تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : بين الحفّاظ المُبرّزين و الأدعياء الخنفشاريين


أبو عاصم مصطفى السُّلمي
2017-04-15, 08:53
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على المبعوث رحمة للعالمين ، و على آله و صحبه أجمعين . و بعد :
فإن المشتغل بالطلب ، و المعتنيَ بالتّحصيل ، يدرك أن هذا الشأن شديد ، و الإيغال فيه إلى الغاية حديد ، و قد أدرك بعضَ هذا رجالٌ أختصهم المولى جل ّو علا بمزيد فضل ، فسُمُّوا علماء و حفاظا و جهابذة ، في حين رضي السّواد الأعظم ، بالقعود عند العتبات ، و القطون بالجنبات ، فسُمُّوا بطّالين و عامّة . و دعت بعض النّاس أنفسُهم إلى ترسُّم طرائق الأولين ، لكنّ همتّهم أبت بهم إلا اقتفاء سَنن الآخِرين ، فاقتنعوا بالدّعة و الخمول ، مع ادّعاء العلم و الوُصول .
و هذا أفتك سبيل ، و صاحبه أوّل قتيل ، و اصطُلح على هؤلاء : الخنفشاريين ، و ما أكثر هذا الضربَ من النّاس فيهم ، و هو أعدى لهم من ساذجِ الجهلِ ، مُقِرٍّ به . و الشّكوى من أمثالهم قديمة ، لكنّها اليوم أحرى و أولى ، لأنهم صاروا هم المُقدّمين و المشار إليهم بالبنان . و إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر السّاعة .
و لا أدّل على ذلك من صاحبَيْ قناة النّهار ، الشّمس و الوسيم ، مما يُذكِّر بقول محمد بن عمار المهري الأندلسي :
مما يزهدني في أرض أنــدلس *** أسمــــــــاء معتمد فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها *** كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد
و غيرهم كثيرون ، و استقصاؤهم يُلغِبُ الدّؤوب ، و يَخرق الذَّنوب
و إذا أردت أن تعرف سبب نعتهم بالخنفشاريين فاقرأ ما ذكره العلامة تقي الدّين الهلالي (1407هـ) في الهدية الهادية إلى الطائفة التجانية (1/77)
[ فإن قلت أيها القارئ ما معنى قولك خنفشاريتين؟ فالجواب: أن جماعة من الأدباء زارهم رجل كذاب محتال إلا أنه كان فصيح اللسان؛ وادعى لهم أنه من أهل العلم فما سألوه عن مسألة إلا أفاض في جوابها ارتجالا بما حير ألبابهم. فقال أحدهم: تعالوا نمتحنه لنعلم صدقه من كذبه؛ وكانوا ستة؛
فقالوا: ليكتب كل واحد منا حرفا ثم نجمعها فتصير كلمة ونسأله عن معناها. فكتب كل واحد منهم حرفا ثم جمعوا الأحرف فتألفت منها كلمة هي (خنفشار) فقالوا أيها الأديب هل تعرف الخنفشار؟ فقال نعم هو نبات يطول إلى مقدار ذراع وله أوراق مستديرة؛ وفيه لبن وهو صالح يوضع في اللبن الحليب فيحسن طعمه؛ وتطيب رائحته قال الشاعر:
لقد حلت محبتكم بقلبي **** كما نفع الحليب الخنفشار

وله خواص طبية ونقل عن الأطباء اليونانيين منافع كثيرة لهذا النبات؛ ثم قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضع أحدهم يده على فمه؛ وقال أيها الرجل حسبك بهتانا؛ كذبت على علماء اللغة وعلى الشعراء وعلى الأطباء والآن تريد أن تكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ]
و لا يُعكِّر على ما نحن بصدد بيانه ، ما ذكره الزبيدي في تاج العروس من جواهر القاموس عند بيان معنى كلمة خنشفر (11/228) بعد أن ذكر طرفا من القصة نقلا عن المقرّي من " نفح الطيب " لاقتراب لفظة الخنفشار من خنشفر :[ وَقد نُسِب ذَلِك إِلَى أَبي العَلاءِ صَاعد اللُّغَويّ صاحِبِ الفُصُوص، وَقيل الزَّمَخْشَرِيّ، والأَوَّلُ أَقْرب.] فإنه و إن نسبت القصة إلى أحدهما و هما من هما في اللّغة و النّحو ، فإن العبرة ها هنا في ادّعاء العلم بالشيء زورا و كذبا و تدليسا ، و هو قبيح حتى من العالم ـ بل هو منه أقبح ـ
و القضية نسبة المُدّعين للعلم زورا و كذبا ، إلى لبّ المسألة و باعثها و هو الخنفشار ، فسُمُّوا خنفشاريّين .
و من اللّطائف ، مشابهة هذه القصّة لأخرى في الظاهر ، مناقضة لها في الباطن ، فإن العلم بالشّيء ، و بذله لجاهله ، مَظِنّة التُّهمة و التّكذيب و التّجهيل منه للعالم . فقد أورد العِمران في كتاب المشوّق إلى القراءة و طلب العلم (ص103) عند ذكره لصنيع بعض العلماء [ ... لمزيد اعتنائهم ببعض الكتب، وممارستهم لها يُلقونها دروسًا في أسرعِ وقتٍ وأقصرِ مُدة، مع مزيد المثابرة والجهد ... ] (ص101) نقلا عن الكتّاني قوله في أبي راس النّاصري [ جاء في ((فهرس الفهارس)) -أيضًا- في ترجمة أبي رأس المُعَسْكري محمد بن أحمد بن عبد القادر الجزائري ت (1239) : أنه كان مُتْقِنًا لجميع العلوم عارفًا بالمذاهب الأربعة، مُحقِّقًا لمذهب مالكٍ غايةً، لا سيما ((مختصر خليل)) ، فَلَهُ فيه الملَكة التامة، بحيث يُلْقيه على طلَبته في أربعين يومًا، و ((الخلاصة)) في عشرة أيامٍ. ] ثم قال في الهامش [ وحلاَّه الكتاني بـ ((حافظ المغرب الأوسط ورحَّالته)) .
(لطيفة) : كان يُذكر أبو رأسٍ هذا بقوَّةِ الحافظةِ وسَعَة الاطلاع، فاتُّهِمَ، فاجتمع جماعةٌ من تلاميذه فركَّبوا اسمًا نطقَ كلُّ واحدٍ منهم بحرفٍ منه، وجعلوه اسمًا لملكٍ، وسألوا الشيخَ عنه، فأملى لهم ترجمتَه وسِيْرته وأعمالَه، فاتفقوا أن الشيخَ كاذبٌ!!.
ولما طالت المدَّة، وقف أحدُهم على الاسم والسيرة في كتابٍ تاريخي على نحو ما كان أملاه الشيخ أبو رأسٍ عليهم، فعلموا أن الشيخَ صادق وهم مقصِّرون متهمون الشيخ مما هو منه بريىءٌ.
قال الكتاني: وهذه حالة كبار الحفاظ مع القاصرين والجاهلين. ] (ص103)
فانظر رحمك الله إلى القصّتين و ما بينهما من التّشابه في صورتيهما و التّباين في حقيقتيهما ، لتعلم الفرق بين العالم و المتعالم ، و بين المبرّز و الدّعي ، فالأول يرفعه الله و ينصره ، و الثاني يفضحه الله و يخذله .
و قريبا منها ما ذكره ابن الجوزي في كتاب الحث على طلب العلم و ذكر كبار الحُفّاظ في ترجمة أبي عمر محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم ، تلميذ ثعلب قال : [ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ «أَبُو عُمَرَ»
اللُّغَوِيُّ الزَّاهِدُ، غُلامُ ثَعْلَبٍ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَحَفِظَ مِنَ اللُّغَةِ الْكَثِيرَ، أَمْلَى مِنْ حِفْظِهِ ثَلاثِينَ أَلْفَ وَرَقَةِ لُغَةٍ، وَلِسَعَةِ حِفْظِهِ اتُّهِمَ بِالْكَذِبِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَكَى رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ الْمُحَسّنِ عَمَّنْ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا عُمَرَ الزَّاهِدَ كَانَ يُؤَدِّبُ وَلَدَ الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ، فَأَمْلَى يَوْمًا عَلَى الْغُلامِ نَحْوًا مِنْ ثَلاثِينَ مَسْأَلَةً فِي اللُّغَةِ، وَذَكَرَ غَرِيبَهَا، وَخَتَمَهَا بِبَيْتَيْنِ مِنَ الشِّعْرِ.
وَحَضَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ، وَابْنُ الأَنْبَارِيِّ، وَابْنُ مِقْسَمٍ، عِنْدَ أَبِي عُمَرَ الْقَاضِي، فَعَرَضَ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْمَسَائِلَ، فَمَا عَرَفُوا مِنْهَا شَيْئًا،وَأَنْكَرُوا الشِّعْرَ! فَقَالَ لَهُمُ الْقَاضِي: مَا تَقُولُونَ فِيهَا؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ: أَنَا مَشْغُولٌ بِتَصْنِيفِ مُشْكِلِ الْقُرْآنِ، وَلَسْتُ أَقُولُ شَيْئًا، وَقَالَ ابْنُ مِقْسَمٍ مِثْلَ ذَلِكَ لاشْتِغَالِهِ بِالْقِرَاءَاتِ، وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: هَذِهِ الْمَسَائِلُ مِنْ مَوْضُوعَاتِ أَبِي عُمَرَ، وَلا أَصْلَ لَهَا وَلا لِشَيْءٍ مِنْهَا فِي اللُّغَةِ، وَانْصَرَفُوا.
فَبَلَغَ أَبَا عُمَرَ ذَلِكَ، فَاجْتَمَعَ مَعَ الْقَاضِي، وَسَأَلَهُ إِحْضَارَ دَوَاوِينِ جَمَاعَةٍ مِنْ قُدَمَاءِ الشُّعَرَاءِ عَيَّنَهُمْ لَهُ، فَفَتَحَ الْقَاضِي خَزَانَتَهُ، وَأَخْرَجَ لَهُ تِلْكَ الدَّوَاوِينَ، فَلَمْ يَزَلْ أَبُو عُمَرَ يَعْمِدُ إِلَي كُلِّ مَسْأَلَةٍ، وَيُخْرِجُ لَهَا شَاهِدًا مِنْ بَعْضِ تِلْكَ الدَّوَاوِينِ، وَيَعْرِضُهُ عَلَى الْقَاضِي حَتَّى اسْتَوْفَى جَمِيعَهَا، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ أَنْشَدَهُمَا ثَعْلَبٌ بِحَضْرَةِ الْقَاضِي، وَكَتَبَهُمَا الْقَاضِي بِخَطِّهِ عَلَى ظَهْرِ كِتَابِ الْقَاضِي الْفُلانِيِّ : فَلَمَّا أَحْضَرَ الْقَاضِي الْكِتَابَ، فَوَجَدَ الْبَيْتَيْنِ عَلَى ظَهْرِهِ بِخَطِّهِ، كَمَا ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ، وَانْتَهَتِ الْقِصَّةُ إِلَى ابْنِ دُرَيْدٍ فَلَمْ يَذْكُرْ أَبَا عُمَرَ بِلَفْظِهِ حَتَّى مَاتَ ] (ص59/60) نقلا عن الشاملة
فانظر إلى العلم و الذّاكرة و الاستحضار و حسن المحاضرة و المذاكرة ، و قبل هذا و بعده توفيق الله للعبد ، و قوة اليقين في قلب الحفاظ و العلماء
نسأل الله تعالى أن يوفقنا للعلم النافع و العمل الصّالح
إنه ولي ذلك و القادر عليه

أبو عاصم مصطفى بن محمد
السُّـــلمي
تبلبـــالة

أبو عاصم مصطفى السُّلمي
2017-04-15, 09:51
و ممن اتُّهم بالادّعاء الأصمعي ، فامتُحن فأصاب و ما أخطأ . ذكر ابن الجوزي في كتاب الحث على حفظ العلم قائلا : [ وَنَقَلْتُ مِنْ خَطِّ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ الْمَرْزُبَانِيِّ.
قَالَ حَكَى أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عُمَرَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا يَوْمًا عِنْدَ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ، وَبِحَضْرَتِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ: الأَصْمَعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَالْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ، وَخَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَصَاحِبُ الْحَسَنِ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الرِّقَاعَ إِلَى أَنْ وَقَّعَ فِي خَمْسِينَ رُقْعَةً فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَقَالَ: تَذَاكَرُوا الْعِلْمَ، فَتَكَلَّمَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَالأَصْمَعِيُّ، وَالْهَيْثَمُ، وَجَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، فَالْتَجَّ الْمَجْلِسُ بِالْمُذَاكَرَةِ، إِلَى أَنْ بَلَغُوا إِلَى ذِكْرِ الْحُفَّاظِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، فَأَخَذُوا فِي الزُّهْرِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَشُعْبَةَ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَا حَاجَتُنَا إِلَى قَوْمٍ، وَمَا نَدْرِي أَصَدَقَ الْخَبَرُ عَنْهُمْ أَمْ كَذَبَ؟ وَبِالْحَضْرَةِ رَجُلٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ مَا أُنْسِيَ شَيْئًا قَطُّ، وَأَنَّهُ مَا يَحْتَاجُ أَنْ يُعِيدَ نَظَرَهُ فِي دِفْتَرِهِ، إِنَّمَا هِيَ نَظْرَةٌ وَاحِدَةٌ ثُمَّ قَدْ حَفِظَ مَا فِيهِ.
يُعَرِّضُ بِالأَصْمَعِيِّ فَقَالَ الْحَسَنُ: نَعَمْ وَاللَّهِ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ إِنَّكَ لَتَجِيءُ مِنْ هَذَا بِمَا يُنْكَرُ جِدًّا.
فَقَالَ الأَصْمَعِيُّ: نَعَمْ أَحْتَاجُ أَنْ أُعِيدَ النَّظَرَ فِي دِفْتَرٍ، وَمَا أُنْسِيتُ شَيْئًا قَطُّ.
فَقَالَ الْحَسَنُ: فَنَحْنُ نُجَرِّبُ هَذَا الْقَوْلَ: يَا غُلامُ الدِّفْتَرَ الْفُلانِيَّ فَإِنَّهُ جَامِعٌ لِكَثِيرٍ مِمَّا أَسْنَدْنَاهُ وَحَدَّثْنَاهُ، فَمَضَى الْغُلامُ لِيُحْضِرَ الدِّفْتَرَ، فَقَالَ الأَصْمَعِيُّ: فَأَنَا أُرِيكَ أَعْجَبَ مِنْ هَذَا! أَنَا أُعِيدُ الْقَصَصَ الَّتِي مَرَّتْ بِأَسْمَاءِ أَصْحَابِهَا وَتَوْقِيعَاتِكَ فِيهَا كُلَّهَا، وَأَمْتَحِنُ ذَلِكَ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا، وَقَدْ كَانَ عَارَضَ بِتِلْكَ التَّوْقِيعَاتِ فِي وَقْتِ ذَلِكَ مَنْ حَضَرُوا، لِيَنْصَحُوا، فَاسْتَدْعَى الْحَسَنُ الْقَصَصَ، قَالَ الأَصْمَعِيُّ: الْقِصَّةُ الأُولَى لِفُلانٍ، قِصَّتُهُ كَذَا وَكَذَا، وَقَّعْتَ كَذَا وَكَذَا، حَتَّى أَتَى عَلَى سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ قِصَّةً، فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: حَسْبُكَ السَّاعَةَ، وَاللَّهِ تَقْتُلُكَ الْجَمَاعَةُ بِأَعْيُنِهَا.
يَا غُلامُ خَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَالَ: يَا غُلامُ أَنِ احْمِلُوهَا مَعَهُ، وَقَالَ: تُنْعِمُ بِالْحَامِلِ كَمَا أَنْعَمْتَ بِالْمَحْمُولِ؟ ، فَقَالَ: هُمْ لَكَ وَلَسْتَ تَنْتَفِعُ بِهِمْ، وَقَدِ اشْتَرَيْتُهُمْ مِنْكَ بِعَشْرَةِ آلافِ دِرْهَمٍ فَحُمِلَتْ مَعَهُ الدَّرَاهِمُ وَانْصَرَفَ الْبَاقُونَ بِالْخَيْبَةِ. ] ص47/48

أبو عاصم مصطفى السُّلمي
2017-04-15, 09:52
و ممن اتّهمه أبوه بالكذب في الحفظ ، أبو القاسم التنوخي ، و امتحَنه فظهر صدقه و حفظه .
قال ابن الجوزي في " الحث على طلب العلم " : [ أَخْبَرَنَا الْقَزَّازُ، أَخْبَرَنَا الْخَطِيبُ، أَخْبَرَنَا التَّنُوخِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي ـ وَلِي إِذْ ذَاكَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً ـ يُنْشِدُ بَعْضَ قَصِيدَةِ دِعْبِلٍ الطَّوِيلَةِ الَّتِي يَفْخَرُ فِيهَا بِالْيَمَنِ وَيُعَدِّدُ مَنَاقِبَهُمْ وَيَرُدُّ عَلَى الْكُمَيْتِ فِيهَا فَخْرَهُ بِنِزَارٍ، وَأَوَّلُهَا:
أَفِيقِي مِنْ مَلامِكِ يَا ظَغِينَا ... كَفَاكِ اللَّوْمُ مَرَّ الأَرْبَعِينَا
: وَهِيَ نَحْوُ سِتِّ مِائَةِ بَيْتٍ، فَاشْتَهَيْتُ حِفْظَهَا لِمَا فِيهَا مِنْ مَفَاخِرِ الْيَمَنِ أَهْلِي، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، ادْفَعْهَا إِلَيَّ حَتَّى أَحْفَظَهَا، فَدَافَعَنِي، فَأَلْحَحْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: كَأَنِّي بِكَ تَأْخُذُهَا، فَتَحْفَظُ مِنْهَا خَمْسِينَ بَيْتًا، أَوْ مِائَةَ بَيْتٍ، وَتَرْمِي بِالْكِتَابِ، فَقُلْتُ: ادْفَعْهَا إِلَيَّ، فَأَخْرَجَهَا وَسَلَّمَهَا إِلَيَّ، فَدَخَلْتُ حُجْرَةً كَانَتْ بِرَسْمِي مِنْ دَارِهِ، وَخَلَوْتُ فِيهَا وَلَمْ أَتَشَاغَلْ يَوْمِي وَلَيْلَتِي بِشَيْءٍ عَنْ حِفْظِهَا، فَلَمَّا كَانَ فِي السَّحَرِ، كُنْتُ قَدْ فَرَغْتُ مِنْ جَمِيعِهَا وَأَتْقَنْتُهَا، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ غُدْوَةً عَلَى رَسْمِي، فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: هيه! كَمْ حَفِظْتَ مِنْ قَصِيدَةِ دِعْبِلٍ؟ فَقُلْتُ: قَدْ حَفِظْتُهَا بِأَسْرِهَا، فَغَضِبَ وَقَدْ رَآنِي قَدْ كَذَّبْتُهُ، فَقَالَ هَاتَهَا، فَأَخْرَجْتُ الدِّفْتَرَ مِنْ كُمِّي، فَفَتَحَهُ، وَنَظَرَ فِيهِ، وَأَنَا أُنْشِدُ، إِلَى أَنْ مَضَيْتُ فِي أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ بَيْتٍ، فَصَفَحَ مِنْهَا عِدَّةَ أَوْرَاقٍ، وَقَالَ: أَنْشِدْ مِنْ هَاهُنَا، فَأَنْشَدْتُهُ إِلَى آخِرِهَا، فَهَالَهُ مَا رَآهُ مِنْ حُسْنِ حِفْظِي فَضَمَّنِي إِلَيْهِ وَقَبَّلَ رَأْسِي وَعَيْنِي وَقَالَ: بِاللَّهِ يَا بُنَيَّ لا تُخْبِرُ بِهَذَا أَحَدًا، فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ الْعَيْنَ. ] ص 51/52

أبو عاصم مصطفى السُّلمي
2017-04-15, 09:54
و لا يَجمُل بنا أن نمر على هذا الدّوحة المُغدِقة و الغَيضة المورِقة ، دون ذكر مفخرة الحفاظ و زين أهل السنّة ، الإمام محمد بن اسماعيل البخاري رحمه الله تعالى ، و ما امتحنه به أهل بغداد ، فقد ذكر ابن الجوزي في المرجع السّابق أيضا : [ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ السَّاحِلِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الرَّازِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أَحْمَدَ بْنَ عَدِيٍّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عِدَّةَ مَشَايِخَ يَحْكُونَ: أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ، قَدِمَ بَغْدَادَ، فَسَمِعَ بِهِ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، فَاجْتَمَعُوا وَعَمَدُوا إِلَى مِائَةِ حَدِيثٍ، فَقَلَبُوا مُتُونَهَا، وَأَسَانِيدَهَا، وَجَعَلُوا مَتْنَ هَذَا الإِسْنَادِ آخَرَ، وَإِسْنَادَ هَذَا الْمَتْنِ لِمَتْنٍ آخَرَ، وَدَفَعُوهَا إِلَى عَشَرَةِ أَنْفُسٍ، فَابْتَدَرَ رَجُلٌ مِنَ الْعَشَرَةِ، فَسَأَلَهُ عَنْ حَدِيثٍ مِنْ تِلْكَ الأَحَادِيثِ، فَقَالَ: لا أَعْرِفُهُ، فَسَأَلَهُ عَنْ آخَرَ، فَقَالَ: لا أَعْرِفُهُ، فَمَا زَالَ يُلْقِي عَلَيْهِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْعَشَرَةِ، وَالْبُخَارِيُّ يَقُولُ: لا أَعْرِفُهُ، وَكَانَ بَعْضُ الْفُهَمَاءِ يَقُولُ: الرَّجُلُ فَهْمٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالْعَجْزِ.
ثُمَّ ابْتَدَرَ رَجُلٌ آخَرُ، فَسَأَلَهُ عَنِ الأَحَادِيثِ، وَهُوَ يَقُولُ فِي كُلِّ حَدِيثٍ: لا أَعْرِفُهُ، حَتَّى فَرَغَ مِنْ عَشَرَةٍ، ثُمَّ الثَّالِثُ، ثُمَّ الرَّابِعُ، إِلَى تَمَامِ الْعَشَرَةِ، وَالْبُخَارِيُّ لا يَزِيدُهُمْ عَلَى لا أَعْرِفُهُ، فَلَمَّا فَرَغُوا، الْتَفَتَ إِلَى الأَوَّلِ، فَقَالَ: أَمَّا حَدِيثُكَ الأَوَّلُ، فَهُوَ كَذَا، وَحَدِيثُ الثَّانِي كَذَا، وَحَدِيثُ الثَّالِثُ كَذَا، وَالرَّابِعُ، حَتَّى أَتَى عَلَى تَمَامِ الْعَشَرَةِ، فَرَدَّ كُلَّ مَتْنٍ إِلَى إِسْنَادِهِ، وَكُلَّ إِسْنَادٍ إِلَى مَتْنِهِ، وَفَعَلَ بِالآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَقَرَّ لَهُ النَّاسُ بِالْحِفْظِ وَأَذْعَنُوا لَهُ بِالْفَضْلِ. ] ص 56

أبو عاصم مصطفى السُّلمي
2017-04-15, 09:55
و يشبه ذلك و ألطف منه امتحان يحيى بن معين لأبي نعيم الحافظ (الفضل بن دكين) ، قال ابن الجوزي في نفس المرجع : [ أَخْبَرَنَا الْقَزَّازُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي عَلِيٍّ الْبَصْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ الْجَرَّاحِيِّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَرَّاحِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ مَنْصُورٍ يَقُولُ: خَرَجْتُ مَعَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَ يَحْيَى، فَقَالَ يَحْيَى لأَحْمَدَ: أُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِرَ أَبَا نُعَيْمٍ فَقَالَ: لا تُرِدْ فَالرَّجُلُ ثِقَةٌ، فَقَالَ: لا بُدَّ لِي، فَأَخَذَ وَرَقَةً، فَكَتَبَ فِيهَا ثَلاثِينَ حَدِيثًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي نُعَيْمٍ، وَجَعَلَ عَلَى رَأْسِ كُلِّ عَشَرَةٍ مِنْهَا حَدِيثًا لَيْسَ مِنْ حَدِيثِهِ، ثُمَّ جَاءُوا إِلَى أَبِي نُعَيْمٍ فَقَرَأَ يَحْيَى عَشَرَةً وَأَبُو نُعَيْمٍ سَاكِتٌ ثُمَّ قَرَأَ الْحَادِي عَشَرَ، فَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: لَيْسَ مِنْ حَدِيثِي، اضْرِبْ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الثَّانِي، وَأَبُو نُعَيْمٍ سَاكِتٌ، فَقَرَأَ الْحَدِيثَ الثَّانِي، فَقَالَ: لَيْسَ مِنْ حَدِيثِي فَاضْرِبْ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الثَّالِثَ، وَأَبُو نُعَيْمٍ سَاكِتٌ، ثُمَّ قَرَأَ الْحَدِيثَ الثَّالِثَ، فَتَغَيَّرَ أَبُو نُعَيْمٍ، وَانْقَلَبَتْ عَيْنَاهُ، وَأَقْبَلَ عَلَى يَحْيَى، فَقَالَ: أَمَّا هَذَا ـ وَذِرَاعُ أَحْمَدَ بِيَدِهِ ـ فَأَوْرَعُ مِنْ أَنْ يَعْمَلَ هَذَا، وَأَمَّا هَذَا ـ يُرِيدُنِي ـ فَأَقَلُّ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا، وَلَكِنَّ هَذَا مِنْ فِعْلِكَ يَا فَاعِلُ، ثُمَّ أَخْرَجَ رِجْلَهُ، فَرَفَسَ يَحْيَى، فَرَمَى بِهِ، فَقَالَ: يَحْيَى: وَاللَّهِ، لَرَفْسَتُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ سَفَرِي. ] ص 53

محب الصحابة 1
2017-04-15, 09:58
احسنت
........

عبد الباسط آل القاضي
2017-04-15, 11:10
الحفظ ملكة وهبة من الله ؛ والفرق بين العالم وغيره أن العالم علمه معه في السوق وفي البيت وفي أطراف النهار وأناء الليل متى ماسئل أجاب ومتى استفتي افتى ، لا يرجع إلى الكتب ليتفحصها ويتمعن ما فيها لكي يجيب ، بينما عالم المكتبة هو عالم في مكتبته وبين كتبه فإذا خرج من المكتبة أصبح والعاميَّ سواء . ولا يستفيد المرء إلا بما حفظ لا ما قرأ . قال الشافعي
عِلْمِي مَعِي حَيْثُ مَا يَمَمْتُ يَتبعنيِ صَدْرِي وِعَاءٌ لَهُ لا بَطْنُ صُنْدُوقِ
إنْ كُنْتُ فِي الْبَيْتِ كَانَ الْعِلْمُ فِيهِ مَعِي أَوْ كُنْتُ فِي السُّوقِ كَانَ الْعِلْمُ فِي السُّوقِ

عبد الباسط آل القاضي
2017-04-15, 11:30
زلة:علمي معي..
إن كنت في السوق كان العلم فيه ..
بوركتم وجزاكم الله خيرا فإن مذاكرة العلم تلقيح للألباب وما يفعل من كلّ حدُّه ،وضعفت حافظته ، وحالنا وحال الحفظ كالقابض على الماء خانته فروج الأصابع ،

أبو عاصم مصطفى السُّلمي
2017-04-15, 17:41
جزاكم الله خيرا و أحسن إليكم