محمد بن العربي
2009-11-11, 12:14
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
إذا توفَّرت الاستطاعة في الحجِّ والعمرة، وعَزَم الحاجُّ أو المعتمِرُ على أداء هذه العبادة الجليلة فإنَّه يحسُن في هذا المقام أن يُقَدَّم بين يديه نصائح توجيهية تسبق رحلته العظيمة إلى بلد الله الحرام، استجابةً لأمره تعالى: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ [آل عمران: 97]، وقولِه تعالى: ﴿وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ﴾ [البقرة: 196]، وتلبية للنداء الواجب في قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «يَا أَيُهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ الحَجَ فَحُجُّوا»(١- أخرجه مسلم كتاب «الحج»، باب فرض الحجّ مرة واحدة في العمر (1/607)، وأحمد في «المسند» (2/502)، والبيهقي في «السنن الكبرى» باب وجوب الحجّ مرَّة واحدة (4/325)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-).
وقد ارتأيت أن أُقَسِّم نصائحي إلى توجيهين مُرتَّبين بحَسَب الأولوية إلى:
• ما يتعلَّق بنفس الحاجِّ أو المعتمر قبل الشروع في أعمالهما.
• وأخرى تتعلَّق به قبل سفره وفي أثنائه وعند قُفوله منه، ليسهل تحصيلها والانتفاع بها.
وهي تظهر على الشكل التالي:
توجيهات قبل الشروع في أعمال الحج
وتتمثَّل هذه التوجيهات في النقاط التالية:
• أولا: تجريد النَّفس وتصفيتها من الشرك والحذر منه وتجنُّب أسبابه، إذ المعلوم أنه قد سرى في العديد من الطغام والعوام الغلوّ في الصالحين حتى أضفوا عليهم خصائص الرُّبوبية، وأنزلوهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله إلى ما لا يجوز أن يكون إلاَّ لله: مِن طلبِ المددِ منهم عند حصولِ المكارهِ، والاستغاثةِ بهم في الشدائدِ، والتبرُّكِ بتربتهم والطوافِ بقبورهم، وذبحِ القرابين لأضرحتهم، ودعائِهم والتوسُّلِ بهم وسؤالهم الشفاعة من دون الله، حتى أضحت قبورُ الصالحين أوثانًا تُعَلَّق عليها القناديلُ والسُّرَج، وتُسدَلُ عليْها الستور، واتخذت أعيادًا ومناسك -والله المستعان-.
ولا يخفى أنَّ الشرك أكبرُ الكبائرِ وأعظمُ الظلمِ، وهو مبطلٌ للأعمال ومفسدٌ للعبادات لقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الزمر: 65]، لذلك ينبغي الاجتهاد في تصفية النَّفس بالتخلُّص من أدران الشرك وتطهير المعتقد منه، والوقاية من الوقوع فيه، ووجوب الحذر منه، وسدّ كلِّ طريق يؤدي إليه، لا سيما لمن عزم على الحجِّ أو العمرة فإنه إن لم يطهِّر نفسَه من الشركيات المقترنة بمعتقده وأعماله، فيُخشى عليه -فضلاً عن ارتكابه لأعظم الذنوب- أن يضيِّع جهدَه ومالَه سُدًى بلا أجرٍ ولا ثوابٍ، لقوله تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً﴾ [الفرقان: 23].
• ثانيا: المبادرة بالتوبة النصوح، والإقلاع عن الذنوب والمعاصي، وعدم العودة إليها أبدًا، والاستكثار من الحسنات، فباب التوبة مفتوح(٢- تنبيه: باب التوبة منقطع في ثلاثة أحوال: • الحالة الأولى: عند نزول العذاب لقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ﴾ [غافر : 84-85]. • والحالة الثانية: إذا بلغت الروح الحلقوم لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدَ مَا لَمَ يُغَرْغِرْ». [أخرجه الترمذي في «الدعوات» ( 5/547)، رقم: (3537)، باب في فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله بعباده من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه ابن ماجه في «الزهد» (2/1420)، رقم: (4253)، باب ذكر العقوبة من حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما، والحديث حسَّنه الألباني في «صحيح سنن الترمذي» (3/453- 454)، وفي «صحيح سنن ابن ماجه» (3/383)] . • والحالة الثالثة: إذا طلعت الشَّمس من مغربها لقوله تعالى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً﴾ [الأنعام:158]، ولقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لاَ تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ حَتَى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَى تَطلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا». [أخرجه أبو داود في «الجهاد» (3/7)، رقم: (2479)، باب في الهجرة هل انقطعت؟ من حديث معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنهما، والحديث صحَّحه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (2/90)]. )، لقوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53]، ولقوله تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور:31]، فعلَّق الفلاحَ بالتوبة تعليقَ المسبب بسببه، ثمَّ أتى بأداة «لعلَّ» المشعرة بالترجي، فكان المعنى: أنَّه لا يرجو الفلاحَ إلاَّ التائبون.
والتوبة التي تعالج الذنب وتمحو أثره هي التوبة النصوح، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [التحريم: 8]، والحسنات تكَفِّر كثيرًا من السيِّئات، لقوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ [هود: 114]، ولقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً﴾ [الفرقان: 68-69-70]، ويؤكِّده قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى﴾ [طه: 75-76].
وقطعُ الصلة بالماضي الآثم وهجرُ أماكن المعصية وتركُ قرناء السوء من تقوى الله التي هي أساس القَبول، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة: 27]، لذلك لا ينال الحاجُّ أو المعتمرُ نصيبَه من المثوبة والأجر عند الله تعالى إلاّ بالامتثال للطاعة والإقلاع عن المعصية، قال تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة : 197]، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يقول: «مَنْ حَجَّ لله فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ َولَدَتْهُ أُمُّهُ»(٣- أخرجه البخاري في كتاب «الحج»، باب فضل الحج المبرور (1/368)، ومسلم كتاب «الحج»، باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (1/613). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه).
تنبيه: ومن أخطر المعاصي التي يجب أن يُبادر بالتوبة منها: البدعةُ في الدِّين فهي ضلالةٌ وبريدٌ إلى الشرك لقوله صلى الله عليه وآله وسلّم: «وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ»(٤- أخرجه أبو داود كتاب «السنة»، باب في لزوم السنة (4607)، والترمذي كتاب «العلم»، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع (2676)، وابن ماجه باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين (42)، وأحمد في «مسنده» (4/126)، من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه. والحديث صحَّحه ابن الملقن في «البدر المنير» (9/582)، وابن حجر في «موافقة الخبر الخبر» (1/136)، والألباني في «السلسلة الصحيحة» (2735)، وشعيب الأرناؤوط في تحقيقه ﻟ «مسند أحمد» (4/126)، وحسَّنه الوادعي في «الصحيح المسند» (938))، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلّم: «مَنْ أَحْدَثَ ِفي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌ»(٥- أخرجه البخاري كتاب «الصلح»، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود (٥/٣٠١)، ومسلم كتاب «الأقضية» (١٢/١٦) من حديث عائشة رضي الله عنها)، وفي رواية: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»(٦- أخرجه مسلم كتاب «الأقضية» (12/16) من حديث عائشة رضي الله عنها)، قال البربهاري رحمه الله: «واحذر من صغار المحدثات، فإنَّ صغار البدع تعود حتى تصير كبارًا، وكذلك كلّ بدعة أحدثت في هذه الأُمَّة كان أَوَّلها صغيرًا يشبه الحقَّ، فاغترَّ بذلك من دخل فيها، ثمَّ لم يستطع المخرج منها، فعَظُمت وصارت دِينًا يُدان به» (٧- «شرح السنة» للبربهاري (23)).
والبدعةُ درجاتٌ متفاوتة، وأسبابها ترجع إلى: الجهل بالدين، واتباع الهوى، والتعصُّب للآراء والأشخاص، والتشبُّه بالكفار وتقليدهم. ووجه كون البدعة أخطر من المعصية أنَّ صاحب المعصية يعلم بتحريم اعتدائه على حدود الله وحرماته، ويُرجى له الرجوع والقربة والاستغفار، ومنزلته أخفُّ وأهون من صاحب البدعة الذي يتعدَّى حدودَ الله بالتشريع والافتراء على الله سبحانه، ويحسب أنه من المهتدين، فيُخشى عليه البقاء على بدعته والاستمرار على الباطل والضلال ظنًّا منه أنه على حقٍّ وصواب، قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾ [الكهف: 103-104]. ومن الفوارق -أيضًا- أنَّ صاحب البدعة محتجز التوبة حتى يتركَها، لقوله صلى الله عليه وآله وسلّم: «إِنَّ اللهَ احْتَجَزَ التَّوْبَةَ عَنْ كُلِّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ حَتَى يَدَعَ بِدْعَتَهُ» (٨- أخرجه الطبراني في «الأوسط» رقم: (4360)، والمنذري في «الترغيب والترهيب» وحسَّنه (1/86)، وصحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (4/154)).
• ثالثا: إخلاص النية لله تعالى في العبادة المتقرب بها، لقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الزمر: 11-12]، لذلك لا يجوز أن يقصد بحَجِّه أو عُمرته رياءً أو سمعةً أو مفاخرةً أو مباهاةً أو أن يطمع غرضًا دنيويًّا، فهذه كلُّها من الشرك الأصغر المنافي لكمال التوحيد المُحبط للعمل، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: 33]، وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾ [الكهف: 110]، وقد توعَّد اللهُ المرائين بالويل في قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴾ [الماعون: 4-7]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «قَالَ تَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ مَعِي فِيهِ غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» (٩- أخرجه مسلم كتاب «الزهد والرقائق»، باب من أشرك في عمله غير الله (2/1361)، رقم: (2985)، وابن ماجه كتاب «الزهد»، باب الرياء والسمعة، رقم: (4202))، وفي الحديث: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللهُ بِهِ» (١٠- أخرجه البخاري كتاب «الرقاق» ، باب الرياء والسمعة (3/328)، ومسلم كتاب «الزهد والرقائق»، باب من أشرك في عمله غير الله (2/1361)، رقم: (2987)، من حديث جندب العلقي رضي الله عنه).
وضمن هذا المعنى يقول ابن رجب رحمه الله: «اعلم أنَّ العمل لغير الله أقسام:
فتارة يكون رياءً محضًا بحيث لا يُراد به سوى مرئيات المخلوقين لغرض دنيوي كحال المنافقين في صلاتهم، قال الله عز وجل: ﴿وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ﴾ [النساء: 142]، وقال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ﴾ [الماعون: 4]، وكذلك وصف الله تعالى الكفارَ بالرياء المحض في قوله: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ﴾ [الأنفال: 47]، وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة والحج وغيِرهما من الأعمال الظاهرة والتي يتعدى نفعُها، فإنَّ الإخلاص فيها عزيزٌ، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابطٌ وأن صاحبَه يستحق المقتَ من الله والعقوبةَ.
وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدلُّ على بطلانه أيضًا وحبوطه، ... وأمَّا إن كان أصل العمل لله ثمَّ طرأت عليه نية الرياء فلا يضرُّه، فإن كان خاطرًا ودفعه فلا يضرُّه بغير خلاف، فإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا يضرُّه ذلك ويجازى على أصل نيته ؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير الطبري، وأرجو أن عمله لا يبطل بذلك وأنه يجازى بنيته وهو مروي عن الحسن البصري وغيره»(١١- «جامع العلوم والحكم» لابن رجب (13ـ 16) بتصرف)
لذلك وجب أن تكون كلُّ الأعمال التي يبتغى بها وجه الله مصروفة لله تعالى على وجه الإخلاص، فالإخلاص شرطٌ لصِحَّة العمل وقَبولِه بلا خلاف(١٢- انظر: «الدين الخالص» لصديق حسن خان (2/385))، قال الحطاب المالكي رحمه الله: «فالمخلص في عبادته هو الذي يخلِّصها من شوائب الشرك والرياء، وذلك لا يتأتى له إلاَّ بأن يكون الباعث له على عملها قصد التقرُّب إلى الله تعالى وابتغاء ما عنده، فأمَّا إذا كان الباعث عليها غيرُ ذلك من أغراض الدنيا فلا يكون عبادة، بل مصيبة موبقة لصاحبها»(١٣- «مواهب الجليل» للحطاب (3/503)). ويؤكِّد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى لا يَقْبَلُ مِنَ العَمَلِ إِلاَّ مَا كَانَ خَالِصًا ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ» (١٤- أخرجه النسائي في «الجهاد» (6/25) باب من غزا يلتمس الأجر والذكر من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، والحديث حسَّنه الألباني، انظر: «السلسلة الصحيحة» (1/118)، رقم: (52).)، والأمور بمقاصدها وقد جاء في الحديث: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِ امْرِئٍ مَا نَوَى» (١٥- أخرجه البخاري كتاب «بدء الوحي» باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (1/9)، ومسلم كتاب «الإمارة» (2/920)، رقم: (1907)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه).
تنبيه: يَحْسُنُ بمن شرَّفَه الله بزيارة المدينة النبوية(١٦- وممَّا يجدر التنبيه له ولفت النظر إليه أنَّ زيارة مسجد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ليس هو الحجّ ولا جزء من الحج كما يعتقده معظم العوام عندنا، وإنما هو عمل مستقلٌّ بذاته مرغَّب فيه ولا علاقة له بالحجِّ ولا ارتباط له بمناسكه، فلتنتبه !!) أن يتقصَّد في سفره زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن ذلك هو المشروع بنصِّ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وآله وسلم وَمَسْجِدِ الأَقْصَى»(١٧- أخرجه البخاري، كتاب «الصلاة»، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1/284)، ومسلم كتاب «الحج»، باب لا تشدُّ الرحال إلاَّ إلى ثلاثة مساجد (1/628) رقم: (1397)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)، أمَّا شدُّ الرِّحال تقصدًا لزيارة قبر النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يصحَّ فيه حديث مع اتفاق العلماء على مشروعية زيارة القبور عامة لتذكر الموت والآخرة من غير سفر من أجلها أو شد الرِّحال لها.
والأولى أن يجعل الزائر قصده لزيارة مسجد النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم والصلاة فيه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ»(١٨- أخرجه البخاري، كتاب «الصلاة»، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1/284)، ومسلم، كتاب «الحج»، باب فضل الصلاة بمسجدَيْ مَكَّة والمدينة (1/626)، رقم: (1394)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)، وله بعد ذلك أن يزور قبرَ النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم ويُسَلِّم عليه ثم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ثمَّ ينصرف، كما له أن يزور مقبرة البقيع إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يزور أهلَها ويسلم عليهم، فهذا هو الموافق للسُّنَّة والآثار.
من موقع الشيخ ابي عبد المعز علي فركوس الجزائري
إذا توفَّرت الاستطاعة في الحجِّ والعمرة، وعَزَم الحاجُّ أو المعتمِرُ على أداء هذه العبادة الجليلة فإنَّه يحسُن في هذا المقام أن يُقَدَّم بين يديه نصائح توجيهية تسبق رحلته العظيمة إلى بلد الله الحرام، استجابةً لأمره تعالى: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ [آل عمران: 97]، وقولِه تعالى: ﴿وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ﴾ [البقرة: 196]، وتلبية للنداء الواجب في قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «يَا أَيُهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ الحَجَ فَحُجُّوا»(١- أخرجه مسلم كتاب «الحج»، باب فرض الحجّ مرة واحدة في العمر (1/607)، وأحمد في «المسند» (2/502)، والبيهقي في «السنن الكبرى» باب وجوب الحجّ مرَّة واحدة (4/325)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-).
وقد ارتأيت أن أُقَسِّم نصائحي إلى توجيهين مُرتَّبين بحَسَب الأولوية إلى:
• ما يتعلَّق بنفس الحاجِّ أو المعتمر قبل الشروع في أعمالهما.
• وأخرى تتعلَّق به قبل سفره وفي أثنائه وعند قُفوله منه، ليسهل تحصيلها والانتفاع بها.
وهي تظهر على الشكل التالي:
توجيهات قبل الشروع في أعمال الحج
وتتمثَّل هذه التوجيهات في النقاط التالية:
• أولا: تجريد النَّفس وتصفيتها من الشرك والحذر منه وتجنُّب أسبابه، إذ المعلوم أنه قد سرى في العديد من الطغام والعوام الغلوّ في الصالحين حتى أضفوا عليهم خصائص الرُّبوبية، وأنزلوهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله إلى ما لا يجوز أن يكون إلاَّ لله: مِن طلبِ المددِ منهم عند حصولِ المكارهِ، والاستغاثةِ بهم في الشدائدِ، والتبرُّكِ بتربتهم والطوافِ بقبورهم، وذبحِ القرابين لأضرحتهم، ودعائِهم والتوسُّلِ بهم وسؤالهم الشفاعة من دون الله، حتى أضحت قبورُ الصالحين أوثانًا تُعَلَّق عليها القناديلُ والسُّرَج، وتُسدَلُ عليْها الستور، واتخذت أعيادًا ومناسك -والله المستعان-.
ولا يخفى أنَّ الشرك أكبرُ الكبائرِ وأعظمُ الظلمِ، وهو مبطلٌ للأعمال ومفسدٌ للعبادات لقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الزمر: 65]، لذلك ينبغي الاجتهاد في تصفية النَّفس بالتخلُّص من أدران الشرك وتطهير المعتقد منه، والوقاية من الوقوع فيه، ووجوب الحذر منه، وسدّ كلِّ طريق يؤدي إليه، لا سيما لمن عزم على الحجِّ أو العمرة فإنه إن لم يطهِّر نفسَه من الشركيات المقترنة بمعتقده وأعماله، فيُخشى عليه -فضلاً عن ارتكابه لأعظم الذنوب- أن يضيِّع جهدَه ومالَه سُدًى بلا أجرٍ ولا ثوابٍ، لقوله تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً﴾ [الفرقان: 23].
• ثانيا: المبادرة بالتوبة النصوح، والإقلاع عن الذنوب والمعاصي، وعدم العودة إليها أبدًا، والاستكثار من الحسنات، فباب التوبة مفتوح(٢- تنبيه: باب التوبة منقطع في ثلاثة أحوال: • الحالة الأولى: عند نزول العذاب لقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ﴾ [غافر : 84-85]. • والحالة الثانية: إذا بلغت الروح الحلقوم لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدَ مَا لَمَ يُغَرْغِرْ». [أخرجه الترمذي في «الدعوات» ( 5/547)، رقم: (3537)، باب في فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله بعباده من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه ابن ماجه في «الزهد» (2/1420)، رقم: (4253)، باب ذكر العقوبة من حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما، والحديث حسَّنه الألباني في «صحيح سنن الترمذي» (3/453- 454)، وفي «صحيح سنن ابن ماجه» (3/383)] . • والحالة الثالثة: إذا طلعت الشَّمس من مغربها لقوله تعالى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً﴾ [الأنعام:158]، ولقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لاَ تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ حَتَى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَى تَطلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا». [أخرجه أبو داود في «الجهاد» (3/7)، رقم: (2479)، باب في الهجرة هل انقطعت؟ من حديث معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنهما، والحديث صحَّحه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (2/90)]. )، لقوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53]، ولقوله تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور:31]، فعلَّق الفلاحَ بالتوبة تعليقَ المسبب بسببه، ثمَّ أتى بأداة «لعلَّ» المشعرة بالترجي، فكان المعنى: أنَّه لا يرجو الفلاحَ إلاَّ التائبون.
والتوبة التي تعالج الذنب وتمحو أثره هي التوبة النصوح، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [التحريم: 8]، والحسنات تكَفِّر كثيرًا من السيِّئات، لقوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ [هود: 114]، ولقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً﴾ [الفرقان: 68-69-70]، ويؤكِّده قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى﴾ [طه: 75-76].
وقطعُ الصلة بالماضي الآثم وهجرُ أماكن المعصية وتركُ قرناء السوء من تقوى الله التي هي أساس القَبول، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة: 27]، لذلك لا ينال الحاجُّ أو المعتمرُ نصيبَه من المثوبة والأجر عند الله تعالى إلاّ بالامتثال للطاعة والإقلاع عن المعصية، قال تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة : 197]، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يقول: «مَنْ حَجَّ لله فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ َولَدَتْهُ أُمُّهُ»(٣- أخرجه البخاري في كتاب «الحج»، باب فضل الحج المبرور (1/368)، ومسلم كتاب «الحج»، باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (1/613). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه).
تنبيه: ومن أخطر المعاصي التي يجب أن يُبادر بالتوبة منها: البدعةُ في الدِّين فهي ضلالةٌ وبريدٌ إلى الشرك لقوله صلى الله عليه وآله وسلّم: «وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ»(٤- أخرجه أبو داود كتاب «السنة»، باب في لزوم السنة (4607)، والترمذي كتاب «العلم»، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع (2676)، وابن ماجه باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين (42)، وأحمد في «مسنده» (4/126)، من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه. والحديث صحَّحه ابن الملقن في «البدر المنير» (9/582)، وابن حجر في «موافقة الخبر الخبر» (1/136)، والألباني في «السلسلة الصحيحة» (2735)، وشعيب الأرناؤوط في تحقيقه ﻟ «مسند أحمد» (4/126)، وحسَّنه الوادعي في «الصحيح المسند» (938))، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلّم: «مَنْ أَحْدَثَ ِفي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌ»(٥- أخرجه البخاري كتاب «الصلح»، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود (٥/٣٠١)، ومسلم كتاب «الأقضية» (١٢/١٦) من حديث عائشة رضي الله عنها)، وفي رواية: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»(٦- أخرجه مسلم كتاب «الأقضية» (12/16) من حديث عائشة رضي الله عنها)، قال البربهاري رحمه الله: «واحذر من صغار المحدثات، فإنَّ صغار البدع تعود حتى تصير كبارًا، وكذلك كلّ بدعة أحدثت في هذه الأُمَّة كان أَوَّلها صغيرًا يشبه الحقَّ، فاغترَّ بذلك من دخل فيها، ثمَّ لم يستطع المخرج منها، فعَظُمت وصارت دِينًا يُدان به» (٧- «شرح السنة» للبربهاري (23)).
والبدعةُ درجاتٌ متفاوتة، وأسبابها ترجع إلى: الجهل بالدين، واتباع الهوى، والتعصُّب للآراء والأشخاص، والتشبُّه بالكفار وتقليدهم. ووجه كون البدعة أخطر من المعصية أنَّ صاحب المعصية يعلم بتحريم اعتدائه على حدود الله وحرماته، ويُرجى له الرجوع والقربة والاستغفار، ومنزلته أخفُّ وأهون من صاحب البدعة الذي يتعدَّى حدودَ الله بالتشريع والافتراء على الله سبحانه، ويحسب أنه من المهتدين، فيُخشى عليه البقاء على بدعته والاستمرار على الباطل والضلال ظنًّا منه أنه على حقٍّ وصواب، قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾ [الكهف: 103-104]. ومن الفوارق -أيضًا- أنَّ صاحب البدعة محتجز التوبة حتى يتركَها، لقوله صلى الله عليه وآله وسلّم: «إِنَّ اللهَ احْتَجَزَ التَّوْبَةَ عَنْ كُلِّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ حَتَى يَدَعَ بِدْعَتَهُ» (٨- أخرجه الطبراني في «الأوسط» رقم: (4360)، والمنذري في «الترغيب والترهيب» وحسَّنه (1/86)، وصحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (4/154)).
• ثالثا: إخلاص النية لله تعالى في العبادة المتقرب بها، لقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الزمر: 11-12]، لذلك لا يجوز أن يقصد بحَجِّه أو عُمرته رياءً أو سمعةً أو مفاخرةً أو مباهاةً أو أن يطمع غرضًا دنيويًّا، فهذه كلُّها من الشرك الأصغر المنافي لكمال التوحيد المُحبط للعمل، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: 33]، وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾ [الكهف: 110]، وقد توعَّد اللهُ المرائين بالويل في قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴾ [الماعون: 4-7]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «قَالَ تَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ مَعِي فِيهِ غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» (٩- أخرجه مسلم كتاب «الزهد والرقائق»، باب من أشرك في عمله غير الله (2/1361)، رقم: (2985)، وابن ماجه كتاب «الزهد»، باب الرياء والسمعة، رقم: (4202))، وفي الحديث: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللهُ بِهِ» (١٠- أخرجه البخاري كتاب «الرقاق» ، باب الرياء والسمعة (3/328)، ومسلم كتاب «الزهد والرقائق»، باب من أشرك في عمله غير الله (2/1361)، رقم: (2987)، من حديث جندب العلقي رضي الله عنه).
وضمن هذا المعنى يقول ابن رجب رحمه الله: «اعلم أنَّ العمل لغير الله أقسام:
فتارة يكون رياءً محضًا بحيث لا يُراد به سوى مرئيات المخلوقين لغرض دنيوي كحال المنافقين في صلاتهم، قال الله عز وجل: ﴿وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ﴾ [النساء: 142]، وقال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ﴾ [الماعون: 4]، وكذلك وصف الله تعالى الكفارَ بالرياء المحض في قوله: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ﴾ [الأنفال: 47]، وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة والحج وغيِرهما من الأعمال الظاهرة والتي يتعدى نفعُها، فإنَّ الإخلاص فيها عزيزٌ، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابطٌ وأن صاحبَه يستحق المقتَ من الله والعقوبةَ.
وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدلُّ على بطلانه أيضًا وحبوطه، ... وأمَّا إن كان أصل العمل لله ثمَّ طرأت عليه نية الرياء فلا يضرُّه، فإن كان خاطرًا ودفعه فلا يضرُّه بغير خلاف، فإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا يضرُّه ذلك ويجازى على أصل نيته ؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير الطبري، وأرجو أن عمله لا يبطل بذلك وأنه يجازى بنيته وهو مروي عن الحسن البصري وغيره»(١١- «جامع العلوم والحكم» لابن رجب (13ـ 16) بتصرف)
لذلك وجب أن تكون كلُّ الأعمال التي يبتغى بها وجه الله مصروفة لله تعالى على وجه الإخلاص، فالإخلاص شرطٌ لصِحَّة العمل وقَبولِه بلا خلاف(١٢- انظر: «الدين الخالص» لصديق حسن خان (2/385))، قال الحطاب المالكي رحمه الله: «فالمخلص في عبادته هو الذي يخلِّصها من شوائب الشرك والرياء، وذلك لا يتأتى له إلاَّ بأن يكون الباعث له على عملها قصد التقرُّب إلى الله تعالى وابتغاء ما عنده، فأمَّا إذا كان الباعث عليها غيرُ ذلك من أغراض الدنيا فلا يكون عبادة، بل مصيبة موبقة لصاحبها»(١٣- «مواهب الجليل» للحطاب (3/503)). ويؤكِّد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى لا يَقْبَلُ مِنَ العَمَلِ إِلاَّ مَا كَانَ خَالِصًا ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ» (١٤- أخرجه النسائي في «الجهاد» (6/25) باب من غزا يلتمس الأجر والذكر من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، والحديث حسَّنه الألباني، انظر: «السلسلة الصحيحة» (1/118)، رقم: (52).)، والأمور بمقاصدها وقد جاء في الحديث: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِ امْرِئٍ مَا نَوَى» (١٥- أخرجه البخاري كتاب «بدء الوحي» باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (1/9)، ومسلم كتاب «الإمارة» (2/920)، رقم: (1907)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه).
تنبيه: يَحْسُنُ بمن شرَّفَه الله بزيارة المدينة النبوية(١٦- وممَّا يجدر التنبيه له ولفت النظر إليه أنَّ زيارة مسجد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ليس هو الحجّ ولا جزء من الحج كما يعتقده معظم العوام عندنا، وإنما هو عمل مستقلٌّ بذاته مرغَّب فيه ولا علاقة له بالحجِّ ولا ارتباط له بمناسكه، فلتنتبه !!) أن يتقصَّد في سفره زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإن ذلك هو المشروع بنصِّ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وآله وسلم وَمَسْجِدِ الأَقْصَى»(١٧- أخرجه البخاري، كتاب «الصلاة»، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1/284)، ومسلم كتاب «الحج»، باب لا تشدُّ الرحال إلاَّ إلى ثلاثة مساجد (1/628) رقم: (1397)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)، أمَّا شدُّ الرِّحال تقصدًا لزيارة قبر النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يصحَّ فيه حديث مع اتفاق العلماء على مشروعية زيارة القبور عامة لتذكر الموت والآخرة من غير سفر من أجلها أو شد الرِّحال لها.
والأولى أن يجعل الزائر قصده لزيارة مسجد النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم والصلاة فيه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ»(١٨- أخرجه البخاري، كتاب «الصلاة»، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1/284)، ومسلم، كتاب «الحج»، باب فضل الصلاة بمسجدَيْ مَكَّة والمدينة (1/626)، رقم: (1394)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)، وله بعد ذلك أن يزور قبرَ النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم ويُسَلِّم عليه ثم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ثمَّ ينصرف، كما له أن يزور مقبرة البقيع إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يزور أهلَها ويسلم عليهم، فهذا هو الموافق للسُّنَّة والآثار.
من موقع الشيخ ابي عبد المعز علي فركوس الجزائري