المعزلدين الله
2009-10-16, 08:30
ما بين أمريكا وفلسطين
عناية جابر
16/10/2009
http://www.alquds.co.uk/today/15qpt98.jpg
يوم الأحد الماضي، حملت عربة جرّتها خيول، نعشاً من منزل إدغار آلن بو في بالتيمور، الى مدفن ويستمنستر، حيث أقيم حفل لتكريم الشاعر والقّاص والناقد الأدبي الراحل بو، قبل 160 عاماً.
حين مات بو عن أربعين عاماً، هاذياً على رصيف حانة في بلدته، ووري الثرى على عجل، وبتكتّم كبير، وأمام نفر لا يليق بأحد أكبر أدباء القرن التاسع عشر.
زرت منزل بو في الصيف الفائت، وكتبت في زيارتي، وأستعيد في رأسي ما زلت، دقائقها وتفاصيلها. عندما تزور بيتاً لأحد غائب، الزيارة تبقى في رأسك مدة أطول. مراوح ضخمة، أغصان الأشجار المتكاثفة حول البيت، مراوح كما لو لقطع روؤس غير منظورة، وسنجاب سقط عن غصن قرب رجليّ، وغربان زعقت وأوراق يابسة تكسّرت. زرقة تجرح العين وسماء ممتدّة الى ما لا نهاية. بقيت فترة اقامتي ما بين واشنطن وبوسطن ونيويورك، اسيرة ذلك البيت مع حلم يتكرّر، افيق منه مُتعبة.
أرى بو برأسه المدوّر ونحوله، في أوفرول واسع وداكن. عيناه لامعتان، وماء يُنذرُ بياضهما، يمد يده لمصافحتي فلا تسعفني يدي على مصافحته.
بمناسبة 200 عام على ولادته، حفل الأحد الماضي بتأبين لائق للرجل الذي حظي أخيراً بتشييع حقيقي بعد أن أمضى سنيّ عمره يستجدي مُحرري المجلات الأدبية، يتوسّلهم عشرة دولارات تُعينه على السفر من بالتيمور الى ريتشموند. عشرة دولارات لم تتوفّر لبو في حياته التعسة.
عندما قررت زيارة بيته، صعب عليّ بالضبط أن أفهم ماذا يعني ذلك. في استراحاتي على طريق العودة، أشرب القهوة. تجعلني القهوة صاحية تماماً. بدت نيويورك حارّة وساءني الهواء الساخن يضرب وجهي. بقيت في نيويوك نهاراً كاملاً مشيت فيه كثيراً. في سنترال بارك ليس هناك غير العدّائين. أخلع الجاكيت، أربطها حول خصري، أركض مثلهم.
أربعون عاماً من النبذ، هي كل حياة بو. الظلمة بيته وكوابيسه وهذياناته. هذيانات هي تنويعات على موضوعة الوحدة . ألهذا جئت أزور بيته؟ فكرت وخلصت الى أنها حاجتي الى الأصدقاء. من بيروت الى بالتيمور ذهبت، وبي رغبة مُلحّة الآن الى زيارة قبر محمود درويش.
رغبة صعبة، لكن من المؤكّد أنني أريدها بشدة. البحث عن أصدقاء، أموات بالضرورة، غير مؤذيين. أموات يشبهوننا ونشبههم، يفهموننا ونفهمهم ويحب كلّ منّا الآخر. أريد زيارة قبر درويش لأُحرج الجغرافيا، والحدود. أريد أن أثرثر مع القبور الصامتة، احكي لها ما جرى ويجري، وأريد أن أُلقي التحية على الوسيم الراقد، ومُبطنة قصائده بالمخمل الأسود. قبرهُ هناك، على مبعدة أمتار، في الفضاء النيّر والنظيف لفلسطين. قبر غير مُوشّى بالذهب الذي يذهب بالكمال ويخلّ بتوازن الرقاد العذب. درويش في قبر على مبعدة يسيرة منّي، وليس من التواء أو ضعف في جسد القصيدة يُسيءُ الى رعدتها الغنائية. الإلتواء والضعف في المسافة إليه، في قطعها.
ما من علاقة بين بو ودرويش أعرف، سوى أنها الرغبة، رغبتي في أن ألوذ الى أحضان دافئة.
أريد زيارة قبر درويش، ولا يُمكنني. وفي ذهني كلام مناسب أقوله له عن مهزلة الأمتار القليلة التي تفصلني عنه، كما أكشف عن جرحي الشخصي العميق ممّا يجري على أرض فلسطينه. أريد لكل من أحبّه أن يزور قبره، ويرى حقاً الى جسد الإشارة الأولى التي أطلقها أيّ كائن بشري نحو بلده. حتى أطفال فلسطين يرسمونها بأصابعهم على الأرض، في الرمل وفي الوحل وعلى الزيتون أو البيارات الفسيحة بالعظام، بالبيوت المهدمة، إشارة هي فوق كل الإشارات الأخرى. اريد أن أزور تلك الإشارة الأصلية الى فلسطين.
عناية جابر
16/10/2009
http://www.alquds.co.uk/today/15qpt98.jpg
يوم الأحد الماضي، حملت عربة جرّتها خيول، نعشاً من منزل إدغار آلن بو في بالتيمور، الى مدفن ويستمنستر، حيث أقيم حفل لتكريم الشاعر والقّاص والناقد الأدبي الراحل بو، قبل 160 عاماً.
حين مات بو عن أربعين عاماً، هاذياً على رصيف حانة في بلدته، ووري الثرى على عجل، وبتكتّم كبير، وأمام نفر لا يليق بأحد أكبر أدباء القرن التاسع عشر.
زرت منزل بو في الصيف الفائت، وكتبت في زيارتي، وأستعيد في رأسي ما زلت، دقائقها وتفاصيلها. عندما تزور بيتاً لأحد غائب، الزيارة تبقى في رأسك مدة أطول. مراوح ضخمة، أغصان الأشجار المتكاثفة حول البيت، مراوح كما لو لقطع روؤس غير منظورة، وسنجاب سقط عن غصن قرب رجليّ، وغربان زعقت وأوراق يابسة تكسّرت. زرقة تجرح العين وسماء ممتدّة الى ما لا نهاية. بقيت فترة اقامتي ما بين واشنطن وبوسطن ونيويورك، اسيرة ذلك البيت مع حلم يتكرّر، افيق منه مُتعبة.
أرى بو برأسه المدوّر ونحوله، في أوفرول واسع وداكن. عيناه لامعتان، وماء يُنذرُ بياضهما، يمد يده لمصافحتي فلا تسعفني يدي على مصافحته.
بمناسبة 200 عام على ولادته، حفل الأحد الماضي بتأبين لائق للرجل الذي حظي أخيراً بتشييع حقيقي بعد أن أمضى سنيّ عمره يستجدي مُحرري المجلات الأدبية، يتوسّلهم عشرة دولارات تُعينه على السفر من بالتيمور الى ريتشموند. عشرة دولارات لم تتوفّر لبو في حياته التعسة.
عندما قررت زيارة بيته، صعب عليّ بالضبط أن أفهم ماذا يعني ذلك. في استراحاتي على طريق العودة، أشرب القهوة. تجعلني القهوة صاحية تماماً. بدت نيويورك حارّة وساءني الهواء الساخن يضرب وجهي. بقيت في نيويوك نهاراً كاملاً مشيت فيه كثيراً. في سنترال بارك ليس هناك غير العدّائين. أخلع الجاكيت، أربطها حول خصري، أركض مثلهم.
أربعون عاماً من النبذ، هي كل حياة بو. الظلمة بيته وكوابيسه وهذياناته. هذيانات هي تنويعات على موضوعة الوحدة . ألهذا جئت أزور بيته؟ فكرت وخلصت الى أنها حاجتي الى الأصدقاء. من بيروت الى بالتيمور ذهبت، وبي رغبة مُلحّة الآن الى زيارة قبر محمود درويش.
رغبة صعبة، لكن من المؤكّد أنني أريدها بشدة. البحث عن أصدقاء، أموات بالضرورة، غير مؤذيين. أموات يشبهوننا ونشبههم، يفهموننا ونفهمهم ويحب كلّ منّا الآخر. أريد زيارة قبر درويش لأُحرج الجغرافيا، والحدود. أريد أن أثرثر مع القبور الصامتة، احكي لها ما جرى ويجري، وأريد أن أُلقي التحية على الوسيم الراقد، ومُبطنة قصائده بالمخمل الأسود. قبرهُ هناك، على مبعدة أمتار، في الفضاء النيّر والنظيف لفلسطين. قبر غير مُوشّى بالذهب الذي يذهب بالكمال ويخلّ بتوازن الرقاد العذب. درويش في قبر على مبعدة يسيرة منّي، وليس من التواء أو ضعف في جسد القصيدة يُسيءُ الى رعدتها الغنائية. الإلتواء والضعف في المسافة إليه، في قطعها.
ما من علاقة بين بو ودرويش أعرف، سوى أنها الرغبة، رغبتي في أن ألوذ الى أحضان دافئة.
أريد زيارة قبر درويش، ولا يُمكنني. وفي ذهني كلام مناسب أقوله له عن مهزلة الأمتار القليلة التي تفصلني عنه، كما أكشف عن جرحي الشخصي العميق ممّا يجري على أرض فلسطينه. أريد لكل من أحبّه أن يزور قبره، ويرى حقاً الى جسد الإشارة الأولى التي أطلقها أيّ كائن بشري نحو بلده. حتى أطفال فلسطين يرسمونها بأصابعهم على الأرض، في الرمل وفي الوحل وعلى الزيتون أو البيارات الفسيحة بالعظام، بالبيوت المهدمة، إشارة هي فوق كل الإشارات الأخرى. اريد أن أزور تلك الإشارة الأصلية الى فلسطين.