المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فتاوى الشيخ فركوس حفظه الله تعالى


وافي طيب
2017-12-16, 20:08
في حكم الأناشيد الإسلامية والدعوةِ بها

السؤال:
ما حكمُ الأناشيد الإسلامية؟ وهل يجوز اتِّخاذُها وسيلةً للدعوة؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فتجدرُ الملاحَظةُ ـ أوَّلًا ـ أنَّ تقييدَ الأناشيدِ المتضمِّنةِ للأشعار والأرجاز بكونها «إسلاميةً» أو «دينيةً» غيرُ معروفٍ عند خيرِ الناس مِنَ القرون المفضَّلة ولا مَنْ بعدهم، وإنما كانوا يُفرِّقون بين الحَسَنِ والقبيحِ مِنَ الشِّعر والرَّجَز، أو بين المحمود والمذموم، أو بين ما يُكْرَهُ وما يجوز.
أمَّا الأناشيد إِنْ كانَتْ عبارةً عن أشعارٍ أو أرجازٍ تُرنَّم لإظهار السرور بها أو قَطْعِ المسافات في الأسفار أو ترويحِ النفس، وكانَتْ مُشْتَمِلةً على مَواعِظَ وأمثالٍ وحِكَمٍ، وخاليةً مِنَ المعازف وآلاتِ الطرب باستثناء الدفِّ في العيد والعرس، وكانَتْ سالِمَةً مِنَ الفُحْشِ والخَنَا الذي يُثير الشهوةَ ويدفع إلى الفاحشة أو يَصِفُ محاسنَ المرأةِ والخمرةَ ويشجِّع على شُرْبِها، ولم يتضمَّنِ الشِّعْرُ شركًا بالله تعالى أو كَذِبًا على الله ورسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابِه رضي الله عنهم؛ فلا مانِعَ منها إذ لا محذورَ فيها، لكنَّ الإكثار مِنَ الترنُّم بها أو الاستماعِ إليها غيرُ ممدوحٍ بل مرغوبٌ عنه؛ إذ ليس كُلُّ مُباحٍ يُباحُ على الإطلاق، وخاصَّةً إذا كانَتْ تصرف سامِعَها عن قراءةِ القرآنِ أو عن طَلَبِ العلمِ النافع أو الدعوةِ إلى الله تعالى، وقد أقرَّ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على الشِّعر والرَّجَز والحُداء، وبوَّب البخاريُّ ـ رحمه الله ـ: «بابُ ما يجوز مِنَ الشعر والرَّجَز والحُداء وما يُكْرَه منه»(١)، وكان البراءُ بنُ مالكٍ رضي الله عنه يحدو بالرجال، وكان أَنْجَشَةُ يحدو بالنساء ـ وكان حَسَنَ الصوت ـ فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «يَا أَنْجَشَةُ، رُوَيْدَكَ سَوْقًا بِالقَوَارِيرِ»(٢)، والحُداءُ في الغالبِ إنما يكون بالرَّجَزِ وقد يكون بغيره مِنَ الشعر، وهو ضربٌ مِنَ الغناء، وشبيهُه غناءُ الركبانِ وغناءُ النصب، وقد نَقَلَ ابنُ عبدِ البرِّ ـ رحمه الله ـ جوازَ هذه الأوجه جميعًا ـ بلا خلافٍ ـ إِنْ سَلِمَ الشعرُ مِنَ الفحش والخَنَا.
أمَّا الأناشيد المسمَّاةُ إسلاميةً، التي تُقام على وجهٍ يُنْشَد فيه الشعرُ بالألحان والتنغيمِ استجلابًا للتطريب في حِلَقِ الذِّكر وغيرها، وقد يُصاحِبُه بعضُ المعازف وآلاتِ الطرب كالدفِّ والطبل والقضبان وغيرها؛ فهذا أَشْبَهُ بالتغبير الذي ذمَّهُ الشافعيُّ وأحمد وغيرُهما مِنَ الأئمَّة المتقدِّمين، فقَدْ صحَّ عن الشافعيِّ ـ رحمه الله ـ أنه قال: «خلَّفْتُ بالعراق شيئًا يسمَّى: التغبيرَ وضعَتْه الزنادقةُ، يشغلون به الناسَ عن القرآن»(٣)، وصحَّ عن أحمد ـ رحمه الله ـ أنه قال عنه: «بدعةٌ مُحْدَثةٌ»(٤).
ويكفي أنَّ المذاهب الأربعة اتَّفقوا على تحريمِ آلات الطرب تحريمًا كُلِّيًّا إلَّا ما استثناه الدليلُ وهو الدُّفُّ في النكاح والعيد، وقد ورَدَتْ نصوصٌ كثيرةٌ مِنَ الكتاب والسُّنَّةِ تذمُّ آلةَ الطرب وتمنعها(٥)، منها: قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «صَوْتَانِ مَلْعُونَانِ: صَوْتُ مِزْمَارٍ عِنْدَ نِعْمَةٍ، وَصَوْتُ وَيْلٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ»(٦)، وقولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ»(٧)، وغيرُها مِنَ الأدلَّة الشرعية.
هذا، وأمَّا اتِّخاذُ اللهوِ والغناء وسيلةً للدعوة إلى الله فلا يخفى على عاقلٍ عَدَمُ مشروعيته؛ لأنَّ ممارسةَ العملِ الدعويِّ ومباشَرتَه دون معرفةِ حُكْمِه والاستنادِ إلى دليلِه الشرعيِّ تحكُّمٌ واتِّباعٌ للهوى، وهو مردودٌ على صاحِبِه؛ إذ لا يجوز الخروجُ عن الحكم الشرعيِّ في المناهج والمقاصد والوسائل؛ لقوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ١٨﴾ [الجاثية]، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»(٨)؛ فوسائلُ الدعوة إلى الله ينبغي موافَقتُها للنصوص الشرعية العامَّة أو الخاصَّة وقواعدِ الشرع الكُلِّية، وإذا كانَتْ وسيلةُ الغناءِ تابعةً لمقاصدَ طائفيةٍ أو تخدم أغراضًا حزبيةً أو جهويةً فتُمْنَعُ بحكمِ تبعيَّتِها؛ لأنَّ طُرُقَ المناهي والمكروهاتِ تابعةٌ لها، و«النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ نَهْيٌ عَمَّا لَا يَتِمُّ اجْتِنَابُهُ إِلَّا بِهِ»، وإذا كانَتْ وسيلةُ الغناءِ تمثِّل شعارًا خاصًّا بجماعةٍ معيَّنةٍ ذاتِ مَنْحًى عقديٍّ تدعو إليه، أو طائفيٍّ أو حزبيٍّ تسير على منهجه؛ فإنَّ الوسيلةَ تُمْنَعُ لِتَعلُّقِ وصفٍ منهيٍّ بها؛ فلذلك سيَّب النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وسيلةَ النفخِ في البوق للدعوة إلى الصلاة لكونه شعارَ اليهود، وتخلَّى عن الضرب بالناقوس لكونه شِعارَ النصارى، وتَرَكَ إيقادَ النارِ لكونه شِعارَ المجوس(٩).
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

وافي طيب
2017-12-18, 10:15
الفتوى رقم: ٤٨٤

*الصنف*: *فتاوى الصلاة*
*السؤال:*
*ما حكمُ تعليقِ اللوحات التعليمية المُحْتَوِيةِ على صفةِ الصلاة والوضوء، وغيرِها مِن اللوحات التنبيهية والتوجيهية في المسجد؟ وجزاكم الله خيرًا*.
الجواب:
*الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد*:
فتعليق اللوحات الخاصَّةِ بالمفقودات بالمسجد مِن مَفاتيحَ ونحوِها هو ضربٌ شبيهٌ بإنشادِ الضالَّةِ قد يتناوله عمومُ حديثِ النهي عن إنشادِ الضالَّة في المسجد(١).
وكذلك لا يجوز تعليقُ اللوحات المبيِّنة لتاريخِ بناءِ المسجدِ مقرونةً باسْمِ مَن بَنَاه، خاصَّةً إن كان على وجهِ الرِّياء والسُّمعة.
وأمَّا تعليق اللوحات مِن القرآنِ الكريم والسنَّةِ النبوية فإنه يُكْرَه ذلك، خاصَّةً إذا كانَتْ هذه اللوحاتُ مُقابِلةً للمُصَلِّي وعلى جدارِ قِبْلته؛ لأنَّ المسجد مكانُ عبادةٍ وصلاةٍ وليس للنزهة الفنِّيَّة، وكُلُّ ما يَشْغَل ينبغي إبعادُه عن المُصَلِّي لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا»(٢)، وإنما القرآنُ والسُّنَّةُ وَحْيٌ نَزَلَ للعملِ والاعتبار والاتِّعاظ، لا للعَرْض والتزيين والزخرفة.
وأمَّا تعليق اللوحات ذاتِ التوجيهات النافعة المُخْتلِفَةِ فلا مانِعَ مِن تعليقها عند بوَّابةِ المسجد لا داخِلَه، بحيث تُوضَع لوحةٌ تفصيليَّةٌ خاصَّةٌ بالتوجيهات والتنبيهاتِ اللازمةِ والضرورية صيانةً للمسجد وتحقيقًا لمصلحة المُصَلِّين.
غيرَ أنه يُشْتَرط أن لا تحتويَ هذه اللوحاتُ على رسوماتٍ متنوِّعةٍ أو ذواتِ الأرواح، أو أشكالٍ مُزَخْرَفةٍ، أو تتضمَّنَ كلامًا مُخِلًّا بالعقيدة أو أحاديثَ لا يصحُّ الاستنادُ إليها يعودُ ضَرَرُها على المسلمين، كما لا يجوز أن تكون لوحاتٍ إعلاميةً أو إشهاريةً أو إخباريةً؛ لأنَّ المساجد لم تُبْنَ لهذا، و«إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ القُرْآنِ»(٣).
*والعلمُ عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا*.

*من تطبيق آثار العلامة محمد علي فركوس **

وافي طيب
2017-12-18, 12:27
الفتوى رقم: ٤٨٤

*الصنف*: *فتاوى الصلاة*
*السؤال:*
*ما حكمُ تعليقِ اللوحات التعليمية المُحْتَوِيةِ على صفةِ الصلاة والوضوء، وغيرِها مِن اللوحات التنبيهية والتوجيهية في المسجد؟ وجزاكم الله خيرًا*.
الجواب:
*الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد*:
فتعليق اللوحات الخاصَّةِ بالمفقودات بالمسجد مِن مَفاتيحَ ونحوِها هو ضربٌ شبيهٌ بإنشادِ الضالَّةِ قد يتناوله عمومُ حديثِ النهي عن إنشادِ الضالَّة في المسجد(١).
وكذلك لا يجوز تعليقُ اللوحات المبيِّنة لتاريخِ بناءِ المسجدِ مقرونةً باسْمِ مَن بَنَاه، خاصَّةً إن كان على وجهِ الرِّياء والسُّمعة.
وأمَّا تعليق اللوحات مِن القرآنِ الكريم والسنَّةِ النبوية فإنه يُكْرَه ذلك، خاصَّةً إذا كانَتْ هذه اللوحاتُ مُقابِلةً للمُصَلِّي وعلى جدارِ قِبْلته؛ لأنَّ المسجد مكانُ عبادةٍ وصلاةٍ وليس للنزهة الفنِّيَّة، وكُلُّ ما يَشْغَل ينبغي إبعادُه عن المُصَلِّي لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا»(٢)، وإنما القرآنُ والسُّنَّةُ وَحْيٌ نَزَلَ للعملِ والاعتبار والاتِّعاظ، لا للعَرْض والتزيين والزخرفة.
وأمَّا تعليق اللوحات ذاتِ التوجيهات النافعة المُخْتلِفَةِ فلا مانِعَ مِن تعليقها عند بوَّابةِ المسجد لا داخِلَه، بحيث تُوضَع لوحةٌ تفصيليَّةٌ خاصَّةٌ بالتوجيهات والتنبيهاتِ اللازمةِ والضرورية صيانةً للمسجد وتحقيقًا لمصلحة المُصَلِّين.
غيرَ أنه يُشْتَرط أن لا تحتويَ هذه اللوحاتُ على رسوماتٍ متنوِّعةٍ أو ذواتِ الأرواح، أو أشكالٍ مُزَخْرَفةٍ، أو تتضمَّنَ كلامًا مُخِلًّا بالعقيدة أو أحاديثَ لا يصحُّ الاستنادُ إليها يعودُ ضَرَرُها على المسلمين، كما لا يجوز أن تكون لوحاتٍ إعلاميةً أو إشهاريةً أو إخباريةً؛ لأنَّ المساجد لم تُبْنَ لهذا، و«إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ القُرْآنِ»(٣).
*والعلمُ عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا*.

*من تطبيق آثار العلامة محمد علي فركوس **

محارب الحمق
2017-12-18, 22:28
بارك الله فيك

وافي طيب
2017-12-19, 08:51
*جديد فتاوى الشيخ علي فركوس*
التبويب الفقهي للفتاوى:*فتاوى اللباس

الفتوى رقم: ١١٩٢

الصنف: فتاوى اللباس

في حكم نزع النقاب للمصلحة

السؤال:

أنا أختٌ مطلَّقةٌ ولي ولدٌ، وأنا عاملةٌ: أستاذةُ مدرسةٍ ابتدائية، وأرتدي النقابَ مِنْ باب الاستحباب وليس الوجوب؛ وعندما أَدْخلُ المدرسةَ أرفعه لأنه ممنوعٌ، ولأنَّنا مُلْزَماتٌ باستقبال أولياء الأمور وحضورِ الندوات مع الرجال؛ لذا أريد أَنْ أنزعه مِنْ هذا الباب، ومِنْ بابٍ آخَرَ: لأنَّ العُرْف ـ*عندنا*ـ أنَّ كُلَّ مُنْتقِبةٍ فهي متزوِّجة؛ فهل أنا آثمةٌ إِنْ نزعتُه؟ بارك الله فيكم.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فبِغَضِّ النظر عن حكمِ عمل المرأة الذي سَبَق بيانُه في فتوَى سابقةٍ(١)، فإنَّ حكم النقاب مبنيٌّ على الأفضلية جمعًا بين الأحاديث الواردة فيه، القاضيةِ بأفضليَّته واستحبابه مِنْ باب كمالِ هيئة المرأة، وهو ـ*عندي*ـ أصحُّ قولَيِ العلماء.

وعليه، فالمرأة إذا تنقَّبَتْ ـ*بهذا الوجه*ـ طاعةً لله فلا تنزعه لغرض الزواج أو نحوِ ذلك؛ عملًا بقوله تعالى: ﴿وَلَا تُبۡطِلُوٓاْ أَعۡمَٰلَكُمۡ ٣٣﴾*[محمَّد]؛ فاللهُ تعالى يجازي عَبْدَه المُحْسِن بالنيَّة المُخْلِصة الصادقة، وييسِّر له أَمْرَه فيما يرغب فيه، أمَّا مع محارمها أو الأولاد الصغار دون البلوغ فلا بأسَ إِنْ وضعَتْ نِقابَها، وأمَّا في الأحوال الأخرى فيبقى الاستحبابُ قائمًا في حقِّها، ولا ينبغي ـ*والحالُ هذه*ـ أَنْ تُبْطِل عملَها إلَّا عند الحاجة أو الاضطرار وإِنْ لم يترتَّبْ عليها إثمٌ؛ فالْتزامُ المواصلة في الخير خيرٌ لها، واللهُ تعالى يعوِّضها خيرًا، واللهُ لا يُضيعُ أجرَ المحسنين المُصْلِحين.

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٠٧ مِنَ المحرَّم ١٤٣٩ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٧ سـبتـمـبر ٢٠١٧م

*

وافي طيب
2017-12-19, 21:50
الفتوى رقم: ٧٤٧

الصنـف: فتاوى متنوِّعة - ألفاظٌ في الميزان

في حكم التسميات التالية:
«دحمان» «عبد قَّا» «حمُّو» «يسُّو» وغيرها

السـؤال:

هل يُشْرَعُ تسميةُ المولود باسْمِ «دحمان» أو «دحمون» أو «رحمو» أو «حمُّو» أو «يسُّو»؟ أفيدونا جزاكم اللهُ خيرًا.

الجـواب:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

• فاسْمُ «دَحْمَان» و«دَحْمُون» مِن الدَّحْم وهو: الدفع الشديد، ومنه سُمِّيَ الرجلُ: دحمان ودُحَيْمًا(١)، ودَحَمَ المرأةَ يَدْحَمُها دَحْمًا، أي: هو «النكاحُ والوطءُ بدفعٍ وإزعاجٍ»(٢)، قال ابن حِبَّان في دُحَيْمٍ القاضي: «دُحَيْمٌ: تصغيرُ دَحْمَان، ودحمان ـ بلُغَتِهم ـ: خبيثٌ»(٣)، قال بكر أبو زيد: «وهذا اللقب مُنْتَشِرٌ ـ عندنا ـ في اليمامة، يُلَقَّبُ به مَن اسْمُه: عبد الرحمن على وجهِ الغضب»(٤).

• أمَّا «رحمو» فهو تحريفٌ فظيعٌ وتبديلٌ شَنِيعٌ لاسْمِ «عبد الرحمن»، وكذلك اسْمُ «عَبْدَ قَّا» اختصَرَتْهُ بعضُ المناطقِ الغَرْبِيَّةِ مِن الجزائر اختصارًا مُنْكَرًا عن اسْمِ «عبد القادر» بما يُبدِّلُ لفظَ الجلالةِ «القادر» ويحرِّفُ معناها، فهذا وغيرُه مِن قبيل اشتقاق أهلِ الجاهليةِ الأسماءَ الباطلةَ مِن اسْمِ الإلهِ الحقِّ، على ما جاء في قوله تعالى:*﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى﴾*[النجم: ١٩-٢٠]؛ فإنَّ «اللاَّت» مُشْتَقَّةٌ مِن*الله*أو مِنَ*الإله، فاشتقَّ أهلُ الجاهلية مِن أسماء اللهِ اسمًا للصَّنَم، وهي لأهل الطَّائف ومَنْ حولَهُمْ مِن العرب، و«العُزَّى» وهو مشتقٌّ من اسم اللهِ «العزيز»، وهو صَنَمٌ يعبُدُه قريشٌ وبنو كِنانة، كان بنخلةَ بين مكَّة والطائف، و«مَنَاةُ» مُشْتَقَّةٌ على أحَدِ الأقوال مِن «المنَّان»، وهو صَنَمٌ بين مكَّةَ والمدينةِ لِخُزَاعَةَ وهُذَيلٍ.

• وأمَّا «حَمُّو» و«يسُّو» فما هي إلاَّ ألقابٌ أو أسماءٌ مُخْتَصَرةٌ مِن اسْمِ «محمَّدٍ» و«يوسف» يُؤتَى بها للتحبُّب ما أَنْزَلَ اللهُ بها مِنْ سلطانٍ، وتكثر في المناطق الجنوبية وعند الإباضية خاصَّةً، فَقَلْبُ الأسماءِ المشروعةِ إلى أسماءٍ باطلةٍ مِن تلاعُبِ الشيطانِ وإزالته لخَيْرِيَّةِ الأسماءِ الأصيلةِ إلى ضِدِّها، وقد أَفْصَحَ عن ذلك ابنُ الحاج المالكيُّ في «المدخل» بقوله: «فلمَّا رأى الشيطانُ هذه البركةَ وعمومَها أراد أَنْ يُزيلَهَا عنهم لعبادته الذميمةِ وشيطنَتِهِ الكمينةِ فلم يُمْكِنْهُ أَنْ يُزيلَهَا إلاَّ بِضدِّها، وهو أَنْ يكون الاسْمُ يعودُ عليهم بالضُّرِّ، ثمَّ إنه لا يأتي لأحَدٍ إلاَّ بالوجه الذي يَعرفُ أنه يَقْبَلُ منه، فلمَّا كان أهلُ المشرق الغالبَ على بعضهم حُبُّ الفخر والرئاسة أبدلَ لهم تلك الأسماءَ المبارَكةَ بما فيه ذلك نحو «عزِّ الدِّين»، و«شمس الدِّين»، إلى غير ذلك ممَّا قد عُلِم، فنَزَّلَ التزكيةَ مَوْضِعَ تلك الأسماءِ المبارَكةِ، ولَمَّا أَنْ كان أهلُ المغربِ الغالبَ عليهم التواضعُ وتركُ الفخر والخُيَلاَءِ أتى لبعضهم مِن الوجه الذي يَعْلَمُ أنهم يَقْبَلُونَهُ منه فأوقَعَهُم في الألقاب المَنْهِيِّ عنها بنصِّ كتاب الله تعالى، فقالوا ﻟ «محمَّد»: حمُّو، وﻟ «أحمد»: حمدوس(٥)، وﻟ «يوسف»: يَسُّو، وﻟ «عبد الرحمن»: رحمو، إلى غير ذلك ممَّا هو معلومٌ معروفٌ عندهم مُتعارَفٌ بينهم، فأعطى لكُلِّ إقليمٍ الشيءَ الذي يعلم أنهم يقبلونه منه، نعوذُ بالله مِن ذلك»(٦).

والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٢٥ ربيع الأوَّل ١٤٢٨ﻫ
الموافق ﻟ: ١٣ أبريل ٢٠٠٧م

(١)*«لسان العرب» لابن منظور: (٤/ ٣٠٢).

(٢)*«النهاية» لابن الأثير (٢/ ١٠٦).

(٣)*«تهذيب التهذيب» لابن حجر (٦/ ١٣٢).

(٤)*«معجم المناهي اللفظية» لبكر أبو زيد: (٢٥٧).

(٥)*هذا، والعرب سمّت حامدًا وحُمَيدًا وحَميدًا ومحمودًا وحمّادًا وحَمْدًا وأحمد وحمدون وحَمْدين وحَمْدان وحَمْدى وحَمُّودًا ويَحْمد ويُحْمدُ، كما سمّت رجال من العرب أبناءهم من الجاهلية بمحمّد لإخبار الرهبان أنه سيكون نبي يسمّى محمّدًا. [«القاموس المحيط» للفيروزآبادي: (١/ ٣٥٥)، «لسان العرب» لابن منظور: (٣/ ٣١٦)، «تاج العروس» للزبيدي: (١/ ١٩٦٢)].

(٦)*«المدخل» لابن الحاج (١/ ١٢٩).
https://ferkous.com/home/?q=fatwa-747

mustapha.cnc
2017-12-19, 22:22
جزاك الله خيرا

طريق الربح
2017-12-20, 00:37
جزاك الله كل خيرا

وافي طيب
2017-12-20, 14:30
بارك الله فيكم

وافي طيب
2017-12-20, 14:39
في حكم الفِرَق الضالَّة مِنْ أهل القِبْلة

السؤال:
هل الفِرَقُ الضالَّةُ كُلُّها تُخلَّدُ في النارِ أم أنها تُعذَّب ثمَّ تدخل الجنَّةَ؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالفِرَقُ الضالَّةُ إمَّا أَنْ لا يُخْرِجها ضلالُها مِنْ حظيرةِ الإسلام وتكون مِنْ عمومِ أُمَّة الهداية، فهؤلاء إِنْ ماتوا على فِسْقِهِمْ فَيَرِدُونَ النارَ ولا يخلدون فيها، بل يخرجون منها بشفاعةِ الشافعين وبرحمةِ ربِّ العالَمِين إِنْ كان في قلوبهم ذرَّةٌ مِنْ إيمانٍ كما ورَدَتْ به الأحاديثُ الصحيحة، وقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم في حديثِ الفِرَق: «أَلَا إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى ثِنْتَيِنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَإِنَّ هَذِهِ المِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ: ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ فِي الجَنَّةِ وَهِيَ الجَمَاعَةُ»(١)؛ فَفِرَقُ أهلِ القِبْلةِ الخارجةُ عن أهلِ السُّنَّةِ متوعَّدون بالهَلَاك والنار، وحُكْمُهم حُكْمُ عامَّةِ أهلِ الوعيد إلَّا مَنْ كان منهم كافرًا في الباطن.
أمَّا إذا كان ضلالُهَا أخرجها ـ بعد قيامِ الحُجَّةِ عليها ـ مِنْ دائرةِ الإسلام وارتدَّتْ عنه؛ فهؤلاء تُجْرَى عليهم أحكامُ أهلِ الكفر، وحُكْمُهم حكمُ المرتدِّين، ولا يدخلون تحت المشيئةِ؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰٓ إِثۡمًا عَظِيمًا ٤٨﴾ [النساء]، وغيرِها مِنَ الآيات التي نَزَلَتْ تتوعَّد الكُفَّارَ بالخلود في النار.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ٠٨ جمادى الثانية ١٤٢٦ﻫ
الموافق ﻟ: ١٤ جويلية ٢٠٠٥م

الاخ ياسين السلفي
2017-12-21, 07:10
حفظ الله شيخنا فركوس وجعله شوكة في حلقة كل مبتدع وضال

الاخ ياسين السلفي
2017-12-21, 07:11
في حكم تشييخ الحدث


السـؤال:

قد كَثُرَ في هذا الزمانِ التلقيبُ بالشيخ على كُلِّ مَنْ تَصَدَّرَ للتدريس أو الدعوة ، حتَّى ولو كان مستواه عاديًّا جدًّا ، فأرجو مِن فضيلتكم بيانَ مدلولِ هذه الكلمةِ ومَن يَسْتَحِقُّها ؟ وجزاكم اللهُ خيرًا .

الجـواب :

الحمدُ لله ربِّ العالمين ، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين ، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين ، أمَّا بعد :
فالشيخ هو كُلُّ مَن زادَ على الخمسين، وهو فوق الكهلِ ودون الهَرِمِ الذي فَنِيَتْ قوَّتُه ، وهو يُسَمَّى بالشيخ الفاني (ظ،) .
وفي مَقامِ العلم يُطْلَق هذا اللقبُ على كُلِّ كبيرِ السنِّ المَهيبِ الوَقورِ الذي اكتسب التجربةَ في مُخْتَلَفِ العلوم واستصحب الخبرةَ في مجالاتها ، ويتمتَّع غالبًا بقوَّةٍ في رَدِّ الشبهة وتقريرِ الحُجَّة ، ويظهر ذلك في إنتاجه العلميِّ والتربويِّ والتوجيهيِّ ، بعيدًا عن الهوى واستمالةِ النفس به إلى الطمع بما في أيدي الناس .
وتأسيسًا على هذا المعيار فلا يَليقُ تلقيبُ طالبٍ مبتدئٍ في العلوم أو شابٍّ حديثِ السِّنِّ ï؛‘ « الشيخ » بالمعنى الاصطلاحيِّ ، ولو اكتسب بعضَ العلوم أو تخرَّج مِن جامعةٍ شرعيةٍ أو مركزٍ للعلوم أو زاويةٍ لحفظِ كتاب الله وبعضِ سنن المصطفى صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ، أو وُسِم بشهاداتٍ وإجازاتٍ وتزكياتٍ ، لأنَّ المناهج الدراسية المتَّبعة حاليًّا قصيرةُ المدَّة لا تَفي بالغرض ولا تغطِّي المطلوبَ ، وجوانبُ النقص في الطالب على العموم بارزةٌ بل حتَّى في أستاذه فهو ـ في الجملة ـ يحتاج بدوره إلى إعادة تأهيلٍ . وقد نُقِلَ عن الشافعيِّ ـ رحمه الله ـ قوله : «مَن طَلَبَ الرئاسةَ فرَّتْ منه ، وإذا تَصَدَّرَ الحَدَثُ فاتَهُ علمٌ كثيرٌ» (ظ¢) .
وفي تعليقٍ لابن قتيبة ـ رحمه الله ـ على أثَرِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه قولُه : « لا يَزال الناسُ بخيرٍ ما أخذوا العِلْمَ عن أكابرهم وأُمَنائهم وعلمائهم » (ظ£) ، قال رحمه الله ـ شارحًا معنى الأثر ـ : « لأنَّ الشيخ قد زالت عنه متعةُ الشباب وحِدَّتُه وعجلتُه وسَفَهُه ، واستصحب التجربةَ والخبرة ، فلا يدخل عليه في عِلْمِه الشبهةُ ، ولا يَغْلِب عليه الهوى ، ولا يَميل به الطمعُ ، ولا يستزلُّه الشيطانُ استزلالَ الحدث ، فمع السنِّ والوقار والجلالة والهيبة ، والحَدَثُ قد تدخل عليه هذه الأمورُ التي أُمِنَتْ على الشيخ ، فإذا دَخَلَتْ عليه وأفتى هَلَكَ وأهلك » (ظ¤) .
وعليه ، فإنَّ تلقيبَ مَن لا يَليق برتبة المشيخة يندرج تحت « وضعِ الأشياء في غير موضعها الصحيح » مع فتحِ مَداخِلِ الشيطان في نَفْسِ الطالب المتطلِّع وتُورِّثُه هذه التلقيباتُ مِن أنواع أمراض القلوب ما لا يخفى مِن العُجب والغرور والاكتفاء بالنفس والتكبُّر عند الطلب ونحوِ ذلك مِن آفات العلم ، وقد ينعكس الأمرُ سلبًا على سلوكه النفسيِّ والتربويِّ ، فيؤدِّي إلى التشنيع بالأكابر والتنقُّص منهم والنيلِ مِن مَناصِبِهم .
وفي مَقامِ الرئاسة والفضل والمكانة فإنَّ إطلاق لفظِ « الشيخ » يكون غالبًا مُضافًا إلى مكانٍ أو مكانةٍ كشيخ البلد فإنه يُطْلَق على منصبٍ إداريٍّ في القرية وهو دون العمدة ، وشيخِ الفضل والإحسان وما يُقابِلُ ذلك في باب الرذيلة كشيخ الضلالة والغواية والفساد ونحو ذلك .
والعلمُ عند اللهِ تعالى ، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين ، وصلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين ، وسلَّم تسليمًا .
الجزائر في : ظ،ظ¥ جمادى الثانية ظ،ظ¤ظ£ظ*ﻫ
الموافق ï»ں : ظ*ظ¨ جوان ظ¢ظ*ظ*ظ©م
(ظ،) انظر: «التعريفات الفقهية» للبركتي (ظ،ظ¢ظ¥) .
(ظ¢) «صفة الصفوة» لابن الجوزي (ظ¢/ ظ¢ظ¥ظ¢) .
(ظ£) «نصيحة أهل الحديث» للخطيب البغدادي (ظ،/ ظ¢ظ¨) .

الاخ ياسين السلفي
2017-12-21, 07:13
حث النفوس على نيل الدروس بجمع مناقب العلامة محمد علي فركوس حفظه الله.


الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:

فإن الله خلق الخلق لعبادته و اصطفى منهم خيارهم لتبليغ دينه وشرعته فأرسل الرسل والأنبياء واجتبى الدعاة والعلماء.

قال تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ غ— مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ غڑ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىظ° عَمَّا يُشْرِكُونَ -القصص : 68-

قال العلامة السعدي رحمه الله:

هذه الآيات، فيها عموم خلقه لسائر المخلوقات، ونفوذ مشيئته بجميع البريات، وانفراده باختيار من يختاره ويختصه، من الأشخاص، والأوامر [والأزمان] والأماكن، وأن أحدا ليس له من الأمر والاختيار شيء.
.
قال ابن بطة رحمه الله تعالى في وصف العلماء:

هم صفوة الله من عباده و أهل نوره في بلاده ، اصطفاهم الله لعلمه واختارهم لنفسه وعرفهم حقه ودلهم على نفسه، فأقام بهم حجته و جعلهم قوامين بالقسط ذُبابا عن حُرمه نصحاء له في خلقه فارين إليه بطاعته، فلذلك أمر الله عز وجل بمسألتهم والنزول عند طاعتهم فقال عز وجل: فاسألو أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.

ثم ألصق طاعتهم بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال:(أَطِيعُوا الله وأَطِيعُوا الرسول وأولي الأمر منكم).

قيل: الفقهاء فطاعتهم على جميع الخلق واجبة و معصيتهم محرمة من أطاعهم رشد ونجا ومن خالفهم هلك و غوى، هم سُرج العباد ومنار البلاد وقوام الأمم وينابيع الحكم في كل وقت وزمن، وصفهم الله عز وجل بالخشية والاعتبار والزهد في كل ما رغب في الجهلة الأغمار فقال عز من قائل: إنما يخشى الله من عباده العلماء. إبطال الحيل ص 53-52.

قال الشاعر:

الأَرْضُ تَحْيَا إِذَا مَا عَاشَ عَالِمُهَا::: وَإِنْ يَمُتْ عَالِمٌ مِنْهَا يَمُتْ طَرَفُ
كَالأَرْضِ تَحْيَا إِذَا مَا الْغَيْثُ حَلَّ بِهَا::: وَإِنْ أَبَى حَلَّ فِي أَكْنَافِهَا التَّلَفُ

و إن للعلماء على الناس حقوقا عظيمة منها بيان مكانتهم ومنزلتهم ونشر فضائلهم ومحاسنهم قبل موتهم وذهابهم فإن بذهابهم ذهاب العلم و موته.

قال الشيخ أحمد السبيعي حفظه الله مبينا هذا المعنى العظيم في لقاء بعنوان '' من معين الشيخ ربيع'':

فإن ذكر عالم حي بالفضل فإنه إحالة للناس للانتفاع به والاستفادة منه وذكر فضائل العالم المعين في حياته ليس ببدع من القول فقد ثبت في البخاري عن ابن عمر أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا والنبي صلى الله عليه وسلم حي وهم متوافرون يذكرون فضل أبي بكر ثم فضل عمر ثم فضل عثمان وكذلك كان أصحاب عبد الله بن المبارك وهو حي يرزق يذكرون فضائله حتى بلغوا بذكر فضائله إلى مائة وهكذا كان هدي السلف الصالح وهذا لا يتنافى مع ما جاء من النهي من الإطراء والمدح والفتنة للحي لأنه يذكر ما ثبت من الفضل من أمور وجودية وعلمية دون مبالغة في المديح والإطراء والغلو .

و إن ممن من الله عليه في بلادنا الجزائر وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة الشيخ الكبير والأصولي النحرير سماحة الوالد أبي عبدالمعز محمد علي فركوس حفظه الله ومتع به ، فكم حباه الله من الخصال الحميدة والخلال الفريدة، عرفه المخالف قبل الموافق والقاصي قبل الداني ،انتشر علمه بين العلماء وذاعت تأصيلاته وتقسيماته عند الفقهاء أعيا البلغاء ونقد الخطباء، فنهلوا من معينه وارتشفوا من رحيقه، بهر من حضر له بسمته العالي و متع من رآه بلطفه المتوالي.


قال الأخ الشاعر أبو ميمونة منور عشيش وفقه الله في معرض ثنائه على عالم الجزائر الشيخ محمد علي فركوس حفظه الله:

فَهَذَا بَعْضُ حَقِّ الشَّيْخِ مِنِّي***وَتَقْصِيرِي أَرَاهُ اليَوْمَ بَادِي
لِـ فَرْكُوسٍ أَبِي عَبْدِ المُعِزِّ***عَظِيمُ الحُبِّ يَحْوِيهِ فُؤَادِي
أَقُولُ الشِّعْرَ مُمْتَدِحًا وَيجْرِي***لِشَيْخٍ مِثْلِ فَرْكُوسٍ مِدَادِي
فَمَنْ كَالشَّيْخِ فِي عِلْمِ الأُصُولِ؟***لَهُ لَبَّى وَأَسْلَمَ فِي انْقِيَادِ
تَآلِيفٌ كَمِثْلِ الشَّمْسِ تَتْرَى***فَإِنَّ الشَّيْخَ أَهْلٌ لاِجْتِهَادِ
وَهَذَا مَوْقعٌ بالعِلْمِ يَزْهُو***كَمِثْلِ النَّبْعِ يَرْوِي كُلَّ صَادِي
وَبِـالإحْيَاءِ قَدْ أَحْيَا نُفُوسًا***مَوَاتًا إِذْ هَدَاهَا لِلرَّشَادِ
أَمَامَ البَيْتِ لِلْفَتْوَى لِقَاءٌ***بِنَادٍ طَيِّبٍ خَيْرِ النَّوَادِي
تَرَى نَاسًا عَلَى شَيْخِي وُفُودًا***لِنَيْلِ العِلْمِ حَاضِرِهِمْ وَبَادِي
رَأَيْتُهُ شَامِخًا فِي غَيْرِ كِبْرٍ***كَرِيمَ النَّفْسِ مِنْ أَهْلِ الوِدَادِ


وكانت قد جالت في خاطري فكرة في أن أقيد بعض ما علق في الذهن من مآثر الشيخ حفظه الله تأدية لبعض حقه على أهل الجزائر ممن عايشه وعرفه لمدة من الزمن وإن كان غيري أولى بي بكثير ولكن حسبي أنه ليس لي من ذلك إلا حب المسارعة والمبادرة الى الخيرات خشية الفوات واللحاق بركب الأموات.

قال الشيخ مصطفى مبرم حفظه الله في تغريدة له في حسابه:
لو أنصف أهل الجزائر لعلموا أن بين أظهرهم عالما راسخا لا يحتاجون معه إلى رحلة -الشيخ فركوس- وأخشى أن يصدق عليهم قول الشافعي في أهل مصر والليث بن سعد.

فحق على أهل الجزائر أن يخشوا أن يصدق فيهم قول الشافعي رحمه الله في أهل مصر والليث بن سعد حين قال:

الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به. "ت 175 هـ". "تهذيب الكمال" 24/255.

ومن المقرر أن تلاميذ العالم وأصحابه لهم اليد الطولى بعد إخلاصه لله عز وجل في انتشار علمه وذيع صيته من عدمه.

فعن نعيم بن حماد حدثنا جرير عن عاصم قال : تبعت الشعبي فمررنا بإبراهيم فقام له إبراهيم عن مجلسه ، فقال له الشعبي : أما إني أفقه منك حيا ، وأنت أفقه مني ميتا ، وذاك أن لك أصحاب يلزمونك فيحيون علمك. سير أعلام النبلاء 526\4

و قال عبدالأول بن حماد الأنصاري عن والده رحمه الله:
90- وسمعته يقول: (إن الشيخ تقي الدين الهلالي ضَيَّعَه تلامذته).يعني: لم ينشروا علمه ولم يترجموا له. 2/606.

فنهيب بكل إخواننا السلفيين ممن عرف الشيخ أو حضر شيئا من مجالسه أو كان قريبا منه وسمع عنه منقبة أو خصلة أو حكاية أن يسعى في ذكرها شريطة أن يكون ضابطا لمحتواها متقنا لمعناها فلا يهم كثرة النقل عن الشيخ بقدر ما يهم صحة ذلك والشيئ بالشيئ يظهر وينتشر وإنما السيل إجتماع النقط .

و لعل بعض إخواننا يتذكر قبل أشهر تلك الأيام التي مرض فيها الشيخ -عافاه الله و سلمه من كل سوء ومكروه- والمكتبة خاوية على عروشها و المسجد يحن ويشتاق لفراق الشيخ وطلبة العلم في كل صوب واتجاه يسألون عن حاله ويتسفسرون على صحته حالهم كالثكلى الفاقدة لوليدها وتلوح لك في الأفق صورة حزينة تحترق منها الكبد كمدا تتمثل في حال الجزائر بعد وفاة الشيخ وحينذ تكثر الحسرات و تتوالى الزفرات والله المستعان.


قال الشيخ أبو همام الصومعي البيضاني _حفظه الله_ في "الإكليل لأجوبة العلامة ربيع بن هادي المدخلي عن أسئلة المصطلح والجرح والتعديل ص 25 ) :

"(لقد كنت أنا ومجموعة من طلاب شيخنا _حفظه الله_ في مكتبته العامرة، أثناء قراءتنا عليه في "صحيح مسلم" سنة ( 1428 هـ )، فجاء العلامة عبد الله بن عقيل وسلم على شيخنا، وقال له: هات رأسك أُقبله. فقال الشيخ ربيع: أستغفر الله، أستغفر الله، فجلس ابن عقيل _حفظه الله_ وبعدما سأل شيخنا عن صحته، قال: يا طلبة العلم، عليكم بالشيخ ربيع، عليكم بهذا العالم، والله إذا ذهب من بين أيديكم لتعضن أصابع الندم.

فعليكم يا أهل الجزائر بعالمكم قبل أن تعضوا أصابع الندم، فقيدوا مآثره وانشروا مواقفه واعرفوا فضله وقدره.

وافي طيب
2017-12-21, 09:58
بارك الله فيك أخ ياسين

الاخ ياسين السلفي
2017-12-21, 13:25
بارك الله فيك أخ ياسين

وفيك بارك الله استاذنا

وافي طيب
2017-12-21, 18:32
في حكم التجنُّس بجنسية الكُفَّار

السؤال:
هل يجوز التجنُّسُ بالجنسية الكندية اضطرارًا لغرضٍ مادِّيٍّ، علمًا أنَّ أَخْذَ الجواز الكنديِّ لا يُلْغي جنسيَّتي الجزائرية، كما أنه يُمْكِنني ـ مِن جهةٍ أخرى ـ التخلِّي عن هذا الجواز في أيِّ وقتٍ شئتُ؟ أفيدونا بارَكَ اللهُ فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنه لا يجوز التجنُّسُ بالجنسية الكُفرية ولو مع المُحافَظةِ على الجنسيةِ الأصلية؛ للآثار السَّلْبية التي تعود على دِينِ المسلمِ وعقيدتِه، ويكفي أَنْ يُعْلَمَ أنه يَترتَّبُ عليه الرِّضا الضِّمْنِيُّ بتطبيقِ الأعراف والقوانين الكفرية لذلك البلد على المتجنِّس، فضلًا عن التحاكمِ إليهم، والاعتزازِ بكونه مُواطِنًا كَنَدِيًّا، وما يُفْضي إليه مِن المودَّةِ والتشبُّه بأفعالهم وأقوالهم، وهو ما يُنافي الإيمانَ إمَّا في كمالِه أو في أصلِه بحَسَبِ الحال، قال تعالى: ﴿لَّا تَجِدُ قَوۡمٗا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ يُوَآدُّونَ مَنۡ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَآءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِيرَتَهُمۡ..﴾ [المجادلة: ٢٢]، وقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلنَّصَٰرَىٰٓ أَوۡلِيَآءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡ﴾ [المائدة: ٥١]، وقال تعالى: ﴿لَّا يَتَّخِذِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَلَيۡسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيۡءٍ إِلَّآ أَن تَتَّقُواْ مِنۡهُمۡ تُقَىٰةٗ﴾ [آل عمران: ٢٨]؛ ففي هذه الآياتِ السابقةِ تصريحٌ بالنهي عن اتِّخاذ الكافرين أولياءَ مِن دونِ المؤمنين، وفيها تبرُّؤُ اللهِ مِن فاعِلِه، ولا شكَّ أنَّ المتجنِّسَ بجنسيةٍ كفريةٍ قد طَلَبَ وَلايةَ الكافرين واختارَ ـ عن طواعِيَةٍ ـ الانضمامَ إليهم؛ فهو معهم في الاجتماعِ والنصرة والمَنْزِل والمودَّة، ويَعُدُّه المشركون منهم؛ لذلك كان مشمولًا بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ»(١) ولو كان مدفوعًا إلى ذلك لأسبابٍ ماليةٍ أو لأغراضٍ تجاريةٍ أو غيرِها؛ لأنَّ فيه تقديمًا للدنيا على الدين، وقد ذمَّ الله تعالى ذلك بقوله: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱسۡتَحَبُّواْ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا عَلَى ٱلۡأٓخِرَةِ﴾ [النحل: ١٠٧]، وكذلك ولو كان مُحافِظًا على الجنسية الأصلية؛ لمُنافاةِ الجنسية الكفرية لمبدإ الولاء والبَراء، وهو أَوْثَقُ عُرَى الإسلام.
هذا، والمسلمُ مُطالَبٌ بإكمالِ دِينِه وزيادةِ إيمانِه بتحقيقِ العبودية لله تعالى وإظهارِ الإسلام؛ إذ مِن شروطِ إباحة السفر إلى بلاد الكفرِ: إظهارُ الدِّين والجهرُ بشعائره على سبيل الكمال بلا مُعارَضةٍ في شيءٍ منها، مع القدرة على إقامةِ مبدإِ الولاء والبَراء. ومَن لا يقدر على ذلك فالواجبُ عليه أَنْ يعودَ مِن حيث جاءَ ويجتهدَ في كَسْبِ رِزْقِه ويكتفِيَ بالقليل، ولْيَسْأَلِ اللهَ العونَ والتوفيقَ والسَّدادَ؛ فهو خيرُ مُعِينٍ وأَحْسَنُ كفيلٍ.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.

وافي طيب
2017-12-22, 00:00
في حكم ختان الصبيَّة

السؤال:
هل يُشْرَعُ الختانُ للنِّساء؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فيُسْتَحَبُّ الخِتانُ في حقِّ النِّساء ولا يجبُ؛ لقولِ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لبعضِ الخاتنات في المدينة: «إِذَا خَتَنْتِ فَلَا تَنْهَكِي؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْظَى لِلْمَرْأَةِ وَأَحَبُّ إِلَى البَعْلِ»(١)، وفي روايةٍ: «إِذَا خَفَضْتِ فَأَشِمِّي وَلَا تَنْهَكِي؛ فَإِنَّهُ أَسْرَى لِلْوَجْهِ وأَحْظَى عِنْدَ الزَّوْجِ»(٢)، ولقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِذَا الْتَقَى الخِتَانَانِ فَقَدْ وَجَبَ الغُسْلُ»(٣)؛ ففيه دليلٌ على أنَّ النساءَ يُخْتَنَّ، وإنَّما يكون ذلك في حالِ صِغَرِها، ويكون بالصفة الشرعية وهو ما يُسَمَّى ﺑ «الخِفاض».
ومسألةُ الختان في حقِّ البنت خلافيةٌ بين أهل العلم، ولو صحَّ حديثُ: «الخِتَانُ سُنَّةٌ لِلرِّجَالِ مَكْرُمَةٌ لِلنِّسَاءِ»(٤) لَكان ذلك قاطعًا في الموضوع، لكنَّ الحديث ضعَّفه الألبانيُّ في «ضعيف الجامع».
وقد رُجِّحَ القولُ بالاستحباب في حقِّ الأنثى والوجوبِ في حقِّ الذَّكَرِ لوجودِ الفارق بينهما؛ لأنَّ فائدة الخِفَاضِ ـ بالنسبة للأنثى ـ هي التقليلُ مِنْ شهوتها وهو طَلَبُ كَمَالٍ، ويدخل في رَفْعِ الأذى والضرر، بينما يَتعلَّقُ الخِتانُ في حقِّ الذَّكَر بالأذى والنجاسةِ لتَعَلُّقِ البولِ بالقُلْفَة؛ الأمرُ الذي يؤدِّي إلى الالتهاب أو إلى الاحتراق أو نجاسةِ الثوب عند الحركة؛ فإنَّ قَطْعَ القُلْفةِ رَفْعُ مَفْسدةٍ شرعيةٍ مُتعلِّقةٍ بالطهارة وشروطِ الصلاة؛ فافْتَرَقَ الحكمُ بين ما كان واجبًا في حقِّ الذَّكَرِ وما كان مُسْتَحَبًّا في حقِّ الأنثى.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

chekkat
2017-12-22, 16:14
الله يحفضك ياشيخ

وافي طيب
2017-12-22, 19:12
الله يحفضك ياشيخ

اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عينلست شيخا بارك الله فيك

وافي طيب
2017-12-22, 19:20
في شرط الرؤيا الصالحة والعملِ بها

السؤال:
تُروَّجُ بين آونةٍ وأخرى رسالةٌ يزعم صاحِبُها أنه ـ بعدما خَتَم القرآنَ ـ رأى في مَنامِه الرسولَ صلَّى الله عليه وسلَّم وحدَّثه بأنه: «في هذا اليومِ مات مِنَ الدنيا ستَّةُ آلافِ (٦٠٠٠) مسلمٍ، ولم يدخل أحَدٌ منهم الجنَّةَ؛ فالزوجاتُ لا يُطِعْنَ أزواجَهنَّ، والأغنياءُ لا يساعدون الفقراءَ، والناسُ لا تؤدِّي المَناسكَ المطلوبة منهم، والمسلمون لا يصلُّون الصلواتِ بانتظامٍ، وإنما كُلٌّ على حِدَةٍ، والشيخ أحمد يتولَّى لكم هذا...» إلخ... يدَّعي مروِّجوها أنه مَنْ لم يطبعها ولم يوزِّعها على خمسةٍ وعشرين شخصًا ولم يُبالِ بها لن يرى الخيرَ بعد ذلك، وأنَّ مَنْ طَبَعها ووزَّعها سوف ينال الأجرَ، كما زَعَمَ أنَّ شخصًا اعتنى بها وكان لا يعمل فرُزِق بعملٍ، وأنَّ آخَرَ كان عاملًا وأَهْمَلها فضيَّع عَمَلَه ومَنْصِبَه.
فنرجو منكم بيانَ ما مدى صحَّةِ هذه الرؤيا المَنامية؟ وما حكمُ نشرِ هذه الرسالة؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فاعْلَمْ أنَّ مِنْ شرطِ الرؤيا الصالحةِ أَنْ تتجلَّى صلاحيَتُها في عدَمِ مُخالَفتها للمعتقَد السليم وللحكم الشرعيِّ الصحيح، وأَنْ تكون مِنَ الرجل الصالح، وهذه الشروطُ غيرُ متحقِّقةِ الوقوع في الرسالة المزعومة، ولا مَضامينُها مُطابِقةٌ للمنهج السليم، ويُظْهِر بطلانَها أنَّ المدَّعِيَ «صاحِبَ الرسالة» مجهولُ العين لا يُعْلَمُ صلاحُه وتقواه مِنْ ضلاله ودَجَلِه، وأمَّا قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ رَآنِي فِي المَنَامِ فَقَدْ رَآنِي؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي»(١)، فإنَّ رؤيته صلَّى الله عليه وسلَّم في المنام لا تكون حقًّا إلَّا إذا وافقَتْ صورتَه وصِفَتَه التي كان عليها في الدنيا، فقَدْ «كان محمَّدٌ ـ يعني: ابنَ سيرين ـ رحمه الله ـ ـ إذا قصَّ عليه رجلٌ أنه رأى النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «صِفْ لي الذي رأيتَه»، فإِنْ وَصَف له صفةً لا يعرفها قال: «لم تَرَهُ»»(٢).
وعليه، فالحكمُ بأحقِّيَّةِ ما رآه النائمُ مِنْ صورةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يُشترَطُ فيه أَنْ تحصل المشابَهةُ في صورته الحقيقية بأوصافها الخَلْقية والخُلُقية التي جمعَتْها السننُ والآثار في الجملة، فإِنْ وقعَتِ المُخالَفةُ في أحَدِ الأوصاف المعروفة أو في مجموعها فلا تكون إلَّا أضغاثَ أحلامٍ سبَبُها تلاعُبُ الشيطانِ بابن آدم؛ ذلك لأنَّ الشيطان لا يتمثَّل بصورة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم الحقيقية، وإنما يتمثَّل في صورةٍ أخرى يُخيَّل للرائي أنها صورةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وليسَتْ كذلك، ومِنْ جهةٍ أخرى كيف يأمن العبدُ أَنْ تكون رؤيَا صالحةً أو يكونَ هو مِنَ الصالحين وهو أمرٌ لا يُعْرَفُ إلَّا بموافَقةِ الشرع؟ لذلك فلا عِصْمةَ فيما يراه النائمُ، ويَلْزَمه ـ والحالُ هذه ـ عَرْضُ ما رآه على الشرع: فإِنْ وافَقَه فالحكمُ بما استقرَّ عليه الشرعُ؛ إذ أحكامُ الشريعةِ وأصولُ الدين غيرُ موقوفةٍ على ما يُرى في المنامات، وإِنْ خالَفَ الشرعَ رُدَّ مهما كان حالُ الرائي أو المرئيِّ، ويُحْكَم على تلك الرؤيا بأنها حُلُمٌ مِنَ الشيطان، وأنها كاذبةٌ وأضغاثُ أحلامٍ.
وإذا تَقرَّر هذا المسلكُ فإنَّ هذه الرسالةَ المزعومة شطحةٌ صوفيةٌ لا ينبغي تصديقُها، ناهيك عن اعتقادِ محتواها أو تنفيذِ مضمونها بالطباعة والتوزيع، والْتزامُ العملِ بمثلِ هذه الرؤيا المُخالِفة للمُتيقَّن مِنَ الشرعِ إنما هو عملٌ بالظنون والأوهام؛ فكيف يُترك المتيقَّنُ للموهم؟
وبناءً عليه، فإنَّ تنفيذَ مَضامينِ هذه الرسالةِ أو العملَ بمقتضاها المخالِفِ للشرع ما هو إلَّا اعتقادٌ كامنٌ في أنَّ الشريعة قابلةٌ للنسخ بالرُّؤَى المَنامية، وهو ـ بلا شكٍّ ـ إقرارٌ ضمنيٌّ بتجديدِ الوحي بعد النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو باطلٌ بإجماعِ المسلمين.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمً

mustapha.cnc
2017-12-22, 19:45
تشكر وبارك الله فيك

----------
2017-12-22, 20:25
في شرط الرؤيا الصالحة والعملِ بها

السؤال:
تُروَّجُ بين آونةٍ وأخرى رسالةٌ يزعم صاحِبُها أنه ـ بعدما خَتَم القرآنَ ـ رأى في مَنامِه الرسولَ صلَّى الله عليه وسلَّم وحدَّثه بأنه: «في هذا اليومِ مات مِنَ الدنيا ستَّةُ آلافِ (ظ¦ظ*ظ*ظ*) مسلمٍ، ولم يدخل أحَدٌ منهم الجنَّةَ؛ فالزوجاتُ لا يُطِعْنَ أزواجَهنَّ، والأغنياءُ لا يساعدون الفقراءَ، والناسُ لا تؤدِّي المَناسكَ المطلوبة منهم، والمسلمون لا يصلُّون الصلواتِ بانتظامٍ، وإنما كُلٌّ على حِدَةٍ، والشيخ أحمد يتولَّى لكم هذا...» إلخ... يدَّعي مروِّجوها أنه مَنْ لم يطبعها ولم يوزِّعها على خمسةٍ وعشرين شخصًا ولم يُبالِ بها لن يرى الخيرَ بعد ذلك، وأنَّ مَنْ طَبَعها ووزَّعها سوف ينال الأجرَ، كما زَعَمَ أنَّ شخصًا اعتنى بها وكان لا يعمل فرُزِق بعملٍ، وأنَّ آخَرَ كان عاملًا وأَهْمَلها فضيَّع عَمَلَه ومَنْصِبَه.
فنرجو منكم بيانَ ما مدى صحَّةِ هذه الرؤيا المَنامية؟ وما حكمُ نشرِ هذه الرسالة؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فاعْلَمْ أنَّ مِنْ شرطِ الرؤيا الصالحةِ أَنْ تتجلَّى صلاحيَتُها في عدَمِ مُخالَفتها للمعتقَد السليم وللحكم الشرعيِّ الصحيح، وأَنْ تكون مِنَ الرجل الصالح، وهذه الشروطُ غيرُ متحقِّقةِ الوقوع في الرسالة المزعومة، ولا مَضامينُها مُطابِقةٌ للمنهج السليم، ويُظْهِر بطلانَها أنَّ المدَّعِيَ «صاحِبَ الرسالة» مجهولُ العين لا يُعْلَمُ صلاحُه وتقواه مِنْ ضلاله ودَجَلِه، وأمَّا قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ رَآنِي فِي المَنَامِ فَقَدْ رَآنِي؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي»(ظ،)، فإنَّ رؤيته صلَّى الله عليه وسلَّم في المنام لا تكون حقًّا إلَّا إذا وافقَتْ صورتَه وصِفَتَه التي كان عليها في الدنيا، فقَدْ «كان محمَّدٌ ـ يعني: ابنَ سيرين ـ رحمه الله ـ ـ إذا قصَّ عليه رجلٌ أنه رأى النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «صِفْ لي الذي رأيتَه»، فإِنْ وَصَف له صفةً لا يعرفها قال: «لم تَرَهُ»»(ظ¢).
وعليه، فالحكمُ بأحقِّيَّةِ ما رآه النائمُ مِنْ صورةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يُشترَطُ فيه أَنْ تحصل المشابَهةُ في صورته الحقيقية بأوصافها الخَلْقية والخُلُقية التي جمعَتْها السننُ والآثار في الجملة، فإِنْ وقعَتِ المُخالَفةُ في أحَدِ الأوصاف المعروفة أو في مجموعها فلا تكون إلَّا أضغاثَ أحلامٍ سبَبُها تلاعُبُ الشيطانِ بابن آدم؛ ذلك لأنَّ الشيطان لا يتمثَّل بصورة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم الحقيقية، وإنما يتمثَّل في صورةٍ أخرى يُخيَّل للرائي أنها صورةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وليسَتْ كذلك، ومِنْ جهةٍ أخرى كيف يأمن العبدُ أَنْ تكون رؤيَا صالحةً أو يكونَ هو مِنَ الصالحين وهو أمرٌ لا يُعْرَفُ إلَّا بموافَقةِ الشرع؟ لذلك فلا عِصْمةَ فيما يراه النائمُ، ويَلْزَمه ـ والحالُ هذه ـ عَرْضُ ما رآه على الشرع: فإِنْ وافَقَه فالحكمُ بما استقرَّ عليه الشرعُ؛ إذ أحكامُ الشريعةِ وأصولُ الدين غيرُ موقوفةٍ على ما يُرى في المنامات، وإِنْ خالَفَ الشرعَ رُدَّ مهما كان حالُ الرائي أو المرئيِّ، ويُحْكَم على تلك الرؤيا بأنها حُلُمٌ مِنَ الشيطان، وأنها كاذبةٌ وأضغاثُ أحلامٍ.
وإذا تَقرَّر هذا المسلكُ فإنَّ هذه الرسالةَ المزعومة شطحةٌ صوفيةٌ لا ينبغي تصديقُها، ناهيك عن اعتقادِ محتواها أو تنفيذِ مضمونها بالطباعة والتوزيع، والْتزامُ العملِ بمثلِ هذه الرؤيا المُخالِفة للمُتيقَّن مِنَ الشرعِ إنما هو عملٌ بالظنون والأوهام؛ فكيف يُترك المتيقَّنُ للموهم؟
وبناءً عليه، فإنَّ تنفيذَ مَضامينِ هذه الرسالةِ أو العملَ بمقتضاها المخالِفِ للشرع ما هو إلَّا اعتقادٌ كامنٌ في أنَّ الشريعة قابلةٌ للنسخ بالرُّؤَى المَنامية، وهو ـ بلا شكٍّ ـ إقرارٌ ضمنيٌّ بتجديدِ الوحي بعد النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو باطلٌ بإجماعِ المسلمين.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمً


مسألة: من كلام القرطبي في "جامع أحكام القرآن": "إنْ قيل: إذا كانت الرؤيا الصادقة جزءًا مِن النبوَّة، فكيف يكُون الكافر والكاذب والمخلِّط أهلًا لها؟ وقد وقعتْ مِن بعض الكفار وغيرهم ممَّن لا يُرضَى دِينُه مناماتٌ صحيحة صادقة؛ كمنام رؤيا المَلِك الذي رأى سبعَ بقرات، ومنام الفتيَيْن في السجن، ورؤيا بختنصر، التي فسَّرها دانيال في ذَهاب ملكه، ورؤيا كِسْرى في ظهور النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، ومنام عاتكة عمَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في أمره وهي كافِرة، وقد ترجَّم البخاري "باب رؤيا أهل السجن"؟

فالجواب: أنَّ الكافر والفاجِر، والفاسق والكاذب وإنْ صدقتْ رؤياهم في بعض الأوقات لا تكون مِن الوحي، ولا مِنَ النبوَّة؛ إذ ليس كلُّ مَن صدق في حديث عن غيْب يكون خبرُه ذلك نبوَّة، وقد تقدَّم في "الأنعام" أنَّ الكاهن وغيره قد يُخبر بكلمة الحقِّ فيصدق، لكن ذلك على الندور والقلَّة، فكذلك رؤيا هؤلاء؛ قال المهلب: إنما ترجم البخاري بهذا لجواز أن تكون رؤيا أهْل الشِّرْك رؤيا صادقة، كما كانت رؤيا الفتيَيْن صادقة، إلَّا أنَّه لا يجوز أن تُضاف إلى النبوة إضافةَ رؤيا المؤمن إليها، إذ ليس كلُّ ما يصح له تأويل مِن الرؤيا حقيقة يكُون جزءًا مِن النبوة" ا.هـ.

وافي طيب
2017-12-25, 19:58
*الشيخ فركوس حفظه اللّه*

الفتوى رقم: ١٦١

الصنف: فتاوى العقيدة - الولاء والبراء

في حكم الاحتفال برأس السَّنَة الميلادية

السؤال:

ما رأيُ الإسلامِ فيما يُعْرَف الآنَ باسْمِ: «عامٌ سعيدٌ» احتفالًا برأس السَّنَة الميلادية؟ أجيبونا مأجورين.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فيجدر التنبيهُ ـ*أوَّلًا*ـ إلى أنه ليس للإسلام رأيٌ في المسائل الفقهية والعَقَدية على ما جاء في سؤالكم؛*لأنَّ الآراء تُنْسَبُ لأهلِ المذاهب الاجتهادية المختلِفة، وإنما للإسلام*حكمٌ شَرْعِيٌّ يتجلَّى في دليله وأمارته.

ثمَّ اعْلَمْ أنَّ كُلَّ عملٍ يُرادُ به التقرُّبُ إلى الله تعالى ينبغي أَنْ يكون وَفْقَ شَرْعِه وعلى نحوِ ما أدَّاهُ نبيُّهُ صلَّى الله عليه وسلَّم، مُراعِيًا في ذلك الكمِّيةَ والكيفية والمكان والزمان المعيَّنة شرعًا، فإِنْ لم يَهْتَدِ بذلك فتحصلُ المُحْدَثاتُ التي حذَّرَنا منها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في قوله: «وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»(١)، وقد قال تعالى: ﴿وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْ﴾*[الحشر: ٧]، وقال تعالى: ﴿فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ ٦٣﴾*[النور].

والاحتفالُ بمولِدِ المسيحِ*ـ*عند النصارى*ـ لا يختلف حكمُه عن حكمِ الاحتفال بالمولد النبويِّ؛ إذ لم يكن موجودًا على العهد النبويِّ، ولا في عهدِ أصحابِه وأهلِ القرون المفضَّلة، وإنَّ كُلَّ ما لم يكن على عهدِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابِه دِينًا لا يكون اليومَ دِينًا على ما أشارَ إليه مالكٌ ـ*رحمه الله*ـ لمَّا قال: «مَنِ ابْتَدَعَ فِي الإِسْلَامِ بِدْعَةً يَرَاهَا حَسَنَةً فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم قَدْ خَانَ الرِّسَالَةَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا﴾[المائدة: ٣]»(٢). فضلًا عن أنَّ مِثْلَ هذه الأعمالِ هي مِنْ سُنَنِ أهلِ الكتاب مِنَ النصارى الذين حذَّرَنا الشرعُ مِنِ اتِّباعِهم بالنصوص الآمرة بمُخالَفتهم وعدَمِ التشبُّه بهم؛ لذلك ينبغي الاعتصامُ بالكتاب والسنَّة اعتقادًا وعلمًا وعملًا؛ لأنه السبيلُ الوحيدُ للتخلُّص مِنَ البِدَعِ وآثارِها السيِّئة.

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٢٤ شعبان ١٤١٦ﻫ
الموافق ﻟ: ١٥ جانفي ١٩٩٦٦م

*

(١)*أخرجه أبو داود في «السنَّة» بابٌ في لزوم السنَّة (٤٦٠٧)، والترمذيُّ في «العلم» بابُ ما جاء في الأخذ بالسنَّة واجتنابِ البِدَع (٢٦٧٦)، وابنُ ماجه في «المقدِّمة» بابُ اتِّباعِ سنَّةِ الخلفاء الراشدين المهديِّين (٤٢)، مِنْ حديثِ العرباض بنِ سارية*رضي الله عنه.*وحسَّنه البغويُّ في «شرح السنَّة» (١/ ١٨١)، والوادعيُّ في «الصحيح المسند» (٩٣٨)، وصحَّحه ابنُ الملقِّن في «البدر المنير» (٩/ ٥٨٢)، وابنُ حجرٍ في «موافقة الخُبْر الخَبَر» (١/ ١٣٦)، والألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٢٥٤٩) وفي «السلسلة الصحيحة» (٢٧٣٥)، وشعيب الأرناؤوط في تحقيقه ﻟ:*«مسند أحمد» (٤/ ١٢٦).

(٢)*ذَكَره الشاطبيُّ في «الاعتصام» (١/ ٢٨).

وافي طيب
2017-12-26, 22:11
في حكم الصلاة بدون تغطية الرأس

السؤال:
انتشرَتْ في الآونة الأخيرة ظاهرةٌ في المساجد، وهي صلاةُ الأئمَّة بالناس وهُمْ حاسِرُو الرؤوس، فما حكمُ ذلك؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فاعْلَمْ أنَّ العِمامةَ وما يجري مجراها كالطاقية أو القُبَّعة أو الغُتْرة ونحوِها قد ثبتَتْ لها فضيلةٌ ومِيزةٌ مِنْ جهةِ كونها تُميِّزُ المسلمَ عن الكافر؛ فهي شعارُه الظاهر، وشرفُ انتمائه إلى أهل الإسلام؛ لذلك كان الأفضلُ له جمالًا والأكملُ له مَظْهَرًا تغطيةَ رأسِه بها مطلقًا، وخاصَّةً داخِلَ الصلاة، لا سيَّما في حقِّ الإمام المقتدَى به؛ لأنَّ العمامة وما شاكَلَها ـ وإِنْ كانَتْ مِنْ سُنن العادة ـ إلَّا أنها معدودةٌ مِنْ زينة المسلم وكمالِ هيئته، والزينةُ والكمال مطلوبان كما في قوله تعالى: ﴿يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ﴾ [الأعراف: ٣١]، وفي قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ»(١).
ولا يخفى أنَّ الأفضلية لا تُنافي جوازَ صلاةِ الإمام أو المنفرد أو المأموم حاسِرَ الرأسِ بدون تغطيةٍ له؛ لأنَّ عمومَ الجواز لا يَلْزَمُ منه التسويةُ أوَّلًا، ولأنَّ العِمامة أو ما شاكَلَها داخلةٌ في سُنن العادة لا في سُنن العبادة ثانيًا، ولأنَّ الرأس ليس بعورةٍ حتَّى يجب سَتْرُه ثالثًا؛ ذلك لأنَّ الأحاديث الواردةَ في فضل العمامة لم يصحَّ منها شيءٌ، مثل حديثِ: «صَلَاةُ تَطَوُّعٍ أَوْ فَرِيضَةٍ بِعِمَامَةٍ تَعْدِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ صَلَاةً بِلَا عِمَامَةٍ، وَجُمُعَةٌ بِعِمَامَةٍ تَعْدِلُ سَبْعِينَ جُمُعَةً بِلَا عِمَامَةٍ»(٢)، وحديثِ: «رَكْعَتَانِ بِعِمَامَةٍ خَيْرٌ مِنْ سَبْعِينَ رَكْعَةً بِلَا عِمَامَةٍ»(٣)، وحديثِ: «الصَّلَاةُ فِي العِمَامَةِ تَعْدِلُ عَشَرَةَ آلَافِ حَسَنَةٍ»(٤)، وغيرِها مِنَ الأحاديث الموضوعة المختلَقةِ والمكذوبةِ على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ٨ المحرَّم ١٤٣٧ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٢ أكتوبر ٢٠١٥م

وافي طيب
2017-12-29, 01:25
في حدود استعمال وسائل الدعوة إلى الله تعالى

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فقد جاءَتْ نصوصٌ عامَّةٌ مِنَ الكتاب تأمر بالدعوة إلى الله تعالى وتبليغِ الرسالةِ مِنْ غيرِ تقييدٍ بوسائلَ معيَّنةٍ، مثل قوله تعالى: ﴿ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ﴾[النحل: ١٢٥]، وقولِه تعالى: ﴿وَٱدۡعُ إِلَىٰ رَبِّكَ﴾[الحج: ٦٧؛ القَصص: ٨٧]، وقولِه عزَّ وجلَّ: ﴿وَأَنذِرۡ عَشِيرَتَكَ ٱلۡأَقۡرَبِينَ ٢١٤﴾[الشُّعَراء]، وقولِه تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ﴾[المائدة: ٦٧]؛ فهذا الميدانُ الدعويُّ في حاجةٍ إلى وسائل، وهذا أمرٌ بَدَهِيٌّ؛ إذ «الأَمْرُ بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِلَوَازِمِهِ»(١)، وإذا كان الأمرُ بالدعوة والتبليغِ لا يتمُّ إلَّا بتحصيلِ الوسائل وتحقيقِ الأسباب كان الأخذُ بها واجبًا أو مُسْتَحَبًّا بحَسَبِه؛ جريًا على قاعدةِ: «الوَسَائِلُ لَهَا أَحْكَامُ المَقَاصِدِ: فَمَا لَا يَتِمُّ الوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَمَا لَا يَتِمُّ المَسْنُونُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ مَسْنُونٌ، وَطُرُقُ الحَرَامِ وَالمَكْرُوهِ تَابِعَةٌ لَهُ، وَوَسِيلَةُ المُبَاحِ مُبَاحَةٌ»(٢).
غيرَ أنَّ هذه الوسائلَ ـ مِنْ حيث سَعَتُها ـ شاملةٌ للوسائلِ العِبادية والعاديَّة، ومجالُ توقيفِ العاديَّة شرعًا أَوْسَعُ مِنْ أَنْ يكون نصًّا خاصًّا يَشْمَلها، بل يتعدَّى إلى ما كان عامًّا، أو إلى قاعدةٍ علميةٍ يمكن أَنْ يُسْتَنَدَ إليها في تقريرِ شرعيةِ هذه الوسائل؛ ذلك لأنَّ مُمارَسةَ العملِ الدعويِّ ومُباشَرتَه دون معرفةِ حُكْمِه والاستنادِ إلى دليله الشرعيِّ تَحكُّمٌ وعملٌ بالجهل واتِّباعٌ للهوى، وهو مردودٌ على صاحِبِه؛ إذ كما لا يجوز الخروجُ عن الحكم الشرعيِّ في المَناهِجِ والمَقاصِدِ لا يجوز كذلك في الوسائل؛ لقوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ١٨﴾[الجاثية]، ولقوله تعالى: ﴿ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَۗ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ ٣﴾[الأعراف]، ولقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡ‍ُٔولٗا ٣٦﴾[الإسراء]، ولقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»(٣)؛ وعليه، فعمومُ الوسائلِ الشرعية ـ سواءٌ كانَتْ عباديةً أو عاديَّةً ـ لا مَدْخَلَ للعقل والرأي المجرَّدِ في حكمها.
ولمزيدٍ مِنَ التوضيحِ في هذا المَقامِ نَلْفِتُ النظرَ إلى أنَّ الوسيلة إِنْ كانَتْ مِنْ جنسِ العبادات فإنها تحتاج إلى نصٍّ خاصٍّ يقضي بمشروعيَّتها؛ ذلك لأنَّ «العِبَادَاتِ أَصْلُهَا التَّوْقِيفُ وَالمَنْعُ حَتَّى يَرِدَ الدَّلِيلُ النَّاقِلُ عَنْهُ»؛ فلا يُشْرَع منها إلَّا ما شَرَعَه اللهُ تعالى وأَذِن فيه؛ لقوله تعالى: ﴿أَمۡ لَهُمۡ شُرَكَٰٓؤُاْ شَرَعُواْ لَهُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمۡ يَأۡذَنۢ بِهِ ٱللَّهُ﴾[الشورى: ٢١].
وبناءً عليه، فإنَّ الوسائل العبادية توقيفيةٌ، وحكمُها يُؤْخَذ مِنْ جهةِ الشرع وبالدليل الخاصِّ بها، لا بوصفِ العموم والإطلاق؛ إذ لا يَلْزَم مِنَ الأمرِ بوصفِ العموم والإطلاق ـ في باب العبادات ـ أَنْ يكون مشروعًا بوصفِ الخصوص والتقييدِ أو مأمورًا به، إلَّا إذا جاء دليلٌ مُبَيِّنٌ للإجمال الحاصلِ في صفةِ العموم والإطلاق، ويكون حكمُ الخصوصِ والتقييدِ تابعًا للدليل: فإِنْ جاء مُوافِقًا للأمر العامِّ أو المُطْلَقِ كان تحصيلُ المعيَّن بالخصوص والتقييدِ مِنْ بابِ عَطْفِ الخاصِّ على العامِّ بتَظافُرِ الأدلَّة وتَعاضُدِها، وإِنْ جاء الدليلُ مُخالِفًا للأمر العامِّ أو المطلق كان تحصيلُه مِنْ بابِ تخصيصِ العموم وتقييدِ المطلق، وهذا التقرير ـ وإِنْ كان يَشْمَل جانِبَ العباداتِ والعاداتِ والمعامَلاتِ ـ إلَّا أنَّ باب العباداتِ قُيِّد بالدليل الخاصِّ؛ لأنَّ الأصل فيها التوقيفُ والمنعُ ـ كما تقدَّم ـ.
وهذا بخلافِ الوسيلة الداخلةِ في جنسِ العادات والمُعامَلات؛ فلا يَلْزَم لثبوتها الأدلَّةُ الخاصَّة، بل تكفي الأدلَّةُ والقواعد العامَّة في إثباتها وتقريرها؛ ذلك لأنَّ «الأَصْلَ فِي المُعَامَلَاتِ وَالعَادَاتِ الإِبَاحَةُ وَالجَوَازُ حَتَّى يَرِدَ الدَّلِيلُ النَّاقِلُ عَنْهُ»؛ فلا يُمْنَعُ منها شيءٌ إلَّا ما مَنَعَه الشرعُ وحرَّمه؛ لقوله تعالى: ﴿قُلۡ أَرَءَيۡتُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُم مِّن رِّزۡقٖ فَجَعَلۡتُم مِّنۡهُ حَرَامٗا وَحَلَٰلٗا قُلۡ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمۡۖ أَمۡ عَلَى ٱللَّهِ تَفۡتَرُونَ ٥٩﴾[يونس]، ولقوله تعالى ـ مُمْتَنًّا على عباده ـ: ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا﴾[البقرة: ٢٩]، ولقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَالحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ»(٤)؛ فالوسائلُ العاديَّة يُؤْخَذ حكمُها ـ أيضًا ـ مِنْ جهةِ الشرع، لكِنْ لا يُشْتَرَطُ أَنْ يدلَّ عليها دليلٌ خاصٌّ، بل يجوز العملُ فيها بالأوامر العامَّة والمُطْلَقَة، كما يجوز أَنْ تُحالَ أحكامُها إلى القواعد العامَّة.
ولا شكَّ ـ بعد هذا البيانِ ـ أنَّ الوسائل الدعويةَ في تعلُّقها بالعادات إِنْ تضمَّنَتْ مصلحةً راجحةً للدعوةِ ولم تُخالِفْ نصًّا شرعيًّا فيجوز مُباشَرتُها؛ لدخولها إمَّا في القواعد العامَّة الكُلِّيَّة، أو لاتِّصافِ الدليل عليها بصفةِ العموم والإطلاق؛ ذلك لأنَّ تحصيلَ المعيَّنِ في الوسيلة إِنْ كان مشمولًا بالأمر العامِّ أو المطلق ولم تتعرَّض له الأدلَّةُ بأمرٍ أو نهيٍ بَقِيَ على وَصْفِ العموم والإطلاق، وجَازَ العملُ بأيِّ فعلٍ معيَّنٍ يتحقَّق به امتثالُ الأمر العامِّ أو المطلق؛ ذلك لأنَّ «الأَصْلَ فِي العَادَاتِ وَالمُعَامَلَاتِ الإِبَاحَةُ وَالجَوَازُ» ـ كما تقدَّم ـ ويدلُّ عليه عَمَلُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعمومِ قوله تعالى: ﴿وَأَنذِرۡ عَشِيرَتَكَ ٱلۡأَقۡرَبِينَ ٢١٤﴾[الشُّعَراء]، حيث اختارَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في الدعوةِ وسيلةَ الصعودِ على الصفا ومُخاطَبةِ بطونِ قُرَيْشٍ، وهذا الاجتهادُ في الوسيلة إنما جاء بناؤه على ضوابطَ عامَّةٍ مُتمثِّلةٍ في الحكمةِ والموعظةِ الحسنة المأمورِ بهما، واتَّخذ هذه الوسيلةَ لتكون أَسْرَعَ إلى الفهم، وأَدْعَى إلى الانقياد، وأقوى في التأثُّر والاستجابة؛ وكذلك إجماعُ الصحابةِ على وجوبِ المصير إلى وسيلةِ جَمْعِ القرآن الكريم في مصحفٍ واحدٍ لحِفْظِ كلامِ الله سبحانه وتعالى، وقد تردَّد الصحابةُ في أوَّلِ الأمر لعَدَمِ ورودِ دليلٍ خاصٍّ يؤيِّد هذا الفعلَ كما أنه لم يفعله النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ثمَّ اعتبروا قوَّةَ هذه الوسيلةِ لحِفْظِ القرآنِ الكريم، المتمثِّلةِ في جمعِه في مصحفٍ واحدٍ لِمَا في ذلك مِنْ مصلحةٍ راجحةٍ.
فالحاصل؛ أنَّ وسائل الدعوةِ إلى الله تعالى ـ في تقريرِ مشروعيَّتها ـ يجب أَنْ تُراعى فيها جملةٌ مِنَ الضوابط تتمثَّل في وجوبِ مُوافَقتها للنصوص الشرعية العامَّةِ والخاصَّة أو قواعدِ الشرع الكُلِّيَّة، كما أنَّ الوسائل إِنْ كانَتْ تابعةً لِمَقاصِدَ مُخالِفةٍ للشرع فتُمْنَع بحكمِ تبعيَّتها للممنوع؛ لأنَّ طُرُقَ الحرامِ والمكروهاتِ تابعةٌ لها، و«النَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ نَهْيٌ عَمَّا لَا يَتِمُّ اجْتِنَابُهُ إِلَّا بِهِ»، وتُمْنَع ـ أيضًا ـ الوسيلةُ إذا ما تَعَلَّقَ بها وصفٌ مَنْهِيٌّ عنه فتَبْطُلُ لاقترانها به، كأَنْ يكون شعارًا لليهود والنصارى والمجوس؛ فقَدْ سيَّب النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وسيلةَ النفخِ في البوق للدعوة للصلاة لكونه شِعارَ اليهود، وتخلَّى عن الضربِ بالناقوس لكونه شِعارَ النصارى، وتَرَكَ إيقادَ النار لكونه شِعارَ المجوس(٥).
هذا؛ ويُشْرَعُ الأخذُ بالوسيلةِ المشروعةِ إلى المَقْصِد المشروعِ، شريطةَ أَنْ لا يترتَّب على الأخذِ بها مَفْسَدةٌ مُساوِيةٌ أو أكبرُ مِنَ المصلحة المَرْجُوَّة، وإلَّا بَطَلَتِ الوسيلةُ عملًا بقاعدةِ: «الضَّرَرُ لَا يُزَالُ بِمِثْلِهِ»، وقاعدةِ: «دَرْءُ المَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ المَصَالِحِ».
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

وافي طيب
2017-12-29, 20:47
في حكم قراءة القرآن وغيرِه في أوقات العمل

السؤال:
هل يجوز قراءةُ القرآن مِنَ المصحف وغيرِه في أثناء العمل؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فيجوز قراءةُ القرآن مِنَ المصحف وقراءةُ الكُتُب والمَجَلَّاتِ والاطِّلاعُ عليها أو تصفُّحُها في أوقات الفراغ في العمل أو بعده؛ وذلك لئلَّا تُحتسَب قراءةُ العامل على الوقت المدفوع الأجر؛ لحقِّ المؤسَّسة المشغِّلة له، مع مراعاة الآداب المطلوبة لتلاوة القرآن أثناءَ قراءته.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

وافي طيب
2017-12-30, 19:13
في حكم المسح على الجوربين

السؤال:
انتشر في أوساطِ العامَّةِ إنكارُ المسحِ على الجوربين وادِّعاءُ بطلانِ صلاةِ فاعِلِه؛ بحجَّةِ عَدَمِ ثبوت المسح على الجوارب وعَدَمِ جواز قياسه على الخفَّيْن؛ فهل مِنْ توجيهٍ وبيانٍ مُفَصَّلٍ؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فإنَّ حُكْمَ المسحِ على الجوربين مَحَلُّ خلافٍ بين أهل العلم:
ـ فمَنْ ذَهَبَ إلى القول بعَدَمِ جوازِ المسحِ على الجوربين غيرِ المجلَّدين عَلَّلَ المنعَ بأنَّ الجورب لا يُسَمَّى خُفًّا فلا يأخذ حُكْمَه؛ ذلك لأنَّ المسح على الخفِّ رخصةٌ بالنصِّ؛ فوَجَبَ الاختصاصُ بما وَرَدَتْ فيه، وهو مذهبُ أبي حنيفة ـ رَجَعَ عنه ـ(١) ومذهبُ مالكٍ والشافعيِّ رحمهم الله.
ـ وذَهَبَ الجمهورُ إلى جوازِ المسح على الجوربين بشرطِ أَنْ يكونا غيرَ رقيقين، وإنما صفيقين ساترَيْن لِمَحَلِّ الفرض(٢)، وعُمْدَتُهم في الاشتراط: القياسُ على الخفِّ المخرَّقِ في عَدَمِ جوازِ المسح عليه مِنْ جهةٍ، ولأنَّ ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ كُلَّ ما يُرى منه مَواضِعُ الوضوءِ التي فَرْضُها الغَسْلُ فإنه لا يُمْسَحُ عليه؛ لأنه لا يجوز اجتماعُ غَسْلٍ ومَسْحٍ؛ فغُلِّبَ حكمُ الغَسْلِ وبَطَلَ حكمُ المسح.
ـ أمَّا ما ذَهَبَ إليه أهلُ التحقيق فهو جوازُ المسح على الجوربين مطلقًا ولو كانا رقيقين أو غيرَ صفيقَيْن ساترَيْن لِمَحَلِّ الفرض، وهو ظاهِرُ مذهبِ ابنِ حزمٍ، وبه قال ابنُ تيمية والشنقيطيُّ وغيرُهم(٣)، وعُمْدَتُهم في تقريرِ هذا الحكم: حديثُ المُغيرةِ بنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قال: «تَوَضَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسَحَ عَلَى الجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ»(٤)، ولأنه ثَبَتَ المسحُ على الجوربين مِنْ غيرِ اشتراطٍ عن عددٍ كبيرٍ مِنَ الصحابة رضي الله عنهم، قال أبو داود: «ومَسَحَ على الجوربين: عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وابنُ مسعودٍ، والبراءُ بنُ عازبٍ، وأنسُ بنُ مالكٍ، وأبو أُمامةَ، وسهلُ بنُ سعدٍ، وعمرُو بنُ حُرَيْثٍ، ورُوِيَ ذلك عن عُمَرَ بنِ الخطَّاب وابنِ عبَّاسٍ»(٥)، ولا يُعْلَمُ لهم مِنَ الصحابةِ رضي الله عنهم فيه مُخالِفٌ؛ فكان إجماعًا وحجَّةً على ما تَقرَّرَ أصوليًّا(٦)، كما أنه ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ ثَبَتَ عن بعض الصحابة والتابعين أَنْ لا فَرْقَ بين الجوربين والخفَّيْن في الترخيص، أو هما بِمَثابةِ الخفَّيْن في الحكم، ومِنْ هذه الآثار:
ـ عن الأزرق بنِ قيسٍ قال: «رَأَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَحْدَثَ؛ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَمَسَحَ عَلَى جَوْرَبَيْنِ مِنْ صُوفٍ؛ فَقُلْتُ: «أَتَمْسَحُ عَلَيْهِمَا؟» فَقَالَ: «إِنَّهُمَا خُفَّانِ، وَلَكِنَّهُمَا مِنْ صُوفٍ»»(٧).
ـ وعن يحيى البَكَّاءِ قال: «سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: «المَسْحُ عَلَى الجَوْرَبَيْنِ كَالمَسْحِ عَلَى الخُفَّيْنِ»»(٨).
ـ وعَنْ عَبَّادِ بْنِ رَاشِدٍ قَالَ: سَأَلْتُ نَافِعًا [مولَى ابنِ عُمَرَ] عَنِ المَسْحِ عَلَى الجَوْرَبَيْنِ فَقَالَ: «هُمَا بِمَنْزِلَةِ الخُفَّيْنِ»(٩).
ـ وعَنْ عَطَاءٍ قَالَ: «المَسْحُ عَلَى الجَوْرَبَيْنِ بِمَنْزِلَةِ المَسْحِ عَلَى الخُفَّيْنِ»(١٠).
ولا يخفى أنَّ الجورب هو لباسُ القَدَم، سواءٌ كان مصنوعًا مِنَ القُطن أو الكَتَّان أو الصوف أو غيرِ ذلك، وفي هذه الآثارِ ردٌّ صريحٌ على مَنْ أَبْطَلَ إلحاقَ الجوربين بالخفَّيْن، علمًا أنَّ الصحابة رضي الله عنهم هم أهلُ اللغةِ وأَفْقَهُ أهلِ الأرض، ناهيك إذا كان أَمْرُ المسحِ ـ مِنْ حيث جوازُه ـ مُجْمَعًا عليه في عصرهم رضي الله عنهم.
أمَّا الاحتجاج بأنَّ المسح على الخفِّ ثَبَتَ رخصةً، والرُّخَصُ لا تتعدَّى مَحَلَّها؛ فجوابُه: أنَّ سبب الترخيصِ إنما هو الحاجةُ، وهي موجودةٌ في المسح على الجوربين وغيرِهما ممَّا هو مِنْ غيرِ الجلد، فضلًا عن أنَّ هذا الاستدلالَ ـ في حدِّ ذاته ـ مُعارِضٌ للنصِّ والإجماع المتقدِّمَيْن المُثْبِتَيْن لشرعية المسح على الجوربين.
وأمَّا اشتراطُ الجمهورِ السلامةَ مِنَ الخَرْق والتشقيقِ ونحوِهما قياسًا على عَدَمِ جوازِ المسح على الخفِّ المخرَّق؛ فإنَّ هذا الشرط مُعارَضٌ بالأصل المقرَّرِ أنَّ: «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ»(١١) أوَّلًا، ومُنافٍ ـ ثانيًا ـ للإذن في المسح على الخفَّيْن مطلقًا؛ فكان شاملًا لكُلِّ ما وَقَعَ عليه اسْمُ: «الخفِّ» كما هو ظاهرٌ مِنَ النصوص الحديثية، ولا يَسَعُ أَنْ يُسْتثنى منه إلَّا بمُسْتَنَدٍ شرعيٍّ وهو مُنْتَفٍ؛ وعليه لا يتمُّ القياسُ صحيحًا لاختلالِ شرطِ: «ثبوتِ حكمِ الأصل المَقيسِ عليه»، و«إِذَا سَقَطَ الأَصْلُ سَقَطَ الفَرْعُ».
ومِنْ جهةٍ ثالثةٍ فإنَّ خِفافَ الصحابةِ رضي الله عنهم لا تخلو مِنْ كونها مخرَّقةً ومشقَّقةً ومرقَّعةً، وهي السِّمَةُ الظاهرةُ بل الغالبةُ في لباسهم؛ فلو كان الخرقُ يمنع مِنَ المسح لَبيَّنه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّ المَقامَ مَقامُ بيانٍ، و«تَأْخِيرُ البَيَانِ عَنْ وَقْتِ الحَاجَةِ لَا يَجُوزُ» كما تَقَرَّرَ في القواعد، علمًا بأنَّ مِثْلَ هذه الشروطِ المُرْسَلةِ تُناقِضُ مقصودَ الشارعِ الحكيم المُراعي للتيسير والتوسعةِ برفعِ الحرج والتضييق عن المكلَّفين.
وحريٌّ أَنْ أَخْتِمَ هذه الفتوى بقول الألبانيِّ ـ رحمه الله ـ: «فبعد ثبوتِ المسح على الجوربين عن الصحابة رضي الله عنهم، أفلا يجوز لنا أَنْ نقول فيمَنْ رَغِبَ عنه ما قاله إبراهيمُ هذا [أي: النَّخَعيُّ] في مَسْحِهم على الخفَّيْن: «فمَنْ تَرَكَ ذلك رغبةً عنه فإنما هو مِنَ الشيطان»(١٢)؟»(١٣).
قلت: فإذا كان التركُ رغبةً عنه مِنَ الشيطان؛ فقَدْ استفحل كيدُه فيمَنْ يُهَوِّلُ في إنكار المسح على الجوربين إلى درجةِ إبطالِ صلاته به، واللهُ المستعانُ.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

وافي طيب
2017-12-30, 19:25
في حكم تشييخ الحدث

السـؤال:
قد كَثُرَ في هذا الزمانِ التلقيبُ بالشيخ على كُلِّ مَنْ تَصَدَّرَ للتدريس أو الدعوة، حتَّى ولو كان مستواه عاديًّا جدًّا، فأرجو مِن فضيلتكم بيانَ مدلولِ هذه الكلمةِ ومَن يَسْتَحِقُّها؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجـواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالشيخ هو كُلُّ مَن زادَ على الخمسين، وهو فوق الكهلِ ودون الهَرِمِ الذي فَنِيَتْ قوَّتُه، وهو يُسَمَّى بالشيخ الفاني(١).
وفي مَقامِ العلم يُطْلَق هذا اللقبُ على كُلِّ كبيرِ السنِّ المَهيبِ الوَقورِ الذي اكتسب التجربةَ في مُخْتَلَفِ العلوم واستصحب الخبرةَ في مجالاتها، ويتمتَّع غالبًا بقوَّةٍ في رَدِّ الشبهة وتقريرِ الحُجَّة، ويظهر ذلك في إنتاجه العلميِّ والتربويِّ والتوجيهيِّ، بعيدًا عن الهوى واستمالةِ النفس به إلى الطمع بما في أيدي الناس.
وتأسيسًا على هذا المعيار فلا يَليقُ تلقيبُ طالبٍ مبتدئٍ في العلوم أو شابٍّ حديثِ السِّنِّ ﺑ «الشيخ» بالمعنى الاصطلاحيِّ، ولو اكتسب بعضَ العلوم أو تخرَّج مِن جامعةٍ شرعيةٍ أو مركزٍ للعلوم أو زاويةٍ لحفظِ كتاب الله وبعضِ سنن المصطفى صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، أو وُسِم بشهاداتٍ وإجازاتٍ وتزكياتٍ؛ لأنَّ المناهج الدراسية المتَّبعة حاليًّا قصيرةُ المدَّة لا تَفي بالغرض ولا تغطِّي المطلوبَ، وجوانبُ النقص في الطالب على العموم بارزةٌ بل حتَّى في أستاذه فهو ـ في الجملة ـ يحتاج بدوره إلى إعادة تأهيلٍ. وقد نُقِلَ عن الشافعيِّ ـ رحمه الله ـ قوله: «مَن طَلَبَ الرئاسةَ فرَّتْ منه، وإذا تَصَدَّرَ الحَدَثُ فاتَهُ علمٌ كثيرٌ»(٢).
وفي تعليقٍ لابن قتيبة ـ رحمه الله ـ على أثَرِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه قولُه: «لا يَزال الناسُ بخيرٍ ما أخذوا العِلْمَ عن أكابرهم وأُمَنائهم وعلمائهم»(٣)، قال رحمه الله ـ شارحًا معنى الأثر ـ: «لأنَّ الشيخ قد زالت عنه متعةُ الشباب وحِدَّتُه وعجلتُه وسَفَهُه، واستصحب التجربةَ والخبرة؛ فلا يدخل عليه في عِلْمِه الشبهةُ، ولا يَغْلِب عليه الهوى، ولا يَميل به الطمعُ، ولا يستزلُّه الشيطانُ استزلالَ الحدث، فمع السنِّ والوقار والجلالة والهيبة، والحَدَثُ قد تدخل عليه هذه الأمورُ التي أُمِنَتْ على الشيخ، فإذا دَخَلَتْ عليه وأفتى هَلَكَ وأهلك»(٤).
وعليه، فإنَّ تلقيبَ مَن لا يَليق برتبة المشيخة يندرج تحت «وضعِ الأشياء في غير موضعها الصحيح» مع فتحِ مَداخِلِ الشيطان في نَفْسِ الطالب المتطلِّع وتُورِّثُه هذه التلقيباتُ مِن أنواع أمراض القلوب ما لا يخفى مِن العُجب والغرور والاكتفاء بالنفس والتكبُّر عند الطلب ونحوِ ذلك مِن آفات العلم، وقد ينعكس الأمرُ سلبًا على سلوكه النفسيِّ والتربويِّ؛ فيؤدِّي إلى التشنيع بالأكابر والتنقُّص منهم والنيلِ مِن مَناصِبِهم.
وفي مَقامِ الرئاسة والفضل والمكانة فإنَّ إطلاق لفظِ «الشيخ» يكون غالبًا مُضافًا إلى مكانٍ أو مكانةٍ كشيخ البلد فإنه يُطْلَق على منصبٍ إداريٍّ في القرية وهو دون العمدة، وشيخِ الفضل والإحسان وما يُقابِلُ ذلك في باب الرذيلة كشيخ الضلالة والغواية والفساد ونحو ذلك.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

وافي طيب
2017-12-31, 08:02
في حكمِ الذي يسجد للقبر ويطوف به

السؤال:
ما حكمُ الذي يسجد للقبر ويطوف به؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فتعظيمُ غيرِ الله تعالى بأعمال العبادات الظاهرة على وجه الذلِّ والخضوع والحبِّ: كالركوع والسجود لصاحب القبر، والذبحِ والطوافِ بقبره، ودعائه والاستغاثة به، وطلبِ جلبِ المنافع منه ودفعِ الكُرُبات والمضارِّ، ونحوِ ذلك من العبادات التي هي مِن حقِّ الله المعبود، فصرفُها إلى غيره ينافي التوحيدَ، وهو شركٌ أكبر في العبادة، إذ ما كان خالصًا لله تعالى لم يكن لغيره فيه نصيبٌ، وقد جاء في التنزيل قولُه تعالى: ﴿لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا للهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [فصِّلت: ٣٧]، فيتساوى في المخلوقية الشمسُ والقمر والنبيُّ والوليُّ والحجر والشجر ونحوها، فالسجود وغيره من العبادات التي هي حقٌّ خالصٌ لله تعالى، فمن سجد لغير الله تذلُّلاً وخضوعًا ومحبَّةً فقد أشرك بالله الشركَ الأكبر المُخْرِجَ عن ملَّة الإسلام.
أمَّا الركوع والسجود لله تعالى عند صاحب القبر أو دعاءُ الله تعالى عنده أو فعلُ مختلف العبادات بجواره الْتماسًا لبركة صاحب القبر فهذا من الشرك الأصغر الذي ينافي كمالَ التوحيد، وقد يرتقي إلى الشرك الأكبر بحسَب اعتقاد فاعله، وأمَّا سَتْرُ القبر بأنواع الأكسية وتجصيصُه والكتابةُ عليه والسفرُ إليه فهو أمرٌ بدعيٌّ محرَّمٌ لثبوت النهي عنه.
والتحقيق في الحكم يختلف باختلاف المتلبِّس بمثل هذه الأنواع المذكورة:
- فمن أتى بما ينافي كمالَ التوحيد -أي: وقع في الشرك الأصغر- لا يعطى الحكمَ المتعلِّقَ بمن وقع في الشرك الأكبر، كما لا يعطى حُكْمَ الشرك الأكبر ولا الأصغرِ مَن وَقَع في بدعةٍ مفسِّقةٍ محرَّمةٍ من بابٍ أَوْلى.
- أمَّا من أتى بمظهرٍ شركيٍّ ينافي التوحيدَ -أي: من الشرك الأكبر- وهو يعلم مناقضتَه للإسلام، فلا يختلف أهل السنَّة أنه مشركٌ شركًا أكبر مُخرجًا من الملَّة لظهور الرسالة ووضوح البيان وقيام الحجَّة عليه، وأنه يستحقُّ العقوبةَ في الدارين، لأنَّ «العذاب يُستحَقُّ بسببين: أحدهما: الإعراض عن الحجَّة وعدمُ إرادتها والعملِ بها وبموجَبها، الثاني: العناد لها بعد قيامها وتركُ إرادة موجَبها، فالأوَّل كفرُ إعراضٍ، والثاني كفرُ عنادٍ»(١).
- بخلاف من أتى بما ينافي التوحيدَ وينقضه وهو لا يعلم مناقضتَه للإسلام كأن يكون حديثَ عهدٍ بالإسلام أو يعيش في بلدِ جهلٍ، أو نشأ بباديةٍ نائيةٍ، أو كانت المسألة خفيَّةً غير ظاهرةٍ؛ فالمتلبِّس بالشرك الأكبر كالساجد لغير الله مِن صاحبِ قبرٍ أو وليٍّ على وجه الذلِّ والخضوع والرجاء والحبِّ؛ فهو مشركٌ مع الله غيرَه في العبادة ولو نطق بالشهادتين وقتَ سجوده، لأنه أتى ما يَنْقُض قولَه من سجوده لغير الله تعالى، فهو مشركٌ من حيث التسمية بما حدث منه مِن قُبْح معصية السجود لغير الله، غير أنه يُعْذَر بجهله مِن جهةِ إنزال العقوبة التي لا يستحقُّها مرتكبُ الشرك الأكبر إلاَّ بعد البيان وإقامة الحجَّة للإعذار إليه، لأنَّ العقوبة أو العذاب متوقِّفٌ على بلاغ الرسالة لقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء: ١٥]، ولقوله تعالى: ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: ١٦٥]، قال ابن القيِّم -رحمه الله-: «وأمَّا كفرُ الجهل مع عدم قيام الحجَّة وعدمِ التمكُّن من معرفتها فهذا الذي نفى اللهُ التعذيبَ عنه حتى تقوم حجَّةُ الرسل»(٢).
هذا، وتحقيق المناط في الحكم على هذه القضايا موكولٌ إلى أهل العلم والدراية بالأحوال السابقة.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.

sokot
2018-01-01, 00:59
بارك الله فيك

وافي طيب
2018-01-01, 20:35
بارك الله فيك
وفيك بارك الله

وافي طيب
2018-01-02, 08:32
في حكم الزيادة في المهر

السؤال:
هل في خفضِ قيمةِ مهرِ العروس إهانةٌ لها؟ مع العلم أنه ساد ـ في مجتمعنا ـ عرفُ العملِ بارتفاعِ مهرِ العروس؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فلا خلافَ بين أهل العلم أنه لا حَدَّ لأكثرِ ما يدفعه الزوجُ مهرًا لزوجته قولًا واحدًا(١)، كما أنه يصحُّ المهرُ بكُلِّ ما يُسمَّى مالًا أو ما يُقوَّمُ بمالٍ؛ فلا حدَّ لأقلِّ المهر على الراجح الصحيح(٢).
والعبرةُ ـ فيه ـ بحال الزوج مِنْ جهةِ الغنى أو الفقر:
فيجوز للغنيِّ المُوسِرِ إِنْ أراد أَنْ يُمْهِرَ كثيرًا فلا يُكْرَهُ له الزيادةُ في المهر، ما لم يَقترِنْ بفعله قصدُ التفاخر والرِّياء والمباهاة ونحوِها.
ويدلُّ على مشروعيةِ الإكثار مِنْ صَداقِ الزوجة قولُه تعالى: ﴿وَإِنۡ أَرَدتُّمُ ٱسۡتِبۡدَالَ زَوۡجٖ مَّكَانَ زَوۡجٖ وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيۡ‍ًٔا﴾ [النساء: ٢٠]، وروى أبو داود بسنده عن أُمِّ حَبِيبَةَ رضي الله عنها: «أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ جَحْشٍ فَمَاتَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَزَوَّجَهَا النَّجَاشِيُّ(٣) النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمْهَرَهَا عَنْهُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَبَعَثَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ شُرَحْبِيلَ ابْنِ حَسَنَةَ»(٤)، والمعلومُ أنَّ مهور أزواجِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أربعُمائةِ درهمٍ أو خمسُمائةٍ(٥).
أمَّا إِنْ كان الزوجُ مُعْسِرًا فقيرًا لا يطيق غلاءَ المهرِ إلَّا بالاستدانة التي تُثْقِلُ كاهِلَه، وقد يعجز عن تسديد الدَّيْن أو تُشْغَلُ ذمَّتُه بصداقٍ لا يريد أَنْ يؤدِّيَه؛ فهذه المغالاةُ في المهر مذمومةٌ، «ويُكْرَهُ للرجل أَنْ يُصْدِقَ المرأةَ صداقًا يضرُّ به إِنْ نَقَده ويعجز عن وفائه إِنْ كان دَيْنًا، قال أبو هريرة: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ»، فَقَالَ: «عَلَى كَمْ تَزَوَّجْتَهَا؟» قَالَ: «عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ»، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ، فَكَأَنَّمَا تَنْحِتُونَ الفِضَّةَ مِنْ عُرْضِ هَذَا الجَبَلِ، مَا عِنْدَنَا مَا نُعْطِيكَ، وَلَكِنْ عَسَى أَنْ نَبْعَثَكَ فِي بَعْثٍ تُصِيبُ مِنْهُ»، قال: فَبَعَثَ بَعْثًا إِلَى بَنِي عَبْسٍ فَبَعَثَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فِيهِمْ»(٦) »(٧).
وعليه، فالإسلام لا يَعتبِرُ المرأةَ سلعةً في سوق الزواج تجري فيها النظرةُ المادِّيةُ البحتةُ، التي تُعشعِشُ على طائفةٍ مِنَ الناس وتُسيطِرُ على أفكارهم، فرفعُ قيمةِ المهر ليسَتْ مكرمةً في الدنيا أو تقوَى عند الله تعالى، وخفضُ قيمةِ المهر ليس إهانةً للمرأة، بل هو بَرَكةٌ في زواجها وابتعادٌ عن الآثار السلبية غيرِ المَرْضيَّة المُترتِّبة عن غلاء المهور وارتفاعِها، كما ثَبَت عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم تخفيفُ الصداق وعدمُ المغالاة فيه في مثل قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «خَيْرُ الصَّدَاقِ أَيْسَرُهُ»(٨)، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «مِنْ يُمْنَ الْمَرْأَةِ تَسْهِيلُ أَمْرِهَا وَقِلَّةُ صَدَاقِهَا»، قَالَ عُرْوَةُ: «وَأَنَا أَقُولُ مِنْ عِنْدِي: وَمِنْ شُؤْمِهَا تَعْسِيرُ أَمْرِهَا وَكَثْرَةُ صَدَاقِهَا»(٩). ويدلُّ الحديثُ على أنَّ «المغالاة في المهر مكروهةٌ في النكاح، وأنها مِنْ قلَّةِ بَرَكتِه وعُسْرِه»(١٠)؛ فالسنَّةُ ـ إذَنْ ـ تخفيفُ المهرِ وأَنْ لا يزيد على مهرِ نساءِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وبناتِه، وقد أخرج أبو داود وغيرُه عَنْ أَبِي الْعَجْفَاءِ السُّلَمِيِّ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ رَحِمَهُ اللهُ فَقَالَ: «أَلَا لَا تُغَالُوا بِصُدُقِ النِّسَاءِ؛ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا أَوْ تَقْوَى عِنْدَ اللهِ لَكَانَ أَوْلَاكُمْ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا أَصْدَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَلَا أُصْدِقَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِهِ أَكْثَرَ مِنْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً»(١١).
ويجدر التنبيه: أنَّ العرف المقبولَ هو العرفُ الصحيح العامُّ المطَّرِدُ مِنْ عهد الصحابة ومَنْ بعدهم الذي لا يخالف نصًّا شرعيًّا ولا قاعدةً أساسيةً، ولا اعتبارَ للعرف الفاسد ولا احتجاجَ به بأيِّ حالٍ مِنَ الأحوال؛ فإنَّ في العمل به ـ والحالُ هذه ـ تمييعًا للدين وإضاعةً للشريعة وخروجًا عن مقاصدها ومراميها.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

وافي طيب
2018-01-02, 21:19
في حكم بيع الملابس الداخلية للنساء

السـؤال:
هل يجوز للرجل فتح محلٍّ لبيع الملابس الداخلية للنساء؟
الجـواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا حرجَ في التعاملِ بيعًا بهذه الملابسِ من حيثيتين:
- من حيثُ الملابسُ في ذاتها، فهي ملابسُ داخليةٌ تلِي العورةَ، وموضوعةٌ في الغالبِ لغرضٍ صحيحٍ لا يَطلِّع عليها الناس إلاّ الزوجانِ.
- ومن حيثُ المعاملةُ: فلا مانعَ من أنْ يبيعَ الرجلُ الملابسَ الداخليةَ للنساءِ إذا تقيَّدتِ المعاملةُ بالضوابطِ الشرعيةِ منْ كلا الجانبينِ كانتفاءِ الخلوةِ، والنظرِ المحرَّمِ، وعدمِ اللَّمسِ، وعدمِ المباسطةِ، والخضوعِ في القولِ، والاحتجابِ والتسترِ، وأن يكونَ الكلامُ فصلاً غير مسترسلٍ، وفي حدودِ ما تدعُو الحاجةُ، ونحو ذلكَ من القيودِ والضوابطِ.
والأفضلُ -عندي- أن يمارِسَ الرجلُ نشاطًا تجاريًا آخرَ تجنبًا للفتنةِ وقطعًا للشهوةِ بالنظرِ إلى كثرةِ الفتنِ وانتشارِ الشهواتِ، وزيادةِ الانحرافِ الخلُقِي.
وممَّا يجدرُ التنبيهُ له أنَّه إذَا كانَ يجوزُ بيعُ الملابسِ الداخليةِ للنساءِ فلا يجوزُ عرضُ تلكَ الملابسِ علَى المجسَّمَاتِ النسَائيةِ عَلَى واجهةِ المحلاَّتِ بمرأَى منَ الناسِ.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.

الفارس النبيل 93
2018-01-03, 11:05
باراك الله فيك أخي

وافي طيب
2018-01-05, 17:06
في حكم أكل الضبع

السـؤال:
ما حكم أكل الضَّبُعِ؟ وهل هو من الخبائثِ التي تأكل النّجاساتِ والجِيَفَ؟ وجزاكم الله خيرا.
الجـواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على منْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فأكلُ الضَّبُعِ أحلّه جمهور أهل العلم، وهو مذهب الشّافعيّة والحنابلة والظّاهريّة(١)، لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «الضَّبُعُ صَيْدٌ فَكُلْهَا، وَفِيهَا كَبْشٌ مُسِنٌّ إِذَا أَصَابَهَا الْمُحْرِمُ»(٢)، وفي روايةٍ: «الضَّبُعُ صَيْدٌ، فَإِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ فَفِيهِ جَزَاءُ كَبْشٍ مُسِنٍّ وَيُؤْكَلُ»(٣). ويدلّ على إباحته –أيضًا- حديثُ ابنِ أبي عمّارٍ قال: قُلْتُ لِجَابِرٍ: «الضَّبُعُ أَصَيْدٌ هِيَ؟» قَالَ: «نَعَمْ»، قُلْتُ: «آكُلُهَا؟»، قَالَ: «نَعَمْ»، قُلْتُ: «أَقَالَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ؟»، قَالَ: «نَعَمْ»(٤).
هذا، وممن قال بجواز أكل الضّبُع من الصّحابة رضي الله عنهم: عليٌّ وابنُ عُمَرَ وابنُ عبّاسٍ وجابرٌ وأبو هريرةَ وسعدُ بْنُ أبي الوقّاص وأبو سعيدٍ الخُدْرِيُّ وغيرُهم.
وما ذهب إليه القائلون بالإباحة لا يعارض أدلّةَ الحنفيّة(٥) القائلين بالتَّحريم، لإمكانِ تخصيصِ عمومِ حديثِ أبي ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ»(٦) بحديث جابرِ بْنِ عبدِ الله رضي الله عنهما، فكان التّحريمُ شاملاً لكلّ ذي نابٍ من السّباع باستثناء الضّبُعِ، لأنّ الضّبُع من جنس السّباع خُصَّ جوازُه بالنّصّ.
وأمّا المالكيّة فكرّهوا أكْلَه من غير تحريمٍ(٧) صرفًا إلى الكراهة لوجود الدّليل.
ونفى ابنُ القيّم -رحمه الله- أن يكونَ الضّبُع منَ السّباع العَادِيَةِ، فأخرجها بهذا الاعتبار من عموم التّحريم، قال –رحمه الله-: «وأمّا الضّبُع فإنّما فيها أحدُ الوصفين، وهو كونُها ذاتَ نابٍ، وليست من السّباع العَادِيَةِ، ولا ريبَ أنّ السّباعَ أخصُّ من ذوات الأنياب، والسّبُع إنّما حُرِّمَ لما فيه من القوّة السَّبُعيّة التي تُوَرِّثُ المُغْتَذِيَ بها شَبَهَهَا، فإنّ الغاذيَ شبيهٌ بالمغتذِي، ولا ريبَ أنّ القوّة السَّبُعيّة التي في الذّئبِ والأسدِ والنّمِرِ والفهْد ليست في الضّبُعِ حتى تجبَ التّسويةُ بينهما في التّحريم، ولا تُعَدُّ الضّبُعُ من السّباع لغةً ولا عرفًا»(٨).
كما لا يعارضه -من جهة أخرى- حديثُ خُزَيْمَةَ بْنِ جَزْءٍ رضي الله عنه قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ الضَّبُعِ، فَقَالَ: «أَوَيَأْكُلُ الضَّبُعَ أَحَدٌ؟!»، وَسَأَلْتُهُ عَنِ الذِّئْبِ فَقَالَ: «أَوَيَأْكُلُ الذِّئْبَ أَحَدٌ فِيهِ خَيْرٌ؟!»(٩)، لأنّ هذا الحديث فَقَدَ حجيَّتَه للمعارضة والاستدلال بسبب ضعفه، قال الشّوكانيّ –رحمه الله-: «لأنّ في إسناده عبدَ الكريمِ بنَ أُمَيَّةَ، وهو متَّفَقٌ على ضعفه، والرّاوي عنه إسماعيلُ بنُ مُسْلِمٍ، وهو ضعيفٌ»(١٠).
والذي يترجّح من الأقوال السّابقة أنّ الضّبُعَ مستثنىً من عموم ذوات الأنياب من السّباع بالنّصّ الخاصّ، أو خارجٌ عن السّباع العَادِيَةِ كما قرّره ابن القيّم –رحمه الله-، ولأنّ الضّبُع معدودٌ من أنواع الصّيد كما دلّ عليه التّصريحُ النّبويّ، وهذا قاضٍ بِعَدِّه من الطّيِّبات لا من الخبائث، وقد وصف الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [الأعراف: ١٥٧]، والقولُ بالكراهة لا ينافي الجوازَ والإباحة، وما نقله المناوي عن ابن العربيّ المالكيّ قولَه: «وعجبًا لمن يحرّم الثّعلب وهي تفترس الدّجاجَ، ويبيح الضّبُع وهو يفترس الآدميَّ ويأكله»(١١)، فإنّه قياسٌ فاسد الاعتبار لمقابلته للنّصّ، ولو اعتُبِرَ هذا القياسُ لَلَزِمَ امتناعُ أكْلِ الحِيتَانِ التي تأكل الآدميَّ وغيرَه، فاللاّزم والملزوم باطلان.
وأمّا القولُ بأنّ دليلَ تحريمِ ذواتِ الأنيابِ من السّباع وَرَدَ متأخِّرًا عن الحديث المبيح لأكل الضّبُع فدلّ على أنّه منسوخٌ، فهو غيرُ صحيحٍ لعمومِ الإحرام وجزاءِ ما قَتَلَ منَ الصَّيد بمثله من النَّعَمِ، لاحتمال أن يكونَ متأخِّرًا عن الأوّل، ولأنّ الخاصَّ –من جهةٍ أخرى- يُخصَّص به العموم كما هو مذهبُ جمهورِ الأصوليّين، سواء كان الخاصّ سابقًا على العامّ أو متأخِّرًا، خلافًا للأحناف الذين يرَوْنَ أنّ دلالةَ العامّ قطعيّةٌ، فإنْ وردت بعد دلالة الخاصّ التي هي قطعيّةٌ -أيضًا- فإنّ المتأخِّرَ ينسخُ المتقدِّمَ بعد معرفةِ تاريخَيْهما، ولا شكَّ أنّ مذهبَ الجمهور أولى وأقوى؛ تقديمًا للجمع على النّسخ الاحتماليّ، وإعمالُ كلِّ الأدلّة أولى من إهمالِها أو إهمالِ بعضِها.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.

وافي طيب
2018-01-05, 17:07
باراك الله فيك أخي

وفيك بارك الله

وافي طيب
2018-01-05, 20:23
في عدم ثبوت الحضانة للأب الكافر

السؤال:
أسلمَتِ امرأةٌ، وكان لها مِنْ زوجها الكافرِ أبناءٌ صغارٌ، وبقي أبوهم على كفره؛ فأرادَتْ أَنْ تتزوَّج بمسلمٍ، لكنَّ القوانين الوضعية تُوجِبُ عليها التنازلَ عن أبنائها لمصلحة الزوج الكافر، وإلَّا بَقِيَتْ بلا زوجٍ؟ فما توجيهُكم حَفِظكم اللهُ ورعاكم.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالمرأة الكافرة المتزوِّجة مِنْ كافرٍ ـ إِنْ أسلمَتْ بمُفْرَدِها دون زوجها ـ انفسخ النكاحُ بينهما، وفُكَّتِ العصمةُ الزوجية، وتجب عليها العِدَّةُ، فإِنِ انقضَتْ عِدَّتُها ـ بعد الإسلام وطَهُرَتْ ـ جاز لها أَنْ تتزوَّج بمَنْ شاءَتْ مِنَ المسلمين الأَكْفَاء، فإِنْ أسلم زوجُها الكافرُ ـ وهي في عِدَّتِها ـ كان أحَقَّ بها؛ فلا داعيَ لتجديدِ عقدِ النكاح بينهما، بل يُستصحَبُ العقدُ الأوَّل [الأصليُّ] وتسري أحكامُه عليهما؛ لأنَّ القاعدة العامَّة في زواجِ غيرِ المسلمين هي: «إقرارُ ما يُوافِقُ الشرعَ منها إذا أسلموا»، قال ابنُ عبد البرِّ ـ رحمه الله ـ: «أجمع العلماء أنَّ الزوجين إذا أسلما معًا في حالٍ واحدةٍ أنَّ لهما المُقامَ على نكاحهما، إلَّا أَنْ يكون بينهما نسبٌ أو رضاعٌ يُوجِبُ التحريمَ، وأنَّ كُلَّ مَنْ كان له العقدُ عليها في الشرك كان له المُقامُ معها إذا أسلما معًا، وأصلُ العقدِ معفيٌّ عنه؛ لأنَّ عامَّةَ أصحابِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كانوا كُفَّارًا، فأسلموا بعد التزويج، وأُقِرُّوا على النكاح الأوَّل، ولم يُعتبَرْ في أصل نكاحهم شروطُ الإسلام، وهذا إجماعٌ وتوقيفٌ»(١).
أمَّا الحضانة فهي ثابتةٌ للأمِّ على أبنائها الصغار؛ فهي أحَقُّ بهم لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي»(٢)، وذَكَر ابنُ المنذر ـ رحمه الله ـ الإجماعَ «على أَنْ لا حقَّ للأمِّ في الولد إذا تزوَّجَتْ»(٣)، غير أنَّ الحضانة تبقى لها ـ وإِنْ تزوَّجَتْ ـ إذا كَمُلَتِ الشرائطُ فيها، ولم يُوجَدْ مَنْ يقوم بصفات الحضانة غيرُها؛ لأنَّ الحضانة ولايةٌ تعتمد على الشفقة والتربية والملاطفة، والولدُ يتبع خيرَ أبويه دِينًا، وولايةُ الكافر على المسلم غيرُ جائزةٍ لقوله تعالى: ﴿وَلَن يَجۡعَلَ ٱللَّهُ لِلۡكَٰفِرِينَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ سَبِيلًا ١٤١﴾ [النساء]؛ فهي كولاية الزواج والمال؛ وعليه فلا تثبت الحضانةُ للأب الكافر ـ على الصحيح مِنْ أقوال أهل العلم ـ لأنَّ مِنْ شروط الحضانةِ الكفاءةَ، والكافرُ ليس كذلك، بل هو غيرُ مأمونٍ على أبنائه الصغار، ولا يُوثَقُ به في أداءِ واجبِ الحضانة، وقد ينشأ الأولادُ تنشئةَ مِلَّةِ أبيهم الكافر ودِينِه، ويتخلَّقون بأخلاقه البعيدةِ عن فطرة الإسلام وأخلاقِه السمحة، ويصعب ـ بعد ذلك ـ تحويلُهم عمَّا نشأوا عليه وتخلَّقوا به، وهذا أعظمُ ضررٍ يلحق الولدَ بحضانةٍ فاسدةٍ لا مراعاةَ فيها للجانب الدينيِّ والخُلقيِّ والتربويِّ.
وعليه، فإنَّ ممَّا تقتضيه الأدلَّةُ الشرعيةُ أنه متى أخَلَّ أحدُ الأبوين بأمر الله ورسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم في الصبيِّ وعطَّله وراعاه الآخَرُ فهو أحَقُّ به وأَوْلى.
هذا ما تَقرَّر شرعًا، والمسلمُ لا يرضى بغيرِ حكم الله تعالى بديلًا، ولا يُقِرُّ بما تجري عليه القوانينُ الوضعية مِنْ موادَّ قانونيةٍ، وخاصَّةً إذا خالفَتِ الشريعةَ الإسلامية وباينَتْ مبادئَها وتعاليمَها.
وعلى مَنْ تجب في حقِّه حضانةُ الأولاد أَنْ يسعى ـ جاهدًا ـ للتخلُّص مِنْ تَبِعات القوانين الوضعية، مع استفراغِ جميعِ طاقته ووُسْعه لإيجاد الحلِّ المُناسِبِ لقضيَّتِه، باستخدامه كافَّةَ الطُّرُقِ الشرعية الكفيلة بذلك؛ حفاظًا على دِينِ الأولاد وفطرتهم، وصونًا لأخلاقهم؛ عملًا بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟»، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ﴿فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَا﴾ [الروم: ٣٠] الآيَةَ(٤).
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

وافي طيب
2018-01-18, 18:56
في حكم ضرب الصبيِّ

السؤال:
هل يجوز للمعلِّم ضربُ التلاميذ؟ وإذا لم يَجُزْ فهل يُباحُ الضربُ الخفيف للضرورة التي يقدِّرها المعلِّمُ بسبب الشغب الذي يُحْدِثه بعضُهم نتيجةً لسُوءِ تربيتهم؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فمذهبُ أهلِ العلم عدمُ جواز ضرب الصبيِّ قبل عشر سنين إذا تَرَك الصلاةَ؛ لِمَا رواه أبو داود مرفوعًا: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ»(١)، وأسَّسوا الحكمَ على مفهوم الحديث المقتضي لعدمِ جوازِ ضربه في سائر أفعاله إلحاقًا بالصلاة، ولا يخفى أنَّ مِنْ شروط العمل بالمفهوم عند القائلين به: عدمَ تعلُّقه بسببٍ خاصٍّ أو حادثةٍ معيَّنةٍ، والنهيُ في الحديث محتملٌ لهذا التعلُّق مِنْ ناحيةِ تخصيصِ عدمِ الضرب فيما قبل العاشرة بعدمِ تحمُّله في هذا السنِّ غالبًا؛ لذلك كان مذهبُ مالكٍ ـ رحمه الله ـ أَنْ يُؤْمَر الصبيُّ بالصلاة إذا أَثْغَرَ [أي: بدَّل أسنانَه] ويؤدَّب عليها إذا تَرَكها، ولا يُضْرَب إلَّا ضربًا خفيفًا(٢).
وقال العلقميُّ في «شرح الجامع الصغير»: «إنما أُمِر بالضرب لعشرٍ لأنه حدٌّ يُتحمَّل فيه الضربُ غالبًا، والمرادُ بالضرب ضربًا غير مبرِّحٍ وأَنْ يتَّقيَ الوجهَ في الضرب»(٣)، وهذا كُلُّه إذا لم ينزجر بوعيدٍ أو تقريعٍ؛ فإِنِ انزجر بأحَدِهما فلا يجوز ضربُه.
والأحوط ـ عندي ـ تركُ التأديب بالضرب دون سِنِّ العاشرة ولو كان الضربُ خفيفًا؛ عملًا بظاهر الحديث، وهو أحفظُ لبدن الصبيِّ وأقربُ للسلامة.
وعلى المعلِّم أَنْ يتعامل مع تلامذته بالتوجيه الحسن وَفْقَ التعاليم الشرعية، والأخذِ بأيديهم إلى طريق النجاة وشاطئ السلامة بتعليمهم ما ينفعهم في دُنْياهم وأُخْراهم، وفي الجملة لا تنزل مرتبةُ المعلِّم عن مرتبة الأبوين في الرعاية التربوية عمومًا، والرعايةِ التعليمية والدينية خصوصًا.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

وافي طيب
2018-01-24, 11:39
في الضابط المميِّز لمجال الشرك الأكبر من الأصغر

السـؤال:
أريد أن أسأل عن كيفية معرفة الأمور التي نحكم عليها بأنها شرك أكبر مميَّزًا عن الشرك الأصغر بتحديد ضابطٍ يُفرِّق بين مجال كُلِّ واحدٍ منهما؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجـواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاعلم أنَّ مجالَ الشِّركِ الأكبرِ يكمن في عقائدِ القلوبِ سواء بتسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله تعالى، وهو المعنى العامُّ للشرك الأكبر، أو باتخاذ مع الله ندًّا أو نظيرًا يعبده كما يعبد الله، ويطيعه كما يطيع الله تعالى، قال الله تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَـٰوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [يونس: ١٨]، وقال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ﴾ [الشورى: ٢١]، ومنه يتبيّن أن الشرك الأكبر ينافي التوحيد.
أمّا مجال الشرك الأصغر فهو في هيئة الفعل أو القول باللسان أو الإرادات الخفية، مثل تسوية غير الله بالله في هيئة الفعل: التطير، والتمائم، والرقى الشركية، والنشرة إذا أتى بها من غير اعتقاد فاعليتها أو تأثيرها بنفسها، والاستسقاء بالأنواء إذا اعتقد أنّ ذلك بإذن الله.
- وقد تكون تسوية غير الله بالله سبحانه في قول اللسان كالحلف بغير الله، وقول القائل: ما شاء الله وشئت، أو اللهم اغفر لي إن شئت، وقوله: «قاضي القضاة» أو كالتعبُّد لغير الله كعبد الرسول، وعبدِ النبي، وعبدِ الحارث، وما إلى ذلك، قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لاَ يُلْقِي لَهَا بَالاً يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ»(١).
- وقد تكون تسوية غير الله بالله سبحانه في الإرادات القلبية الخفية كالرياء فقد ثبت في الحديث قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «أَخْوَفُ مَا أَخَافُهُ عَلَيْكُمُ الشِّرْك الأَصْغَر»، فسئل عنه، قال: «الرِّيَاءُ»(٢)، ومنها: السمعة والتصنُّع وإرادة الدنيا ببعض الأعمال ونحو ذلك.
غير أنّ هذه الأقسام من الشرك الأصغر تنافي كمال التوحيد وقد تنقلب إلى شرك أكبر إذا لازمه اعتقاد قلبي بتعظيم غير الله كتعظيم الله، أو يغلب على أعمال العبد الرياء والإرادة بعمله الدنيا، ولا يريد به وجهَ الله تعالى، أو تكون المراءاة في أصل الإيمان، لذلك ينبغي الحذر كلّ الحذر من الشرك الأصغر خشية الوقوع في الأكبر لكثرة الاشتباه فيه، فقد يحصل الظنّ فيما هو من الشرك الأصغر ولكنه في حقيقته يعدّ من الشرك الأكبر، ولا يخفى أنّ الشرك الأكبر مخرج للعبد من مِلَّةِ الإسلام، ومحبط للأعمال كلِّها جملة وتفصيلاً، ومُحِلٌّ للأموال والنفوس، وإذا مات عليه من غير توبة لم يدخل تحت المشيئة (إن شاء عذَّبه وإن شاء غفر له) كما هو حال الشرك الأصغر، وإنما كان ذلك موجبًا للخلود في النار -والعياذ بالله- قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ [النساء: ٤٨].
وحَرِيٌّ بالتنبيه إلى وجود فَرْقٍ بين الشِّرك والكفرِ الذي يتَّفق مع الشرك في تسوية غير الله مع الله، ويزيد عليه بالجحد المطلق، وهو جحد ما لا يتمُّ الإسلام بدونه أو كماله، ومن هذا التصوُّر يظهر بينهما العموم والخصوص المطلق، فكلُّ شركٍ كفرٌ وليس كلُّ كُفرٍ شركًا، والكفر على نوعين -أيضًا- أكبر وأصغر، ومن أنواع الكفر الأكبر: كفر التكذيب، والشك، والإباء والاستكبار، وكفر الجهل، والنِّفاق، والاعتقاد، والفعل، والقول، ومن الكفر القولي: كفر تكذيب، وتعطيل، وتمثيل.
أمّا الكفر الأصغر فهو أنواع أيضًا منها كفر النعمة، وترك الصلاة، وإتيان المرأة في دبرها ونحو ذلك.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا التوحيد الخالص، والاتباع الصادق، وأن يجنِّبنا ما يضادّ التوحيد مما ينافيه أو ينافي كماله من الشرك والكفر الأكبر والأصغر ونحوهما.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.

وافي طيب
2018-01-24, 19:26
في الجدل وأنواعه وأحكامه

السؤال:
ما هو حكمُ الجدالِ في الشّرعِ، وهل يُعتبر مِنَ الخصوماتِ؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدّين، أمّا بعد:
فالجدلُ هو إظهارُ المتنازعَيْنِ مقتضى نظرتِهما على التّدافعِ والتّنافي بالعبارةِ أو ما يقوم مقامَهما مِنَ الإشارةِ والدّلالةِ، ومعنى ذلك أنّ كلاًّ مِنَ الخصمين يريد أن يكشفَ لصاحبِه صحّةَ كلامِه وحِفْظَ مقالِه، بإحكامِه وتقويةِ حجّتِه وهدمِ مقالِ خصمِه.
والجدلُ بهذا الاعتبارِ قد يكون مأمورًا به شرعًا، وقد يكون منهيًّا عنه، لذلك يتنوّع الجدلُ إلى: محمودٍ ومذمومٍ.
فأمّا الجدلُ المحمودُ فهو: ما يحتاج إليه الدّاعي مع الخصمِ مِنِ استعمالِ المعارضةِ والمناقضةِ؛ قصْدَ بيانِ غرضِه الصّحيحِ وأنّه مُحِقٌّ مِن جهةٍ، وإظهارِ فسادِ غرضِ خصمِه وأنّه مُبْطِلٌ مِن جهةٍ أخرى، وذلك بالحجّةِ والبرهانِ مع تفنيدِ شبهةِ الخصمِ وتهوينِ تعلُّقِه بها.
والجدلُ المحمودُ لا يخرج عن حيّزِ الوجوبِ أو النّدبِ، قال ابنُ تيميّةَ -رحمه الله-: «وأمّا جنسُ المناظرةِ بالحقِّ؛ فقد تكون واجبةً تارةً ومستحبَّةً تارةً أخرى»(١).
وقد بوّب ابنُ عبدِ البرّ -رحمه الله- لجنسِ الجدلِ المحمودِ في «جامع بيانِ العلمِ وفضلِه» بابًا بعنوانِ: «إثباتُ المناظرةِ والمجادلةِ وإقامةِ الحجّةِ»(٢)، وذكر فيه جملةً مِنَ الأدلّةِ المفيدةِ لترجمةِ بابِه مِنَ القرآنِ والسّنّةِ، وأحوالِ الأنبياءِ مع أممِهم، ومجادلاتِ الصّحابةِ فيما بينهم، أو فيما بينهم وبين غيرِهم مِن أهلِ المللِ وأهلِ البدعِ، وكذا مناظراتِ العلماءِ بعد الصّحابةِ رضي اللهُ عنهم.
ويمكن ذكرُ بعضِ الأدلّةِ الشّرعيّةِ على هذا النّوعِ مِنَ الجدلِ، منها:
- قولُه تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: ١٢٥].
- وقولُه تعالى: ﴿وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [العنكبوت: ٤٦].
ولمّا كان الجدلُ مظِنَّةَ اللَّدَدِ في الخصومةِ أَمَرَ اللهُ المؤمنين بالإحسانِ فيه.
- مجادلةُ نوحٍ عليه السّلامُ لقومِه بالحقِّ حتّى استعجلوا العذابَ حين لم تَبْقَ لهم شبهةٌ يتعلّقون بها، قال تعالى حكايةً عن قومِ نوحٍ: ﴿قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [هود: ٣٢].
- وكذلك مجادلةُ إبراهيمَ عليه السّلامُ في مواقِفَ متعدِّدةٍ منها: مجادلتُه للملكِ الجائرِ الذي لَحِقَه البَهْتُ عند أخذِ الحجّةِ عليه، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ٢٥٨].
- وقولُه صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم: «جَاهِدُوا المُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ»(٣)، والجهادُ باللّسانِ يكون بإقامةِ الحجّةِ على أهلِ الباطلِ ودحضِ شُبَهِهم ودُعائِهم إلى اللهِ تعالى، قال ابنُ حزمٍ -رحمه اللهُ-: «وفيه الأمرُ بالمناظرةِ وإيجابُها كإيجابِ الجهادِ والنّفقةِ في سبيلِ اللهِ»(٤).
أمّا الجدلُ المذمومُ فهو على نوعين:
الأوّلُ: جدلُ الكفّارِ: وهو ما كان على غيرِ هدًى، أو كان لدحْضِ الحقِّ، أو مفرَّغًا مِنَ العلمِ والحجّةِ، أو كان لتثبيتِ باطلٍ والدّعوةِ إليه ونصرةِ أهلِه والمنافحةِ عنهم ويدلّ على هذا المعنى مِنَ الجدلِ المنهيِّ عنه جملةٌ مِنَ الأدلّةِ القرآنيّةِ منها:
- قولُه تعالى: ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [غافر: ٤].
- وقولُه تعالى: ﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾ [غافر: ٥].
- وقولُه تعالى: ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [غافر: ٣٥].
- وقولُه تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾ [الحجّ: ٨، لقمان: ٢٠].
- وقولُه تعالى: ﴿أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ [الأعراف: ٧١].
الثّاني: جدلُ المسلمين: وهو القائمُ على طريقةِ أهلِ الأهواءِ والبِدَعِ، والذي يكون سببًا في التّحوّلِ والانتقالِ مِنَ الإيمانِ إلى الكفرِ، ومِنَ الهدى إلى الضّلالِ، ومِنَ السّنّةِ إلى البدعةِ، قال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ -رحمه اللهُ-: «مَنْ جَعَلَ دِينَهُ غَرَضًا لِلْخُصُومَاتِ أَكْثَرَ التَّنَقُّلَ»(٥)، ومِنْ جدلِ المسلمين المذمومِ ما كان على وجهِ معارضةِ الآياتِ المتشابِهاتِ ابتغاءَ الفتنةِ وابتغاءَ تأويلِها على غيرِ مقصودِ الشّارعِ ومرادِه، أو تضمّن الجدلُ تكذيبًا للآثارِ، أو مكابَرةً لنصوصِ التّشريعِ، أو معارضةً للإجماعِ بنقضِ عقدتِه، أو مغالطةً في القياسِ أو في مقدّماتِه، أو ما كان الجدلُ قائمًا على المماراةِ والخصومةِ المؤديّةِ إلى تشتيتِ الألفةِ وتصديعِ أواصرِ المحبّةِ، أو إدخالِ الشّكوكِ في الثّوابتِ وتوليدِ الشّحناءِ في النّفوسِ بتسفيهِ الكبارِ والانتقاصِ مِن أهلِ الدّينِ والملّةِ ببترِ أقوالِهم وحملِ كلامِهم على غيرِ مرادِهم بمختلفِ الأغاليطِ وأساليبِ التّنقيرِ والتّحقيرِ والتّنفيرِ، أو إثارةِ العصبيّةِ والفُرْقةِ بين المسلمين، الأمرُ الذي قد يصل إلى حدِّ التّكفيرِ والاقتتالِ. وهذا كلُّه مذمومٌ مهما كان تبريرُ مقاصدِ المتخاصمَيْنِ، ويدلّ عليه قولُه تعالى: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ. يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ﴾ [الأنفال: ٥-٦]، وقولُه تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: ١٩٧]، وحديثُ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: «تَلاَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: ٧]، فقال: يَا عَائِشَةُ، إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ فَهُمُ الَّذِينَ عَنَاهُمُ اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ»(٦)، وقولُه صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلاَّ أُوتُوا الجَدَلَ ثُمَّ قَرَأَ: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ [الزّخرف: ٥٨]»(٧)، وقولُه صلّى اللهُ عليه وآلِه وسلّم: «أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ الأَلَدُّ الخَصِمُ»(٨) أي: «أنّ مَن يُكثر المخاصمةَ يقع في الكذبِ كثيرًا»(٩).
هذا، وقد نهى السّلفُ وأئمّةُ الهدى عنِ الجدلِ المذمومِ والمراءِ في الدّينِ ومناظرةِ المسلمين على طريقةِ أهلِ الأهواءِ والبِدَعِ، قال الآجرّيُّ -رحمه الله- بعد أن ذكر طائفةً مِنَ الأدلّةِ في النّهيِ عنِ الجدلِ ما نصُّه: «لمّا سمع هذا أهلُ العلمِ مِنَ التّابعين ومَن بعدهم مِن أئمّةِ المسلمين لم يُماروا في الدّينِ ولم يجادلوا، وحذّروا المسلمين المراءَ والجدالَ، وأمروهم بالأخذِ بالسّننِ وبما كان عليه الصّحابةُ رضي الله عنهم، وهذا طريقُ أهلِ الحقِّ ممّن وفّقه اللهُ تعالى»(١٠).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.

وافي طيب
2018-01-26, 09:55
اعتراض على تعريف القاعدة الفقهية والجواب عليه

السؤال:
في تعريفكم للقاعدة الفقهية بأنها: «أصلٌ فقهيٌّ كُلِّيٌّ يجمع في ذاته أحكامًا جزئيةً ـ بلا واسطةٍ ـ مِنْ أبوابٍ شتَّى»، ثمَّ استغنيتم عن لفظِ «كُلِّي»، فإنَّ لديَّ ـ شيخَنا ـ طرحين انقدحا في ذهني، نرجو مِنْكم ـ حفظكم الله ـ الإجابةَ عنهما، وهما متعلِّقان بتعريف القاعدة الفقهية.
١. في استغنائكم عن لفظِ: «كُلِّي» بعد عبارةِ: «أصلٌ فقهيٌّ» بحجَّةِ أنَّ قيدَ: «يجمع في ذاته» تغني عنه، ولكِنْ أَلَا ترَوْنَ أنَّ إبقاءه أَوْلى مِنْ نزعه، وذلك ليفهم قارئُه أنَّ صاحِبَ هذا الحدِّ يرى أنَّ الراجح وصفُ القاعدة الفقهية ﺑ «كلِّية» لا «أغلبية»، ويكون هذا اللفظ مُؤكِّدًا لكونها جامعةً، وفاصلًا في المسألة المُختلَفِ فيها.
٢. أليس الأَوْلى تقديمُ لفظِ «مِنْ أبوابٍ شتَّى» على لفظِ «بلا واسطة»؛ وذلك لأنَّ الأوَّل تابعٌ لِمَا قبله وهو «أحكام جزئية»؛ فتُوصَف بأنَّها مِنْ أبوابٍ شتَّى، ثمَّ طريقة جمعها لهذه الجزئيات وهي «بلا واسطة».
نرجو الإجابةَ عن هذين الطرحين، وجزاكم الله عنَّا خيرَ الجزاء.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فمِنَ المعلوم أنَّ التعريف: هو تحديد الشيء بذِكرِ خواصِّه المتميِّزة بحيث يكون جامعًا لكُلِّ خصائصه ومميِّزاته، مانعًا مِنْ إقحامِ غيره فيه.
والأصل في التعريفات أَنْ تقتصر على الألفاظ الدالَّة المحدَّدة للمعرَّف به، فإن اكتفى ـ في تعريفه ـ بفائدة التأسيس فيهنَّ فإنَّ التأكيد يَرِد على شرح التعريف، لكِنْ إذا كان التعريف لا يظهر معناه إلَّا بمؤكِّدٍ لفظيٍّ فإدخالُه لا يُثْقِل التعريفَ، بل يُساعِده في الفهم.
وعليه، فإِنْ رأى السائلُ الاحتفاظَ بتعريف القاعدة بوصفِ «الكُلِّية» كلفظٍ مؤكِّدٍ للتعريف لحاجة التعريف له في زيادة الفهم والبيان وتقرير المسألة المختلَفِ فيها بين «الكُلِّية» و«أغلبية» فله أَنْ يَستبقِيَها، ومَنْ رأى غيرَ ذلك فله أَنْ يتناول تفصيلَها بالبيان حالَ شرح التعريف، والعلم عند الله تعالى.
أمَّا جملةُ «بلا واسطة» فهي جملةٌ اعتراضيةٌ تعترض بين شيئين يحتاج كُلٌّ منهما الآخَرَ، فقَدْ اعترضَتْ بين عبارةِ: «أحكام جزئية» وبين «مِنْ أبوابٍ شتَّى»، ومَفادُ هذا الاعتراضِ ـ كما يقول النُّحاةُ ـ توكيدُ الجملة وتقويتُها، أي: أنَّ القاعدة الفقهية تستغني عن الواسطة في جمعِها الأحكامَ الجزئية، وتُفيدُ ذلك مُباشَرةً؛ بالنظر لتعلُّقها بفعل المكلَّف؛ فهو قيدٌ يُحترَزُ به مِنَ «القاعدة الأصولية».
بينما إيرادُ عبارةِ «مِنْ أبوابٍ شتَّى» تقصُّدًا للاحتراز مِنَ «الضوابط الفقهية»، ولا يخفى أنَّ الاحتراز مِنَ الأوَّل أَوْلى مِنَ الاحتراز مِنَ الثاني.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

وافي طيب
2018-01-27, 21:42
في حكم جماعةِ التبليغ ودعوتها

السؤال:
ما حكمُ جماعةِ الدعوة والتبليغ في البلدان الإسلامية والبلدان الكافرة؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فجماعة التبليغ أُسِّسَتْ على رؤيا رآها شيخُهم محمَّد إلياس، وزعم أنّ الرسول صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم كلَّفه بهذه المهمّةِ في المنام، وهذه الجماعة تقوم على الأصول الستَّة، مبنيةٌ على كلمة السرِّ وهي: أنّ كلّ شيءٍ يُسبِّب النُّفرة أو الفُرْقَةَ أو الاختلافَ بين اثنين -ولو كان حقًّا- فهو مبتور ومقطوع، ومُلْغًى من منهج الجماعة.
وهذه الجماعة مبايِنَةٌ للحقِّ، صوفيةُ المنهج والمشرب، لها العديد من الأخطاء.
للمزيد من الاطلاع يمكن مراجعة كتاب «القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ» للشيخ حمود بن عبد الله التويجري -رحمه الله-.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.

وافي طيب
2018-01-29, 12:47
في الأفضل في القراءة بين الجهر والإسرار

السؤال:
هل الأفضل ـ في قراءة القرآن أو غيرِه ـ الجهرُ بالقراءة أم الإخفاء؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالظاهر مِنْ أقوال أهل العلم هو التفريقُ بينهما في حالتين:
الأولى: أنَّ إسرار القراءة للقرآن وإخفاءَها أفضلُ في حقِّ مَنْ يخشى أَنْ يشوِّش على غيره بها؛ لحديثِ أبي سعيدٍ رضي الله عنه قَالَ: اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ، فَكَشَفَ السِّتْرَ وَقَالَ: «أَلَا إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ؛ فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلَا يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ»، أَوْ قَالَ: «فِي الصَّلَاةِ»(١)؛ أو مَنْ يخاف على نفسه الرِّياءَ والعُجْب؛ إذ يأمن المُسِرُّ بالقراءة مِنَ الوقوع فيهما بخلاف المُعْلِن؛ فالقراءةُ في حالِ الإسرار ـ بهذا المعنى ـ أَشْبَهُ بصدقة السرِّ، وهي أفضلُ مِنْ صدقة العلانِيَة؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ، وَالْمُسِرُّ بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ»(٢).
الثانية: أنَّ الجهر بالقراءة أفضلُ مِنَ الإسرار في حقِّ مَنْ لا يخاف الوقوعَ في المحظورات السابقة؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ، يَجْهَرُ بِهِ»(٣)، وغيرها مِنَ الأحاديث والآثار.
وبهذا الجمعِ قال القرطبيُّ المالكيُّ وبعضُ الشافعية(٤)، و«الجَمْعُ أَوْلَى مِنَ التَّرْجِيجِ»؛ لِمَا فيه مِنْ إعمالٍ لكُلِّ الأدلَّة، و«الإِعْمَالُ أَوْلَى مِنَ الإِهْمَالِ».
وحريٌّ بالتنبيه أنَّ المرأةَ شقيقةُ الرجل في الحكم كما ثَبَت ذلك في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ»(٥)، غير أنه يمتنع عليها رفعُ صوتها بالتلاوة بحضرة الرجالِ الأجانب كما تمَّ بيانُه في فتوى سابقةٍ(٦).
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

وافي طيب
2018-02-01, 10:06
في حكم فرشاة الطلاء المصنوعة مِنْ شعر الخنزير

السؤال:
شركةٌ تستورد مِنَ الصين الشعرَ لصناعةِ فرشاة الطِّلاء، علمًا أنَّ نسبةَ شعرِ الخنزير فيه تبلغ ٤%؛ فما حكمُ صناعتها واستعمالها وبيعِها؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فإذا كان المقصود بالسؤال: حُكْمَ صناعةِ فرشاةٍ للطِّلاء مِنْ شعر الخنزير واستعمالها وبيعِها؛ فإنَّ الحكم فيها يرجع ـ أساسًا ـ إلى صفة شعر الخنزير: أهو طاهر أم نجس؟ والمُعتمَد ـ عندي ـ أنَّ شعر الخنزير وغيرِه طاهرٌ، وهو مذهب المالكية وغيرِهم؛ لأنَّ الشعور المجزوزةَ دون أصولها ممَّا لا تَحُلُّه الحياةُ، وإذا كانَتْ كذلك وَجَب حكمُ الإباحة لبقاء الطهارة ـ وهي الوصف الشرعيُّ المعهود ـ لعدَمِ وجود المُزيل لها؛ بناءً على أنَّ «الأَصْلَ فِي الأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ»، ولا يُعْدَل عن هذا الأصلِ إلَّا بدليلٍ.
وتفريعًا على هذا القولِ بطهارةِ شعر الخنزير فيتقرَّر جوازُ استخدامِ هذه الفرشاة المصنوعة مِنَ الشعور مطلقًا والتصرُّفِ فيها بالبيع والهِبَة وغيرِهما مِنْ سائر التصرُّفات المالية، وهذا خلافًا لمذهب الجمهور القاضي بنجاسة شعر الخنزير.
ويؤيِّد ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ هذا القولَ بالإباحة والجواز بما نصُّه: «والقول الراجح هو طهارة الشعور كُلِّها: شعرِ الكلب والخنزير وغيرِهما، بخلاف الرِّيق؛ وعلى هذا فإذا كان شعرُ الكلب رطبًا وأصاب ثوبَ الإنسان فلا شيءَ عليه كما هو مذهبُ جمهور الفقهاء: كأبي حنيفة ومالكٍ وأحمد في إحدى الروايتين عنه؛ وذلك لأنَّ «الأَصْلَ فِي الأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ» فلا يجوز تنجيسُ شيءٍ ولا تحريمُه إلَّا بدليلٍ؛ كما قال تعالى: ﴿وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِ﴾ [الأنعام: ١١٩]، وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوۡمَۢا بَعۡدَ إِذۡ هَدَىٰهُمۡ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ﴾ [التوبة: ١١٥]، وقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في الحديث الصحيح: «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ المُسْلِمِينَ بِالمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ»(١)، وفي السنن عن سلمان الفارسيِّ مرفوعًا ـ ومنهم مَنْ يجعله موقوفًا ـ أنه قال: «الحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَالحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ»(٢)، وإذا كان كذلك فالنبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعًا [أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ]»(٣)، وفي الحديث الآخَر: «إِذَا وَلَغَ الكَلْبُ..»(٤)؛ فأحاديثُه كُلُّها ليس فيها إلَّا ذِكرُ الولوغ، لم يذكر سائرَ الأجزاء؛ فتنجيسُها إنما هو بالقياس؛ فإذا قِيلَ: إنَّ البول أعظمُ مِنَ الرِّيق كان هذا متوجِّهًا، وأمَّا إلحاق الشعر بالرِّيق فلا يمكن؛ لأنَّ الرِّيق متحلِّلٌ مِنْ باطن الكلب، بخلاف الشعر فإنه نابتٌ على ظهره؛ والفقهاءُ كُلُّهم يفرِّقون بين هذا وهذا؛ فإنَّ جمهورهم يقولون: إنَّ شعر الميتة طاهرٌ بخلاف ريقها، والشافعيُّ وأكثرُهم يقولون: إنَّ الزرع النابت في الأرض النجسة طاهرٌ؛ فغايةُ شعر الكلب أَنْ يكون نابتًا في مَنْبَتٍ نجسٍ كالزرع النابت في الأرض النجسة؛ فإذا كان الزرع طاهرًا فالشعرُ أَوْلى بالطهارة؛ لأنَّ الزرع فيه رطوبةٌ ولينٌ يظهر فيه أثرُ النجاسة، بخلاف الشعر فإنَّ فيه مِنَ اليبوسة والجمود ما يمنع ظهورَ ذلك؛ فمَنْ قال مِنْ أصحاب أحمد كابن عقيلٍ وغيرِه: «إنَّ الزرع طاهرٌ» فالشعرُ أَوْلى، ومَنْ قال: «إنَّ الزرع نجسٌ» فإنَّ الفرق بينهما ما ذُكِر؛ فإنَّ الزرع يُلْحَق بالجلَّالة التي تأكل النجاسة، وهذا ـ أيضًا ـ حجَّةٌ في المسألة؛ فإنَّ الجلَّالة التي تأكل النجاسةَ قد نهى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن لبنها فإذا حُبِسَتْ حتَّى تطيب كانَتْ حلالًا باتِّفاق المسلمين؛ لأنها قبل ذلك يظهر أثرُ النجاسة في لبنها وبيضها وعرقها فيظهر نتنُ النجاسة وخُبثُها؛ فإذا زال ذلك عادَتْ طاهرةً؛ فإِنَّ الحكم إذا ثَبَت بعلَّةٍ زال بزوالها؛ والشعرُ لا يظهر فيه شيءٌ مِنْ آثار النجاسة أصلًا؛ فلم يكن لتنجيسه معنًى؛ وهذا يتبيَّن بالكلام في شعور الميتة كما سنذكره إِنْ شاء الله تعالى؛ وكُلُّ حيوانٍ قِيلَ بنجاسته فالكلامُ في شعره وريشه كالكلام في شعر الكلب؛ فإذا قِيلَ بنجاسةِ كُلِّ ذي نابٍ مِنَ السِّباع وكُلِّ ذي مِخْلبٍ مِنَ الطير إلَّا الهرَّةَ وما دونها في الخِلْقة ـ كما هو مذهبُ كثيرٍ مِنَ العلماء: علماءِ أهل العراق وهو أشهرُ الروايتين عن أحمد ـ فإنَّ الكلام في ريشِ ذلك وشعرِه فيه هذا النزاع: هل هو نجسٌ؟ على روايتين عن أحمد: إحداهما: أنه طاهرٌ وهو مذهب الجمهور كأبي حنيفة والشافعيِّ ومالكٍ، والروايةُ الثانية: أنه نجسٌ كما هو اختيارُ كثيرٍ مِنْ متأخِّري أصحاب أحمد؛ والقولُ بطهارةِ ذلك هو الصوابُ كما تقدَّم»(٥).
هذا، وإذا جاز استعمالُ الفرشاة المصنوعةِ مِنْ شعر الخنزير وملامسةُ شعره الرطب بلا حرجٍ ولا مضرَّةٍ ـ على الراجح مِنْ قولَيِ العلماء ـ وخاصَّةً أنَّ نسبةَ شعره ضئيلةٌ إذا ما قُورِنَتْ بالكثرة؛ إذ المعلومُ أنَّ «الحُكْمَ لِلْغَالِبِ»؛ ومع ذلك فإِنْ عَمِل بالحيطة في الدين بالابتعاد عمَّا اختُلِف في تحريمِه والتنزُّهِ عنه كان أَوْلى وأحرى؛ جريًا على قاعدةِ: «الخُرُوجُ مِنَ الخِلَافِ مُسْتَحَبٌّ»؛ فلا يتعامل بالأعيان المختلَفِ في نجاستها وتحريمها ولا يتصرَّف فيها التصرُّفَ الماليَّ إلَّا في حدود الحاجة؛ عملًا بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ»(٦).
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

وافي طيب
2018-02-03, 10:12
جناية التصوُّف على الإسلام
وآثارُه السيِّئة على منهج السلف في العلم والعمل

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فقَدْ جَعَل اللهُ تعالى البناءَ العقديَّ المتين والتكوين الفقهيَّ السليم والاسترشادَ بمنهج السلف القويم عاصمًا مِنَ الوقوع في الزلل والخطإ، وكفيلًا للوقاية مِنَ التزيُّد والتجاوز والابتداع في منهج الفهم والتعقُّلِ لقضايا التنزيل العقدية وأحكامِ التطبيق العملية.
ولا يخفى على ذي لبٍّ أنَّ الله تعالى لم يجعل دِينَه وشرعه مَرْتعًا للرُّؤَى، ولا مسرحًا للخيال في فهم نصوص الوحيين ـ الكتابِ والسنَّة ـ للوصول بالسالك إلى اليقين المنشود كما تزعمه المتصوِّفة، وذلك عن طريق المشاهدة والكشف والذوق والمنامات وغيرها مِنَ الطُّرُق المُلتوِيَة والبعيدة عمَّا كان عليه الصدرُ الأوَّل مِنْ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وصحابتِه الكرام رضي الله عنهم الذين زكَّاهم اللهُ تعالى بالنصِّ، وشَهِد لهم بالأعلمية في مثلِ قوله تعالى: ﴿يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖ﴾ [المجادلة: ١١]، وقولِه تعالى: ﴿وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ ٱلۡحَقَّ﴾ [سبأ: ٦]، وقولِه تعالى: ﴿حَتَّىٰٓ إِذَا خَرَجُواْ مِنۡ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ مَاذَا قَالَ ءَانِفًا﴾ [محمَّد: ١٦]؛ فإنَّ اللام في «العلم» إنما هي للعهد لا للاستغراق، أي: العلم الذي أرسل اللهُ به نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم، وإذا أُوتُوا هذا العلمَ كان حريًّا بغيرهم اتِّباعُهم(١)، وقد أخبر النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ خير الناس قرنُه مطلقًا؛ وهو الأمر الذي يقتضي تقديمَهم على غيرهم في كُلِّ بابٍ مِنْ أبواب الخير في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»(٢)، كما جَعَل اللهُ الهدايةَ للصراط المستقيم لا سبيلَ للخَلْق إليها إلَّا بما آمَنَ به معشرُ المؤمنين في قوله تعالى عن أهل الكتاب: ﴿فَإِنۡ ءَامَنُواْ بِمِثۡلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْ﴾ [البقرة: ١٣٧]، وجَعَل الضلالَ بالإعراض عن سبيل الهدى والإيمان ـ الذي طريقُه العلمُ والعمل ـ هو عينَ الشِّقاق، ويَلْزَم مِنَ المُشاقَّةِ مُحادَّةُ اللهِ ورسولِه وعداوتُهما، وبِئْسَ شِقُّ أهلِ الضلال والغواية وساءَ مَصيرُهم، ونِعْمَ شقُّ أهلِ الهدى والإيمانِ وحَسُنَ مَآلُهُم، واللهُ يكفيهم شرَّهم وكيدهم ومكرهم وعداوتهم؛ قال تعالى: ﴿وَّإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا هُمۡ فِي شِقَاقٖۖ فَسَيَكۡفِيكَهُمُ ٱللَّهُۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ ١٣٧﴾ [البقرة].
ومِنْ ذلك ما أوجب الله تعالى مِنْ متابعة السبيل الذي سَلَكه المؤمنون ـ وفي طليعتهم صحابةُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ـ في عقائدهم وأعمالهم، وما حرَّم مِنْ مخالفتهم فيها بعد ظهور الهدى والعلم بالدلائل القرآنية والبراهين النبوية، وقد رتَّب اللهُ تعالى الوعيدَ على المُشاقِق المخالفِ بالتخلِّي عنه في الدنيا والعذابِ في الآخرة في قوله تعالى: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ١١٥﴾ [النساء]؛ إذ لا يخفى أنَّ لفظ «المؤمنين» في الآية يدخل فيه الصحابةُ الكرام رضي الله عنهم دخولًا أوَّليًّا.
غير أنَّ العَجَب لا ينقطع مِنْ ذهنيةِ قومٍ مُنِحَتْ لها مسؤوليةُ الأمَّة، وجُمِعَتْ بين أيديها آليَّاتُ التغيير المادِّيةُ والبشرية طمعًا في الارتقاء إلى الأحسن ـ زعموا ـ تنشد ـ في قوالبها الدِّينية ـ التجديدَ ضِمْنَ المسلك الصوفيِّ المُنحرِف بمُختلَفِ طُرُقه وأحواله ومقاماته، وتأييدَ زواياه ومدارسِه المتفاوِتةِ في الفساد والإفساد، بدءًا مِنْ مدرسة الزهد وانحداراتها عن سُمُوِّ الإسلام بإحداثِ مفاهيمَ وسلوكياتٍ غريبةٍ عن الدِّين، واختلاقِ مصطلحاتٍ ما أَنْزَل اللهُ بها مِنْ سلطانٍ، وقد تبلغ بهم إلى حدِّ الوساوس والدَّرْوَشة والخُرافة، ثمَّ مدرسة الكشف والمعرفة، إلى القول بوحدة الوجود، وإلى الاتِّحاد والحلول والفَناء، وإلى التواكل والركون إلى السلبية، وغيرها مِنْ ضلالات القوم الدخيلة على الإسلام في عقيدته وأحكامه.
إنَّ التصوُّف ـ بأفكاره المنحرفة ومعتقداته الباطلة، وبمختلفِ مناهجه ومدارسِه ومسالكه ـ خطرٌ عظيمٌ على عقيدة التوحيد والعمل؛ فهو يشوِّه الإسلامَ في معانيه ومبانيه وعقيدتِه وشريعته مِنَ الداخل والخارج تشويهًا يخرجه عن جماله، ويعرِّيه عن حُسْنه ورونقه.
بل التصوُّف قضاءٌ مُبْرَمٌ على العقيدة والفقه الإسلاميَّيْن، وانحرافٌ ظاهرٌ عن الصراط المستقيم، وانحدارٌ خطيرٌ عن دعوة الأنبياء والرُّسُل، وعن منهج الإسلام القائم على العلم والعمل ونشرِ التوحيد ونبذِ الشرك والبِدَع، والأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيرها ممَّا جاء به النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِنْ دِين الإسلام، وقامَتْ عليه حجَّتُه ودعوتُه، وسار عليه صحابتُه الكرام رضي الله عنهم، ومَنِ انتهج منهجَهم مِنْ بعدِهم؛ فقَدْ أَثْبَت اللهُ لهم الخيريةَ على سائر الأمم ـ كما تقدَّم ـ ووَصَفهم بأنهم يأمرون بكُلِّ معروفٍ وينهَوْن عن كُلِّ منكرٍ في قوله تعالى: ﴿كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ﴾ [آل عمران: ١١٠]، كما جَعَلهم شُهَداءَ الله على الناس في الأرض، وأقام شهادتَهم مَقامَ شهادة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم في قولِه تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗا﴾ [البقرة: ١٤٣]؛ فإنَّ الصحابة الكرام رضي الله عنهم ـ في هذه الآيةِ والتي قبلها ـ هم المُشافَهون ـ حقيقةً ـ بهذا الخطاب المبلَّغِ على لسان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، شهادةَ حقٍّ وصدقٍ، ولا شيءَ يُعادِلُ شهادةَ الله تعالى لهم بذلك.
هذا، وقد ازداد انحرافُ التصوُّف عن خطِّ الإسلام القويم في عقيدته وفقهه، وتوسَّعَتْ دائرةُ فساده وضررِه بما جَمَعه ونَشَره على مرِّ العصور وكرِّ الدهور مِنْ آفات المعتقدات والتزيُّدِ في الدِّين ومختلف الضلالات والحوادث التي تولَّدَتْ مِنْ جرَّاءِ ترك الاعتصام بحبل الله المتين وبمنهجه القويم؛ والمعلومُ أنَّ مَنْ تَرَك الاعتصامَ به وعَمَد إلى التخلِّي عنه كان عُرْضةً لجميع الآفات والبليَّات، وقد شبَّهه الله تعالى بمَنْ ﴿خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخۡطَفُهُ ٱلطَّيۡرُ أَوۡ تَهۡوِي بِهِ ٱلرِّيحُ فِي مَكَانٖ سَحِيقٖ ٣١﴾ [الحج].
ذلك لأنهم سألوا الهدايةَ وطلبوا الاستقامةَ في غير الكتاب والسنَّة، زاعمين أنَّ لهم علومًا خاصَّةً يتلقَّوْنها مِنَ الله مباشرةً دون واسطةٍ عن طريق الكشوفات والهواتف المزعومة، فضلًا عن دعوَى لقائهم بالأنبياء والأولياءِ حقيقةً وحسًّا، وعلى رأسهم الخَضِرُ الذي يتعلَّمون منه العلومَ اللدنية؛ الأمرُ الذي دَفَعهم إلى الاعتقاد بوجودِ حقيقةٍ تخالف الشريعة، وبالغلوِّ المُفْرِط في رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم والأولياء.
ومِنْ أعظم العوامل المؤثِّرة ـ أيضًا ـ التي زادَتْ عقيدةَ المتصوِّفة فسادًا: اختلاطُ التصوُّف بجملةٍ مِنَ الفلسفات القديمة وتأثُّرُه بها، حتَّى أصبح التصوُّفُ ـ في عقيدته وسلوكه ـ مزيجًا مِنَ الفلسفة الهندية واليونانية والرهبانية وعقائدِ الشيعة(٣) وغيرها.
ومِنَ الآثار السيِّئة التي نَشَرها التصوُّفُ في هذه الأمَّة، وبان فيها خطرُه على عقيدتها ودِينها:
ـ انتشار الوثنية وعبادة القبور، وذلك بقيام المتصوِّفة ببناء المساجد والقِباب على قبور الموتى، ودعوةِ الناس إلى زيارةِ أماكنها والتمسُّحِ بأعتابها، وصرفِ العبادات لأصحابها المدفونين، مِنْ دعاءٍ واستغاثةٍ وذبحٍ ونذرٍ وغيرها مِنَ العبادات التي لا يجوز صرفُها إلَّا لله تعالى.
ـ انحراف الصوفية في التوحيد بإقحام وحدة الوجود في عقيدة الأمَّة، وأنَّ مفهوم التوحيد الحقيقي ـ في زعمهم ـ هو القول بوحدة الوجود، وما ترتَّب عليها مِنْ مضاعفاتٍ في تجويزِ كُلِّ شيءٍ موجودٍ في الكون، والقول بوحدة الأديان وغيرهما.
ـ انحراف الصوفية في المحبَّة، واعتقادهم بحلول الله في خلقه ومسألة الفَناء وغيرها مِنْ آفات معتقداتهم.
ـ تقسيم الدِّين إلى حقيقةٍ وشريعةٍ على نحوِ ما بيَّنْتُه في موضوعِ: «بدعة تقسيم الدِّين إلى حقيقةٍ وشريعةٍ وآثاره السيِّئة على الأمَّة»(٤).
ـ تعطيل وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدعوَى أنَّ الكُلَّ ـ عندهم ـ معروفٌ وقَدَرٌ محبوبٌ، والاعتقاد بأنَّ مشايخهم يُحِلُّون لهم ما حرَّم الله عليهم، فضلًا عمَّا تنشره المتصوِّفةُ مِنْ حوادثِ الموالد والأذكار والصلوات المُبتدَعة وغيرها مِنَ الأفعال والصُّوَر والألوان والأحوال المشينة التي يمارسها الخرافيون منهم ويعتقدونها في كُلِّ العالَم، وهي محسوبةٌ على الإسلام ظلمًا وزورًا.
فالحاصل: أنَّ دِينَ المتصوِّفة مبنيٌّ على دعاوَى مُختلَقةٍ كاذبةٍ متمثِّلةٍ في اعتقادهم أنَّ التوحيد الذي أرسل اللهُ به الرُّسُلَ وأنزل به الكُتُبَ فهو توحيد العوامِّ الذي يُعَدُّ ـ بالنسبة إليهم ـ شركًا بالله يترفَّعون عنه بزعمهم، وادِّعاؤهم عدمَ انقطاع الوحي، وأنَّ المشايخ مكشوفٌ عن بصيرتهم، وهُم أعلمُ بحقائق العلوم مِنَ الأنبياء، ويجوز لهم الخروجُ عن الشريعة والتمرُّدُ على أوامر الله ورسولِه؛ بناءً على تقسيم الدِّين ـ عندهم ـ إلى حقيقةٍ وشريعةٍ، فضلًا عن الغُلُوِّ المُفْرِط في رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ورفعِه مِنْ مرتبة البشرية ومقام العبودية والرسالة إلى مقام الألوهية والمعبودية، وغيرها مِنْ ضلالات القوم وبِدَعهم.
الأمر الذي أفضى بالمتصوِّفة إلى تقديس أوليائهم ومشايخهم وتعظيم منزلتهم بالغُلُوِّ الزائد، في حياتهم وبعد وفاتهم: يخضعون لهم في طاعةٍ عمياءَ وحبٍّ أصمَّ، ويعترفون بذنوبهم بين أيديهم على طريقةِ أصحابِ صكوك الغفران عند النصارى، ويشيِّدون عليهم الأضرحةَ والقِبابَ بعد وفاتهم، ويشدُّون إليها الرِّحالَ ويتمسَّحون بها ويتوسَّلون لقضاء حوائجهم ـ زعموا ـ وهذا غيضٌ مِنْ فيضٍ مِنَ المفاهيم والسلوكات والمُعتقَدات والشَّطَحات التي ابتدعوها في دِين الإسلام، متشبِّهين باليهود والنصارى كما أخبر النبيُّ في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ»، قُلْنَا: «يَا رَسُولَ اللهِ، اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؟»، قَالَ: «فَمَنْ؟!»(٥)، ولا يخفى ما في هذه الحوادثِ والعوائد والمعتقدات مِنْ مخالفةٍ لجناب التوحيد، ومباينةٍ لِمَا دَعَا إليه الإسلامُ وما كان عليه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وصحابتُه الكرام رضي الله عنهم.
وقد انقلب التصوُّفُ ـ بعدها ـ كسبًا مُرْبِحًا للمُشَعْوِذين والسَّحَرة والبطَّالين والدجَّالين، وطريقةً لتحضير الأرواح، وتجارةً مَهينةً للسُّفَهاء السافلين ومَنْ قلَّتْ بضاعتُهم في العلم الشرعيِّ ولا اشتغلوا به ولا دعَوْا إليه؛ فضَلُّوا وأَضَلُّوا وفَسَدوا وأفسدوا؛ فلا الإسلامَ نصروا ولا عدوًّا كسروا، ولا طاغيًا كافحوا ولا غاصبًا طردوا.
وقد استغلَّ أعداءُ الإسلام والمُستعمِرون الحاقدون عليه طوائفَ المتصوِّفة لتشويهِ جمال الإسلام والقضاءِ على صفاء التوحيد، وتصيير المسلمين أطوعَ لسلطة الأعداء وأخضعَ إلى مأموريَّتِهم وأركنَ إلى السلبية؛ لئلَّا تقوم للمسلمين قائمةٌ.
علمًا أنَّ المتصوِّفة لم يكن لهم موقفٌ عدائيٌّ تُجاهَ المستعمر المحتلِّ، بل موقفُ متعاوِنٍ خدومٍ لمصالح المُستعمِر ومنافعِه، سواءٌ في العالَمِ الإسلاميِّ عامَّةً أو في خصوصِ بلدنا هذا، والأدلُّ على ذلك أنَّ أتباع الطريقة التيجانية ساعدوا الجيوشَ الفرنسية بمختلف الوسائل الحربية مِنَ التجسُّس لهم وإرسالِ الأَدِلَّاء والقتالِ إلى جانب فرنسا ضِدَّ مُواطِنيهم مِنَ المسلمين، واعتُبِر ذلك عند مشايخ الصوفية واجبًا يُمليهِ الشرفُ ويَبْغون فيه الاحتسابَ عند الله تعالى(٦).
فهذه هي المواقف المخذولة للمتصوِّفة في هذه البلادِ وغيرها مِنْ بلدان العالَم، «مِنْ أجلِ ذلك يجب ألَّا نستغرب إذا رأينا المُستعمِرين يُغْدِقون على الصوفية الجاهَ والمال، فرُبَّ مفوَّضٍ سامٍ لم يكن يرضى أَنْ يستقبل ذوي القيمة الحقيقية مِنْ وجوه البلاد، ثمَّ تراه يسعى إلى زيارةِ حلقةٍ مِنْ حلقات الذكر، ويقضي هنالك زيارةً سياسيةً تستغرق الساعات؛ أليس التصوُّف الذي على هذا الشكلِ يقتل عنصرَ المقاومة في الأمم؟!»(٧).
ولا تزال جنايةُ الصوفية على الدِّين مُستمِرَّةً بهذه المواقفِ المخزية: يؤيِّدون الفسادَ أينما كان، ويَرْمُون غيرَهم بالباطل، ويتكيَّفون مع واقع الزمن الذي يعيشون فيه ولو بإيديولوجياتٍ مُستَوْرَدةٍ، مِنِ: اشتراكيةٍ أو ليبيراليةٍ أو ديمقراطيةٍ وأفكارٍ دخيلةٍ على المجتمع المسلم، ويدورون مع واقعهم المَعيش حيث دارَ، ويسايرونه كُلَّ مَسارٍ، سواءٌ كان الواقعُ مُوافِقًا للإسلام أو مخالفًا له، وسواءٌ كان قادةُ بلاد المسلمين وحُكَّامُهم مسلمين أو كُفَّارًا، وقد قال قائلُهم: «إنَّ الكُفَّار والمجرمين والفَجَرةَ والظلمة مُمتثِلون لأمر الله تعالى، ليسوا بخارجين عن أمره»(٨).
هذا، وإنَّ قومًا ممَّنْ يحملون الغِلَّ على أهل السنَّة يسعَوْن جاهدين إلى محاربةِ دعوة الكتاب والسنَّة على منهجِ سلف الأمَّة عقيدةً وشريعةً على نطاقٍ واسعٍ، باستخدامِ أساليب التضييق، سواءٌ على الدُّعَاة أو الأئمَّة أو رُوَّاد الدعوة إلى الله أو طلبة العلم بالتشويه والإقصاء، أو على منشوراتهم ومؤلَّفاتهم بالمنع والتشديد والمصادرة.
في حينِ يفتحون المجالَ للتصوُّف ـ بأفكاره المنحرفة ومعتقداته الباطلة ـ واسعًا على مِصْراعَيْه، بعقد الندوات والمُلتقَيات، وإعداد البرامج والحِصَص المرئيَّةِ وغير المرئيَّة، وتخصيص الأغلفة المالية لتدعيمها وتقويتها، وتمكين الزوايا على ما فيها مِنْ بلايَا ورزايَا، فضلًا عن إرادة إحلال العقيدة الممزوجة بعقائد الفلاسفة وتُرَّهات المناطقة وتمحُّلات المتكلِّمين محلَّ عقيدةِ أهل السنَّة والجماعة، ليعقِّدوا العقيدةَ ويشوِّهوا صفاءَها وجمالها؛ فيُنشِئوا لهذه الأمَّةِ جيلًا خُرَافيًّا مُبتدِعًا ومتكلِّمًا، يُفْسِد عقيدةَ الأمَّة ويلوِّث صفاءَها ويهدم بنيانَها.
وكان الأجدرُ بهم: ردَّ الأمَّة إلى منهج السنَّة القويم ومنهجِ السلف الصالح السليم، وتخليصَها مِنْ آثار الشُّبَه والشكوك والأفكار الهدَّامة والاتِّجاهات المُنحرِفة، وتجنيبَها طُرُقَ الباطل والغواية؛ ليصونوا الأمَّةَ مِنَ الهلكة والضلالة.
ولكِنْ لا يزالون على ظلمهم سائرين، لا تردُّهم موعظةٌ ولا يزجرهم بيانٌ ولا برهانٌ، يبذلون قُصارَى جُهدهم ليتوصَّلوا إلى إطفاءِ نور الله بمقالاتهم الكاسدة: يردُّون بها الحقَّ، وقد تَكفَّل اللهُ تعالى بإشاعةِ نوره ونصرِ دِينه وإتمامِ الحقِّ الذي أرسل به نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم؛ ﴿يُرِيدُونَ لِيُطۡفِ‍ُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ﴾ [الصف: ٨].
نسأل اللهَ أَنْ يحفظ دِينَه، ويُعليَ كلمتَه، وينصر أولياءَه المؤمنين المُتَّقين، وأَنْ يثبِّتنا على الحقِّ المُبين، ويعصِمَنا مِنَ الزلل عند المِحَن، ويجنِّبنا الشرَّ والفِتَن، ما ظَهَر منها وما بَطَن؛ إنه وليُّ ذلك والقادرُ عليه.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١٠ صفر ١٤٣٩ﻫ
الموافق ﻟ: ٣٠ أكتوبر ٢٠١٧م

(١) انظر: «إعلام الموقِّعين» لابن القيِّم (٤/ ١٣٠).
(٢) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم» بابُ فضائلِ أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم (٣٦٥٠)، ومسلمٌ في «فضائل الصحابة» (٢٥٣٥)، مِنْ حديثِ عمران بنِ حصينٍ رضي الله عنه.
(٣) انظر: «مقدِّمةَ ابنِ خلدون» الفصل السابع عشر: في علم التصوُّف (٢٨٥).
(٤) يُوجَد ضِمْنَ مؤلَّفي: «تنبيه المستبصرين بمفهوم التقسيم الاصطلاحيِّ للدِّين ـ نماذجُ وآثارٌ ضِمْنَ رؤيةٍ نقدية» (١٥).
(٥) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «أحاديث الأنبياء» (٣٤٥٦) بابُ ما ذُكِر عن بني إسرائيل، ومسلمٌ في «العلم» (٢٦٦٩)، مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه.
(٦) ويؤكِّد ذلك قولُ محمَّد بن الكبير صاحبُ السجَّادة التيجانية الكبرى وخليفةُ أحمد التيجاني الأكبر مؤسِّسِ الطريقة التيجانية، في خطبةٍ ألقاها أمامَ رئيس البعثة العسكرية الفرنسية في عين ماضي بالأغواط [الجزائر] بتاريخ ٢٨ ذي الحجَّة عام ١٣٥٠ﻫ ما نصُّه: «إنَّ مِنَ الواجب علينا إعانةَ حبيبةِ قلوبنا فرنسا مادِّيًّا ومعنويًّا وسياسيًّا؛ ولهذا فإنِّي أقول ـ لا على سبيل المنِّ والافتخار، ولكِنْ على سبيل الاحتساب والشرف بالقيام بالواجب ـ: إنَّ أجدادي قد أحسنوا صنعًا في انضمامهم إلى فرنسا قبل أَنْ تَصِل إلى بلادنا، وقبل أَنْ تحتلَّ جيوشُها الكرام دِيارَنا» [«تاريخ المغرب في القرن العشرين» لروم لاندرو (١٤٣)].
(٧) «هذه هي الصوفية» لعبد الرحمن الوكيل (١٧٢).
(٨) «جواهر المعاني» لعلي برادة (١/ ٢٢١).

وافي طيب
2018-02-06, 19:23
في خضوع منفعة العين المؤجَّرة للقسمة الإرثية

السؤال:
امرأةٌ تزوَّجَتْ رجلًا له أولادٌ مِن زوجةٍ مُطَلَّقةٍ يعيشون معه في بيتٍ استأجره أيَّامَ الاستعمار الفرنسيِّ، وبَقِيَتْ هذه المرأةُ مع زوجها وأولادِه إلى أَنْ تُوُفِّيَ زوجُها هذا، فأَكْمَلَتْ هي دَفْعَ مُسْتَحَقَّاتِ الإيجار وحوَّلَتْ إيصالَ الإيجارِ إلى اسْمِها، وبقي الحالُ كذلك إلى أَنْ كُتِبَ إيجارُ البيت على اسْمِها، واستمرَّتْ في دَفْعِ مُسْتَحَقَّات التأجير إلى الدولة، إلى أَنْ تَيَسَّرَ لها شراؤُه مِن الدولة على اسْمِها وصار مِلْكًا لها.
وقبل فترةٍ قريبةٍ اعْتُبِرَ بيتُها مِن البيوت الهشَّة التي يجب هَدْمُها، فحوَّلَتْها الدولةُ إلى مسكنٍ جديدٍ على اسْمِها؛ فصارَتْ تدفع مَبْلَغَ إيجارٍ شهريٍّ على أَنْ يُحوَّل البيتُ مِلْكًا لها بعد أَنْ تدفع أقساطَ الإيجارِ المفروضةَ عليها.
غير أنَّ الدولة ـ باعتبارِ أنَّ بيتها الأوَّل كان مِلْكًا لها ـ عوَّضَتْها مبلغًا ماليًّا كبيرًا عن مِلْكيةِ البيت الأوَّل.
وسؤالها: هل أولاد زوجها الأوَّل ـ والذي هو أوَّلُ مَنِ استأجَرَ البيتَ الأوَّل والمعوَّضَ عنه بذلك المبلغِ الماليِّ ـ لهم حقٌّ في ذلك التعويض؟ أي: هل هذا التعويضُ يُعْتَبَرُ إرثًا ويُقْسَم على الورثة أم أنه مِلْكٌ لها لكونها هي التي استمرَّتْ في دفعِ مَبالِغِ التأجيرِ طيلةَ سنواتٍ عديدةٍ وهي التي دفعَتْ مُسْتَحَقَّاتِ البيتِ حتَّى صارَ مِلْكًا لها؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فيعود حقُّ منفعةِ المسكن بعد وفاة المُسْتَأجِرِ إلى ورثته: زوجتِه وأولادِه، علمًا بأنَّ الدولة ـ مالكةَ العَقَار ـ تُعطي لِمُسْتَأْجِرِها ـ بوضعٍ قانونيٍّ ـ حَقَّ البقاءِ الدائمِ في العَيْن المؤجَّرة؛ وعليه فقيمةُ منفعةِ العَيْنِ المؤجَّرةِ يَسْتَحِقُّها جميعُ وَرَثَتِه، وتُقْسَم بينهم على قواعدِ الميراثِ وأحكامِه.
هذا، وبغضِّ النظر عن نيَّةِ زوجةِ المتوفَّى في المُسارَعةِ لتَمَلُّكِ العَيْنِ المؤجَّرة بدَفْعِ مُسْتَحَقَّاتِها للدولة مالكةِ العَقَارِ بعد تحويل الإيجار مكتوبًا على اسْمِها: أينطوي على سوءِ نيَّتها بهذا الإجراء الإداريِّ أم حُسْنِ نيَّتها؟ فإنَّ هذا التصرُّف ـ في حدِّ ذاته ـ لا يُلْغِي حقَّ الورثةِ مِن أولاده ولا يُبْطِلُه التقادُمُ ولو مَضَتْ عليه السِّنُونَ ما لم يُسْقِطوه لصالِحِها.
ولها أَنْ تَرْجِعَ عليهم بما دَفَعَتْه مِن مُسْتَحَقَّاتِ المسكن المالية، وكذلك مَبالِغ التأجير إذا ما شارَكُوها في الاستفادة مِن العَيْنِ المؤجَّرة؛ فإذا استأثَرَتْ بالانتفاعِ بالعَيْن المؤجَّرةِ لوَحْدِها فلا حَقَّ لها في أَنْ تُطالِبَهم إلَّا بمُسْتَحَقَّات المسكنِ ودُفُوعِ أقساط الإيجار المسبقة للتملُّك دون مَبالِغِ الإيجار التي كانَتْ في مُقابِلِ انتفاعها بمُفْرَدِها.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.

وافي طيب
2018-02-12, 10:45
*الشيخ فركوس حفظه الله*

*في حكم اصطفاف الصبيِّ غيرِ المميِّز في الصلاة*

السؤال:

يَعْمِدُ بعضُ المُصَلِّين إلى اصطحابِ بَنِيهم وبناتِهم إلى المسجد، وغالبًا ما يكون سِنُّهم ما بين سنتين إلى سِتِّ سنواتٍ، وإذا أُقيمَتِ الصلاةُ يصطفُّ الابْنُ أو البنتُ مع والدَيْهما في صفِّ الرجال، فهل هذا جائزٌ؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.

الجواب:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فالصبيُّ إذا بَلَغَ سَبْعَ سنينَ ـ وهو بدايةُ سِنِّ التمييز على الأصحِّ ـ فإنه تصحُّ مُصافَّتُه مع الرجال؛ لأنه مأمورٌ بالصلاة في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ»(١)(٢)، وقد صلَّى ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فأخَذَ برأسِه وجَعَلَه عن يمينِه(٣)، وإذا كانَتْ إمامةُ الصبيِّ تصحُّ إذا كان أَحْفَظَ مِن غيرِه لكتابِ اللهِ تعالى ـ كما ثَبَتَ في حديثِ عمرِو بنِ سَلِمَةَ رضي الله عنه، فقَدْ أمَّ الناسَ وهو ابنُ سبعِ سنينَ(٤)*ـ فإنَّ مُصافَّتَه تصحُّ مِنْ بابٍ أَوْلَى.

فإِنْ كان دون سِنِّ التمييزِ فهو غيرُ مأمورٍ بالصلاة، ولا يقطع الصفَّ في الصلاة؛ لمكانِ حديثِ أنسٍ رضي الله عنه قال: «فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ، فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ، فَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَفَفْتُ أَنَا وَاليَتِيمُ وَرَاءَهُ، وَالعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا، فَصَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ»(٥). والظاهرُ مِنْ لفظِ: «اليتيم» في الحديث أنه الصغيرُ، و«اليُتْمُ في الناسِ: فَقْدُ الصبيِّ أباه قبل البلوغ»(٦)، مِنْ غيرِ تفريقٍ بين مميِّزٍ وغيرِ مميِّزٍ، ولا يُصارُ إلى خلافِه إلَّا بدليلٍ، قال الشوكانيُّ ـ رحمه الله ـ: «وفيه أنَّ الصبيَّ يَسُدُّ الجَناحَ»(٧).

وأمَّا إلحاقُ الصبيِّ غيرِ المميِّزِ بالسارية، أو بِمَنْ لا تصحُّ صلاتُه كالكافر، أو المرأةِ مع الرجال؛ فهو قياسٌ ظاهِرُ الفَرْقِ بين العاقل والجماد، والمسلمِ والكافرِ، والذَّكَرِ والأنثى.

وأمَّا الصبيَّةُ ففي كلا الحالتين، مميِّزةً كانَتْ أو غيرَ مميِّزةٍ، فلا تصحُّ مُصَافَّتُها مع الرجال لاختلافِ الجنس، وهي تقطع الصفَّ لأنَّ وجودَها وعَدَمَها سواءٌ.

فإنْ كان وليُّ الصبيَّةِ مضطَرًّا إلى استصحابِها لصلاةِ الجماعة فلها أن تُصَلِّيَ معه في أحَدِ طَرَفَيِ الصفِّ يمينًا أو شِمالًا، فيجعلُها كآخِرِ فردٍ في السلسلة لئلَّا تقطعَ الصفَّ، وقد صلَّى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو حاملٌ أُمامةَ بنتَ زينبَ رضي الله عنهما على عاتِقِه(٨)*حتَّى يعلمَ الناسُ أنَّ مِثْلَ هذا العملِ سائغٌ في الصلاةِ عند الاضطرار والحاجة.

وعلى كُلٍّ، فإنِّي لا أعلم دليلًا يقضي ببطلانِ الصلاة في الحالات السابقة بسببِ الإخلال بتسويةِ الصفوف أو عدَمِ ترتيبها.

هذا، وجديرٌ بالتنبيه*أنَّ الصبيَّ غيرَ المميِّزِ إذا ظَهَرَ منه عَبَثٌ وطيشٌ أو تصرُّفٌ مُؤْذٍ في المسجد فالأَوْلَى إبقاؤُه في بيته مع أهله وذويه لأنه غيرُ مأمورٍ بالصلاة أوَّلًا، ويتأذَّى بعَبَثِه وتشويشِه المُصَلُّون ثانيًا، والأصلُ رَفْعُ الضَّرَرِ وإزالةُ الأذى؛ لعمومِ قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»(٩)*ما لم يُضْطَرَّ وليُّه إلى استصحابه معه؛ فإنه يُسْتَدَلُّ له بحديثِ حَمْلِه صلَّى الله عليه وسلَّم لِأُمامةَ بنتِ زينبَ رضي الله عنهما(١٠).

أمَّا إذا خَلَتْ تصرُّفاتُ الصبيِّ مِنْ عَبَثٍ وتشويشٍ فإنه يجوز إدخالُه المسجدَ؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم رأى الحسنَ بنَ عليٍّ رضي الله عنهما وهو على المنبر فقال: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ»(١١)، ولِما رواه النسائيُّ وأحمدُ مِنْ طريقِ عبدِ اللهِ بْنِ شدَّادٍ عن أبيه شدَّادِ بْنِ الهادِ رضي الله عنه قال: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِحْدَى صَلَاتَيِ العَشِيِّ وَهُوَ حَامِلٌ حَسَنًا أَوْ حُسَيْنًا، فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَهُ ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ، فَصَلَّى فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا»، قَالَ أَبِي: «فَرَفَعْتُ رَأْسِي وَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَاجِدٌ فَرَجَعْتُ إِلَى سُجُودِي، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ قَالَ النَّاسُ: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِكَ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ»، قَالَ: «كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي؛ فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ»»(١٢)، وقد استُدِلَّ بهما على جوازِ إدخالِ الصبيانِ المساجدَ.

وأمَّا حديثُ: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ»(١٣)*فلا ينتهض للاحتجاج به؛ لشدَّةِ ضَعْفِه كما بيَّنه الألبانيُّ ـ رحمه الله ـ(١٤).

والعلمُ عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٩ مِن ذي القعدة ١٤٣١ﻫ
الموافق ﻟ: ١٧ أكتوبر ٢٠١٠م

(١)*أخرجه أبو داود في «الصلاة» باب: متى يُؤْمَر الغلامُ بالصلاة؟ (٤٩٥) مِن حديث عمرو بنِ شعيبٍ عن أبيه عن جدِّه عبد الله بنِ عمرٍو رضي الله عنهما. والحديث حسَّنه النوويُّ في «الخلاصة» (١/ ٢٥٢)، وصحَّحه ابنُ الملقِّن في «البدر المنير» (٣/ ٢٣٨)، والألبانيُّ في «الإرواء» (١/ ٢٦٦).

(٢)*انظر مسألةَ الأمر بالصلاة في الفتوى رقم: (١٠٤٩) الموسومة ﺑ:*«في صفة الأمر في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مُرُوا أولادَكم بالصلاة ..»».

(٣)*مُتَّفَقٌ عليه:*أخرجه البخاريُّ في «العلم» بابُ السَّمَرِ في العلم (١١٧)، ومسلمٌ في «صلاة المسافرين» (٧٦٣)، مِن حديث ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما.

(٤)*أخرجه البخاريُّ في «المغازي» بابُ مَن شَهِدَ الفتحَ (٤٣٠٢).

(٥)*أخرجه البخاريُّ في «الصلاة» بابُ الصلاة على الحصير (٣٨٠)، ومسلمٌ في «المساجد ومواضع الصلاة» (٦٥٨).

(٦)*«النهاية» لابن الأثير (٥/ ٢٩١).

(٧)*«نيل الأوطار» للشوكاني (٤/ ٩٠).

(٨)*أخرجه البخاريُّ في «الصلاة» باب: إذا حَمَلَ جاريةً صغيرةً على عُنُقه في الصلاة (٥١٦)، ومسلمٌ في «المساجد ومواضع الصلاة» (٥٤٣)، مِن حديث أبي قَتادة رضي الله عنه.

(٩)*أخرجه ابنُ ماجه في «الأحكام» بابُ مَن بنى في حقِّه ما يضرُّ بجاره (٢٣٤١) مِن حديث ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما. قال النوويُّ في الحديث رقم: (٣٢) مِن «الأربعين النووية»: «وله طُرُقٌ يَقْوى بعضُها ببَعْضٍ»، وقال ابنُ رجبٍ في «جامع العلوم والحِكَم» (٣٧٨): «وهو كما قال»، وصحَّحه الألبانيُّ في «الإرواء» (٣/ ٤٠٨).

(١٠)*سبق تخريجه،*انظر:*الهامش رقم:*(٨).

(١١)*أخرجه البخاريُّ في «الصلح» بابُ قولِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم للحسن بنِ عليٍّ رضي الله عنهما: «إِنَّ ابْنِي هَذَا...» (٢٧٠٤) مِن حديث أبي بكرة رضي الله عنه.

(١٢)*أخرجه النسائيُّ في «صفة الصلاة» باب: هل يجوز أن تكون سجدةٌ أَطْوَلَ مِن سجدةٍ؟ (١١٤١) مِن حديث شدَّادِ بنِ الهاد رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «صفة الصلاة» (١٤٨).

(١٣)*أخرجه ابنُ ماجه في «المساجد» بابُ ما يُكْرَهُ في المساجد (٧٥٠) مِن حديثِ واثلةَ بنِ الأسقع رضي الله عنه.

(١٤)*انظر:*«إرواء الغليل» (٧/ ٣٦٢) و«ضعيف الجامع» (٢٦٣٦) كلاهما للألباني.

وافي طيب
2018-02-13, 09:50
*جديد فتاوى الشيخ فركوس حفظه الله*

*في حكم السُّفْتَجة*

السؤال:

هل يجوز للرَّجل أَنْ يطلب قرضًا ماليًّا محدَّدًا يأخذه في الحجاز ـ مثلًا ـ على أَنْ يكتب للدائن وثيقةً بدَيْنٍ يأخذه في الجزائر؟ وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فمثلُ هذه المعاملةِ ـ بأَنْ يأخذ الرَّجلُ قرضًا في بلد المُقرِض للحاجة ويكتبَ لصاحب المال وثيقةً أو ورقةً ليستوفيَ بها أموالَه عند عائلة المُقترِض أو وكيله في الجزائر ـ*مثلًا*ـ لتفادي خطر الطريق ـ تُسمَّى عند الفقهاء*بالسُّفتجة*ـ*بفتح السين وضمِّها(١)*ـ. وهي محلُّ خلافٍ بين العلماء، حيث يرى الجمهورُ عدمَ جوازها(٢)، وذَهَب فريقٌ آخَرُ إلى أنها جائزةٌ، وهي إحدى الروايتين عن أحمد رجَّحها ابنُ تيمية ـ*رحمه*الله*ـ(٣).

ويرجع سببُ الخلاف في المسألة إلى: هل السفتجة مِنْ قبيل القرض الذي جرَّ منفعةً، أم أنَّ كِلَا الطرفين ينتفع، فالمُقترِض ينتفع بتحصيلِ تلك الأموالِ في ذلك البلد للحاجة، وأمَّا المُقرِض فيأخذ أموالَه في بلد المقترض ويأمن بها الطريقَ، ولعلَّ فيها منافعَ أخرى له؟

ـ فمَنْ رأى أنَّ فيه منفعةً زائدةً مشروطةً في بداية العقد وهي ربحُ أمنِ الطريق قال بعدم الجواز؛ بناءً على حديثِ: «كُلَّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ رِبًا»(٤)، وهذا قول الجمهور.

ـ ومَنْ رأى أنَّ المنفعة فيها ليست قاصرةً على المقترض، وإنما فيها منفعةٌ لكِلَا الطرفين المُتعاقِدَيْن ـ على ما سبق بيانُه ـ، وأنَّ الشرع لا ينهى عن منافع الناس ومصالحهم، وإنما ينهى عمَّا كان فيه مَضارُّهم وأذيَّتُهم؛ قال بجوازِ هذه المعاملة.

والظاهر أنَّ مِثْلَ هذه المعاملةِ جائزةٌ وليست بممنوعةٍ، وهذا لأسبابٍ:

الأوَّل:*أنَّ الحديث الذي استدلَّ به الجمهورُ حديثٌ ضعيفٌ لا يقوى على الحجِّيَّة وإِنْ كان معناه ـ*في الجملة*ـ صحيحًا(٥).

الثاني:*ما رُوِي عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ «أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ قَوْمٍ بِمَكَّةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ يَكْتُبُ بِهَا إِلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِالْعِرَاقِ فَيَأْخُذُونَهَا مِنْهُ؛ فَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا؛ فَقِيلَ لَهُ: «إِنْ أَخَذُوا أَفْضَلَ مِنْ دَرَاهِمِهِمْ»، قَالَ: «لَا بَأْسَ إِذَا أَخَذُوا بِوَزْنِ دَرَاهِمِهِمْ»»(٦)، ورُوِي ذلك عن عليٍّ رضي الله عنه أيضًا(٧)، ولو أنَّ الشيخ الألبانيَّ ـ*رحمه*الله*ـ قد ضعَّف الأثرين في «إرواء الغليل»(٨)، إلَّا أنَّ الأصل في المنافع وأنواعِ المكاسب والتجارات الجوازُ ـ كما سَلَف بيانُه ـ، خاصَّةً إِنْ تضمَّنَتْ هذه الأخيرةُ دَفْعَ مفاسدَ وضمانَ أمنِ الطريق، مع أنَّ الانتفاع كان لمصلحة المُقرِض والمُقترِض كِلَيْهما، وقد أجاز هذه المعاملةَ مِنَ التابعين: ابنُ سيرين وإبراهيمُ النَّخَعيُّ وغيرُهما(٩)، كما أجازها المالكيةُ ضرورةً(١٠).

هذا،*ويجدر التنبيهُ إلى أمرٍ مُهِمٍّ*يتمثَّل في أنَّ الرَّجل إذا أخَذ عملةً في بلدٍ ما فإنَّه لا يجوز له أَنْ يُعطِيَ المُقرِضَ ورقةً يقرِّر فيها أنه يأخذ مالَه بعملةٍ أخرى غيرِ التي دَفَعها، وإلَّا كانَتْ عمليةَ صرفٍ في شكلِ قرضٍ، ويُشترَطُ لصحَّةِ هذه الأخيرةِ المجلسُ الواحد مع جواز التفاضل؛ لحديثِ عُبادةَ بنِ الصامت*>: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالفِضَّةُ بِالفِضَّةِ، وَالبُرُّ بِالبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالمِلْحُ بِالمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ؛ فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ»(١١)، وأيضًا حديثُ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ؛ وَلَا تَبِيعُوا الوَرِقَ بِالوَرِقِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ؛ وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ»(١٢).

وعليه، فإنه إذَا باع ـ*بهذه الصورة*ـ غائبًا بناجزٍ تحقَّق رِبَا النسيئة، وإذا كان رِبَا النسيئة محرَّمًا فلا يجوز اتِّخاذُ القرض بالسفتجة وسيلةً للتحايل على الشرع لتحليلِ ما حرَّم اللهُ مِنَ الرِّبَا.

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ١٩ صفر ١٤٣٩ﻫ
الموافق ﻟ: ٠٨ نوفمبر ٢٠١٧م


(١)*انظر:*«القاموس المحيط» للفيروز آبادي (٢٤٧).

(٢)*انظر:*«المغني» لابن قدامة (٤/ ٣٥٤).

(٣)*انظر:*«مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٩/ ٤٥٥ ـ ٤٥٦، ٥٣٠ ـ ٥٣١).

(٤)*أخرجه البغويُّ في «حديث العلاء بنِ مسلم» (ق١٠/ ٢) عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه، وقد رُوِي مرفوعًا ورُوِي موقوفًا عن ابنِ مسعودٍ وأُبَيِّ بنِ كعبٍ وابنِ عبَّاسٍ وغيرِهم رضي الله عنهم، وقد أجراهُ الفقهاء مجرى القواعد الفقهية.

(٥)*ضعَّفه الشيخ الألبانيُّ في «إرواء الغليل» (٥/ ٢٣٥) رقم: (١٣٩٨) و«ضعيف الجامع» (٤٢٤٤).

(٦)*أخرجه البيهقيُّ في «السنن الكبرى» (١٠٩٤٧) بابُ ما جاء في السفاتج.

(٧)*المصدر السابق نفسه.

(٨)*انظر:*«إرواء الغليل» للألباني (٥/ ٢٣٨).

(٩)*انظر:*«المغني» لابن قدامة (٤/ ٣٥٤).

(١٠)*قال خليلٌ المالكيُّ: «أو عينٍ عَظُمَ حملُها كسفتجةٍ إلَّا أَنْ يعمَّ الخوفُ»،*انظر:*«الشرح الكبير» للدردير (٣/ ٢٢٥ ـ ٢٢٦) ومعه: «حاشية الدسوقي».

(١١)*أخرجه مسلمٌ في «المساقاة» (١٥٨٧).

(١٢)*مُتَّفَقٌ عليه:*أخرجه البخاريُّ في «البيوع» بابُ بيع الفضَّة بالفضَّة (٢١٧٧)، ومسلمٌ في «المساقاة» (١٥٨٤).

رابط الفتوى:
http://ferkous.com/home/?q=fatwa-1198

وافي طيب
2018-02-13, 09:56
*جديد فتاوى الشيخ فركوس حفظه الله*

*في حكم السُّفْتَجة*

السؤال:

هل يجوز للرَّجل أَنْ يطلب قرضًا ماليًّا محدَّدًا يأخذه في الحجاز ـ مثلًا ـ على أَنْ يكتب للدائن وثيقةً بدَيْنٍ يأخذه في الجزائر؟ وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فمثلُ هذه المعاملةِ ـ بأَنْ يأخذ الرَّجلُ قرضًا في بلد المُقرِض للحاجة ويكتبَ لصاحب المال وثيقةً أو ورقةً ليستوفيَ بها أموالَه عند عائلة المُقترِض أو وكيله في الجزائر ـ*مثلًا*ـ لتفادي خطر الطريق ـ تُسمَّى عند الفقهاء*بالسُّفتجة*ـ*بفتح السين وضمِّها(١)*ـ. وهي محلُّ خلافٍ بين العلماء، حيث يرى الجمهورُ عدمَ جوازها(٢)، وذَهَب فريقٌ آخَرُ إلى أنها جائزةٌ، وهي إحدى الروايتين عن أحمد رجَّحها ابنُ تيمية ـ*رحمه*الله*ـ(٣).

ويرجع سببُ الخلاف في المسألة إلى: هل السفتجة مِنْ قبيل القرض الذي جرَّ منفعةً، أم أنَّ كِلَا الطرفين ينتفع، فالمُقترِض ينتفع بتحصيلِ تلك الأموالِ في ذلك البلد للحاجة، وأمَّا المُقرِض فيأخذ أموالَه في بلد المقترض ويأمن بها الطريقَ، ولعلَّ فيها منافعَ أخرى له؟

ـ فمَنْ رأى أنَّ فيه منفعةً زائدةً مشروطةً في بداية العقد وهي ربحُ أمنِ الطريق قال بعدم الجواز؛ بناءً على حديثِ: «كُلَّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ رِبًا»(٤)، وهذا قول الجمهور.

ـ ومَنْ رأى أنَّ المنفعة فيها ليست قاصرةً على المقترض، وإنما فيها منفعةٌ لكِلَا الطرفين المُتعاقِدَيْن ـ على ما سبق بيانُه ـ، وأنَّ الشرع لا ينهى عن منافع الناس ومصالحهم، وإنما ينهى عمَّا كان فيه مَضارُّهم وأذيَّتُهم؛ قال بجوازِ هذه المعاملة.

والظاهر أنَّ مِثْلَ هذه المعاملةِ جائزةٌ وليست بممنوعةٍ، وهذا لأسبابٍ:

الأوَّل:*أنَّ الحديث الذي استدلَّ به الجمهورُ حديثٌ ضعيفٌ لا يقوى على الحجِّيَّة وإِنْ كان معناه ـ*في الجملة*ـ صحيحًا(٥).

الثاني:*ما رُوِي عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ «أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ قَوْمٍ بِمَكَّةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ يَكْتُبُ بِهَا إِلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِالْعِرَاقِ فَيَأْخُذُونَهَا مِنْهُ؛ فَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا؛ فَقِيلَ لَهُ: «إِنْ أَخَذُوا أَفْضَلَ مِنْ دَرَاهِمِهِمْ»، قَالَ: «لَا بَأْسَ إِذَا أَخَذُوا بِوَزْنِ دَرَاهِمِهِمْ»»(٦)، ورُوِي ذلك عن عليٍّ رضي الله عنه أيضًا(٧)، ولو أنَّ الشيخ الألبانيَّ ـ*رحمه*الله*ـ قد ضعَّف الأثرين في «إرواء الغليل»(٨)، إلَّا أنَّ الأصل في المنافع وأنواعِ المكاسب والتجارات الجوازُ ـ كما سَلَف بيانُه ـ، خاصَّةً إِنْ تضمَّنَتْ هذه الأخيرةُ دَفْعَ مفاسدَ وضمانَ أمنِ الطريق، مع أنَّ الانتفاع كان لمصلحة المُقرِض والمُقترِض كِلَيْهما، وقد أجاز هذه المعاملةَ مِنَ التابعين: ابنُ سيرين وإبراهيمُ النَّخَعيُّ وغيرُهما(٩)، كما أجازها المالكيةُ ضرورةً(١٠).

هذا،*ويجدر التنبيهُ إلى أمرٍ مُهِمٍّ*يتمثَّل في أنَّ الرَّجل إذا أخَذ عملةً في بلدٍ ما فإنَّه لا يجوز له أَنْ يُعطِيَ المُقرِضَ ورقةً يقرِّر فيها أنه يأخذ مالَه بعملةٍ أخرى غيرِ التي دَفَعها، وإلَّا كانَتْ عمليةَ صرفٍ في شكلِ قرضٍ، ويُشترَطُ لصحَّةِ هذه الأخيرةِ المجلسُ الواحد مع جواز التفاضل؛ لحديثِ عُبادةَ بنِ الصامت*>: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالفِضَّةُ بِالفِضَّةِ، وَالبُرُّ بِالبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالمِلْحُ بِالمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ؛ فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ»(١١)، وأيضًا حديثُ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ؛ وَلَا تَبِيعُوا الوَرِقَ بِالوَرِقِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ؛ وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ»(١٢).

وعليه، فإنه إذَا باع ـ*بهذه الصورة*ـ غائبًا بناجزٍ تحقَّق رِبَا النسيئة، وإذا كان رِبَا النسيئة محرَّمًا فلا يجوز اتِّخاذُ القرض بالسفتجة وسيلةً للتحايل على الشرع لتحليلِ ما حرَّم اللهُ مِنَ الرِّبَا.

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ١٩ صفر ١٤٣٩ﻫ
الموافق ﻟ: ٠٨ نوفمبر ٢٠١٧م


(١)*انظر:*«القاموس المحيط» للفيروز آبادي (٢٤٧).

(٢)*انظر:*«المغني» لابن قدامة (٤/ ٣٥٤).

(٣)*انظر:*«مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٩/ ٤٥٥ ـ ٤٥٦، ٥٣٠ ـ ٥٣١).

(٤)*أخرجه البغويُّ في «حديث العلاء بنِ مسلم» (ق١٠/ ٢) عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه، وقد رُوِي مرفوعًا ورُوِي موقوفًا عن ابنِ مسعودٍ وأُبَيِّ بنِ كعبٍ وابنِ عبَّاسٍ وغيرِهم رضي الله عنهم، وقد أجراهُ الفقهاء مجرى القواعد الفقهية.

(٥)*ضعَّفه الشيخ الألبانيُّ في «إرواء الغليل» (٥/ ٢٣٥) رقم: (١٣٩٨) و«ضعيف الجامع» (٤٢٤٤).

(٦)*أخرجه البيهقيُّ في «السنن الكبرى» (١٠٩٤٧) بابُ ما جاء في السفاتج.

(٧)*المصدر السابق نفسه.

(٨)*انظر:*«إرواء الغليل» للألباني (٥/ ٢٣٨).

(٩)*انظر:*«المغني» لابن قدامة (٤/ ٣٥٤).

(١٠)*قال خليلٌ المالكيُّ: «أو عينٍ عَظُمَ حملُها كسفتجةٍ إلَّا أَنْ يعمَّ الخوفُ»،*انظر:*«الشرح الكبير» للدردير (٣/ ٢٢٥ ـ ٢٢٦) ومعه: «حاشية الدسوقي».

(١١)*أخرجه مسلمٌ في «المساقاة» (١٥٨٧).

(١٢)*مُتَّفَقٌ عليه:*أخرجه البخاريُّ في «البيوع» بابُ بيع الفضَّة بالفضَّة (٢١٧٧)، ومسلمٌ في «المساقاة» (١٥٨٤).

رابط الفتوى:
http://ferkous.com/home/?q=fatwa-1198

وافي طيب
2018-02-14, 21:39
في حكم جماعةِ التبليغ ودعوتها

السؤال:
ما حكمُ جماعةِ الدعوة والتبليغ في البلدان الإسلامية والبلدان الكافرة؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فجماعة التبليغ أُسِّسَتْ على رؤيا رآها شيخُهم محمَّد إلياس، وزعم أنّ الرسول صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم كلَّفه بهذه المهمّةِ في المنام، وهذه الجماعة تقوم على الأصول الستَّة، مبنيةٌ على كلمة السرِّ وهي: أنّ كلّ شيءٍ يُسبِّب النُّفرة أو الفُرْقَةَ أو الاختلافَ بين اثنين -ولو كان حقًّا- فهو مبتور ومقطوع، ومُلْغًى من منهج الجماعة.
وهذه الجماعة مبايِنَةٌ للحقِّ، صوفيةُ المنهج والمشرب، لها العديد من الأخطاء.
للمزيد من الاطلاع يمكن مراجعة كتاب «القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ» للشيخ حمود بن عبد الله التويجري -رحمه الله-.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.

وافي طيب
2018-02-15, 22:12
من أحكام المصحف الإلكتروني

السؤال:
انتشرت في المجتمعات الإسلامية الهواتفُ الذكيَّة، وتتضمَّن بعضَ التطبيقاتِ الشرعية، ومنها إمكانية القراءة مِن مصحفٍ كاملٍ، فهل إذا فتح القارئُ المصحفَ مِن الهاتف الذكيِّ يأخذ حُكْمَ المصحف المتعارَفِ عليه؟ فإذا كان كذلك فهل يؤجَر الناظرُ فيه كما يؤجَر الناظر في المصحف المطبوع؟ وهل يجوز الدخولُ به إلى بيت الخلاء؟ وهل يصحُّ للمُحْدِث مَسُّه؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فيمكن تعريفُ المصحف بالاصطلاح الحديث بأنه الوسائلُ المادِّية الجامعةُ للقرآن الكريم المطابِقِ في ترتيب آياته وسُوَره للهيئة أو الرسم اللَّذَين أجمعت عليهما الأمَّةُ في خلافة عثمانَ بنِ عفَّانَ رضي الله عنه.
ويظهر مِن التعريف السابق شمولُه لكلِّ أنواع المصاحف: قديمةً كانت كالمصحف الورقيِّ المعهود الذي هو الأوراق والحروف الجامعة للقرآن المكتوبةُ بين دفَّتين حافظتَيْن، أو حديثةً كالمصحف المحمَّل على الشرائح الإلكترونية والأقراص المُدْمَجة، ويدخل في ذلك ـ أيضًا ـ النتوءاتُ المستعمَلةُ بإبرة برايل في الكتابة على الأوراق الخاصَّة بها، وهو المصحف الخاصُّ بالمكفوفين.
هذا، وإذا كان المصحف الإلكترونيُّ يتَّصف ببعض المواصفات المغايِرة للمصحف الورقيِّ في تركيبه وحروفه؛ فإنه ـ والحالُ هذه ـ لا يأخذ حُكْمَ المصحف الورقيِّ إلَّا بعد تشغيل الجهاز وظهورِ الآيات القرآنية المخزَّنة في ذاكرة المصحف الإلكترونيِّ، فإن ظهر المصحفُ الإلكترونيُّ معروضًا بهيئته المقروءة فإنَّ القراءة فيه كالقراءة في المصحف الورقيِّ يُنال بها الأجرُ المذكور في حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه مرفوعًا: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ ﴿الم﴾ حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ»(١)، وحديث عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه مرفوعًا: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ فَلْيَقْرَأْ فِي الْمُصْحَفِ»(٢)، وغيرِها مِن الأحاديث الصحيحةِ الدالَّةِ على فضل تلاوة القرآن والإكثارِ منها.
ومِن جهة الحَظْر مِن الدخول بالمصحف الإلكترونيِّ إلى الخلاء مِن غير حاجةٍ أو ضرورةٍ فإنه يصدق عليه حكمُ المنع ما دام الجهازُ أو الهاتف النقَّال في حال التشغيل وعرضِ الآيات القرآنية، ويدخل في الحظر ـ أيضًا ـ مسُّه بنجاسةٍ أو وضعُه عليها أو تلطيخُه بها، ذلك لأنَّ حرمة القرآن قائمةٌ فيه مع تشغيله وظهور آياته وسُوَره.
غير أنَّ أحكام الحَظْرِ السابقةَ تنتفي عن المصحف الإلكترونيِّ في حالِ غَلْقِ الجهاز وانتهاءِ ظهور الآيات بانتهاء انعكاسها على الشاشة، وهو في تلك الحال مِن عدم التشغيل لا يُعَدُّ مصحفًا ولا تترتَّب عليه أحكامُ المصحف الورقيِّ.
ومِن جهةٍ أخرى يجوز للمُحْدِث حدثًا أصغرَ أو أكبرَ أن يَمَسَّ أجزاءَ الهاتف النقَّال أو غيرِه مِن الأجهزة المشتمِلة على البرنامج الإلكترونيِّ للمصحف، ويستوي في ذلك حالُ الإغلاق وحالُ التشغيل، ذلك لأنَّ الحروف القرآنية للمصحف الإلكترونيِّ الظاهرةَ على شاشته ما هي إلَّا ذبذباتٌ إلكترونيةٌ مشفَّرةٌ، معالَجةٌ على وجهٍ متناسقٍ، بحيث يَمتنِع ظهورُها وانعكاسُها على الشاشة إلَّا بواسطة برنامجٍ إلكترونيٍّ.
وعليه فمَسُّ زجاجة الشاشة لا يُعَدُّ مسًّا حقيقيًّا للمصحف الإلكترونيِّ، إذ لا يُتصوَّر مباشرةُ مَسِّه بما تقدَّم بيانُه، بخلاف المصحف الورقيِّ، فإنَّ مَسَّ أوراقه وحروفِه يُعَدُّ مسًّا مباشِرًا وحقيقيًّا له، لذلك لا يُؤْمَر المُحْدِثُ بالطهارة لِمَسِّ المصحف الإلكترونيِّ إلَّا على وجه الاحتياط والتورُّع.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.

وافي طيب
2018-02-16, 21:15
في الموت الدماغيِّ وانتفاءِ تأثيره على الأحكام

السؤال:
يرى كثيرٌ مِنَ الأطبَّاء المعاصِرِين أنَّ موت الدماغ يُوجِبُ الحكمَ بموت صاحِبِه، غير أنَّ المعروف ـ عادةً ـ أنَّ الحكم عليه بالموت إنما يكون عند توقُّفِ قلبه عن النبض نهائيًّا، فهل علامةُ موت الإنسان بموت دماغه أم بموت قلبه؟ وبناءً عليه: فهل يجوز رفعُ أجهزة الإنعاش عن المريض عند تعطُّلِ دماغه كُلِّيًّا، ولو مع بقاءِ نبضاتِ قلبِه بالتنفُّس الاصطناعيِّ؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فلا تحصل حقيقةُ الموت ـ عند الفقهاء ـ إلَّا بمفارَقةِ الروحِ للبدن، بمعنى: زوالِ الحياة عمَّا وُجِدَ فيه الحياةُ أو عمَّنْ يتَّصِفُ بها بالفعل(١).
ومعيارُ مفارَقةِ الروحِ للبدن: علامةٌ واضحةٌ على تحقُّقِ الموت الفعليِّ، وهو ما تقتضيه النصوصُ الشرعية وتُؤكِّدُه، منها: حديثُ أمِّ سَلَمة رضي الله عنها قالَتْ: «دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ، فَأَغْمَضَهُ ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ»»(٢)، وقولُه صلَّى الله عليه وسلَّم في حديثِ البراء بنِ عازبٍ رضي الله عنهما واصفًا قَبْضَ الملائكةِ روحَ المؤمن: «.. فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا ـ أي: مَلَكُ الموت ـ»(٣)، قال ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ: «فقَدِ استفاضَتِ الأحاديثُ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بأنَّ الأرواح تُقْبَضُ وتُنعَّمُ وتُعذَّبُ ويقال لها: اخْرُجِي أيَّتُها الروحُ الطيِّبة»(٤).
وإذا كان الاستدلال على تحقُّقِ الحياة وحصولِهَا بنفخ الروح في البدن كما في قوله تعالى: ﴿فَنَفَخۡنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا﴾ [التحريم: ١٢]، وفي قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ إِلَيْهِ مَلَكًا بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيُكْتَبُ عَمَلُهُ، وَأَجَلُهُ، وَرِزْقُهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ»(٥)؛ فإنه يُسْتدَلُّ بقياس العكس على حصول الموت وتحقُّقه بمفارَقةِ الروح للبدن.
وإذا تَقرَّرَ ما سَبَقَ فإنَّ العلماء والأطبَّاء لم يختلفوا في هذه الحقيقةِ الشرعية المتمثِّلةِ في مفارَقةِ الروح البدنَ؛ بل حكموا بالوفاة على مَنْ تَلِفَتْ خلايا دماغِه وتعطَّلَتْ جميعُ وظائفه وتوقَّفَ قلبُه عن النبض توقُّفًا كُلِّيًّا، وعليه فإنه ـ في تحرير مَحَلِّ النزاع ـ يتقرَّر أنَّ اجتماع العلَّتَيْن والاستدلالَ بهما على تحقُّقِ الموت ووقوعِ الوفاة بمفارَقةِ الروحِ البدنَ أمرٌ مُجْمَعٌ عليه، هذا مِنْ جهةٍ.
كما أنه لا خلافَ ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ في الحكم بحياة المريض إذا طَرَأَ على دماغه عارضٌ معلومٌ زوالُه يمنعه في ذلك الوقتِ مِنَ القيام بمَهَمَّتِه.
وإنما يتوجَّهُ الخلافُ بينهم فيما إذا استمرَّ القلبُ في نبضاته مع تَلَفِ جذعِ الدماغ، فهل يُحْكَمُ عليه ـ شرعًا ـ بالموت أم لا بُدَّ مِنِ اجتماع العلَّتين السابقتَيْن حتَّى يُقَرَّرَ فيه هذا الحكمُ؟
والقول المعتمَدُ في هذه المسألة: عدمُ اعتبار موت الدماغ موتًا حقيقيًّا دون قلبِه، ولا تترتَّبُ عليه آثارُ موته به حتَّى يتوقَّفَ قلبُه عن النبض توقُّفًا نهائيًّا، ويُتيَقَّنَ مِنْ مفارَقةِ الروح للبدن بأماراتٍ ذَكَرَها الفقهاء، منها: شخوصُ البصر، وتوقُّفُ التنفُّس، وبرودةُ البدن، واسترخاءُ القدمين، وانخسافُ الصُّدْغين، ونحوُ ذلك مِنَ العلامات الدالَّةِ على الوفاة يقينًا، ولا يجوز العملُ فيها بالشكِّ ولا غَلَبةِ الظنِّ؛ لأنَّ الأصل في المريض الحياةُ، فتُستصحبُ حياتُه ولا يُجْزَمُ بموته إلَّا بعد التيقُّنِ مِنْ زوالها منه؛ إذ «الأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ»(٦)، والحكمُ بموت دماغه مع بقاء نبضات قلبه وتنفُّسِه وغيرِهما مِنْ علامات الحياة: هو شكٌّ في موته؛ لذلك وَجَبَ العملُ باليقين المُوجِبِ للحكم بحياته وهو الأصلُ ـ كما تَقدَّمَ ـ عملًا بقاعدةِ: «اليَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ»(٧)، قال ابنُ قدامة ـ رحمه الله ـ: «وإِنِ اشتبه أمرُ الميِّت اعتُبِر بظهور أمارات الموت، مِنِ استرخاء رجليه، وانفصالِ كفَّيْه، وميلِ أنفِه، وامتدادِ جلدة وجهه، وانخسافِ صُدْغيه، وإِنْ مات فجأةً كالمصعوق، أو خائفًا مِنْ حربٍ أو سَبُعٍ، أو تردَّى مِنْ جبلٍ؛ انتُظِرَ به هذه العلاماتُ حتَّى يُتيقَّنَ موتُه»(٨)، وقال النوويُّ ـ رحمه الله ـ: «فإِنْ شكَّ بأَنْ لا يكون به علَّةٌ، واحتمل أَنْ يكون به سكتةٌ، أو ظهرَتْ أماراتُ فزعٍ أو غيرِه؛ أُخِّرَ إلى اليقين بتغيير الرائحة أو غيرِه»(٩).
ولا يُقاسُ الميِّتُ دماغيًّا على المولود الذي لم يصرخ حالَ ولادته ولو تَنفَّسَ أو تَحرَّكَ؛ لأنَّ اعتبار حياة المولود مِنْ موته مَحَلُّ نزاعٍ بين العلماء؛ فهو ـ إذن ـ مشكوكٌ في حياته، بخلاف المريض فإنَّ الأصل فيه الحياةُ ولو مات دماغُه، ما لم يُتيقَّنْ مِنْ مفارَقةِ الروحِ جسدَه بأماراتها؛ لذلك يَتعذَّرُ القياسُ عليه؛ لظهور الفارق بينهما.
وعليه، فلا تترتَّبُ الآثارُ التي تَعْقُبُ الموتَ مِنِ: اعتداد زوجته، وتنفيذِ وصاياهُ، وقسمةِ تركته، ونحوِ ذلك، إلَّا بعد تحقُّق وفاة الميِّت التي لا تكون إلَّا باجتماع العلَّتَيْن مِنْ تلفِ خلايا الدماغ، مع توقُّف القلب والتنفُّس نهائيًّا، وما يستتبعه مِنْ علامات الموت الأخرى على وجه اليقين، قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «إذا شكَّ: هل مات مورِّثُه فيَحِلُّ له مالُه أو لم يَمُتْ؟ لم يَحِلَّ له المالُ حتَّى يتيقَّنَ موتَه»(١٠).
أمَّا عن رفعِ أجهزة الإنعاش عن المريض بعد موت دماغه: فقَدْ أفتى المَجْمَعُ الفقهيُّ وهيئةُ كبار العلماء بأنَّ المريض الذي رُكِّبَتْ على جسمه أجهزةُ الإنعاش يجوز رفعُها إذا تَعطَّلَتْ جميعُ وظائف دماغه تعطُّلًا نهائيًّا، وقرَّرَتْ لجنةٌ مِنْ ثلاثة أطبَّاءَ اختصاصيِّين خُبَراءَ أنَّ التعطُّلَ لا رجعةَ فيه، وإِنْ كان القلبُ والتنفُّس لا يَزالان يعملان آليًّا بفعل الأجهزة المركَّبة، لكِنْ لا يُحْكَمُ بموته شرعًا إلَّا إذا تَوقَّفَ التنفُّسُ والقلبُ توقُّفًا تامًّا بعد رفعِ هذه الأجهزة، كما سَبَقَ بيانُه.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

وافي طيب
2018-02-19, 21:42
في حكم المسح على الجوربين

السؤال:
انتشر في أوساطِ العامَّةِ إنكارُ المسحِ على الجوربين وادِّعاءُ بطلانِ صلاةِ فاعِلِه؛ بحجَّةِ عَدَمِ ثبوت المسح على الجوارب وعَدَمِ جواز قياسه على الخفَّيْن؛ فهل مِنْ توجيهٍ وبيانٍ مُفَصَّلٍ؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فإنَّ حُكْمَ المسحِ على الجوربين مَحَلُّ خلافٍ بين أهل العلم:
ـ فمَنْ ذَهَبَ إلى القول بعَدَمِ جوازِ المسحِ على الجوربين غيرِ المجلَّدين عَلَّلَ المنعَ بأنَّ الجورب لا يُسَمَّى خُفًّا فلا يأخذ حُكْمَه؛ ذلك لأنَّ المسح على الخفِّ رخصةٌ بالنصِّ؛ فوَجَبَ الاختصاصُ بما وَرَدَتْ فيه، وهو مذهبُ أبي حنيفة ـ رَجَعَ عنه ـ(١) ومذهبُ مالكٍ والشافعيِّ رحمهم الله.
ـ وذَهَبَ الجمهورُ إلى جوازِ المسح على الجوربين بشرطِ أَنْ يكونا غيرَ رقيقين، وإنما صفيقين ساترَيْن لِمَحَلِّ الفرض(٢)، وعُمْدَتُهم في الاشتراط: القياسُ على الخفِّ المخرَّقِ في عَدَمِ جوازِ المسح عليه مِنْ جهةٍ، ولأنَّ ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ كُلَّ ما يُرى منه مَواضِعُ الوضوءِ التي فَرْضُها الغَسْلُ فإنه لا يُمْسَحُ عليه؛ لأنه لا يجوز اجتماعُ غَسْلٍ ومَسْحٍ؛ فغُلِّبَ حكمُ الغَسْلِ وبَطَلَ حكمُ المسح.
ـ أمَّا ما ذَهَبَ إليه أهلُ التحقيق فهو جوازُ المسح على الجوربين مطلقًا ولو كانا رقيقين أو غيرَ صفيقَيْن ساترَيْن لِمَحَلِّ الفرض، وهو ظاهِرُ مذهبِ ابنِ حزمٍ، وبه قال ابنُ تيمية والشنقيطيُّ وغيرُهم(٣)، وعُمْدَتُهم في تقريرِ هذا الحكم: حديثُ المُغيرةِ بنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قال: «تَوَضَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسَحَ عَلَى الجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ»(٤)، ولأنه ثَبَتَ المسحُ على الجوربين مِنْ غيرِ اشتراطٍ عن عددٍ كبيرٍ مِنَ الصحابة رضي الله عنهم، قال أبو داود: «ومَسَحَ على الجوربين: عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وابنُ مسعودٍ، والبراءُ بنُ عازبٍ، وأنسُ بنُ مالكٍ، وأبو أُمامةَ، وسهلُ بنُ سعدٍ، وعمرُو بنُ حُرَيْثٍ، ورُوِيَ ذلك عن عُمَرَ بنِ الخطَّاب وابنِ عبَّاسٍ»(٥)، ولا يُعْلَمُ لهم مِنَ الصحابةِ رضي الله عنهم فيه مُخالِفٌ؛ فكان إجماعًا وحجَّةً على ما تَقرَّرَ أصوليًّا(٦)، كما أنه ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ ثَبَتَ عن بعض الصحابة والتابعين أَنْ لا فَرْقَ بين الجوربين والخفَّيْن في الترخيص، أو هما بِمَثابةِ الخفَّيْن في الحكم، ومِنْ هذه الآثار:
ـ عن الأزرق بنِ قيسٍ قال: «رَأَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَحْدَثَ؛ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَمَسَحَ عَلَى جَوْرَبَيْنِ مِنْ صُوفٍ؛ فَقُلْتُ: «أَتَمْسَحُ عَلَيْهِمَا؟» فَقَالَ: «إِنَّهُمَا خُفَّانِ، وَلَكِنَّهُمَا مِنْ صُوفٍ»»(٧).
ـ وعن يحيى البَكَّاءِ قال: «سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: «المَسْحُ عَلَى الجَوْرَبَيْنِ كَالمَسْحِ عَلَى الخُفَّيْنِ»»(٨).
ـ وعَنْ عَبَّادِ بْنِ رَاشِدٍ قَالَ: سَأَلْتُ نَافِعًا [مولَى ابنِ عُمَرَ] عَنِ المَسْحِ عَلَى الجَوْرَبَيْنِ فَقَالَ: «هُمَا بِمَنْزِلَةِ الخُفَّيْنِ»(٩).
ـ وعَنْ عَطَاءٍ قَالَ: «المَسْحُ عَلَى الجَوْرَبَيْنِ بِمَنْزِلَةِ المَسْحِ عَلَى الخُفَّيْنِ»(١٠).
ولا يخفى أنَّ الجورب هو لباسُ القَدَم، سواءٌ كان مصنوعًا مِنَ القُطن أو الكَتَّان أو الصوف أو غيرِ ذلك، وفي هذه الآثارِ ردٌّ صريحٌ على مَنْ أَبْطَلَ إلحاقَ الجوربين بالخفَّيْن، علمًا أنَّ الصحابة رضي الله عنهم هم أهلُ اللغةِ وأَفْقَهُ أهلِ الأرض، ناهيك إذا كان أَمْرُ المسحِ ـ مِنْ حيث جوازُه ـ مُجْمَعًا عليه في عصرهم رضي الله عنهم.
أمَّا الاحتجاج بأنَّ المسح على الخفِّ ثَبَتَ رخصةً، والرُّخَصُ لا تتعدَّى مَحَلَّها؛ فجوابُه: أنَّ سبب الترخيصِ إنما هو الحاجةُ، وهي موجودةٌ في المسح على الجوربين وغيرِهما ممَّا هو مِنْ غيرِ الجلد، فضلًا عن أنَّ هذا الاستدلالَ ـ في حدِّ ذاته ـ مُعارِضٌ للنصِّ والإجماع المتقدِّمَيْن المُثْبِتَيْن لشرعية المسح على الجوربين.
وأمَّا اشتراطُ الجمهورِ السلامةَ مِنَ الخَرْق والتشقيقِ ونحوِهما قياسًا على عَدَمِ جوازِ المسح على الخفِّ المخرَّق؛ فإنَّ هذا الشرط مُعارَضٌ بالأصل المقرَّرِ أنَّ: «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ»(١١) أوَّلًا، ومُنافٍ ـ ثانيًا ـ للإذن في المسح على الخفَّيْن مطلقًا؛ فكان شاملًا لكُلِّ ما وَقَعَ عليه اسْمُ: «الخفِّ» كما هو ظاهرٌ مِنَ النصوص الحديثية، ولا يَسَعُ أَنْ يُسْتثنى منه إلَّا بمُسْتَنَدٍ شرعيٍّ وهو مُنْتَفٍ؛ وعليه لا يتمُّ القياسُ صحيحًا لاختلالِ شرطِ: «ثبوتِ حكمِ الأصل المَقيسِ عليه»، و«إِذَا سَقَطَ الأَصْلُ سَقَطَ الفَرْعُ».
ومِنْ جهةٍ ثالثةٍ فإنَّ خِفافَ الصحابةِ رضي الله عنهم لا تخلو مِنْ كونها مخرَّقةً ومشقَّقةً ومرقَّعةً، وهي السِّمَةُ الظاهرةُ بل الغالبةُ في لباسهم؛ فلو كان الخرقُ يمنع مِنَ المسح لَبيَّنه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّ المَقامَ مَقامُ بيانٍ، و«تَأْخِيرُ البَيَانِ عَنْ وَقْتِ الحَاجَةِ لَا يَجُوزُ» كما تَقَرَّرَ في القواعد، علمًا بأنَّ مِثْلَ هذه الشروطِ المُرْسَلةِ تُناقِضُ مقصودَ الشارعِ الحكيم المُراعي للتيسير والتوسعةِ برفعِ الحرج والتضييق عن المكلَّفين.
وحريٌّ أَنْ أَخْتِمَ هذه الفتوى بقول الألبانيِّ ـ رحمه الله ـ: «فبعد ثبوتِ المسح على الجوربين عن الصحابة رضي الله عنهم، أفلا يجوز لنا أَنْ نقول فيمَنْ رَغِبَ عنه ما قاله إبراهيمُ هذا [أي: النَّخَعيُّ] في مَسْحِهم على الخفَّيْن: «فمَنْ تَرَكَ ذلك رغبةً عنه فإنما هو مِنَ الشيطان»(١٢)؟»(١٣).
قلت: فإذا كان التركُ رغبةً عنه مِنَ الشيطان؛ فقَدْ استفحل كيدُه فيمَنْ يُهَوِّلُ في إنكار المسح على الجوربين إلى درجةِ إبطالِ صلاته به، واللهُ المستعانُ.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ٠٨ ربيع الأوَّل ١٤٣٦ﻫ
الموافق ﻟ: ٣٠ ديسمبر ٢٠١٤م

(١) قال أبو عيسى [الترمذيُّ]: «سمعتُ صالحَ بنَ محمَّدٍ الترمذيَّ قال: سمعتُ أبا مُقاتِلٍ السمرقنديَّ يقول: دخلتُ على أبي حنيفةَ في مَرَضِه الذي مات فيه، فدعا بماءٍ فتَوَضَّأَ وعليه جوربان، فمَسَحَ عليهما ثمَّ قال: «فَعَلْتُ ـ اليومَ ـ شيئًا لم أكُنْ أَفْعَلُه: مَسَحْتُ على الجوربين وهما غيرُ مُنَعَّلَيْن»» [«سنن الترمذي» (١/ ١٦٩)].
(٢) انظر: «الإشراف» للقاضي عبد الوهَّاب (١/ ١٣٦)، «المجموع» للنووي (١/ ٤٩٩)، «الفروع» لابن مُفْلِح (١/ ١٩٤)، «فتح القدير» لابن الهُمَام (١/ ١٥٨).
(٣) انظر: «المحلَّى»لابن حزم (٢/ ٨٦)، «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢١/ ١٨٤)، «أضواء البيان» للشنقيطي (٢/ ١٦، ١٩).
(٤) أخرجه أبو داود في «الطهارة» باب المسح على الجوربين (١٥٩)، والترمذيُّ في «الطهارة» بابٌ في المسح على الجوربين والنعلين (٩٩)، وابنُ ماجه في «الطهارة» بابُ ما جاء في المسح على الجوربين والنعلين (٥٥٩)، مِنْ حديثِ المُغيرةِ بنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح أبي داود» (١٤٧) و«الإرواء» (١/ ١٣٧) رقم: (١٠١).
(٥) «سنن أبي داود» (١/ ١١٣).
(٦) انظر مسألةَ قول الصحابيِّ إذا انتشر ولم يُعْلَمْ له مُخالِفٌ في: «المسوَّدة» لآل تيمية (٣٣٥)، «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٠/ ١٤)، «إعلام الموقِّعين» لابن القيِّم (٤/ ١٢٠)، «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (٢/ ٢١٢، ٤/ ٤٢٢).
(٧) أخرجه الدولابيُّ في «الكُنى والأسماء» (١٠٠٩). وصحَّحه أحمد شاكر، [انظر: «سلسلة الآثار الصحيحة» لأبي عبد الله الداني بنِ منير آل زهوي (١٢٠)].
(٨) أخرجه عبد الرزَّاق في «المصنَّف» (١/ ٢٠١) رقم: (٧٨٢)، وابنُ أبي شيبة في «المصنَّف» (١/ ١٧٣) رقم: (١٩٩٤). وسندُه حسنٌ، انظر: تحقيق الألباني ﻟ: «المسح على الجوربين والنعلين» للقاسمي (٥٨).
(٩) أخرجه ابنُ أبي شيبة في «المصنَّف» (١/ ١٧٣) رقم: (١٩٩٢). وسندُه حسنٌ، انظر: تحقيق الألباني ﻟ: «المسح على الجوربين والنعلين» للقاسمي (٥٨).
(١٠) أخرجه ابنُ أبي شيبة في «المصنَّف» (١/ ١٧٣) رقم: (١٩٩١). وسندُه صحيحٌ، انظر: تحقيق الألباني ﻟ: «المسح على الجوربين والنعلين» للقاسمي (٦٧).
(١١) أخرجه ـ بهذا اللفظِ ـ النسائيُّ في «الطلاق» بابُ خيارِ الأَمَةِ تُعْتَقُ وزوجُها مملوكٌ (٣٤٥١)، وابنُ ماجه في «العتق» باب المكاتب (٢٥٢١)، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها. وأخرجه البخاريُّ في «البيوع» باب: إذا اشترط شروطًا في البيع لا تَحِلُّ (٢١٦٨)، ومسلمٌ في «العتق» (١٥٠٤)، بلفظ: «مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ [عَزَّ وَجَلَّ] فَهُوَ بَاطِلٌ».
(١٢) أخرجه ابنُ أبي شيبة في «المصنَّف» (١/ ١٦٤) رقم: (١٨٨٥).
(١٣) تحقيق الألباني لرسالة: «المسح على الجوربين والنعلين» للقاسمي (٥٨).

وافي طيب
2018-02-19, 21:48
في حكم المسح على الجوربين

السؤال:
انتشر في أوساطِ العامَّةِ إنكارُ المسحِ على الجوربين وادِّعاءُ بطلانِ صلاةِ فاعِلِه؛ بحجَّةِ عَدَمِ ثبوت المسح على الجوارب وعَدَمِ جواز قياسه على الخفَّيْن؛ فهل مِنْ توجيهٍ وبيانٍ مُفَصَّلٍ؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فإنَّ حُكْمَ المسحِ على الجوربين مَحَلُّ خلافٍ بين أهل العلم:
ـ فمَنْ ذَهَبَ إلى القول بعَدَمِ جوازِ المسحِ على الجوربين غيرِ المجلَّدين عَلَّلَ المنعَ بأنَّ الجورب لا يُسَمَّى خُفًّا فلا يأخذ حُكْمَه؛ ذلك لأنَّ المسح على الخفِّ رخصةٌ بالنصِّ؛ فوَجَبَ الاختصاصُ بما وَرَدَتْ فيه، وهو مذهبُ أبي حنيفة ـ رَجَعَ عنه ـ(١) ومذهبُ مالكٍ والشافعيِّ رحمهم الله.
ـ وذَهَبَ الجمهورُ إلى جوازِ المسح على الجوربين بشرطِ أَنْ يكونا غيرَ رقيقين، وإنما صفيقين ساترَيْن لِمَحَلِّ الفرض(٢)، وعُمْدَتُهم في الاشتراط: القياسُ على الخفِّ المخرَّقِ في عَدَمِ جوازِ المسح عليه مِنْ جهةٍ، ولأنَّ ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ كُلَّ ما يُرى منه مَواضِعُ الوضوءِ التي فَرْضُها الغَسْلُ فإنه لا يُمْسَحُ عليه؛ لأنه لا يجوز اجتماعُ غَسْلٍ ومَسْحٍ؛ فغُلِّبَ حكمُ الغَسْلِ وبَطَلَ حكمُ المسح.
ـ أمَّا ما ذَهَبَ إليه أهلُ التحقيق فهو جوازُ المسح على الجوربين مطلقًا ولو كانا رقيقين أو غيرَ صفيقَيْن ساترَيْن لِمَحَلِّ الفرض، وهو ظاهِرُ مذهبِ ابنِ حزمٍ، وبه قال ابنُ تيمية والشنقيطيُّ وغيرُهم(٣)، وعُمْدَتُهم في تقريرِ هذا الحكم: حديثُ المُغيرةِ بنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قال: «تَوَضَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسَحَ عَلَى الجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ»(٤)، ولأنه ثَبَتَ المسحُ على الجوربين مِنْ غيرِ اشتراطٍ عن عددٍ كبيرٍ مِنَ الصحابة رضي الله عنهم، قال أبو داود: «ومَسَحَ على الجوربين: عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وابنُ مسعودٍ، والبراءُ بنُ عازبٍ، وأنسُ بنُ مالكٍ، وأبو أُمامةَ، وسهلُ بنُ سعدٍ، وعمرُو بنُ حُرَيْثٍ، ورُوِيَ ذلك عن عُمَرَ بنِ الخطَّاب وابنِ عبَّاسٍ»(٥)، ولا يُعْلَمُ لهم مِنَ الصحابةِ رضي الله عنهم فيه مُخالِفٌ؛ فكان إجماعًا وحجَّةً على ما تَقرَّرَ أصوليًّا(٦)، كما أنه ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ ثَبَتَ عن بعض الصحابة والتابعين أَنْ لا فَرْقَ بين الجوربين والخفَّيْن في الترخيص، أو هما بِمَثابةِ الخفَّيْن في الحكم، ومِنْ هذه الآثار:
ـ عن الأزرق بنِ قيسٍ قال: «رَأَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَحْدَثَ؛ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَمَسَحَ عَلَى جَوْرَبَيْنِ مِنْ صُوفٍ؛ فَقُلْتُ: «أَتَمْسَحُ عَلَيْهِمَا؟» فَقَالَ: «إِنَّهُمَا خُفَّانِ، وَلَكِنَّهُمَا مِنْ صُوفٍ»»(٧).
ـ وعن يحيى البَكَّاءِ قال: «سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: «المَسْحُ عَلَى الجَوْرَبَيْنِ كَالمَسْحِ عَلَى الخُفَّيْنِ»»(٨).
ـ وعَنْ عَبَّادِ بْنِ رَاشِدٍ قَالَ: سَأَلْتُ نَافِعًا [مولَى ابنِ عُمَرَ] عَنِ المَسْحِ عَلَى الجَوْرَبَيْنِ فَقَالَ: «هُمَا بِمَنْزِلَةِ الخُفَّيْنِ»(٩).
ـ وعَنْ عَطَاءٍ قَالَ: «المَسْحُ عَلَى الجَوْرَبَيْنِ بِمَنْزِلَةِ المَسْحِ عَلَى الخُفَّيْنِ»(١٠).
ولا يخفى أنَّ الجورب هو لباسُ القَدَم، سواءٌ كان مصنوعًا مِنَ القُطن أو الكَتَّان أو الصوف أو غيرِ ذلك، وفي هذه الآثارِ ردٌّ صريحٌ على مَنْ أَبْطَلَ إلحاقَ الجوربين بالخفَّيْن، علمًا أنَّ الصحابة رضي الله عنهم هم أهلُ اللغةِ وأَفْقَهُ أهلِ الأرض، ناهيك إذا كان أَمْرُ المسحِ ـ مِنْ حيث جوازُه ـ مُجْمَعًا عليه في عصرهم رضي الله عنهم.
أمَّا الاحتجاج بأنَّ المسح على الخفِّ ثَبَتَ رخصةً، والرُّخَصُ لا تتعدَّى مَحَلَّها؛ فجوابُه: أنَّ سبب الترخيصِ إنما هو الحاجةُ، وهي موجودةٌ في المسح على الجوربين وغيرِهما ممَّا هو مِنْ غيرِ الجلد، فضلًا عن أنَّ هذا الاستدلالَ ـ في حدِّ ذاته ـ مُعارِضٌ للنصِّ والإجماع المتقدِّمَيْن المُثْبِتَيْن لشرعية المسح على الجوربين.
وأمَّا اشتراطُ الجمهورِ السلامةَ مِنَ الخَرْق والتشقيقِ ونحوِهما قياسًا على عَدَمِ جوازِ المسح على الخفِّ المخرَّق؛ فإنَّ هذا الشرط مُعارَضٌ بالأصل المقرَّرِ أنَّ: «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ»(١١) أوَّلًا، ومُنافٍ ـ ثانيًا ـ للإذن في المسح على الخفَّيْن مطلقًا؛ فكان شاملًا لكُلِّ ما وَقَعَ عليه اسْمُ: «الخفِّ» كما هو ظاهرٌ مِنَ النصوص الحديثية، ولا يَسَعُ أَنْ يُسْتثنى منه إلَّا بمُسْتَنَدٍ شرعيٍّ وهو مُنْتَفٍ؛ وعليه لا يتمُّ القياسُ صحيحًا لاختلالِ شرطِ: «ثبوتِ حكمِ الأصل المَقيسِ عليه»، و«إِذَا سَقَطَ الأَصْلُ سَقَطَ الفَرْعُ».
ومِنْ جهةٍ ثالثةٍ فإنَّ خِفافَ الصحابةِ رضي الله عنهم لا تخلو مِنْ كونها مخرَّقةً ومشقَّقةً ومرقَّعةً، وهي السِّمَةُ الظاهرةُ بل الغالبةُ في لباسهم؛ فلو كان الخرقُ يمنع مِنَ المسح لَبيَّنه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّ المَقامَ مَقامُ بيانٍ، و«تَأْخِيرُ البَيَانِ عَنْ وَقْتِ الحَاجَةِ لَا يَجُوزُ» كما تَقَرَّرَ في القواعد، علمًا بأنَّ مِثْلَ هذه الشروطِ المُرْسَلةِ تُناقِضُ مقصودَ الشارعِ الحكيم المُراعي للتيسير والتوسعةِ برفعِ الحرج والتضييق عن المكلَّفين.
وحريٌّ أَنْ أَخْتِمَ هذه الفتوى بقول الألبانيِّ ـ رحمه الله ـ: «فبعد ثبوتِ المسح على الجوربين عن الصحابة رضي الله عنهم، أفلا يجوز لنا أَنْ نقول فيمَنْ رَغِبَ عنه ما قاله إبراهيمُ هذا [أي: النَّخَعيُّ] في مَسْحِهم على الخفَّيْن: «فمَنْ تَرَكَ ذلك رغبةً عنه فإنما هو مِنَ الشيطان»(١٢)؟»(١٣).
قلت: فإذا كان التركُ رغبةً عنه مِنَ الشيطان؛ فقَدْ استفحل كيدُه فيمَنْ يُهَوِّلُ في إنكار المسح على الجوربين إلى درجةِ إبطالِ صلاته به، واللهُ المستعانُ.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ٠٨ ربيع الأوَّل ١٤٣٦ﻫ
الموافق ﻟ: ٣٠ ديسمبر ٢٠١٤م

(١) قال أبو عيسى [الترمذيُّ]: «سمعتُ صالحَ بنَ محمَّدٍ الترمذيَّ قال: سمعتُ أبا مُقاتِلٍ السمرقنديَّ يقول: دخلتُ على أبي حنيفةَ في مَرَضِه الذي مات فيه، فدعا بماءٍ فتَوَضَّأَ وعليه جوربان، فمَسَحَ عليهما ثمَّ قال: «فَعَلْتُ ـ اليومَ ـ شيئًا لم أكُنْ أَفْعَلُه: مَسَحْتُ على الجوربين وهما غيرُ مُنَعَّلَيْن»» [«سنن الترمذي» (١/ ١٦٩)].
(٢) انظر: «الإشراف» للقاضي عبد الوهَّاب (١/ ١٣٦)، «المجموع» للنووي (١/ ٤٩٩)، «الفروع» لابن مُفْلِح (١/ ١٩٤)، «فتح القدير» لابن الهُمَام (١/ ١٥٨).
(٣) انظر: «المحلَّى»لابن حزم (٢/ ٨٦)، «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢١/ ١٨٤)، «أضواء البيان» للشنقيطي (٢/ ١٦، ١٩).
(٤) أخرجه أبو داود في «الطهارة» باب المسح على الجوربين (١٥٩)، والترمذيُّ في «الطهارة» بابٌ في المسح على الجوربين والنعلين (٩٩)، وابنُ ماجه في «الطهارة» بابُ ما جاء في المسح على الجوربين والنعلين (٥٥٩)، مِنْ حديثِ المُغيرةِ بنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح أبي داود» (١٤٧) و«الإرواء» (١/ ١٣٧) رقم: (١٠١).
(٥) «سنن أبي داود» (١/ ١١٣).
(٦) انظر مسألةَ قول الصحابيِّ إذا انتشر ولم يُعْلَمْ له مُخالِفٌ في: «المسوَّدة» لآل تيمية (٣٣٥)، «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٠/ ١٤)، «إعلام الموقِّعين» لابن القيِّم (٤/ ١٢٠)، «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (٢/ ٢١٢، ٤/ ٤٢٢).
(٧) أخرجه الدولابيُّ في «الكُنى والأسماء» (١٠٠٩). وصحَّحه أحمد شاكر، [انظر: «سلسلة الآثار الصحيحة» لأبي عبد الله الداني بنِ منير آل زهوي (١٢٠)].
(٨) أخرجه عبد الرزَّاق في «المصنَّف» (١/ ٢٠١) رقم: (٧٨٢)، وابنُ أبي شيبة في «المصنَّف» (١/ ١٧٣) رقم: (١٩٩٤). وسندُه حسنٌ، انظر: تحقيق الألباني ﻟ: «المسح على الجوربين والنعلين» للقاسمي (٥٨).
(٩) أخرجه ابنُ أبي شيبة في «المصنَّف» (١/ ١٧٣) رقم: (١٩٩٢). وسندُه حسنٌ، انظر: تحقيق الألباني ﻟ: «المسح على الجوربين والنعلين» للقاسمي (٥٨).
(١٠) أخرجه ابنُ أبي شيبة في «المصنَّف» (١/ ١٧٣) رقم: (١٩٩١). وسندُه صحيحٌ، انظر: تحقيق الألباني ﻟ: «المسح على الجوربين والنعلين» للقاسمي (٦٧).
(١١) أخرجه ـ بهذا اللفظِ ـ النسائيُّ في «الطلاق» بابُ خيارِ الأَمَةِ تُعْتَقُ وزوجُها مملوكٌ (٣٤٥١)، وابنُ ماجه في «العتق» باب المكاتب (٢٥٢١)، مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها. وأخرجه البخاريُّ في «البيوع» باب: إذا اشترط شروطًا في البيع لا تَحِلُّ (٢١٦٨)، ومسلمٌ في «العتق» (١٥٠٤)، بلفظ: «مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ [عَزَّ وَجَلَّ] فَهُوَ بَاطِلٌ».
(١٢) أخرجه ابنُ أبي شيبة في «المصنَّف» (١/ ١٦٤) رقم: (١٨٨٥).
(١٣) تحقيق الألباني لرسالة: «المسح على الجوربين والنعلين» للقاسمي (٥٨).

وافي طيب
2018-02-20, 22:16
في معنى الاحتكار والصورة الخارجة عنه

السـؤال:
اشترى رجلٌ سلعةً، ثمَّ أودعَهَا مَخزنَه، ونيتُه في ذلك أن يخرجَها إذا زادَ ثمنُها، علمًا بأنّ هذه السلعةَ موجودةٌ قبل شرائه لها وبعده فهل هذا الفعلُ جائز؟ وبارك الله فيكم.
الجـواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإذا اشترى سلعةً للتجارة ولا يبيعها في الحال بل يدّخرها لِيَغْلُوَ ثمنُها، فإِنَّ حَبْسَهَا عن البيع هو الحُكْرَةُ المحرّمة بنصِّ قولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «لاَ يَحْتَكِرُ إِلاَّ خَاطِئٌ»(١)، والمراد بالخاطئ هو العاصي الآثمُ، والظاهرُ من الحديث شمولُه لعموم الأقواتِ وسائرِ السلعِ، وإن وردت بعضُ الروايات بالتصريح بلفظ «الطعام»(٢) إلاّ أنها غيرُ صالحةٍ لتخصيصِ العمومِ في الروايات الأخرى؛ لأنّ نفيَ الحكمِ عن غير الطعام إنما هو من مفهوم اللقب، وهو ضعيفٌ عند كلِّ محصِّلٍ من القائلين بالمفهوم، لذلك كانت مِن قبيل التَّنصيص على فردٍ مِن أفراد العُموم لا مِن تخصيصِه؛ لأنه إذا كانت العِلَّةُ هي الإضرارُ بالمسلمين لم يَحْرُمِ الاحتكارُ إلاَّ على وجهٍ يضرُّ بهم، ويستوي في ذلك القوتُ وغيرُه لتضرُّرهم بالجميع كما يستوي وجودُ السلعةِ قبل شرائه لها وبعده، أمَّا لو اشتراه في وقت الرخص أو الغلاء لحاجته إلى أكله أو بيعه في وقته فلا تحريمَ فيه.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١٤ ربيع الثاني ١٤٢٨ﻫ
الموافق ﻟ: ٢ ماي ٢٠٠٧م
(١) أخرجه مسلم في «المساقاة» (١٦٠٥) مِن حديث مَعْمَرِ بنِ عبد الله رضي الله عنه.
(٢) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (٢١٦٣)، والبيهقي في «الكبرى» (١١١٤٨)، وفي «شعب الإيمان» (١٠٦٩٩)، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.

وافي طيب
2018-02-22, 21:33
*الشيخ فركوس حفظه اللّه*

*في المحافظة على السنن الرواتب المؤكَّدة*

السـؤال:

هل يجوز الاقتصار على ركعتين أو أربع ركعات من جملة اثنتي عشرة ركعة من السنن الرواتب المؤكدة؟ وجزاكم الله خيرًا.

الجـواب:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:

فالسنن الرواتبُ المؤكَّدة التابعة للفرائض الخمسِ سواء كانت قبليةً أو بعديةً تندرج ضمن عموم التطوُّعات المستحبة، غير أنه يكره له تركها أو ترك بعضها لكونها مؤكَّدةً داوم عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «حَفِظْتُ منَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ في بيته، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ العِشَاءِ، في بيته، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الصُّبْحِ»(١)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لاَ يَدَعُ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ»(٢)، وعن أم حبيبة رضي الله عنها قالت:«سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الجَنَّةِ»، قالت أم حبيبة: فما تَرَكْتُهُنَّ منذ سمعتُهُنَّ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم»(٣)، وزاد الترمذي: «أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ العِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الفَجْرِ»(٤). علمًا أنَّ سُنَّة الفجر آكد السنن الرواتب لقول عائشة رضي الله عنها: «لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ أَشَدَّ مِنْه تَعَاهُدًا عَلَى رَكْعَتَيِ الفَجْرِ»(٥)، وفي لفظٍ: «لَمْ يَكُنْ يَدَعُهُمَا أَبَدًا»(٦)، وعنها -أيضًا- أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «رَكْعَتَا الفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»(٧). ولذلك حرص النبيُّ صَلَّى الله عليه وآله وسلم على المحافظة عليها في الحضر والسفر، ولم ينقل عنه صَلَّى الله عليه وآله وسلم أنه صَلَّى الرواتب في السفر ما عدا ركعتي الفجر والوتر، وقد سئل ابن عمر رضي الله عنهما عن سنة الظهر في السفر قال: «لَوْ كُنْتُ مُسَبِّحًا لأَتَمْمَتُ»(٨).

قال ابن القيم –رحمه الله-: «..ولذلك لم يكن يدعُها -أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم- هي والوتر سفرًا ولا حضرًا، وكان في السفر يواظب على سنة الفجر والوتر أشدّ من جميع النوافل دون سائر السنن، ولم ينقل عنه في السفر أنه صَلَّى الله عليه وآله وسلم صلى سنةً راتبةً غيرهما»(٩).

هذا، وإضافة إلى فضل السنن الرواتب المؤكَّدة وسائر النوافل والتطوعات فإنها شرعت -أيضًا- لجبر الخلل وتكميل النقصان الواقع في الفرائض، وقد جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّ*أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ النَّاسُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ الصَّلاَةُ، يَقُولُ رَبُّنَا لِمَلاَئِكَته -وَهُوَ أَعْلَمُ-:انْظُرُوا فِي صَلاَةِ عَبْدِي: أَتَمَّهَا أَمْ أَنْقَصَهَا؟ فَإِنْ كَانَتْ تَامَّةً كُتِبَ لَهُ تَامَّةً، وَإِنْ كَانَ انْتَقَصَ مِنْهَا شَيْئًا قَالَ: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ؟ فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ قَالَ: أَتِمُّوا لِعَبْدِي فَرِيضَتَهُ مِنْ تَطَوُّعِهِ، ثُمَّ تُؤْخَذُ الأَعْمَالُ عَلَى ذَاكُم»(١٠).

ولذلك كان ينبغي المحافظة عليها خاصَّة على السنن الرواتب المؤكَّدة لما في ذلك من العناية بدين الله والاهتمام بشرعه والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: ٢١].

ومن جهة أخرى لا يجوز تركها مُطلقًا أو ترك بعضها مُطلقًا؛ لأنَّ المداومة على تركها يعكس -بالمقابل- على عدم الاكتراث بسنن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم والاقتداء بهديه، وعدم المبالاة بشرع الله تعالى، وقد نصَّ بعض الأئمة على أنَّ تارك السنن الرواتب مُطلقًا تُرَدُّ شهادته لسقوط عدالته من جهة نقصان دِينه والتهاون فيه، قال النووي: «مَنْ واظب على ترك الراتبة أو تسبيحات الركوع والسجود رُدَّت شهادته لتهاونه بالدين»(١١).

والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٢٦ ربيع الأوَّل ١٤٣١ﻫ
الموافق ﻟ: ١٢ مارس ٢٠١٠م

(١)*أخرجه البخاري في «الصلاة» (١/ ٢٨١) باب الركعتين قبل الظهر، ومسلم (١/ ٣٣٠) في «صلاة المسافرين وقصرها» رقم (٧٢٩)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.*******

(٢)*أخرجه البخاري في «الصلاة» (١/ ٢٨٢) باب الركعتين قبل الظهر، وأحمد في «مسنده» (٦/ ٦٣)من حديث عائشة رضي الله عنها.

(٣)*أخرجه مسلم (١/ ٣٢٩) في «صلاة المسافرين وقصرها» رقم (٧٢٨)، وأحمد في «مسنده» (٦/ ٣٢٦)، من حديث أم حبيبة رضي الله عنها.**

(٤)*أخرجه الترمذي في «الصلاة» (٤١٥)*باب ما جاء فيمن صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة من السنة وماله* فيه* من الفضل، وانظر: «السلسلة الصحيحة» للألباني (٥/ ٤٥٨).******

(٥)*أخرجه البخاري في «الصلاة» (١/ ٢٧٩) باب تعاهد ركعتي الفجر ومن سماهما تطوعا، ومسلم (١/ ٣٢٨) في «صلاة المسافرين وقصرها» رقم (٧٢٤)، من حديث عائشة رضي الله عنها.*

(٦)*أخرجه البخاري في «الصلاة» (١/ ٢٧٧) باب المداومة على ركعتي الفجر، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٢/ ٤٧٠).

(٧)*أخرجه مسلم (١/ ٣٢٨) في «صلاة المسافرين وقصرها» رقم (٧٢٥)، وأحمد في «مسنده» (٦/ ٢٦٥)من حديث عائشة رضي الله عنها.**

(٨)*أخرجه مسلم (١/ ٣١١) في «صلاة المسافرين وقصرها» رقم (٧٨٩)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(٩)*«زاد المعاد» لابن القيم: (١/ ٣١٥).

(١٠)*أخرجه أبو داود في «الصلاة» (٨٦٤) باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل صلاة لا يتمها صاحبها تتم من تطوعه»، وأحمد في «مسنده» (٢/ ٤٢٥)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «صحيح أبي داود» (٤/ ١٧).*****

(١١)*«المجموع للنووي»: (٤/ ٣٠).

وافي طيب
2018-02-24, 18:47
🍃الشيخ فركوس حفظه الله🍃

*في حكم حضورِ حفلِ زواجٍ بقاعة الأفراح*

السؤال:

دَعَاني أهلُ زوجتي إلى حضورِ حفلِ زواج أخيها الذي سيُقامُ في قاعة الأفراح، وسيكون فيه تبرُّجٌ وغناءٌ وغيرُهما مِنَ المنكرات؟ وأخاف ـ*إِنْ لم أذهب*ـ أَنْ يطالبوني بالطلاق وأَنْ يُنْهوا عقدَ إيجارِ البيت الذي اكتريتُه منهم؛ فماذا تنصحونني. وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فقَدْ تقدَّم وأَنْ أجبتُ عن حكمِ إقامة وليمة العرس بقاعة الأفراح، ويمكن مراجعةُ الفتوى على الموقع(١).

أمَّا مَنْ خَشِيَ ترتُّبَ المفاسد المذكورة وغَلَب على ظنِّه تحقُّقُها إِنْ لم يُلَبِّ الدعوةَ فله أَنْ يسبق موعدَ حفلِ الزواج قبل ذهابهم إلى قاعة الأفراح مُرْفَقًا بهديَّةٍ تُثْلِج صدرَ العريس في حدودِ إمكانياته المادِّيَّة.

فإِنْ كان هذا الأمرُ يصعب تحقيقُه، وضَعُفَ موقفُه الشرعيُّ أمامَ الضغظ العائليِّ، وأُجْبِرَ على حضورِ محلِّ الحفل والدعوة؛ فإنه يسعى جاهدًا في الانصراف مع أوَّلِ فرصةٍ سانحةٍ، مع عدم الرضا بما في قاعة الأفراح مِنْ منكراتٍ، وكراهةِ ما يحدث فيها مِنْ حفلاتٍ موسيقيةٍ بمزامير الشيطان، وما يصحبها مِنْ رقصٍ واختلاطٍ ونحوِ ذلك؛ فإنَّ الكاره للمعصية والناكرَ للخطيئة معدودٌ كالغائب عنها ولا يلحقه إثمُها؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي الْأَرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا*ـ*وَقَالَ مَرَّةً:*أَنْكَرَهَا*ـ*كَانَ كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا»(٢).

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ١٩ صفر ١٤٣٩ﻫ
الموافق ﻟ: ٠٨ نوفمبر ٢٠١٧م


(١)*انظر الفتوى رقم:*(٢٩٠)*الموسومة ﺑ:*«في حكم إقامةِ وليمة العرس بقاعة الأفراح»*على الموقع الرسميِّ لفضيلة الشيخ أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله ـ .

(٢)*أخرجه أبو داود في «الملاحم» باب الأمر والنهي (٤٣٤٥) مِنْ حديثِ العُرس بنِ عَمِيرة الكنديِّ رضي الله عنه. وحسَّنه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٦٨٩).

وافي طيب
2018-02-25, 21:59
في حكم التصديرة

السؤال:
كثيرٌ مِن النِّساء في يوم زِفافِهنَّ يَقُمْنَ بما يُسمَّى: «التصديرة»، ويُوجَدُ معها عادةً «الحِنَّاء»، وقد اجتمعت في هذه العادةِ أمورٌ كثيرةٌ منها: اعتقاد أنَّه إذا لم تُحَنَّ العروسُ فلن تُنْجِبَ الذرِّيَّة، وبعد انتهاء «الحِنَّاء» يجب إخفاءُ الإناء الذي مُزِجَتْ فيه «الحِنَّاء» لكي لا يقع في أيادٍ خبيثةٍ حاسدةٍ تستخدمه في السحر وإلحاقِ الضرر بالعروس، وكذا «الحِنَّاء» التي في يد العروس يجب أن لا تقع في يدِ أحَدٍ فيستعملَها في السحر ـ والعياذ بالله ـ، وتُمْزَج الحنَّاءُ أحيانًا بالبيض اعتقادًا منهنَّ أنَّ البيض مِن علامات الإنجاب والولادة وجلبِ السعادة للزوجين.
فبعد سَرْد هذه المعتقَدات حول هذه العادةِ فما حكمُها؟ مع العلم أنَّ النساء يُنْكِرنَ وجودَ هذه الاعتقادات، ويَتَحَجَّجْنَ بأنَّها عادةٌ وعلامةُ فرحٍ، ونيَّتُهنَّ صافيةٌ، وإذا طُلِب منهنَّ عدمُ القيام بها بناءً على أنَّها مجرَّدُ عادةٍ، وأنَّه لا يضرُّ إن لم تُفْعَل؛ أَبَيْنَ وأَصْرَرْنَ عليها. وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالتصديرة ـ وإن كان المرادُ منها مُباحًا وهو أن تتصدَّر المرأةُ على مِنَصَّةٍ مُرْتفِعةٍ تعلو جَمْعَ النساء اللواتي يُحِطْنَ بها على وجهِ البروز إكرامًا لها ـ إلَّا أنَّ حُكْمَها يتغيَّر بوجودِ المحاذيرِ الشرعية الواردةِ في السؤال، منها:
أَوَّلًا: «التصديرة» فيها إسرافٌ وتبذيرٌ في الفساتين التي تَلْبَسُها العروسُ يومَ عُرسها، والتي تدفع عليها ثمنًا باهضًا، ومُعْظَمُها لا يُستعمَل بعد ذلك، كما أنَّ فيها مَدْعاةً للافتخار والمباهاة، كما أنَّ العروس تُضْطَرُّ لكشفِ عورتِها أمام مَن تُعِينُها على ارتداءِ وتغييرِ ملابسها على التَّكرار، وإذا تَضمَّنَتْ هذه المحاذيرَ مع الإسراف والتبذيرِ فلا شكَّ أنَّه لا يجوز؛ لأنَّ الله تعالى نهانا عن التبذير حيث قال ـ سبحانه وتعالى ـ: ﴿إِنَّ ٱلۡمُبَذِّرِينَ كَانُوٓاْ إِخۡوَٰنَ ٱلشَّيَٰطِينِۖ وَكَانَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لِرَبِّهِۦ كَفُورٗا ٢٧﴾ [الإسراء].
ثانيًا: أمَّا عن صفةِ «الحنَّاء» الواردةِ في السؤال فالجوابُ أنَّ «النِّيَّةَ الحَسَنَةَ لَا تُبَرِّرُ الحَرَامَ بِحَالٍ»؛ فإذا كانت هذه العادةُ ممزوجةً بتلك الاعتقاداتِ فإنَّ القيامَ بفعلها ضربٌ مِن الشِّرك الذي يَزْجُرُ عنه الشرعُ، وفي الحديث عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ»(١)، وفي حديثٍ آخَرَ: «مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ»(٢)، وفي حديثٍ مرفوعٍ: «مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ»(٣).
فكلُّ عادةٍ مُحرَّمةِ الأصلِ فالتذرُّعُ بتحكيمها باطلٌ في الشرع؛ إذ إنَّ «العُرْفَ أَوِ العَادَةَ إِذَا كَانَ يُحَرِّمُ حَلَالًا أَوْ يُحِلُّ حَرَامًا فَهُوَ فَاسِدٌ وَبَاطِلٌ»، والاعتدادُ به غيرُ جائزٍ شرعًا، وآثِمٌ صاحِبُه، وما دام اعتقادُه على هذا الوجهِ المنهيِّ عنه متفشِّيًا عند عامَّةِ الناس فإنَّ نَفْيَ بعضِهم لقصدِ هذا الاعتقادِ لا يُصيِّرُ هذا الفعلَ حلالًا؛ لأنَّ الأصل معروفٌ بهذا الاعتقادِ المحرَّم، والتَّمَسُّكُ بإرادة التزيُّن والتجمُّل لا ينفي بقاءَ المعتقَدِ الفاسد في آحادِ الناس؛ فيكون العملُ به بهذه الصورةِ إعانةً على الباطل والإثم، حيث قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ﴾ [المائدة: ٢].
لذلك يُمْنَع الطريقُ المؤدِّي إلى الفساد مُطْلَقًا عملًا بمبدإ «سَدِّ الذرائع»، ولأنَّ دَفْعَ مفسدةِ الاعتقاد المحَرَّم أَوْلى مِن جَلْبِ مصلحةِ التجمُّل والتزيُّن كما هو مُقرَّرٌ في قواعدِ مَصالِحِ الأنام، أمَّا تزيُّنُ المرأة بالحنَّاء لزوجها فمعلومٌ جوازُه.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١٨ شعبان ١٤١٩ﻫ
الموافق ﻟ: ٠٧ ديسمبر ١٩٩٨م
(١) أخرجه أبو داود في «الطبِّ» بابٌ في تعليق التمائم (٣٨٨٣)، وابن ماجه في «الطبِّ» باب تعليق التمائم (٣٥٣٠)، وأحمد (٣٦١٥)، مِن حديث عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «الصحيحة» (٣٣١) وفي «صحيح الجامع» (١٦٣٢).
(٢) أخرجه أحمد (١٧٤٢٢)، والحاكم في «المستدرك» (٧٥٠١) ولفظه: «مَنْ عَلَّقَ فَقَدْ أَشْرَكَ»، مِن حديث عقبة بن عامرٍ رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «الصحيحة» (٤٩٢).
(٣) أخرجه الترمذيُّ في «الطبِّ» بابُ ما جاء في كراهية التعليق (٢٠٧٢)، وأحمد (١٨٧٨١)، والحاكم (٧٥٠٣)، مِن حديث عبد الله بن عُكَيْمٍ رضي الله عنه، والنسائيُّ في «تحريم الدم» باب الحكم في السحرة (٤٠٧٩) مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث حسَّنه الألبانيُّ في «صحيح الترغيب» (٣٤٥٦)، ومحقِّقو «مسند أحمد» طبعة الرسالة (٣١/ ٧٨).

بن حفاف علي
2018-02-26, 15:13
بارك الله فيك على هذا الموضوع المفيد والنافع
كل الشكر والتقدير

وافي طيب
2018-02-26, 22:30
بارك الله فيك على هذا الموضوع المفيد والنافع
كل الشكر والتقدير

[bوفيك بارك الله][b]

وافي طيب
2018-02-27, 23:08
في حكم أكلِ لحوم الجلَّالة
وشُرْبِ ألبانها

السؤال:
ما حكمُ أكلِ لحوم الماشية وشُرْبِ ألبانها إذا كان عامَّةُ غذائها مِن كلإٍ يُسْقى مِن المياه النَّجِسةِ القَذِرةِ التي مصدرُها قَنَواتُ صَرْفِ المياه؟ فهل لها حكمُ الجلَّالة التي نَهَى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن أكلِ لحومها وشُرْبِ ألبانها، أم أنَّ الأمر في ذلك يرجع إلى مَدَى تأثُّرِ لحومها وألبانِها بما قد يحصل فيها مِن قَذَرٍ، وتغيُّرِ رائحةٍ، وحصولِ ضررٍ؛ بحيث يقال: إِنْ حَصَلَ فيها ذلك وَجَبَ الامتناعُ عن تَناوُلها، وإِنْ لم يحصل لم يجب؟ أجيبونا مأجورين.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فلا يجوز ـ أوَّلًا ـ ريُّ المزروعاتِ التي يأكلها الإنسانُ أو الحيوان بمِياهِ الصرف الصحِّيِّ غيرِ المُعالَجة على القول الراجح؛ لأنَّ الجراثيمَ والنجاساتِ الموجودةَ فيها لا تستحيل، بل تبقى في التراب وتسري في النباتات، ثمَّ تنتقل إلى الحيوان والإنسان عن طريقِ التغذية منها؛ الأمرُ الذي يُفْضي إلى أمراضٍ مُخْتَلِفةٍ قد تُهْلِكُ الإنسان وتَفْتِكُ بصحَّته.
وتبعًا لهذا الحكمِ ـ ثانيًا ـ فإنَّ الحيواناتِ التي تتغذَّى مِن هذه المزروعاتِ والنباتاتِ المتنجِّسةِ بمياه الصرف الصحِّيِّ غيرِ المُعالَجة، يعتريها شيءٌ مِن خُبْثِ النجاسات وجراثيمِها؛ ممَّا يُؤثِّرُ ـ سَلْبًا ـ في لحمِها ولبنِها ورائحتِها، وتصيرُ ـ حالتئذٍ ـ مِن الجلَّالة التي وَرَدَتِ الأحاديثُ الصحيحةُ بالنهي عن أَكْلِها وركوبها وشُرْبِ لبنِها؛ فقَدْ روى ابنُ عمر رضي الله عنهما أنه: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ الْجَلَّالَةِ وَأَلْبَانِهَا»(١)، وفي لفظٍ: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الجَلَّالَةِ فِي الْإِبِلِ: أَنْ يُرْكَبَ عَلَيْهَا أَوْ يُشْرَبَ مِنْ أَلْبَانِهَا»(٢)، وفي حديثِ عبد الله بنِ عَمْرِو بنِ العاص رضي الله عنهما: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الجَلَّالَةِ: عَنْ رُكُوبِهَا وَأَكْلِ لَحْمِهَا»(٣).
غير أنه يمكن إزالةُ الأثرِ النَّجِس الذي طَرَأَ على هذه الحيواناتِ وألبانها، وذلك بتغذيتها بالعَلَفِ الطاهر مُدَّةً يُتيقَّنُ فيها ـ عادةً ـ مِن طِيبِ لحمِها ولبنِها: إمَّا عن طريقِ الطبِّ البيطريِّ ومَسالِكِه المتقدِّمة أو تُحْبَسُ أقصى مدَّةٍ قال بها الفُقَهاءُ، وهي أربعون يومًا للإبل والبقر وما كان أَعْظَمَ جسمًا، وثلاثةُ أيَّامٍ للحيوانات الصغيرة؛ كُلُّ ذلك احتياطًا للدين وحفاظًا على صحَّةِ الإنسان وسلامةِ حياته.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ٩ ذي القعدة ١٤٢٠ﻫ
الموافق ﻟ: ١٥ فبراير ٢٠٠٠م
(١) أخرجه أبو داود في «الأطعمة» بابُ النهي عن أكلِ الجلَّالة وألبانها (٣٧٨٥)، والترمذيُّ في «الأطعمة» بابُ ما جاء في أكلِ لحوم الجلَّالة وألبانها (١٨٢٤)، وابنُ ماجه في «الذبائح» بابُ النهي عن لحوم الجلَّالة (٣١٨٩)، مِن حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٦٨٥٥).
(٢) أخرجه أبو داود في «الأطعمة» بابُ النهي عن أكلِ الجلَّالة وألبانها (٣٧٨٧) مِن حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما. وقال الألبانيُّ في «صحيح أبي داود» برقم: (٢٣٠٦): «إسناده حَسَنٌ صحيحٌ».
(٣) أخرجه أبو داود في «الأطعمة» بابٌ في أكلِ لحوم الحُمُر الأهلية (٣٨١١)، والنسائيُّ في «الضحايا» باب النهي عن أكلِ لحوم الجلَّالة (٤٤٤٧)، مِن حديث عبد الله بنِ عمرو بنِ العاص رضي الله عنهما. وانظر: «إرواء الغليل» (٨/ ١٥٠).

محارب الحمق
2018-02-28, 08:23
بارك الله فيك

وافي طيب
2018-02-28, 21:32
بارك الله فيك

وفيك بارك الله

وافي طيب
2018-02-28, 21:34
في مشروعية وليمة الخِتَان

السؤال:
هل تُشْرَعُ الوليمةُ في الختان؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فذَهَبَ بعضُ العلماء إلى عدَمِ مشروعيَّةِ وليمةِ الختان لعَدَمِ وجودِ نصٍّ في إثباتها، لكِنْ ذَهَبَ بعضُ أهلِ العلم كما ذَكَرَ القاضي عياضٌ والنوويُّ وابنُ القيِّم والشوكانيُّ إلى أنَّها مِن الولائمِ التي سبيلُها الطبخُ، وهي الأطعمةُ التي تجري مجرى الشكران، أي: شُكْر المُنْعِم على ما أَنْعَمَ، وذلك مِن قبيلِ الإحسان، ومِن طُرُقِه إقامةُ «العذيرة»، و«العذيرةُ» و«الإعذار» هي طعامُ الختان(١).
ومذهبُ الجمهورِ مِن الصحابةِ والتابعين وجوبُ الإجابة إلى سائرِ الولائم(٢).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ٢٠ مِنَ المحرَّم ١٤٢٨ﻫ
الموافق ﻟ: ٨ فبراير ٢٠٠٧م
(١) انظر: «النهاية» لابن الأثير (٣/ ١٩٧)، «نيل الأوطار» للشوكاني (٧/ ٣٧٧).
(٢) انظر: «تحفة المودود» لابن القيِّم (٩٠)، «نيل الأوطار» للشوكاني (٧/ ٣٧٧).
قرأ

هبه طارق
2018-03-01, 21:09
جزاكم الله خيرا على المجهودات

هبه طارق
2018-03-01, 21:10
موضوع رااااااااااااائع بارك الله فيكم

هبه طارق
2018-03-01, 21:10
جزاكم الله خيرا على هذه المواضع

وافي طيب
2018-03-03, 09:23
نجزاكم الله خيرا على هذه المواضع

وإياك
بارك الله فيك

وافي طيب
2018-03-03, 09:24
في حكم رياضة «تاي شي شوان»

السؤال:
بارَكَ اللهُ فيكم ـ شيخَنا ـ وأَحْسَنَ إليكم، لقد انتشر في بلدنا ـ الجزائر ـ مُمارَسةُ رياضةٍ صينيةٍ يُطْلَقُ عليها: «تاي شي شوان» (Tai chi chuan)، وتَعني بلُغَتِهم: مُلاكَمةَ القوَّةِ العُليا، ويَعتبرها مُمارِسُوها فنًّا مِن الفنون القتالية.
ما حكمُ مُمارَسة هذا الأمرِ مع العلم:
أوَّلًا: أنها مُمارَسةٌ رياضيَّةٌ أنشأها الرهبانُ الطاوِيُّون وطوَّروها، فهي مُسْتَمَدَّةٌ مِن عقيدتهم وفلسفتهم.
ثانيًا: تختلف هذه المُمارَسةُ الرياضيةُ عن الفنون القتاليةِ الأخرى التي تُعْنَى بالجسم، فهي تعتني ـ كما يزعمون ـ بالروح والطاقة.
ثالثًا: يمكن لمن يُمارِسُ هذا الأمرَ ـ بالتمارين المُسْتمِرَّةِ ـ أَنْ يقوم ببعض الأمورِ الخارقةِ للعادة كتحريك إنسانٍ آخَرَ دون لَمْسِه، أو ضَرْبِ خصمٍ بواسطة الطاقة الكهربائية المتواجدةِ في جسم الإنسان، أو الدفاعِ عن النفس دون أَنْ يَقْدِرَ الخصمُ لَمْسَه.
رابعًا: إذا نُوقِشَ أحَدُهم حول هذه الأمورِ التي تُعتبر مِن خوارق العادات يجيب بأنَّ هذا يمكن تفسيرُه علميًّا، ويمكن فعلُه دون الاستعانة بالشياطين، وأنَّ الأمور الخارقة للعادة أمرٌ نسبيٌّ بين الناس.
هذه المحاور ـ شيخَنا ـ هي مِن أهَمِّ ما يُلاحَظُ على هذه المُمارَسةِ الرياضية، وإلَّا فهناك مَسائِلُ أخرى لو ذُكِرَتْ لكان السؤالُ أَطْوَلَ مِن هذا. وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالمعلوم أنَّ الرياضاتِ ـ بمُخْتَلَفِ أشكالها وأنواعِها ـ وسائِرَ الألعابِ داخلةٌ في عموم الأفعال، لا تخرج عن الأصل المقرَّر مِن الحِلِّ والإباحة، ولا تنصرف إلى التحريمِ والمنع إلَّا إذا اكتنفها محذورٌ شرعيٌّ يرجع ـ عادةً ـ إلى الضرر أو الظلم، سواءٌ في ظلمِ العبدِ لربِّه أو ظلمِ العبد لغيره مِن عباد الله ومخلوقاته أو ظلمِ العبد لنَفْسِه، وكما وَرَدَ في السؤال فإنَّ مَنْشأَ مُمارَسةِ رياضة «التاي شي شوان» مِن الرهبان الطاوِيِّين، بل إنَّ مذهب الطاوِيَّة أصلٌ لجملةٍ مِن التطبيقات الرياضية والاستشفائية ﻛ: «الريكي» و«التشي كونغ» و«اليوجا» وغيرِها، وكثيرٌ ممَّن يُمارِسُ رياضةَ «التاي شي شوان» لا يعرف أنه يُمارِسُ ـ بطريقٍ أو بآخَرَ ـ عبادةَ الطاويَّةِ بِمُعْتَقَدِها الفاسد؛ ذلك لأنَّ الطاويِّين يعتقدون أنَّ أصل كُلِّ الأشياءِ ومَرَدَّها في الوجود إلى ما يُسَمَّى ﺑ: «الطاو»(١)، وكُلُّ ما في الكون ينبني على تحقيق المُوازَنةِ بين قوَّةِ «اليِنْ» الذي يمثِّل القمرَ والأنوثةَ والسكونَ والبرودةَ، وبين قوَّةِ «اليانج» التي تُقابِلُه وتُضادُّه، فهي تمثِّل الشمسَ والذكورةَ والحركة والحرارة.
وتنبع فلسفةُ الطاقة ـ عند الطاويِّين ـ مِن هذه القُوَى الثنائيةِ المُتناقِضةِ، بحيث تَتبلورُ ـ مِن خلالِ هذه الثنائية ـ مَهَمَّةُ «الطاو» المتمثِّلةُ في التوازن المثاليِّ بين هاتين القُوَّتين المُتعارِضتَيْن بإحداث التفاعل التجانسيِّ بين النقيضين على وجه الانسجام والتكامل.
فهذه الرياضة ـ في حدِّ ذاتها ـ ضربٌ مِن الطقوس الوثنية تقوم على الترويج والدعاية لأديانِ شرقِ آسيا عمومًا، والطاويةِ والهندوسيةِ والبوذيةِ والشِّنْتُوِية خصوصًا، وهذه المذاهبُ وثنيةٌ ـ لا ريب فيها ـ قائمةٌ على مُعْتَقَداتٍ فاسدةٍ، جائرةٍ في حقِّ الله على عباده، ومُنافِيةٍ للتوحيد الخالص لله تعالى، علمًا أنَّ هذه الرياضةَ تصحبها أمورٌ خارقةٌ للعادة يُجْرِيها الجنُّ والشياطينُ على يَدِ المُمارِسين لها المُعْتَقِدين لفلسفتها الوثنية، وهي تُشْبِهُ خوارقَ الطُّرُق الصوفية إلى حدٍّ كبيرٍ، ولا يُسْتَبْعَدُ تأثُّرُ الصوفيةِ بهم في هذا الجانبِ العقديِّ بوجهٍ مُباشِرٍ أو غيرِ مُباشِرٍ.
هذا، وعلى فَرْضِ تجريدِ هذه الرياضة مِن الترانيم والطقوسِ الوثنية بالنسبة لِمُمارِسِ نشاطها الرياضيِّ والاكتفاءِ بترويضِ الجسم بالحركات، إلَّا أنَّ تلك الحركاتِ الرياضيةَ ـ في حدِّ ذاتها ـ لا تخلو مِن شُبُهاتٍ؛ لِما في مَعاني تلك الحركاتِ التفاعليةِ مِن التعبير عن التوازن المثاليِّ ـ بزعمهم ـ بين القوى الثنائيةِ السالفةِ البيانِ، التي مَنْشَأُها الثقافةُ الصينيةُ القديمةُ ذاتُ المُعْتَقَداتِ الوثنية؛ ولا يُلْحَقُ بحكمِ المنعِ الفنونُ القتاليةُ الآسيويةُ بأنواعها إذا ما رُوعِيَتْ فيها الضوابطُ الشرعية؛ لأنَّ حركاتِها معلَّلةٌ بالتعرُّف على طُرُقِ التصدِّي للعدوِّ وإجادةِ فنون القتال.
هذا، وحريٌّ بالمسلم ـ والحالُ هذه ـ اتِّقاءُ الشُّبُهاتِ والحذرُ مِن الوقوعِ في مَكايِدِ الشيطان وشِراكِه بتزيينه للعمل الضالِّ وتحسينِه بالشُّبُهات؛ وقوفًا عند حدوده، وعملًا بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ»(٢)، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ»(٣).
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ٢٦ ربيع الثاني ١٤٣٦ﻫ
الموافق ﻟ: ١٥ فبراير ٢٠١٥م
(١) ويَعْنُون به الهديَ أو الطريق أو الطريقة، و«الطاو» ليس إلهًا في مذهب الطاوية؛ لأنهم يُنْكِرون وجودَ إلهٍ بشبهةِ أنه لا ضِدَّ له.
(٢) أخرجه البخاريُّ في «الإيمان» باب فضلِ مَنِ استبرأ لدينه (٥٢)، ومسلمٌ في «المساقاة» (١٥٩٩)، مِن حديث النعمان بنِ بشيرٍ رضي الله عنهما.
(٣) أخرجه الترمذيُّ في «صفة القيامة» (٢٥١٨)، والنسائيُّ في «الأشربة» باب الحثِّ على تركِ الشبهات (٥٧١١)، مِن حديث الحسن بنِ عليٍّ رضي الله عنهما. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٣٣٧٨).

walidsisou
2018-03-03, 19:04
واصلوا في نشر المعلومات

وافي طيب
2018-03-04, 09:49
واصلوا في نشر المعلومات

شكرا على المرور الطيب

وافي طيب
2018-03-04, 09:57
في حكم سفر المرأة لوحدها

السؤال:
هل يجوز لزوجتي أَنْ تُسافِر بمُفْرَدها؟ مع العلم بأنَّ المسافة في الطائرة لن تستغرق أكثرَ مِنْ ثلاثِ ساعاتٍ، وأنها لن تبيت إلَّا في بيتِ أهلها. وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فقد وردَتْ في مسألةِ سفر المرأة جُملةٌ مِنَ الأحاديث الصحيحة الثابتة، فمِنْ ذلك:
• ما أخرجه الشيخان مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لَا تُسَافِرِ المَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، وَلَا يَدْخُلْ عَلَيْهَا رَجُلٌ إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ»، فَقَالَ رَجُلٌ: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَخْرُجَ فِي جَيْشِ كَذَا وَكَذَا، وَامْرَأَتِي تُرِيدُ الحَجَّ»، فَقَالَ: «اخْرُجْ مَعَهَا»(١).
• وأخرج الشيخان مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «نَهَى أَنْ تُسَافِرَ المَرْأَةُ مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ إِلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ»(٢).
• وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ»(٣).
والأصل المقرَّر ـ انطلاقًا مِنْ هذه الأحاديثِ ـ ألَّا تُسافِرَ المرأةُ وَحْدَها(٤)، بل يجب أَنْ تكون في صحبةِ زوجِها أو ذي مَحْرَمٍ لها، وهذا الحكمُ لا خلافَ فيه؛ لدخولهما في مضمون الحديث بصورةٍ قطعيةٍ، وإنما الخلافُ في تَعْدِيَةِ الحكم لمعناهما، والمعنى المأخوذُ مِنِ اعتبار الزوج وذي المَحْرَم في الحديث هو الرفقةُ المأمونة، بمعنَى أنَّ الحكم في هذه الأحاديثِ دائرٌ بين اتِّباع اللفظ أو اعتبار المعنى، فمَنِ اتَّبع لفظَ الحديث قَصَر حُكْمَه على الزوج وذي المَحْرَم، ومَنِ اعتبر المعنى وسَّع مجرى الحكم، والصحيحُ ـ عندي ـ أنَّ اعتبار المعنى ـ في هذه المسألة ـ أقوى فيتعدَّى الحكمُ إلى غير الزوج وذي مَحْرَمٍ ممَّنْ يحصل معهم الأمنُ؛ ذلك لأنَّ السفر يندرج في أحكام العادات، والأصلُ فيها الالتفاتُ إلى المعاني والمقاصد، كما أنَّ سفر المرأةِ بغير مَحْرَمٍ إنما حُرِّم سدًّا لذريعة المحرَّم، و«مَا حُرِّمَ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ»، وممَّا يقوِّي اعتبارَ المعنى ما رواهُ البخاريُّ في «صحيحه» أنَّ عمر بنَ الخطَّاب رضي الله عنه قد أَذِنَ لأزواج النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالحجِّ في آخِرِ حجَّةٍ حجَّها، فبَعَث معهنَّ عثمانَ بنَ عفَّان وعبدَ الرحمن بنَ عوفٍ رضي الله عنهما(٥)، ثمَّ كان عثمانُ رضي الله عنه بعد عمر بنِ الخطَّاب رضي الله عنه يحجُّ بهنَّ في خلافته أيضًا، وهذا حُجَّةٌ وإجماعٌ على جوازِ سفر المرأة برُفْقةِ نساءٍ ثِقَاتٍ؛ لأنَّ أمَّهاتِ المؤمنين كنَّ ثمانيةً في سفرهنَّ للحجِّ، وقد اتَّفق عمرُ وعثمانُ وعبدُ الرحمن بنُ عوفٍ ونساءُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم على هذا الأمرِ مِنْ دون نكيرٍ عليهنَّ مِنْ غيرهم مِنَ الصحابة رضي الله عنهم.
فالحاصل: أنه يَلْزَمُ صحبةُ الزوج أو ذي المَحْرَم للمرأة في السفر، وأنه يقوم مَقامَ الزوج وذي المَحْرَم وجودُ الرُّفْقة المأمونة المتمثِّلة في جماعةٍ مِنَ النساء الثِّقَات، أو في قومٍ عدولٍ مِنَ الرجال والنساء الثقات، وهو مذهبُ جمهورِ أهل العلم.
هذا، وإذا تَقرَّر ـ مِنْ مفهوم الأحاديث السابقة ـ عدمُ جوازِ سفرِ المرأة لوَحْدِها فإنَّ مدَّةَ استغراقِ الطائرة ومَبيتَ المرأة عند أهلها لا تأثيرَ لهما في حكم المنع.
وأمَّا حكم الإقامة في بلد الكفر فيمكن مُراجَعةُ الكلمةِ الشهرية الموسومة ﺑ: «نصيحة إلى مُقيمٍ في بلاد الكفر» على موقعنا على الأنترنيت.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

(١) أخرجه البخاريُّ في «جزاء الصيد» بابُ حجِّ النساء (١٨٦٢)، ومسلمٌ في «الحجِّ» (١٣٤١)، مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما.
(٢) أخرجه البخاريُّ في «جزاء الصيد» باب حجِّ النساء (١٨٦٤)، ومسلمٌ في «الحجِّ» (٨٢٧)، مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه.
(٣) أخرجه البخاريُّ في «تقصير الصلاة» باب: في كم يقصر الصلاةَ؟ (١٠٨٨)، ومسلمٌ في «الحجِّ» (١٣٣٩)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.
(٤) اكتفى بعضُ العلماء بتحصيلِ أمنِ الطريق لجوازِ سفر المرأة، وهو مِنِ اختيارِ شيخ الإسلام ابنِ تيمية ـ رحمه الله ـ: ذَكَره ابنُ مُفْلِحٍ في «الفروع» (٣/ ١٧٧)، قال عنه: «وعند شيخِنا: تحجُّ كُلُّ امرأةٍ آمنةٍ مع عدم المَحْرم، وقال: «إنَّ هذا متوجِّهٌ في كُلِّ سفرِ طاعةٍ»... ونَقَله الكرابيسيُّ عن الشافعيِّ في حجَّة التطوُّع، وقالَهُ بعضُ أصحابِه فيه وفي كُلِّ سفرٍ غيرِ واجبٍ كزيارةٍ وتجارةٍ». وهذا المنقولُ ـ أيضًا ـ عن الظاهرية، [انظر: «المحلَّى» لابن حزم (٧/ ٤٧)].
(٥) انظر الأثرَ الذي أخرجه البخاريُّ في «جزاء الصيد» بابُ حجِّ النساء (١٨٦٠) مِنْ حديثِ إبراهيم بنِ سعد بنِ إبراهيم بنِ عبد الرحمن بنِ عوفٍ عن أبيه عن جدِّه رضي الله عنه.

وافي طيب
2018-03-07, 00:21
في حكم لُبس المرأة للبنطلون

السؤال:
كثيراتٌ مِنَ النسوة المسلمات يسألن عن حكمِ لباس السِّروال أو البنطلون الخاصِّ بالمرأة المجسِّم للعورة، والظهورِ به أمام الزوج بُغيةَ التزيُّن له أو تحقيقِ رغبته في ذلك، فإِنْ كان هذا جائزًا فهل يُعمَّمُ الحكمُ في ذلك على الظهور به أمامَ النساء وأمام الأولاد في البيت؟ نرجو مِنْ فضيلتكم تفصيلًا في المسألة، ووفَّقكم الله إلى قول الصواب.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالأصلُ في النساء أنهنَّ مأموراتٌ بالاستتار والاحتجاب دون التبرُّج والتكشُّف؛ لذلك فالمرأة ترتدي مِنَ الثياب ما يُصْلِح حالَها ويُناسِبُ مقصودَ الشارع المحقِّق لمعنى الستر، ولا يُشْرَع لها ضِدُّ ذلك، ولا يبعد عن أهل النظر أنَّ مقصودَ الثيابِ في معناه وعِلَّته يُشْبِهُ مقصودَ المساكن، وقد جاء في شأن المساكن والبيوت قولُه تعالى: ﴿وَقَرۡنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَى ﴾ [الأحزاب: ٣٣]، وقولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ المَسَاجِدَ، وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ»(١)؛ إذ المساكنُ مِنْ جنس الملابس، والعلَّةُ فيهما الوقايةُ ودَفْعُ الضرر، فالوقايةُ مِنَ الحرِّ والبرد وسلاحِ العدوِّ ونحوِ ذلك يُوجَدُ في المساكن والملابس؛ لذلك قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمۡ سَرَٰبِيلَ تَقِيكُمُ ٱلۡحَرَّ وَسَرَٰبِيلَ تَقِيكُم بَأۡسَكُمۡ﴾ [النحل: ٨١]، وقال تعالى: ﴿وَٱلۡأَنۡعَٰمَ خَلَقَهَاۖ لَكُمۡ فِيهَا دِفۡء﴾ [النحل: ٥] أي: مِنَ البرد.
وإذا تَقرَّر أنَّ الشريعة تأمر النساءَ بالاستتار والاحتجاب فإنَّ هذا المقصود الشرعيَّ يظهر في التفريق بين لباس المرأة ولباس الرجل، فاللباسُ إِنْ كان عائدًا إلى ذات الستر فهذا يُؤْمَر به النساءُ لأنه أسترُ لهنَّ؛ إذ إنَّ كُلَّ لباسٍ قريبٍ مِنْ مقصود الشارع بالاستتار فالنساءُ أَوْلى به، وكان ضِدُّه للرجالِ إلَّا ما استثناه الدليلُ.
أمَّا إِنْ كان اللباسُ عائدًا إلى العادة، وتَضمَّن في ذاته السترَ المطلوب: فإِنْ جَرَتْ عادةُ أهل البلاد أَنْ يَلْبَس الرجالُ مِثْلَ هذه الثيابِ دون النساء؛ فإنَّ النهي عن مثلِ هذا يتغيَّر بتغيُّر عاداتِ الناس في أحوالهم وبلادهم.
ومِنْ مُنطلَقِ هذا التقعيدِ فإنَّ السروال أو البنطلون معدودٌ مِنْ أخصِّ ثياب الرجال، فإِنْ كان محجِّمًا للعورة ومحدِّدًا لأجزاء البدن ومُظْهِرًا لتقاطيع الجسم فهو بهذه الصفةِ لا يجوز للرجل بَلْهَ المرأة، سواءٌ مع المحارم أو الأجانب مِنْ بابٍ أَوْلى، ويتعيَّن المنعُ عليها مِنْ جهتين:
ـ الجهة الأولى: أنَّ في لُبسه فتحًا لِبَابِ لباسِ أهل النار وتشبُّهًا بهم في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا»(٢)، والمرادُ به النساءُ اللواتي يلبَسْنَ الخفيفَ مِنَ الثياب الذي يَصِف ولا يستر، فهنَّ كاسياتٌ بالاسم عارياتٌ في الحقيقة(٣)، والتشبُّهُ بأهل النار أو بالعاهرات لا يجوز شرعًا؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»(٤)، وحتَّى يغيب معنى التحجيم والعري أمَرَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الرجلَ الذي كسَا امرأتَه قُبطيةً فقال: «مُرْهَا فَلْتَجْعَلْ تَحْتَهَا غِلَالَةً؛ إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَصِفَ حَجْمَ عِظَامِهَا»(٥).
ـ والجهة الثانية: أنَّ في لُبس البنطلون تشبُّهًا بالرجال في أخصِّ ثيابهم، وقد جاءَتْ صيغةُ النهي بلفظ التشبُّه في قول ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ»(٦)، وقولِه: «لَعَنَ النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم المُخَنَّثيِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالمُتَرَجِّلَاتِ مِنَ النِّسَاءِ»(٧)، وفي حديثٍ آخَرَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم الرَّجُلَ يَلْبَسُ لِبْسَةَ الْمَرْأَةِ، وَالمَرْأةَ تَلْبَسُ لِبْسَةَ الرَّجُلِ»(٨)، وقد علَّق الحكمَ باسْمِ التشبُّه، سواءٌ في اللباس أو في غيره، ولا يخفى أنَّ المشابهة في الأمور الظاهرة تُورِث المشابهةَ في الأخلاق والتناسبَ في الأعمال؛ فالمرأةُ المتشبِّهةُ بالرجال تنطبعُ بأخلاقهم؛ الأمرُ الذي يُنافي الحياءَ والخَفَرَ(٩) المشروعَ للنساء، ويتجسَّد فيها معنى التبرُّج والبروز ومشاركة الرجال؛ فيؤدِّي ذلك إلى إظهار بدنها كما يُظْهِره الرجلُ، وتطلب العلوَّ على الرجل كما تعلو الرجالُ على النساء، وهذا القَدْرُ قد يحصل بمجرَّد المشابهة، وقد نبَّه على هذه القاعدةِ شيخُ الإسلام ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ في كتابه «اقتضاء الصراط المستقيم مخالفةَ أصحاب الجحيم».
هذا، وتزول الآفتان السابقتان فيما إذا لَبِسَتِ المرأةُ سروالًا وفوقه ملابسُ سابغةٌ؛ حيث ينتفي فيه التشبُّهُ بالرجال لتحوُّل المظهر الخارجيِّ الظاهر إلى لباسٍ داخليٍّ مستورٍ تختفي فيه المعاني السابقةُ، ويتحقَّق به السَّترُ والاحتجاب المطلوبُ ـ شرعًا ـ مِنَ النساء تحصيلُه، وضِمْنَ هذا المنظورِ قال ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ: «فلو لَبِسَتِ المرأةُ سراويلَ أو خفًّا واسعًا صلبًا كالمُوقِ(١٠) وتدلَّى فوقه الجلبابُ بحيث لا يظهرُ حجمُ القدمِ لكان هذا محصِّلًا للمقصود»(١١).
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ٢٧ من المحرَّم ١٤٣٠ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٣ جانفي ٢٠٠٩م

(١) أخرجه أبو داود في «الصلاة» بابُ ما جاء في خروج النساء إلى المسجد (٥٦٧) مِنْ حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما. وصحَّحه النوويُّ في «الخلاصة» (٢/ ٦٧٨)، وأحمد شاكر في تحقيقه ﻟ «مسند أحمد» (٧/ ٢٣٢)، والألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٧٤٥٨). وأخرجه البخاريُّ (٩٠٠) ومسلمٌ (٤٤٢) بلفظ: «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ» دون زيادة: «وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ».
(٢) أخرجه مسلمٌ في «اللباس والزينة» (٢١٢٨) مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.
(٣) انظر: «شرح مسلم» للنووي (١٤/ ١١٠)، «فيض القدير» للمناوي (٤/ ٢٠٩)، «تنوير الحوالك» للسيوطي (٣/ ١٠٣).
(٤) أخرجه أبو داود في «اللباس» بابٌ في لُبس الشهرة (٤٠٣١) مِنْ حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما. وصحَّحه العراقيُّ في «تخريج الإحياء» (١/ ٣٥٩)، وحسَّنه ابنُ حجرٍ في «فتح الباري» (١٠/ ٢٧١)، وصحَّحه الألبانيُّ في «الإرواء» (١٢٦٩).
(٥) أخرجه أحمد (٢١٧٨٦) مِنْ حديثِ أسامة بنِ زيدٍ رضي الله عنهما. قال الهيثميُّ في «مَجْمَع الزوائد» (٥/ ١٣٩): «فيه عبد الله بنُ محمَّد بنِ عقيلٍ، وحديثُه حسنٌ وفيه ضعفٌ، وبقيَّةُ رجاله ثقاتٌ»، وحسَّنه الألبانيُّ في «جلباب المرأة المسلمة» (١٣١).
(٦) أخرجه البخاريُّ في «اللباس» باب: المتشبِّهون بالنساء والمتشبِّهات بالرجال (٥٨٨٥) مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما.
(٧) أخرجه البخاريُّ في «اللباس» بابُ إخراجِ المتشبِّهين بالنساء مِنَ البيوت (٥٨٨٦) مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما.
(٨) أخرجه أبو داود في «اللباس» بابٌ في لباس النساء (٤٠٩٨) مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٥٠٩٥).
(٩) الخَفَر: شدَّة الحياء، [انظر: «النهاية» لابن الأثير (٢/ ٥٣)، «مختار الصحاح» للرازي (١٨٢)].
(١٠) المُوق: خفٌّ غليظٌ يُلبس فوق الخفِّ، [انظر: «مختار الصحاح» للرازي (٦٣٩)، «المعجم الوسيط» (٢/ ٨٩٢)].
(١١) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٢/ ١٤٨).

وافي طيب
2018-03-07, 11:33
في حكم الصلاة في مسجدٍ أُقِيمَ في قاعةِ أفراحٍ مؤقَّتًا

السؤال:
باشر القائمون على مسجدنا ـ في هذه الأيَّام ـ أعمالَ إعادةِ بنائه مِنْ جديدٍ بغرضِ توسعتِه، وبحكمِ أنَّ إعادة بناء المسجد ستستغرق وقتًا طويلًا قَرَّرُوا الانتِقالَ إلى قاعةِ أفراحٍ ـ تَوقَّفت عن العمل ـ بغرض إقامة الصلاة فيها خلالَ تلك المدَّة ريثما يصير المسجد مهيَّئًا للصلاة فيه؛ فما حكم الصلاة في هذه القاعة، علمًا أنَّهم لم يجدُوا مكانًا غيرَها وأنها ستعود ـ بعد تمام المسجد ـ إلى ما كانَتْ عليه مِنْ قبلُ مِنْ إقامة الأفراح مع ما فيها مِنْ مخالفاتٍ للشرع؟ وجزاكم الله ـ عنَّا وعن المسلمين ـ خيرَ الجزاء.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالأصل جوازُ الصلاة في أيِّ مكانٍ مِنَ الأرض لكونها كُلِّها مسجدًا؛ كما ثَبَت ذلك في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، ...»(١)، إلَّا أنه يُستثنى مِنْ هذا العمومِ الأماكنُ المنهيُّ عنها بالنصِّ: كمَعاطِن الإبل ومَبارِكها(٢)، والمقبرةِ والحمَّام(٣)؛ فهذه الأماكنُ لا تصحُّ الصلاةُ فيها على الصحيح مِنْ أقوال العلماء، إمَّا لكونها مأوًى للشياطين أو للنجاسة، وإمَّا لسدِّ ذريعةِ عبادة القبور والتشبُّه بالكُفَّار.
كما تُستثنى أماكنُ أخرى منهيٌّ عنها لعلَّةٍ، ولكِنْ تصحُّ الصلاةُ فيها مع الكراهة؛ لعدم ورود النصِّ بالنهي عن الصلاة فيها: مثل مواضع الصُّوَر والتماثيل كما هو حالُ معابد المشركين مِنَ النصارى وغيرِهم، فقَدْ جاء في «صحيح البخاريِّ» قولُ عمر رضي الله عنه: «إِنَّا لَا نَدْخُلُ كَنَائِسَكُمْ مِنْ أَجْلِ التَّمَاثِيلِ الَّتِي فِيهَا الصُّوَرُ»، «وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُصَلِّي فِي البِيعَةِ إِلَّا بِيعَةً فِيهَا تَمَاثِيلُ»(٤)، أو مواضعِ الخسف والعذاب فإنه «يُذْكَرُ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَرِهَ الصَّلَاةَ بِخَسْفِ بَابِلَ»(٥)، أو أماكنِ الفجور والعصيان لِمَا يحدث فيها مِنَ المنكرات: مِنْ مزامير الشيطان، وما يصحبها مِنْ رقصٍ واختلاطٍ ومَفاسِدَ أخرى، فضلًا عن تزكيتها بالحلول والصلاة فيها؛ لذلك فالأَوْلى سدُّ الذريعة إليها، إلَّا للمُضطرِّ أو إذا تحوَّلَتْ هذه الأماكنُ نهائيًّا عن أصلها إلى مساجدَ أو مُصلَّيَاتٍ؛ فتنتفي ـ والحالُ هذه ـ الكراهةُ والمنع لانتفاءِ سببها.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ٢٢ مِنَ المحرَّم ١٤٣٩هـ
الموافق ﻟ: ١٢ أكتوبر ٢٠١٧م

(١) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «التيمُّم» (٣٣٥)، ومسلمٌ في «المساجد ومواضع الصلاة» (٥٢١)، مِنْ حديثِ جابر بنِ عبد الله رضي الله عنهما.
(٢) لحديثِ جابر بنِ سَمُرَة رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَأَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟» قَالَ: «إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَوَضَّأْ»، قَالَ: «أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ؟» قَالَ: «نَعَمْ فَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ»، قَالَ: «أُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ؟» قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: «أُصَلِّي فِي مَبَارِكِ الْإِبِلِ؟» قَالَ: «لَا»: أخرجه مسلمٌ في «الحيض» (٣٦٠).
(٣) لحديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه: «الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلَّا المَقْبَرَةَ وَالحَمَّامَ»: أخرجه الترمذيُّ في «الصلاة» بابُ ما جاء أنَّ الأرضَ كُلَّها مسجدٌ إلَّا المقبرةَ والحمَّام (٣١٧)، وابنُ ماجه في «المساجد والجماعات» باب المواضع التي تُكرَهُ فيها الصلاةُ (٧٤٥). وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٢٧٦٧).
(٤) علَّقهما البخاريُّ في «الصلاة» باب الصلاة في البِيعة (١/ ٥٣١). والأوَّل وَصَله عبد الرزَّاق في «مصنَّفه» (١٦١٠، ١٦١١)، والثاني وَصَله عبد الرزَّاق في «مصنَّفه» (١٦٠٨)، والبغويُّ في «الجعديات» (٢٣٥٣، ٢٧٩٩).
(٥) علَّقه البخاريُّ بصيغة التمريض في «الصلاة» باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب (١/ ٥٣٠). ووَصَله البخاريُّ في «التاريخ الكبير» كما ذَكَره غيرُه أيضًا، انظر: «تغليق التعليق» لابن حجر (٢/ ٢٣١).

وافي طيب
2018-03-09, 12:24
في عدم انفساخ النكاح بالزِّنا

السؤال:
ما حكمُ امرأةٍ متزوِّجةٍ ارتكبَتْ معصيةَ الزِّنا؛ فهل زِناها يُوجِبُ انفساخَ النكاح؟ وإذا كان لا يُوجِبُ ذلك فهل الزوجُ مُطالَبٌ بأَنْ يُطلِّقَها بعد عِلْمِه بالواقعة؟ وإِنْ أَبَى فهل تبقى معه وهي تبغضه ولا تُطيقُ مُعاشَرتَه؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالمعلوم ـ شرعًا ـ أنَّ زِنَا أحَدِ الزوجين المُحْصَنَيْن يُوجِبُ الرجمَ بالإجماع(١)، لكنَّه إذا انتفى بانتفاءِ شروطه فلا ينفسخ النكاحُ بزِنَا أحَدِهما ولا يُوجِبُ فَسْخَه، سواءٌ قبل الدخول أو بعده عند عامَّةِ أهل العلم، ولا يُلْحَقُ باللِّعان في كون الزوجة تَبِينُ عنه إذا ما رَمَاها بالزِّنا؛ لأنَّ اللِّعان يقتضي الفسخَ بدون الزِّنا، ويدلُّ على عدمِ ثبوت زِنَاها باللِّعان أنَّها تُقابِلُ اللاعنَ بملاعَنتِه، وليس الزِّنَا ذنبًا مُوجِبًا لانفساخِ العقد كالرِّدَّة، وإنَّما هو معصيةٌ لا تُخْرِجُ صاحِبَها عن دائرة الإسلام؛ فأَشْبَهَتْ شُرْبَ الخمرِ والسرقةَ ونحوَهما؛ فإنَّ أهلَ هذه المعاصي لا ينفسخ النكاحُ في حقِّهم.
غير أنَّه يُسْتحَبُّ للرجل مفارَقةُ زوجته إذا زنَتْ بأَنْ يُطلِّقَها خشيةَ أَنْ تُفْسِدَ فِراشَه وتُلْحِقَ به ولدًا ليس منه، وإذا استبقاها فلا يَطَؤُها حتَّى يَسْتبرِئَها بحيضةٍ واحدةٍ؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ»(٢).
هذا، وإذا كانَتِ الزوجةُ لا تُطيقُ معاشَرةَ زوجِها بسبب البغض والكراهة فإنَّه إذا تَضاعَفَ بينهما الشقاقُ واشتدَّ وأصبحَتِ الحياةُ الزوجية غيرَ قابلةٍ للإصلاح، وخَشِيَتْ أَنْ تعصيَ اللهَ فيه؛ فلها أَنْ تُفارِقَه ببَدَلٍ يحصلُ له، أي: تفتدي نَفْسَها بأَنْ تَرُدَّ عليه ما كانَتْ أخذَتْ منه باسْمِ الزوجية ليُنْهِيَ علاقتَه بها، وهذا ما يُسمَّى ـ في اصطلاح الشرع ـ بالخُلْع أو الفدية.
واللهُ أَعْلَمُ بالصواب، والعلمُ عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ٢٧ صفر ١٤١٩ﻫ
الموافق ﻟ: ١٨ جوان ١٩٩٨م


(١) انظر: «الإجماع» لابن المنذر (١٣١).
(٢) أخرجه أبو داود في «النكاح» بابٌ في وَطْءِ السبايا (٢١٥٨) مِنْ حديثِ رُوَيْفِعِ بنِ ثابتٍ الأنصاريِّ رضي الله عنه. وحسَّنه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٧٦٥٤)

وافي طيب
2018-03-10, 13:25
في الموت الدماغيِّ وانتفاءِ تأثيره على الأحكام

السؤال:
يرى كثيرٌ مِنَ الأطبَّاء المعاصِرِين أنَّ موت الدماغ يُوجِبُ الحكمَ بموت صاحِبِه، غير أنَّ المعروف ـ عادةً ـ أنَّ الحكم عليه بالموت إنما يكون عند توقُّفِ قلبه عن النبض نهائيًّا، فهل علامةُ موت الإنسان بموت دماغه أم بموت قلبه؟ وبناءً عليه: فهل يجوز رفعُ أجهزة الإنعاش عن المريض عند تعطُّلِ دماغه كُلِّيًّا، ولو مع بقاءِ نبضاتِ قلبِه بالتنفُّس الاصطناعيِّ؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فلا تحصل حقيقةُ الموت ـ عند الفقهاء ـ إلَّا بمفارَقةِ الروحِ للبدن، بمعنى: زوالِ الحياة عمَّا وُجِدَ فيه الحياةُ أو عمَّنْ يتَّصِفُ بها بالفعل(١).
ومعيارُ مفارَقةِ الروحِ للبدن: علامةٌ واضحةٌ على تحقُّقِ الموت الفعليِّ، وهو ما تقتضيه النصوصُ الشرعية وتُؤكِّدُه، منها: حديثُ أمِّ سَلَمة رضي الله عنها قالَتْ: «دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ، فَأَغْمَضَهُ ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ»»(٢)، وقولُه صلَّى الله عليه وسلَّم في حديثِ البراء بنِ عازبٍ رضي الله عنهما واصفًا قَبْضَ الملائكةِ روحَ المؤمن: «.. فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا ـ أي: مَلَكُ الموت ـ»(٣)، قال ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ: «فقَدِ استفاضَتِ الأحاديثُ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بأنَّ الأرواح تُقْبَضُ وتُنعَّمُ وتُعذَّبُ ويقال لها: اخْرُجِي أيَّتُها الروحُ الطيِّبة»(٤).
وإذا كان الاستدلال على تحقُّقِ الحياة وحصولِهَا بنفخ الروح في البدن كما في قوله تعالى: ﴿فَنَفَخۡنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا﴾ [التحريم: ١٢]، وفي قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ إِلَيْهِ مَلَكًا بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيُكْتَبُ عَمَلُهُ، وَأَجَلُهُ، وَرِزْقُهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ»(٥)؛ فإنه يُسْتدَلُّ بقياس العكس على حصول الموت وتحقُّقه بمفارَقةِ الروح للبدن.
وإذا تَقرَّرَ ما سَبَقَ فإنَّ العلماء والأطبَّاء لم يختلفوا في هذه الحقيقةِ الشرعية المتمثِّلةِ في مفارَقةِ الروح البدنَ؛ بل حكموا بالوفاة على مَنْ تَلِفَتْ خلايا دماغِه وتعطَّلَتْ جميعُ وظائفه وتوقَّفَ قلبُه عن النبض توقُّفًا كُلِّيًّا، وعليه فإنه ـ في تحرير مَحَلِّ النزاع ـ يتقرَّر أنَّ اجتماع العلَّتَيْن والاستدلالَ بهما على تحقُّقِ الموت ووقوعِ الوفاة بمفارَقةِ الروحِ البدنَ أمرٌ مُجْمَعٌ عليه، هذا مِنْ جهةٍ.
كما أنه لا خلافَ ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ في الحكم بحياة المريض إذا طَرَأَ على دماغه عارضٌ معلومٌ زوالُه يمنعه في ذلك الوقتِ مِنَ القيام بمَهَمَّتِه.
وإنما يتوجَّهُ الخلافُ بينهم فيما إذا استمرَّ القلبُ في نبضاته مع تَلَفِ جذعِ الدماغ، فهل يُحْكَمُ عليه ـ شرعًا ـ بالموت أم لا بُدَّ مِنِ اجتماع العلَّتين السابقتَيْن حتَّى يُقَرَّرَ فيه هذا الحكمُ؟
والقول المعتمَدُ في هذه المسألة: عدمُ اعتبار موت الدماغ موتًا حقيقيًّا دون قلبِه، ولا تترتَّبُ عليه آثارُ موته به حتَّى يتوقَّفَ قلبُه عن النبض توقُّفًا نهائيًّا، ويُتيَقَّنَ مِنْ مفارَقةِ الروح للبدن بأماراتٍ ذَكَرَها الفقهاء، منها: شخوصُ البصر، وتوقُّفُ التنفُّس، وبرودةُ البدن، واسترخاءُ القدمين، وانخسافُ الصُّدْغين، ونحوُ ذلك مِنَ العلامات الدالَّةِ على الوفاة يقينًا، ولا يجوز العملُ فيها بالشكِّ ولا غَلَبةِ الظنِّ؛ لأنَّ الأصل في المريض الحياةُ، فتُستصحبُ حياتُه ولا يُجْزَمُ بموته إلَّا بعد التيقُّنِ مِنْ زوالها منه؛ إذ «الأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ»(٦)، والحكمُ بموت دماغه مع بقاء نبضات قلبه وتنفُّسِه وغيرِهما مِنْ علامات الحياة: هو شكٌّ في موته؛ لذلك وَجَبَ العملُ باليقين المُوجِبِ للحكم بحياته وهو الأصلُ ـ كما تَقدَّمَ ـ عملًا بقاعدةِ: «اليَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ»(٧)، قال ابنُ قدامة ـ رحمه الله ـ: «وإِنِ اشتبه أمرُ الميِّت اعتُبِر بظهور أمارات الموت، مِنِ استرخاء رجليه، وانفصالِ كفَّيْه، وميلِ أنفِه، وامتدادِ جلدة وجهه، وانخسافِ صُدْغيه، وإِنْ مات فجأةً كالمصعوق، أو خائفًا مِنْ حربٍ أو سَبُعٍ، أو تردَّى مِنْ جبلٍ؛ انتُظِرَ به هذه العلاماتُ حتَّى يُتيقَّنَ موتُه»(٨)، وقال النوويُّ ـ رحمه الله ـ: «فإِنْ شكَّ بأَنْ لا يكون به علَّةٌ، واحتمل أَنْ يكون به سكتةٌ، أو ظهرَتْ أماراتُ فزعٍ أو غيرِه؛ أُخِّرَ إلى اليقين بتغيير الرائحة أو غيرِه»(٩).
ولا يُقاسُ الميِّتُ دماغيًّا على المولود الذي لم يصرخ حالَ ولادته ولو تَنفَّسَ أو تَحرَّكَ؛ لأنَّ اعتبار حياة المولود مِنْ موته مَحَلُّ نزاعٍ بين العلماء؛ فهو ـ إذن ـ مشكوكٌ في حياته، بخلاف المريض فإنَّ الأصل فيه الحياةُ ولو مات دماغُه، ما لم يُتيقَّنْ مِنْ مفارَقةِ الروحِ جسدَه بأماراتها؛ لذلك يَتعذَّرُ القياسُ عليه؛ لظهور الفارق بينهما.
وعليه، فلا تترتَّبُ الآثارُ التي تَعْقُبُ الموتَ مِنِ: اعتداد زوجته، وتنفيذِ وصاياهُ، وقسمةِ تركته، ونحوِ ذلك، إلَّا بعد تحقُّق وفاة الميِّت التي لا تكون إلَّا باجتماع العلَّتَيْن مِنْ تلفِ خلايا الدماغ، مع توقُّف القلب والتنفُّس نهائيًّا، وما يستتبعه مِنْ علامات الموت الأخرى على وجه اليقين، قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «إذا شكَّ: هل مات مورِّثُه فيَحِلُّ له مالُه أو لم يَمُتْ؟ لم يَحِلَّ له المالُ حتَّى يتيقَّنَ موتَه»(١٠).
أمَّا عن رفعِ أجهزة الإنعاش عن المريض بعد موت دماغه: فقَدْ أفتى المَجْمَعُ الفقهيُّ وهيئةُ كبار العلماء بأنَّ المريض الذي رُكِّبَتْ على جسمه أجهزةُ الإنعاش يجوز رفعُها إذا تَعطَّلَتْ جميعُ وظائف دماغه تعطُّلًا نهائيًّا، وقرَّرَتْ لجنةٌ مِنْ ثلاثة أطبَّاءَ اختصاصيِّين خُبَراءَ أنَّ التعطُّلَ لا رجعةَ فيه، وإِنْ كان القلبُ والتنفُّس لا يَزالان يعملان آليًّا بفعل الأجهزة المركَّبة، لكِنْ لا يُحْكَمُ بموته شرعًا إلَّا إذا تَوقَّفَ التنفُّسُ والقلبُ توقُّفًا تامًّا بعد رفعِ هذه الأجهزة، كما سَبَقَ بيانُه.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١٧ المحرَّم ١٤٣٧ﻫ
الموافق ﻟ: ٣١ أكتوبر ٢٠١٥م


(١) انظر: «الكلِّيَّات» لأبي البقا (٨٥٧)، «التعريفات الفقهية» للبركتي (٢٢٠).
(٢) أخرجه مسلمٌ في «الجنائز» (٩٢٠) مِنْ حديثِ أمِّ سلمة رضي الله عنها.
(٣) أخرجه أحمد (١٨٥٣٤)، وابنُ خزيمة في «التوحيد» (١/ ٢٧٣)، والحاكم (١٠٧)، مِنْ حديثِ البراء بنِ عازبٍ رضي الله عنهما. وانظر: «أحكام الجنائز» للألباني (١٥٧).
(٤) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٤/ ٢٢٣).
(٥) أخرجه البخاريُّ في «أحاديث الأنبياء» بابُ خَلْقِ آدَمَ صلواتُ الله عليه وذرِّيَّتِه (٣٣٣٢)، ومسلمٌ في «القَدَر» (٢٦٤٣)، مِنْ حديثِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه.
(٦) انظر: «الأشباه والنظائر» للسيوطي (٥١).
(٧) انظر: المرجع السابق (٥٠).
(٨) «المغني» لابن قدامة (٢/ ٤٥٢).
(٩) «روضة الطالبين» للنووي (٢/ ٩٨).
(١٠) «بدائع الفوائد» لابن القيِّم (٣/ ٢٧٣).

وافي طيب
2018-03-10, 20:27
في حكم إتمام الطهارة بالتيمُّم

السؤال:
مريضٌ به قرحٌ بقَدَمِه يَتضرَّرُ معه إذا أصابها الماءُ: فهل يتيمَّمُ إذا أَحْدَثَ أو أَجْنَبَ، أم يتوضَّأُ ويُسْقِطُ العُضْوَ، أم فرضُه أَنْ يغسل الصحيحَ ويَتَيَمَّمَ للباقي؟ وإذا كان مرضُه هذا مُزْمِنًا: فهل يُعتبَرُ فاقدًا للعُضوِ فيُؤمَرُ بالوضوء مع إسقاطِ العضو؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فإنَّه إذا لم يَستطِعْ مَنْ به جرحٌ أو قرحٌ استعمالَ الماءِ أو خاف ـ باستعماله ـ فواتَ منفعةِ عضوٍ أو تأخُّرَ بُرْئِه، وعُلِمَ ذلك إمَّا بالتجربة أو العادةِ أو بإخبارِ طبيبٍ عارفٍ؛ فالواجبُ تركُ غَسْلِ ما لا يقدر على غَسْلِه ويعدل إلى التيمُّم؛ لأنَّ كُلَّ ما عَجَزَ عنه المكلَّفُ ساقطٌ عنه بنصِّ الآية: ﴿لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَا﴾ [البقرة: ٢٨٦]، وبالحديث المتَّفَقِ عليه: «وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»(١)؛ فالنصُّ يدلُّ على العفو عن كُلِّ ما خَرَجَ عن الطاقة.
وقد استُدِلَّ بهذا النصِّ ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ على أنَّ ما دَخَلَ تحت الاستطاعةِ ففرضُه العملُ؛ وعليه فلا يكون مجرَّدُ خروجِ بعضِه عن الاستطاعة مُوجِبًا للعفو عن جميعِه؛ لأنَّ: «المَيْسُورَ لَا يَسْقُطُ بِالمَعْسُورِ»، و«مُعْظَمَ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَ كُلِّهِ»، و«الأَقَلَّ يَتْبَعُ الأَكْثَرَ» في كثيرٍ مِنَ الأحكام، خصوصًا فيما يُحتاطُ فيه.
ومِنْ مُنْطلَقِ هذه القواعد ذَهَبَ بعضُ أهل العلم إلى أنَّ الجُنُبَ إذا أُصِيبَ بجراحةٍ على رأسه وأكثرُ أعضائه سليمٌ؛ فإنَّه يَدَعُ غَسْلَ الرأسِ ويغسل أعضاءَه الأخرى ويمسح موضعَ الجراحة؛ عملًا بحديثِ جابر بنِ عبد الله رضي الله عنهما في الرجل الذي شُجَّ فاغتسل فمات؛ فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَيَعْصِرَ أَوْ يَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا، وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ»(٢)، وبما ثَبَتَ عن ابنِ عمر رضي الله عنهما أنَّه «تَوَضَّأَ وَكَفُّهُ مَعْصُوبَةٌ؛ فَمَسَحَ عَلَى العَصَائِبِ، وَغَسَلَ سِوَى ذَلِكَ»(٣)، مدَعِّمين جوازَ المسح على الجبيرة بالقياس على المسح على العمامة والخُفَّين؛ تقويةً للنصِّ بالقياس(٤).
وفي تقديري: أنَّ هذا الرأيَ مُعتبَرٌ لو صَحَّ الشطرُ الثاني مِنَ الحديث، وهو قولُه: «أَوْ يَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ…»، وهو ـ عند أهل الاختصاص ـ زيادةٌ ضعيفةٌ لا تصلح للاحتجاج، وإِنْ وَرَدَ في المسح على الجبيرة أحاديثُ أخرى، إلَّا أنها لا يصحُّ تقويةُ الحكم بها لشِدَّةِ ضعفِها، ولم يَثْبُتْ مِنَ الحديث سوى الشطرِ الأوَّل منه.
وأمَّا أثرُ ابنِ عمر رضي الله عنهما فهو فعلُ صحابيٍّ لا حُجَّةَ فيه تُوجِبُ العملَ به؛ لمخالَفةِ غيرِه مِنَ الصحابةِ له فيه: كابنِ عبَّاسٍ وعمرِو بنِ العاص رضي الله عنهم، والواجبُ ـ عند اختلاف الصحابة فيما بينهم ـ التخيُّرُ مِنْ أقوالِهِم بحَسَبِ الدليل ـ على أَظْهَرِ الأقوال ـ؛ قال ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ: «وأمَّا أقوالُ الصحابة فإِنِ انتشرَتْ ولم تُنْكَرْ في زمانهم فهي حُجَّةٌ عند جماهير العلماء، وإِنْ تَنازَعوا رُدَّ ما تَنازَعوا فيه إلى الله والرسول، ولم يكن قولُ بعضِهم حُجَّةً مع مخالَفةِ بعضِهم له باتِّفاقِ العلماء»(٥).
وأمَّا الاستدلالُ بالقياس على المسح على العمامة والخُفَّين كأصلٍ في إثبات العبادات فإنَّه ـ على رأيِ مَنْ لا يُجيزُ القولَ بالقياس في العباداتِ ـ ظاهرٌ في عدمِ الاحتجاج به، وأمَّا مَنْ يحتجُّ بالقياسِ في العباداتِ ويُثْبِتُه في كُلِّ ما جاز إثباتُه بالنصِّ ـ إِذِ القياسُ الصحيحُ دائرٌ مع أوامرِ الشريعة ونواهيها وجودًا وعَدَمًا، و«لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يُخَالِفُ القِيَاسَ»(٦) ـ فإنَّ إجراءَ القياس ـ في هذه المسألة ـ مُتعذِّرٌ مِنْ عِدَّةِ جوانبَ:
الأوَّل: أنَّ القياس فرعُ تعقُّلِ المعنى المعلَّلِ به الحكمُ في الأصل؛ فيَتعذَّرُ البناءُ لعدمِ تعقُّلِ معنى الأصل.
والثاني: أنَّ الأصل المَقيسَ عليه رخصةٌ، أي: منحةٌ مِنَ الله؛ فلا يُتعدَّى فيها مَوْردُها إلى غيرِ مَحَلِّها، و«القِيَاسُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَعْدِيَةِ العِلَّةِ».
وثالثُها: أنَّه ـ وإِنْ سُلِّمَ بأنَّ هذا القياسَ صحيحٌ ـ إلَّا أنَّه مُعارَضٌ بتعيُّنِ الجمع بين الوضوء والتيمُّم؛ توفيقًا بين الروايتين جميعًا، ولا يخفى أنَّ «القِيَاسَ فَاسِدُ الاعْتِبَارِ إِذَا مَا عَارَضَهُ نَصٌّ صَحِيحٌ أَوْ إِجْمَاعٌ مَوْثُوقٌ».
هذا، ولا يُعطى ما لا يُقْدَرُ على غَسْلِه حُكْمَ المعدومِ وَفْقَ «قاعدة التقديرات»؛ لأنَّه إنما يُحتاج إليها إذا دَلَّ دليلٌ على ثبوت الحكم مع عدمِ سببه أو شرطِه أو قيامِ مانعِه، وإذا لم تَدْعُ الضرورةُ إليها فلا يجوز التقديرُ ـ حينئذٍ ـ لأنَّه خلافُ الأصل، كذا قرَّره القرافيُّ ـ رحمه الله ـ في «فروقِه»(٧)؛ ذلك لأنَّ قاعدةَ: «إِعْطَاءِ المَوْجُودِ حُكْمَ المَعْدُومِ وَالمَعْدُومِ حُكْمَ المَوْجُودِ» ليسَتْ مِنْ قواعدِ أصول الخلاف، بل تُذكَرُ جمعًا للنظائر الداخلةِ تحت هذا الأصل. ولا يخفى عدمُ ورودِ دليلٍ يُعطي بعضَ الأعضاءِ حُكْمَ المعدومِ في الوضوء، بل في الحديثِ السابقِ ما يَدُلُّ على العدول إلى التيمُّم عند تعذُّرِ استعمال الماء، فضلًا عن أنَّ الغاسل لبعضِ الأعضاء دون الأخرى لا يُسمَّى ـ في عُرْفِ الشرع ـ متوضِّئًا، ولا يَصْدُقُ عليه أنَّه أتى بما أَمَره اللهُ تعالى مِنَ الوضوء؛ لذلك وَجَب المصيرُ إلى البدل الذي جَعَله الشارعُ عِوَضًا عن الوضوء عند تَعذُّرِ استعمالِ بعضِ أعضاء الوضوء.
كما لا يخفى ـ أيضًا ـ أنَّ ما دَخَلَ تحت استطاعتِه مِنَ المأمورِ به وَجَبَ الإتيانُ به، أي: وجوب استعمالِ الماء الذي يكفي لبعض الطهارة؛ ذلك لأنَّه ليس مجرَّدُ خروجِ بعضِه عن الاستطاعةِ مُوجِبًا للعفو عن جميعِه؛ عملًا بقوله تعالى: ﴿فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ﴾ [التغابن: ١٦]، وبما وَرَدَ مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه المتقدِّم: «وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»(٨)؛ إذ فيهما دليلٌ على العفو عن كُلِّ ما خَرَجَ عن الطاقة، ووجوبِ استعمالِ ما يكفي بعضَ طهارتِه، مع التيمُّم للباقي.
وقد وَرَدَ في بعضِ ألفاظِ حديثِ عمرِو بنِ العاص رضي الله عنه: «فَغَسَلَ مَغَابِنَهُ وَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ»، فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَلَمْ يَذْكُرِ التَّيَمُّمَ، قال أبو داود: «وروى هذه القصَّةَ الأوزاعيُّ عن حسَّانَ بنِ عطيَّة، قال فيه: «فتَيمَّمَ»»(٩).
قال الشوكانيُّ ـ رحمه الله ـ: «ورجَّح الحاكمُ إحدى الروايتين، وقال البيهقيُّ: يُحتمَلُ أَنْ يكون فَعَلَ ما في الروايتين جميعًا، فيكونُ قد غَسَلَ ما أَمْكَنه وتَيمَّمَ للباقي، وله شاهدٌ مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ ومِنْ حديثِ أبي أُمامةَ عند الطبرانيِّ»(١٠). وأَيَّد النوويُّ ـ رحمه الله ـ هذا الجمعَ بين الوضوء والتيمُّم فقال: «وهذا الذي قاله البيهقيُّ متعيِّنٌ»(١١). وجاء في «المغني»: «وإذا كان به قرحٌ أو مرضٌ مَخُوفٌ وأَجْنَبَ فخَشِيَ على نَفْسِه إِنْ أصابه الماءُ؛ غَسَلَ الصحيحَ مِنْ جسدِه وتَيمَّمَ لِمَا لم يُصِبْه الماءُ»(١٢).
ويرى شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ أنَّ الجريح إذا كان مُحْدِثًا حَدَثًا أَصْغَرَ يصحُّ أَنْ يَتيمَّمَ بعد كمالِ الوضوء، ثمَّ قال: «بل هذا هو السُّنَّةُ»(١٣).
ومثلُ هذا الجمعِ ينعكس معناهُ على قاعدةِ: «المَيْسُورُ لَا يَسْقُطُ بِالمَعْسُورِ».
هذا، واستعمالُ التيمُّمِ غيرُ مُقدَّرٍ بوقتٍ مُعيَّنٍ، بل هو مشروعٌ وإِنْ تَطاوَلَ العهدُ؛ لحديثِ أبي ذرٍّ الغِفاريِّ رضي الله عنه مرفوعًا: «إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ المُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ المَاءَ عَشْرَ سِنِينَ»(١٤).
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ٠٩ شوَّال ١٤١٧ﻫ
الموافق ﻟ: ١٦ فيفري ١٩٩٧م

(١) هو جزءٌ مِنْ حديثٍ مُتَّفَقٍ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الاعتصام بالكتاب والسنَّة» باب الاقتداء بسنن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم (٧٢٨٨)، ومسلمٌ في «الحجِّ» (١٣٣٧)، مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢) أخرجه أبو داود في «الطهارة» بابٌ [في] المجروح يتيمَّم (٣٣٦) مِنْ حديثِ جابر بنِ عبد الله رضي الله عنهما. وأخرجه أبو داود (٣٣٧)، وابنُ ماجه في «الطهارة» بابٌ في المجروح تصيبه الجنابةُ فيخاف على نفسِه إِنِ اغتسل (٥٧٢)، مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما. والزيادةُ الواردةُ مِنْ حديثِ جابر بنِ عبد الله رضي الله عنهما ضعيفةٌ؛ لتفرُّدِ الزبير بنِ خُرَيْقٍ بها؛ لذلك ضعَّفه البيهقيُّ وابنُ حجرٍ وغيرُهما، قال الألبانيُّ في «تمام المِنَّة» (١٣١): «لكِنْ له شاهدٌ مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ يرتقي به إلى درجة الحسن، لكِنْ ليس فيه قولُه: «ويعصر … إلخ» فهي زيادةٌ ضعيفةٌ مُنْكَرةٌ»، وانظر: «التلخيص الحبير» لابن حجر (١/ ٢٦٠)، تخريج «شرح السنَّة» للأرناؤوط (٢/ ١٢١).
(٣) أخرجه البيهقيُّ في «السنن الكبرى» (١٠٨١).
(٤) انظر: «سُبُل السلام» للصنعاني (١/ ٢٠٤).
(٥) «الفتاوى الكبرى» (٥/ ٧٩) و«مجموع الفتاوى» (٢٠/ ١٤) كلاهما لابن تيمية.
(٦) انظر: «الفتاوى الكبرى» (١/ ١٥٨) و«مجموع الفتاوى» (١٩/ ٢٨٩) كلاهما لابن تيمية، «إعلام الموقِّعين» لابن القيِّم (٢/ ٧١).
(٧) انظر: «الفرق (١٠٨)» مِنَ «الفروق» للقرافي (٢/ ١٩٩ ـ ٢٠٣).
(٨) سبق تخريجه، انظر: (الهامش ١).
(٩) الحديث أخرجه أبو داود في «الطهارة» باب: إذا خاف الجُنُبُ البردَ: أيتيمَّم؟ (٣٣٥). وصحَّحه النوويُّ في «الخلاصة» (١/ ٢١٦)، وقوَّاهُ ابنُ حجرٍ في «فتح الباري» (١/ ٤٥٤)، وصحَّحه الألبانيُّ في «الإرواء» (١/ ١٨٢) وفي «صحيح أبي داود» (٣٦٢).
(١٠) «نيل الأوطار» للشوكاني (١/ ٣٨٧).
(١١) «الخلاصة» (١/ ٢١٦) و«المجموع» (٢/ ٢٨٣) كلاهما للنووي، وانظر: «فتح الباري» لابن حجر (١/ ٤٥٤).
(١٢) «المغني» لابن قدامة (١/ ٢٥٧).
(١٣) «الفتاوى الكبرى» لابن تيمية (٥/ ٣١٠)، «الاختيارات الفقهية لابن تيمية» للبعلي (٢١).
(١٤) أخرجه أبو داود في «الطهارة» باب الجُنُب يتيمَّم (٣٣٢، ٣٣٣)، والترمذيُّ في «الطهارة» باب التيمُّم للجُنُب إذا لم يجد الماءَ (١٢٤)، والنسائيُّ في «الطهارة» باب الصلوات بتيمُّمٍ واحدٍ (٣٢٢)، مِنْ حديثِ أبي ذرٍّ الغِفاريِّ رضي الله عنه. قال ابنُ حجرٍ في «فتح الباري» (١/ ٤٤٦): «وصحَّحه الترمذيُّ وابنُ حِبَّان والدارقطنيُّ»، وصحَّحه كذلك الألبانيُّ في «الإرواء» (١/ ١٨١) رقم: (١٥٣).

وافي طيب
2018-03-13, 12:18
في حكم البيع بالتقسيط

السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فضيلةَ الشيخ، نحن عمَّال شركةٍ وطنيةٍ تمَّ تعاقدُها مع شركة (طيوطا) لبيع السيَّارات، على أن تتمَّ عملية البيع كما يلي: يدفع العامل القسطَ الأوَّل والمقدَّر ﺑ: (٢٥) مليونًا أو (٣٠) مليونًا من ثمن السيارات لشركة (طيوطا)، على أن يتمَّ دفعُ المبلغ المتبقِّي من ثمن البيع بدفعاتٍ شهريةٍ لمدَّة (٥) سنواتٍ، علمًا أنَّ ثمن البيع معلومٌ من قِبل العامل عند تعاقُده مع الشركة، وهو يفوق ثمنَ السيَّارة الحقيقيَّ في السوق، أي: أنَّ عملية الدفع بأقساطٍ تزيد مِن ثمن السيَّارة الحقيقيِّ، غير أنَّ هذا المبلغ يكون معلومًا من قبل المشتري. فما حكم ذلك وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمَّا بعد:
فاعلم أنَّ بيع التقسيط له ثلاث حالاتٍ:
- فإن اتَّفق المتبايعان على ثمنٍ واحدٍ يُدفع على أقساطٍ دوريةٍ فجائزٌ باتِّفاقٍ.
- وإن كان على أساسِ أنه ثمنان: ثمن الحال وثمن الآجل، فهذا محلُّ خلافٍ وما عليه أكثر العلماء جوازُه وبهذا أفتَتْ هيئةُ كبار العلماء.
- والحالة الثالثة: أن يكون على أساس بيع المرابحة، أي: يشتري له سيَّارةً ثمَّ يبيعها له بأقساطٍ يدفعها تدريجيًّا إلى أن ينتهيَ الأجل فهذا -في حقيقة الأمر- عبارةٌ عن قرضٍ ربويٍّ في صورةِ بيعٍ، والبنوك على هذا التصرُّف من القروض المقنَّعة بالبيع تتعامل مع زبائنها، وبيعُ المرابحة البنكيُّ أسوأ حالاً من بيع المرابحة الفقهيِّ الذي لم يُجِزْه الجمهورُ لعدم انتقال الملكية في البيع أوَّلاً، ولإجبار المشتري على التأمين على كلِّ الأخطار كشرطٍ في أصل المعاملة، فضلاً عمَّا تقدَّم مِن أنه ليس بيعًا حقيقيًّا لعدم حاجة البنك ابتداءً لِما يحتاجه المشتري، وإنما غرضُ البنك في الفوائد الربوية المعطاة بقرض محلًّى بالبيع.
وعليه، إذا كانت هذه الشركة تتعامل بنفس أسلوب البنك فذلك غير جائزٍ شرعًا، أمَّا على الصورة الأولى والثانية فظاهرُهما الجواز.
والله أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وآله وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١١ جمادى الثانية ١٤٢٦ﻫ
الموافق ﻟ: ١٧ جويلية ٢٠٠٥م

وافي طيب
2018-03-15, 14:27
الفتوى رقم: ٤٤٤

الصنف: فتاوى متنوِّعة في حكم اللعب بالدومينو والشطرنج والدامَّة

السؤال:

هل يجوز اللعبُ بالدومينو والشطرنج والدامَّة؟ وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فلا خِلافَ في حُرْمةِ الدامَّة والدومينو والشطرنج إذا كان اللعبُ بها بعوضٍ ماليٍّ، أو تَرتَّبَ عليها تركُ واجبٍ تُجاهَ ربِّه كتأخير الصلاة عن وقتها، أو تُجاهَ غيره ممَّا تَتوقَّفُ عليه مصالحُ عيالِه وذويه، أو كان اللعبُ بها ممَّا تَضمَّنَ زورًا مِنَ القول أو فحشًا أو كذبًا أو كلامًا بذيئًا ونحوَ ذلك؛ فإنَّ هذا محرَّمٌ باتِّفاقِ أهل العلم.

أمَّا إِنْ خَلَا مِنْ ذلك فإنَّ «الأَصْلَ فِي العَادَاتِ وَالأَشْيَاءِ وَالأَفْعَالِ أَنَّهَا عَلَى الجَوَازِ وَالإِبَاحَةِ»؛ لعدَمِ ورودِ أيِّ نصٍّ على تحريمها ولا قياسٍ صحيحٍ يُعَوَّلُ عليه في مَنْعِها، وقد صحَّ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قولُه: «الحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَالحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ»(١)، والقولُ بالإباحة هو مذهبُ الشافعية(٢)، وقد نُقِل عن الإمام الشعبيِّ ـ*رحمه الله*ـ أنه كان يلعب بالشطرنج(٣)، أمَّا ما عليه جمهورُ الحنفية والمالكية والحنابلة فهو القولُ بالتحريم، وبهذا أفتَتِ اللجنةُ الدائمة(٤)، وما اعتمدوه مِنْ أحاديثَ نبويةٍ لم يصحَّ منها شيءٌ كحديثِ: «مَلْعُونٌ مَنْ لَعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ، وَالنَّاظِرُ إِلَيْهَا كَالآكِلِ لَحْمَ الخِنْزِيرِ»(٥)، أمَّا أثرُ عليٍّ رضي الله عنه أنه مرَّ على قومٍ يلعبون بالشطرنج فقال: «مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ»(٦)فعلى تقديرِ صحَّتِه فليس فيه حجَّةٌ، خاصَّةً وأنَّ الحديثَ لم يظهر فيه وجهُ الإنكار؛ لاحتمالِ أنه كان يسألهم عن شيءٍ لم يعرفه مِنْ قبلُ، أو أنه أَنْكَرَ عليهم العكوفَ عليها وطُولَ المكث باللعب؛ الأمرُ الذي يُفْضي إلى تعطيلِ المصالحِ والالتزاماتِ والواجبات، وإذا كان بهذا الاعتبار فإنه قد تَقدَّمَ في تحريرِ مَحَلِّ النزاع ممنوعيَّتُه، وأمَّا قياسُه على النرد فهو قياسٌ مع ظهور الفارق؛ لأنَّ النرد كالأزلام قائمٌ على المصادَفة والحظِّ، بخلافِ الدامَّة والشطرنج والدومينو فهي أَشْبَهُ بالمسابَقات القائمةِ على الحذق والتدبير.

هذا، وأخيرًا فإنه ـ*بغضِّ النظر عن حكمِ هذه الألعابِ إِنْ خَلَتْ مِنَ المحاذير الشرعية المتقدِّمة*ـ إلَّا أنَّ الأحوط للدِّين تركُها والاهتمامُ بما يُفيدُ العبدَ في دُنياهُ وأُخْراهُ: كتلاوة القرآن الكريم وحِفْظِه، والعلمِ بأحكامه وآدابِه، والعملِ بمقتضاه؛ فإنَّ العناية به ممَّا يُحْيِي القلوبَ ويُنيرُ الصدورَ ويُذْهِبُ الهمومَ والأحزان.

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٧ جمادى الأولى ١٤٢٧ﻫ
المـوافق ﻟ: ٣ جـوان ٢٠٠٦م

* ___________ من تطبيق آثار العلامة محمد علي #فركوس للتحميل على الأندرويد https://goo.gl/CnfonF ______________

(١) أخرجه الترمذيُّ في «اللباس» بابُ ما جاء في لُبْسِ الفِرَاء (١٧٢٦)، وابنُ ماجه في «الأطعمة» بابُ أكلِ الجبن والسمن (٣٣٦٧)، مِنْ حديثِ سلمان رضي الله عنه. وحسَّنه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٣١٩٥).

(٢) انظر: «مغني المحتاج» للشربيني (٤/ ٤١٢)، «نهاية المحتاج» للرملي (٨/ ١٦٥)، «الحاوي» للماوردي (١٧/ ١٨٧).

(٣) أخرجه البيهقيُّ في «سننه الكبرى» (٢٠٩٢٤).

(٤) انظر: «فتاوى اللجنة الدائمة» (١٥/ ٢٠٧).

(٥) أخرجه الديلميُّ (٤/ ٦٣) مِنْ حديث أنسٍ رضي الله عنه. قال السخاويُّ في «المقاصد الحسنة» (٥٠٠): «قال النوويُّ: «لا يصحُّ»، وهو كذلك، بل لم يَثْبُتْ مِنَ المرفوع في هذا البابِ شيءٌ»، وقال الشوكانيُّ في «الفوائد المجموعة» (٢٠٧): «لا يصحُّ»، وقال الألبانيُّ في «ضعيف الجامع» (٥٢٧٧): «موضوعٌ»، وانظر: «السلسلة الضعيفة» (١١٤٥).

(٦) أخرجه البيهقيُّ في «سننه الكبرى» (٢٠٩٣٠) وفي «شُعَب الإيمان» (٦٠٩٧) عن الأصبغ بنِ نباتة عن عليٍّ رضي الله عنه. وأخرجه في «سننه» (٢٠٩٢٩) مِنْ طريقِ مَيْسَرة بنِ حبيبٍ عن عليٍّ رضي الله عنه. والحديث صحَّحه ابنُ حزمٍ في «المحلَّى» (٩/ ٦٣)، وقال عنه ابنُ تيمية في «مجموع الفتاوى» (٣٢/ ٢٤٢): «ثابتٌ»، وصحَّحه ابنُ القيِّم في «الفروسية» (٣١٠)، وضعَّفه الألبانيُّ في «إرواء الغليل» (٨/ ٢٨٨) رقم: (٢٦٧٢).

وافي طيب
2018-03-16, 16:05
الفتوى رقم: ١٧٤
الصنف: فتاوى الأسرة - عقد الزواج - الحقوق الزوجية - الحقوق المنفردة
في تأثير الوَحَمِ على طِبَاعِ المرأة الحامل


السؤال:
هل الوَحَمُ عند النِّساءِ حقيقةٌ أم مجرَّدُ خيالٍ ووَهْمٍ؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالوَحَمُ معروفٌ في اللُّغةِ وهو ما تَشْتَهِيهِ المرأةُ الحاملُ كما ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الصحاح» وصاحِبُ «النهاية» وصاحِبُ «مقاييس اللغة»(١) وغيرُهم.
لكنَّ المعنى الذي يُصوِّرُه الناسُ لنا اليومَ: أنَّ المرأةَ الحاملَ المُشْتَهِيَةَ لشيءٍ إذا لم يُلَبَّ طَلَبُها وتُسَدَّ شهوتُها فإنَّ المولودَ يخرج مِن جَسَدِه صورةُ الشيءِ المشتهى، لا أَعْلَمُ له أصلًا في الشرعِ ولا شيئًا عن حقيقةِ هذه الصورةِ المُعْطاةِ أو عن مدى صحَّته بخبرٍ منقولٍ، وإنَّما هو معروفٌ على ألسنةِ النساء؛ إذ لو كان معروفًا لَكان معلومًا في الدِّين ولَبَيَّنَهُ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بيانًا عامًّا شافيًا ينقطع معه العُذْرُ؛ لأنَّ الحاجةَ تدعو إليه وتعمُّ به البلوى، وكُلُّ ما كان فيه مَفْسدةٌ على العباد فالنبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم قد حذَّرَنا منه وبيَّن ذلك تمامَ البيانِ؛ فقَدْ بَلَّغَ الرسالةَ وأدَّى الأمانةَ، وقد قال تعالى: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ﴾ [المائدة: ٣]، وقد شَهِدَتْ له الأُمَّةُ على أنَّه بَلَّغ الرسالةَ وأدَّى الأمانةَ على أتمِّ وجهٍ لَمَّا قال: «أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟» قَالُوا: «نَعَمْ»، قَالَ: «أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟» قَالُوا: «نَعَمْ»، قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ؛ فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ»(٢).
هذا، ولعلَّ المرأةَ تحتاج في تلك الفترةِ إلى شيءٍ مِن الرعاية والحنان، والقيامِ بما تَشْتَهِيهِ، وعلى الزوجِ أَنْ يُراعِيَ حالَها ويُحْسِن مُعامَلتَها، ويتجنَّب إذايةَ جنينِها بإذايتها، ويحتسبَ ذلك أجرًا عند الله، واللهُ سبحانه وتعالى خيرُ كفيلٍ بالثواب.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ٢٢ رجب ١٤٢٦ﻫ
الموافق ﻟ: ١٧ أوت ٢٠٠٥م

(١) انظر: «الصحاح» للجوهري (٥/ ٢٠٤٩)، «النهاية» لابن الأثير (٥/ ١٦٢)، «مقاييس اللغة» لابن فارس (٦/ ٩٣).
(٢) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الحجِّ» بابُ الخُطْبة أيَّامَ مِنًى (١٧٤١)، ومسلمٌ في «القَسامة» (١٦٧٩)، مِن حديث أبي بكرة رضي الله عنه.

خالد نظمي
2018-03-16, 19:27
جزاك الله كل خير اخي العزيز

وافي طيب
2018-03-17, 13:49
جزاك الله كل خير اخي العزيز

آمين
بارك الله فيك

وافي طيب
2018-03-17, 13:51
الفتوى رقم: ٢٣٤

الصنف: فتاوى منهجية نصيحة لملتزم في وسط عائلي منحرف

السـؤال:

فضيلة الشيخ لي مشاكلُ مع والدي، أريد أن أطبق كتاب الله وسُنَّة رسوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم ولكن أهلي منعوني من ذلك، ولا أدري ما العمل، فما هي نصيحتكم لي؟

الجـواب:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:

فالالتزامُ بشعائر الإسلام والتمسُّكُ بأخلاقِه والاعتصامُ بالكتابِ والسُّنَّة يقتضي وجوبًا الصبر واحتمال الأَذَى في ذات الله ذلك الأذى الذي يواجهه من أقرب الناس إليه نسبًا، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: ٢٠٠]، لذلك كان النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم مع ما يلاقيه من أبناء عشيرته من أنواع الظلم والتعدِّي وكان صبورًا حليمًا يواجه المصائب بحكمة ويتبرَّأ من أعمالهم ويسأل الله هدايتهم، قال تعالى: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [الشعراء: ٢١٤-٢١٥-٢١٦]، ومن خلال مكابدته لأنواع الظلم كتب الله له الفوز والنصر بسببه وقد جاء ذلك مصداقًا لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «اعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا»(١).

ثمّ إنّ مصاحبتَكَ للوالدين مأمور بها شرعًا ولو كانَا مشركين، لكن طاعتهما إنّما تكون في المعروف لا في المعصية لقوله تعالى: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [لقمان: ١٥]، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ»(٢)، وإذا أمرك والدُك بما يزيل الهدي الظاهري من لحية وقميص وغير ذلك ويتوعَّد بإخراجك من البيت فالواجب أن لا تخرج وأن تبقى وتصبر على ذلك الهدي ولو أوجعك ضربًا لِمَا هو معهودٌ في السيرة النبوية مع أصحاب النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم مع ما كانوا يلاقونه من التعذيب لكنّهم صبروا على ذلك، والعجب لا ينقطع في امرأة من جملة عموم النسوة في عائلة محافظة -زعموا- تأبى إلاَّ أن تخرج بغير ضوابطَ شرعيةٍ وتصبر على الأذى الذي يصيبها من قبل الوالدين في سبيل الشيطان، وتبقى مُصرَّةً على ذلك حتى يلين قلب الوالدين ويصبح المنكر معروفًا في حقِّها، فلا يقع عليها لومٌ ولا عِتَابٌ ولا عقاب في خروجها ودخولها في عملها وتبرّجها وفي كافّة أعمالها بل يصبح والدها مطيعًا لها، وإذا كان الأمر كذلك أفما يحقُّ لِمُلْتَزِمٍ أن يجاهد في سبيل الله ويصيِّر المنكر معروفًا ولا ينال نصيبه من جهاده؟! هذا وقد قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: ٦٩]، فإذا كان الجواب على الإثبات فما عليك إلاّ أن تبذل ما يسعك من أجل الفوز والنصر الذي وعد به المُتَّقون، فالنصر مع الصبر، فهو بضاعة الصديقين وشعار الصالحين قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»(٣).

فعليك أن تتحمَّل وتَحْتَسِبَ ولا تشكو ولا تتسخَّط، ولا تدفع السيئةَ بالسيئة، وإنّما ادفع السيئةَ بالحسنة ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ [لقمان: ١٧].

والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا. ___________ من تطبيق آثار العلامة محمد علي #فركوس للتحميل على الأندرويد https://goo.gl/CnfonF ______________

(١) أخرجه الخطيب في «التاريخ»: (١٠/ ٢٨٧)، والديلمي: (٤/ ١١١-١١٢)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وأخرجه أحمد: (٢٨٥٧)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. انظر: «السلسلة الصحيحة»: (٢٣٨٢).

(٢) أخرجه البخاري في «الأحكام»، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية: (٦٧٢٧)، ومسلم في «الإمارة»، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية: (٤٧٦٥)، وأبو داود في «الجهاد»، باب في الطاعة: (٢٦٢٥)، والنسائي في «البيعة»، باب جزاء من أمر بمعصية فأطاع: (٤٢٠٥)، وأحمد في «مسنده»: (٦٢٣)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

(٣) أخرجه مسلم في «الرقاق»: (٧٦٩٢)، وأحمد: (١٩٤٤٨)، من حديث صهيب بن سنان رضي الله عنه.

وافي طيب
2018-03-26, 22:59
الفتوى رقم: ١٩

الصنف: فتاوى العقيدة - التوحيد وما يُضادُّه - الألوهية والعبادة نصيحةٌ لمَنْ وَقَع في بعض الشركيات

السؤال:

بعضُ الإخوةِ لهم مشاكلُ مع أهليهم مِنَ الآباء والأمَّهات والأعمام والعمَّات وغيرِهم مِنَ الأولياء، مِنْ ناحيةِ أنهم يَقَعون في الشركِ الأكبر مِنْ: دعاءِ غيرِ الله، والاستغاثةِ بغيره، والتوكُّلِ على غيره، وسبِّ الله تعالى وسبِّ دِينه ونحوِ ذلك، ولا يقبلون منهم النصيحةَ، فبِمَ تنصحهم؟ علمًا أنه قد وَقَع ـ*جرَّاءَ ذلك*ـ فتنةٌ عظيمةٌ بين هؤلاءِ الإخوةِ وأهاليهم. وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فالمشرك شركًا أكبرَ يَستحِقُّ البغضَ في الله والبراءَ المُطْلَقَ الذي لا محبَّةَ فيه ولا موالاةَ؛ لأنَّ عقيدةَ الولاءِ والبراءِ أوثقُ عُرَى الإيمان، وهي الصِّلَةُ التي على أساسها يقوم المجتمعُ المسلم، وهي لازمٌ مِنْ لوازم الشهادة وشرطٌ مِنْ شروطها، قال تعالى: ﴿لَّا تَجِدُ قَوۡمٗا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ يُوَآدُّونَ مَنۡ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَآءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِيرَتَهُمۡ﴾ [المجادلة: ٢٢]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»(١)، وقد أَمَر اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أَنْ يتبرَّأ مِنْ أفعالِ عشيرته وصنيعهم إِنْ خالفوا أَمْرَه فقال تعالى: ﴿وَأَنذِرۡ عَشِيرَتَكَ ٱلۡأَقۡرَبِينَ ٢١٤ وَٱخۡفِضۡ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٢١٥ فَإِنۡ عَصَوۡكَ فَقُلۡ إِنِّي بَرِيٓءٞ مِّمَّا تَعۡمَلُونَ ٢١٦﴾ [الشُّعَراء].

غير أنَّ التبرُّؤ مِنْ أفعالهم القبيحة لا يعني الإساءةَ لهم بالأقوال والأفعال، وإنما الواجبُ على المسلم تُجاهَ ذويه وآبائه وأقاربه أَنْ يدعوَهم إلى اللهِ تعالى بالحسنى؛ لقوله تعالى: ﴿فَذَكِّرۡ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكۡرَىٰ ٩﴾ [الأعلى]، وأَنْ يَبَرَّ أبويه ولو كانا مُشرِكَيْنِ، ولا يُفارِقَهما، بل يُصاحِبُهما في الدنيا بالمعروف؛ لظاهرِ ما نصَّتْ عليه الآيةُ في قوله تعالى: ﴿وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ وَصَاحِبۡهُمَا فِي ٱلدُّنۡيَا مَعۡرُوفٗا﴾ [لقمان: ١٥]، وحكمُ الأقارب كحكم الأبوين في ذلك: فيجب ـ*في حقِّهم*ـ الصِّلَةُ والنفقةُ والإحسان؛ لعمومِ قوله تعالى: ﴿وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗا وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡجَارِ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ﴾ [النساء: ٣٦]، ولا ينبغي أَنْ يبلغ الإحسانُ إليهم حدَّ النصرةِ للكفر وأهلِه والتأييدِ لهم، وخاصَّةً إذا كانوا مُحارِبين للدِّين؛ فإنَّ هذا محرَّمٌ ـ*شرعًا*ـ قد يَصِلُ إلى حدِّ الكفر بالله تعالى، قال سبحانه: ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡ﴾ [المائدة: ٥١]، وعليه أَنْ يَتَّخِذَ ـ*في دعوته لهم ـ أسلوبَ اللين، وأَنْ يبتعد عن الغلظة في الدعوة والشدَّةِ المنفِّرة؛ لقوله تعالى: ﴿ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ﴾ [النحل: ١٢٥]؛ فإنَّ هذا الأسلوبَ الدعويَّ المُنتهَجَ مِنْ أهمِّ أسبابِ انتفاعِ عوامِّ الناس بدعوةِ الدُّعَاة وبإرشادهم وتوجيهاتِهم، وقَدْ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ»(٢).

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٢٦ رجب ١٤٢٤ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٠ أوت ٢٠٠٢م

*


(١) أخرجه البخاريُّ في «الإيمان» باب: حبُّ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم مِنَ الإيمان (١٥)، ومسلمٌ في «الإيمان» (٤٤)، مِنْ حديثِ أنسٍ رضي الله عنه.

(٢) أخرجه البخاريُّ في «الجهاد» بابُ فضلِ مَنْ أسلم على يدَيْه رجلٌ (٣٠٠٩)، ومسلمٌ في «فضائل الصحابة» (٢٤٠٦)، مِنْ حديثِ سهل بنِ سعدٍ رضي الله عنهما.

وافي طيب
2018-03-28, 23:34
الفتوى رقم: ٢٥٨

الصنف: فتاوى منهجية في التعامل مع إمام مبتدع

السـؤال:

في مسجد حَيِّنَا إمامٌ مبتدع، كيف نتعامل معه؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا.

الجـواب:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:

أمّا التعاملُ مع أهل البِدْعَةِ فيختلف المقامُ باختلاف حال الضعف وحال القوة، وبين المُسْتَتِرِ ببدعته والمظهر لها الداعي إليها، أمّا في حالة الضعف وظهور أهل البدعة فالواجب أن يداريهم ويصبرَ عليهم، ولا يبدي لهم مواقف قد تشجِّعهم على الاستبداد وقهر أهل السُّنَّة وإبعادهم من المسجد وتطويق نشاطهم، مع القيام بالواجب اتجاه أهل البدع ببيان حالهم والتحذير منهم وإظهار السُّنَّة وتعريف المسلمين بها، أمّا إذا كان أهل السُّنَّة لهم الشوكة والقوَّة فينبغي قمع البدع بما يوجبه الشرعُ من ضوابطَ بالغِلظة والشِّدَّة والهجر -إن اقتضى المقام ذلك- حتى يعودوا إلى السَّدَاد وهو مقتضى أوامر الشرع ونواهيه، ولَمَّا كان السالكون لطريقها مؤيّدون، فمقتضى تعاليم السيرة النبوية تدفعنا إلى أن نسلك معهم سبيل المداراة من غير مداهنة، مع القيام بواجب البيان والتحذير.

أمّا المستتر ببدعته فَنَكِلُ سريرتَه إلى الله تعالى كذا كان يعامل النبي صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم وصحبه المنافقين في زمانه وزمن الصحابة الكرام.

والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.

وافي طيب
2018-04-01, 21:25
الفتوى رقم: ٢٢

الصنف: فتاوى العقيدة - التوحيد وما يُضادُّه - الأسماء والصفات في تفسير المَلال
وحُكْمِه على الله تعالى

السؤال:

ما معنى حديثِ: «إِنَّ اللهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا»؟ وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:

فهذا الحديثُ ثابتٌ مِن روايةِ عائشةَ رضي الله عنها قالت: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي امْرَأَةٌ حَسَنَةُ الْهَيْئَةِ فَقَالَ: «مَنْ هَذِهِ؟» فَقُلْتُ: «هَذِهِ فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ يَا رَسُولَ اللهِ، هِيَ لَا تَنَامُ اللَّيْلَ»، فَقَالَ: «مَهْ مَهْ، خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ؛ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَأَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَإِنْ قَلَّ»(١)، وفي روايةٍ لمسلمٍ: «فَوَاللهِ لَا يَسْأَمُ اللهُ حَتَّى تَسْأَمُوا»(٢).

والمَلَالُ: هو اسْتِثْقَالُ الشيءِ ونفورُ النفسِ عنه بعد محبَّتِه، وهو يُفْضي إلى التركِ؛ لأنَّ مَن مَلَّ شيئًا تَرَكَه وأَعْرَضَ عنه.

وقد تَباينَتْ تفاسيرُ أهلِ العلم لمَعْنَى قولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «..فَإِنَّ اللهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا»، ومَرَدُّها إلى التحقيقِ في حرفِ «حتَّى» في الحديث:

• فمَنْ حَمَلها على انتهاءِ الغايةِ فسَّر معناها على وجهين:

الأوَّل: أنَّ اللهَ لا يقطع عنكم فَضْلَهُ حتَّى تمَلُّوا سؤالَه فتَزْهَدوا في الرغبة إليه.

الثاني: أنَّ اللهَ لا يترك الثوابَ والجزاءَ ما لم تَمَلُّوا مِن العمل؛ فكان ـ بهذا الاعتبارِ ـ معنى «المَلالِ»: التركَ؛ لأنَّ مَن مَلَّ شيئًا تَرَكه؛ فكنَّى بالمَلالِ عنِ التركِ لأنه سببُه؛ فسُمِّيَ ذلك مِن بابِ تسميةِ الشيءِ باسْمِ سبَبِه، ولو ثَبَتَ حديثُ عائشةَ رضي الله عنها مرفوعًا: «اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ؛ فَإِنَّ اللهَ لَا يَمَلُّ مِنَ الثَّوَابِ حَتَّى تَمَلُّوا مِنَ الْعَمَلِ»(٣) لَكان تفسيرًا لمعناهُ، «لكنَّ في سَنَدِه موسى بنَ عُبَيْدَةَ وهو ضعيفٌ» كما ذَكَرَ الحافظُ في «الفتح»(٤)، وقال في موضعٍ آخَرَ: «أخرجه الطبريُّ في تفسيرِ سورة المزَّمِّل، وفي بعضِ طُرُقِه ما يدلُّ على أنَّ ذلك مُدْرَجٌ مِن قولِ بعضِ رُواةِ الحديثِ»(٥).

• ومنهم مَن حَمَلَ «حتَّى» على معنَى «الواو»، ويكونُ التقديرُ: «لا يَمَلُّ وتَمَلُّون»؛ فنَفَى عنه المَلَلَ وأَثْبَتَه لهم.

• ومنهم مَن حَمَلَها على معنَى: «حين» أي: «لا يَمَلُّ اللهُ حين تَمَلُّون».

• وقد جَعَلَها بعضُهم بمعنَى: «إِنْ»، وتقديرُه: «إِنَّ الله لا يَمَلُّ وَإِنْ مَلَلْتُم»، وهو ما ذَكَرَه البغويُّ في «شرح السُّنَّة» وقال: إنَّ المَلالَ على اللهِ لا يجوز(٦).

ونَقَلَ الحافظُ في «الفتح» الاتِّفاقَ على أنَّ المَلالَ على اللهِ مُحالٌ(٧).

قلتُ: ينبغي تنزيهُ الله تعالى عن كُلِّ صفةِ عيبٍ أو نَقْصٍ مِن المَلل أو غيرِه، وإذا كانَتْ دلالةُ الحديثِ مُثْبِتَةً لوصفِ المَللِ على اللهِ تعالى فإنَّ المقصود به مَللٌ ليس كمَلَلِ المخلوق؛ لذلك يُحْمَلُ على وجهٍ يَليقُ بجَلالِه سبحانَه وتعالى مِن غيرِ أَنْ يَتضمَّنَ شيئًا مِن النَّقصِ أو العيبِ الذي يعتري حالَ الإنسانِ؛ ذلك لأنَّ الصفاتِ المذمومةَ مِن البشرِ لا يقتضي ذَمُّها منهم نَفْيَها عنِ اللهِ تعالى؛ جريًا على قاعدةِ أهلِ السنَّةِ والجماعة: أَنْ يُوصَفَ اللهُ تعالى بما وَصَفَ به نَفْسَه وبما وَصَفَتْهُ به رُسُلُه إثباتًا بلا تمثيلٍ، وتنزيهًا بلا تعطيلٍ؛ لأنَّ اللهَ تعالى لا شبيهَ له في ذاتِه ولا صفاتِه ولا أفعالِه، ولا يَلْزَمُ مِن تماثُلِ الشيئين في الاسْمِ والصفةِ أَنْ يَتماثلَا في الحقيقة؛ فلا يجوز أَنْ يُقَاسَ اللهُ بخَلْقِه؛ لأنَّ القياسَ إنما يكون للنظِيرَيْن، واللهُ سبحانَه لا نظيرَ له؛ فقَدْ يَحْسُنُ منه ما لا يجوز للبشرِ الاتِّصافُ به كالعظمةِ والكبرياءِ، وقد يَحْسُنُ مِن خَلْقِه ما يُنَزَّه عنه سبحانَه كالعبودية، قال الشيخ محمَّد بنُ إبراهيم ـ رحمه الله ـ: ««فإنَّ اللهَ لا يَمَلُّ حتَّى تَمَلُّوا»: مِن نصوص الصفات، وهذا على وجهٍ يَليقُ بالباري لا نَقْصَ فيه: كنصوصِ الاستهزاءِ والخداع فيما يَتبادرُ»(٨).

والعلمُ عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٢١ مِن المحرَّم ١٤٢٧ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٠ فبراير ٢٠٠٦م ___________ من تطبيق آثار العلامة محمد علي #فركوس للتحميل على الأندرويد https://goo.gl/CnfonF ______________

(١) أخرجه البخاريُّ في «الإيمان» باب: أحبُّ الدِّينِ إلى الله عزَّ وجلَّ أَدْوَمُه (٤٣)، ومسلمٌ في «صلاة المسافرين» (٧٨٥)، واللفظُ لأحمد (٢٥٦٣٢)، مِن حديث عائشة رضي الله عنها.

(٢) أخرجه مسلمٌ في «صلاة المسافرين» (٧٨٥) مِن حديثِ عائشة رضي الله عنها.

(٣) جاء في «السنن الكبرى» للبيهقي (٤٧٣٨): «وقال الشيخُ أبو بكرٍ الإِسماعيليُّ: قولُه عليه السلام: «فَإِنَّ اللهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا» قال فيه بعضُهم: «لا يَمَلُّ مِنَ الثواب حتَّى تَمَلُّوا مِنَ العمل»».

(٤) «فتح الباري» لابن حجر (١/ ١٠٢).

(٥) «فتح الباري» لابن حجر (٣/ ٣٧).

(٦) انظر: «شرح السنَّة» للبغوي (٤/ ٤٩).

(٧) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (١/ ١٠٢).

(٨) «الفتاوى والرسائل» لمحمَّد بنِ إبراهيم (١/ ٢٠٩).

وافي طيب
2018-04-04, 22:24
الكلمة الشهرية رقم: ١٢٥
تسليط الأضواء
على أنَّ مذهبَ أهلِ السُّنَّة لا يَنتسِبُ إليه أهلُ الأهواء

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فمِنَ المعلوم أنَّ مُصطلَحَ «أهلِ السُّنَّة والجماعة» ـ بالمعنى العامِّ ـ يُطلَقُ على ما يُقابِل الشيعة؛ فتدخل الفِرَقُ المُنتسِبةُ إلى الإسلام في مفهوم أهل السنَّة، الذي «يُرادُ به: مَنْ أَثبتَ خلافةَ الخلفاء الثلاثة؛ فيدخل في ذلك جميعُ الطوائف إلَّا الرافضة»(١).
أمَّا إطلاقُ مُصطلَحِ «أهل السنَّة» ـ بالمعنى الخاصِّ ـ فإنما يُرادُ به ما يُقابِل أهلَ البِدَع والأهواء؛ فلا يدخل في مفهومِ أهلِ السنَّة إلَّا مَنْ يُثبِتُ الأصولَ المعروفة عند أهل الحديث والسنَّة، دون أصحاب المقالات المُحدَثة مِنْ أهل الأهواء والبِدَع(٢).
غير أنَّ المُلاحَظ حدوثُ التداخل بين مفهوم المُصطلَحَيْن، وانتفاءُ التمييز بين المعنيَيْن عند كثيرٍ مِنَ المُخالِفين لمنهج السلف؛ فيُطلِقون مُصطلَحَ «أهلِ السُّنَّة والجماعة» على الأشاعرة والماتريدية ومَنْ سَلَك طريقَهما إطلاقًا واحدًا معرًّى عن الفرق والتمييز بينهما؛ وضِمْنَ هذا المعنى قال عَضُدُ الدِّين الإِيجيُّ(٣): «وأمَّا الفِرْقةُ الناجية المستثناةُ الذين قال فيهم: «هُمُ الَّذِينَ عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي»(٤) فهُمُ الأشاعرةُ والسلفُ مِنَ المحدِّثين وأهل السنَّة والجماعة»(٥)، وقال المُرْتضى الزَّبِيديُّ(٦): «إذا أُطلِقَ أهلُ السنَّة والجماعة فالمرادُ بهم: الأشاعرةُ والماتريدية»(٧)؛ بل يُضيفُ بعضُهم الصُّوفيةَ والإباضية والمناهجَ الدَّعْوية العقلانية والحزبية، ويَزعم مشموليةَ الجميعِ بمذهبِ أهلِ السنَّة والجماعة بمعناه الخاصِّ، وهذا ـ بلا شكٍّ ـ ادِّعاءٌ باطلٌ كاسدٌ وقولٌ عاطلٌ فاسدٌ، واصطلاحٌ يَمتنِعُ عليهم التسمِّي به باعتباره اسْمًا شرعيًّا استعمله أئمَّةُ السلف؛ فكُلُّ مَنْ خالف اعتقادَ السلفِ الصالحِ ومذهبَهم في أيِّ أصلٍ مِنَ الأصول، أو انحرف عن منهجهم لا يجوز تسميتُه به فضلًا عن أَنْ يجوز له التسمِّي به، بل يُذَمُّ ويُعابُ عليه استعمالُه وانتحالُه.
وليس المرادُ ـ مِنْ هذه الكلمة ـ الدخولَ في مُناقشةِ عقيدةِ مذهب الأشاعرة والماتريدية والصُّوفية والإباضية والاتِّجاهات العقلانية الحديثة، وانحرافِهم عن منهج السلف الصالح، وإنَّما أرَدْتُ أَنْ أُذكِّر ـ بإيجازٍ ـ بالإسلام الذي يُمثِّله أهلُ السنَّةِ أتباعُ السلف مهما اختلفَتْ أسماؤهم التي يُعْرَفون بها(٨)، وأَنْ أبيِّن أنَّ مذهبهم لا يتَّسِع لأهل الأهواء والافتراق والبِدَع على مختلفِ مَشارِبِهم مهما كَثُرَتْ وعَظُمَتْ؛ ذلك لأنَّ أهل السُّنَّة إنَّما يُوحِّدهم الإيمانُ والتوحيد، ويجمعهم اتِّباعُ الهُدَى والهديِ النبويِّ وَفْقَ منهجٍ ربَّانيٍّ قائمٍ على الكتاب والسنَّة، باعتبارهما مَصدرَيِ الحقِّ اللَّذَيْن يَنْهَلون منهما عقائدَهم وتصوُّراتِهم وعباداتِهم ومعاملاتِهم وسلوكَهم وأخلاقَهم، ويستنبطون منهما الأحكامَ الشرعية في مسائل العبادات والمعاملات امتثالًا لقوله تعالى: ﴿ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ﴾ [الأعراف: ٣]، ويَردُّون إليهما نِزاعَهم واختلافهم باعتبارهما مِشْعَلَ النورِ والهداية، ومِقْياسَ الحقِّ والصواب؛ عملًا بقوله تعالى: ﴿فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا ٥٩﴾ [النساء]، ويسترشدون بفهمِ سلفِ الأمَّة لنصوص الكتاب والسنَّة مِنَ الصحابة والتابعين ومَنِ الْتزَمَ بنهجهم واقتفى أثَرَهم؛ يَستخدِمون ألفاظَ نُصوصِ الكتاب والسنَّةِ وألفاظَ السلف عند بيان العقيدة خاصَّةً، مُبعِدِين المُصطلَحاتِ المُوهِمةَ غيرَ الشرعية، «ينفون عن كتاب الله تحريفَ الغالين، وانتحالَ المُبطِلين، وتأويلَ الجاهلين»(٩)، ويوظِّفون ـ أيضًا ـ الأدلَّةَ العقلية والأقيسة المُستنبَطةَ مِنْ نصوص الكتاب والسنَّة، اللَّذَيْن يتَّخِذونهما ميزانًا للقَبول والرفض، ويُقدِّمون النقلَ على العقل مع نفيهم للتعارض بينهما، «يَدْعون مَنْ ضلَّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يُحْيُون بكتاب الله الموتى، ويبصِّرون بنورِ الله أهلَ العمى»(١٠)، وتربطهم الأُخوَّةُ الإيمانية في الله، القائمةُ على مبدإ الوَلاء والبراء؛ فالهُدى ـ إذن ـ هو فيما بَعَث اللهُ به رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم، ومَنْ أَعرضَ عنه لم يكن مُهتدِيًا، ومَنْ قدَّم العقلَ عليه فقَدْ ضلَّ سواءَ السبيل.
وقَدْ ذكَرْتُ ـ في مقالاتٍ سابقةٍ ـ أنَّ الإسلامَ الذي يُمثِّله أهلُ السُّنَّة والجماعة ـ أتباعُ السلف الصالح ـ إنَّما هو الإسلام المصفَّى مِنْ رواسب العقائد الجاهلية القديمة، والمبرَّأُ مِنَ الآراء الخاطئة المُخالِفةِ للكتاب والسُّنَّة، والمجرَّدُ مِنْ مَوروثاتِ مَناهجِ الفِرَق الضَّالَّة كالشيعة الروافض والمُرجِئةِ والخوارجِ والصُّوفيةِ والجهميةِ والمعتزلةِ والأشاعرة، والخالي مِنَ المناهج الدَّعْوية المُنحرِفة كالتبليغ والإخوان وغيرِهما مِنَ الحركات التنظيمية الدَّعْوية أو الحركات الثورية الجهادية ـ زعموا ـ كالدواعش والقاعدة، أو مناهجِ الاتِّجاهات العقلانية والفكرية الحديثة، المُنتسِبين إلى الإسلام.
فمذهبُ أهلِ السنَّة ـ أتباعِ السلف ـ هو الوحيد الذي يَصْدُق عليه الإسلامُ في صفائه وتجريدِه وخُلُوِّه مِنْ رواسب الضلال ومناهجِ الانحراف؛ ذلك لأنَّه لا يَدخله الاختلافُ في وحدةِ أصوله العَقَدية والمعارفية، ولا النزاعُ في وحدةِ مبادئه ومُنطَلَقاتِه العامَّة، ولا الشِّقَاقُ في مَنهجه الدَّعْويِّ وخصائصِه المتميِّزة، سواءٌ مِنْ حيث الشمولُ والتوسُّطُ ما بين إفراط المناهج الأخرى وتفريطِها، والاعتدالُ بين الغُلُوِّ والتقصير؛ أو مِنْ حيث خُلُوُّ العقيدة والمنهج مِنَ التناقض والاضطراب الذي تنهجه الفِرَقُ الأُخرى في العلم والعمل؛ أو مِنْ حيث محاربتُه للحوادث والبِدَع المُحدَثة في الدِّين وتحذيرُه منها ومِنْ أصحابها، أو مِنْ حيث نَبذُه للتعصُّب المذهبيِّ والجمودِ الفكريِّ بغلقِ باب الاجتهاد على المؤهَّلين، أو بتمييعِه وتعميمه بجعله مفتوحًا ولو على غيرِ المؤهَّلين له أو فيما لا مجالَ للاجتهاد فيه، أو مِنْ حيث ثباتُ أهلِ الحقِّ عليه وعدمُ اختلافهم في شيءٍ مِنْ أصولِ دِينهم، وإِنِ اختلفوا في فُروع الشريعة بناءً على ما أدَّى إليه اجتهادُهم في مسائل الفقه، فلم يكن خلافُهم فيها وليدَ الهوى والشهوة ولا طمعًا في مصلحةٍ ـ أدبيَّةً كانَتْ أو مادِّيَّةً ـ ولم يكن عن زيغٍ ولا انحرافٍ، ولا كان رَميةً مِنْ غيرِ رامٍ، وإنما كان لأسبابٍ اجتهاديةٍ، يُعذَرُ بمثلها المخطئُ ويُؤْجَرُ أجرًا واحدًا، ويُحْمَد المُصيبُ ويُؤْجَرُ أجرين ـ رحمةً مِنَ الله وفضلًا ـ كما جاء في الحديث(١١).
لذلك لا يحوي مذهبُ أهلِ السنَّة ـ في ذاته ولا في نطاقه وطيَّاتِه ـ مظاهِرَ الابتداعِ ولا صُوَرَ الانحلال والتمييع لدِينِ الله الحنيف:
ـ فلا يَقبل ـ في حِيَاضه ـ طاعنًا في ذات الله المقدَّسة وأسمائه وصِفَاتِه، ولا محرِّفًا ولا مُؤوِّلًا ولا مُعطِّلًا ولا مُشبِّهًا، ولا مُشكِّكًا في الثوابت والمقدَّسات الإسلامية، ولا مُبدِّلًا لدِين الله ولا مغيِّرًا لشرعه في العلم والعمل.
ـ ولا يَقبل ناقدًا للقُرآن الكريم أو قادحًا في صلاحِيَتِه للتطبيق بدعوَى عدمِ استجابتِه لمقاييس الحداثة.
ـ ولا مستهينًا بالسنَّة المطهَّرة، مُعتبِرًا إيَّاها مِنَ التُّرَاث المطمور الذي لا يَصلح للتطبيق لِفُقدانها لمعايير الحضارة، ولا مَنْ كان حربًا على أهلها.
ـ ولا مُكتفِيًا بالقُرآن وَحْدَه مصدرًا للتشريع والتَّلَقِّي دون السنَّة النبوية.
ـ كما لا يحوي مذهبُ أهلِ السنَّة ـ في نطاقه أيضًا ـ المستهينَ بجيلِ الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وتابِعِيهم رحمهم الله، ولا مَنْ سبَّ السلفَ ـ أهلَ الحديث والسنَّة ـ أو لَمَزهم أو تَنقَّص طريقتَهم أو عرَّض بهم، أو فضَّل مناهجَ غيرِهم على منهجهم، ولم يتَّخِذِ الصحابةَ رضي الله عنهم المَثَلَ الأعلى والمَقصِدَ الأسمى في معرفة الرِّسالة ونزولِ الوحي وأحوالِ النبوَّة وفهمِ الدِّين علمًا وعملًا.
ـ ولا يَقبل غاليًا في تقديس الأشخاص أو قائلًا بعصمتهم أو مُدَّعِيًا اطِّلاعَهم على الغيب.
ـ ولا يقبل عابدًا مُتبرِّكًا بالأشياء والجمادات والآثارِ والأحجار والأضرحة والقبور، ولا مُبتدِعًا في العبادات والأعياد والموالد.
ـ ولا يقبل المُنحازَ المُوالِيَ للكُفَّار وأهلِ الأهواء في عاداتهم وتقاليدهم وأنماطِ حياتهم ونُظُمِ حُكمهم.
ـ ولا المُنساقَ وراءَ تيَّار التغريب والتقريب بين الأديان، والعملِ على إلغاء الفوارق العَقَدية، أو إلغاءِ عقيدة الولاء والبراء، أو إفسادِ الدِّين والأخلاق والمرأة بدعوى حقوق الإنسان وحقوقِ المرأة ونحوِ ذلك.
ـ ولا الخارجَ على الأئمَّةِ المُكفِّرَ لهم، التاركَ لمناصحتهم والصبرِ على ظُلْمهم وجَوْرهم، ولا الثائرَ عليهم بالمظاهرات والاعتصامات والإضرابات باسْمِ التصحيح والتغيير وَفْقَ ما تمليه الحُرِّيَّاتُ الديمقراطيةُ ـ زعموا ـ وما ترسمه مخطَّطاتُ أعداء المِلَّة والدِّين.
ـ كما لا يحوي مذهبُ أهلِ السنَّة ـ في نطاقه ـ مَنْ يرفع شعارًا أو رايةً أو دعوةً غيرَ الإسلام والسنَّة بالانتماء إليها أو التعصُّب لها كالعلمانية والاشتراكية والليبرالية الرأسمالية، والقَبَلية والوطنية والقومية، والديمقراطية والحزبية، والحداثة وغيرِها.
ـ كما لا يضمُّ ـ في حياضه ـ المُنتسِبين لمذهبِ أهل السنَّة ممَّنْ تَسَمَّوْا بالسلفية ـ زورًا ومَيْنًا ـ وهُم على غيرِ أصولها ومَعالِمِها ومنهجِها ودعوتها، ممَّنْ أحدثوا فيها ما ليس منها بدوافعَ تنظيميةٍ حركيةٍ جهاديةٍ ـ زعموا ـ أو حزبيةٍ أو وطنيةٍ.
ـ ولا يحوي ـ أيضًا ـ سائرَ الاتِّجاهات والطرائقِ المذهبية والفكرية المُنحرِفة، سواءٌ كان يمثِّلها أفرادٌ أو فِرَقٌ أو تنظيماتٌ.
ـ ولا مُخادِعًا باسْمِ الدِّين والدعوة، يشتري بآيات الله ثمنًا قليلًا، أو مميِّعًا للثوابت الدِّينية والمقدَّسات الشرعية وما هو معلومٌ مِنَ الدِّين بالضرورة، بالفتاوى المنحرفة والمواقف المُخذِّلة لسببٍ أو لآخَرَ، طمعًا في مصلحةٍ شخصيةٍ أو مَنْصِبٍ أو عَرَضٍ مِنَ الدنيا زائلٍ.
ـ ولا مُتعاطِفًا مع مَنْ سَبَق مِنْ هؤلاء جميعًا، يقول ـ في نفسه ـ مِثلَ ما يقولون على الله غيرَ الحقِّ، ناصرًا لهم ومدافِعًا عنهم، ومُتحمِّسًا ـ مُعلَنًا كان موقفُه أو خفيًّا ـ وراضيًا بعقائدهم وأفكارهم ودعوتهم، مُخالِفًا لأهل السنَّة الغرباء خاذلًا لهم.
إنَّ نطاقَ مذهبِ أهلِ السنَّة لا يتَّسِع لهؤلاء جميعًا؛ ذلك لأنَّ منهجَ أهلِ السنَّة ـ أتباعِ السلف ـ مُستمَدٌّ مِنْ كتاب الله الذي لا يأتيه الباطلُ مِنْ بين يدَيْه ولا مِنْ خلفه، ومِنْ سنَّةِ رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم الذي لا ينطق عن الهوى، والذي يَسلك فيه أهلُه سبيلَ الاتِّباع والاقتداء والاهتداء بهما، وبما عليه سلفُ الأمَّة فهمًا وعلمًا وإدراكًا وعملًا؛ في حينِ تَستمِدُّ المذاهبُ الأخرى أساليبَها ومناهجَها مِنْ عقول البشر وتأويلِهم وتحريفهم وتخليطهم، مع عقدِهم ألويةَ البِدَع، وإطلاقهم عُقُلَ الفِتَن؛ يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علمٍ، وهُم مُجْمِعون على مفارقة الكتاب، ومختلفون فيه؛ يخدعون سُفَهاءَ الناس ويراوغون جُهَّالهم بما يشبِّهون عليهم، ويكتمون الحقَّ ويَلبِسونه بالباطل ـ وهم يعلمون ـ ويموِّهون حقائقَ الأمور، ويتلاعبون بالثوابت والمقدَّسات، وغيرِ ذلك ممَّا لا يرتضيهِ اللهُ لعباده المؤمنين؛ فشتَّان بين منهجَيِ الفريقين ومَشرَبَيْهما!! فمنهجُ أهلِ السنَّة هو ـ بحقٍّ ووضوحٍ ـ منهجُ الإسلام نفسِه في مُسايرته للفطرة السليمةِ والعقلِ القويم، بعيدًا عن تراكمات الفكر الفلسفيِّ، والتأويلِ الكلاميِّ، والشطحِ الصُّوفيِّ، والانحراف الحزبيِّ، والانحيازِ التغريبيِّ، والإعراض العلمانيِّ المتنكِّرِ للتُّرَاث الإسلاميِّ والحضاريِّ؛ فهؤلاء يخلعون الحقَّ ويجعلونه تحت أقدامهم، ويُديرون للتوحيد والسنَّةِ ظهورَهم، ويستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خيرٌ؛ فهذا دأبُ مَنْ عُطِّلَتْ عقولُهم وعُمِّيَتْ أبصارُهم وغُشِّيَتْ بصائرُهم عن نور الهدى ووهجِ الفطرة، لم يعتصموا بحبل الله المَتين، ولم يهتدوا إلى صراط الله المستقيم، بسببِ أوهام العقل وأغاليطِ الحسِّ وتغليبِ الهوى على الشرع.
هذا، وإذا كان ـ في زمن ظهور التشيُّع وانقسامِ الناس إلى سنَّةٍ وشيعةٍ ـ قد تُسُومِحَ بانتسابِ بعضِ أهل الكلام والبِدَع للسنَّة مِنْ جهةِ إثباتهم خلافةَ الخلفاء الثلاثة وتعظيمِهم للصحابة رضي الله عنهم، في مُقابِلِ الشيعة المستهينين بهم وبمَقامهم والمُنكِرين لخلافة الخلفاء الثلاثة، إلَّا أنه ـ بعد ظهور الفِرَق وكثرتِها وتشعُّبِها واقتباسِ بعضها مِنْ ضلالاتِ بعضٍ ـ فقَدْ صارَتْ كُلُّ الفِرَق قسيمةً لأهل السنَّة قسمةَ تَضَادٍّ، فيَمتنِعُ عليهم ـ جزمًا ـ الاعتزاءُ إليهم؛ لاستهانتهم بمنهج الصحابة رضي الله عنهم ومخالفتِهم لهم ـ وإِنْ زعموا تعظيمَهم واتِّباعَهم ـ.
وعليه، فلا يُنْسَبُ إلى مذهب السنَّة ـ حقًّا وصدقًا ـ إلَّا القائمون به الغُرَباءُ مِنْ أهلِه، وهم «أُنَاسٌ صَالِحُونَ فِي أُنَاسِ سُوءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُم»(١٢)، قال ابنُ رجبٍ ـ رحمه الله ـ: «وإنما ذلَّ المؤمنُ ـ آخِرَ الزمان ـ لغُربتِه بين أهل الفساد مِنْ أهل الشُّبُهات والشهوات؛ فكُلُّهم يكرهه ويؤذيه؛ لمخالفةِ طريقته لطريقتهم، ومقصودِه لمقصودهم، ومباينتِه لِمَا هم عليه»(١٣).
فمَنْ صدَّ عن مذهبِهم وأَعرضَ عن منهجهم، وزَعَم أنَّه يَسَعُ أهلَ الكلام والأهواءِ والافتراقِ الانتسابُ إلى مذهبِ أهل السنَّة؛ فهو ـ كما قِيلَ ـ «أَضلُّ مِنْ حمارِ أهله»، يتقلَّب في غفلةٍ عن الهدى، ويتخبَّط في ظُلُمات الجهل والضلال، ﴿وَٱللَّهُ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٍ﴾ [البقرة: ٢١٣؛ النور: ٤٦].
وفي زماننا هذا، رُفِع شعارُ السنَّة ـ بمفهومه العامِّ ـ على أنه بالمفهوم الخاصِّ، مموَّهًا بأباطيلِ التصوُّف والكلام والاعتزال؛ لترويج المناهج المُنحرِفة والمذاهبِ الباطلة، والعملِ على تثبيتها وتكريسها، وتمييعِ العقيدة السلفية، وشلِّ الدفاع عنها والتصدِّي لمَنْ يخالفها، والتنفيرِ مِنْ دُعَاتها ورُوَّادها، وتشويهِ صورة أئمَّتها، والعملِ على إبطالِ مبدإ الأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر؛ كُلُّ ذلك باسْمِ حُرِّيَّة الاعتقاد والتفكيرِ والتجديد والمعاصرة.
كما رُفِعَتْ شعاراتُ التجميع والتلفيق بين منهجِ أهل السنَّة ـ أتباعِ السلف ـ وبين مناهجِ أهل الأهواء والافتراق بأسماءٍ مُختلِفةٍ تُوهِم الغافلَ بالرغبة في الخير وعزَّةِ الإسلام؛ فتارةً تأتي باسْمِ: جمع الكلمة، ووحدةِ الصفِّ، ولمِّ الشمل، تحت ظِلِّ مبدإ الوطنية، وتارةً أخرى باسْمِ الدعوة ورأبِ الصدع، وتحقيقِ التآلف والأخوَّة، وتكثيرِ الجموع، بإلغاء الفوارق العَقَدية والمنهجية وتركِ الإنكار لها؛ وقد غاب عنهم أنَّ الاعتصام بحبل الله وتجسيدَ الأخوة الإيمانية لا يتحقَّق إلَّا بالحقِّ والسنَّة، وأنَّ الأمَّة المهديَّة معصومةٌ لا تجتمع على ضلالةٍ ولا على باطلٍ.
وهذه الأباطيل المروَّجُ لها اليومَ ـ وإِنْ كانت لها صولةٌ وجولةٌ ـ إلَّا أنَّ أصحابها مُفلِسون أمواتٌ غيرُ أحياءٍ بمَعاصِيهم وبِدَعِهم وخُرَافاتِهم، لا يعرفون المعروفَ ولا يُنكِرون المنكر، يعيشون عيشةَ نَكَدٍ في المعاصي، تَرْهَقُهم ذلَّةٌ وكآبةٌ؛ فلا يُذْكَرون ـ بعد وفاتهم ـ إلَّا بالذمِّ والخزي واللوم والتحذير منهم، وقد صَدَق قولُ الشاعر:
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ

إِنَّمَا المَيْتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ
إِنَّمَا المَيْتُ مَنْ يَعِيشُ كَئِيبًا

كَاسِفًا بَالُهُ قَلِيلَ الرَّجَاءِ(١٤)
وختامًا، نسأل اللهَ أَنْ يُصلِح أمرَ آخِرِ هذه الأمَّةِ كما أَصلحَ أمرَ أوَّلِها، وأَنْ يَهَبَ لنا مِنْ لَدُنْه رحمةً وعلمًا ورشدًا، وأَنْ يرزقنا الإخلاصَ في السرِّ والعلن، ويُعيذَنا مِنَ الفِتَن في القول والعمل، ما ظَهَر منها وما بَطَن؛ إنه وليُّ ذلك والقادرُ عليه.
«اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ؛ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»(١٥).
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١٤ جمادى الأولى ١٤٣٩ﻫ
الموافق ﻟ: ٣١ جانفي ٢٠١٨م

(١) «منهاج السنَّة» لابن تيمية (٢/ ١٣٢).
(٢) انظر: المصدرَ السابق.
(٣) هو عبد الرحمن بنُ أحمد بنِ عبد الغفَّار الإِيجيُّ الشيرازيُّ القاضي الشافعيُّ الأشعريُّ الملقَّب ﺑ «عضد الدِّين»، كان إمامًا في المعقول، قائمًا بالأصول والمعاني والعربية، مُشارِكًا في الفنون. أشهرُ كُتُبه: «شرح مختصر ابن الحاجب» في أصول الفقه، و«المواقف» في علم الكلام، و«الفوائد الغياثية» في المعاني والبيان وغيرها. تُوُفِّيَ مسجونًا سنة: (٧٥٦ﻫ).
انظر ترجمته في: «طبقات الشافعية» للسبكي (٦/ ١٠٨)، «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (٣/ ٢٧)، «الدُّرَر الكامنة» لابن حجر (٢/ ٣٢٢)، «بُغْية الوُعَاة» للسيوطي (٢٩٦)، «شذرات الذهب» لابن العماد (٦/ ١٧٤)، «البدر الطالع» للشوكاني (١/ ٣٢٦)، «معجم المؤلِّفين» لكحالة (٢/ ٧٦).
(٤) أخرجه الترمذيُّ في «الإيمان» بابُ ما جاء في افتراقِ هذه الأمَّة (٢٦٤١) مِنْ حديثِ عبد الله بنِ عمرو بنِ العاص رضي الله عنهما. وحسَّنه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٥٣٤٣).
(٥) «المواقف» للإيجي (٣/ ٧١٧).
(٦) هو أبو الفيض محمَّد بنُ محمَّد بنِ عبد الرزَّاق الحُسَيْنيُّ الزَّبِيديُّ الملقَّبُ ﺑ: «مرتضى»، كان لغويًّا أديبًا محدِّثًا أصوليًّا مؤرِّخًا، أصلُه مِنْ واسط في العراق، ومولدُه بالهند في ١١٤٥ﻫ، ومنشؤه في زَبِيدٍ باليمن، له مصنَّفاتٌ كثيرةٌ في عدَّةِ علومٍ، منها: «تاج العروس في شرح القاموس»، و«إتحاف السادة المُتَّقين في شرح إحياء علوم الدِّين»، و«بُلْغة الأريب في مُصطلَحِ آثار الحبيب»، وغيرها، تُوُفِّيَ بالطاعون بمِصرَ في شعبان سنة: (١٢٠٥ﻫ).
انظر ترجمته في: «الأعلام» للزركلي (٧/ ٧٠)، «هديَّة العارفين» للبغدادي (٢/ ٣٤٧)، «فهرس الفهارس» للكتَّاني (١/ ٣٥٣، ٥٢٦)، «معجم المؤلِّفين» لكحالة (٣/ ٦٨١).
(٧) «إتحاف السادة المُتَّقِين» للمرتضى الزبيدي (٢/ ٦).
(٨) مِثْل هذه التسميات: أهل السنَّة، أهل الحديث، أهل الأثر، أتباع السلف، الغرباء، الفِرْقة الناجية، الطائفة المنصورة، وغيرها؛ ولا يخرج عن أهل السنَّة مَنِ انتسب إليها مِنَ المذاهب المعروفة كالأئمَّة الفحول وأتباعِهم ممَّنْ سار على منهج السلف، فلا تضرُّ هذه التسمياتُ المُختلِفة لأهل السنَّة والجماعة، فضلًا عن التي يطعن فيهم بها أهلُ الأهواء والبِدَع، مثل لمزِهم بالحشوية والناصبة والتيمية والوهَّابية والباديسية والجامية والمدخلية وغيرها، ما دامَتْ تدلُّ على مسمًّى واحدٍ بمبادئه وأصوله وقواعدِه ودعوته ومسلكه، وإِنْ تفرَّقَتْ بلدانُهم واختلفَتْ أزمانُهم وتباينَتْ تسمياتُهم.
(٩) «الرد على الجهمية والزنادقة» للإمام أحمد (٥٥ ـ ٥٧).
(١٠) المصدر السابق، الجزء والصفحة نفسهما.
(١١) عن عمرو بنِ العاص رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»: مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الاعتصام بالكتاب والسنَّة» بابُ أجرِ الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ (٧٣٥٢)، ومسلمٌ في «الأقضية» (١٧١٦).
(١٢) أخرجه أحمد في «مسنده» (٦٦٥٠)، والطبراني في «المعجم الكبير» (١٣/ ٣٦٣)، مِنْ حديثِ عبد الله بنِ عمرو بنِ العاص رضي الله عنهما. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الترغيب» (٣١٨٨) و«صحيح الجامع» (٣٩٢١).
(١٣) «كشف الكربة» لابن رجب (١١).
(١٤) البيت لعديِّ بنِ الرعلاء الغسَّاني، انظر: «خزانة الأدب» للبغدادي (٩/ ٥٨٣).
(١٥) أخرجه مسلمٌ في «صلاة المسافرين» (٧٧٠) مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها.

وافي طيب
2018-04-05, 20:32
تفنيد شبهة الملبِّسين
بإيراد أسماء المخالفين

السؤال:
وَجَد بعضُ الملبِّسين مِنَ المُخالِفين في موقعكم شيخَنا ـ حفظكم الله ـ أسماءً في مَعرِض الثناء على بعضِ مَنْ تُكُلِّم فيهم ﻛ: بن حنفيَّة الذي عددتموه مِنْ أعيانِ دُعَاة منطقته، كما عددَتْم ـ أيضًا ـ سليمًا الهلاليَّ مِنَ الدُّعَاة السلفيِّين، كما نقلتم عن ابنِ جبرين وبكر أبو زيد في مواضعَ مِنْ رسائلكم وفتاواكم، وكذا البرَّاك وغيرهم مِنَ الذين رُمُوا بالقطبيَّة الإخوانيَّة؛ واتَّخذ الملبِّسون ذلك مطيَّةً لانتقادِ شخصكم؛ بالإضافة إلى موضوعٍ أثاره بعضُ المحرِّضين في الداخل والخارج يتعلَّق بمشايخ المدينة، زعموا فيه أنَّ كلامًا يُنسَب إلى شخصكم الكريم فيه انتقاصٌ لهؤلاء المشايخ، فهل مِنْ توضيحٍ مِنْ فضيلتكم!! وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فأمَّا الثناء على بن حنفيَّة عابدين الذي وَرَد في ثنايا جوابي على الوثيقة المتداوَلة ـ آنَذاك ـ فإنَّما كان ذلك زمنَ تكذيب النصيحة المزعومة منذ حوالَيْ ١٤ سنةً خلَتْ، أي: في تاريخ (١٥ ربيع الثاني ١٤٢٥ﻫ ـ ٣ جوان ٢٠٠٤م) حيث كان مُعظَمُ الأئمَّة والدُّعَاة يُحسِنون الظنَّ به بعد نبذِه للحزبيَّة الممقوتة وتوبتِه منها واندماجِه مع الإخوة السلفيِّين، بحسَبِ ما كان يَصِلُهم في شأنه آنَذاك؛ وذِكرُه في أعيانِ دُعَاة المنطقة هو مجرَّدُ وصفٍ لا يَلزَمُ منه ثناءٌ ولا تعديلٌ ولا تزكية.
والكلام في سليمٍ الهلاليِّ كالكلام في سابقه مِنْ حيث الوصفُ وتقدُّمُ التاريخ.
وأمَّا الاستفادة مِنْ كُتُب العلماء المُخالِفين أو المُتكلَّم فيهم سواءٌ مِنْ علماء المملكة أو مِنْ غيرهم، فإنَّ الاستفادة لمَنْ كان متشبِّعًا بالعلم الشرعيِّ الصحيح، ويملك آلةَ التمييزِ بين الحقِّ والباطل والهدى والضلال فهذا لا يمتنع عليه أَنْ يأخذ مِنْ كُتُب المُخالِفين وغيرِهم مقدارَ حاجته؛ فقَدْ كان مِنْ عدلِ سَلَفِنا الصالح قَبولُ الحقِّ مِنْ أيِّ جهةٍ كان؛ إذ لا أثرَ للمتكلِّم بالحقِّ في قَبوله ورفضه؛ ولذلك استفاد علماؤنا مِنْ كُتُبِ ابنِ حجرٍ والنوويِّ والقرطبيِّ والغزَّاليِّ مِنَ الأشاعرة وغيرهم؛ وفي هذا السياقِ قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «فمَنْ هَدَاهُ اللهُ سبحانه إلى الأخذ بالحقِّ حيث كان ومع مَنْ كان ولو كان مع مَنْ يبغضه ويُعاديه، وردِّ الباطل مع مَنْ كان ولو كان مع مَنْ يُحِبُّه ويُواليه؛ فهو ممَّنْ هُدِيَ لِمَا اختُلِفَ فيه مِنَ الحقِّ»(١).
علمًا أنَّ في المسألة تفصيلًا تناولتُه في كلمةٍ موسومةٍ ﺑ «ضوابط الاستفادة مِنْ كُتُب المبتدعة» تحت رقم: (٤٠) في الموقع.
وأمَّا علماء المدينةِ ومشايخُها ومِنْ غير المدينة ـ أيضًا ـ فأنا أُجِلُّهم وأقدِّرهم وأحترمهم وأتعاون معهم فيما ظهر لي أنَّه حقٌّ وصوابٌ ومعروفٌ، وأتمسَّك بموقفي فيما أراه حقًّا وصوابًا حتَّى يظهر خلافُه بحجَّتِه وبرهانِه، ولو خالف مَنْ يكبرني علمًا، ويفوقني قدرًا ومكانةً وعزَّةً، وأربأ بنفسي عن أَنْ أتعرَّض لأحدٍ منهم، لا بذمٍّ ولا انتقاصٍ ولا قدحٍ، لا مِنْ قريبٍ ولا مِنْ بعيدٍ، لا في مجلسٍ خاصٍّ ولا عامٍّ؛ وأنَّى يُظنُّ بي أنِّي أتعرَّض إلى كرام الناس بالقدح؟! اللهم إلَّا عند مَنْ يُجرِي اللوازمَ الباطلة مِنْ كلامي على غيرِ مجراه، ويقرأ في سطوري قراءةَ محرِّفٍ عن فحواه، أو يفهم سياقَ كلامي وسِبَاقَه على غيرِ معناه؛ فمثلُه يجرُّ أذيالَ الوقيعة والشِّقاق، ويُحدِث الفُرْقةَ وينشئ النِّفاق، ويصطاد في الماء العَكِر مِنْ غيرِ أدبٍ ولا أخلاقٍ؛ فهذا مسؤوليَّتي عليه مُنتفِيَةٌ، وإنِّي أبرأ إلى الله مِنْ أصحاب الفهم السقيم، والقصدِ اللئيم، والتأويلِ الذميم.
وبعد هذا أقول:
قد يحصل منِّي الخطأ والنسيان، ويعتريني السهوُ والغلط والتقصير، ونحوُ ذلك مِنَ النقائص التي هي مِنْ طبيعة البشر؛ فقدرتُهم محدودةٌ ـ كما هو معلومٌ ـ مهما علَتْ وارتفعت، ولا أدَّعي لنفسي العصمةَ مِنَ الأخطاء والنقائص؛ فالكمالُ لله وحده، والعصمةُ لمَنْ عَصَمه الله؛ ولذا أُهيبُ بكُلِّ مَنْ وَجَد ـ في مؤلَّفاتي أو تحقيقاتي أو مقالاتي وفتاوايَ ومسالكِ دعوتي ـ خللًا أو تقصيرًا أَنْ يُبصِّرني به، أو عيبًا أو خطأً أو نقصًا أَنْ يُرشِدني إلى صوابه مِنْ غيرِ تضخيمٍ ولا تهويلٍ؛ فالمؤمنون نَصَحةٌ، و«الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ»(٢)، وأنا مُستعِدٌّ تمامَ الاستعداد في أَنْ أتراجع ـ فورًا كما هي عادتي ـ وأعودَ ـ بكُلِّ إيمانٍ وثِقَةٍ واعتزازٍ ـ عن كُلِّ خَللٍ أو خطإٍ أو عيبٍ أصاب الناصحُ ـ في تقويمه ـ عينَ الحقِّ أو وافق الصوابَ، وأنا له مِنَ المُعترِفين الشاكرين.
وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١٨ رجب ١٤٣٩ﻫ
الموافق ﻟ: ٠٤ أبريل ٢٠١٨م

(١) «الصواعق المُرْسَلة» لابن القيِّم (٢/ ٥١٦).
(٢) أخرجه أبو داود في «الأدب» بابٌ في النصيحة والحِيَاطة (٤٩١٨) مِنْ حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وحسنه الألباني في «صحيح الجامع» (٦٦٥٦).

وافي طيب
2018-04-06, 12:12
جناية التصوُّف على الإسلام
وآثارُه السيِّئة على منهج السلف في العلم والعمل

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فقَدْ جَعَل اللهُ تعالى البناءَ العقديَّ المتين والتكوين الفقهيَّ السليم والاسترشادَ بمنهج السلف القويم عاصمًا مِنَ الوقوع في الزلل والخطإ، وكفيلًا للوقاية مِنَ التزيُّد والتجاوز والابتداع في منهج الفهم والتعقُّلِ لقضايا التنزيل العقدية وأحكامِ التطبيق العملية.
ولا يخفى على ذي لبٍّ أنَّ الله تعالى لم يجعل دِينَه وشرعه مَرْتعًا للرُّؤَى، ولا مسرحًا للخيال في فهم نصوص الوحيين ـ الكتابِ والسنَّة ـ للوصول بالسالك إلى اليقين المنشود كما تزعمه المتصوِّفة، وذلك عن طريق المشاهدة والكشف والذوق والمنامات وغيرها مِنَ الطُّرُق المُلتوِيَة والبعيدة عمَّا كان عليه الصدرُ الأوَّل مِنْ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وصحابتِه الكرام رضي الله عنهم الذين زكَّاهم اللهُ تعالى بالنصِّ، وشَهِد لهم بالأعلمية في مثلِ قوله تعالى: ﴿يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖ﴾ [المجادلة: ١١]، وقولِه تعالى: ﴿وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ ٱلۡحَقَّ﴾ [سبأ: ٦]، وقولِه تعالى: ﴿حَتَّىٰٓ إِذَا خَرَجُواْ مِنۡ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ مَاذَا قَالَ ءَانِفًا﴾ [محمَّد: ١٦]؛ فإنَّ اللام في «العلم» إنما هي للعهد لا للاستغراق، أي: العلم الذي أرسل اللهُ به نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم، وإذا أُوتُوا هذا العلمَ كان حريًّا بغيرهم اتِّباعُهم(١)، وقد أخبر النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ خير الناس قرنُه مطلقًا؛ وهو الأمر الذي يقتضي تقديمَهم على غيرهم في كُلِّ بابٍ مِنْ أبواب الخير في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»(٢)، كما جَعَل اللهُ الهدايةَ للصراط المستقيم لا سبيلَ للخَلْق إليها إلَّا بما آمَنَ به معشرُ المؤمنين في قوله تعالى عن أهل الكتاب: ﴿فَإِنۡ ءَامَنُواْ بِمِثۡلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْ﴾ [البقرة: ١٣٧]، وجَعَل الضلالَ بالإعراض عن سبيل الهدى والإيمان ـ الذي طريقُه العلمُ والعمل ـ هو عينَ الشِّقاق، ويَلْزَم مِنَ المُشاقَّةِ مُحادَّةُ اللهِ ورسولِه وعداوتُهما، وبِئْسَ شِقُّ أهلِ الضلال والغواية وساءَ مَصيرُهم، ونِعْمَ شقُّ أهلِ الهدى والإيمانِ وحَسُنَ مَآلُهُم، واللهُ يكفيهم شرَّهم وكيدهم ومكرهم وعداوتهم؛ قال تعالى: ﴿وَّإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا هُمۡ فِي شِقَاقٖۖ فَسَيَكۡفِيكَهُمُ ٱللَّهُۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ ١٣٧﴾ [البقرة].
ومِنْ ذلك ما أوجب الله تعالى مِنْ متابعة السبيل الذي سَلَكه المؤمنون ـ وفي طليعتهم صحابةُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ـ في عقائدهم وأعمالهم، وما حرَّم مِنْ مخالفتهم فيها بعد ظهور الهدى والعلم بالدلائل القرآنية والبراهين النبوية، وقد رتَّب اللهُ تعالى الوعيدَ على المُشاقِق المخالفِ بالتخلِّي عنه في الدنيا والعذابِ في الآخرة في قوله تعالى: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ١١٥﴾ [النساء]؛ إذ لا يخفى أنَّ لفظ «المؤمنين» في الآية يدخل فيه الصحابةُ الكرام رضي الله عنهم دخولًا أوَّليًّا.
غير أنَّ العَجَب لا ينقطع مِنْ ذهنيةِ قومٍ مُنِحَتْ لها مسؤوليةُ الأمَّة، وجُمِعَتْ بين أيديها آليَّاتُ التغيير المادِّيةُ والبشرية طمعًا في الارتقاء إلى الأحسن ـ زعموا ـ تنشد ـ في قوالبها الدِّينية ـ التجديدَ ضِمْنَ المسلك الصوفيِّ المُنحرِف بمُختلَفِ طُرُقه وأحواله ومقاماته، وتأييدَ زواياه ومدارسِه المتفاوِتةِ في الفساد والإفساد، بدءًا مِنْ مدرسة الزهد وانحداراتها عن سُمُوِّ الإسلام بإحداثِ مفاهيمَ وسلوكياتٍ غريبةٍ عن الدِّين، واختلاقِ مصطلحاتٍ ما أَنْزَل اللهُ بها مِنْ سلطانٍ، وقد تبلغ بهم إلى حدِّ الوساوس والدَّرْوَشة والخُرافة، ثمَّ مدرسة الكشف والمعرفة، إلى القول بوحدة الوجود، وإلى الاتِّحاد والحلول والفَناء، وإلى التواكل والركون إلى السلبية، وغيرها مِنْ ضلالات القوم الدخيلة على الإسلام في عقيدته وأحكامه.
إنَّ التصوُّف ـ بأفكاره المنحرفة ومعتقداته الباطلة، وبمختلفِ مناهجه ومدارسِه ومسالكه ـ خطرٌ عظيمٌ على عقيدة التوحيد والعمل؛ فهو يشوِّه الإسلامَ في معانيه ومبانيه وعقيدتِه وشريعته مِنَ الداخل والخارج تشويهًا يخرجه عن جماله، ويعرِّيه عن حُسْنه ورونقه.
بل التصوُّف قضاءٌ مُبْرَمٌ على العقيدة والفقه الإسلاميَّيْن، وانحرافٌ ظاهرٌ عن الصراط المستقيم، وانحدارٌ خطيرٌ عن دعوة الأنبياء والرُّسُل، وعن منهج الإسلام القائم على العلم والعمل ونشرِ التوحيد ونبذِ الشرك والبِدَع، والأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيرها ممَّا جاء به النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِنْ دِين الإسلام، وقامَتْ عليه حجَّتُه ودعوتُه، وسار عليه صحابتُه الكرام رضي الله عنهم، ومَنِ انتهج منهجَهم مِنْ بعدِهم؛ فقَدْ أَثْبَت اللهُ لهم الخيريةَ على سائر الأمم ـ كما تقدَّم ـ ووَصَفهم بأنهم يأمرون بكُلِّ معروفٍ وينهَوْن عن كُلِّ منكرٍ في قوله تعالى: ﴿كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ﴾ [آل عمران: ١١٠]، كما جَعَلهم شُهَداءَ الله على الناس في الأرض، وأقام شهادتَهم مَقامَ شهادة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم في قولِه تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗا﴾ [البقرة: ١٤٣]؛ فإنَّ الصحابة الكرام رضي الله عنهم ـ في هذه الآيةِ والتي قبلها ـ هم المُشافَهون ـ حقيقةً ـ بهذا الخطاب المبلَّغِ على لسان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، شهادةَ حقٍّ وصدقٍ، ولا شيءَ يُعادِلُ شهادةَ الله تعالى لهم بذلك.
هذا، وقد ازداد انحرافُ التصوُّف عن خطِّ الإسلام القويم في عقيدته وفقهه، وتوسَّعَتْ دائرةُ فساده وضررِه بما جَمَعه ونَشَره على مرِّ العصور وكرِّ الدهور مِنْ آفات المعتقدات والتزيُّدِ في الدِّين ومختلف الضلالات والحوادث التي تولَّدَتْ مِنْ جرَّاءِ ترك الاعتصام بحبل الله المتين وبمنهجه القويم؛ والمعلومُ أنَّ مَنْ تَرَك الاعتصامَ به وعَمَد إلى التخلِّي عنه كان عُرْضةً لجميع الآفات والبليَّات، وقد شبَّهه الله تعالى بمَنْ ﴿خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخۡطَفُهُ ٱلطَّيۡرُ أَوۡ تَهۡوِي بِهِ ٱلرِّيحُ فِي مَكَانٖ سَحِيقٖ ٣١﴾ [الحج].
ذلك لأنهم سألوا الهدايةَ وطلبوا الاستقامةَ في غير الكتاب والسنَّة، زاعمين أنَّ لهم علومًا خاصَّةً يتلقَّوْنها مِنَ الله مباشرةً دون واسطةٍ عن طريق الكشوفات والهواتف المزعومة، فضلًا عن دعوَى لقائهم بالأنبياء والأولياءِ حقيقةً وحسًّا، وعلى رأسهم الخَضِرُ الذي يتعلَّمون منه العلومَ اللدنية؛ الأمرُ الذي دَفَعهم إلى الاعتقاد بوجودِ حقيقةٍ تخالف الشريعة، وبالغلوِّ المُفْرِط في رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم والأولياء.
ومِنْ أعظم العوامل المؤثِّرة ـ أيضًا ـ التي زادَتْ عقيدةَ المتصوِّفة فسادًا: اختلاطُ التصوُّف بجملةٍ مِنَ الفلسفات القديمة وتأثُّرُه بها، حتَّى أصبح التصوُّفُ ـ في عقيدته وسلوكه ـ مزيجًا مِنَ الفلسفة الهندية واليونانية والرهبانية وعقائدِ الشيعة(٣) وغيرها.
ومِنَ الآثار السيِّئة التي نَشَرها التصوُّفُ في هذه الأمَّة، وبان فيها خطرُه على عقيدتها ودِينها:
ـ انتشار الوثنية وعبادة القبور، وذلك بقيام المتصوِّفة ببناء المساجد والقِباب على قبور الموتى، ودعوةِ الناس إلى زيارةِ أماكنها والتمسُّحِ بأعتابها، وصرفِ العبادات لأصحابها المدفونين، مِنْ دعاءٍ واستغاثةٍ وذبحٍ ونذرٍ وغيرها مِنَ العبادات التي لا يجوز صرفُها إلَّا لله تعالى.
ـ انحراف الصوفية في التوحيد بإقحام وحدة الوجود في عقيدة الأمَّة، وأنَّ مفهوم التوحيد الحقيقي ـ في زعمهم ـ هو القول بوحدة الوجود، وما ترتَّب عليها مِنْ مضاعفاتٍ في تجويزِ كُلِّ شيءٍ موجودٍ في الكون، والقول بوحدة الأديان وغيرهما.
ـ انحراف الصوفية في المحبَّة، واعتقادهم بحلول الله في خلقه ومسألة الفَناء وغيرها مِنْ آفات معتقداتهم.
ـ تقسيم الدِّين إلى حقيقةٍ وشريعةٍ على نحوِ ما بيَّنْتُه في موضوعِ: «بدعة تقسيم الدِّين إلى حقيقةٍ وشريعةٍ وآثاره السيِّئة على الأمَّة»(٤).
ـ تعطيل وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدعوَى أنَّ الكُلَّ ـ عندهم ـ معروفٌ وقَدَرٌ محبوبٌ، والاعتقاد بأنَّ مشايخهم يُحِلُّون لهم ما حرَّم الله عليهم، فضلًا عمَّا تنشره المتصوِّفةُ مِنْ حوادثِ الموالد والأذكار والصلوات المُبتدَعة وغيرها مِنَ الأفعال والصُّوَر والألوان والأحوال المشينة التي يمارسها الخرافيون منهم ويعتقدونها في كُلِّ العالَم، وهي محسوبةٌ على الإسلام ظلمًا وزورًا.
فالحاصل: أنَّ دِينَ المتصوِّفة مبنيٌّ على دعاوَى مُختلَقةٍ كاذبةٍ متمثِّلةٍ في اعتقادهم أنَّ التوحيد الذي أرسل اللهُ به الرُّسُلَ وأنزل به الكُتُبَ فهو توحيد العوامِّ الذي يُعَدُّ ـ بالنسبة إليهم ـ شركًا بالله يترفَّعون عنه بزعمهم، وادِّعاؤهم عدمَ انقطاع الوحي، وأنَّ المشايخ مكشوفٌ عن بصيرتهم، وهُم أعلمُ بحقائق العلوم مِنَ الأنبياء، ويجوز لهم الخروجُ عن الشريعة والتمرُّدُ على أوامر الله ورسولِه؛ بناءً على تقسيم الدِّين ـ عندهم ـ إلى حقيقةٍ وشريعةٍ، فضلًا عن الغُلُوِّ المُفْرِط في رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ورفعِه مِنْ مرتبة البشرية ومقام العبودية والرسالة إلى مقام الألوهية والمعبودية، وغيرها مِنْ ضلالات القوم وبِدَعهم.
الأمر الذي أفضى بالمتصوِّفة إلى تقديس أوليائهم ومشايخهم وتعظيم منزلتهم بالغُلُوِّ الزائد، في حياتهم وبعد وفاتهم: يخضعون لهم في طاعةٍ عمياءَ وحبٍّ أصمَّ، ويعترفون بذنوبهم بين أيديهم على طريقةِ أصحابِ صكوك الغفران عند النصارى، ويشيِّدون عليهم الأضرحةَ والقِبابَ بعد وفاتهم، ويشدُّون إليها الرِّحالَ ويتمسَّحون بها ويتوسَّلون لقضاء حوائجهم ـ زعموا ـ وهذا غيضٌ مِنْ فيضٍ مِنَ المفاهيم والسلوكات والمُعتقَدات والشَّطَحات التي ابتدعوها في دِين الإسلام، متشبِّهين باليهود والنصارى كما أخبر النبيُّ في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ»، قُلْنَا: «يَا رَسُولَ اللهِ، اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؟»، قَالَ: «فَمَنْ؟!»(٥)، ولا يخفى ما في هذه الحوادثِ والعوائد والمعتقدات مِنْ مخالفةٍ لجناب التوحيد، ومباينةٍ لِمَا دَعَا إليه الإسلامُ وما كان عليه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وصحابتُه الكرام رضي الله عنهم.
وقد انقلب التصوُّفُ ـ بعدها ـ كسبًا مُرْبِحًا للمُشَعْوِذين والسَّحَرة والبطَّالين والدجَّالين، وطريقةً لتحضير الأرواح، وتجارةً مَهينةً للسُّفَهاء السافلين ومَنْ قلَّتْ بضاعتُهم في العلم الشرعيِّ ولا اشتغلوا به ولا دعَوْا إليه؛ فضَلُّوا وأَضَلُّوا وفَسَدوا وأفسدوا؛ فلا الإسلامَ نصروا ولا عدوًّا كسروا، ولا طاغيًا كافحوا ولا غاصبًا طردوا.
وقد استغلَّ أعداءُ الإسلام والمُستعمِرون الحاقدون عليه طوائفَ المتصوِّفة لتشويهِ جمال الإسلام والقضاءِ على صفاء التوحيد، وتصيير المسلمين أطوعَ لسلطة الأعداء وأخضعَ إلى مأموريَّتِهم وأركنَ إلى السلبية؛ لئلَّا تقوم للمسلمين قائمةٌ.
علمًا أنَّ المتصوِّفة لم يكن لهم موقفٌ عدائيٌّ تُجاهَ المستعمر المحتلِّ، بل موقفُ متعاوِنٍ خدومٍ لمصالح المُستعمِر ومنافعِه، سواءٌ في العالَمِ الإسلاميِّ عامَّةً أو في خصوصِ بلدنا هذا، والأدلُّ على ذلك أنَّ أتباع الطريقة التيجانية ساعدوا الجيوشَ الفرنسية بمختلف الوسائل الحربية مِنَ التجسُّس لهم وإرسالِ الأَدِلَّاء والقتالِ إلى جانب فرنسا ضِدَّ مُواطِنيهم مِنَ المسلمين، واعتُبِر ذلك عند مشايخ الصوفية واجبًا يُمليهِ الشرفُ ويَبْغون فيه الاحتسابَ عند الله تعالى(٦).
فهذه هي المواقف المخذولة للمتصوِّفة في هذه البلادِ وغيرها مِنْ بلدان العالَم، «مِنْ أجلِ ذلك يجب ألَّا نستغرب إذا رأينا المُستعمِرين يُغْدِقون على الصوفية الجاهَ والمال، فرُبَّ مفوَّضٍ سامٍ لم يكن يرضى أَنْ يستقبل ذوي القيمة الحقيقية مِنْ وجوه البلاد، ثمَّ تراه يسعى إلى زيارةِ حلقةٍ مِنْ حلقات الذكر، ويقضي هنالك زيارةً سياسيةً تستغرق الساعات؛ أليس التصوُّف الذي على هذا الشكلِ يقتل عنصرَ المقاومة في الأمم؟!»(٧).
ولا تزال جنايةُ الصوفية على الدِّين مُستمِرَّةً بهذه المواقفِ المخزية: يؤيِّدون الفسادَ أينما كان، ويَرْمُون غيرَهم بالباطل، ويتكيَّفون مع واقع الزمن الذي يعيشون فيه ولو بإيديولوجياتٍ مُستَوْرَدةٍ، مِنِ: اشتراكيةٍ أو ليبيراليةٍ أو ديمقراطيةٍ وأفكارٍ دخيلةٍ على المجتمع المسلم، ويدورون مع واقعهم المَعيش حيث دارَ، ويسايرونه كُلَّ مَسارٍ، سواءٌ كان الواقعُ مُوافِقًا للإسلام أو مخالفًا له، وسواءٌ كان قادةُ بلاد المسلمين وحُكَّامُهم مسلمين أو كُفَّارًا، وقد قال قائلُهم: «إنَّ الكُفَّار والمجرمين والفَجَرةَ والظلمة مُمتثِلون لأمر الله تعالى، ليسوا بخارجين عن أمره»(٨).
هذا، وإنَّ قومًا ممَّنْ يحملون الغِلَّ على أهل السنَّة يسعَوْن جاهدين إلى محاربةِ دعوة الكتاب والسنَّة على منهجِ سلف الأمَّة عقيدةً وشريعةً على نطاقٍ واسعٍ، باستخدامِ أساليب التضييق، سواءٌ على الدُّعَاة أو الأئمَّة أو رُوَّاد الدعوة إلى الله أو طلبة العلم بالتشويه والإقصاء، أو على منشوراتهم ومؤلَّفاتهم بالمنع والتشديد والمصادرة.
في حينِ يفتحون المجالَ للتصوُّف ـ بأفكاره المنحرفة ومعتقداته الباطلة ـ واسعًا على مِصْراعَيْه، بعقد الندوات والمُلتقَيات، وإعداد البرامج والحِصَص المرئيَّةِ وغير المرئيَّة، وتخصيص الأغلفة المالية لتدعيمها وتقويتها، وتمكين الزوايا على ما فيها مِنْ بلايَا ورزايَا، فضلًا عن إرادة إحلال العقيدة الممزوجة بعقائد الفلاسفة وتُرَّهات المناطقة وتمحُّلات المتكلِّمين محلَّ عقيدةِ أهل السنَّة والجماعة، ليعقِّدوا العقيدةَ ويشوِّهوا صفاءَها وجمالها؛ فيُنشِئوا لهذه الأمَّةِ جيلًا خُرَافيًّا مُبتدِعًا ومتكلِّمًا، يُفْسِد عقيدةَ الأمَّة ويلوِّث صفاءَها ويهدم بنيانَها.
وكان الأجدرُ بهم: ردَّ الأمَّة إلى منهج السنَّة القويم ومنهجِ السلف الصالح السليم، وتخليصَها مِنْ آثار الشُّبَه والشكوك والأفكار الهدَّامة والاتِّجاهات المُنحرِفة، وتجنيبَها طُرُقَ الباطل والغواية؛ ليصونوا الأمَّةَ مِنَ الهلكة والضلالة.
ولكِنْ لا يزالون على ظلمهم سائرين، لا تردُّهم موعظةٌ ولا يزجرهم بيانٌ ولا برهانٌ، يبذلون قُصارَى جُهدهم ليتوصَّلوا إلى إطفاءِ نور الله بمقالاتهم الكاسدة: يردُّون بها الحقَّ، وقد تَكفَّل اللهُ تعالى بإشاعةِ نوره ونصرِ دِينه وإتمامِ الحقِّ الذي أرسل به نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم؛ ﴿يُرِيدُونَ لِيُطۡفِ‍ُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ﴾ [الصف: ٨].
نسأل اللهَ أَنْ يحفظ دِينَه، ويُعليَ كلمتَه، وينصر أولياءَه المؤمنين المُتَّقين، وأَنْ يثبِّتنا على الحقِّ المُبين، ويعصِمَنا مِنَ الزلل عند المِحَن، ويجنِّبنا الشرَّ والفِتَن، ما ظَهَر منها وما بَطَن؛ إنه وليُّ ذلك والقادرُ عليه.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١٠ صفر ١٤٣٩ﻫ
الموافق ﻟ: ٣٠ أكتوبر ٢٠١٧م

(١) انظر: «إعلام الموقِّعين» لابن القيِّم (٤/ ١٣٠).
(٢) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم» بابُ فضائلِ أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم (٣٦٥٠)، ومسلمٌ في «فضائل الصحابة» (٢٥٣٥)، مِنْ حديثِ عمران بنِ حصينٍ رضي الله عنه.
(٣) انظر: «مقدِّمةَ ابنِ خلدون» الفصل السابع عشر: في علم التصوُّف (٢٨٥).
(٤) يُوجَد ضِمْنَ مؤلَّفي: «تنبيه المستبصرين بمفهوم التقسيم الاصطلاحيِّ للدِّين ـ نماذجُ وآثارٌ ضِمْنَ رؤيةٍ نقدية» (١٥).
(٥) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «أحاديث الأنبياء» (٣٤٥٦) بابُ ما ذُكِر عن بني إسرائيل، ومسلمٌ في «العلم» (٢٦٦٩)، مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه.
(٦) ويؤكِّد ذلك قولُ محمَّد بن الكبير صاحبُ السجَّادة التيجانية الكبرى وخليفةُ أحمد التيجاني الأكبر مؤسِّسِ الطريقة التيجانية، في خطبةٍ ألقاها أمامَ رئيس البعثة العسكرية الفرنسية في عين ماضي بالأغواط [الجزائر] بتاريخ ٢٨ ذي الحجَّة عام ١٣٥٠ﻫ ما نصُّه: «إنَّ مِنَ الواجب علينا إعانةَ حبيبةِ قلوبنا فرنسا مادِّيًّا ومعنويًّا وسياسيًّا؛ ولهذا فإنِّي أقول ـ لا على سبيل المنِّ والافتخار، ولكِنْ على سبيل الاحتساب والشرف بالقيام بالواجب ـ: إنَّ أجدادي قد أحسنوا صنعًا في انضمامهم إلى فرنسا قبل أَنْ تَصِل إلى بلادنا، وقبل أَنْ تحتلَّ جيوشُها الكرام دِيارَنا» [«تاريخ المغرب في القرن العشرين» لروم لاندرو (١٤٣)].
(٧) «هذه هي الصوفية» لعبد الرحمن الوكيل (١٧٢).
(٨) «جواهر المعاني» لعلي برادة (١/ ٢٢١).

وافي طيب
2018-04-29, 13:31
الفتوى رقم: ١٠٦١

الصنف: فتاوى الصيام - أحكام الصيام في حكم إبطال الصوم لإنقاذ غريق

السؤال:

صائمٌ في رمضانَ ظَهَرَ له في بعضِ شواطئِ البحرِ أنَّ أحَدَ الصيَّادين يُصارِعُ الغرقَ، ووَجَدَ في نَفْسِه ضعفًا بدنيًّا عن إنقاذِه إذا لم يَتناوَلْ شيئًا لِيَتقوَّى به على إنقاذه؛ فهل يجوز له أَنْ يُبْطِلَ صَوْمَه مِنْ أجلِ هذا الغَرَضِ؟ وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

فمَنْ لا يُمْكِنُه تخليصُ المُشْرِفِ على الهلاكِ مِنَ الغرقِ أو نحوِه إلَّا بالإفطارِ وَجَبَ عليه الفطرُ لإنقاذِه، ويأثم إِنْ لم يَفْعَلْ، ويَلْزَمُه القضاءُ، ولا تَلْزَمُه الفديةُ(١)؛ لأنَّ الْمُنْقِذَ للغريقِ في حُكْمِ الغريق، ويُلْحَقُ بالمريضِ والمسافرِ في وجوبِ القضاءِ دون الفدية؛ لقوله تعالى: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: ١٨٤].

هذا، وجديرٌ بالتنبيهِ أنَّ القادرَ على إنقاذِ غيرِه لِتَوَفُّرِ أسبابِ الإنقاذِ ووسائلِه كالقاربِ والحبلِ ونحوِهما ممَّا هي داخلةٌ في إمكانِه واستطاعتِه، وامتنع عنِ استعمالِهَا عمدًا؛ فإنه يأثم على تَرْكِه ويضمن دِيَتَه على الصحيحِ مِنْ قولَيِ العلماء؛ لأنَّ التركَ ـ*على التحقيقِ*ـ فعلٌ على ما هو مُقَرَّرٌ في موضِعِه، ومثَّل الشنقيطيُّ ـ*رحمه*الله*ـ بفروعٍ كثيرةٍ في المَذاهبِ، قال: «كمَنْ مَنَعَ مضطرًّا فَضْلَ طعامٍ أو شرابٍ حتَّى مات، فعلى أنَّ التركَ فعلٌ فإنه يضمن دِيَتَه، وعلى أنه ليس بفعلٍ فلا ضمانَ عليه، وكمَنْ مَنَعَ خيطًا مِمَّنْ به جائفةٌ(٢) حتَّى مات، ومَنْ مَنَعَ جارَه فَضْلَ مائِه حتَّى هَلَكَ زَرْعُه، ومَنْ مَنَعَ صاحِبَ جدارٍ خافَ سقوطَه عمدًا عنه حتَّى سَقَطَ، ومَنْ أمسك وثيقةَ حقٍّ حتَّى تَلِفَ الحقُّ. وأمثالُ هذا كثيرةٌ جدًّا في الفروع؛ فعلى أنَّ التركَ فعلٌ فإنه يضمن في الجميع»(٣).

والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٠٢ شعبان ١٤٣١ﻫ
الموافق ﻟ: ١٤ يوليو ٢٠١٠م

* ___________ من تطبيق آثار العلامة محمد علي #فركوس للتحميل على الأندرويد https://goo.gl/CnfonF ______________

(١) انظر: «المجموع» للنووي (٦/ ٣٢٩).

(٢) الجائفة: هي الطعنة التي تبلغ الجوفَ، [انظر: «الفائق» للزمخشري (١/ ٢٤٦)، «مختار الصحاح» للرازي (١١٧)].

(٣) «مذكِّرة أصول الفقه» للشنقيطي (٣٩).

وافي طيب
2018-09-28, 22:47
في حكم التداوي عند طبيبٍ نفسيٍّ

السّؤال:
هل يجوز استشارةُ طبيبٍ أو طبيبةٍ في علمِ النّفسِ عن بعضِ الأمورِ غيرِ العقديَّةِ وتكون استشارةً أو معالَجةً من بابِ الأخذِ بالأسبابِ، واللهُ هو الشافي؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالطبيبُ النّفسيُّ إن كان موثوقًا به، وأهلاً لممارَسةِ عملِه، ومأمونًا بحيث لا يستخدم -في علاجِه للأمراضِ النفسيَّةِ والاضطراباتِ العصبيَّةِ- الطُّرُقَ المحرَّمةَ شرعًا كالتنويمِ المغناطيسيِّ الممزوجِ بكثيرٍ من الدَّجَلِ، أو يلتجئ إلى ما وراءَ الأسبابِ العاديَّةِ لرفعِ الداءِ النفسيِّ، أو يستعمل الطريقةَ الفرويديَّةَ في المعالجةِ بإقناعِ المريضِ أنَّ سببَ عقدتِه النّفسيَّةِ واضطرابِه العصبيِّ يرجع إلى تقيُّدِه بالدينِ والأخلاقِ باعتبارِهما -على النظرةِ الفرويديَّةِ- حواجزَ وعوائقَ تقف أمامَ الإشباعِ الجنسيِّ؛ مما يُورِثُه عُقَدًا وأمراضًا، فيدعوه إلى التحرُّرِ مِن قيودِها، وغير ذلك ممَّا فيه إفسادٌ للدينِ والأخلاقِ وتلبيسٌ على المسلمين، فإنْ خَلَتْ مِهنتُه مِن هذه الهَنَاتِ والمعايبِ فلا مانِعَ من الرجوعِ إليه -استشارةً وعلاجًا- ببذلِ الأسبابِ المباحةِ لمداواةِ النفسِ المريضةِ، إذْ لا يختلف أمرُ البدنِ والنفسِ في تحقُّقِ المرضِ فيهما، وهما مشمولان بعمومِ الأمرِ بالتداوي في قولِه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «يَا عِبَادَ اللهِ تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلاَّ وَضَعَ لَهُ شِفَاءً -أو قال: دَوَاءً- إِلاَّ دَاءً وَاحِدًا»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا هُوَ؟ قَالَ: «الهَرَمُ»(١)، وفي قولِه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ اللهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا وَلاَ تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ»(٢).
والأصلُ أنَّ المرأةَ لا تعالِجُ إلاَّ عند طبيبةٍ إن وُجِدَتْ، وكذلك الرَّجُلُ يتداوى عند طبيبٍ رجلٍ، فإن تعذَّر فيجوز التداوي مع اختلافِ الجنسين استثناءً من الأصلِ السابقِ، وذلك إن أُمِنَتِ الفتنةُ بالتزامِ الضوابطِ الشرعيَّةِ المبيَّنةِ في رسالتِنا «نصيحة إلى طبيب مسلم»(٣)، منها: تجنُّبُ الخلوةِ والمسِّ والمصافحةِ والنظرِ الممنوعِ، ونحو ذلك من الضوابطِ الشرعيَّةِ المتعلِّقةِ بشخصيَّةِ الطبيبِ وأخلاقيَّاتِه .
هذا، وجديرٌ بالتنبيهِ أن الرجوعَ إلى الطبيبِ النفسيِّ -استشارةً أو علاجًا- تسبقه مرحلةُ تشخيصِ المرضِ، فإن تأكَّد أنه مرضٌ من نوعِ المسِّ الشيطانيِّ أو السحرِ فإنه لا يصير إلى الطبيبِ النفسيِّ؛ لأنَّ هذا النوعَ من المرضِ لا يدخل ضِمْنَ الطبِّ النفسيِّ، وإنما يستشير راقيًا كفءًا ومؤهَّلاً أو يعالِج عنده لرفعِ المسِّ وحَلِّ السحرِ بالنُّشرةِ الشرعيَّةِ.
أمَّا إن كان المرضُ المشخَّصُ من نوعِ الوساوسِ الشيطانيَّةِ التي تُورِثُ في نفسِ المريضِ الشكَّ والقلقَ والاضطرابَ وما ينْجَرُّ عنها من الهمِّ والغمِّ والأسى؛ فإنَّ هذه الحالاتِ النفسيَّةَ قد يعود سببُها إلى مقارفةِ المريضِ للذنوبِ وارتكابِه للمعاصي، والواجبُ على المريضِ -والحالُ هذه- الإنابةُ إلى اللهِ بالتوبةِ النَّصوحِ، والتوكُّلُ عليه والإكثارُ من الاستغفارِ، والمحافظةُ على عمومِ الأذكارِ في الصباحِ والمساءِ، ومن أهمِّها: قراءةُ القرآنِ وفاتحةِ الكتابِ وآيةِ الكرسيِّ والمعوِّذاتِ: «الإخلاص» و«الفلق» و«الناس»، وغيرِها ممَّا يحفظ من أمرِ اللهِ، كما عليه اختيارُ الرُّفْقَةِ الصالحةِ التي تؤازره، ومَلْءُ الفراغِ بما يُفيده في معاشِه ومعادِه، فإنَّ الوَحْدَةَ والعُزلةَ للمصابِ بالوسواسِ من أسبابِ زيادةِ الكبتِ والإحباطِ النفسيِّ، وهذه الحالةُ لا يُرَاجِعُ فيها الطبيبَ النفسيَّ، بل يتصدَّى لها المصابُ شخصيًّا بالصمودِ ضدَّ وساوسِ الشيطانِ ويعصيه فيما يوحيه إليه من شكوكٍ ووساوسَ، ويستعين باللهِ عليه ويتضرَّع إلى اللهِ بالدعاءِ في أوقاتِ الاستجابةِ وفي جوفِ الليلِ أو ثلثِه الأخيرِ، ويدعوه بأنْ يحفظَه من الشيطانِ ويخلِّصَه من وساوسِه وشِرَاكِه ومكايدِه، فإن التزم هذه الطريقةَ الشرعيَّةَ بإخلاصٍ وصدقٍ فإنَّ اللهَ تعالى يُبْعد عنه ما يخشاه ويحقِّقُ له ما يرجوه ويتمنَّاه من الخيرِ، فيسكن قلبُه وتطمئنُّ نفسُه، ذلك لأنَّ اللهَ تعالى سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدعَوَاتِ.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدّين وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١٦ جمادى الثانية ١٤٣٢ﻫ
المـوافق ﻟ: ١٩ مـــاي ٢٠١١م
(١) أخرجه أبو داود في «الطبّ» باب في الرجل يتداوى (٣٨٥٥)، والترمذي –واللفظ له- في «الطبّ» باب ما جاء في الدواء والحثّ عليه (٢٠٣٨)، من حديث أسامة بن شريك العامري رضي الله عنه، وصحّحه الألباني في «الصحيحة» (٢/ ٧٣٦) رقم (٣٩٧٣).
(٢) أخرجه أبو داود في «الطّبّ»، باب في الأدوية المكروهة (٣٨٧٤)، والبيهقيّ في «السنن الكبرى» (١٠/ ٩)، من حديث أبي الدّرداء رضي الله عنه. والحديث حسّنه الأرناؤوط في تحقيقه ﻟ«جامع الأصول» (٧/ ٥١٢)، وانظر «السّلسلة الصّحيحة» للألبانيّ (٤/ ١٧٤).
(٣) ص (٣١-٣٤).

وافي طيب
2019-02-03, 11:25
في ردِّ مقالة الصوفية في تركِهم لعبادتَيِ الخوف والرجاء
السؤال:
فضيلةَ الشيخ، هل يعبد المسلمُ اللهَ تعالى لأنه يَستحِقُّ العبادةَ، أم يعبده طمعًا في جنَّته وخوفًا مِنْ ناره؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فإنَّ مِنْ حقِّ اللهِ سبحانه وتعالى على عِبادِه توحيدَه وإخلاصَ العبادة له سبحانه، وهو يأمر عِبادَه أَنْ يَدْعوه ويعبدوه خوفًا مِنْ نارِه وعذابِه وطمعًا في جنَّتِه ونعيمِه، قال تعالى في سورة الأعراف: ﴿وَٱدۡعُوهُ خَوۡفٗا وَطَمَعًا﴾ [الأعراف: ٥٦]، والخوفُ والرغبةُ مِنْ أنواع العبادة المقرِّبة إليه سبحانه؛ إذ الخوفُ مِنَ الله يحمل العبدَ على الابتعاد عن المعاصي والنواهي، والطمعُ في جنَّته يحفِّزه على العملِ الصالحِ وكُلِّ ما يُرْضي اللهَ تعالى؛ لذلك امتدح اللهُ أنبياءَه الذين هم أَكْمَلُ الناسِ عقيدةً وإيمانًا وأحوالًا، فوَصَفهم في عبادتهم وتقرُّبهم ودعائهم بقوله: ﴿إِنَّهُمۡ كَانُواْ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَيَدۡعُونَنَا رَغَبٗا وَرَهَبٗاۖ وَكَانُواْ لَنَا خَٰشِعِينَ ٩٠﴾ [الأنبياء]، أي: راغبين في جنَّته وخائفين مِنْ عذابه، وقد قال اللهُ تعالى: ﴿نَبِّئۡ عِبَادِيٓ أَنِّيٓ أَنَا ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ ٤٩ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ ٱلۡعَذَابُ ٱلۡأَلِيمُ ٥٠﴾ [الحجر]، وقال تعالى ـ وهو يُخاطِبُ رسولَه الكريم ـ: ﴿قُلۡ إِنِّيٓ أَخَافُ إِنۡ عَصَيۡتُ رَبِّي عَذَابَ يَوۡمٍ عَظِيمٖ ١٥﴾ [الأنعام: ١٥، الزُّمَر: ١٣]، وممَّا يؤكِّد ذلك مِنَ السنَّةِ أحاديثُ كثيرةٌ منها ما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم لِرَجُلٍ: «مَا تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ؟» قَالَ: «أَتَشَهَّدُ ثُمَّ أَسْأَلُ اللهَ الجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِهِ مِنَ النَّارِ، أَمَا وَاللهِ مَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ»، قَالَ: «حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ»(١)؛ فإذا كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ وهو أَكْمَلُ الخَلْقِ وأَعْلَمُهم بالله وأَخْشاهم له ـ يُدَنْدِن بدعائه حول الجنَّةِ فحَرِيٌّ بأمَّتِه أَنْ تقتديَ به؛ عملًا بقوله تعالى: ﴿لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا ٢١﴾ [الأحزاب].
ولا شكَّ أنَّ عبادة الله تعالى مجرَّدةً عن الرجاء والخوف والرغبة والرهبة تؤدِّي ـ بطريقٍ أو بآخَرَ ـ إلى التدرُّج إلى غاياتٍ فاسدةٍ أخرى على نحوِ ما سعى إليه المتصوِّفةُ، وهي: القولُ بالفَناء في الربِّ، وما جرَّهم إلى عقيدة الحلول، وفي نهايةِ المَطاف إلى وحدة الوجود.
هذا، والصوفية في مُعتقَدهم خالَفوا هذه النصوصَ الصريحة في دعوتهم إلى أَنْ تكون عبادةُ الله لا خوفَ فيها مِنَ النار ولا طَمَعَ فيها في الجنَّة، بل يجعلون ذلك مِنَ الشرك بالله تعالى كما جاء عن بعضِ المفسِّرين المتصوِّفة؛ فهؤلاء يتركون صريحَ القرآنِ والسنَّةِ وما أجمعَتْ عليه الأمَّةُ، ويستشهدون بقولِ رابِعةَ العدويةِ(٢): «اللَّهمَّ، إِنْ كنتُ أعبدُكَ طمعًا في جنَّتك فاحْرِمْني منها، وإِنْ كنتُ أعبدُك خوفًا مِنْ نارك فاحْرِقْني فيها»، وبقولِ عبد الغنيِّ النابلسيِّ(٣): «مَنْ كان يعبد اللهَ خوفًا مِنْ نارِه فقَدْ عَبَدَ النارَ، ومَنْ عَبَدَ اللهَ طلبًا للجنَّة فقَدْ عَبَد الوَثَنَ»، فاللهُ المستعان.
ولا يخفى أنَّ هذه الأقوالَ مُخالِفةٌ لعبادة الملائكة الذين ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوۡقِهِمۡ﴾ [النحل: ٥٠]، وعبادةِ الأنبياء الذين يعبدون اللهَ رغَبًا ورهَبًا ـ كما تقدَّم ـ.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١٨ رجب ١٤٢٤ﻫ
الموافق ﻟ: ١٢ سبتمبر ٢٠٠٣م

(١) أخرجه ابنُ ماجه في «الدعاء» باب الجوامع مِنَ الدعاء (٣٨٤٧) مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٣١٦٣).
(٢) هي أمُّ الخيرِ رابعةُ بنتُ إسماعيل العدويةُ البصرية، مولاةُ آل عتيكٍ، صوفيةٌ مشهورةٌ، ظَهَرَتْ منها أقوالٌ مُستَنْكَرةٌ في الحبِّ والعشق الإلهيِّ للتعبير عن المحبَّة بين العبد وربِّه، تُوُفِّيَتْ بالقدس سنة: (١٨٥ﻫ) على الأصحِّ.
انظر ترجمتها في:«تاريخ بغداد» للخطيب (٢/ ٣٩)، «وفيات الأعيان» لابن خِلِّكان (٢/ ٢٨٥)، «سِيَر أعلام النُّبَلاء» للذهبي (٨/ ٢٤١)، «البداية والنهاية» لابن كثير (١٠/ ١٨٦)، «طبقات الأولياء» لابن الملقِّن (٤٠٨)، «شذرات الذهب» لابن العماد (١/ ١٩٣)، «أعلام النساء» لكحالة (١/ ٤٣٠).
(٣) هو عبد الغنيِّ بنُ إسماعيل بنِ عبد الغنيِّ النابلسيُّ الدمشقيُّ الحنفيُّ، متصوِّفٌ سَلَك الطريقةَ القادرية على شيخه عبد الرزَّاق الكيلاني، والطريقةَ النقشبندية على شيخه سعيدٍ البلخيِّ، له تصانيفُ في التصوُّف وديوانُ شعرٍ، كما له رحلاتٌ عديدةٌ، واستقرَّ في دمشق حتَّى وفاته سنة: (١١٤٣ﻫ).
انظر ترجمته في:«خلاصة الأثر» للمُحِبِّي (٢/ ٣٩٥)، «معجم المؤلِّفين» لكحالة (٢/ ١٧٦)، «الأعلام» للزركلي (٤/ ٣٢)، «معجم أعلام شعراء المدح النبوي» لدرنيقة (٢٣٤).

بـــيِسَة
2019-02-03, 20:01
سلام

بارك الله فيك
شكراااا جزاك الله بالتي هي خير واحسن


بالتوفيق