المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إشكاليّة الاستدلال بالحديث المُعلّ


سعيد هرماس
2016-10-06, 21:15
إشكاليّة الاستدلال بالحديث المُعلّ


الحمد لله حمدا كثيرا طيّبا مُباركا فيه، و الصّلاة و السّلام الأتمّان الأكملان على سيّدنا مُحمّد، و على جميع آله و أصحابه، و من اتّبعهم بالحُسنى. ثمّ أمّا بعد:


فقد عرفت مسألة الاستدلال بالحديث المُعلّل أو المعلول أو المُعلّ و هو أصوبها لُغة، إشكالات كبيرة عند المُحدّثين و الفُقهاء مُنذ عصر التّدوين و الأئمة المُجتهدين، و هذا راجع ــــ في تقديري الشّخصي ـــ إلى صُعوبة التّمييز في ماهية الحديث المُعلّل (المُعلّ)، و سنذكر تعريفات العُلماء (1) للحديث المُعلّل حتّى ينجلي اللّبس و يظهر المُراد.
قال صاحب البيقونيّة:
و ما بعلّة غُمُوض أو خفا * * * مُعلّلٌ عندهم قد عُرفا


و قال الحاكم: (و إنّما يُعلّل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل؛ فإنّ حديث المجروح ساقط واه، و علّة الحديث تكثر في أحاديث الثّقات، أن يُحدّثوا بحديث له علّة، فيخفى عليهم علمه، فيصير الحديث معلولا، و الحجّة فيه عندنا الحفظ و الفهم و المعرفة لا غير.) اهـ ، و قال الحافظ ابن كثير: (و هو فنّ خفي على كثير من عُلماء الحديث، حتّى قال بعض حُفّاظهم معرفتنا بهذا كهانة عند الجاهل، و إنّما يهتدي إلى تحقيق هذا الفنّ الجهابذة النُّقّاد منهم (2)، يُميّزون بين صحيح الحديث و سقيمه و مُعوجّه و مُستقيمه، كما يُميّز الصّيرفي البصير بصناعته بين الجياد و الزّيوف و الدّنانير و الفُلوس...) اهـ، و قال الحافظ ابن رجب: (حُذّاق النّقّاد من الحُفّاظ لكثرة مُمارستهم للحديث و معرفتهم بالرّجال و أحاديث كلّ واحد منهم فهم خاصّ يفهمون به، إنّ هذا الحديث يُشبه حديث فُلان و لا يُشبه حديث فُلان، فيُعلّلون الأحاديث بذلك، و هذا ممّا لا يُعبّر عنه بعبارة تحصره، و إنّما يرجع فيه أهله إلى مُجرّد الفهم و المعرفة الّتي خُصّوا بها عن سائر أهل العلم.) اهـ، و قال الحافظ ابن حجر: (و هذا النّوع من أغمض أنواع الحديث؛ لأنّه لا يطّلع عليه إلّا أهل العلم النّقّاد الّذين يبحثون الأحاديث بأسانيدها و مُتونها.) اهـ، و قال الشّيخ أحمد مُحمّد شاكر: (و الحديث المعلول هو الحديث الّذي اطّلع فيه على علّة تقدح في صحّته مع أنّ الظّاهر سلامته منها.) اهـ، و قال أيضا: (... هذا الفنّ من أدقّ فُنون الحديث و أعوصها بل هو رأس عُلومه و أشرفها، لا يتمكّن منه إلّا أهل الحفظ و الخبرة و الفهم الثّاقب.) اهـ، و قال الشّيخ مُحمّد بن صالح العُثيمين: (المُعلُّ هو الحديث الّذي يكون ظاهره الصّحّة و لكنّه بعد البحث عنه يتبيّن أنّ فيه علّة قادحة، لكنّها خفيّة، هذا يُسمّى مُعلّا و يُسمّى معلولا.

مثال ذلك: أن يُروى الحديث على أنّه مرفوعٌ إلى النّبيّ (صلّى الله عليه و سلّم) باتّصال السّند، و يكون هذا هو المعروف المُتداول عند المُحدّثين، ثمّ يأتي أحدُ الحُفّاظ و يقول هذا الحديث فيه علّة قادحة، و هي أنّ الحُفّاظ رووه مُنقطعا، فتكون فيه علّة ضعف و هي الانقطاع، بينما المُتبادل بين النّاس أنّ الحديث مُتّصلٌ. لكن كيف يُعلّه هذا الثّقة؟. نقولُ: بأن يقول إنّ فُلانا قدم إلى البلد الفُلاني بعد موت شيخه الّذي روى عنه، و شيخه لا يُعرف أنّه خرج من بلده، و إلّا فقد يكون قد لاقاه في بلد آخر، فمثل هذه العلّة قد تخفى على كثير من الحُفّاظ، و لكن يُدركها النُّقّاد.) اهـ، و قال الدُّكتور شعبان مُحمّد إسماعيل: (الحديث المُعلّل ما كان ظاهره السّلامة و كُشفت فيه علّة بعد التّفتيش.) اهـ.

و قد تقدح العلّة في متن الحديث، و قد تقدح في سنده، و الأُولى أصعب من الثّانية عند أهل الاختصاص، و مُعظم تجلّياتها، أي العلّة، تكون في المُخالفة و زيادة الثّقة و الشُّذوذ و النّكارة، و أوصاف المقلوب و المُدرج و المُصحف و المُضطرب و الغريب، و غيرها، و قد ذكر أهل الحديث عدّة أقسام للحديث المُعلّل منها عشرة مشهورة، و ميدان معرفته ميدان واسع و صعب.


هذا عن تعريفه عند أهل الحديث. أمّا عند الأُصوليين؛ فالحديث المُعلّل هو الّذي يُخالف القواعد العامّة، و الأصل فيه التّثبّت حتّى يظهر سبب مُخالفته للقواعد؛ و ذلك بمُراعاة الوصف المُعلّل و صحّة الوضع أو فساده و صحّة الاعتبار أو فساده و مآل الحُكم و التّرتيب بين الأحكام، فإذا سلم الحديث من كلّ هذه المُتابعات الأُصوليّة اللُّغويّة و إن خالف القواعد العامّة يُصبح له حُكم الاستثناء أو قد يرتقي إلى درجة أنه يُصبح قاعدة من القواعد كما قرّره ابن السّمعاني في القواطع، و غيره من الأُصوليين؛ و لهذا تجد كثيرًا من أهل الرُّسوخ في الفقه و الأصول، كالأئمّة الأربعة يُرتّبون بين الأدلّة، في حين أنّهم إذا وجدوا حديثًا مُخالفًا للقواعد الأساسيّة عندهم، يجمعون بينه و بينها بطرق الجمع (العُموم و الخُصوص، المُطلق و المُقيّد، المُجمل و المُبيّن، المُضاف و الخالي، و غيرها، و هي كثيرة)، أو يجعلونه قاعدة أساسيّة جديدة عندهم، و هذا لا يتعارض مع ما قرّره بعض الأُصوليين من تقديم الإجماع المُستند إلى دليل من الكتاب و السُّنّة ؛ و حُجّتهم أنّ الإجماع لا يقبل النّسخ و النّصّ إمّا قُرآنًا أو حديثًا قابل للنّسخ هذا من جهة، و من جهة أخرى الإجماع قطعيّ الدّلالة، و النّصّ قد يكون قطعيًّا و قد يكون ظنّيًّا، قال النّبي (صلّى الله عليه و سلّم) (لا تجتمع أمّتي على ضلالة) (3). و هذا يدخل في ما يُسمّى بترتيب الأدلّة، كما هو معروف في علم أصول الفقه، و بهذا تتّضح الصُّورة جليًّا عند الباحثين و طلبة العلم الشّرعيّ (4).
و أختم هذا الموضوع بأشهر مثال عند الأُصوليين و الفُقهاء عن الحديث المُعلّل ؛ حديث أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال : صلّيت خلف النّبي (صلّى الله عليه و سلّم) و أبي بكر و عُمر و عُثمان فكانوا يستفتحون بالحمد لله ربّ العالمين لا يذكرون (بسم الله الرّحمان الرّحيم) (5).

هذا، و صلّى الله على سيّدنا مُحمّد و سلّم تسليمًا كثيرًا.

هوامش:
1 ـ المقصود بهم أهل الحديث .
2 ـ كشُعبة بن الحجّاج ( 82 هـ ــ 160 هـ ) ، وسُفيان بن عُيينة ( 107 هـ ــ 198 هـ ) ، و يحيى بن سعيد ( 120 هـ ــ 198 هـ) ، و عبد الرّحمان بن مهدي (135 هـ ــ 198 هـ ) ، و عليّ بن عُمر الدّارقطني البغدادي و ما أدراك ما الدّارقطني ( 306 هـ ــ385 هـ ) ، و غيرهم .

3 ـ رواه أحمد و أبو داود و التّرمذي و ابن ماجة ، و صحّحه أبو إسحاق الشّاطبي . و الحديث فيه مقال .
4ـ للمزيد أنظر : الحافظ العراقي على ابن الصّلاح ، ص ( 98 / 103 ) ، و الحافظ السّيوطي في تدريب الرّاوي ، ص ( 89 / 91 ) ، و العلّامة مُحمّد حامد الفقي على المُنتقى لابن تيميّة ، ص ( 01 / 372 ـــ 376 ) ، و الدّكتور حمزة عبد الله المليباري في كتابه " الحديث المعلول قواعد و ضوابط ".

5 ـ رواه النّسائيّ و ابن حبّان و الطّحاوي ، و جاء بلفظ آخر : ( لا يجهرون بسم الله الرّحمان الرّحيم. ) ، ومثاله في الحديث الضّعيف المعلول ؛ حديث عليّ بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) أنّه سمع النّبيّ ( صلّى الله عليه و سلّم ) يقول ( آمين ) حين يفرغ من قراءة فاتحة الكتاب . أخرجه ابن أبي حاتم فيعلله ، و حديث زيد بن ثابت ( رضي الله عنه ) أنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وسلّم ) احتجم في المسجد ، قلت لابن لهيعة : ( مسجد في بيته ؟ ) ، قال : مسجد الرّسول ( صلّى الله عليه و سلّم ) . أخرجه أحمد و مُسلم في تمييزه .


كتبه أبو مُحمّد سعيد هرماس