قارف
2016-08-31, 23:31
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، ثمَّ أمَّا بعد:
تحلُّ على الأمَّة الإسلاميَّة أوقاتٌ فاضلة، ومواسمُ عظيمة، هي للمؤمنين مغنَم لاكتساب الخَيرات ورفعِ الدَّرجات، وهي لهم فُرصة لتحصيل الحسناتِ والحَطِّ من السَّيِّئات، إنَّها أيَّام العشرِ من ذي الحجَّة، الَّتي هي أعظمُ الأيَّام عند الله فضلاً، وأكثرها أجرًا، فعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما عن النَّبيِّ ﷺ أنَّه قال: «مَا العَمَلُ في أَيَّامِ أَفْضَلُ مِنها في هَذِهِ؟»، قالوا: ولا الجهاد؟ قال: «وَلاَ الجِهَادُ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بشَيْءٍ» [رواه البخاري: (969)].
وفي التِّرمذي: «مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إلى اللهِ تَعَالَى مِنَ الأَيَّامِ العَشَرَة».
هذا الشَّرف، وهذا الفضل، لا ينبغي أن يمرَّ على المسلم دون أن يتأمَّله، ويحاول استغلاله قدر استطاعته فيما ينفعه عند ربِّه يوم القيامة.
***
وهذه وقفات سريعة تعين على تحقيق المقصود، والله هو الموفِّق وهو يهدي السَّبيل.
* الوقفة الأولى ـ في ذكر النِّعم وشكرها:
إنَّ نِعَمَ الله علينا كثيرة لا تحصى، قال تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّار﴾[إبراهيم:34]، من أعظمها الهداية إلى الإسلام، واتِّباع النَّبيِّ ﷺ، وهي تستوجب شكرها، قال تعالى:﴿وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ الله إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون﴾[النحل:114].
ومن هذه النِّعم الَّتي تقتضي الشُّكر أيضًا، تجدُّد المواسم المباركة الَّتي يتبع بعضها بعضًا، فبعد أن انقضى موسم رمضان جاء موسم الحجِّ وموسم العشر من ذي الحجَّة، وهذه الأيَّام الفاضلات، وهذه السَّاعات المباركات، الَّتي تتكرَّر علينا كلَّ عام؛ ليتكرَّر بها علينا فضل الله سبحانه، فاشكروه على نعمه ـ سبحانه ـ يزدكم، قال تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد﴾[إبراهيم:7].
***
* الوقفة الثَّانية ـ في أنَّ الأوقات جزء من الأعمار، وهي سريعة الانقضاء:
إنَّ وقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو يمرُّ مرَّ السَّحاب، فما كان من وقته لله وبالله فهو حياته السَّعيدة، وما كان من وقته في الغفلة والأماني الباطلة، كان موته خيرٌ له من حياته.
قال ابن القيِّم رحمه الله: «فالوقت منقض بذاته، منصرم بنفسه، فمن غفل عن نفسه تصرَّمت أوقاته، وعظم فواته، واشتدَّت حسراته، فكيف حاله إذا علم عند تحقُّق الفَوت مقدار ما أضاع، وطلب الرُّجعى فحيل بينه وبين الاسترجاع، وطلب تناول الفائت؟! وكيف يُردُّ الأمس في اليوم الجديد؟! ﴿وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيد﴾[سبأ:52]، ومُنع ممَّا يحبُّه ويرتضيه، وعلم أنَّ ما اقتناه ليس ممَّا ينبغي للعاقل أن يقتنيه، وحيل بينه وبين ما يشتهيه... (و) الواردات سريعة الزَّوال، تمرُّ أسرع من السَّحاب، وينقضي الوقت بما فيه، فلا يعود عليك منه إلاَّ أثره وحكمه، فاختر لنفسك ما يعود عليك من وقتك؛ فإنَّه عائد عليك لا محالة، لهذا يقال للسُّعداء في الجنَّة: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَة﴾[الحاقة:24]، ويقال للأشقياء المعذَّبين في النَّار: ﴿ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُون﴾[غافر:75]» اهـ [«مدارج السَّالكين»: (40 ـ 41)].
***
* الوقفة الثَّالثة ـ في أنَّ السَّعيد من اغتنم المناسبات الفاضلة:
إنَّ عمر الإنسان هو موسم الزَّرع في هذه الدُّنيا، والحصاد إنَّما يكون هناك في الآخرة، فلا يحسن بالمسلم أن يُضَيِّعَ أوقاته وينفق رأس ماله فيما لا فائدة فيه.
والسَّعيد كما قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «من اغتنم مواسم الشُّهور والأيَّام والسَّاعات، وتقرَّب فيها إلى مولاه، بما فيها من وظائف والطَّاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النَّفحات؛ فيسعد بها سعادةً يأمن بعدها من النَّار وما فيها من اللَّفحات... قال بكر المُزَنِي رحمه الله: «ما من يوم أخرجه الله إلى أهل الدُّنيا إلاَّ ينادي: «ابن آدم! اغتنمني لعلَّه لا يوم لك بعدي، ولا ليلة إلاَّ تنادي: ابن آدم! اغتنمني لعلَّه لا ليلة لك بعدي». [«لطائف المعارف»: (8 ـ 9)]
وللأسف ابتلينا بأعظم الأدواء: التَّسويف والغفلة، حتَّى ضاعت أوقاتنا وفنيت أعمارنا، ولله درُّ ابن الجوزي رحمه الله حيث قال: «فإيَّاك والتَّسويف؛ فإنَّه أكبر جنود إبليس» [«صيد الخاطر»: 183]، فتنبَّه.
***
* الوقفة الرَّابعة ـ في بيان فضائل هذه العشر:
كان سلفنا الصَّالح يعظِّمون هذه الأيَّام ويقدرونها حقَّ قدرها، فيجدُّون ويجتهدون في مرضاة الله، قال أبو عثمان النَّهدي كما في «لطائف المعارف»: «كانوا يعظِّمون ثلاثَ عشرات: العشر الأخير من رمضان، والعشر الأول من ذي الحجَّة، والعشر الأول من المحرَّم» [ص39]؛ لأنَّها أعظم الأزمنة بركة عند الله تعالى، فهي كثيرة الحسنات، قليلة السَّيِّئات، عالية الدَّرجات، متنوِّعة الطَّاعات، ولذا كان سعيد بن جبير «إذا دخلت العشر يجتهد فيها اجتهادًا شديدًا حتَّى ما يكاد يقدر عليه» [«لطائف المعارف» (305)].
* وممَّا يدلُّ على فضل هذه العشر:
- أنَّ الله تعالى أقسم بها فقال: ﴿وَالْفَجْر * وَلَيَالٍ عَشْر﴾[الفجر:1-2]، قال الطَّبري رحمه الله: «في قوله:﴿وَلَيَالٍ عَشْر﴾: والصَّواب من القول في ذلك عندنا أنَّها الأضحى؛ لإجماع الحُجَّة من أهل التَّأويل عليه» [«تفسير الطَّبري» (7 /514)].
وقال ابن كثير رحمه الله: «واللَّيالي العشر المراد بها عشر ذي الحجَّة، كما قاله ابن عبَّاسٍ وابن الزُّبير، ومُجاهد وغير واحدٍ من السَّلف والخلف...» [«تفسير ابن كثير»: (14 /390)].
والفضل يكمُن في أنَّ الله أقسم بها وهو لا يقسم إلاَّ بعظيم.
- ومن فضائلها: أنَّ الله تعالى قرنها بأفضل الأوقات، والقرين بالمقارن يقتدي كما يقولون، فقد قرنت بالفجر، والشَّفع والوتر واللَّيل.
- ومن فضائلها: أنَّ الله تعالى أكمل فيها الدِّين وأتمَّ فيها النِّعمة؛ قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾[المائدة:3]، وكمال الدِّين وتمام النِّعمة يدلُّ على خيريَّة الأمَّة وكمالها.
- ومن فضائلها: أنَّ العبادات تجتمع فيها ما لا تجتمع في غيرها، قال ابن حجر رحمه الله: «والَّذي يظهَر أنَّ السَّببَ في امتياز عشر ذي الحجَّة لِمَكان اجتماع أمَّهات العبادة فيه، وهي الصَّلاة والصِّيام والصَّدقة والحجُّ، ولا يتأتَّى ذلك في غيرها». [«فتح الباري»: (3 /1363)]
- ومن فضائلها: أنَّها أفضل أيَّام الدُّنيا على الإطلاق، ففي «مسند البزَّار» عن جابر رضي الله أنَّ النَّبيَّ ﷺ قال: «أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا العَشْرُ»، يعني عشر ذي الحجَّة. [«صحيح التَّرغيب»: (1150)]
بل هي أحبُّ الأيَّام إلى الله تعالى، والعمل الصَّالح فيها أحبُّ إلى الله تعالى، فهي موسم للرِّبح وميدان السَّبق إلى الخيرات، فعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إلى اللهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ»؛ يعني: أيَّام العشر، قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «وَلاَ الجِهَادُ في سَبيلِ اللهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بنَفْسِهِ، وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بشَيْءٍ»، وعند البيهقيّ والدَّارمي: «مَا من عَمَلٌ أَزْكَى عِنْدَ اللهِ وَلاَ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ في عَشْرِ الأَضْحَى»، [حديث حسن وهو في «صحيح التَّرغيب والتَّرهيب» (1348)].
- ومن فضائلها: أنَّ فيها يوم عرفة، وهو اليوم التَّاسع من ذي الحجَّة، كثير فضله وعميم خيره، فعن عائشة رضي الله عنها: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا، من النَّار من يوم عرفة، وإنه ليدنو، ثمَّ يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء» رواه مسلم (1348).
وعن أبي قتادة عن النَّبيِّ ﷺ قال: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسنة التيبَعْدَهُ» رواه مسلم (1162).
- ومن فضائلها: أنَّ فيها يوم النَّحر، وهو اليوم العاشر من ذي الحجَّة، وهو من أعظم الأيَّام عند الله، كما في حديث عبد الله بن قرط رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «أَعْظَمُ الأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ القَرِّ». [رواه أبو داود وغيره وهو في «صحيح الجامع» (1064)].
- وفيه معظم أعمال الحجِّ من رمي الجمرة وحلق الرَّأس وذبح الهدي والطَّواف والسَّعي، وغيرها من الفضائل، الَّتي ذكرنا أهمَّها تحفيزًا للعاملين، وتشويقًا للرَّاغبين.
***
* الوقفة الخامسة ـ أعمال فاضلة تستحبُّ وأخرى تجب في هذه العشر:
إنَّ العمل الصَّالح محبوب لله تعالى في كلِّ زمان ومكان، ولكنَّه يتأكَّد في هذه الأيَّام المباركة؛ لما علمت من قوله ﷺ: «مَا مِنْ أَيَّامِ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إلى اللهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ»؛ يعني: أيَّامَ العشر، قالوا: يا رسولَ الله! ولا الجهادُ في سبيل الله؟! قال: «وَلاَ الجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ إلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بنَفْسِهِ، وَمَالِهِ؛ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بشَيْءٍ».
وأولى الأعمال بالاهتمام الفرائض الَّتي أوجبها الله على عباده، من صلاة وصيام وحجٍّ وزكاة، مع ترك المحرَّمات والمنكرات، ثمَّ الإكثار من نوافل العبادة وسائر الطَّاعات، قال النَّبيُّ ﷺ، في الحديث القدسي الَّذي يرويه عن ربِّه: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ» أخرجه البخاري (6502).
والأعمال الصَّالحة في هذه الأيَّام يقول العلماء: غير محصورة ولا مخصوصة بعبادة معيَّنة أو قربة خاصَّة، فكلُّ القربات الَّتي يُتقرَّب بها إلى الله تُشرع في هذه الأيَّام، بناءً على قوله: «العمل الصَّالح»، فهو تعميم وإطلاق، ويعني أنَّ كلَّ الأعمال الصَّالحة مطلوبة في هذه الأيَّام، وهذا من سعة رحمة الله وفضله؛ ذلك لأنَّه لو افتَرَضَ على العباد عبادة خاصَّة كتلاوة القرآن لحُرِم فضلها من لا يتقِن قراءة القرآن، ولو خصِّصت بالصِّيام لحُرِم مَن لا يقدر على الصِّيام، لكنَّها صالحة لكلِّ قربة يتقرَّب بها العبد، ففضل الله واسع وثوابه مبذول لجميع خلقه.
فينبغي للمسلم أن يستقبلها بالتَّوبة الصَّادقة والرُّجوع إلى الله، والابـتعاد عن المعاصي ـ الَّتي هي من أعظم أسباب البعد عن الله والطَّرد من رحمته ـ، وبالعزم الجادِّ على اغتنامها.
موقع راية الاصلاح مقال الشيخ ياسين شوشار حفظه الله
يتبع
تحلُّ على الأمَّة الإسلاميَّة أوقاتٌ فاضلة، ومواسمُ عظيمة، هي للمؤمنين مغنَم لاكتساب الخَيرات ورفعِ الدَّرجات، وهي لهم فُرصة لتحصيل الحسناتِ والحَطِّ من السَّيِّئات، إنَّها أيَّام العشرِ من ذي الحجَّة، الَّتي هي أعظمُ الأيَّام عند الله فضلاً، وأكثرها أجرًا، فعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما عن النَّبيِّ ﷺ أنَّه قال: «مَا العَمَلُ في أَيَّامِ أَفْضَلُ مِنها في هَذِهِ؟»، قالوا: ولا الجهاد؟ قال: «وَلاَ الجِهَادُ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بشَيْءٍ» [رواه البخاري: (969)].
وفي التِّرمذي: «مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إلى اللهِ تَعَالَى مِنَ الأَيَّامِ العَشَرَة».
هذا الشَّرف، وهذا الفضل، لا ينبغي أن يمرَّ على المسلم دون أن يتأمَّله، ويحاول استغلاله قدر استطاعته فيما ينفعه عند ربِّه يوم القيامة.
***
وهذه وقفات سريعة تعين على تحقيق المقصود، والله هو الموفِّق وهو يهدي السَّبيل.
* الوقفة الأولى ـ في ذكر النِّعم وشكرها:
إنَّ نِعَمَ الله علينا كثيرة لا تحصى، قال تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّار﴾[إبراهيم:34]، من أعظمها الهداية إلى الإسلام، واتِّباع النَّبيِّ ﷺ، وهي تستوجب شكرها، قال تعالى:﴿وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ الله إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون﴾[النحل:114].
ومن هذه النِّعم الَّتي تقتضي الشُّكر أيضًا، تجدُّد المواسم المباركة الَّتي يتبع بعضها بعضًا، فبعد أن انقضى موسم رمضان جاء موسم الحجِّ وموسم العشر من ذي الحجَّة، وهذه الأيَّام الفاضلات، وهذه السَّاعات المباركات، الَّتي تتكرَّر علينا كلَّ عام؛ ليتكرَّر بها علينا فضل الله سبحانه، فاشكروه على نعمه ـ سبحانه ـ يزدكم، قال تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد﴾[إبراهيم:7].
***
* الوقفة الثَّانية ـ في أنَّ الأوقات جزء من الأعمار، وهي سريعة الانقضاء:
إنَّ وقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو يمرُّ مرَّ السَّحاب، فما كان من وقته لله وبالله فهو حياته السَّعيدة، وما كان من وقته في الغفلة والأماني الباطلة، كان موته خيرٌ له من حياته.
قال ابن القيِّم رحمه الله: «فالوقت منقض بذاته، منصرم بنفسه، فمن غفل عن نفسه تصرَّمت أوقاته، وعظم فواته، واشتدَّت حسراته، فكيف حاله إذا علم عند تحقُّق الفَوت مقدار ما أضاع، وطلب الرُّجعى فحيل بينه وبين الاسترجاع، وطلب تناول الفائت؟! وكيف يُردُّ الأمس في اليوم الجديد؟! ﴿وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيد﴾[سبأ:52]، ومُنع ممَّا يحبُّه ويرتضيه، وعلم أنَّ ما اقتناه ليس ممَّا ينبغي للعاقل أن يقتنيه، وحيل بينه وبين ما يشتهيه... (و) الواردات سريعة الزَّوال، تمرُّ أسرع من السَّحاب، وينقضي الوقت بما فيه، فلا يعود عليك منه إلاَّ أثره وحكمه، فاختر لنفسك ما يعود عليك من وقتك؛ فإنَّه عائد عليك لا محالة، لهذا يقال للسُّعداء في الجنَّة: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَة﴾[الحاقة:24]، ويقال للأشقياء المعذَّبين في النَّار: ﴿ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُون﴾[غافر:75]» اهـ [«مدارج السَّالكين»: (40 ـ 41)].
***
* الوقفة الثَّالثة ـ في أنَّ السَّعيد من اغتنم المناسبات الفاضلة:
إنَّ عمر الإنسان هو موسم الزَّرع في هذه الدُّنيا، والحصاد إنَّما يكون هناك في الآخرة، فلا يحسن بالمسلم أن يُضَيِّعَ أوقاته وينفق رأس ماله فيما لا فائدة فيه.
والسَّعيد كما قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «من اغتنم مواسم الشُّهور والأيَّام والسَّاعات، وتقرَّب فيها إلى مولاه، بما فيها من وظائف والطَّاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النَّفحات؛ فيسعد بها سعادةً يأمن بعدها من النَّار وما فيها من اللَّفحات... قال بكر المُزَنِي رحمه الله: «ما من يوم أخرجه الله إلى أهل الدُّنيا إلاَّ ينادي: «ابن آدم! اغتنمني لعلَّه لا يوم لك بعدي، ولا ليلة إلاَّ تنادي: ابن آدم! اغتنمني لعلَّه لا ليلة لك بعدي». [«لطائف المعارف»: (8 ـ 9)]
وللأسف ابتلينا بأعظم الأدواء: التَّسويف والغفلة، حتَّى ضاعت أوقاتنا وفنيت أعمارنا، ولله درُّ ابن الجوزي رحمه الله حيث قال: «فإيَّاك والتَّسويف؛ فإنَّه أكبر جنود إبليس» [«صيد الخاطر»: 183]، فتنبَّه.
***
* الوقفة الرَّابعة ـ في بيان فضائل هذه العشر:
كان سلفنا الصَّالح يعظِّمون هذه الأيَّام ويقدرونها حقَّ قدرها، فيجدُّون ويجتهدون في مرضاة الله، قال أبو عثمان النَّهدي كما في «لطائف المعارف»: «كانوا يعظِّمون ثلاثَ عشرات: العشر الأخير من رمضان، والعشر الأول من ذي الحجَّة، والعشر الأول من المحرَّم» [ص39]؛ لأنَّها أعظم الأزمنة بركة عند الله تعالى، فهي كثيرة الحسنات، قليلة السَّيِّئات، عالية الدَّرجات، متنوِّعة الطَّاعات، ولذا كان سعيد بن جبير «إذا دخلت العشر يجتهد فيها اجتهادًا شديدًا حتَّى ما يكاد يقدر عليه» [«لطائف المعارف» (305)].
* وممَّا يدلُّ على فضل هذه العشر:
- أنَّ الله تعالى أقسم بها فقال: ﴿وَالْفَجْر * وَلَيَالٍ عَشْر﴾[الفجر:1-2]، قال الطَّبري رحمه الله: «في قوله:﴿وَلَيَالٍ عَشْر﴾: والصَّواب من القول في ذلك عندنا أنَّها الأضحى؛ لإجماع الحُجَّة من أهل التَّأويل عليه» [«تفسير الطَّبري» (7 /514)].
وقال ابن كثير رحمه الله: «واللَّيالي العشر المراد بها عشر ذي الحجَّة، كما قاله ابن عبَّاسٍ وابن الزُّبير، ومُجاهد وغير واحدٍ من السَّلف والخلف...» [«تفسير ابن كثير»: (14 /390)].
والفضل يكمُن في أنَّ الله أقسم بها وهو لا يقسم إلاَّ بعظيم.
- ومن فضائلها: أنَّ الله تعالى قرنها بأفضل الأوقات، والقرين بالمقارن يقتدي كما يقولون، فقد قرنت بالفجر، والشَّفع والوتر واللَّيل.
- ومن فضائلها: أنَّ الله تعالى أكمل فيها الدِّين وأتمَّ فيها النِّعمة؛ قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾[المائدة:3]، وكمال الدِّين وتمام النِّعمة يدلُّ على خيريَّة الأمَّة وكمالها.
- ومن فضائلها: أنَّ العبادات تجتمع فيها ما لا تجتمع في غيرها، قال ابن حجر رحمه الله: «والَّذي يظهَر أنَّ السَّببَ في امتياز عشر ذي الحجَّة لِمَكان اجتماع أمَّهات العبادة فيه، وهي الصَّلاة والصِّيام والصَّدقة والحجُّ، ولا يتأتَّى ذلك في غيرها». [«فتح الباري»: (3 /1363)]
- ومن فضائلها: أنَّها أفضل أيَّام الدُّنيا على الإطلاق، ففي «مسند البزَّار» عن جابر رضي الله أنَّ النَّبيَّ ﷺ قال: «أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا العَشْرُ»، يعني عشر ذي الحجَّة. [«صحيح التَّرغيب»: (1150)]
بل هي أحبُّ الأيَّام إلى الله تعالى، والعمل الصَّالح فيها أحبُّ إلى الله تعالى، فهي موسم للرِّبح وميدان السَّبق إلى الخيرات، فعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إلى اللهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ»؛ يعني: أيَّام العشر، قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «وَلاَ الجِهَادُ في سَبيلِ اللهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بنَفْسِهِ، وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بشَيْءٍ»، وعند البيهقيّ والدَّارمي: «مَا من عَمَلٌ أَزْكَى عِنْدَ اللهِ وَلاَ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ في عَشْرِ الأَضْحَى»، [حديث حسن وهو في «صحيح التَّرغيب والتَّرهيب» (1348)].
- ومن فضائلها: أنَّ فيها يوم عرفة، وهو اليوم التَّاسع من ذي الحجَّة، كثير فضله وعميم خيره، فعن عائشة رضي الله عنها: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا، من النَّار من يوم عرفة، وإنه ليدنو، ثمَّ يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء» رواه مسلم (1348).
وعن أبي قتادة عن النَّبيِّ ﷺ قال: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسنة التيبَعْدَهُ» رواه مسلم (1162).
- ومن فضائلها: أنَّ فيها يوم النَّحر، وهو اليوم العاشر من ذي الحجَّة، وهو من أعظم الأيَّام عند الله، كما في حديث عبد الله بن قرط رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «أَعْظَمُ الأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ القَرِّ». [رواه أبو داود وغيره وهو في «صحيح الجامع» (1064)].
- وفيه معظم أعمال الحجِّ من رمي الجمرة وحلق الرَّأس وذبح الهدي والطَّواف والسَّعي، وغيرها من الفضائل، الَّتي ذكرنا أهمَّها تحفيزًا للعاملين، وتشويقًا للرَّاغبين.
***
* الوقفة الخامسة ـ أعمال فاضلة تستحبُّ وأخرى تجب في هذه العشر:
إنَّ العمل الصَّالح محبوب لله تعالى في كلِّ زمان ومكان، ولكنَّه يتأكَّد في هذه الأيَّام المباركة؛ لما علمت من قوله ﷺ: «مَا مِنْ أَيَّامِ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إلى اللهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ»؛ يعني: أيَّامَ العشر، قالوا: يا رسولَ الله! ولا الجهادُ في سبيل الله؟! قال: «وَلاَ الجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ إلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بنَفْسِهِ، وَمَالِهِ؛ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بشَيْءٍ».
وأولى الأعمال بالاهتمام الفرائض الَّتي أوجبها الله على عباده، من صلاة وصيام وحجٍّ وزكاة، مع ترك المحرَّمات والمنكرات، ثمَّ الإكثار من نوافل العبادة وسائر الطَّاعات، قال النَّبيُّ ﷺ، في الحديث القدسي الَّذي يرويه عن ربِّه: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ» أخرجه البخاري (6502).
والأعمال الصَّالحة في هذه الأيَّام يقول العلماء: غير محصورة ولا مخصوصة بعبادة معيَّنة أو قربة خاصَّة، فكلُّ القربات الَّتي يُتقرَّب بها إلى الله تُشرع في هذه الأيَّام، بناءً على قوله: «العمل الصَّالح»، فهو تعميم وإطلاق، ويعني أنَّ كلَّ الأعمال الصَّالحة مطلوبة في هذه الأيَّام، وهذا من سعة رحمة الله وفضله؛ ذلك لأنَّه لو افتَرَضَ على العباد عبادة خاصَّة كتلاوة القرآن لحُرِم فضلها من لا يتقِن قراءة القرآن، ولو خصِّصت بالصِّيام لحُرِم مَن لا يقدر على الصِّيام، لكنَّها صالحة لكلِّ قربة يتقرَّب بها العبد، ففضل الله واسع وثوابه مبذول لجميع خلقه.
فينبغي للمسلم أن يستقبلها بالتَّوبة الصَّادقة والرُّجوع إلى الله، والابـتعاد عن المعاصي ـ الَّتي هي من أعظم أسباب البعد عن الله والطَّرد من رحمته ـ، وبالعزم الجادِّ على اغتنامها.
موقع راية الاصلاح مقال الشيخ ياسين شوشار حفظه الله
يتبع