أبو أمامة الباهلي
2016-08-31, 23:15
لحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فإنَّ اللهَ تعالى شرَّف أمَّةَ محمَّد صلى الله عليه وسلم وجعلها أمَّة وسطًا بين سائرِ الأُمم، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾[البقرة:143]، كما تَجَلَّتْ نعمةُ الله تعالى في أن جعل أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ وَسَطًا في هذه الأمَّة، عدولًا بين سائر الفِرَق الأخرى، في كلِّ المسائل المتنازَع عليها، فالوسطيَّة من الخصائص الَّتي امتاز بها منهجُ أهلِ السُّنَّة في الاعتقاد، بينما أهلُ الفِرَق الأخرى أَصَّلوا لأنفسهم قواعدَ وحاكموا إليها نصوصَ الشَّرع، فما وافق منها قواعدَهم عضَّدوا بها مقالتهم، وما خالف ردُّوه، حتَّى أصبحت مناهجهم تدور بين الغُلُوِّ والجفاء، وبين الإفراط والتَّفريط، لذلك كان أهلُ السُّنَّة أسعدَ النَّاس بموافقتهم الحقَّ والصَّوابَ، بتسليمهم المطلق لنصوص الكتاب والسُّنَّة، فلا يردُّون منها شيئًا، ولا يعارضونها بشيء، وإنَّما يقفون حيث تقف بهم النُّصوصُ من غير اعتداءٍ عليها ولا تجاوز لها بتحكيم قواعدَ عقليَّةٍ ولا آراءَ وأقيسةٍ منطقيَّةٍ، ممتثلين في ذلك لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيم﴾[الحُجُرات:1]، فكانوا على هَدْيٍ قاصدٍ وصراطٍ مستقيم ملتَزِمِين التَّوسُّط بين الإفراط والتَّفريط اللَّذين هما سِمَتَا مناهج الفِرَقِ الأخرى.
هذا، ومن صُوَرِ وَسَطيَّة أهلِ السُّنَّة: اعتدالُ منهجِهِم في باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد بين الخوارجِ الَّذين كفَّروا مرتكبَ الكبيرة وحكموا بخلوده في النَّار، وجرَّدوه من الإيمان بالكليَّة، وحرَموه من الشَّفاعة، والمعتزلةِ الذين جعلوا مرتكبَ الكبيرة بين منزلتين، فليس مؤمنًا وليس كافرًا، وأنَّه مخلَّدٌ في النَّار غير أنَّ عذابه فيها دون عذاب الكفَّار، وبين المرجئةِ القائلين بأنَّه لا تضرُّ مع الإيمان معصيةٌ كما لا تنفع مع الكفر طاعةٌ، ومعنى ذلك أنَّ ارتكابَ الكبائر ـ عندهم ـ لا تؤثِّر في إيمان المؤمن، فيبقى كامل الإيمان، فإيمان الفاسق وإيمان الأنبياء والصَّالحين سواء لا يزيد ولا ينقص.
أمَّا التَّكفير ـ عند أهل السُّنَّة ـ فحُكْمٌ شرعيٌّ يَستمِدُّ قوَّتَهُ ونفوذَه من مرجعيةِ الشَّريعةِ الإسلاميةِ، فلا يترتَّب حكمُهُ إلَّا على أساس ميزان الشَّرع القائم على الكتاب والسُّنَّة، وفهم سلف الأمَّة.
فالتَّكفير حقٌّ لله تعالى وحده، وليس للعباد حقٌّ فيه، وتفريعًا على هذا الأصل فإنَّ أهلَ السُّنَّة والجماعةِ لا يحكمون بمَحْضِ الهوى، وإنَّما يكفِّرون مَن قام الدَّليلُ الشَّرعيُّ مِن الكتاب والسُّنَّة على كُفره، فلا يكفِّرون أهلَ القِبلة بمُطلق المعاصي والذُّنوبِ كما هو صنيعُ الخوارج، ولا يَسْلِبُونَ الفاسقَ المِلِّيَّ الإيمانَ بالكليَّةِ ولا يخلِّدونه في النَّار كما تفعله المعتزلةُ، وإنَّما مُعتقدُ أهلِ السُّنَّة في صاحب الكبيرة والمعصيةِ أنَّه مؤمنٌ بإيمانه فاسقٌ بكبيرته أو مؤمنٌ ناقصُ الإيمان، فلا يُعطى الاسمَ المطلق ولا يُسْلَبُ مُطلق الاسم(1).
قال أبو عثمان الصَّابوني ـ رحمه الله ـ: «ويَعتقدُ أهلُ السُّنَّة أنَّ المؤمن وإنْ أذنب ذنوبًا كثيرةً، صغائرَ كانت أو كبائرَ فإنَّه لا يَكْفُرُ بها، وإن خرج من الدُّنيا غير تائب منها، ومات على التَّوحيد والإخلاص، فإنَّ أمره إلى الله عزَّ وجلَّ، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنَّة يوم القيامة سالِـمًا غانمًا غير مُبْتَلًى بالنَّار ولا معاقَب على ما ارتكبه من الذُّنوب واكتسبه واستصحبه إلى يوم القيامة من الآثام والأوزار، وإن شاء عاقبه وعذَّبه مدَّةً بعذاب النَّار، وإذا عذَّبه لم يخلِّده فيها بل أعتقه وأخرجه منها إلى نعيم دار القرار»(2).
كما أنَّ أهلَ السُّنَّة والجماعةِ لا يُكفِّرون مخالفيهم لمجرَّد المخالفة، وإنَّما يعتقدون في الفِرَق الثِّنْتَيْنِ والسَّبعين المخالِفة لأهلِ السُّنَّة أنَّ حُكمهم هو حُكم أهلِ الوعيد من أهلِ الكبائر والمعاصي مِن هذه الأُمَّة الَّذين لهم حُكم الإسلام في الدُّنيا، وهم في الآخرة داخلون تحت مشيئة الله، فإنْ شاء غفر لهم برحمته سبحانه وإن شاء عذَّبهم بعدله سبحانه، ثمَّ مآلُهم إلى الجنَّة.
قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ بعد ذِكْرِ الخوارج: «وإذا كان هؤلاء الَّذين ثبت ضلالُهم بالنصِّ والإجماع لم يكفَّروا مع أمرِ اللهِ ورسولِه صلى الله عليه وسلم بقتالهم، فكيف بالطَّوائف المختلفين الَّذين اشتبه عليهم الحقُّ في مسائلَ غلط فيها مَن هو أعلم منهم؟ فلا يحلُّ لأحدٍ من هذه الطوائفِ أن تكفِّر الأخرى، وتستحلَّ دَمَها ومالَها، وإن كانت فيها بدعة محقَّقة، فكيف إذا كانت المكفِّرة لها مبتدعة أيضًا؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنَّهم جميعًا جهَّال بحقائقِ ما يختلفون فيه»(3).
وفي معرض ذِكر أهل الأهواء والبدع من الفِرق الثِّنتين والسَّبعين فِرقة فقد عدَّهم ابنُ تيمية من جُملة المسلمين، والوعيد الوارد فيهم كالوعيد في أهل الكبائر، وهو قولٌ سبقه إليه السَّلف والأئمَّة، قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «...إن لم يكونوا في نفس الأمر كفَّارًا لم يكونوا منافقين، فيكونون من المؤمنين، فيُستغفر لهم ويُترحَّم عليهم، وإذا قال المؤمن: ربَّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، يقصد كلَّ مَن سبقه من قرون الأمَّة بالإيمان وإن كان قد أخطأ في تأويلٍ تأوَّله فخالف السُّنَّة أو أذنب ذنبًا فإنَّه من إخوانه الَّذين سبقوه بالإيمان، فيدخل في العموم وإن كان من الثِّنتين والسَّبعين فِرقة، فإنَّه ما من فِرقة إلَّا وفيها خَلْقٌ كثير ليسوا كفَّارًا، بل مؤمنون فيهم ضلال وذنب يستحقُّون الوعيد كما يستحقُّه عصاة المؤمنين، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يخرجهم من الإسلام بل جعلهم من أمَّته، ولم يقل: إنَّهم يخلَّدون في النَّار، فهذا أصلٌ عظيمٌ ينبغي مراعاته»(4).
وأهلُ السُّنَّة يُفرِّقون بين الإطلاق والتَّعيين في إصدار حُكم التَّكفير، فقد يكون الفعل أو المقالةُ كُفرًا؛ لكن الشخص المعيَّن الَّذي تلبَّس بذلك الفعلِ أو تلك المقالة لا يُحكم بكفره حتَّى تقام عليه الحُجَّة الرِّساليَّة التي يكفر تاركها، وحتَّى تزال عنه كلُّ شبهة يمكن أن يَعْلَقَ بها؛ لأنَّ كلَّ الفِرَق قد يصدر عنها أقوالٌ كفريَّة، فلا يشهدون على معيَّن من أهل القِبلة أنَّه من أهل النَّار لجواز أن لا يلحقه الوعيد، لفوات شرطٍ أو لثبوت مانع(5)، فهم لا يكفِّرون إلَّا ببيِّنةٍ شرعيَّةٍ، بعد تحقُّق الشُّروط، منها: أن يكون قوله الكفر عن اختيار وتسليم، أو يكون لازمُ قوله الكفرَ وعُرِضَ عليه فالتزمه، وأن تقوم الحُجَّة عليه ويتبيَّنُها.
وانتفاء الموانع في حقِّه التي تحول دون الحكم بكفره، منها: أن يكون مُغيَّبَ العقل بجنونٍ ونحوِه، أو أن يكون حديث العَهْدِ بالإسلام، أو لم يتسنَّ له معرفة الدِّين إلَّا بواسطة علماء الابتداع يستفتيهم ويقتدي بهم، ومن موانع الحكم على معيَّنٍ بالكفر أيضًا أن لا تبلغه نصوص الكتاب والسُّنَّة كمن نشأ ببادية بعيدة، أو بلغته أحاديثُ آحاد ولم تثبت عنده، أو لم يتمكَّن من فَهْمِهَا، أو بلغته وثبتت عنده وفهمها؛ لكن قام عنده معارض أوجب تأويلها ونحو ذلك من الموانع.
كما أنَّ أهلَ السُّنَّة والجماعة يُفرِّقون بين مَن اجتهد لإصابة الحقِّ فأخطأ فهو معذورٌ وخطؤه مغفور، وبين مَن عاند بعدما تبيَّن له الحقُّ وبقي مُصِرًّا على مخالفة الأدلَّة والنُّصوص الشَّرعيَّة، فشاقَّ الرَّسولَ واتَّبع غيرَ سبيل المؤمنين، فصفة الكفر لاصقةٌ بفاعله، وبين مَن قصَّر في طلب الحقِّ أو اتَّبع هواه فهو فاسقٌ مذنب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «وأجمع الصَّحابةُ وسائرُ أئمَّةِ المسلمين على أنَّه ليس كلُّ من قال قولًا أخطأ فيه أنَّه يكفر، وإن كان قولُه مخالفًا للسُّنَّة، فتكفيرُ كلِّ مخطِئٍ خلافُ الإجماع»(6)، وقال ـ رحمه الله ـ في تقرير الأصل السَّابق: «وأمَّا التَّكفير: فالصَّواب أنَّه مَن اجتهد مِن أمُّة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وقَصَدَ الحقَّ، فأخطأ لم يَكْفُر بل يَغفِر له خطأه، ومن تبيَّن له ما جاء به الرَّسولُ، فشاقَّ الرَّسولَ من بعد ما تبيَّن له الهدى، واتَّبع غيرَ سبيل المؤمنين فهو كافر، ومن اتَّبع هواه، وقصَّر في طلب الحقِّ، وتكلَّم بلا علم فهو عاصٍ مُذنبٌ، ثمَّ قد يكون فاسقًا، وقد تكون له حسنات ترجح على سيِّئاته»(7).
ومن مجمل أصول أهل السُّنَّة والجماعة المتقدِّمة يتجلَّى التوسُّط والاعتدالُ في هذه المسألة الدَّقيقةِ وفي سائرِ مسائلِ الاعتقادِ التي ضَلَّتْ فيها كثيرٌ من الأفهام، وزلَّت فيها كثيرٌ من الأقدام، ومِن مَمَادِحِ أهلِ السُّنَّة والجماعةِ الَّذين عصمهم اللهُ تعالى فيها وهداهم إلى التَّوسُّط والاعتدالِ أنَّهم يُخَطِّئُون ولا يُكفِّرون أحدًا من أهل القِبلة بكلِّ ذنب، بل الأُخوَّة الإيمانيَّةُ ثابتةٌ مع المعاصي، فامتازوا بالعلم والعدل والرَّحمة، فيعلمون الحقَّ الموافقَ للسنَّةِ السَّالمَ من البدعة، ويعدلون مع من خرج منها ولو ظلمهم، ويرحمون الخلق ويحبُّون لهم الخيرَ والهدى والصَّلاحَ، بخلاف أهل الإفراط في التَّكفير فيتميَّزون بالجهل والظُّلم، فقد جعلوا من ليس بكافر كافرًا، وبخلاف أهلِ التَّفريط الآتي تخبُّطُهم من جهل معنى الإيمان فقد غَلَوْا في الجهة المقابلة فجعلوا الكفر ليس بكفر، ومن أسباب الإفراط والتَّفريط عدمُ الاعتماد على الكتاب والسُّنَّة، وخلطُ الحقِّ بالباطل، وعدمُ التَّمييز بين السُّنَّة والبدعة، واتِّباع الظنِّ وما تهوى الأنفسُ، والتَّأويل المنكر، فهدى اللهُ الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحقِّ بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
هذا، والنُّصوصُ مِن الآيات والأحاديث جاءت صراحةً تحمي أعراضَ المؤمنين والمسلمين وتحمي دينَهم، وتحذِّر التَّحذير الشَّديد من تكفير أحدٍ من المسلمين بغير حقٍّ، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾[النساء:94]، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾[الأحزاب:58]، وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلاً بِالفُسُوقِ وَلاَ يَرْمِيهِ بِالكُفْرِ إِلَّا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ»(8)، وقال صلى الله عليه وسلم ـ أيضًا ـ: «لَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِالكُفْرِ فَهُوَ كَقَتْلِهِ»(9)، فإذا كان تكفير المعيَّن على سبيل الشَّتم كقتله، فكيف يكون تكفيره على سبيل الاعتقاد؟ قال ابن تيمية: «فإنَّ ذلك أعظم من قتله بلا شكٍّ، إذ كلُّ كافرٍ يُباحُ قتلُه، وليس كلُّ من أُبيح قتله يكون كافرًا»(10)، ولأنَّ إطلاقَ الكفر بغير حقٍّ على المؤمن لَـمْزٌ في الإيمان نفسه، بل إنَّ سوءَ الظنِّ بالمسلم والنَّيلَ منه محرَّمٌ فكيف يُحكَم بردَّته وتكفيره؟!
فالواجب على المسلم ـ إذن ـ عدم الخوض في هذا الأمر الجَلَلِ من غير أن يكون ممكَّنًا شرعيًّا، قال الشَّوكاني ـ رحمه الله ـ: «اعلم أنَّ الحكمَ على الرَّجل المسلمِ بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يُقْدِمَ عليه إلَّا ببرهان أوضحَ من شمس النَّهار، فإنَّه قد ثبت في الأحاديث الصَّحيحة المرويَّة عن جماعةٍ من الصَّحابة أنَّ: «مَنْ قَالَ لأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا»(11)»(12)، كما لا يجوز تكفيره لمجرَّد الهوى ولا بنظر العقل ولا بطريقة تأصيل أصول عقليَّة يكفّر المسلم من خالفها؛ لأنَّ التَّكفير حكم شرعيٌّ يراعى فيه الدَّليل الشَّرعي دائمًا، قال ابن تيميَّة ـ رحمه الله ـ: «والكفر هو من الأحكام الشَّرعية، وليس كلُّ من خالف شيئًا عُلِمَ بنظر العقل يكون كافرًا، ولو قدِّر أنَّه جحد بعضَ صرائحِ العقول لم يُحكَم بكفره حتَّى يكون قوله كفرًا في الشَّريعة»(13)، كما أنَّه حريٌّ بالتَّنبيه عن عظم أمر تكفير المسلم، وخطورة نتائجه وما يورثه من البلايا والرَّزايا، من جملتها استحلال دمه وماله، وفسخ العصمة بينه وبين زوجه، وامتناع التَّوارث، وعدم الصَّلاة وراءه والصَّلاة عليه، ومنع دفنه في مقابر المسلمين، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا﴾[الإسراء:36]، فعلينا أن نجتنب الشرَّ، ونقتربَ من الخير ونعملَ على تحصيله، ونسلكَ سبيل الإيمان ونَثْبُتَ عليه، فإنَّ فيه الفوز بالسَّعادة الأخروية التي لا تتحقَّق باتِّباع الأهواء، واختراع الآراء، وادِّعاء تحليَّات، وترجِّي أمنيَّات، وإنَّما يتحقَّق بلزوم ما أنزل الله وحيًا مبينًا، وهديًا قويمًا، وصراطًا مستقيمًا، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم * صِرَاطِ الله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأُمُور﴾[الشورى:52-53].
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
(1) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (3 /151، 152)، و«شرح العقيدة الطَّحاوية» لابن أبي العزِّ: (316، 369).
(2) «عقيدة السَّلف أصحاب الحديث» للصابوني: (71 ـ 72).
(3) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (3 /282 ـ 283)، وانظر تقرير منهج أهل السُّنَّة لهذه المسألة في المصدر السَّابق: (3 /348) وما بعدها (7 /217، 218).
(4) «منهاج السنَّة» لابن تيمية (5 /240 ـ 241).
قلت: وإنَّما هذه الفِرَقُ الثِّنتان والسَّبعون معدودةٌ من جُملة المسلمين إذَا أخطأت في عقيدتها، ولم يكن باطنُ مذهب الفِرقة معاندةَ الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، أو تقوم حقيقة مذهبها على تعطيل الصَّانع، أو إبطال الاحتجاج بالشَّريعة، أو إبطال التَّكاليف الشَّرعية، فإن عُلِمَ من سبب نشوء الفرقة إبطان الكفر وتعطيل الشَّريعة ونحوها وتجلَّى ذلك من خلال مقالات أئمَّتها وما يؤول إليه كلامهم فلا تعدُّ هذه الفرقة من جملتهم بل خارجة عنهم، وبهذا يَنْضَبِطُ القولُ في الحكم على الفرق.
(5) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (10 /370 ـ 372) (35 /165 ـ 166).
(6) المصدر السابق (7 /685).
(7) المصدر السابق (12 /180).
(8) أخرجه البخاري في الأدب (10 /464): باب ما ينهى عن السِّباب واللَّعن، من حديث أبي ذرٍّ الغفاري رضي الله عنه.
(9) أخرجه البخاري في الأدب (10 /465): باب ما ينهى عن السِّباب واللَّعن من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه.
(10) «الاستقامة» لابن تيمية (1 /165 ـ 166).
(11) أخرجه مسلم في الإيمان: (2 /49): باب من قال لأخيه المسلم يا كافر، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(12) «السَّيل الجرَّار» للشَّوكاني (4 /478).
(13) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (12 /525).
* منقول من مجلة الإصلاح « العدد -3- »
فإنَّ اللهَ تعالى شرَّف أمَّةَ محمَّد صلى الله عليه وسلم وجعلها أمَّة وسطًا بين سائرِ الأُمم، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾[البقرة:143]، كما تَجَلَّتْ نعمةُ الله تعالى في أن جعل أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ وَسَطًا في هذه الأمَّة، عدولًا بين سائر الفِرَق الأخرى، في كلِّ المسائل المتنازَع عليها، فالوسطيَّة من الخصائص الَّتي امتاز بها منهجُ أهلِ السُّنَّة في الاعتقاد، بينما أهلُ الفِرَق الأخرى أَصَّلوا لأنفسهم قواعدَ وحاكموا إليها نصوصَ الشَّرع، فما وافق منها قواعدَهم عضَّدوا بها مقالتهم، وما خالف ردُّوه، حتَّى أصبحت مناهجهم تدور بين الغُلُوِّ والجفاء، وبين الإفراط والتَّفريط، لذلك كان أهلُ السُّنَّة أسعدَ النَّاس بموافقتهم الحقَّ والصَّوابَ، بتسليمهم المطلق لنصوص الكتاب والسُّنَّة، فلا يردُّون منها شيئًا، ولا يعارضونها بشيء، وإنَّما يقفون حيث تقف بهم النُّصوصُ من غير اعتداءٍ عليها ولا تجاوز لها بتحكيم قواعدَ عقليَّةٍ ولا آراءَ وأقيسةٍ منطقيَّةٍ، ممتثلين في ذلك لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيم﴾[الحُجُرات:1]، فكانوا على هَدْيٍ قاصدٍ وصراطٍ مستقيم ملتَزِمِين التَّوسُّط بين الإفراط والتَّفريط اللَّذين هما سِمَتَا مناهج الفِرَقِ الأخرى.
هذا، ومن صُوَرِ وَسَطيَّة أهلِ السُّنَّة: اعتدالُ منهجِهِم في باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد بين الخوارجِ الَّذين كفَّروا مرتكبَ الكبيرة وحكموا بخلوده في النَّار، وجرَّدوه من الإيمان بالكليَّة، وحرَموه من الشَّفاعة، والمعتزلةِ الذين جعلوا مرتكبَ الكبيرة بين منزلتين، فليس مؤمنًا وليس كافرًا، وأنَّه مخلَّدٌ في النَّار غير أنَّ عذابه فيها دون عذاب الكفَّار، وبين المرجئةِ القائلين بأنَّه لا تضرُّ مع الإيمان معصيةٌ كما لا تنفع مع الكفر طاعةٌ، ومعنى ذلك أنَّ ارتكابَ الكبائر ـ عندهم ـ لا تؤثِّر في إيمان المؤمن، فيبقى كامل الإيمان، فإيمان الفاسق وإيمان الأنبياء والصَّالحين سواء لا يزيد ولا ينقص.
أمَّا التَّكفير ـ عند أهل السُّنَّة ـ فحُكْمٌ شرعيٌّ يَستمِدُّ قوَّتَهُ ونفوذَه من مرجعيةِ الشَّريعةِ الإسلاميةِ، فلا يترتَّب حكمُهُ إلَّا على أساس ميزان الشَّرع القائم على الكتاب والسُّنَّة، وفهم سلف الأمَّة.
فالتَّكفير حقٌّ لله تعالى وحده، وليس للعباد حقٌّ فيه، وتفريعًا على هذا الأصل فإنَّ أهلَ السُّنَّة والجماعةِ لا يحكمون بمَحْضِ الهوى، وإنَّما يكفِّرون مَن قام الدَّليلُ الشَّرعيُّ مِن الكتاب والسُّنَّة على كُفره، فلا يكفِّرون أهلَ القِبلة بمُطلق المعاصي والذُّنوبِ كما هو صنيعُ الخوارج، ولا يَسْلِبُونَ الفاسقَ المِلِّيَّ الإيمانَ بالكليَّةِ ولا يخلِّدونه في النَّار كما تفعله المعتزلةُ، وإنَّما مُعتقدُ أهلِ السُّنَّة في صاحب الكبيرة والمعصيةِ أنَّه مؤمنٌ بإيمانه فاسقٌ بكبيرته أو مؤمنٌ ناقصُ الإيمان، فلا يُعطى الاسمَ المطلق ولا يُسْلَبُ مُطلق الاسم(1).
قال أبو عثمان الصَّابوني ـ رحمه الله ـ: «ويَعتقدُ أهلُ السُّنَّة أنَّ المؤمن وإنْ أذنب ذنوبًا كثيرةً، صغائرَ كانت أو كبائرَ فإنَّه لا يَكْفُرُ بها، وإن خرج من الدُّنيا غير تائب منها، ومات على التَّوحيد والإخلاص، فإنَّ أمره إلى الله عزَّ وجلَّ، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنَّة يوم القيامة سالِـمًا غانمًا غير مُبْتَلًى بالنَّار ولا معاقَب على ما ارتكبه من الذُّنوب واكتسبه واستصحبه إلى يوم القيامة من الآثام والأوزار، وإن شاء عاقبه وعذَّبه مدَّةً بعذاب النَّار، وإذا عذَّبه لم يخلِّده فيها بل أعتقه وأخرجه منها إلى نعيم دار القرار»(2).
كما أنَّ أهلَ السُّنَّة والجماعةِ لا يُكفِّرون مخالفيهم لمجرَّد المخالفة، وإنَّما يعتقدون في الفِرَق الثِّنْتَيْنِ والسَّبعين المخالِفة لأهلِ السُّنَّة أنَّ حُكمهم هو حُكم أهلِ الوعيد من أهلِ الكبائر والمعاصي مِن هذه الأُمَّة الَّذين لهم حُكم الإسلام في الدُّنيا، وهم في الآخرة داخلون تحت مشيئة الله، فإنْ شاء غفر لهم برحمته سبحانه وإن شاء عذَّبهم بعدله سبحانه، ثمَّ مآلُهم إلى الجنَّة.
قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ بعد ذِكْرِ الخوارج: «وإذا كان هؤلاء الَّذين ثبت ضلالُهم بالنصِّ والإجماع لم يكفَّروا مع أمرِ اللهِ ورسولِه صلى الله عليه وسلم بقتالهم، فكيف بالطَّوائف المختلفين الَّذين اشتبه عليهم الحقُّ في مسائلَ غلط فيها مَن هو أعلم منهم؟ فلا يحلُّ لأحدٍ من هذه الطوائفِ أن تكفِّر الأخرى، وتستحلَّ دَمَها ومالَها، وإن كانت فيها بدعة محقَّقة، فكيف إذا كانت المكفِّرة لها مبتدعة أيضًا؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنَّهم جميعًا جهَّال بحقائقِ ما يختلفون فيه»(3).
وفي معرض ذِكر أهل الأهواء والبدع من الفِرق الثِّنتين والسَّبعين فِرقة فقد عدَّهم ابنُ تيمية من جُملة المسلمين، والوعيد الوارد فيهم كالوعيد في أهل الكبائر، وهو قولٌ سبقه إليه السَّلف والأئمَّة، قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «...إن لم يكونوا في نفس الأمر كفَّارًا لم يكونوا منافقين، فيكونون من المؤمنين، فيُستغفر لهم ويُترحَّم عليهم، وإذا قال المؤمن: ربَّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، يقصد كلَّ مَن سبقه من قرون الأمَّة بالإيمان وإن كان قد أخطأ في تأويلٍ تأوَّله فخالف السُّنَّة أو أذنب ذنبًا فإنَّه من إخوانه الَّذين سبقوه بالإيمان، فيدخل في العموم وإن كان من الثِّنتين والسَّبعين فِرقة، فإنَّه ما من فِرقة إلَّا وفيها خَلْقٌ كثير ليسوا كفَّارًا، بل مؤمنون فيهم ضلال وذنب يستحقُّون الوعيد كما يستحقُّه عصاة المؤمنين، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يخرجهم من الإسلام بل جعلهم من أمَّته، ولم يقل: إنَّهم يخلَّدون في النَّار، فهذا أصلٌ عظيمٌ ينبغي مراعاته»(4).
وأهلُ السُّنَّة يُفرِّقون بين الإطلاق والتَّعيين في إصدار حُكم التَّكفير، فقد يكون الفعل أو المقالةُ كُفرًا؛ لكن الشخص المعيَّن الَّذي تلبَّس بذلك الفعلِ أو تلك المقالة لا يُحكم بكفره حتَّى تقام عليه الحُجَّة الرِّساليَّة التي يكفر تاركها، وحتَّى تزال عنه كلُّ شبهة يمكن أن يَعْلَقَ بها؛ لأنَّ كلَّ الفِرَق قد يصدر عنها أقوالٌ كفريَّة، فلا يشهدون على معيَّن من أهل القِبلة أنَّه من أهل النَّار لجواز أن لا يلحقه الوعيد، لفوات شرطٍ أو لثبوت مانع(5)، فهم لا يكفِّرون إلَّا ببيِّنةٍ شرعيَّةٍ، بعد تحقُّق الشُّروط، منها: أن يكون قوله الكفر عن اختيار وتسليم، أو يكون لازمُ قوله الكفرَ وعُرِضَ عليه فالتزمه، وأن تقوم الحُجَّة عليه ويتبيَّنُها.
وانتفاء الموانع في حقِّه التي تحول دون الحكم بكفره، منها: أن يكون مُغيَّبَ العقل بجنونٍ ونحوِه، أو أن يكون حديث العَهْدِ بالإسلام، أو لم يتسنَّ له معرفة الدِّين إلَّا بواسطة علماء الابتداع يستفتيهم ويقتدي بهم، ومن موانع الحكم على معيَّنٍ بالكفر أيضًا أن لا تبلغه نصوص الكتاب والسُّنَّة كمن نشأ ببادية بعيدة، أو بلغته أحاديثُ آحاد ولم تثبت عنده، أو لم يتمكَّن من فَهْمِهَا، أو بلغته وثبتت عنده وفهمها؛ لكن قام عنده معارض أوجب تأويلها ونحو ذلك من الموانع.
كما أنَّ أهلَ السُّنَّة والجماعة يُفرِّقون بين مَن اجتهد لإصابة الحقِّ فأخطأ فهو معذورٌ وخطؤه مغفور، وبين مَن عاند بعدما تبيَّن له الحقُّ وبقي مُصِرًّا على مخالفة الأدلَّة والنُّصوص الشَّرعيَّة، فشاقَّ الرَّسولَ واتَّبع غيرَ سبيل المؤمنين، فصفة الكفر لاصقةٌ بفاعله، وبين مَن قصَّر في طلب الحقِّ أو اتَّبع هواه فهو فاسقٌ مذنب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «وأجمع الصَّحابةُ وسائرُ أئمَّةِ المسلمين على أنَّه ليس كلُّ من قال قولًا أخطأ فيه أنَّه يكفر، وإن كان قولُه مخالفًا للسُّنَّة، فتكفيرُ كلِّ مخطِئٍ خلافُ الإجماع»(6)، وقال ـ رحمه الله ـ في تقرير الأصل السَّابق: «وأمَّا التَّكفير: فالصَّواب أنَّه مَن اجتهد مِن أمُّة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وقَصَدَ الحقَّ، فأخطأ لم يَكْفُر بل يَغفِر له خطأه، ومن تبيَّن له ما جاء به الرَّسولُ، فشاقَّ الرَّسولَ من بعد ما تبيَّن له الهدى، واتَّبع غيرَ سبيل المؤمنين فهو كافر، ومن اتَّبع هواه، وقصَّر في طلب الحقِّ، وتكلَّم بلا علم فهو عاصٍ مُذنبٌ، ثمَّ قد يكون فاسقًا، وقد تكون له حسنات ترجح على سيِّئاته»(7).
ومن مجمل أصول أهل السُّنَّة والجماعة المتقدِّمة يتجلَّى التوسُّط والاعتدالُ في هذه المسألة الدَّقيقةِ وفي سائرِ مسائلِ الاعتقادِ التي ضَلَّتْ فيها كثيرٌ من الأفهام، وزلَّت فيها كثيرٌ من الأقدام، ومِن مَمَادِحِ أهلِ السُّنَّة والجماعةِ الَّذين عصمهم اللهُ تعالى فيها وهداهم إلى التَّوسُّط والاعتدالِ أنَّهم يُخَطِّئُون ولا يُكفِّرون أحدًا من أهل القِبلة بكلِّ ذنب، بل الأُخوَّة الإيمانيَّةُ ثابتةٌ مع المعاصي، فامتازوا بالعلم والعدل والرَّحمة، فيعلمون الحقَّ الموافقَ للسنَّةِ السَّالمَ من البدعة، ويعدلون مع من خرج منها ولو ظلمهم، ويرحمون الخلق ويحبُّون لهم الخيرَ والهدى والصَّلاحَ، بخلاف أهل الإفراط في التَّكفير فيتميَّزون بالجهل والظُّلم، فقد جعلوا من ليس بكافر كافرًا، وبخلاف أهلِ التَّفريط الآتي تخبُّطُهم من جهل معنى الإيمان فقد غَلَوْا في الجهة المقابلة فجعلوا الكفر ليس بكفر، ومن أسباب الإفراط والتَّفريط عدمُ الاعتماد على الكتاب والسُّنَّة، وخلطُ الحقِّ بالباطل، وعدمُ التَّمييز بين السُّنَّة والبدعة، واتِّباع الظنِّ وما تهوى الأنفسُ، والتَّأويل المنكر، فهدى اللهُ الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحقِّ بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
هذا، والنُّصوصُ مِن الآيات والأحاديث جاءت صراحةً تحمي أعراضَ المؤمنين والمسلمين وتحمي دينَهم، وتحذِّر التَّحذير الشَّديد من تكفير أحدٍ من المسلمين بغير حقٍّ، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾[النساء:94]، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾[الأحزاب:58]، وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلاً بِالفُسُوقِ وَلاَ يَرْمِيهِ بِالكُفْرِ إِلَّا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ»(8)، وقال صلى الله عليه وسلم ـ أيضًا ـ: «لَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِالكُفْرِ فَهُوَ كَقَتْلِهِ»(9)، فإذا كان تكفير المعيَّن على سبيل الشَّتم كقتله، فكيف يكون تكفيره على سبيل الاعتقاد؟ قال ابن تيمية: «فإنَّ ذلك أعظم من قتله بلا شكٍّ، إذ كلُّ كافرٍ يُباحُ قتلُه، وليس كلُّ من أُبيح قتله يكون كافرًا»(10)، ولأنَّ إطلاقَ الكفر بغير حقٍّ على المؤمن لَـمْزٌ في الإيمان نفسه، بل إنَّ سوءَ الظنِّ بالمسلم والنَّيلَ منه محرَّمٌ فكيف يُحكَم بردَّته وتكفيره؟!
فالواجب على المسلم ـ إذن ـ عدم الخوض في هذا الأمر الجَلَلِ من غير أن يكون ممكَّنًا شرعيًّا، قال الشَّوكاني ـ رحمه الله ـ: «اعلم أنَّ الحكمَ على الرَّجل المسلمِ بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يُقْدِمَ عليه إلَّا ببرهان أوضحَ من شمس النَّهار، فإنَّه قد ثبت في الأحاديث الصَّحيحة المرويَّة عن جماعةٍ من الصَّحابة أنَّ: «مَنْ قَالَ لأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا»(11)»(12)، كما لا يجوز تكفيره لمجرَّد الهوى ولا بنظر العقل ولا بطريقة تأصيل أصول عقليَّة يكفّر المسلم من خالفها؛ لأنَّ التَّكفير حكم شرعيٌّ يراعى فيه الدَّليل الشَّرعي دائمًا، قال ابن تيميَّة ـ رحمه الله ـ: «والكفر هو من الأحكام الشَّرعية، وليس كلُّ من خالف شيئًا عُلِمَ بنظر العقل يكون كافرًا، ولو قدِّر أنَّه جحد بعضَ صرائحِ العقول لم يُحكَم بكفره حتَّى يكون قوله كفرًا في الشَّريعة»(13)، كما أنَّه حريٌّ بالتَّنبيه عن عظم أمر تكفير المسلم، وخطورة نتائجه وما يورثه من البلايا والرَّزايا، من جملتها استحلال دمه وماله، وفسخ العصمة بينه وبين زوجه، وامتناع التَّوارث، وعدم الصَّلاة وراءه والصَّلاة عليه، ومنع دفنه في مقابر المسلمين، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا﴾[الإسراء:36]، فعلينا أن نجتنب الشرَّ، ونقتربَ من الخير ونعملَ على تحصيله، ونسلكَ سبيل الإيمان ونَثْبُتَ عليه، فإنَّ فيه الفوز بالسَّعادة الأخروية التي لا تتحقَّق باتِّباع الأهواء، واختراع الآراء، وادِّعاء تحليَّات، وترجِّي أمنيَّات، وإنَّما يتحقَّق بلزوم ما أنزل الله وحيًا مبينًا، وهديًا قويمًا، وصراطًا مستقيمًا، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم * صِرَاطِ الله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأُمُور﴾[الشورى:52-53].
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
(1) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (3 /151، 152)، و«شرح العقيدة الطَّحاوية» لابن أبي العزِّ: (316، 369).
(2) «عقيدة السَّلف أصحاب الحديث» للصابوني: (71 ـ 72).
(3) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (3 /282 ـ 283)، وانظر تقرير منهج أهل السُّنَّة لهذه المسألة في المصدر السَّابق: (3 /348) وما بعدها (7 /217، 218).
(4) «منهاج السنَّة» لابن تيمية (5 /240 ـ 241).
قلت: وإنَّما هذه الفِرَقُ الثِّنتان والسَّبعون معدودةٌ من جُملة المسلمين إذَا أخطأت في عقيدتها، ولم يكن باطنُ مذهب الفِرقة معاندةَ الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، أو تقوم حقيقة مذهبها على تعطيل الصَّانع، أو إبطال الاحتجاج بالشَّريعة، أو إبطال التَّكاليف الشَّرعية، فإن عُلِمَ من سبب نشوء الفرقة إبطان الكفر وتعطيل الشَّريعة ونحوها وتجلَّى ذلك من خلال مقالات أئمَّتها وما يؤول إليه كلامهم فلا تعدُّ هذه الفرقة من جملتهم بل خارجة عنهم، وبهذا يَنْضَبِطُ القولُ في الحكم على الفرق.
(5) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (10 /370 ـ 372) (35 /165 ـ 166).
(6) المصدر السابق (7 /685).
(7) المصدر السابق (12 /180).
(8) أخرجه البخاري في الأدب (10 /464): باب ما ينهى عن السِّباب واللَّعن، من حديث أبي ذرٍّ الغفاري رضي الله عنه.
(9) أخرجه البخاري في الأدب (10 /465): باب ما ينهى عن السِّباب واللَّعن من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه.
(10) «الاستقامة» لابن تيمية (1 /165 ـ 166).
(11) أخرجه مسلم في الإيمان: (2 /49): باب من قال لأخيه المسلم يا كافر، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(12) «السَّيل الجرَّار» للشَّوكاني (4 /478).
(13) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (12 /525).
* منقول من مجلة الإصلاح « العدد -3- »