مشاهدة النسخة كاملة : لماذا حصل الاختلاف في مسائل الفقه بين الأئمة
*عبدالرحمن*
2018-02-28, 05:42
اخوة الاسلام
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
لماذا حصل الاختلاف في مسائل الفقه بين الأئمة؟
وهل يجب تقليد أحد المذاهب؟
السؤال
: مع بالغ احترامي للأئمَّة الفضلاء ، إلا أنني أستغرب لماذا قضية " التمذهب " الموجودة في هذه الأيام ، ألم تكن سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة ، فلماذا الاختلاف إذاً ؟
هذا حنفي ، وهذا شافعي ... إلخ ، ألم يكن يتبع هؤلاء الأئمة سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم ، فمِن أين نشأ الخلاف ؟
وهل يجب على المسلم أن يتبع مذهباً محدَّداً ، أم أنه يكفيه أن يتبع الكتاب ، والسنَّة ، وكفى ؟
الجواب :
الحمد لله
بُعث النبي صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام الخالدة ، وقد أُمر المسلمون باتباع ما جاء في كتاب ربهم تعالى ، وما جاء في سنته صلى الله عليه وسلم ، وكان الصحابة رضي الله عنهم يرتوون من هذين المصدرين ، ثم إنهم رضي الله عنهم قاموا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بمهة تعليم الناس دينهم ، وقد تفرقوا في الأمصار ، ولا شك أنهم لم يكونوا سواء في حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن كان منهم أحفظ كانت فتياه مطابقة للسنَّة ، ومن لم يكن حافظاً فإنه يجتهد لمعرفة الصواب ، وهكذا كان اختلافهم في الحفظ سبباً لاختلافهم في الفتيا .
ثم إن النص الواحد قد يكون محفوظاً لكلا الصحابيين ، لكنَّ كل واحدٍ منهما يفهم منه غير ما فهم الآخر ، ويكون النص محتملاً لهذا ، وذاك ، وكل واحد منهما يجتهد في فهم النص وفق مراد الشرع ، والمصيب منهما واحد ، وهكذا كان الاختلاف في فهم النص من أسباب اختلافهم .
ثم انتشر العلم في الآفاق ، وصار في هذا الدين أئمة علم وهدى ، ومنهم الأئمة الأربعة (أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله) ، فظهرت أسباب أخرى لاختلافهم غير ما سبق ، وهو اختلافهم في صحة الحديث وضعفه ، واختلافهم في بعض قواعد فهم النصوص ، وهو ما اصطلح على تسميته " أصول الفقه " .
قال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء :
"أما أسباب اختلاف العلماء فكثيرة ، منها : أن كل واحد منهم لا يحيط بالعلم كله فقد يخفى عليه ما علم غيره ، وقد يفهم من النصوص ما لا يفهمه غيره عندما يختفي عليه الدليل الواضح" انتهى.
الشيخ عبد العزيز بن باز ، الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، الشيخ عبد الله بن غديان ، الشيخ عبد الله بن قعود .
" فتاوى اللجنة الدائمة " ( 2 / 178 ) .
وبهذا يتبين ما يلي :
1. الواجب على المسلم أن يتبع ما جاء في القرآن الكريم ، وما ثبت في السنَّة النبوية ، ولا يجب عليه التمذهب بمذهب فقهي معين .
2. أن الاختلاف بين العلماء له أسبابه الكثيرة ، وقد جُمعت هذه الأسباب في كتاب " رفْع الملام عن الأئمة الأعلام " لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، وكتاب " أسباب اختلاف العلماء وموقفنا من ذلك " للشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله .
3. أن أئمة الدين ليسوا أربعة فقط ، بل هم كُثر ، لكن الله تعالى جعل الشهرة للأئمة الأربعة رحمهم الله .
4. هؤلاء الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين مذهبهم هو اتباع النصوص ، وتعظيمها، وقد أمرونا بذلك ، ونهونا عن تقليدهم ، فمن رضيهم له أئمة : فليرض مذهبهم .
فلم يدعُ واحد من أئمة الدين الناس لتبني أقواله وتقديمها على أقوال غيره ، وقد نزههم الله تعالى عن هذا ، بل قد ثبت عنهم جميعاً التحذير من هذا الفعل ، والوصية بالأخذ من الكتاب والسنَّة .
5. أن هذه المذاهب هي بمثابة مدارس لفهم الكتاب والسنة ، وأئمتها اجتهدوا للوصول إلى الأحكام التي يرون أنها أقرب إلى الكتاب والسنة ، ولا حرج على المسلم أن يتمذهب بمذهب من هذه المذاهب ، ولكن بشروط أنه من ظهرت له السنة النبوية في خلاف ما علمه من مذهبه ، فالواجب عليه ترك المذهب واتباع السنة ، وهذه هي وصية هؤلاء الأئمة ، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله وغيره : "إذا صح الحديث فهو مذهبي" .
6. الناس ليسوا سواء في الاطلاع على نصوص الوحي ، ولا سواء في إمكانية فهم النصوص ، لذا ، فقد ارتضت طائفة كبيرة من المسلمين بتقليد هؤلاء الأئمة ، وبما أن الشهرة كانت لأولئك الأئمة الأربعة ، وكان لهم تلاميذ نشروا أقوالهم : صرت ترى ذلك المقلد "حنفيّاً" أو "مالكياً" أو "شافعيّاً" أو "حنبلياً" ، وغالباً ما يكون مذهب أولئك العوام مذهب شيخهم في مدينتهم ، أو قريتهم ، وهذا العامي لا حرج عليه في فعله ؛ لأنه مأمور بسؤال أهل العلم ، لكن ليس له أن يُنكر على غيره تبني قولاً آخر ، وليس له أن يفتي ، ولا أن يتعصب لقول شيخه ، بل متى ظهر له الحق فيجب عليه العمل به ، ولا يسعه غير ذلك .
والله أعلم
وللوقوف على طائفة من أقوال العلماء قديماً وحديثاً
في هذه المسألة : انظر أجوبة الأسئلة الأتية
*عبدالرحمن*
2018-02-28, 05:45
السؤال
هل يجب على كل مسلم أن يتبع أحد المذاهب (المالكي أو الحنفي أو الحنبلي أو الشافعي) ؟
إذا كان الجواب نعم فما أفضل مذهب ؟
هل صحيح أن مذهب أبي حنيفة هو أكثر مذهب منتشر بين المسلمين ؟.
الجواب
الحمد لله
لا يجب على المسلم اتباع مذهب بعينه من هذه المذاهب الأربعة ، والناس متفاوتون في المدارك والفهوم والقدرة على استنباط الأحكام من أدلتها ، فمنهم من يجوز في حقه التقليد ، بل قد يجب عليه ، ومنهم من لا يسعه إلا الأخذ بالدليل . وقد جاء في فتاوى اللجنة الدائمة بيان كاف شاف لهذه المسألة ، يحسن أن نذكره هنا بنصه :
السؤال :
ما حكم التقيد بالمذاهب الأربعة واتباع أقوالهم على كل الأحوال والزمان ؟
فأجابت اللجنة :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد :
أولا : المذاهب الأربعة منسوبة إلى الأئمة الأربعة الإمام أبي حنيفة والإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد ، فمذهب الحنفية منسوب إلى أبي حنيفة وهكذا بقية المذاهب.
ثانيا : هؤلاء الأئمة أخذوا الفقه من الكتاب والسنة وهم مجتهدون في ذلك ، والمجتهد إما مصيب فله أجران ، أجر اجتهاده وأجر إصابته ، وإما مخطئ فيؤجر على اجتهاده ويعذر في خطئه.
ثالثا : القادر على الاستنباط من الكتاب والسنة يأخذ منهما كما أخذ من قبله ولا يسوغ له التقليد فيما يعتقد الحق بخلافه ، بل يأخذ بما يعتقد أنه حق ، ويجوز له التقليد فيما عجز عنه واحتاج إليه.
رابعا : من لا قدرة له على الاستنباط يجوز له أن يقلد من تطمئن نفسه إلى تقليده ، وإذا حصل في نفسه عدم الاطمئنان سأل حتى يحصل عنده اطمئنان .
خامسا : يتبين مما تقدم أنه لا تتبع أقوالهم على كل الأحوال والأزمان ؛ لأنهم قد يخطئون ، بل يتبع الحق من أقوالهم الذي قام عليه الدليل ).
فتاوى اللجنة 5/28 .
وجاء في فتوى اللجنة رقم 3323
( من كان أهلا لاستنباط الأحكام من الكتاب والسنة ، ويقوى على ذلك ولو بمعونة الثروة الفقهية التي ورثناها عن السابقين من علماء الإسلام كان له ذلك ؛ ليعمل به في نفسه ، وليفصل به في الخصومات وليفتي به من يستفتيه . ومن لم يكن أهلا لذلك فعليه أن يسأل الأمناء الموثوق بهم ليتعرف الحكم من كتبهم ويعمل به من غير أن يتقيد في سؤاله أو قراءته بعالم من علماء المذاهب الأربعة ، وإنما رجع الناس للأربعة لشهرتهم وضبط كتبهم وانتشارها وتيسرها لهم.
ومن قال بوجوب التقليد على المتعلمين مطلقاً فهو مخطئ جامد سيئ الظن بالمتعلمين عموما ، وقد ضيق واسعا .
ومن قال بحصر التقليد في المذاهب الأربعة المشهورة فهو مخطئ أيضا قد ضيق واسعا بغير دليل . ولا فرق بالنسبة للأمي بين فقيه من الأئمة الأربعة وغيرهم كالليث بن سعد والأوزاعي ونحوهما من الفقهاء ) فتاوى اللجنة 5/41 .
وجاء في الفتوى رقم 1591 ما نصه :
( ولم يدعُ أحد منهم إلى مذهبه ، ولم يتعصب له ، ولم يُلزِم غيره العمل به أو بمذهب معين ، إنما كانوا يدعون إلى العمل بالكتاب والسنة ، ويشرحون نصوص الدين ، ويبينون قواعده ويفرعون عليها ويفتون فيما يسألون عنه دون أن يلزموا أحدا من تلاميذهم أو غيرهم بآرائهم ، بل يعيبون على من فعل ذلك ، ويأمرون أن يضرب برأيهم عرض الحائط إذا خالف الحديث الصحيح ، ويقول قائلهم " إذا صح الحديث فهو مذهبي " رحمهم الله جميعا .
ولا يجب على أحد اتباع مذهب بعينه من هذه المذاهب ، بل عليه أن يجتهد في معرفة الحق إن أمكنه ، أو يستعين في ذلك بالله ثم بالثروة العلمية التي خلفها السابقون من علماء المسلمين لمن بعدهم ، ويسروا لهم بها طريق فهم النصوص وتطبيقها . ومن لم يمكنه استنباط الأحكام من النصوص ونحوها لأمر عاقه عن ذلك سأل أهل العلم الموثوق بهم عما يحتاجه من أحكام الشريعة لقوله تعالى " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " وعليه أن يتحرى في سؤاله من يثق به من المشهورين بالعلم والفضل والتقوى والصلاح )
فتاوى اللجنة الدائمة 5/56 .
ومذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله قد يكون أكثر المذاهب انتشاراً بين المسلمين ، ولعل من أسباب ذلك تبني الخلفاء العثمانيين لهذا المذهب ، وقد حكموا البلاد الإسلامية أكثر من ستة قرون ، ولا يعني ذلك أن مذهب أبي حنيفة رحمه الله هو أصح المذاهب أو أن كل ما فيه من اجتهادات فهو صواب ، بل هو كغيره من المذاهب فيه الصواب والخطأ ، والواجب على المؤمن اتباع الحق والصواب بقطع النظر عن قائله .
والله أعلم .
*عبدالرحمن*
2018-02-28, 05:53
السؤال
هل ملزم كل بلد بتتبع مذهب خاص به ، ومحاولة تعليمه للآخرين دون ذكر جميع المذاهب ، مثلا ذكر حكم خاص بأمر شرعي قاله أحده المذاهب دون الآخرين . وجزاكم الله خيرا
الجواب
الحمد لله
الناس في البلاد – من حيث الاجتهاد والتقليد - على قسمين اثنين :
الأول : علماء مجتهدون في الشريعة ، بلغوا من العلم والمعرفة حدًّا ملكوا به أدوات الاجتهاد والاستنباط ، فهؤلاء فرضهم اتباع الحق الذي يرونه بدليله .
والقسم الثاني - وهو السواد الأعظم من الناس - : من لم يتخصص بدراسة العلوم الشرعية أو لم يبلغ فيها درجة الاجتهاد وأهلية الفتوى : من عامة الناس أو المثقفين والمتخصصين في العلوم الأخرى .
فهؤلاء فرضهم – الشرعي والطبيعي – سؤال أهل العلم ، والأخذ عنهم ، نجد ذلك في قول الله سبحانه وتعالى : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) النحل/43
إذا فأهل كل بلد ملزمون بسؤال أهل العلم واتباع فتاواهم ، ولكنها ليست تبعية مطلقة تضفي على المتبوع صفة العصمة والقداسة وحق التشريع والتصرف في دين الله – كما وقع في ذلك اليهود والنصارى والرافضة وغلاة الصوفية والباطنية – فإن ذلك خروج عن الدين ، واتخاذ للأنداد والشركاء والأرباب من دون الله ، والله سبحانه وتعالى يقول : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) التوبة/31
وإنما المقصود من لزوم اتباع فتاوى العلماء هو الوصول إلى تعلم الحكم الشرعي من طريق المتخصصين الذين درسوا قواعد الشريعة وأصولها وبلغوا الأهلية فيها بالعلم المبني على الدليل ، وليس بالقداسة الممنوحة باسم الرب أو باسم الولاية ونحو ذلك من الأباطيل .
يقول ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (20/211) :
" الله سبحانه وتعالى فرض على الخلق طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى كان صِدِّيق الأمة وأفضلها بعد نبيها يقول : أطيعوني ما أطعت الله ، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم . واتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصوما في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال غير واحد من الأئمة : كل أحدٍ مِن الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " انتهى .
ثانيا :
يبقى السؤال في تعيين أهل العلم أو المرجعية العلمية التي ينبغي الاعتماد عليها :
فيمكن القول بأن هناك مرجعيتين ينبغي الرجوع إليهما على مستوى الأمة والأفراد ، وهي :
1- المرجعية المعاصرة : المتمثلة في المجامع الفقهية واللجان الشرعية التي يقوم عليها أهل العلم والديانة والأمانة ، وكذلك أفراد العلماء وأصحاب الكفاءات من المتخصصين في العلوم الشرعية : فهؤلاء لهم حظ وافر من لزوم أخذ الناس عنهم والاستفادة من توجيهاتهم ، خاصة في أمور الناس الحياتية اليومية ، وفي النوازل الفقهية والقضايا المعاصرة ، وأيضا في المسائل التي تحتاج إلى إعادة النظر والاجتهاد فيها في ضوء الأدلة الشرعية والعقلية التي تراعي المصالح وتدرء المفاسد ، وترفع الحرج وتجتنب المشقة والضرر ، إذا كان تقليد أحد المذاهب الأربعة فيها يسبب الحرج والضيق ، فالشريعة مبنية على التيسير ، وليس فيها عنت ولا حرج .
2- المرجعية التراثية : المتمثلة في المذاهب الأربعة المشهورة : الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي ، وهذه المرجعية لها الحظ الأكبر والنصيب الأوفر من لزوم اتباع الناس لها والأخذ بما فيها : فإن القوانين التي يتواضع الناس في الرجوع إليها وتحكيمها ، ومناهج التعليم التي تقرر على طلبة العلم في حلق المساجد والمدارس ، ومراتب التنشئة العلمية التي يتدرج فيها المتخصصون في علوم الفقه والشريعة ، والتراث الذي ينبغي أن يستقر في أذهان العوام ويشكل ثقافتهم الفقهية ، والمنهل الذي يؤوب إليه كل من لا يجد الفرصة من المجتهدين لدراسة المسائل الكثيرة والوصول إلى نتيجة فيها ، والانضباط الذي يحسم الشقاق والنزاع في المجتمع ، ويسد على الأهواء والآراء الشاذة الأبواب ، كل ذلك يمنح هذه المرجعية المتمثلة في المذاهب الأربعة المساحة الأرحب في لزوم التقليد وضرورة الاتباع .
يقول الحافظ ابن رجب في رسالة له اسمها "الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة" (2/624) – مطبوعة ضمن مجموع رسائله - :
" فاقتضت حكمة الله سبحانه أن ضبط الدين وحفظه : بأن نصب للناس أئمة مجتمعاً على علمهم ودرايتهم وبلوغهم الغاية المقصودة في مرتبة العلم بالأحكام والفتوى ، من أهل الرأي والحديث ، فصار الناس كلهم يعولون في الفتاوى عليهم ، ويرجعون في معرفة الأحكام إليهم ، وأقام الله من يضبط مذاهبهم ويحرر قواعدهم ، حتى ضبط مذهب كل إمام منهم وأصوله وقواعده وفصوله ، حتى ترد إلى ذلك الأحكام ويضبط الكلام في مسائل الحلال والحرام .
وكان ذلك من لطف الله بعباده المؤمنين ، ومن جملة عوائده الحسنة في حفظ هذا الدين .
ولولا ذلك لرأى الناس العجاب مِن كل أحمق متكلف معجبٍ برأيه جريء على الناس وثَّاب
فيدعي هذا أنه إمام الأئمة ، ويدعي هذا أنه هادي الأمة ، وأنه هو الذي ينبغي الرجوع دون الناس إليه ، والتعويل دون الخلق عليه .
ولكن بحمد الله ومنته انسد هذا الباب الذي خطره عظيم وأمره جسيم ، وانحسرت هذه المفاسد العظيمة ، وكان ذلك من لطف الله تعالى لعباده ، وجميل عوائده وعواطفه الحميمة .
ومع هذا فلم يزل يظهر من يدعي بلوغ درجة الاجتهاد ، ويتكلم في العلم من غير تقليدٍ لأحد من هؤلاء الأئمة ولا انقياد .
فمنهم من يسوغ له ذلك لظهور صدقه فيما ادعاه ، ومنهم من رد عليه قوله وكذب في دعواه ، وأما سائر الناس ممن لم يصل إلى هذه الدرجة ، فلا يسعه إلا تقليد أولئك الأئمة ، والدخول فيما دخل فيه سائر الأمة " انتهى .
ويقول أيضا (2/628) :
" فإن قيل : فما تقولون في نهي الإمام أحمد وغيره من الأئمة عن تقليدهم وكتابة كلامهم ، وقول الإمام أحمد : لا تكتب كلامي ولا كلام فلان وفلان ، وتعلم كما تعلمنا . وهذا كثير موجود في كلامهم ؟
قيل : لا ريب أن الإمام أحمد رضي الله عنه كان ينهى عن آراء الفقهاء والاشتغال بها حفظاً وكتابة ، ويأمر بالاشتغال بالكتاب والسنة حفظاً وفهماً وكتابة ودراسة ، وبكتابة آثار الصحابة والتابعين دون كلام مَن بعدهم ، ومعرفة صحة ذلك من سقمه ، والمأخوذ منه والقول الشاذ المطرح منه ، ولا ريب أن هذا مما يتعين الاهتمام به والاشتغال بتعلمه أولاً قبل غيره .
فمن عرف ذلك وبلغ النهاية من معرفته - كما أشار إليه الإمام أحمد - فقد صار علمه قريباً من علم أحمد ، فهذا لا حجر عليه ولا يتوجه الكلام فيه ، إنما الكلام في منع من لم يبلغ هذه الغاية ، ولا ارتقى إلى هذه النهاية ، ولا فهم من هذا إلا النزر اليسير ، كما هو حال أهل هذا الزمان ، بل هو حال أكثر الناس منذ أزمان ، مع دعوى كثير منهم الوصول إلى الغايات والانتهاء إلى النهايات ، وأكثرهم لم يرتقوا عن درجة البدايات " انتهى .
والناظر في تاريخ الفقه والتشريع يجد أنه قد بني في جميع مراحله على مجموعة من أهل العلم الذين اشتهر في الناس علمهم ، وذاع في الآفاق فضلهم وورعهم ، يأخذون عنهم أحكام الدين ، ويرجعون في الغالب إلى تقريرهم وفتاواهم .
يقول ابن القيم في "إعلام الموقعين" (1/17) :
" والدين والفقه والعلم انتشر في الأمة عن أصحاب ابن مسعود ، وأصحاب زيد بن ثابت ، وأصحاب عبد الله بن عمر ، وأصحاب عبد الله بن عباس ، فعلم الناس عامته عن أصحاب هؤلاء الأربعة ، فأما أهل المدينة فعلمهم عن أصحاب زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر ، وأما أهل مكة فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن عباس ، وأما أهل العراق فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن مسعود " انتهى .
وقال العلامة المحقق أحمد باشا تيمور رحمه الله في " المذاهب الفقهية الأربعة " (16-17) :
" وكانت الفتيا ـ قبل حدوث هذه المذاهب تؤخذ في عصر الصحابة والتابعين عن القراء منهم ، وهم الحاملون لكتاب الله العارفون بدلائله ؛ فلما انقضى عصرهم ، وخلف من بعدهم التابعون ، اتبع أهل كل مصرٍ فتيا من كان عندهم من الصحابة ، لا يعتدونها إلا في اليسير مما بلغهم عن غيرهم ؛ فاتبع أهل المدينة في الأكثر فتاوى عبد الله بن عمر ، وأهل الكوفة فتاوى عبد الله بن مسعود ، وأهل مكة فتاوى عبد الله بن عباس ، وأهل مصر فتاوى عبد الله بن عمرو بن العاص .
وأتى بعد التابعين فقهاء الأمصار ، كأبي حنيفة ومالك وغيرهما ممن ذكرناهم ، وممن لم نذكرهم ، فاتبع أهل كل مصر مذهب فقيه في الأكثر ، ثم قضت أسباب بانتشار بعض هذه المذاهب في غير أمصارها ، وبانقراض بعضها .. " انتهى .
ولا يعني ذلك التعصب إلى واحد من المذاهب والأقوال ، بحيث نوجب على الناس اتباعه حرفيا دون اجتهاد ولا تصويب ولا تعديل ، بل المقصود أن المدرسة الفقهية التي ينبغي أن يتخرج الناس وطلبة العلم والعلماء عليها ينبغي أن تكون مأخوذة عن واحد من المذاهب الأربعة ، ثم إن تبين – لمن لديه أهلية الاجتهاد – خطأ المذهب في مسألة معينة ترك تلك الفتوى ، وأخذ بما يراه صوابا من المذاهب الأخرى .
وبهذا يحتفظ الناس بالسبيل العلمي الذي سار عليه السلف والأئمة ، ويتخلصوا من بعض السلبيات التي أنتجها الجهل والتعصب
.
جاء في "فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم" (2/10 ش2) :
" التمذهب بمذهب من المذاهب الأَربعة سائغ ، بل هو كالإجماع ، ولا محذور فيه ، كالانتساب إِلى أَحد الأَربعة ، فإِنهم أَئمة بالإِجماع .
والناس في هذا طرفان ووسط :
قوم لا يرون التمذهب بمذهب مطلقًا : وهذا غلط .
وقوم جمدوا على المذاهب ولا التفتوا إلى بحث .
وقوم رأَوا أَن التمذهب سائغ لا محذور فيه ، فما رجح الدليل مع أَي أَحد من الأَربعة أَو غيرهم أَخذوا به ، فالذي فيه نص أَو ظاهر لا يلتفت فيه إِلى مذهب ، والذي لا من هذا ولا من هذا وكان لهم فيه كلام ورأَى الدليل مع مخالفهم أَخذ به " انتهى بتصرف يسير
وجاء في "فتاوى اللجنة الدائمة" (5/28) :
" ما حكم التقيد بالمذاهب الأربعة ، واتباع أقوالهم على كل الأحوال والزمان ؟
الجواب : .
.
- القادر على الاستنباط من الكتاب والسنة يأخذ منهما كما أخذ من قبله ، ولا يسوغ له التقليد فيما يعتقد أن الحق بخلافه ، بل يأخذ بما يعتقد أنه حق ، ويجوز له التقليد فيما عجز عنه واحتاج إليه ..
- من لا قدرة له على الاستنباط يجوز له أن يقلد من تطمئن نفسه إلى تقليده ، وإذا حصل في نفسه عدم اطمئنان سأل حتى يحصل عنده اطمئنان ...
- يتبين مما تقدم أنه لا تتبع أقوالهم على كل الأحوال والأزمان ؛ لأئهم قد يخطئون ، بل يتبع الحق من أقوالهم الذي قام عليه الدليل " انتهى باختصار ، وتصرف يسير .
وجاء فيها أيضا (5/54-55) :
" وكل هؤلاء كانوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا من أفضل أهل زمانهم رضي الله عنهم ، وقد اجتهدوا في أخذ الأحكام من القرآن وأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام وما أجمعت عليه الصحابة رضوان الله عليهم ، وبينوا للناس الحق ، ونقلت إلينا أقوالهم ، وانتشرت بين المسلمين في جميع بلادهم ، وتبعهم كثير ممن جاء بعدهم من العلماء لثقتهم بهم ، وائتمانهم إياهم على دينهم ، وموافقتهم لهم في الأصول التي اعتمدوها ، ونشروا أقوالهم بين الناس ، ومن قلدهم من الأميين وعمل بما عرفه من أقوالهم نسب لمن قلده ، وعليه مع ذلك أن يسأل من يثق به من علماء عصره ، ويتعاون معه على فهم الحق من دليله .
ومما تقدم يتبين أنهم أتباع للرسول صلى الله عليه وسلم ، وليس الرسول تابعا لهم ، بل ما جاء به عن الله من شريعة الإسلام هو الأصل الذي يرجع إليه هؤلاء الأئمة وغيرهم من العلماء رضي الله عنهم ، وكل مسلم يسمى حنيفيا لاتباعه الحنيفية السمحة التي هي ملة إبراهيم وملة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم " انتهى .
والله أعلم .
الفارس النبيل 93
2018-03-30, 11:00
باراك الله فيك أخي
و الإختلاف الفقهي بين أهل العلم لا يضر ولا ينتج عنه سوء أو تفرق في الدين الاشكال في إختلاف العقائد
فيجب أن توضح للمسلمين الفرق بين المداهب الفقهية والمداهب العقدية
vBulletin® v3.8.10 Release Candidate 2, Copyright ©2000-2025, TranZ by Almuhajir