سعيد هرماس
2016-09-30, 09:32
إنّما يُعرف الفضل لأهل الفضل
إنّ طالب العلم الشّرعيّ مُلزم بالتّحلّي بآداب الطّلب ، و هي كثيرة ، و سنقتصر على المُهمّ منها :
01 ) ـ الصُّحبة : اشترط الأوائل من أهل الحديث و التّفسير و الفقه على طالب العلم الشّرعيّ أن يصحب شيخًا عارفًا يُعلِّمه و يُهذِّبه و يُدرِّبه على أخذ العلوم و الفنون .
قال الإمام الشّافعي ( رحمه الله ) :
أخــــي لن تنـال العـلم إلّا بسـتّة * سـأنبيـك عـــن تفصيلها ببيان
ذكاء و حرص و اجتهاد و بُلغة * و صُحبة أستاذ و طُول زمان
و قال مُوفق الدّين البغدادي ( رحمه الله ) : ( عليك بالأستاذ في كلّ علم تطلب اكتسابه . ) اهـ .
و قال ذات مرّة لأحد تلامذته : ( أُوصيك ألّا تأخذ العُلوم من الكُتب و إن وثقت بنفسك و لا تُحسن الظّنّ بها و أعرض خواطرك على العُلماء و تثبّت و لا تتعجّل . ) اهـ .
و قال النّووي ( رحمه الله ) : ( إنّ شيوخ العلم آباء في الدّين ، و صلة بين الطّالب و بين مُراده في العلم . ) اهـ .
و قال أبو إسحاق الشّاطبي ( رحمه الله ) : ( كان العلم في صُدور الرّجال و صار في بُطون الكتب مفاتحه ( مفاتيحه ) بيد العُلماء . ) اهـ .
و المُشاهد اليوم هو أنّ الّذين أخذوا العلم بصُحبة العُلماء و الشّيوخ قد قلّ عددهم و عمّت الفوضى و كثُر التّعالم و انتشر التّعصّب القاتل و النّقاش الميت، و هذا كُلّه مُخالف لما كان عليه الأوائل من أدب و إجلال و تقدير .
قال أحد العارفين : ( الشّجرة إذا نبتت بنفسها من غير غارس فإنّها تُورّق لكن لا تُثمر . ) اهــ .
02 ) ـ التّأدّب مع العُلماء و الفُضلاء : ينبغي على طالب العلم الشّرعيّ أن يحترم العُلماء و يُبجّلهم؛ لأنّ العُلماء و الفُضلاء هم أولى النّاس بالتّوقير و الاحترام، و قد جاء في الأثر أنّ عُلماء المُسلمين كأنبياء بني إسرائيل، و نقل النّووي عن أبي حنيفة و الشّافعي ( رحمهما الله ) قولهما : ( إن لم يكن العُلماء أولياء الله فليس لله وليٌّ ) اهـ ، و قال في المُهذّب : ( إن لم يكن الفُقهاء أولياء الله فليس لله وليٌّ ) اهـ . و الفُضلاء ــ بطبيعة الحال ــ على غرزهم و أثرهم . و عليه أن يتجنّب الكلام فيهم ، و الخوض في أنواع التّجريح و الإساءة إليهم. و أن يتحفّظ في ذكرهم ، قال أبو حاتم الرّازي ( رحمه الله ) : ( لُحوم العُلماء مسمومةٌ . ) اهـ ، و قال ابن عساكر صاحب تاريخ دمشق ( رحمه الله ) : (اعلم يا أخي وفّقني الله و إيّاك لمرضاته و جعلنا ممّن يخشاه و يتّقيه حقّ تُقاته أنّ لحوم العلماء مسمومة و عادة الله في هتك أستار مُنتقصيهم معلومة ، و أنّ من أطلق لسانه في العُلماء بالثّلب (1) ابتلاه الله قبل موته بموت القلب. ) اهـ ، و من هدّم عالما أو انتقصه فقد أعان على هدم الدّين ، و عليه أيضا أن يترك المسائل الاجتهاديّة ــ و هي أكثر من تنحصر ــ للعُلماء و الباحثين و طلبة العلم المشهود لهم، و أن يتحرّى الأمانة في النّقل عنهم، من أقوالهم و أفعالهم، و يعمل بالقول الّذي يترجّح عنده ــ إن كان قادرا و أمكنه ذلك ــ بعيدًا عن التّعصّب و التّقليد المقيت ، و عند ردّه للآراء أو انتقادها و التّعليق عليها ، لا يتعرّض للأشخاص ، إنّما يُناقش أدلّة كلّ رأي ، في المسألة المطروحة ( المطروقة ) بأسلوب علميّ رصين وفق أدب و تقدير ، و هو ما يُعبّر عنه بنقد الأفكار لا نقد الأشخاص ؛ لأنّ الأدلّة القويّة أو الأشدّ قوّة، هي الفيصل بين الآراء و الاجتهادات.
و أمّا توسيع دائرة الجرح ممّا لا طائل من ورائه فلا ينبغي؛ فثمرة علم الرّواية هي تصحيح الأُصول و ضبط المُتون و تصحيح الأسماء و الألقاب و الكُنى و الأنساب، فلمّا ضُبطت الأُصول و المُتون، و أُمن من التّصحيف و التّحريف و من غيرهما ، لم تعد الحاجة مُلحّة كثيرا إلى علم الرّواية، و عُلماء الجرح و التّعديل كالأعمش و شُعبة و مالك و أحمد و ابن راهويه و بن معين و القطّان و ابن المديني ، و غيرهم ، كانت عنايتهم بالرُّوّاة و الرّجال راجعة كُلّها إلى هذا الفنّ العظيم من فُنون الإسلام؛ لفلترة المرويات ، و الاطمئنان على السُّنّة ، الّتي هي ثاني مصدر للتّشريع ، و قد تعبوا في ذلك و استرحنا ، و الفضل لله أوّلا ، ثمّ لهم ( عليهم رحمة الله جميعا ) .
و لا بأس أن أذكر في هذا المقام بعض الآيات و الأحاديث و أقوال الصّالحين الدّالة و الحاثّة على احترام و تقدير العُلماء و الفُضلاء .
قال الله تعالى : ( قُلْ هل يستوي الّذين يعلمون و الّذين لا يعلمون إنّما يتذكّر أُولو الألباب ) . ( الزّمر / 09 ) .
و قال أيضًا : ( يَرفعِ الله الّذين آمنوا منكم و الّذين أُوتوا العلم درجات و الله بما تعملون خبير . ) ( المُجادلة / 11 ) .
و عن عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جدّه ( رضي الله عنهم ) قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه و سلّم ) : ( ليس منا من لم يرحم صغيرنا و يعرف شرف كبيرنا . ) . حديث صحيح ، رواه أبو داود و التّرمذي ، و قال التّرمذي : حديث حسن صحيح ، و في رواية أبي داود ( حقّ كبيرنا ) . عن عُبادة بن الصّامت ( رضي الله عنه ) أنّ رسول الله ( صلّى الله عليه و سلّم ) قال : ( ليس منّا من لم يُجلّ كبيرنا و يرحم صغيرنا و يعرف لعالمنا حقّه . ) . رواه أحمد و الحاكم و الطّبراني . قال الحافظ الهيثمي ( و سنده حسن ) .
و عن أبي مُوسى ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه و سلّم ) : ( إنّ من إجلال الله تعالى إكرامَ ذِي الشَّيبةِ المسلمِ و حَامِل القُرآن غير الغالي فيه و الجافي عنه و إِكرامَ ذِي السُّلطان المُقسط . ) . حديث حسن ، رواه أبو داود .
و عن أبي الدّرداء ( رضي الله عنه ) عن النّبيّ ( صلّى الله عليه و سلّم ) قال : ( ...و إنّ العُلماء ورثة الأنبياء و إنّ الأنبياءَ لم يُورّثوا دينارًا و لا دِرهمًا و إنّما ورّثوا العِلمَ فمن أخذه أَخَذَ بِحظٍّ وافرٍ (2) . ) . رواه أبو داود و التّرمذي .
و قال الشّاعر :
إن أنت جالست الرّجال ذوي النُّهى * فاجلــــس إليــهم بالكمــــال مُؤدّبا
و اسمــــع حديثهم إذا هُــم حدّثـوا * و اجعل حديثك إن نطقـــت مُهذّبا
و قال آخر :
خير ما ورّث الرّجـــــــــــال بنيهم * أدب صـــالح و حُســــن ثنـــــاء
إذا تأدبّت يا بُني صغيـــــــــــــــرا * كُنت يومًـــــا تُعـــــدّ في الكبراء
03 ) ـ أدب الخلاف : أدب الخلاف أمر مُهمّ و حسّاس ، و قد وضع عُلماؤنا في ذلك ضوابط معلومة ، على طالب العلم الشّرعيّ أن يلتزم بها . و ينقسم الخلاف إلى قسمين هما :
أ ـ خلاف محمود
ب ـ خلاف مذموم
و المُراد بالأوّل هو الخلاف الّذي يقع نتيجة لاختلاف الآراء و الفُهوم و التّفاسير ، و هذا الخلاف يقع في المسائل الظّنية الّتي هي محل اجتهاد بين المذاهب الفقهيّة المُعتبرة ، و سُمّي محمودا ؛ لأنّه لا يشقّ وحدة المسلمين و لا يُضعف قوّتهم ، و فيه سعة لهم ، يكون فيها التّيسير و الشُّمول و الإغناء ( الإثراء ) .
أمّا الثّاني فهو الخلاف الّذي يشقّ وحدة المُسلمين، و يدعو إلى التّفرقة و الشّرذمة ، و هو نتيجة حتميّة لاتّباع الأهواء و الآراء المارقة و التّآويل الفاسدة و الباطلة و مُخالفة السّنن و الآثار، كالاختلاف في الأُصول العامّة المُتّفق عليها و الإجماعات ، و كشقِّ عصا الطّاعة لأُولي الأمر. و هذا الخلاف هو الّذي قال عنه عبد الله بن مسعود ( رضي الله عنه ) : ( الخلاف شرّ ) اهــ ، و قال عنه ابن حزم ( الاختلاف عذاب (3)) اهـ ، و قد قرّر الأُصوليون قاعدة جليلة يستأنس بها طالب العلم الشّرعيّ في المسائل الخلافية ، و هي : ( المُتفق عليه أولى بالعمل من المُختلف فيه . ) ، و قد قرّر أيضا بعض المُتأخّرين من أهل العلم قاعدة مفادها : ( نتعاون في ما اتّفقنا عليه و يعذر بعضنا بعضا في ما يجوز فيه الخلاف (4) . ) .
4 ) ـ تجنّب الفتوى : المطلوب من طالب العلم الشّرعيّ عدم الخوض في الفتوى أو الفُتيا و اجتنابها إلّا لماما ، ممّا تدعو إليه الحاجة و تعمّ به البلوى ، و عليه التّأكد من صحّة الأحاديث النّبويّة الّتي يتكلّم و يستدلّ بها ، من معرفة الموضوع منها ، و المتروك ، و شديد الضّعف ، و غيرها ، مع تدقيق النّظر في أقوال العُلماء ، و مُوازنة الأدلّة بينها ، و الالتزام بالأمانة العلميّة في النّقل ، عن ابن مسعود ( رضي الله عنه ) قال : سمعت رسول الله ( صلّى الله عليه و سلّم ) يقول : ( نضّر الله امْرءًا سَمِعَ مِنَّا شَيئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ ، فَرُبَّ مُبَلَغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ . ) . رواه التّرمذي و قال : حديث حسن صحيح ، و حسّنه العلّامة الألباني .
هذا ما رأيت توضيحه لطلبة العلم الشّرعيّ ، و نحن في ظرف الحاجة فيه ماسّة إلى التّكاتف و التّآزر و توحيد المجهودات في حقل الدّعوة الإسلاميّة . قال الله تعالى : ( و الّذين جَاءُوا من بعدهم يقولون رَبَّنَا اغفر لَنا و لإخوانِنَا الّذين سَبَقُونَا بالإيمان و لا تجعل في قُلُوبِنَا غِلّا لِلَّذين آمنوا ربَّنَا إِنّك رَؤُوفٌ رَّحِيمُ . ) . ( الحشر / 10 ) .
و إن كان خرق فادّركه بفضلة * من الحلم و ليصلحه من جاد مِقْولا
و الله المُوفق و الهادي إلى سواء السّبيل ، و صلّى الله و سلّم على سيّدنا مُحمّد و آله و أصحابه أجمعين .
هوامش:
1 ـ أيّ العيب
2 ـ قال بعض أهل العلم : وقد يرث العُلماء الأنبياءفي صفاتهم و طبائعهم و أخلاقهم . و الله أعلى و أعلم .
3 ـ الاختلاف هو الخلاف ، وهُما من نفس البنيّة ، و فرّققت بينها تاء الافتعال ، و قد فرّق بعضهم ـــ اجتهادامنهم ـــ بينهما في الدّلالة ، فالاختلاف مُفتعل و الخلاف نتيجة ، و هذا هو الاصطلاح الجاري لهما. و الله أعلى و أعلم .
4 ـ و المقصود هنا هو الخلاف المُعتبر أو القائم كمايقول الأُصوليون .
بقلم سعيد هرماس
إنّ طالب العلم الشّرعيّ مُلزم بالتّحلّي بآداب الطّلب ، و هي كثيرة ، و سنقتصر على المُهمّ منها :
01 ) ـ الصُّحبة : اشترط الأوائل من أهل الحديث و التّفسير و الفقه على طالب العلم الشّرعيّ أن يصحب شيخًا عارفًا يُعلِّمه و يُهذِّبه و يُدرِّبه على أخذ العلوم و الفنون .
قال الإمام الشّافعي ( رحمه الله ) :
أخــــي لن تنـال العـلم إلّا بسـتّة * سـأنبيـك عـــن تفصيلها ببيان
ذكاء و حرص و اجتهاد و بُلغة * و صُحبة أستاذ و طُول زمان
و قال مُوفق الدّين البغدادي ( رحمه الله ) : ( عليك بالأستاذ في كلّ علم تطلب اكتسابه . ) اهـ .
و قال ذات مرّة لأحد تلامذته : ( أُوصيك ألّا تأخذ العُلوم من الكُتب و إن وثقت بنفسك و لا تُحسن الظّنّ بها و أعرض خواطرك على العُلماء و تثبّت و لا تتعجّل . ) اهـ .
و قال النّووي ( رحمه الله ) : ( إنّ شيوخ العلم آباء في الدّين ، و صلة بين الطّالب و بين مُراده في العلم . ) اهـ .
و قال أبو إسحاق الشّاطبي ( رحمه الله ) : ( كان العلم في صُدور الرّجال و صار في بُطون الكتب مفاتحه ( مفاتيحه ) بيد العُلماء . ) اهـ .
و المُشاهد اليوم هو أنّ الّذين أخذوا العلم بصُحبة العُلماء و الشّيوخ قد قلّ عددهم و عمّت الفوضى و كثُر التّعالم و انتشر التّعصّب القاتل و النّقاش الميت، و هذا كُلّه مُخالف لما كان عليه الأوائل من أدب و إجلال و تقدير .
قال أحد العارفين : ( الشّجرة إذا نبتت بنفسها من غير غارس فإنّها تُورّق لكن لا تُثمر . ) اهــ .
02 ) ـ التّأدّب مع العُلماء و الفُضلاء : ينبغي على طالب العلم الشّرعيّ أن يحترم العُلماء و يُبجّلهم؛ لأنّ العُلماء و الفُضلاء هم أولى النّاس بالتّوقير و الاحترام، و قد جاء في الأثر أنّ عُلماء المُسلمين كأنبياء بني إسرائيل، و نقل النّووي عن أبي حنيفة و الشّافعي ( رحمهما الله ) قولهما : ( إن لم يكن العُلماء أولياء الله فليس لله وليٌّ ) اهـ ، و قال في المُهذّب : ( إن لم يكن الفُقهاء أولياء الله فليس لله وليٌّ ) اهـ . و الفُضلاء ــ بطبيعة الحال ــ على غرزهم و أثرهم . و عليه أن يتجنّب الكلام فيهم ، و الخوض في أنواع التّجريح و الإساءة إليهم. و أن يتحفّظ في ذكرهم ، قال أبو حاتم الرّازي ( رحمه الله ) : ( لُحوم العُلماء مسمومةٌ . ) اهـ ، و قال ابن عساكر صاحب تاريخ دمشق ( رحمه الله ) : (اعلم يا أخي وفّقني الله و إيّاك لمرضاته و جعلنا ممّن يخشاه و يتّقيه حقّ تُقاته أنّ لحوم العلماء مسمومة و عادة الله في هتك أستار مُنتقصيهم معلومة ، و أنّ من أطلق لسانه في العُلماء بالثّلب (1) ابتلاه الله قبل موته بموت القلب. ) اهـ ، و من هدّم عالما أو انتقصه فقد أعان على هدم الدّين ، و عليه أيضا أن يترك المسائل الاجتهاديّة ــ و هي أكثر من تنحصر ــ للعُلماء و الباحثين و طلبة العلم المشهود لهم، و أن يتحرّى الأمانة في النّقل عنهم، من أقوالهم و أفعالهم، و يعمل بالقول الّذي يترجّح عنده ــ إن كان قادرا و أمكنه ذلك ــ بعيدًا عن التّعصّب و التّقليد المقيت ، و عند ردّه للآراء أو انتقادها و التّعليق عليها ، لا يتعرّض للأشخاص ، إنّما يُناقش أدلّة كلّ رأي ، في المسألة المطروحة ( المطروقة ) بأسلوب علميّ رصين وفق أدب و تقدير ، و هو ما يُعبّر عنه بنقد الأفكار لا نقد الأشخاص ؛ لأنّ الأدلّة القويّة أو الأشدّ قوّة، هي الفيصل بين الآراء و الاجتهادات.
و أمّا توسيع دائرة الجرح ممّا لا طائل من ورائه فلا ينبغي؛ فثمرة علم الرّواية هي تصحيح الأُصول و ضبط المُتون و تصحيح الأسماء و الألقاب و الكُنى و الأنساب، فلمّا ضُبطت الأُصول و المُتون، و أُمن من التّصحيف و التّحريف و من غيرهما ، لم تعد الحاجة مُلحّة كثيرا إلى علم الرّواية، و عُلماء الجرح و التّعديل كالأعمش و شُعبة و مالك و أحمد و ابن راهويه و بن معين و القطّان و ابن المديني ، و غيرهم ، كانت عنايتهم بالرُّوّاة و الرّجال راجعة كُلّها إلى هذا الفنّ العظيم من فُنون الإسلام؛ لفلترة المرويات ، و الاطمئنان على السُّنّة ، الّتي هي ثاني مصدر للتّشريع ، و قد تعبوا في ذلك و استرحنا ، و الفضل لله أوّلا ، ثمّ لهم ( عليهم رحمة الله جميعا ) .
و لا بأس أن أذكر في هذا المقام بعض الآيات و الأحاديث و أقوال الصّالحين الدّالة و الحاثّة على احترام و تقدير العُلماء و الفُضلاء .
قال الله تعالى : ( قُلْ هل يستوي الّذين يعلمون و الّذين لا يعلمون إنّما يتذكّر أُولو الألباب ) . ( الزّمر / 09 ) .
و قال أيضًا : ( يَرفعِ الله الّذين آمنوا منكم و الّذين أُوتوا العلم درجات و الله بما تعملون خبير . ) ( المُجادلة / 11 ) .
و عن عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جدّه ( رضي الله عنهم ) قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه و سلّم ) : ( ليس منا من لم يرحم صغيرنا و يعرف شرف كبيرنا . ) . حديث صحيح ، رواه أبو داود و التّرمذي ، و قال التّرمذي : حديث حسن صحيح ، و في رواية أبي داود ( حقّ كبيرنا ) . عن عُبادة بن الصّامت ( رضي الله عنه ) أنّ رسول الله ( صلّى الله عليه و سلّم ) قال : ( ليس منّا من لم يُجلّ كبيرنا و يرحم صغيرنا و يعرف لعالمنا حقّه . ) . رواه أحمد و الحاكم و الطّبراني . قال الحافظ الهيثمي ( و سنده حسن ) .
و عن أبي مُوسى ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه و سلّم ) : ( إنّ من إجلال الله تعالى إكرامَ ذِي الشَّيبةِ المسلمِ و حَامِل القُرآن غير الغالي فيه و الجافي عنه و إِكرامَ ذِي السُّلطان المُقسط . ) . حديث حسن ، رواه أبو داود .
و عن أبي الدّرداء ( رضي الله عنه ) عن النّبيّ ( صلّى الله عليه و سلّم ) قال : ( ...و إنّ العُلماء ورثة الأنبياء و إنّ الأنبياءَ لم يُورّثوا دينارًا و لا دِرهمًا و إنّما ورّثوا العِلمَ فمن أخذه أَخَذَ بِحظٍّ وافرٍ (2) . ) . رواه أبو داود و التّرمذي .
و قال الشّاعر :
إن أنت جالست الرّجال ذوي النُّهى * فاجلــــس إليــهم بالكمــــال مُؤدّبا
و اسمــــع حديثهم إذا هُــم حدّثـوا * و اجعل حديثك إن نطقـــت مُهذّبا
و قال آخر :
خير ما ورّث الرّجـــــــــــال بنيهم * أدب صـــالح و حُســــن ثنـــــاء
إذا تأدبّت يا بُني صغيـــــــــــــــرا * كُنت يومًـــــا تُعـــــدّ في الكبراء
03 ) ـ أدب الخلاف : أدب الخلاف أمر مُهمّ و حسّاس ، و قد وضع عُلماؤنا في ذلك ضوابط معلومة ، على طالب العلم الشّرعيّ أن يلتزم بها . و ينقسم الخلاف إلى قسمين هما :
أ ـ خلاف محمود
ب ـ خلاف مذموم
و المُراد بالأوّل هو الخلاف الّذي يقع نتيجة لاختلاف الآراء و الفُهوم و التّفاسير ، و هذا الخلاف يقع في المسائل الظّنية الّتي هي محل اجتهاد بين المذاهب الفقهيّة المُعتبرة ، و سُمّي محمودا ؛ لأنّه لا يشقّ وحدة المسلمين و لا يُضعف قوّتهم ، و فيه سعة لهم ، يكون فيها التّيسير و الشُّمول و الإغناء ( الإثراء ) .
أمّا الثّاني فهو الخلاف الّذي يشقّ وحدة المُسلمين، و يدعو إلى التّفرقة و الشّرذمة ، و هو نتيجة حتميّة لاتّباع الأهواء و الآراء المارقة و التّآويل الفاسدة و الباطلة و مُخالفة السّنن و الآثار، كالاختلاف في الأُصول العامّة المُتّفق عليها و الإجماعات ، و كشقِّ عصا الطّاعة لأُولي الأمر. و هذا الخلاف هو الّذي قال عنه عبد الله بن مسعود ( رضي الله عنه ) : ( الخلاف شرّ ) اهــ ، و قال عنه ابن حزم ( الاختلاف عذاب (3)) اهـ ، و قد قرّر الأُصوليون قاعدة جليلة يستأنس بها طالب العلم الشّرعيّ في المسائل الخلافية ، و هي : ( المُتفق عليه أولى بالعمل من المُختلف فيه . ) ، و قد قرّر أيضا بعض المُتأخّرين من أهل العلم قاعدة مفادها : ( نتعاون في ما اتّفقنا عليه و يعذر بعضنا بعضا في ما يجوز فيه الخلاف (4) . ) .
4 ) ـ تجنّب الفتوى : المطلوب من طالب العلم الشّرعيّ عدم الخوض في الفتوى أو الفُتيا و اجتنابها إلّا لماما ، ممّا تدعو إليه الحاجة و تعمّ به البلوى ، و عليه التّأكد من صحّة الأحاديث النّبويّة الّتي يتكلّم و يستدلّ بها ، من معرفة الموضوع منها ، و المتروك ، و شديد الضّعف ، و غيرها ، مع تدقيق النّظر في أقوال العُلماء ، و مُوازنة الأدلّة بينها ، و الالتزام بالأمانة العلميّة في النّقل ، عن ابن مسعود ( رضي الله عنه ) قال : سمعت رسول الله ( صلّى الله عليه و سلّم ) يقول : ( نضّر الله امْرءًا سَمِعَ مِنَّا شَيئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ ، فَرُبَّ مُبَلَغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ . ) . رواه التّرمذي و قال : حديث حسن صحيح ، و حسّنه العلّامة الألباني .
هذا ما رأيت توضيحه لطلبة العلم الشّرعيّ ، و نحن في ظرف الحاجة فيه ماسّة إلى التّكاتف و التّآزر و توحيد المجهودات في حقل الدّعوة الإسلاميّة . قال الله تعالى : ( و الّذين جَاءُوا من بعدهم يقولون رَبَّنَا اغفر لَنا و لإخوانِنَا الّذين سَبَقُونَا بالإيمان و لا تجعل في قُلُوبِنَا غِلّا لِلَّذين آمنوا ربَّنَا إِنّك رَؤُوفٌ رَّحِيمُ . ) . ( الحشر / 10 ) .
و إن كان خرق فادّركه بفضلة * من الحلم و ليصلحه من جاد مِقْولا
و الله المُوفق و الهادي إلى سواء السّبيل ، و صلّى الله و سلّم على سيّدنا مُحمّد و آله و أصحابه أجمعين .
هوامش:
1 ـ أيّ العيب
2 ـ قال بعض أهل العلم : وقد يرث العُلماء الأنبياءفي صفاتهم و طبائعهم و أخلاقهم . و الله أعلى و أعلم .
3 ـ الاختلاف هو الخلاف ، وهُما من نفس البنيّة ، و فرّققت بينها تاء الافتعال ، و قد فرّق بعضهم ـــ اجتهادامنهم ـــ بينهما في الدّلالة ، فالاختلاف مُفتعل و الخلاف نتيجة ، و هذا هو الاصطلاح الجاري لهما. و الله أعلى و أعلم .
4 ـ و المقصود هنا هو الخلاف المُعتبر أو القائم كمايقول الأُصوليون .
بقلم سعيد هرماس