إشراقة جزائرية
2018-01-01, 19:06
في بيتنا ماصو:
على غرار بيوت كل الجزائريين، كان بيتنا الجديد غير مكتمل، المساحة المغطاة ثلاث غرف فقط...ببلاط شطرنجي من عهد نابليون الأول...وواجهة المنزل بآجر أحمر غير مدهون...
كنا نسكن في منزل حكومي جميل وواسع وكثير المرافق، به حديقتان خلفية وأمامية، الحديقة الأمامية كانت تحوي شجرتي ورد من نوع" الياسمين الأبيض" ...
وحديقة خلفية غناء تحوي شتى الأنواع فمن البصل إلى الطماطم، والنعناع والخس...وتتشابك داليتان عملاقتان فيما بينهما ...
تركنا كل شيء، واشترى والدي قطعة أرض وعند انهاءه ثلاث غرف ...انتقلنا سراعا للعيش فيها...
أفنى والدي عمره في بناء منزلنا، فكل غرفة فيه تختلف في نوعية البلاط عن الأخرى، والأمر نفسه مع الطلاء...فأبي كان يشتري ما يسمح به جيبه، لا ما تتطلبه المساحة المغطاة...
كأغلب بيوت الجزائريين، بيتنا كان غير مكتمل، أعمدة صدأة فوق السطوح تعد بغد أفضل، منتصبة في السماء ، تكابد للبقاء، وتنتظر سني الرخاء..
أول عملية بناء تذكرتها، كانت عندما كنت في العاشرة من عمري، أذكر ذلك المساء جيدا، كان حلول بناء في بيتنا مناسبة سعيدة، تحضر فيها أمي أشهى الوجبات ، وتتخللها ما يسمى ب"العشوية" كل مساء...ووجبة الافطار أو مايسمى ب"لاكروت" على الساعة التاسعة صباحا...
كانت رائحة المسمن تنبعث في كافة أرجاء المنزل، حينما سمعت البناء "عمي محمد" ينادي فذهبت إليه لأستفسر ، فطلب مني الأخير طلبا أوصله لوالدي...حينها ذهبت منتشية كفتاة يعتمد عليها وقلت لأبي :
- عمي محمد قالك جيبلي البغرير
أبي مستغربا :
- هل أنت متأكدة من طلبه؟!
فأجبته بلهجة واثقة فقد كان يثق بفهمي وسرعة بداهتي ويعتمد علي في أمور يعجز عنها الكبار
- نعم، متأكدة
ازدادت دهشة والدي ونظر نحو والدتي قائلا:
- إنه طلب غريب...سأذهب للتأكد بنفسي
حينها نهض والدي من أمام الحاسوب، وذهب نحو عمي محمد واستفسره أمامي عن طلبه ، فأجابه الأخير أن عجينة الإسمنت نفذت، ويريد منه ابلاغ المساعد الذي كان خارجا، كي يحضر له المزيد...
حينها قهقه والدي عاليا ، وأخبر عمي محمد عن قصة "البغلي والبغرير" ...
تلك كانت أول مرة يدخل فيها ذلك المصطلح إلى قاموس كلماتي ....لكنه كان موقفا مخجلا للغاية...
تكررت زيارات البنائين كل سنة تقريبا، وكان مجيئهم للبيت يجلب لنا السعادة، فوالدي كان يجدها فرصة للقصص والحكايا معهم، ووالدتي كانت تفرح بكل زيادة في منزلنا الخالي من المرافق الضرورية لحياة أكثر رفاهية...
كان والدي كريما جوادا وكذلك أمي، وكانا إلى ذلك يدركان تعب هاته الفئة من الناس في تحصيل الرزق وتكبد المشقة والتعب، وما تتطلبه المهنة من جهد عضلي كبير...والذي يجب أن يقابله غذاء كامل يحوي اللحم لتعويض نقص البروتينات...فمعروف أن الماصو في الجزائر يتقاضى أموالا خيالية، ولكنه يبقى فقيرا نظرا لاتباعه نمطا غذائيا محددا، يحوي على الأقل 2كيلو من اللحم في اليوم...فما ينفقه هنا يصرف بسرعة هناك عند الجزار...
أتذكر والدي كيف كان يجتمع معهم حول مائدة الغداء، وسينية القهوة أو الشاي، بل ويلاطفهم ويمزح معهم، فلا يحسون معه بأي فرق، كان يتعلم منهم دروس الحياة، وكانوا يتعلمون منه بعض المسائل الشرعية...
والدي ذلك الرجل الأنيق بهندامه، والذي يمقت الكبر والتفاخر...كان يرتدي ثياب المهنة ويشاركهم بعض الأعمال، وكثيرا ما حدث اخوتي الذكور أن يخشوشنوا وأن الله يحب اليد العاملة فهي اليد العليا…
العام الفارط زارنا البناؤون لتغطية مساحة أخرى من المنزل، أصبحت فتاة ناضجة وعلي الآن مسؤولية خدمة الجميع بدل والدتي، كان الأمر محببا لي ، ويعتبر تجديدا وكسر روتين يومي ممل، لذلك كنت أتفانى في تحضير ألذ الوجبات...
وتنظيف ما خلفته عملية البناء من فوضى في المساء... وفي الليل كان والدي يحدث الجميع عن أخلاق "سي لخضر" ورفيقيه، ويرثى لحالهما فالأول كان يعاني قصورا كلويا ومع ذلك يتفانى في المهنة...
والآخر كان يعاني من مرض "القولون العصبي"...
لكنهما مع ذلك يقول أبي؛ من أفضل وأمهر من عرف من البنائين...وضف إلى ذلك كانا يتميزان بالقناعة والرضا ورقة القلب والروح، ودماثة الخلق...
وكانا يحدثانه عن غريب ما يلاقونه من تصرفات الناس معهم...
فأحيانا يبقونهم بدون طعام...
وفي أحسن الأحوال يقدم لهم صاحب المنزل الطعام من فوق أنفه، ولا يشاركهم الجلوس وكأنهم كلاب جرباء...
وآخر تتعمد زوجته تحضير نفس الوجبة كل يوم، وحين ألمحوا لصاحب المنزل-وكان رجلا غنيا كريما وطيبا- أنهم يعانون مع وجبة العدس كل يوم، وأن أحدهم يعاني البواسير يقول؛ وليتنا ما فعلنا، فقد عمدت زوجته الخبيثة بعد أن كلمها، بتحضير نفس الوجبة مضافا اليها الفلفل الحار!!
كفتاة كثر خطابها، ولا أحد مناسب بعد...سرح خيالي مع كلام الوالد عن أخلاق هؤلاء، وتمنيت أن يكون لهما أبناء بنفس تلك الروح والأخلاق، ولأن كل ما قلبي يظهر فورا على لساني، لاحظت والدتي أنني أكثر الحديث عن أخلاق هؤلاء البنائين، بفطرتها فهمت والدتي الأمر واستفسرت من أخي عن أبناء هؤلاء البنائين...
فرحت أنا بالأمر، ورحت أتخيل أخلاق ابن الماصو ذاك، وذهبت بي الأحلام إلى خواطر الابراهيمي: (( أتمثَّله مقدامًا على العظائم في غير تهوّر، محجامًا عن الصغائر في غير جبن، مقدّرًا موقع الرجل قبل الخطو، جاعلًا أول الفكر آخر العمل.
أتمثّله حِلْفَ عمل، لا حليف بطالة، وحلس معمل، لا حلس مقهى، وبطل أعمال، لا ماضغ أقوال، ومرتاد حقيقة، لا رائد خيال)).
ومالبثت أن تكسرت أمواج أحلامي العالية على حيثيات الحقيقة القاسية..
فواقع أولئك الأبناء لا يحكي أبدا سيرة أولئك الآباء...قال أخي بأن أحدهم خريج سجون...والآخر مدمن مخدرات شبه مجنون..
كانا حليفا بطالة لا حليفا عمل...وحلسا مقاهي لا حلسا عمل...وماضغا أقوال لا بطلا أعمال...ومرتادا خيال لا رائدا حقيقة...
فيا شباب الجزائر مثل أولئك لاتكونوا...
بقلم شمس الهمة
على غرار بيوت كل الجزائريين، كان بيتنا الجديد غير مكتمل، المساحة المغطاة ثلاث غرف فقط...ببلاط شطرنجي من عهد نابليون الأول...وواجهة المنزل بآجر أحمر غير مدهون...
كنا نسكن في منزل حكومي جميل وواسع وكثير المرافق، به حديقتان خلفية وأمامية، الحديقة الأمامية كانت تحوي شجرتي ورد من نوع" الياسمين الأبيض" ...
وحديقة خلفية غناء تحوي شتى الأنواع فمن البصل إلى الطماطم، والنعناع والخس...وتتشابك داليتان عملاقتان فيما بينهما ...
تركنا كل شيء، واشترى والدي قطعة أرض وعند انهاءه ثلاث غرف ...انتقلنا سراعا للعيش فيها...
أفنى والدي عمره في بناء منزلنا، فكل غرفة فيه تختلف في نوعية البلاط عن الأخرى، والأمر نفسه مع الطلاء...فأبي كان يشتري ما يسمح به جيبه، لا ما تتطلبه المساحة المغطاة...
كأغلب بيوت الجزائريين، بيتنا كان غير مكتمل، أعمدة صدأة فوق السطوح تعد بغد أفضل، منتصبة في السماء ، تكابد للبقاء، وتنتظر سني الرخاء..
أول عملية بناء تذكرتها، كانت عندما كنت في العاشرة من عمري، أذكر ذلك المساء جيدا، كان حلول بناء في بيتنا مناسبة سعيدة، تحضر فيها أمي أشهى الوجبات ، وتتخللها ما يسمى ب"العشوية" كل مساء...ووجبة الافطار أو مايسمى ب"لاكروت" على الساعة التاسعة صباحا...
كانت رائحة المسمن تنبعث في كافة أرجاء المنزل، حينما سمعت البناء "عمي محمد" ينادي فذهبت إليه لأستفسر ، فطلب مني الأخير طلبا أوصله لوالدي...حينها ذهبت منتشية كفتاة يعتمد عليها وقلت لأبي :
- عمي محمد قالك جيبلي البغرير
أبي مستغربا :
- هل أنت متأكدة من طلبه؟!
فأجبته بلهجة واثقة فقد كان يثق بفهمي وسرعة بداهتي ويعتمد علي في أمور يعجز عنها الكبار
- نعم، متأكدة
ازدادت دهشة والدي ونظر نحو والدتي قائلا:
- إنه طلب غريب...سأذهب للتأكد بنفسي
حينها نهض والدي من أمام الحاسوب، وذهب نحو عمي محمد واستفسره أمامي عن طلبه ، فأجابه الأخير أن عجينة الإسمنت نفذت، ويريد منه ابلاغ المساعد الذي كان خارجا، كي يحضر له المزيد...
حينها قهقه والدي عاليا ، وأخبر عمي محمد عن قصة "البغلي والبغرير" ...
تلك كانت أول مرة يدخل فيها ذلك المصطلح إلى قاموس كلماتي ....لكنه كان موقفا مخجلا للغاية...
تكررت زيارات البنائين كل سنة تقريبا، وكان مجيئهم للبيت يجلب لنا السعادة، فوالدي كان يجدها فرصة للقصص والحكايا معهم، ووالدتي كانت تفرح بكل زيادة في منزلنا الخالي من المرافق الضرورية لحياة أكثر رفاهية...
كان والدي كريما جوادا وكذلك أمي، وكانا إلى ذلك يدركان تعب هاته الفئة من الناس في تحصيل الرزق وتكبد المشقة والتعب، وما تتطلبه المهنة من جهد عضلي كبير...والذي يجب أن يقابله غذاء كامل يحوي اللحم لتعويض نقص البروتينات...فمعروف أن الماصو في الجزائر يتقاضى أموالا خيالية، ولكنه يبقى فقيرا نظرا لاتباعه نمطا غذائيا محددا، يحوي على الأقل 2كيلو من اللحم في اليوم...فما ينفقه هنا يصرف بسرعة هناك عند الجزار...
أتذكر والدي كيف كان يجتمع معهم حول مائدة الغداء، وسينية القهوة أو الشاي، بل ويلاطفهم ويمزح معهم، فلا يحسون معه بأي فرق، كان يتعلم منهم دروس الحياة، وكانوا يتعلمون منه بعض المسائل الشرعية...
والدي ذلك الرجل الأنيق بهندامه، والذي يمقت الكبر والتفاخر...كان يرتدي ثياب المهنة ويشاركهم بعض الأعمال، وكثيرا ما حدث اخوتي الذكور أن يخشوشنوا وأن الله يحب اليد العاملة فهي اليد العليا…
العام الفارط زارنا البناؤون لتغطية مساحة أخرى من المنزل، أصبحت فتاة ناضجة وعلي الآن مسؤولية خدمة الجميع بدل والدتي، كان الأمر محببا لي ، ويعتبر تجديدا وكسر روتين يومي ممل، لذلك كنت أتفانى في تحضير ألذ الوجبات...
وتنظيف ما خلفته عملية البناء من فوضى في المساء... وفي الليل كان والدي يحدث الجميع عن أخلاق "سي لخضر" ورفيقيه، ويرثى لحالهما فالأول كان يعاني قصورا كلويا ومع ذلك يتفانى في المهنة...
والآخر كان يعاني من مرض "القولون العصبي"...
لكنهما مع ذلك يقول أبي؛ من أفضل وأمهر من عرف من البنائين...وضف إلى ذلك كانا يتميزان بالقناعة والرضا ورقة القلب والروح، ودماثة الخلق...
وكانا يحدثانه عن غريب ما يلاقونه من تصرفات الناس معهم...
فأحيانا يبقونهم بدون طعام...
وفي أحسن الأحوال يقدم لهم صاحب المنزل الطعام من فوق أنفه، ولا يشاركهم الجلوس وكأنهم كلاب جرباء...
وآخر تتعمد زوجته تحضير نفس الوجبة كل يوم، وحين ألمحوا لصاحب المنزل-وكان رجلا غنيا كريما وطيبا- أنهم يعانون مع وجبة العدس كل يوم، وأن أحدهم يعاني البواسير يقول؛ وليتنا ما فعلنا، فقد عمدت زوجته الخبيثة بعد أن كلمها، بتحضير نفس الوجبة مضافا اليها الفلفل الحار!!
كفتاة كثر خطابها، ولا أحد مناسب بعد...سرح خيالي مع كلام الوالد عن أخلاق هؤلاء، وتمنيت أن يكون لهما أبناء بنفس تلك الروح والأخلاق، ولأن كل ما قلبي يظهر فورا على لساني، لاحظت والدتي أنني أكثر الحديث عن أخلاق هؤلاء البنائين، بفطرتها فهمت والدتي الأمر واستفسرت من أخي عن أبناء هؤلاء البنائين...
فرحت أنا بالأمر، ورحت أتخيل أخلاق ابن الماصو ذاك، وذهبت بي الأحلام إلى خواطر الابراهيمي: (( أتمثَّله مقدامًا على العظائم في غير تهوّر، محجامًا عن الصغائر في غير جبن، مقدّرًا موقع الرجل قبل الخطو، جاعلًا أول الفكر آخر العمل.
أتمثّله حِلْفَ عمل، لا حليف بطالة، وحلس معمل، لا حلس مقهى، وبطل أعمال، لا ماضغ أقوال، ومرتاد حقيقة، لا رائد خيال)).
ومالبثت أن تكسرت أمواج أحلامي العالية على حيثيات الحقيقة القاسية..
فواقع أولئك الأبناء لا يحكي أبدا سيرة أولئك الآباء...قال أخي بأن أحدهم خريج سجون...والآخر مدمن مخدرات شبه مجنون..
كانا حليفا بطالة لا حليفا عمل...وحلسا مقاهي لا حلسا عمل...وماضغا أقوال لا بطلا أعمال...ومرتادا خيال لا رائدا حقيقة...
فيا شباب الجزائر مثل أولئك لاتكونوا...
بقلم شمس الهمة