المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : انهيار الجدار أو القرن العشرون القصير


المعزلدين الله
2009-11-01, 18:34
انهيار الجدار أو القرن العشرون القصير
مالك التريكي




http://www.alquds.co.uk/yesterday/30qpt77.jpg

في الذاكرة العامة أن جدار برلين انهار يوم9 تشرين الثاني (نوفمبر)1989 . إلا أن دبلوماسيا من ألمانيا الغربية تمكن من أن يأتي بالخبر اليقين قبل وقوع الحدث بشهرين كاملين! وقصة ذلك أن وزير خارجية المجر أعلن يوم 10 أيلول (سبتمبر) 1989 على شاشات التلفزيون فتح الحدود مع النمسا، فما هي إلا أيام ثلاثة حتى تدفق على فيينا ما لا يقل عن اثني عشر ألفا من الأوروبيين، وخاصة الألمان الشرقيين. بعد ذلك بيومين لم يتردد سفير ألمانيا الغربية لدى الفاتيكان في أن يؤكد لزملائه من دول المجموعة الأوروبية: 'يوم العاشر، سقط الجدار'...
أي كأن الرجل قد قال: 'إن كنتم لا تزالون ترون الجدار قائما، فلا تغرنكم أعينكم: لقد قضي الأمر'. يوم العاشر سقط الجدار: مثال نادر من الارتقاء بالمجاز مرتقى شبه مستحيل، أي مرتقى التنبؤ بحدث لمّا يقع، مع الإخبار عنه بصيغة الماضي (المنقضي شكلا والمتصل فعلا). لكن لعل من الأدق القول إنه مثال نادر على نفاذ البصيرة المتأتي من قوة الاستقراء وصواب التأويل. ذلك أن أحد أقوى الأدلة على محدودية أدواتنا المعرفية، مثلما بيّن المفكر إدغار موران منذ بداية التسعينيات، أن كل أحداث القرن العشرين الجسام قد حصلت دون أن يتمكن أحد من التنبؤ بأي منها. وإذا تذكرنا أن قسما كبيرا من البشرية، كان بينهم أفذاذ من طراز سارتر، قد أخلدوا معظم القرن العشرين إلى أمان الإيمان بأبدية الشيوعية، تبين لنا أن انهيار الجدار عام 1989 قد يكون من أعظم الأحداث الجسام التي لم تكن لتخطر، قبل وقوعها، على بال.
ولهذا رغم أن المؤرخ أريك هوبسباوم قد أرخ لبداية القرن السالف باندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1914 ولنهايته بانهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 (وعلى هذا الأساس أطلق عليه وصفه الشهير بأنه 'القرن العشرون القصير')، فإن من الممكن النسج على منوال الدبلوماسي الألماني واستباق النهاية بعامين، أي القول دون تردد: إن القرن العشرين انتهى عام 1989. فقد أصبح انهيار الاتحاد السوفييتي منذئذ مجرد تحصيل حاصل.
لكن ما أسرع وما أسهل ما ننسى أنه قد بدا آنذاك أن الإنسانية أخذت تشهد انبجاس نبع التاريخ بعد طول انحباس... وقد انبجس التاريخ فعلا وتدفق، وتزاحمت الأحداث وتراكضت، فمر العالم من يالطا (حيث عقدت قمة شباط (فبراير) 1945 بين روزفلت وستالين وتشرشيل) إلى مالطا (حيث عقدت قمة كانون الأول (ديسمبر) 1989 بين بوش الأكبر وغورباتشوف)، أو بالأحرى تدحرج العالم من 'نظام يالطا إلى فوضى الأمم' (حسب عنوان كتاب صدر حينئذ) فانتقلت الشعوب من برد يقين... الحرب الباردة إلى جمر حيرة ما بعدها... ومن عالم تضلله، ولكن تنظمه أيضا، أوهام الإيديولوجيات إلى عالم تسكره وتبعثره حمى 'ثأر القوميات' (حسب عنوان كتاب آخر) من الإيديولوجيات.
ما أسهل ما ننسى! فقد أصبح التاريخ، كما لاحظ الكاتب جان دانيال، يتسارع بوتيرة فائقة إلى حد أن العالم أخذ يفقد الذاكرة تماما. ولهذا فهو لم يعد الآن يستحضر أجواء الابتهاج التي رافقت احتفاءه بتحرر شعوب أوروبا الشرقية ولم يعد يتذكر الآمال العراض التي عقدها على انتهاء الحرب الباردة: آمال السلام والتنمية والرشد الحضاري.
كنّا عامئذ في إحدى الجامعات الأمريكية وكان كل من نعرف، على اختلاف جنسياتهم، منبهرين بالحدث الجسيم مبتهجين بما يفتحه من آفاق الدلالات. كانت أجواء الانتشاء عارمة لولا صديقان.. ألمانيان (شاب وفتاة) قررا تنغيصها. إذ بينما كان الجميع منبهرا مبتهجا، كانا هما شبه مبتئسين لأنهما فكّرا وقدّرا فوجدا أن الفاتورة التي ستدفعها ألمانيا الغربية نظير الوحدة مع ألمانيا الشرقية سوف تكون باهظة جدا. فلم نكن نملك، نحن أبناء الأمم الأخرى، سوى التعجب مما كان يبدو لنا تعاميا إراديا عن معاني الحدث الجلل وامتناعا مازوشيا عن ثمر التاريخ ومباهجه! كنا نستغرب ما كان يبدو لنا إفراطا في ضيق الأفق وإمعانا في حسابات البقالين. أما أبناء أمة التشرذم العربي منا تحديدا، فقد كنا نعجب ولا نفهم ونعجب أكثر بعد أن نستفهم. نعجب من هذين الألمانيين يجحدان نعمة الوحدة يجود بها التاريخ دفعة واحدة بينما نكابد نحن اليتم القومي أطوله وأثقله: أمة حال قرن القوميات، ثم قرن الإيديولوجيات، بينها وبين إرادة الحياة، فلم يبق لها على شىء سوى أحلام الوحدة تنكأ جراح السياسة دوما... لأنها توهم بفعل الإرادة يوما