقض أوجب عليه الوضوء ، ومن رأى أنه غير ناقض فلا يوجب عليه الوضوء .
قال في "الشرح الممتع" :
" واختلف العلماء رحمهم الله في مس الذكر والقبل هل ينقض الوضوء أم لا ؟ على أقوال :
القول الأول : وهو المذهب ( أي : مذهب الإمام أحمد) أنه ينقض الوضوء ، واستدلوا بما يلي :
1- حديث بسرة بنت صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من مس ذكره فليتوضأ) .
2-حديث أبي هريرة رضي الله عنه : (إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره ؛ ليس دونها ستر فقد وجب عليه الوضوء) ، وفي رواية : (إلى فرجه) .
3-أن الإنسان قد يحصل منه تحرك شهوة عند مس الذكر ، أو القبل فيخرج منه شيء وهو لا يشعر ، فما كان مظنة الحدث علق الحكم به كالنوم .
القول الثاني : أن مس الذكر لا ينقض الوضوء ، واستدلوا بما يلي :
1 حديث طلق بن علي أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يمس ذكره في الصلاة : أعليه وضوء ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (لا ، إنما هو بضعة منك) .
2 أن الأصل بقاء الطهارة ، وعدم النقض ، فلا نخرج عن هذا الأصل إلا بدليل متيقن . وحديث بسرة وأبي هريرة ضعيفان ، وإذا كان فيه احتمال ؛ فالأصل بقاء الوضوء . قال صلى الله عليه وسلم : (لا ينصرف حتى يسمع صوتا ، أو يجد ريحا) فإذا كان هذا في السبب الموجب حسا ، فكذلك السبب الموجب شرعا ، فلا يمكن أن نلتفت إليه حتى يكون معلوما بيقين .
القول الثالث : أنه إن مسه بشهوة انتقض الوضوء وإلا فلا ، وبهذا يحصل الجمع بين حديث بسرة ، وحديث طلق بن علي ، وإذا أمكن الجمع وجب المصير إليه قبل الترجيح والنسخ ؛ لأن الجمع فيه إعمال الدليلين ، وترجيح أحدهما إلغاء للآخر .
ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : (إنما هو بضعة منك) لأنك إذا مسست ذكرك بدون تحرك شهوة صار كأنما تمس سائر أعضائك ، وحينئذ لا ينتقض الوضوء ، وإذا مسسته لشهوة فإنه ينتقض ؛ لأن العلة موجودة ، وهي احتمال خروج شيء ناقض من غير شعور منك ، فإذا مسه لشهوة وجب الوضوء ، ولغير شهوة لا يجب الوضوء ؛ ولأن مسه على هذا الوجه يخالف مس بقية الأعضاء .
وجمع بعض العلماء بينها بأن الأمر بالوضوء في حديث بسرة للاستحباب ، والنفي في حديث طلق لنفي الوجوب ؛ بدليل أنه سأل عن الوجوب فقال : (أعليه) وكلمة : (على) ظاهرة في الوجوب .
القول الرابع : وهو اختيار شيخ الإسلام أن الوضوء من مس الذكر مستحب مطلقا ، ولو بشهوة .
وإذا قلنا : إنه مستحب ، فمعناه أنه مشروع وفيه أجر ، واحتياط ، وأما دعوى أن حديث طلق بن علي منسوخ ، لأنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبني مسجده أول الهجرة ، ولم يعد إليه بعد . فهذا غير صحيح لما يلي :
1- أنه لا يصار إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع ، والجمع هنا ممكن .
2 - أن في حديث طلق علة لا يمكن أن تزول ، وإذا ربط الحكم بعلة لا يمكن أن تزول فإن الحكم لا يمكن أن يزول ؛ لأن الحكم يدور مع علته ، والعلة هي قوله : (إنما هو بضعة منك) ولا يمكن في يوم من الأيام أن يكون ذكر الإنسان ليس بضعة منه ، فلا يمكن النسخ .
3 - أن أهل العلم قالوا : إن التاريخ لا يعلم بتقدم إسلام الراوي ، أو تقدم أخذه ؛ لجواز أن يكون الراوي حدث به عن غيره .
بمعنى : أنه إذا روى صحابيان حديثين ظاهرهما التعارض ، وكان أحدهما متأخرا عن الآخر في الإسلام ، فلا نقول : إن الذي تأخر إسلامه حديثه يكون ناسخا لمن تقدم إسلامه ، لجواز أن يكون رواه عن غيره من الصحابة ، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث به بعد ذلك .
والخلاصة :
أن الإنسان إذا مس ذكره استحب له الوضوء مطلقا ، سواء بشهوة أم بغير شهوة ، وإذا مسه لشهوة فالقول بالوجوب قوي جدا ، لكني لا أجزم به ، والاحتياط أن يتوضأ" انتهى .
ثم جزم الشيخ رحمه الله في شرح "بلوغ المرام" (1/259)
أن مس الذكر بشهوة ناقض للوضوء ، ومسه بدون شهوة غير ناقض .
وعلى هذا القول ؛ فمن مس ذكره بشهوة أثناء الاغتسال من الجنابة وجب عليه الوضوء بعد انتهاء الغسل ، وإذا كان مسه بلا شهوة فلا يلزمه الوضوء .
ثانياً
:
مس الأليتين لا ينقض الوضوء ، والخلاف إنما هو في مس حلقة الدبر ، لأنه قد ورد حديث بسرة بنت صفوان بلفظ : (من مس فرجه فليتوضأ) رواه النسائي (444) وابن ماجه (481) وصححه الألباني في صحيح النسائي .
فالخلاف في مس حلقة الدبر كالخلاف في مس الذكر .
وأما ما جاور ذلك فمسه لا ينقض الوضوء ، كمس الخصيتين والصفحتين .
قال الإمام الشافعي رحمه الله في "الأم" (1/34) :
" فإن مس أنثييه أو أليتيه أو ركبتيه ولم يمس ذكره لم يجب عليه الوضوء " انتهى .
وقال النووي رحمه الله في "المجموع" (2/42) :
" قال أصحابنا : والمراد بالدبر ملتقى المنفذ , أما ما وراء ذلك من باطن الأليين فلا ينقض بلا خلاف " انتهى .
وقال ابن قدامة رحمه الله :
" ولا ينتقض الوضوء بمس ما عدا الفرجين من سائر البدن , كالرُّفغ والأنثيين والإبط , في قول عامة أهل العلم ; لأنه لا نص في هذا ولا هو في معنى المنصوص عليه فلا يثبت الحكم فيه "
انتهى باختصار من "المغني" (1/119) . والرُّفْغ : ما حول الفرج ، أو أصول الفخذين من باطن . "مختار الصحاح".
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-25, 05:08
معنى حديث : إن الله يحب أن تؤتى رخصه ... الحديث
السؤال:
هل من الممكن أن تشرح لي الحديث التالي بفهم سلف هذه الأمة ، الحديث هو : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : ( إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه ، كما يكره أن تؤتى معصيته ) رواه أحمد ، حديث رقم (5832) ؟
الجواب:
الحمد لله
أولا :
( الرُّخَص ) جمع ( رُخصة ) ، وهي في اللغة : التسهيل والتيسير ، يُقال : " رخَّص الشرعُ لنا في كذا ": إذا يسَّره وسهَّله ،
ينظر: " المصباح المنير" للفيومي (1/223).
وهي في اصطلاح علماء أصول الفقه : "ما ثبتَ على خلاف دليل شرعي لمعارِض راجح "
انتهى من " شرح الكوكب المنير " لابن النجار (1/478).
ويُقابلها: العزيمة .
مثال ذلك: إفطار المسافِر في نهار رمضان ؛ فالصوم فرض ، وثبتَت فيه الرُّخصة للمسافِر بدليل خاص ؛ وهو قوله تعالى: ( وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) البقرة/ 185 .
ومثاله أيضا : التيمُّم رخصة في الطهارة ، لمَن لم يجد الماء ؛ فالأصل في الطهارة المياه ، لكن رُخِّص في التيمُّم بدليل شرعي لمَن لم يجد الماء ؛ لقوله تعالى: ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ) المائدة/ 43 .
وأكل المَيتة للمضطر رخصة ، والأصل في أكل الميتة التحريم ، لكن أُبيحَت للضرورة ؛ لقول الله تعالى: ( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) البقرة/ 173.
فالشَّرع سهَّل على المسافِر في أمر الصِّيام بالفِطْر ، وسهَّل على فاقِد الماء أمرَ الطهارة بالتيمُّم ، وسهَّل على المضطر أكل الميتة ؛ لأجل العُذْر الحاصل لهم .
ثانيا :
وفي ضوء ما سبق ، نفهم من هذا الحديث: أنَّ الله عزَّ وجلَّ يُحِبُّ للمسلِم أن يأخذَ بالرُّخَص الشرعيَّة التي رخَّصها لعباده ، رحمةً بهم ؛ كما قال تعالى: ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) البقرة/ 185.
فلا ينبغي للعبد أن يأنف عن قَبولِ ما أباحَه الشرعُ ووَسَّع فيه ، ويستنكف عن أن يترخص في خاصة نفسه ، حين الحاجة إلى مثل هذه الرخص ، بحدودها الشرعية ؛ فهذا ممَّا يكرَهه الله عزَّ وجلَّ ؛ كما يكرَه أن يتعدَّى الإنسانُ حدودَ الله فيأتي المعصية ؛ وفي هذا تأكيدٌ لمشروعية الرخص ، وحث على قَبولها والتيسير بها ، وعدم التعنت والإشقاق بتركها .
قال الشوكاني - رحمه الله -
: "وفيه [أي: في الحديث] أنَّ الله يحب إتيان ما شرعَه من الرُّخَص ، وفي تشبيه تلك المحبة بكراهته لإتيان المعصية : دليلٌ على أنَّ في تَرْكِ إتيانِ الرُّخصة ، ترك طاعة ، كالترك للطاعة الحاصل بإتيان المعصية "
انتهى من "نيل الأوطار" (3/244).
والأخذ بالرُّخَص الشرعيَّة
" فيه دفع التكبُّر والترفُّع من استباحة ما أباحته الشريعة ، ومَن أنِفَ ما أباحه الشرعُ ، وترفَّعَ عنه : فسدَ دينُه ؛ فأُمِرَ بفِعْلِ الرُّخصة ؛ ليدفع عن نفسه تكبُّرها ، ويقتل بذلك كِبرها ، ويقهر النفس الأمارة بالسوء على قَبول ما جاء به الشرع"
انتهى من " فيض القدير " للمناوي (2/296).
وقد ثبتَ في الحديث ، عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ : " قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (النساء: 101) ، فَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ ؟ فَقَالَ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتُ مِنْهُ ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: ( صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ ؛ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ ) رواه مسلم (686).
وليس المقصود بأخذ الرُّخَص : تتبع رُخَص المذاهب الفقهيَّة وأقوال العلماء ، واختيار الأسهل منها ؛ بل المراد الرُّخَص الشرعيَّة التي جاء الدليلُ الشرعيّ بالترخيص فيها.
ثالثا :
عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه من الأسماء والصفات , وما أثبته له نبيُّه صلى الله عليه وسلم ، من غير تشبيه ولا تمثيل ، ولا تكييف ولا تعطيل .
فنعتقد أنَّ الله عزَّ وجلَّ يُحِبُّ ويكرَه ، ويرضى ويغضب ، كما جاء في النُّصوص الشرعيَّة ؛ كقوله تعالى: ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )البقرة/195 ، وقوله : ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) المائدة/ 54 ، وقوله : ( وَلَكِنْ كَرِهَ الله انْبِعَاثَهُمْ ) التوبة/ 46 .
وقوله عزَّ وجلَّ : ( رَضيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) البيِّنة/ 8 ، وقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ ) الممتحنة/ 13.
فيجب إثبات ذلك لله تعالى على الوَجه الذي يليق بجلال الله تعالى وعظمته وكماله ، من غير تشبيه ولا تمثيل ، ولا تكييف ولا تعطيل .
والله أعلم .
و اخيرا
الحمد لله الذي بفضلة تتم الصالحات
اخوة الاسلام
اكتفي بهذا القدر و لنا عوده
ان قدر الله لنا البقاء و اللقاء
و اسال الله ان يجمعني بكم دائما
علي خير
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين
*عبدالرحمن*
2018-03-27, 15:56
اخوة الاسلام
أحييكم بتحية الإسلام
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
https://d.top4top.net/p_7927bchs1.gif (https://up.top4top.net/)
حكم ما سنَّهُ الخلفاء الراشدون
وهل وقع منهم تمثيل بالقتلى ؟
السؤال:
قرأت في كتاب الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم سطراً لم أفهم له تفسيراً قط ، فقد ورد في فصل ( جواز الحكم في السلطنة بالسياسة الشرعية وأنه الحزم ) في الصفحة 22 من بعض النسخ ، والذي يظهر أنه اقتباس من ابن عقيل في كتابه الفنون ما نصه : " وقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن " . السؤال هل تم فعلا من الخلفاء الراشدين تمثيلا ؟ أم أني أسأت فهم النص ؟
وتعليقا على هذا السؤال . هل يعتبر أي عمل فعله الخلفاء الراشدين سنة تقتدى ؟ ولو كانت سبقا ؟
الجواب :
الحمد لله
أولا :
التَّمْثِيل والمُثْلَة : هي العقوبة بقطع أطراف الإنسان أو تشويه خلقته ونحو ذلك .
قال ابنُ الأثير رحمه الله تعالى :
" يقال : مَثَلْتُ بالحيوان أمْثُل به مَثْلاً ، إذا قطعت أطرافه وشوّهت به ، ومَثَلْت بالقَتيل ، إذا جَدَعْت ( أي قطعت ) أنفه ، أو أذنه ، أو مذاكيره ، أو شيئاً من أطرافه . والاسم : المُثْلة . فأمَّا مَثَّل ، بالتشديد ، فهو للمبالَغة "
انتهى من " النهاية في غريب الحديث " ( 4 / 294 ) .
والأصل في المثلة عدم الجواز ، لثبوت النهي عنها في عدد من الأحاديث الصحيحة ، منها :
عن عَدِيّ بْن ثَابِتٍ قَالَ : " سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : ( أَنَّهُ نَهَى عَنِ النُّهْبَةِ وَالْمُثْلَةِ ) " رواه البخاري ( 5516 ) .
وعن بريدة رضي الله عنه قال قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ ، اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا وَلاَ تَغْدِرُوا وَلاَ تَمْثُلُوا وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا ...) رواه مسلم ( 1731 ) .
لكن يستثنى من هذا النهي حالة كون المثلة على سبيل القصاص والمعاملة بالمثل .
قال الله تعالى : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ ) النحل / 126.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : " فأمّا التّمثيل في القتل فلا يجوز إلّا على وجه القصاص ، وقد قال عمران بن حصين رضي اللّه عنهما : " مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً إلَّا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ ، وَنَهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ " ، حتى الكفار إذا قتلناهم فإنا لا نمثل بهم بعد القتل ، ولا نجدع آذانهم وأنوفهم ، ولا نبقر بطونهم إلا أن يكونوا فعلوا ذلك بنا فنفعل بهم مثل ما فعلوا ، والتّرك أفضل كما قال اللّه تعالى : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ ) "
انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 28 / 314 ) .
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى :
" وقد أباح اللَّه تعالى للمسلمين أن يمثّلوا بالكفّار إذا مثّلوا بهم ، وإن كانت المثلة منهيّا عنها . فقال تعالى : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) وهذا دليل على أنّ العقوبة بجدع الأنف وقطع الأُذن ، وبقر البطن ونحو ذلك هي عقوبة بالمثل ليست بعدوان ، والمثل هو العدل "
انتهى من " عون المعبود مع حاشية ابن القيم على سنن أبي داود " ( 12 / 278 ) .
والخلفاء الراشدون في جهادهم وإقامتهم للحدود كانوا متبعين للسنة فلم يكونوا يمثلون بالقتلى ، وإنما روي عنهم ذلك في حوادث نادرة لمصلحة شرعية رأوها أو رأي ترجح عندهم وبعضها ليس بثابت عنهم ، فصحّ أن عليا رضي الله عنه حرق الزنادقة بالنار.
فعَنْ عِكْرِمَةَ : " أَنَّ عَلِيًّا رضى الله عنه حَرَّقَ قَوْمًا ، فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ : لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ ، لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ ) ، وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ) " رواه البخاري ( 3017 ) .
وكما روي أن أبابكر رضي الله عنه حرق اللوطية وبعض البغاة .
روى البيهقي بسنده في " السنن الكبرى " ( 8 / 405 ) عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ : " أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ، كَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي خِلَافَتِهِ يَذْكُرُ لَهُ أَنَّهُ وَجَدَ رَجُلًا فِي بَعْضِ نَوَاحِي الْعَرَبِ يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ جَمَعَ النَّاسَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ
فَكَانَ مِنْ أَشَدِّهِمْ يَوْمَئِذٍ قَوْلًا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، قَالَ: إِنَّ هَذَا ذَنْبٌ لَمْ تَعْصِ بِهِ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ ، صَنَعَ اللهُ بِهَا مَا قَدْ عَلِمْتُمْ ، نَرَى أَنْ نُحَرِّقَهُ بِالنَّارِ ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ يُحَرِّقَهُ بِالنَّارِ ، فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ يَأْمُرُهُ أَنْ يُحَرِّقَهُ بِالنَّارِ ) .
وقال البيهقي : " هَذَا مُرْسَلٌ " .
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى :
" قصّة الفُجَاءَةِ.
وَاسْمُهُ إِيَاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عُمَيْرَةَ بْنِ خُفَافٍ ، من بَنِي سُلَيْمٍ ، قاله ابن إِسحاق ، وقد كان الصِّدِّيق حرَّق الْفُجَاءَةَ بالبقيع في المدينة ، وكان سببه أنّه قدم عليه فزعم أنّه مسلم ، وسأل منه أن يجهّز معه جيشا يقاتل به أهل الرّدّة ، فجهّز معه جيشا ، فلمّا سار جعل لا يمرّ بمسلم ولا مرتدّ إلّا قتله وأخذ ماله ، فلمّا سمع الصّدّيق بعث وراءه جيشا فردّه ، فلمّا أمكنه بعث به إلى البقيع ، فجمعت يداه إلى قفاه وألقي في النّار، فحرَّقه وهو مقموط [ أي قد ربطت يداه بالحبل] "
انتهى من " البداية والنهاية " ( 9 / 456 – 457 ) .
ثانيا :
جاء الأمر النبوي باتباع سنة الخلفاء الراشدين .
فعن العرباض بن سارية رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ) رواه أبو داود (3991) ، وصححه الألباني في " مشكاة المصابيح " برقم (165) .
وسنة الخلفاء الراشدين تشمل معنيين :
المعنى الأول : عموم طريقتهم وسيرتهم في التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته .
قال علي القاري رحمه الله تعالى :
"( فعليكم بسنتي ) اسم فعل بمعنى الزموا ، أي بطريقتي الثابتة عني واجبا أو مندوبا ( وسنة الخلفاء الراشدين ) فإنهم لم يعملوا إلا بسنتي ؛ فالإضافة إليهم إما لعملهم بها ، أو لاستنباطهم واختيارهم إياها "
انتهى . " مرقاة المفاتيح " ( 1 / 373 ) .
وقال الشوكاني رحمه الله تعالى :
" رسول الله صلى الله عليه وسلم خاطب أصحابه أن يقتدوا بما يشاهدونه يفعله من سنته ، وبما يشاهدون من أفعال الخلفاء الراشدين فإنهم المبلغون عنه العارفون بسنته المقتدون بها ، فكل ما يصدر عنهم في ذلك صادر عنه " .
انتهى من " الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني " ( 5 / 2181 – 2182 ) .
المعنى الثاني : ما أفتوا به أو قضوا به في مسائل جزئية معينة .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
" فقرن سنة خلفائه بسنته ، وأمر باتباعها كما أمر باتباع سنته ، وبالغ في الأمر بها حتى أمر بأن يعض عليها بالنواجذ ، وهذا يتناول ما أفتوا به وسنوه للأمة وإن لم يتقدم من نبيهم فيه شيء ، وإلا كان ذلك سنته ، ويتناول ما أفتى به جميعهم أو أكثرهم أو بعضهم لأنه علق ذلك بما سنه الخلفاء الراشدون ، ومعلوم أنهم لم يسنوا ذلك وهم خلفاء في آن واحد ، فعلم أن ما سنه كل واحد منهم في وقته فهو من سنة الخلفاء الراشدين "
انتهى من " إعلام الموقعين " ( 5 / 581 ) .
واتباع ما أفتوا به أو قضوا به إذا لم يخالفوا في ذلك نصا من نصوص الكتاب والسنة ؛ فيه تفصيل كالآتي :
1- سنة الخلفاء الراشدين ، التي لم يعرف أن أحدا من الصحابة خالفهم فيها فهذه عدّها أهل العلم حجة .
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" والذي لا ريب فيه أنَّ ما كان من سنَّة الخلفاء الراشدين الذي سنوه للمسلمين ، ولم ينقل أنَّ أحداً من الصحابة خالفهم فيه ، فهذا لا ريب أنَّه حجَّة بل إجماع ، وقد دلَّ عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ) " .
انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 20 / 573 – 574 ) .
2- ما أفتى أو قضى به أحد الخلفاء الراشدين وخالفه غيره من الخلفاء الراشدين .
ففهي هذه الحالة لا يكون قول أحدهما أولى من الآخر فيرجح بين أقوالهم .
3- ما أفتى به أحد الخلفاء الراشدين ولم يخالفه أحد من الخلفاء الراشدين ؛ وإنما خالفه غيرهم من الصحابة .
فاختلف أهل العلم في هذا ، فذهب جماعة من أهل العلم إلى أن قول الخليفة الراشد مقدم على غيره .
قال ابن رجب رحمه الله تعالى :
" ولو قال بعض الخلفاء الأربعة قولا ، ولم يخالفه منهم أحد ، بل خالفه غيره من الصّحابة ، فهل يقدم قوله على قول غيره ؟ فيه قولان أيضا للعلماء ، والمنصوص عن أحمد أنّه يقدم قوله على قول غيره من الصّحابة ، وكذا ذكره الخطابي وغيره ، وكلام أكثر السّلف يدل على ذلك " .
انتهى من " جامع العلوم والحكم " ( 2 / 776 ) .
وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" فما رواه أو قاله الخلفاء حجة على من خالفهم ، لا سيما الصديق لقوله صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ) ، وقوله : ( إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا ) "
انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 25 / 9 ) .
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-27, 16:01
بعض الأدلة من الكتاب والسنة على حجية الإجماع .
السؤال:
ما هي الأدلة من القرآن والأحاديث النبوية على أن إجماع العلماء يستخدم كدليل في التشريع الإسلامي ؟
الجواب :
الحمد لله
الإجماع الصحيح أحد مصادر التشريع الإسلامي ، فإذا ثبت الإجماع فهو حجة شرعية ملزمة ، لا يجوز لأحد مخالفته .
وقد دل على حجية الإجماع أدلة كثيرة من القرآن الكريم والسنة النبوية .
فمن أدلة القرآن الكريم :
- قوله تعالى : ( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) النساء/ 115 .
قال ابن كثير رحمه الله :
" وَالَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً تَحْرُم مُخَالَفَتُهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ ، بَعْدَ التَّرَوِّي وَالْفِكْرِ الطَّوِيلِ ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الِاسْتِنْبَاطَاتِ وَأَقْوَاهَا " .
انتهى من "تفسير ابن كثير" (2/ 413) .
ووجه الدلالة من الآية : أن الله تعالى توعد من اتبع غير سبيل المؤمنين بالعذاب ؛ فدل ذلك على وجوب اتباع سبيل المؤمنين ، وهو ما أجمعوا عليه .
- وقال تعالى : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) البقرة/ 143 .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ الْخِيَارُ وَقَدْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَأَقَامَ شَهَادَتَهُمْ مَقَامَ شَهَادَةِ الرَّسُولِ ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ : وَجَبَتْ وَجَبَتْ ، ثُمَّ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ : وَجَبَتْ وَجَبَتْ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا قَوْلُك وَجَبَتْ وَجَبَتْ ؟ قَالَ : ( هَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا خَيْرًا فَقُلْت : وَجَبَتْ لَهَا الْجَنَّةُ ، وَهَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا شَرًّا فَقُلْت : وَجَبَتْ لَهَا النَّارُ . أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ ) .
فَإِذَا كَانَ الرَّبُّ قَدْ جَعَلَهُمْ شُهَدَاءَ لَمْ يَشْهَدُوا بِبَاطِلِ ، فَإِذَا شَهِدُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِشَيْءٍ فَقَدْ أَمَرَ بِهِ، وَإِذَا شَهِدُوا أَنَّ اللَّهَ نَهَى عَنْ شَيْءٍ فَقَدْ نَهَى عَنْهُ ، وَلَوْ كَانُوا يَشْهَدُونَ بِبَاطِلٍ أَوْ خَطَأٍ لَمْ يَكُونُوا شُهَدَاءَ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ ، بَلْ زَكَّاهُمْ اللَّهُ فِي شَهَادَتِهِمْ كَمَا زَكَّى الْأَنْبِيَاءَ فِيمَا يُبَلِّغُونَ عَنْهُ أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ عَلَيْهِ إلَّا الْحَقَّ ، وَكَذَلِكَ الْأُمَّةُ لَا تَشْهَدُ عَلَى اللَّهِ إلَّا بِحَقٍّ ، وَقَالَ تَعَالَى : ( وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ ) وَالْأُمَّةُ مُنِيبَةٌ إلَى اللَّهِ فَيَجِبُ اتِّبَاعُ سَبِيلِهَا " .
انتهى من "مجموع الفتاوى" (19 /177-178) .
- قوله تعالى : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) النساء/ 59 .
فقوله : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ ) يدل على أن ما أجمعوا عليه لا يجب رده إلى الكتاب والسنة اكتفاء بالإجماع المنعقد .
ومن الأدلة من السنة على حجية الإجماع :
-ما رواه الترمذي (2167) عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ ، وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الجَمَاعَةِ ) وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" .
ورواه ابن أبي عاصم في " السنة " (83) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ : ( إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَجَارَ أُمَّتِي أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى ضَلَالَةٍ ) " .
وصححه الألباني في " صحيح الجامع " (1786) .
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث بملازمة جماعة المسلمين ، ونهى عن مخالفتهم ومفارقتهم ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : ( لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الجَمَاعَةَ شِبْرًا فَيَمُوتُ ، إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً ) وروى البخاري (7143) ، ومسلم (1849) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ ) رواه أبو داود (4758) ، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود " .
قال الإمام الشافعي رحمه الله :
" وأمْرُ رسول الله بلزوم جماعة المسلمين مما يُحتج به في أن إجماع المسلمين - إن شاء الله - لازمٌ "
انتهى من "الرسالة" (1/ 403) .
وقال ابن قدامة رحمه الله :
" وهذه الأخبار لم تزل ظاهرة مشهورة في الصحابة والتابعين ، لم يدفعها أحد من السلف والخلف. وهي وإن لم تتواتر آحادها، حصل لنا بمجموعها العلم الضروري: أن النبي صلى الله عليه وسلم عظم شأن هذه الأمة ، وبين عصمتها عن الخطأ " .
انتهى من "روضة الناظر" (1/ 387) .
فهذا بعض ما احتج به أهل العلم من أدلة الكتاب والسنة على أن الإجماع حجة شرعية
.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" إجماع الأمة على شيء إما أن يكون حقا وإما أن يكون باطلا ، فإن كان حقا فهو حجة ، وإن كان باطلا فكيف يجوز أن تجمع هذه الأمة التي هي أكرم الأمم على الله منذ عهد نبيها إلى قيام الساعة على أمر باطل لا يرضى به الله ؟ ! هذا من أكبر المحال " .
انتهى من "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (11/ 63) .
والله تعالى أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-27, 16:06
لماذا كان إعفاء اللحية واجبا وصبغها
مندوبا رغم أنهما وردا بصيغة الأمر؟
السؤال :
تُعتبر اللحية واجبة ، عملاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( خالفوا الكفار ، حفوا الشوارب وأعفوا اللحى ) ، ثم نجد النبي صلى الله عليه وسلم في حديث صبغ الشعر يقول : ( اليهود والنصارى لا يصبغون شعورهم فخالفوهم ). ويؤخذ الأمر في هذا الحديث على الندب ، مع أن الأمر في كلا الحديثين متشابه .
فلماذا جعلناه واجباً في حديث اللحية ، ومندوباً في حديث الصبغ ، فهذه مسألة يثيرها من يقول بعدم وجوب إعفاء اللحية ، فأرجوا منكم التوضيح ؟
الجواب :
الحمد لله
هناك فروق ظاهرة بين الأمر بإعفاء اللحية ، والأمر بخضاب الشيب الوارد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إِنَّ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى لاَ يَصْبُغُونَ ، فَخَالِفُوهُمْ ) رواه البخاري (3462) ، ومسلم (2103)، يمكن أن نجمل ذلك في ثلاثة أمور :
أولا :
الأمر بإعفاء اللحية لم ترد فيه قرينة تصرفه عن الوجوب إلى الندب ، فلم يرد ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد من أمره بإعفاء اللحية الندب والاستحباب .
أما الأمر بخضاب الشيب فقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غالب أحواله بغير خضاب ، رغم وجود شعرات بيضاء يسيرات في رأسه ولحيته الشريفة عليه الصلاة والسلام .
عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: " رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْيَضَ قَدْ شَابَ كَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يُشْبِهُهُ " رواه البخاري (3544) ، ومسلم (2343) واللفظ له .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " َلَمْ يَخْتَضِبْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إِنَّمَا كَانَ الْبَيَاضُ فِي عَنْفَقَتِهِ وَفِي الصُّدْغَيْنِ وَفِي الرَّأْسِ نَبْذٌ " رواه مسلم (2341) .
يقول الشيخ ابن باز رحمه الله – رادا على كاتب يستدل على عدم وجوب إعفاء اللحية بعدم وجوب صبغ الشيب -:
" جوابه أن يقال : إن الأصل وجوب الامتثال ، ومخالفة اليهود والنصارى بصبغ الشيب ، ولكنه تُرك ذلك لما ورد من الأحاديث الدالة على أن الأمر بتغيير الشيب للندب لا للوجوب ، وبذلك لا يبقى له ولا لغيره من القائلين بعدم اقتضاء الأمر الوجوب حجة في الحديثين المذكورين ؛ لأن محل البحث هو الأمر المجرد ، أما الأمر الذي ورد في الأدلة الشرعية ما يدل على أنه قد أريد به الندب لا الوجوب ، فليس محل البحث عند الجميع " .
انتهى من " مجموع فتاوى ابن باز " (25/340) .
ثانيا :
إعفاء اللحية في قول جمهور الفقهاء من الواجبات ، بل نقل ابن حزم الإجماع على حرمة حلقها ، وإن كان في إثبات هذا الإجماع مقال ، فقد خالف بعض فقهاء الشافعية ، وآخرون في ذلك ، ولكن المقصود هو بيان الفرق بين إعفاء اللحية ، وهذا حكمها ، وبين صبغ الشيب الذي نقل الإمام الطبري رحمه الله الإجماع على عدم وجوبه
فقال رحمه الله :
" [لا] أرى تارك تغييره - وإن كان جميع ما في رأسه ولحيته من الشعر قد ابيض - آثما بترك تغييره ، إذ كان الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بتغيير ذلك ندبا لا فرضا ، وإرشادا لا إيجابا ... لإجماع سلف الأمة وخلفها على ذلك ... سئل سفيان عن رجل يشيب نصف شعره أو أكثر أو أقل ، متى يستحب له أن يغيره ؟ وهل في ذلك وقت ؟ قال : أي ذلك فعل فحسن ، وليس لذلك وقت " ا
نتهى من " تهذيب الآثار " تحقيق علي رضا (ص/518)
وقد نقل الإمام النووي رحمه الله هذا الإجماع عن الطبري في كتابه " شرح مسلم " (14/80) مقرا له وساكتا عليه .
ثالثا :
ثبت عن كثير من الصحابة الكرام ترك الشيب على بياضه من غير صبغ ولا خضاب ، منهم عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما ، كما روى ذلك الطبري في المرجع السابق ، أما إعفاء اللحية فلم يثبت عن أحد من الصحابة الكرام أنه كان يحلقها .
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله - في حديث ( إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوه )-: " هذا الأمر للاستحباب ، وظاهره أنه للوجوب لأن الأصل في مخالفة اليهود الوجوب ، ولكن نظرا إلى أن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - من كبرائهم- كانوا لا يخضبون ، واشتهر ذلك بينهم ولم ينكر ، يدل على أنهم فهموا أن الأمر للاستحباب وليس للوجوب " .
انتهى " شرح كتاب اللباس من صحيح البخاري " ( نقلا عن ملتقى أهل الحديث).
والخلاصة : أنه لا مقارنة بين وجوب إعفاء اللحية ، واستحباب تغيير الشيب بالخضاب ، ولا يجوز أن يجعل أحد الحُكمَين حَكَمًا على الآخر ، فلكل منهما سببه وتعليله ، حتى وإن اشتركا في صيغة من صيغ الأمر ، أو علة من علله .
رابعا :
ثم إن الأحاديث الصحيحة الواردة في الحث على إعفاء اللحية آكد وأكثر من تلك الواردة بالأمر بصبغ الشيب ، فقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم من سنن الفطرة ، وأخبر أن الله عز وجل أمره بإعفاء اللحية ، مستنكرا على من رآه يحلقها
كما روى الطبري بإسناده في " تاريخه " (2/655) عن رسولي كسرى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وَقَدْ حَلَقَا لِحَاهُمَا
وَأَعْفَيَا شَوَارِبَهُمَا ، فَكَرِهَ النَّظَرَ إليهما ، ثم أَقْبَلَ عَلَيْهِمَا فَقَالَ : ( وَيْلَكُمَا ! مَنْ أَمَرَكُمَا بِهَذَا ؟ ) ، قَالا : أَمَرَنَا بِهَذَا رَبُّنَا - يَعْنِيَانِ كِسْرَى- فَقَالَ رسول الله : ( لَكِنَّ رَبِّي قَدْ أَمَرَنِي بِإِعْفَاءِ لِحْيَتِي وَقَصِّ شَارِبِي ") " . وحسنه الألباني في تخريجه أحاديث " فقه السيرة " للغزالي (ص/360) .
أما صبغ الشيب فعلى العكس ، اختلفت فيه الأحاديث ، فوردت فيها الروايات التي تنهى عن صبغه ، وتأمر بتركه على حاله ، في أسانيدها ضعف ، ولكن كثيرا من العلماء تحدثوا في فقهها والتوفيق بينها وبين الأحاديث الصحيحة الواردة في الأمر بالصبغ .
والحاصل : أن الأسباب الأربعة الآنفة الذكر ، كلها فوارق مهمة ، تدفع الفقيه إلى التفريق بين المسألتين ، وعدم التزام القول بحكم واحد للحية وصبغ الشيب ، إما الوجوب وإما الندب ، بل تعفى اللحية وجوبا على اختلاف بين العلماء ، ويصبغ من شاء شيبه ، استحبابا وندبا ، ولا يجب عليه ذلك .
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-27, 16:12
ما هو الفرق بين الركن والسنة ؟
السؤال :
أريد أن أعرف الفرق بين الركن والسنة .
الجواب :
الحمد لله
الركن والسنة بينهما فرق كبير ، فالركن واجب أو فرض وزيادة ، فهو ما لا يوجد الشيء إلا به ، وكان جزءا منه ، فمن ترك ركنا متعمدا فهو آثم لكونه ترك فرضا أو واجبا ، ومع هذا الإثم لا تصح عبادته أو معاملته .
كمن ترك السجود في الصلاة ، فهو آثم ولا تصح صلاته ، بل لو تركه ناسيا أو جاهلا لم تصح صلاته ، ولكنه لا يأثم في حال الجهل والنسيان .
وأما السنة فتطلق على عدة معانٍ .
منها : أنها مرادفة للمستحب والمسنون ، وهو ما أمر به الشارع من غير إلزام بالفعل .
فإذا تركها المسلم لا يأثم ، ولا تؤثر على صحة صلاته وعبادته ، غير أنه يكون قد فَوَّت على نفسه الثواب المترتب على فعلها .
وتطلق السنة أيضا بمعنى الطريقة ، وهي بهذا المعنى شاملة للدين كله وأحكامه كلها ، وهذا المعنى هو الذي قصده الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : ( فَعَلَيْكم بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ) رواه الترمذي (2676) وصححه الألباني في " صحيح الترمذي ".
أي : عليكم بطريقتي وطريقة الخلفاء الراشدين في التمسك بأحكام هذا الدين والعمل بها .
انظر : " الأصول من علم الأصول " للشيخ ابن عثيمين (ص 8) ، " الشرح الممتع " (3/292) .
وقال أبو يعلى الفراء الحنبلي في " العدة " : (1/165-166) .
"وأما السنة : فما رسم ليحتذى ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) . ولا فرق بين أن يكون هذا المرسوم واجبًا أو غير واجب ..
.
وأما الغالب على ألسنة الفقهاء إطلاق السنة على ما ليس بواجب ، وعلى هذا ينبغي أن يقال: ما رسم ليحتذى استحبابًا " انتهى .
وقال الشوكاني :
"معنى السنة في اصطلاح أهل الشرع هي قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره ، وتطلق بالمعنى العام على الواجب وغيره ...
وأما في عرف أهل الفقه فإنما يطلقونها على ما ليس بواجب ، وتطلق على ما يقابل البدعة ، كقولهم : فلان من أهل السنة "
انتهى من " إرشاد الفحول" ص 68 .
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-27, 16:23
ما هي الشريعة ؟
السؤال :
ما هي الشريعة ؟
الجواب :
الحمد لله
أولا :
الشريعة هي الدين كله ، الذي اصطفاه الله لعباده ليخرجهم به من الظلمات إلى النور ، وهو ما شرعه لهم وبينه لهم من الأوامر والنواهي والحلال والحرام ، فمن اتبع شريعة الله فأحل حلاله وحرم حرامه فقد فاز ، ومن خالف شريعة الله فقد تعرض لمقته وغضبه وعقابه .
قال الله تعالى : ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) الجاثية/ 18.
قال الخليل بن أحمد رحمه الله :
" الشَّريعة والشّرائع : ما شرع الله للعباد من أمر الدين ، وأمرهم بالتمسك به من الصلاة والصوم والحج وشبهه ، وهي الشِّرْعَةُ " .
انتهى من "العين" (1/ 253) ، وينظر "الصحاح" للجوهري (3/ 1236) .
وقال ابن حزم رحمه الله :
" الشريعة هي ما شرعه الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم في الديانة ، وعلى ألسنة الأنبياء عليهم السلام قبله ، والحكم منها للناسخ .
وأصلها في اللغة : الموضع الذي يتمكن فيه ورود الماء للراكب ، والشارب من النهر ، قال تعالى : ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) الشورى/ 13 " .
انتهى من "الإحكام" (1/ 46) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ الشَّرِيعَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِ بَلْ كُلُّ مَا يَصْلُحُ لَهُ فَهُوَ فِي الشَّرْعِ مِنْ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَأَحْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ وَسِيَاسَتِهِ وَمُعَامَلَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ هِيَ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنَّا ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) وَقَدْ أَوْجَبَ طَاعَتَهُ وَطَاعَةَ رَسُولِهِ فِي آيٍ كَثِيرٍ مِنْ الْقُرْآنِ ، وَحَرَّمَ مَعْصِيَتَهُ وَمَعْصِيَةَ رَسُولِهِ وَوَعَدَ بِرِضْوَانِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَجَنَّتِهِ عَلَى طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَأَوْعَدَ بِضِدِّ ذَلِكَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَمَعْصِيَةِ رَسُولِهِ
فَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنْ عَالِمٍ أَوْ أَمِيرٍ أَوْ عَابِدٍ أَوْ مُعَامِلٍ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا هُوَ قَائِمٌ بِهِ مِنْ عِلْمٍ أَوْ حُكْمٍ أَوْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ أَوْ عَمَلٍ أَوْ عِبَادَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَحَقِيقَةُ الشَّرِيعَةِ : اتِّبَاعُ الرُّسُلِ وَالدُّخُولُ تَحْتَ طَاعَتِهِمْ كَمَا أَنَّ الْخُرُوجَ عَنْهَا خُرُوجٌ عَنْ طَاعَةِ الرُّسُلِ وَطَاعَةُ الرُّسُلِ هِيَ دِينُ اللَّهِ " .
انتهى من "مجموع الفتاوى" (19/ 309) .
وقال علماء اللجنة الدائمة :
" الشريعة هي ما أنزل الله به كتبه ، وأرسل به رسله إلى الناس ، ليقوموا به على وجه التعبد به لله ، وابتغاء القربى إليه به ، وفق ما أمرتهم به رسلهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
والطريقة المعتبرة السائرة وفق هذا ، أي: وفق منهاج الله الذي أنزله على خاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم بقوله : ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) ، ووفق قوله صلى الله عليه وسلم : ( ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي ) فهي داخلة في الشريعة .
أما الطريقة المخالفة لهذا ؛ كالطرق الصوفية ، والتيجانية ، والنقشبندية، والقادرية، وغيرها، فهي طرق مبتدعة ، لا يجوز إقرارها ، ولا السير فيها إلى الله سبحانه " .
انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (2/ 219) .
والله تعالى أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-27, 16:26
هل يأثم إذا دل غيره على برامج مفيدة
لكن تظهر فيه صورة امرأة ؟
السؤال:
أنا أقوم بعمل أسطوانة فيها شروحات لبرامج خاصة بحجب المواقع الإباحية، والبرنامج الذي سوف أقوم بشرحه يتم تفعيله بصورة مجانية ، عليك فقط الدخول للموقع وطلب رمز تفعيل وعلى الفور يتم إرساله إلى بريدك ، ولكن الصفحة التي يتم فيها طلب التفعيل فيها صورة لفتاة صغيرة ، ومن بعيد هنالك صورة مشوشة قليلا لامرأة كبيرة تكتب
وإذا أردت أن تتصفح هذا الموقع أكثر ، سوف تجد في أحد الصفحات صورة واضحة لامرأة كبيرة ، بالتأكيد بدون حجاب .
فهل آخذ ذنبا لأنني أنا من دله على الموقع ، إذا نظر إلى هذه المرأة ؟
الجواب :
الحمد لله
إذا تحققت حاجة الشخص إلى هذا البرنامج ، أو غيره من البرامج المفيدة ، ولم يمكنه الحصول عليه ، أو الدخول على موضعه ، إلا بمشاهدة مثل هذه الصورة ، أو وجود موسيقى في صفحة البرنامج ، أو نحو ذلك ، فيقال هنا : إن احتمال مثل هذه المفاسد اليسيرة ، لأجل تحصيل مصلحة أعلى منها ، أو دفع مفسدة أكبر منها : أمر مشروع ، جاءت الشريعة بمثله في عامة مواردها .
قال ابن نجيم رحمه الله :
" إذَا تَعَارَضَ مَفْسَدَتَانِ : رُوعِيَ أَعْظَمُهُمَا ضَرَرًا بِارْتِكَابِ أَخَفِّهِمَا .
قَالَ الزَّيْلَعِيُّ : ثُمَّ الْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ مَنْ اُبْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ، وَهُمَا مُتَسَاوِيَتَانِ: يَأْخُذُ بِأَيَّتِهِمَا شَاءَ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا : يَخْتَارُ أَهْوَنَهُمَا ؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْحَرَامِ لَا تَجُوزُ إلَّا لِلضَّرُورَةِ ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ الزِّيَادَةِ " .
انتهى من "الأشباه والنظائر" (ص 76) .
وحينئذ : إذا كانت المصلحة المرجوة من مثل هذه البرامج ، أعلى من المفاسد التي توجد فيها ، وكانت الحاجة إليها عامة : فلا حرج عليك في دلالة غيرك عليه ، ولا تتحمل أنت إثم نظره إلى هذه الصور ، إذا نظر إليها .
ولو أمكنك أن تنبه من تدله ، إلى اتقاء هذه المفسدة : فهو أحسن ، وأبرأ لذمتك .
وأما إذا لم تدع الضرورة ، أو تتحقق الحاجة إلى مثل ذلك ، فلا داعي إلى فتح مثل هذه الأبواب على غيرك ؛ قال الحسن بن صالح رحمه الله : " إن الشيطان ليفتح للعبد تسعة وتسعين بابا من الخير يريد به بابا من السوء " .
انتهى من "حلية الأولياء" (7 /331) .
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-27, 16:29
هل يحرم عمله بنظام الورديات لما يسببه
عليه من ضرر قياسا على التدخين ؟
السؤال :
إن التدخين حرام بناءاً على ضرره ، فهل كلما قسنا الضرر والمنفعة ، وطغت المضار على المنافع ، قلنا : إن هذا حرام ، وسبب هذا السؤال أني أعمل في شركة وعملنا (ورديات) ، حيناً في النهار ، وحيناً في الليل ، وقد طغت المضار على المنافع في القياس .
فهل أبحث عن عمل آخر ؟
الجواب :
الحمد لله
نهت الشريعة المطهرة عن كل ما يؤذي الإنسان ، ويلحق به الضرر في دينه أو دنياه , وقد دل على هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار" أخرجه ابن ماجه (2340) ، وصححه الألباني في " غاية المرام " (68) .
يقول الشاطبي في " الموافقات " (3 / 185)"
الضرر والضرار : مبثوث منعه في الشريعة كلها، في وقائع جزئيات ، وقواعد كليات ؛ كقوله تعالى: (ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا) البقرة/ 231، ( ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن(الطلاق/ 6 ،(لا تضار والدة بولدها) البقرة/ 233 kومنه النهي عن التعدي على النفوس والأموال والأعراض ، وعن الغصب والظلم ، وكل ما هو في المعنى إضرار أو ضرار ، ويدخل تحته الجناية على النفس أو العقل أو النسل أو المال ؛ فهو معنى في غاية العموم في الشريعة لا مراء فيه ولا شك ، وإذا اعتبرت أخبار الآحاد وجدتها كذلك" انتهى.
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله :
" كل شيء يضر بالشخص في دينه أو دنياه : محرم عليه تعاطيه : من سم أو دخان أو غيرهما مما يضره ؛ لقول الله سبحانه وتعالى : ( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا ضرر ولا ضرار ) .
انتهى من " مجموع فتاوى ابن باز "(6/23-24).
ومن جملة الأشياء التي تسبب الضرر الدخان فقد ثبت يقينا ضرره وتسببه في الأمراض المزمنة الفتاكة , كما سبق بيانه في الفتوى رقم : (10922).
أما سؤالك أيها الأخ الكريم عن العمل بما يعرف بنظام الورديات ، بحيث يكون عمل الشخص أحيانا بالليل وأحيانا بالنهار ، فهذا وإن كان شاقا مرهقا لصاحبه ، إلا أنه لا يمكن الحكم بتحريمه قياسا على تحريم الدخان ؛ ووجه الفرق بينهما أن الدخان ضار بنفسه ، مسبب بذاته للأمراض المتلفة المهلكة
, أما السهر بالليل والعمل به ، وتغيير ساعات النوم فهو في الأصل من جملة المباحات , وإن تسبب عنه ضرر فعن طريق التبع , ثم هو متفاوت تفاوتا عظيما بين شخص وشخص ، ومازالت مثل تلك الأعمال شائعة في الناس ، يعملون مثلها في كل زمن ، دون نكير ، أو ضرر عام بها ، فلا يصح القياس الذي ذكرته بوجه معتبر .
ومع هذا ، فإن ثبت أن هذا الفعل ضار لشخص بعينه ، فينبغي له أن يجتنبه ، ويسعى في الحصول على عمل آخر ، بل يجب عليه ذلك ، متى تضرر بذلك ضررا ظاهرا .
فإذا كان الأمر ، على ما ذكرته : من أن المفاسد في عملك قد طغت على المصالح ، فما الذي يحملك على البقاء فيه ؟ فاتركه ، وابحث عن آخر أنسب لك ؛ وإن كنا نفضل لك ألا تتركه إلا بعد أن تجد البديل المناسب ؛ فإن مصلحة كف الوجه ، والاستغناء عن الناس بكسب اليد ، وإن كان متعبا شاقا : مصلحة عظيمة ، لا يقدرها حق قدرها ، إلا من احتاج إلى الناس ، وعانى ذل المسألة .
والله أعلم.
*عبدالرحمن*
2018-03-27, 16:34
هل يستمر في اتباع المذهب الحنفي
وكيف يتمكن من تمييز القول الصحيح ؟
السؤال :
نشأت في مجتمع بريلوي العقيدة وحنفي المذهب ، وقد أدركت مؤخراً أن هذه العقيدة فاسدة ، فتبت إلى الله ، وغيرت عقيدتي ، لكن عدم وجود علماء وأئمة على العقيدة الصحيحة في أوساط هذا المجتمع جعل الأمر عليّ في غاية الصعوبة ، وبالتالي يعسر عليّ تمييز القول الأرجح في كثير من المسائل . فما توجيهكم ؟
أمّا الفقه فقد تعرفت على كثير من مسائل الفقه الحنفي ، وسؤالي هو : هل أستمر في اتباع المذهب الحنفي مصحوباً بالعقيدة الصحيحة ؟
الجواب :
الحمد لله
توجيهنا لجميع المسلمين غير المختصين بالعلوم الشرعية أن يتمسكوا في تصوراتهم العقائدية وممارساتهم الشرعية العملية بالعصمة التي أمرهم الله عز وجل بها ، وكل الأمارات والعلامات التي تهدي إليها
وذلك يتمثل بما يلي :
أولا : بالكتاب والسنة الصحيحة ، ففيهما الهدى والنور ، وفيها العصمة من الزلل والخطأ ، ونحن على يقين أن الناس لا يمكنهم التدقيق في فهم الكتاب والسنة كما يصنع العلماء والفقهاء، ولكننا على يقين أيضا أن ثمة قدرا مشتركا يمكن لكل مسلم عاقل أن يفيده من القرآن الكريم ، وهو ما نسميه بـ " المحكمات " أو " جمل الثوابت " التي لا تخفى على كل قارئ لهذا الكتاب العظيم ، كالدعوة إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة
ونبذ الشرك والكفر ، والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ، والدعوة إلى الفضائل ومكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ، وحرمة الظلم والعدوان وقتل النفس والسرقة والزنا وشرب الخمر وأكل مال اليتيم وغيرها من كبائر الذنوب ومعايب الأخلاق
كل ذلك نجده ظاهرا واضحا في كتاب الله تعالى ، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته ، وقد قال الله عز وجل : ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) القمر/17، وقال سبحانه : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) محمد/24 ، فلو لم يكن القرآن واضحا وظاهرا في محكماته ومجملاته لكل من يقرؤه ويتدبره لما كان فيه إفادة ، ولكان كتاب نخبة لا يتناوله سوى طبقة خاصة من المثقفين ، وحينئذ يفقد نوره ومقصده الذي أنزل لأجله
وقد كان العربي الجاهلي من كفار قريش إذا وقف على آيات القرآن الكريم يستشعر ما فيها من هداية ونور ، ويفهم ما ترمي إليه من دعوة الحق والعدل والخير ، ولكن منهم من يؤمن ومنهم من يعاند ويستكبر ، فلن يكون المسلم الذي نشأ في أسرة مسلمة ، ويعيش اليوم في عصر العلم والعقل أبعد عن تفهم كتاب الله تعالى ، ومعرفة مقاصده الثابتة ، وأحكامه العامة ، وقواعده الشريفة .
ثانيا : الإفادة من العلماء والفقهاء الثقات المتوافرين اليوم والحمد لله ، وهم من شهدت لهم الأمة بالعلم والفهم والعمل ، وبلوغ درجة رفيعة في هذا المقام ، بفضل جهادهم ومصابرتهم وإخلاصهم لهذا الدين .
وعلامتُهم أن تجدهم دائما ما يستدلون بآيات الكتاب ، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، ويميزون صحيحها من سقيمها ، ويعلمون الناسخ والمنسوخ ، والخاص والعام .
ومن علامتهم أيضا أن تجدهم يقتدون بالسلف الصالحين ، من الصحابة والتابعين ، والأئمة المتبوعين ، فلا يخرجون عن هديهم العام ، وكل فتوى أو كلمة تصدر منهم يعزونها لأحد الأئمة السابقين ، كأبي بكر وعمر ، وسفيان والأوزاعي ، وأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ، ومن بعد هؤلا
من المحققين من أهل السنة وأتباع السلف الصالح ؛ كابن تيمية وابن كثير وابن رجب ، وأمثالهم من علماء الإسلام الذين لا يختلف المسلمون في إمامتهم وديانتهم .
ومن أبرز علامتهم العامة التي نرشد الناس إليها أنهم لا ينغلقون على طائفة ، ولا ينفردون عن الأمة باسم أو وصف ، بل انتسابهم لرحم هذه الأمة وعمقها الضارب في التاريخ الإسلامي كله، أما من ينتمي إلى فرقة عقائدية خاصة ، كالبريليوية أو الديوبندية أو القاديانية ونحوها ، أو ينفرد عن وصف "
أهل السنة والجماعة " باسم مستحدث وهيكل تنسُّكي خاص ، فغالبا ما يكون ذلك علامة على البدعة والخروج عن السنة ؛ إذ لو كان المعتقد الذي يحمله هو معتقد المسلمين من أهل السنة لما احتاج إلى أن يخرج إلى وصف آخر ، أو أن يتسمى بغير ما سماه الله به ، وقد قال الله عز وجل : ( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا
عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) الحج/78. أما الانتساب إلى الأعمال الدعوية للتعاون على برامج عملية ، فليس هو المحذور المقصود هنا ، وكذلك الانتساب الفقهي لأحد المذاهب الأربعة ، بل المقصود الانتساب العقائدي لفرقة تتبنى توجها عقائديا خاصا ، وتجتمع عليه ، وتوالي وتعادي عليه .
ثالثا : ومن أهم ما يمكن لغير المختصين أيضا اللجوء إليه : كصحيح البخاري ومسلم ، والسنن المعتمدة : أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة ، وكتب الإمام مالك والشافعي ، وغيرهما ، وما صح من كتب الإمام أبي حنيفة وغيره من أئمة الإسلام ؛ فلا حرج عليه في تقليدهم والأخذ بأقوالهم في الفقه والاعتقاد ، والقراءة في كتبهم والإفادة منها ، فهم حجة بينه وبين الله ، وقد أمره الله عز وجل بالأخذ عنهم ، فقال سبحانه : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) النحل/43.
وإن وقع خطأ منهم فهذا أمر لا يخلو منه بشر ، وهو خطأ مغفور بل مأجور بإذن الله ، فقد قال عليه الصلاة والسلام : ( إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ ) رواه البخاري (7352) ، ومسلم (1716).
فتمييز القول الراجح من بين أقوال أئمة الإسلام ليس بالأمر الميسور ، ولا يتسنى لكل أحد ، وليس واجبا على عامة المسلمين أن يسعوا إليه ، فذلك شأن خاص بالعلماء ، المهم أن المسلم لا يتتبع الأقوال الشاذة ، وهي محصورة ومعروفة ، ولا يأخذ إلا عمن شهدت له الأمة بالفضل والعلم والفهم .
يقول العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله:
" سمعت شيخنا ـ يعني : شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله يقول : جاءني بعض الفقهاء من الحنفية فقال : أستشيرك في أمر ! قلت : ما هو ؟ قال : أريد أن أنتقل عن مذهبي . قلت له : ولم ؟
قال : لأني أرى الأحاديث الصحيحة كثيرا تخالفه ، واستشرت في هذا بعض أئمة أصحاب الشافعي فقال لي : لو رجعت عن مذهبك لم يرتفع ذلك من المذهب ، وقد تقررت المذاهب ، ورجوعك غير مفيد ، وأشار عليَّ بعض مشايخ التصوف بالافتقار إلى الله والتضرع إليه ، وسؤال الهداية لما يحبه ويرضاه . فماذا تشير به أنت عليَّ ؟
قال : فقلت له : اجعل المذهب ثلاثة أقسام :
قسم الحق فيه ظاهر بَيِّن ، موافق للكتاب والسنة ؛ فاقض به وأنت به طيب النفس ، منشرح الصدر .
وقسم مرجوح ، ومخالفه معه الدليل ؛ فلا تفت به ولا تحكم به ، وادفعه عنك .
وقسم من مسائل الاجتهاد ، التي الأدلة فيها متجاذبة ؛ فإن شئت أن تفتي به وإن شئت أن تدفعه عنك ، فقال : جزاك الله خيرا . أو كما قال "
انتهى من " إعلام الموقعين " (4/ 236 - 237) .
ثم إن القسم المرجوح المذكور هنا يعذر فيه الإمام ، ولا تثريب على المذهب لأجله ؛ لأن مرجوحيته لا تعني خلوه من الدليل ، أو بناءه على الهوى والابتداع ، ولكن يعني أن غيره من الأقوال أرجح وأقوى في نظر المجتهدين الآخرين ،
كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" ليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولا عاما ، يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته ، دقيق ولا جليل ؛ فإنهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه , فلا بد له من عذر في تركه . وجميع الأعذار ثلاثة أصناف : أحدها : عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله . والثاني : عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول . والثالث : اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ . وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة " .
انتهى من " رفع الملام عن الأئمة الأعلام " (ص/8 - 9) .
والخلاصة
أنه لا حرج عليك في الاستمرار باتباع المذهب الحنفي ، مع تمسكك بالمعتقد الصحيح ، كما يجوز لك اتباع غير المذهب الحنفي من المذاهب الإسلامية المعتبرة ، ومن أقوال الأئمة المحققين .
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-03-27, 16:42
كيف للعامي أن يعرف من هم العلماء ؟
السؤال:
كيف يمكن لنا أن نعرف إذا ما كان الشخص عالماً ؟
وكيف نميز بين مستوى العلماء على سبيل المثال ؟
هل يصح أن يكون مفتياً أم لا ؟
حتى يمكننا أن نضعه في مستواه ، ولا نكون ظالمين .
وما هي منزلة الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين والشيخ الألباني ، دون أن نبخسهم حقهم ؟
الجواب :
الحمد لله
لسنا مع رأي بعض علماء أصول الفقه القائلين بأن غير المختص في العلوم الشرعية : لا يمكنه الاجتهاد مطلقا في انتقاء العلماء المجتهدين وتمييزهم عن غيرهم ، خاصة وأننا اليوم نعيش عصر العلم وانتشار المعرفة والثقافة بفضل الله سبحانه ، بحيث صار كثيرٌ من الناس يمتلك أدوات الفكر والتمييز والاختيار .
ونحن هنا يمكننا أن نرشد إلى بعض الأمارات والعلامات التي يمكن الاستعانة بها في هذا الإطار ، وهي :
أولا :
علامة العالم الفقيه المتأهل للفتوى الاستدلال بآيات الكتاب الكريم ، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، وتمييز صحيحها من سقيمها ، والناسخ والمنسوخ ، والخاص والعام ، ومعرفة دلالتها وسياق نزولها ، ذلك لأن العالم الحق هو الذي يقدم القرآن الكريم في سلم أولوياته ؛ لأنه منبع العلم ، ومصدر الفقه ، وعليه مدار التشريع والأحكام .
ثانيا :
ومن علامتهم التدين التام والأخلاق الحسنة الفاضلة ، مع الحرص على الاقتداء بالسلف الصالحين ، من الصحابة والتابعين ، والأئمة المتبوعين ، فلا يخرجون عن هديهم العام ، وكل فتوى أو كلمة تصدر منهم يعزونها لأحد الأئمة السابقين ، كأبي بكر وعمر ، وسفيان والأوزاعي، وأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ، والغزالي والعز بن عبد السلام والنووي ، وابن تيمية وابن القيم وابن كثير وابن حجر ، وغيرهم من علماء الإسلام الذين لا يختلف المسلمون في إمامتهم وديانتهم .
أما إذا وجدت أحد الناس اليوم لا يعتمد هؤلاء العلماء ، ولا يرفع بهم رأسا ، ولا يتقيد بمناهجهم العامة في علوم الشريعة ، فاعلم أنه ليس من " التابعين بإحسان "، بل هو ممن أساؤوا الاتباع ، واختاروا الابتداع .
والمقصود هنا اتباع مناهج العلم المعتبرة ، وليس التقليد في كل كبيرة وصغيرة ، فكل يؤخذ من قوله ويرد إلا النبي صلى الله عليه وسلم .
ثالثا :
ومن أبرز علامات العالم الحق ، والمفتي العدل ، التي نرشد الناس إليها ، أنهم لا ينغلقون على طائفة ، ولا ينفردون عن الأمة باسم أو وصف ، بل انتسابهم لرحم هذه الأمة وعمقها الضارب في التاريخ الإسلامي كله ، أما من ينتمي إلى فرقة عقائدية خاصة ، كالبريليوية أو الديوبندية أو القاديانية ونحوها
أو ينفرد عن وصف " أهل السنة والجماعة " باسم مستحدث وهيكل تنسُّكي خاص ، فغالبا ما يكون ذلك علامة على البدعة والخروج عن السنة ؛ إذ لو كان المعتقد الذي يحمله هو معتقد المسلمين من أهل السنة لما احتاج إلى أن يخرج إلى وصف آخر ، أو أن يتسمى بغير ما سماه الله به
وقد قال الله عز وجل : ( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) الحج/78.
أما الانتساب إلى الأعمال الدعوية للتعاون على برامج عملية ، فليس هو المحذور المقصود هنا ، وكذلك الانتساب الفقهي لأحد المذاهب الأربعة ، بل المقصود الانتساب العقائدي لفرقة تتبنى توجها عقائديا خاصا ليس من عقائد أهل السنة والجماعة ، وتجتمع عليه ، وتوالي وتعادي عليه .
رابعا :
الشهادات العلمية المعتمدة أمارة لا بأس بالنظر فيها ، والاستئناس بها ، خاصة الشهادات العليا في تخصص معين ، ومن جامعة مرموقة على مستوى العالم الإسلامي في ذلك التخصص ، بل كثيرا ما يكون من المهم - عند السؤال عن إشكال معين أو قضية دقيقة تحتاج إلى بحث وتحرير –
أن يسأل من تخصص في تلك المسألة في دراسته العليا ، وكتب فيها بحث الماجستير أو الدكتوراة ، فمثل هذه الأبحاث كثيرا ما تكون متقنة ، بسبب العناية والاهتمام من الجامعات المعتمدة ، وإشراف الأساتذة المختصين ، وتعرض الكاتب للحوار والنقاش حول جميع ما كتبه .
ولكن هذا لا يعني أن كل من حمل شهادة الشريعة من إحدى الجامعات فقد بلغ درجة العلم والفتيا في الدين ، فليس ذلك مقصودا لنا ، فقد رأينا الكثيرين جدا من حملة هذه الشهادات ممن لا يضبطون العلم ، ولا يحسنون الفقه ، ولا يملكون الأهلية لبلوغ ذلك ، بسبب تقصيرهم في الاستمرار والبحث والمتابعة .
وإنما المقصود أن هذه العلامة يمكن أن نجعلها دليلا ثانويا ، بعد التثبت ، أو قرينة ، تضم إلى غيرها العلامات الأخرى.
خامسا :
ومن أهم العلامات التي نرشد الناس إلى العناية بها أيضا أن يكون هذا المفتي أو العالم ممن استفاضت شهرته وثقته وعلمه بين النخب العلمية ، والأوساط المتخصصة ، وليس فقط بين عامة الناس ، بل يشهد له العلماء والمختصون بالفهم والحذق ، ويسلمون له بالإتقان والحجة ، ونستدل هنا بما ذكره علماء الحديث في طرق إثبات عدالة الراوي ، وذلك عند قول ابن الصلاح رحمه الله : " تارة تثبت بتنصيص معدلين على عدالته ،\
وتارة تثبت بالاستفاضة ، فمن اشتهرت عدالته بين أهل النقل أو نحوهم من أهل العلم ، وشاع الثناء عليه بالثقة والأمانة ، استغني فيه بذلك عن بينة شاهدة بعدالته تنصيصا ، وهذا هو الصحيح في مذهب الشافعي رضي الله عنه ، وعليه الاعتماد في فن أصول الفقه "
انتهى من " مقدمة ابن الصلاح " (ص/105).
فالشهرة بالعلم بين الأوساط العلمية علامة كافية للجوء إلى هذا العالم وسؤاله فيما أشكل من أمر العلم .
ولكن جميع ما مضى يبقى في دائرة الأمارات ، وليست وسائل للجزم واليقين ، فالجزم لا يتمكن منه إلا المختصون بذلك العلم نفسه .
يقول ابن الصلاح رحمه الله :
" يجب عليه [ يعني العامي المقلد ] قطعًا البحث الذي يعرف به صلاحية من يستفتيه للإفتاء ، إذا لم يكن قد تقدمت معرفته بذلك ، ولا يجوز له استفتاء كل من اعتزى إلى العلم ، وإن انتصب في منصب التدريس أو غيره من مناصب أهل العلم ، بمجرد ذلك .
ويجوز له استفتاء من تواتر بين الناس أو استفاض فيهم كونه أهلا للفتوى .
وعند بعض أصحابنا المتأخرين : إنما يعتمد قوله : أنا أهل للفتوى ، لا شهرته بذلك ، والتواتر ؛ لأن التواتر لا يفيد العلم إذا لم يستند إلى معلوم محسوس ، والشهرة "بين" العامة لا يوثق بها، وقد يكون أصلها التلبيس .
ويجوز له أيضًا استفتاء من أخبر المشهور المذكور عن أهليته ، ولا ينبغي أن يكتفي في هذه الأزمان بمجرد تصديه للفتوى واشتهاره بمباشرتها ، لا بأهليته لها " ينظر " أدب المفتي والمستفتي " (ص: 158) ، ونقله النووي في " المجموع " (1/54) ، وابن تيمية كما في " المستدرك على مجموع الفتاوى " (2/259) .
أما عن كل من الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين والشيخ الألباني رحمهم الله فشهرتهم بين أهل العلم والمختصين بالعلوم الشرعية شهرة متواترة مستفيضة ، وهم من خير الأمثلة التي توضح العلامات التي سبق تفصيلها في جوابنا ، فقد اجتمعت فيهم خصال العلم والخير والفضل كلها بإذن الله سبحانه ، وشهد لهم القاصي والداني بذلك . وفي موقعنا بعض الأجوبة المتعلقة بهم
ومن أهم المراجع التي توسعت في الترجمة لهم ، وبيان ثناء العلماء عليهم ، وارتفاع قامتهم في عصرنا الحاضر ، الكتب الآتية :
1. " إمام العصر "، ناصر الزهراني .
2. " الشيخ ابن باز " مانع الجهني .
3. " الإنجاز في سيرة الإمام عبد العزيز بن باز " عبدالرحمن الرحمة .
4. " الجامع لحياة العلامة محمد بن صالح العثيمين "، وليد الحسن .
5. " ابن عثيمين الإمام الزاهد "، ناصر الزهراني .
6. " حياة الألباني وآثاره وثناء العلماء عليه "، محمد إبراهيم الشيباني .
والله أعلم .
و اخيرا
الحمد لله الذي بفضلة تتم الصالحات
اخوة الاسلام
اكتفي بهذا القدر و لنا عوده
ان قدر الله لنا البقاء و اللقاء
و اسال الله ان يجمعني بكم دائما
علي خير
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين
الأصيــل
2018-03-30, 10:14
بارك الله فيك وجعله في ميزان حسناتك
*عبدالرحمن*
2018-12-18, 15:18
بارك الله فيك وجعله في ميزان حسناتك
الحمد لله الذي بفضلة تتم الصالحات
اسعدني حضورك الطيب مثلك
و في انتظار مرورك العطر دائما
بارك الله فيك
و جزاك الله عني كل خير
شكرا على الاافادة و ان شاء الله مزيد نشرر المواضيع الهامة لنا
ءؤؤؤؤؤؤؤؤؤؤؤؤؤؤؤؤؤ
شكرا على الاافادة و ان شاء الله مزيد نشرر المواضيع الهامة لنا
ييييييييييييييييييييءرر
شكرا على الاافادة و ان شاء الله مزيد نشرر المواضيع الهامة لنا
شكرا على الاافادة و ان شاء الله مزيد نشرر المواضيع الهامة لنا
يلاسلالاءس
شكرا على الاافادة و ان شاء الله مزيد نشرر المواضيع الهامة لنا
للي
شكرا على الاافادة و ان شاء الله مزيد نشرر المواضيع الهامة لنا
لايييييييي
*عبدالرحمن*
2018-12-27, 20:00
شكرا على الاافادة و ان شاء الله مزيد نشرر المواضيع الهامة لنا
لايييييييي
الحمد لله الذي بفضلة تتم الصالحات
الشكر موصول لحضورك الطيب مثلك
في انتظار مرورك العطر دائما
بارك الله فيك
و جزاك الله عني كل خير
vBulletin® v3.8.10 Release Candidate 2, Copyright ©2000-2025, TranZ by Almuhajir