فقير إلى الله
2016-08-25, 17:54
أهمية الإفتاء وخطورته
الإفتاء مسؤولية عظيمة ، وأمانة ثقيلة ، كما أنه منصب جليل ، ووظيفة شريفة ، وأثره في إصلاح الأفراد والمجتمعات ظاهر ، والحاجة إليه من أمس الحاجات ، بل تبلغ مبلغ الضرورات ، فليس كل الناس بل ولا أكثرهم يحسن النظر في الأدلة ، ويعلم حكم الله فيما يعرض له من مسائل ومشكلات ، فكان بحاجة إلى سؤال أهل العلم ، ومعرفة حكم الله تعالى فيما يحتاجه من خلال فتاواهم وأجوبتهم ، كما قال ربنا سبحانه : [النحل: 43] ، وقال حاثًا على الرجوع إلى أهل العلم والصدور عن رأيهم : [النساء: 83] .
ومع هذه العودة الحميدة إلى الله ، وانتشار الوعي لدى الناس ، والرغبة
(الجزء رقم : 97، الصفحة رقم: 142)
في الاستقامة والتمسك بالدين ، وتيسر التواصل مع العلماء وطلبة العلم ، وتوفر وسائل الإعلام والاتصال وتنوعها ، وكثرة معطيات الحياة العصرية وتجددها ، وتشعب الحياة وتعقدها ، والتداخل بين الدول والشعوب ، وسعة التعامل بين المسلمين وغير المسلمين ، وكثرة النوازل المعاصرة والحوادث المستجدة ، وتسابق أهل البدع والأهواء ، وأتباع الديانات والمذاهب المنحرفة إلى نشر أفكارهم ، وإقناع الناس بضلالاتهم وبدعهم ، زادت حاجة الناس وعظمت رغبتهم في معرفة المشروع والممنوع ، والحق والباطل ، وتمييز الحلال من الحرام ، والسنة من البدعة ، وقد كشفت الدراسات الإعلامية أن برامج الإفتاء في القنوات الفضائية والإذاعية من أكثر البرامج قبولاً ، وأوسعها انتشارًا ، وأعمها نفعًا وتأثيرًا .
ويدل على حاجة الناس إلى الفتوى وشدة اضطرارهم إليها ما جاء من الآيات والأحاديث الكثيرة الآمرة بسؤال أهل الذكر ، والدالة على فضل العلماء ومعلمي الناس الخير ، والمحذرة من كتمان العلم وجحد الحق .
كما يدل عليه ما جاء من الأحاديث الكثيرة في التحذير من الأئمة المضلين والرؤوس الجاهلين ، الذين يتخذهم الناس مرجعًا لهم حين يقل العلماء أو يقبضون ، أو يقعدون عن القيام بما أوجبه الله عليهم من البلاغ والتبيين ، فلجوء العامة لأئمة الضلالة هؤلاء وخاصة عند قبض العلماء الربانيين دليل على مدى حاجة الناس إلى الفتوى وعدم استغنائهم عنها .
وغني عن القول أن (الفتوى) الشرعية المعاصرة مع هذا القدر الكبير
(الجزء رقم : 97، الصفحة رقم: 143)
من الأهمية والتأثير ، فإنها لا تنفرد وحدها بقيادة الحركة العلمية ، ونشر الدعوة الإسلامية ،والإسهام في التنمية والرقي الحضاري ؛ لأن (الفتوى) ليست كل الشريعة الإسلامية ، وليست الوسيلة الوحيدة للدعوة والتعليم ، وحل مشكلات الناس والتجاوب مع حاجاتهم وهمومهم .
والتأكيد على هذه الحقيقة في غاية الأهمية ؛ لكي نضع الأمور في نصابها الصحيح ، وحتى لا نضيق واسع الشريعة ، ولا نتهم أحدًا أو نبخسه حقه ، أو نبالغ في تقدير الأمور .
ولما كانت الفتوى ذات أثر كبير في حياة الأفراد والمجتمعات ، ونظرًا لكثرة المفتين ، وتعدد مشاربهم ، وما آل إليه الإفتاء في واقعنا المعاصر ، وما شابه من المكدرات ، والممارسات الخاطئة ، وتصدي بعض أهل الجهل والأهواء لهذا المنصب الخطير ؛ مما انعكس أثره سلبًا على أمتنا وديننا الإسلامي ، وحرصًا على ضبط منهجية الفتوى ، وتحقيقًا للتواصل بين الفقهاء والمعنيين بقضايا الأمة وشريعتها الغراء ، فقد عقدت عدة لقاءات علمية ، اشترك فيها عدد كبير من الفقهاء والشخصيات العلمية البارزة من شتى أنحاء العالم للبحث في منهجية الإفتاء وشروطه وضوابطه ، ووضع الأسس والقواعد والمواثيق الجامعة لأصول الإفتاء وبيان أحكام الفتيا وشروطها ، وأدب المفتي والمستفتي ، وقطع الطريق على الأدعياء وأهل البدع والأهواء ، ومعالجة التحديات التي تواجه علماء الأمة والمتصدرين للفتوى ، وإحياء أدب الاختلاف ومنهج الائتلاف ، والتأكيد على أهمية
(الجزء رقم : 97، الصفحة رقم: 144)
الاجتهاد الجماعي والمؤسسي الذي يجمع بين خبراء العصر وفقهاء الشرع .
وبسبب تعاظم فوضى الإفتاء بمختلف مسبباتها ، وجدنا أن بعض الناس - وربما بدافع من غيرتهم على الدين وأهله - يحاربون الإفتاء الفضائي ، ويشنعون كثيرًا على من يسمونهم (مشايخ الفضائيات)!! ، وينادون بمنع برامج الإفتاء الفضائية جملة وتفصيلاً ، فيعالجون الخطأ بخطأ أشنع منه ، ويحرمون كثيرًا من الناس في شتى البلدان من خير عظيم لم يكن متيسرًا لهم من قبل ، مع شدة حاجتهم إليه ، وحرصهم عليه ، وانتفاعهم به ، وربما تسببوا في توهين عزائم بعض العلماء الثقات عن القيام بهذا الواجب العظيم ، والتصدي لهذه المهمة الجليلة ، وسد هذه الحاجة الملحة ، وحرمان الناس من علمهم وتوجيهاتهم ، ويجهل هؤلاء المخذلون أو يتجاهلون أثر هذه البرامج في نشر العلم الشرعي ، وتبصير الناس ، وأداء الأمانة ، والنصيحة للأمة ، وإشاعة الخير في الأرض ، وإصلاح المجتمع ومحاربة الفساد والمفسدين ، وقطع الطريق على الأدعياء والمتعالمين ، وأثرها الكبير في حل مشكلات الناس والتجاوب مع همومهم وحاجاتهم ، والإجابة عن أسئلتهم واستفساراتهم .
ولا يخفى على من له أدنى معرفة بأحوال الناس وحاجتهم إلى الفتيا أن الفتوى إذا كانت مؤصلة تأصيلاً شرعيًا سليمًا ، لها أثر كبير في هداية الناس وإسعادهم ، وحل مشاكلهم ، وتخفيف معاناتهم ، وتفريج كرباتهم ، وإصلاح ذات بينهم ، وتعليمهم حكم الله في عباداتهم ومعاملاتهم وشتى شؤون حياتهم ،
(الجزء رقم : 97، الصفحة رقم: 145)
وتحذيرهم من المعاصي والبدع والأهواء والضلالات ، وحفظ عقولهم من الشعوذة والدجل والخرافات ، وحملهم على أداء الأمانات ،والقيام بالحقوق والواجبات ، مما يسهم كثيرًا في إقامة الدين وإعلاء كلمة الله ، وحفظ حقوق العباد وحماية مصالحهم ، وتحقيق النهوض الحضاري للأمة الإسلامية في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والتربوية والاجتماعية .
وفوق هذا كله فإن الإفتاء فريضة ربانية ، وواجب شرعي ، فالدين هو النصيحة ، وقد بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، وجعل القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أخص أوصاف المؤمنين ، وأخذ العهد على العلماء أن يقولوا الحق ولا يداهنوا فيه ، وأن يبينوه للناس ولا يكتموه ، ولعن من يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى ، وتوعد من سئل عن علم فكتمه بأن يلجم بلجام من نار يوم القيامة ،والآيات والأحاديث في هذا الباب معلومة مشهورة.
فالفتوى بهذا الاعتبار واجب شرعي ، وفرض كفائي لا يجوز التخلي عنه أو التقليل من شأنه ، فضلاً عن محاربته والتنفير منه لمجرد وجود بعض الممارسات الخاطئة في تطبيقه ، أو انتهاك بعض المتعالمين وأهل الأهواء لجنابه .
ويكفي في أهمية الإفتاء وشدة الحاجة إليه وأثره في إقامة الدين وحفظ مصالح الناس أن الله عز وجل تولى هذا المنصب العظيم بنفسه ، فأفتى عباده في مسائل كثيرة في كتابه العظيم ، يقول سبحانه : [النساء: 176]
(الجزء رقم : 97، الصفحة رقم: 146)
، ويقول : [النساء: 127] ، ويقول : [البقرة: 189] ، وأمثالها كثير .
والإفتاء هو مهمة الرسل والأنبياء ، وعلى رأسهم محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث كان يفتي الأمة في كل ما يعرض لها من مسائل وقضايا ، وما يستجد لها من نوازل ومشكلات ، وكان ذلك مقتضى ما كلف به من البلاغ والتبيين ، كما قال ربنا سبحانه وتعالى : û [النحل: 43، 44] ، وقال : [النحل: 64] ، وتولاها من بعده الخلفاء الراشدون والصحابة الكرام ، ومن جاء بعدهم من العلماء الأعلام على مر العصور وكر الدهور
ولا يخلو زمان من قائم لله بحجة ، ولا يزال ربنا سبحانه يقيض لهذا الدين من العلماء الأكفاء ، والأئمة الفقهاء من يبلغ هذا الدين ، وينصح للمسلمين ، ويكون مرجعًا للأمة في معرفة دينها ، وحل مشكلاتها ، وبيان حكم الله تعالى في سائر معاملاتها ، كما قال ربنا سبحانه : [الأحزاب: 23] ، ووجود هؤلاء الصادقين المصلحين جزء من حفظ الله تعالى لكتابه ، حيث
(الجزء رقم : 97، الصفحة رقم: 147)
يقول : û û [الحجر: 9] فهذا يقتضي حفظ كتابه الكريم في الصدور والسطور ، وحفظ السنة النبوية المبينة له ، ويقتضي كذلك حفظ العاملين بالوحيين والحاكمين بهما إلى آخر الزمان ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين
وفي هؤلاء يقول الإمام أحمد - رحمه الله - في خطبته المشهورة في مقدمة كتابه (الرد على الزنادقة والجهمية ) : (الْحَمْدُ ِللَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي كُلِّ زَمَانِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ بَقَايَا مِنْ أَهِْل الْعِلْمِ يَدْعُونَ مَنْ ضَلَّ إِلَى الْهُدَى ، وَيَصْبِّرُونَ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى ، وَيُحْيُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَوْتَى ، وَيُبَصِّرِونَ بِنُورِ اللَّهِ أَهْلَ الْعَمَى ، فَكَمْ مِنْ قتِيلٍ لِإِبْلِيسَ قَدْ أَحْيَوْهُ ، وَكَمْ مِنْ ضَالٍّ تَائِهٍ قَدْ هَدَوْهُ ، فَمَا أَحْسَنَ أَثَرَهُمْ عَلَى النَّاسِ وَمَا أَقْبَحَ أَثَرَ النَّاسِ عَلَيْهِمْ ، يَنْفُونَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ ، الَّذِينَ عَقَدُوا أَلْوِيَةَ الْبِدْعَةِ ، وَأَطْلَقُوا عَنَانَ الْفِتْنَةِ ، فَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ ، مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ ، مُجْمِعُونَ عَلَى مُفَارَقَةِ الْكِتَابِ ، يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ وَفِي اللَّهِ وَفِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، يَتَكَلَّمُونَ بَالْمُتَشَابِهِ مِنَ الْكَلاَمِ ، وَيَخْدَعُونَ جُهَّالَ النَّاسِ بِمَا يُشَبِّهُونَ عَلَيْهِمْ ، فَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الْمُضِلِّينَ )
(الجزء رقم : 97، الصفحة رقم: 148)
وقد روي نحوه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
وقال عنهم ابن القيم : (فقهاء الإسلام ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام ، الذين خصوا باستنباط الأحكام ، وعنوا بضبط قواعد الحلال والحرام ، فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء ، بهم يهتدي الحيران في الظلماء ، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب ، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب ، قال الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا ü [النساء: 59] ، قال عبد الله بن عباس في إحدى الروايتين عنه ، وجابر بن عبد الله ، والحسن البصري ، وأبو العالية ، وعطاء بن أبي رباح ، والضحاك ، ومجاهد في إحدى الروايتين عنه :
(أولوا الأمر) هم : العلماء ، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد ، وقال أبو هريرة ، وابن عباس في الرواية الأخرى ، وزيد بن أسلم ، والسدي ، ومقاتل : هم الأمراء ، وهو الرواية الثانية عن أحمد .
والتحقيق أن الأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم ، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء ، فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم ، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول ، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء ، ولما كان قيام الإسلام بطائفتي العلماء والأمراء ، وكان الناس كلهم لهم تبعًا ، كان صلاح العالم بصلاح هاتين الطائفتين ، وفساده بفسادهما ، كما قال عبد الله
(الجزء رقم : 97، الصفحة رقم: 149)
ابن المبارك وغيره من السلف : (صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس ! قيل : من هم ؟ قال الملوك والعلماء)
ولقد أدرك العلماء خطورة هذا المنصب وعلو منزلته ،وعظيم شرفه ، وشدة أثره على الناس ، فجعلوا المفتي قائمًا في الأمة مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ الأحكام ، وتبيين الحلال من الحرام ، بل جعله بعضهم موقعًا عن رب العالمين ، وحاكيًا لحكمه سبحانه فيما يفتي فيه ، فهو حين يفتي بإباحة شيء أو تحريمه أو إيجابه ليس يعبر عن رغبته وهواه ، أو ما يظهر له بادي الرأي ، فدين الله ليس بالهوى والتشهي ، ولا بالخرص والتخمين ، وإنما يعبر عن حكم الله تعالى فيما يفتي فيه ، وأن الله تعالى هو الذي أباحه أو كرهه أو حرمه أو استحبه أو أوجبه ، قال ابن القيم : ( لا يجوز للمفتي أن يشهد على الله ورسوله بأنه أحل كذا أو حرمه أو أوجبه أو كرهه إلا لما يعلم أن الأمر فيه كذلك مما نص الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - على إباحته أو تحريمه أو إيجابه أو كراهيته ... قال غير واحد من السلف : ليحذر أحدكم أن يقول : أحل الله كذا أو حرّم كذا ، فيقول الله له : كذبت لم أحل كذا ، ولم أحرمه) وقال ابن المنكدر : (العالم بين اللّه وبين خلقه ، فلينظر كيف يدخل بينهم ؟) وشبه الإمام القرافي المفتي بالمترجم عن الله من جهة إخباره الناس بالأحكام
(الجزء رقم : 97، الصفحة رقم: 150)
الشرعية أما ابن القيم فوصف المفتي (بالموقع عن الله) وعقد لذلك فصلاً كاملاً جعله بعنوان (ما يشترط فيمن يوقع عن الله ورسوله) ، ثم قال : (ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ ، والصدق فيه ، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق ؛ فيكون عالما بما يبلغ ، صادقًا فيه ، ويكون مع ذلك حسن الطريقة ، مرضي السيرة ، عدلاً في أقواله وأفعاله ، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله ؛ وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله ، ولا يجهل قدره ، وهو من أعلى المراتب السنيات ، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات ؟ فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته ،وأن يتأهب له أهبته ، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه ، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به ، فإن الله ناصره وهاديه . وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه ، وليوقن أنه مسؤول غدًا وموقوف بين يدي الله)
ويقول النووي : (اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر، كبير الموقع ، كثير الفضل ، لأن المفتي وارث الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - وقائم بفرض الكفاية ، لكنه معرض للخطأ ، ولهذا قالوا : المفتي موقع عن الله تعالى ، وروينا عن ابن المنكدر قال : العالم بين الله تعالى وخلقه فلينظر كيف يدخل بينهم ؟ وروينا عن السلف وفضلاء الخلف من التوقف عن الفتيا أشياء كثيرة معروفة نذكر منها أحرفًا تبركًا :
(الجزء رقم : 97، الصفحة رقم: 151)
روينا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا ، وهذا إلى هذا ، حتى ترجع إلى الأول .
وفي رواية : ما منهم من يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه إياه ، ولا يستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا .
وعن ابن مسعود ، وابن عباس رضي الله عنهم : من أفتى عن كل ما يسأل فهو مجنون .
وعن الشعبي ، والحسن ، وأبي حصين - بفتح الحاء - التابعيين قالوا : إن أحدكم ليفتي في المسألة لو وردت على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لجمع لها أهل بدر .
وعن عطاء بن السائب التابعي : أدركت أقوامًا يسأل أحدهم عن الشيء فيتكلم وهو يرعد .
وعن ابن عباس ، ومحمد بن عجلان : إذا أغفل العالم لا أدري أصيبت مقاتله .
وعن سفيان بن عيينة ، وسحنون : أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما .
وعن الشافعي وقد سئل عن مسألة فلم يجب ، فقيل له : حتى أدري أن الفضل في السكوت أو في الجواب .
وعن الأثرم ، سمعت أحمد بن حنبل يكثر أن يقول : لا أدري ، وذلك فيما عرف الأقاويل فيه .
وعن الهيثم بن جميل : شهدت مالكًا سئل عن ثمان وأربعين مسألة ، فقال في ثنتين وثلاثين منها: لا أدري .
وعن مالك أيضًا : أنه ربما كان يسأل عن خمسين مسألة ، فلا يجيب في واحدة منها ، وكان يقول : من أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يعرض
(الجزء رقم : 97، الصفحة رقم: 152)
نفسه على الجنة والنار وكيف خلاصه ، ثم يجيب .
وسئل عن مسألة فقال : لا أدري ، فقيل : هي مسألة خفيفة سهلة ، فغضب وقال : ليس في العلم شيء خفيف .
وقال الشافعي : ما رأيت أحدًا جمع الله تعالى فيه من آلة الفتيا ما جمع في ابن عيينة أسكت منه عن الفتيا .
وقال أبو حنيفة : لولا الفرق من الله تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت ، يكون لهم المهنأ وعلي الوزر .
وأقوالهم في هذا كثيرة معروفة ، قال الصيمري والخطيب : قلَّ من حرص على الفتيا وسابق إليها وثابر عليها إلا قلَّ توفيقه ، واضطرب في أموره ، وإن كان كارهًا لذلك غير مؤثر له ما وجد عنه مندوحة وأحال الأمر فيه على غيره كانت المعونة له من الله أكثر ، والصلاح في جوابه أغلب)
وقد تكاثرت نصوص الكتاب والسنة في التحذير من الأئمة المضلين ، والجهلة المتعالمين ، والمتصدرين للفتوى وليسوا من أهلها ؛ ولهذا أمرنا الله تعالى بسؤال أهل الذكر خاصة ، فقال : [الأنبياء: 7] ، وأهل الذكر هم : العلماء الراسخون ، الذين شهدت لهم الأمة بالعلم والإمامة في الدين ، أما أدعياء العلم ، وأنصاف المتعلمين ، والمتطفلون على موائد العلماء ، فليسوا أهلاً لأن يستفتوا ويصدر عن رأيهم ، وبخاصة في
(الجزء رقم : 97، الصفحة رقم: 153)
الأمور العامة التي تمس مصالح الأمة .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - يحذر من هؤلاء تحذيرًا شديدًا ، فيقول : إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يُبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا
وهذا يتضمن التحذير من ترئيس الجهال ، وتخلية الساحة لهم ، بقعود العلماء الراسخين عما أوجبه الله عليهم من البلاغ والتبيين .
وفيه التحذير من استفتاء أدعياء العلم وأنصاف المتعلمين ، ومن يتصدرون للفتوى وهم في الحقيقة جهال أدعياء .
وفيه التحذير الشديد لهؤلاء من القول على الله بلا علم ، وإقحام أنفسهم فيما لا يحسنون ، والخوض في بحر لا يجيدون السباحة فيه ، فيَضلون ويُضلون ، ويتحملون أوزارهم وأوزار من يضلونهم بغير علم .
وقد صح عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال : (يهدم الإسلام زلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، وأئمة مضلون) فإذا كانت زلة العالم تهدم الإسلام ،وتضل الأنام ، فكيف بفتاوى أئمة الضلالة وأرباب الجهالة والغواية !! فليس شيء أخطر على الأمة ، ولا أضيع لدينها من جاهل دعي ،
(الجزء رقم : 97، الصفحة رقم: 154)
أو منافق ذكي ، يستعمل ذكاءه وعلمه وفصاحته في إضلال الخلق ، وصدهم عن الهدى ودين الحق ، فعن أبي عثمان النهدي قال : إني لجالس تحت منبر عمر - رضي الله عنه - وهو يخطب الناس فقال في خطبته : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة كل منافق عليم اللسان
فإذا كان المنافق عليمَ اللسان ، قويَّ البيان ، كان ذلك سببًا لفتنة الناس ولبس الحق بالباطل ؛ ولهذا كان أخوف شيء يخافه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته هم أئمة الضلالة هؤلاء ؛ وذلك لشدة خطرهم ، وعموم ضررهم ، فعن ثوبان - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين ، وفي رواية : أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون
بل كان يخاف على أمته منهم أشد من خوفه عليهم من فتنة المسيح الدجال ، الذي أُمرنا بالتعوذ من فتنته في كل صلاة ، وما من نبي إلا وأنذر أمته الدجال ؛ وذلك لعظيم خطره ، وشدة فتنته ، ومع ذلك فأئمة الضلالة أشد
(الجزء رقم : 97، الصفحة رقم: 155)
ضررًا على الأمة من فتنته ، فعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال : كنت مخاصر النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا إلى منزله ، فسمعته يقول : غير الدجال أخوف على أمتي من الدجال ، فلما خشيت أن يدخل قلت : يا رسول الله ، أي شيء أخوف على أمتك من الدجال ؟ قال : الأئمة المضلين وعن علي - رضي الله عنه - قال : كنا جلوسًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو نائم ، فذكرنا الدجال ، فاستيقظ محمرًا وجهه فقال : غير الدجال أخوف عندي عليكم من الدجال : أئمة مضلون
ويؤكد ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين حذر من فتنة الخوارج ، وأمر بقتلهم ، بين أنهم إنما أُتوا من قبل جهلهم ، وقلة فقههم ، فجنوا على أنفسهم وعلى أمتهم ، ولم يشفع لهم حسن نيتهم ، وسلامة قصدهم ، وكثرة عبادتهم ، فعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : سيخرج في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان ، سفهاء الأحلام ، يقولون من خير قول البرية ، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة
(الجزء رقم : 97، الصفحة رقم: 156)
وكلما تقادم الزمان ، وبعد الناس عن عهد النبوة ، كثر جهلهم ، وقلَّ فقههم ، ورق دينهم ، وتصدوا لما لا يعنيهم ، وخاضوا فيما ليس من شأنهم ، وتكلم الجهلة والغوغاء ، والمنافقون وأهل الأهواء في مصالح الأمة وقضاياها العامة ، فلبسوا الحق بالباطل ، واستحلوا الحرمات ، ووقعوا في المنكرات ، واتبعوا الأهواء والشهوات ، وتجرؤوا على حمى الشريعة ، وحرماتها المنيعة ، وهذا من أشراط الساعة ، التي نبه عليها نبينا - صلى الله عليه وسلم - في قوله : إن بين يدي الساعة سنين خداعة ، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ، ويخون فيها الأمين ، وينطق فيها الرويبضة ! قيل : وما الرويبضة ؟ قال : الرجل التافه يتكلم في أمر العامة وفي الصحيحين عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ، ويظهر الجهل ،ويفشو الزنى ، ويشرب الخمر ، ويذهب الرجال ، وتبقى النساء ، حتى يكون لخمسين امرأة قيم واحد .
منقول (http://www.alifta.net/Fatawa/FatawaSubjects.aspx?********name=ar&View=Page&HajjEntryID=0&HajjEntryName=&RamadanEntryID=0&RamadanEntryName=&NodeID=9412&PageID=13666&SectionID=2&SubjectPageTitlesID=21357&MarkIndex=8&0)
الإفتاء مسؤولية عظيمة ، وأمانة ثقيلة ، كما أنه منصب جليل ، ووظيفة شريفة ، وأثره في إصلاح الأفراد والمجتمعات ظاهر ، والحاجة إليه من أمس الحاجات ، بل تبلغ مبلغ الضرورات ، فليس كل الناس بل ولا أكثرهم يحسن النظر في الأدلة ، ويعلم حكم الله فيما يعرض له من مسائل ومشكلات ، فكان بحاجة إلى سؤال أهل العلم ، ومعرفة حكم الله تعالى فيما يحتاجه من خلال فتاواهم وأجوبتهم ، كما قال ربنا سبحانه : [النحل: 43] ، وقال حاثًا على الرجوع إلى أهل العلم والصدور عن رأيهم : [النساء: 83] .
ومع هذه العودة الحميدة إلى الله ، وانتشار الوعي لدى الناس ، والرغبة
(الجزء رقم : 97، الصفحة رقم: 142)
في الاستقامة والتمسك بالدين ، وتيسر التواصل مع العلماء وطلبة العلم ، وتوفر وسائل الإعلام والاتصال وتنوعها ، وكثرة معطيات الحياة العصرية وتجددها ، وتشعب الحياة وتعقدها ، والتداخل بين الدول والشعوب ، وسعة التعامل بين المسلمين وغير المسلمين ، وكثرة النوازل المعاصرة والحوادث المستجدة ، وتسابق أهل البدع والأهواء ، وأتباع الديانات والمذاهب المنحرفة إلى نشر أفكارهم ، وإقناع الناس بضلالاتهم وبدعهم ، زادت حاجة الناس وعظمت رغبتهم في معرفة المشروع والممنوع ، والحق والباطل ، وتمييز الحلال من الحرام ، والسنة من البدعة ، وقد كشفت الدراسات الإعلامية أن برامج الإفتاء في القنوات الفضائية والإذاعية من أكثر البرامج قبولاً ، وأوسعها انتشارًا ، وأعمها نفعًا وتأثيرًا .
ويدل على حاجة الناس إلى الفتوى وشدة اضطرارهم إليها ما جاء من الآيات والأحاديث الكثيرة الآمرة بسؤال أهل الذكر ، والدالة على فضل العلماء ومعلمي الناس الخير ، والمحذرة من كتمان العلم وجحد الحق .
كما يدل عليه ما جاء من الأحاديث الكثيرة في التحذير من الأئمة المضلين والرؤوس الجاهلين ، الذين يتخذهم الناس مرجعًا لهم حين يقل العلماء أو يقبضون ، أو يقعدون عن القيام بما أوجبه الله عليهم من البلاغ والتبيين ، فلجوء العامة لأئمة الضلالة هؤلاء وخاصة عند قبض العلماء الربانيين دليل على مدى حاجة الناس إلى الفتوى وعدم استغنائهم عنها .
وغني عن القول أن (الفتوى) الشرعية المعاصرة مع هذا القدر الكبير
(الجزء رقم : 97، الصفحة رقم: 143)
من الأهمية والتأثير ، فإنها لا تنفرد وحدها بقيادة الحركة العلمية ، ونشر الدعوة الإسلامية ،والإسهام في التنمية والرقي الحضاري ؛ لأن (الفتوى) ليست كل الشريعة الإسلامية ، وليست الوسيلة الوحيدة للدعوة والتعليم ، وحل مشكلات الناس والتجاوب مع حاجاتهم وهمومهم .
والتأكيد على هذه الحقيقة في غاية الأهمية ؛ لكي نضع الأمور في نصابها الصحيح ، وحتى لا نضيق واسع الشريعة ، ولا نتهم أحدًا أو نبخسه حقه ، أو نبالغ في تقدير الأمور .
ولما كانت الفتوى ذات أثر كبير في حياة الأفراد والمجتمعات ، ونظرًا لكثرة المفتين ، وتعدد مشاربهم ، وما آل إليه الإفتاء في واقعنا المعاصر ، وما شابه من المكدرات ، والممارسات الخاطئة ، وتصدي بعض أهل الجهل والأهواء لهذا المنصب الخطير ؛ مما انعكس أثره سلبًا على أمتنا وديننا الإسلامي ، وحرصًا على ضبط منهجية الفتوى ، وتحقيقًا للتواصل بين الفقهاء والمعنيين بقضايا الأمة وشريعتها الغراء ، فقد عقدت عدة لقاءات علمية ، اشترك فيها عدد كبير من الفقهاء والشخصيات العلمية البارزة من شتى أنحاء العالم للبحث في منهجية الإفتاء وشروطه وضوابطه ، ووضع الأسس والقواعد والمواثيق الجامعة لأصول الإفتاء وبيان أحكام الفتيا وشروطها ، وأدب المفتي والمستفتي ، وقطع الطريق على الأدعياء وأهل البدع والأهواء ، ومعالجة التحديات التي تواجه علماء الأمة والمتصدرين للفتوى ، وإحياء أدب الاختلاف ومنهج الائتلاف ، والتأكيد على أهمية
(الجزء رقم : 97، الصفحة رقم: 144)
الاجتهاد الجماعي والمؤسسي الذي يجمع بين خبراء العصر وفقهاء الشرع .
وبسبب تعاظم فوضى الإفتاء بمختلف مسبباتها ، وجدنا أن بعض الناس - وربما بدافع من غيرتهم على الدين وأهله - يحاربون الإفتاء الفضائي ، ويشنعون كثيرًا على من يسمونهم (مشايخ الفضائيات)!! ، وينادون بمنع برامج الإفتاء الفضائية جملة وتفصيلاً ، فيعالجون الخطأ بخطأ أشنع منه ، ويحرمون كثيرًا من الناس في شتى البلدان من خير عظيم لم يكن متيسرًا لهم من قبل ، مع شدة حاجتهم إليه ، وحرصهم عليه ، وانتفاعهم به ، وربما تسببوا في توهين عزائم بعض العلماء الثقات عن القيام بهذا الواجب العظيم ، والتصدي لهذه المهمة الجليلة ، وسد هذه الحاجة الملحة ، وحرمان الناس من علمهم وتوجيهاتهم ، ويجهل هؤلاء المخذلون أو يتجاهلون أثر هذه البرامج في نشر العلم الشرعي ، وتبصير الناس ، وأداء الأمانة ، والنصيحة للأمة ، وإشاعة الخير في الأرض ، وإصلاح المجتمع ومحاربة الفساد والمفسدين ، وقطع الطريق على الأدعياء والمتعالمين ، وأثرها الكبير في حل مشكلات الناس والتجاوب مع همومهم وحاجاتهم ، والإجابة عن أسئلتهم واستفساراتهم .
ولا يخفى على من له أدنى معرفة بأحوال الناس وحاجتهم إلى الفتيا أن الفتوى إذا كانت مؤصلة تأصيلاً شرعيًا سليمًا ، لها أثر كبير في هداية الناس وإسعادهم ، وحل مشاكلهم ، وتخفيف معاناتهم ، وتفريج كرباتهم ، وإصلاح ذات بينهم ، وتعليمهم حكم الله في عباداتهم ومعاملاتهم وشتى شؤون حياتهم ،
(الجزء رقم : 97، الصفحة رقم: 145)
وتحذيرهم من المعاصي والبدع والأهواء والضلالات ، وحفظ عقولهم من الشعوذة والدجل والخرافات ، وحملهم على أداء الأمانات ،والقيام بالحقوق والواجبات ، مما يسهم كثيرًا في إقامة الدين وإعلاء كلمة الله ، وحفظ حقوق العباد وحماية مصالحهم ، وتحقيق النهوض الحضاري للأمة الإسلامية في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والتربوية والاجتماعية .
وفوق هذا كله فإن الإفتاء فريضة ربانية ، وواجب شرعي ، فالدين هو النصيحة ، وقد بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، وجعل القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أخص أوصاف المؤمنين ، وأخذ العهد على العلماء أن يقولوا الحق ولا يداهنوا فيه ، وأن يبينوه للناس ولا يكتموه ، ولعن من يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى ، وتوعد من سئل عن علم فكتمه بأن يلجم بلجام من نار يوم القيامة ،والآيات والأحاديث في هذا الباب معلومة مشهورة.
فالفتوى بهذا الاعتبار واجب شرعي ، وفرض كفائي لا يجوز التخلي عنه أو التقليل من شأنه ، فضلاً عن محاربته والتنفير منه لمجرد وجود بعض الممارسات الخاطئة في تطبيقه ، أو انتهاك بعض المتعالمين وأهل الأهواء لجنابه .
ويكفي في أهمية الإفتاء وشدة الحاجة إليه وأثره في إقامة الدين وحفظ مصالح الناس أن الله عز وجل تولى هذا المنصب العظيم بنفسه ، فأفتى عباده في مسائل كثيرة في كتابه العظيم ، يقول سبحانه : [النساء: 176]
(الجزء رقم : 97، الصفحة رقم: 146)
، ويقول : [النساء: 127] ، ويقول : [البقرة: 189] ، وأمثالها كثير .
والإفتاء هو مهمة الرسل والأنبياء ، وعلى رأسهم محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث كان يفتي الأمة في كل ما يعرض لها من مسائل وقضايا ، وما يستجد لها من نوازل ومشكلات ، وكان ذلك مقتضى ما كلف به من البلاغ والتبيين ، كما قال ربنا سبحانه وتعالى : û [النحل: 43، 44] ، وقال : [النحل: 64] ، وتولاها من بعده الخلفاء الراشدون والصحابة الكرام ، ومن جاء بعدهم من العلماء الأعلام على مر العصور وكر الدهور
ولا يخلو زمان من قائم لله بحجة ، ولا يزال ربنا سبحانه يقيض لهذا الدين من العلماء الأكفاء ، والأئمة الفقهاء من يبلغ هذا الدين ، وينصح للمسلمين ، ويكون مرجعًا للأمة في معرفة دينها ، وحل مشكلاتها ، وبيان حكم الله تعالى في سائر معاملاتها ، كما قال ربنا سبحانه : [الأحزاب: 23] ، ووجود هؤلاء الصادقين المصلحين جزء من حفظ الله تعالى لكتابه ، حيث
(الجزء رقم : 97، الصفحة رقم: 147)
يقول : û û [الحجر: 9] فهذا يقتضي حفظ كتابه الكريم في الصدور والسطور ، وحفظ السنة النبوية المبينة له ، ويقتضي كذلك حفظ العاملين بالوحيين والحاكمين بهما إلى آخر الزمان ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين
وفي هؤلاء يقول الإمام أحمد - رحمه الله - في خطبته المشهورة في مقدمة كتابه (الرد على الزنادقة والجهمية ) : (الْحَمْدُ ِللَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي كُلِّ زَمَانِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ بَقَايَا مِنْ أَهِْل الْعِلْمِ يَدْعُونَ مَنْ ضَلَّ إِلَى الْهُدَى ، وَيَصْبِّرُونَ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى ، وَيُحْيُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَوْتَى ، وَيُبَصِّرِونَ بِنُورِ اللَّهِ أَهْلَ الْعَمَى ، فَكَمْ مِنْ قتِيلٍ لِإِبْلِيسَ قَدْ أَحْيَوْهُ ، وَكَمْ مِنْ ضَالٍّ تَائِهٍ قَدْ هَدَوْهُ ، فَمَا أَحْسَنَ أَثَرَهُمْ عَلَى النَّاسِ وَمَا أَقْبَحَ أَثَرَ النَّاسِ عَلَيْهِمْ ، يَنْفُونَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ ، الَّذِينَ عَقَدُوا أَلْوِيَةَ الْبِدْعَةِ ، وَأَطْلَقُوا عَنَانَ الْفِتْنَةِ ، فَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ ، مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ ، مُجْمِعُونَ عَلَى مُفَارَقَةِ الْكِتَابِ ، يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ وَفِي اللَّهِ وَفِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، يَتَكَلَّمُونَ بَالْمُتَشَابِهِ مِنَ الْكَلاَمِ ، وَيَخْدَعُونَ جُهَّالَ النَّاسِ بِمَا يُشَبِّهُونَ عَلَيْهِمْ ، فَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الْمُضِلِّينَ )
(الجزء رقم : 97، الصفحة رقم: 148)
وقد روي نحوه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
وقال عنهم ابن القيم : (فقهاء الإسلام ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام ، الذين خصوا باستنباط الأحكام ، وعنوا بضبط قواعد الحلال والحرام ، فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء ، بهم يهتدي الحيران في الظلماء ، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب ، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب ، قال الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا ü [النساء: 59] ، قال عبد الله بن عباس في إحدى الروايتين عنه ، وجابر بن عبد الله ، والحسن البصري ، وأبو العالية ، وعطاء بن أبي رباح ، والضحاك ، ومجاهد في إحدى الروايتين عنه :
(أولوا الأمر) هم : العلماء ، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد ، وقال أبو هريرة ، وابن عباس في الرواية الأخرى ، وزيد بن أسلم ، والسدي ، ومقاتل : هم الأمراء ، وهو الرواية الثانية عن أحمد .
والتحقيق أن الأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم ، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء ، فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم ، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول ، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء ، ولما كان قيام الإسلام بطائفتي العلماء والأمراء ، وكان الناس كلهم لهم تبعًا ، كان صلاح العالم بصلاح هاتين الطائفتين ، وفساده بفسادهما ، كما قال عبد الله
(الجزء رقم : 97، الصفحة رقم: 149)
ابن المبارك وغيره من السلف : (صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس ! قيل : من هم ؟ قال الملوك والعلماء)
ولقد أدرك العلماء خطورة هذا المنصب وعلو منزلته ،وعظيم شرفه ، وشدة أثره على الناس ، فجعلوا المفتي قائمًا في الأمة مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ الأحكام ، وتبيين الحلال من الحرام ، بل جعله بعضهم موقعًا عن رب العالمين ، وحاكيًا لحكمه سبحانه فيما يفتي فيه ، فهو حين يفتي بإباحة شيء أو تحريمه أو إيجابه ليس يعبر عن رغبته وهواه ، أو ما يظهر له بادي الرأي ، فدين الله ليس بالهوى والتشهي ، ولا بالخرص والتخمين ، وإنما يعبر عن حكم الله تعالى فيما يفتي فيه ، وأن الله تعالى هو الذي أباحه أو كرهه أو حرمه أو استحبه أو أوجبه ، قال ابن القيم : ( لا يجوز للمفتي أن يشهد على الله ورسوله بأنه أحل كذا أو حرمه أو أوجبه أو كرهه إلا لما يعلم أن الأمر فيه كذلك مما نص الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - على إباحته أو تحريمه أو إيجابه أو كراهيته ... قال غير واحد من السلف : ليحذر أحدكم أن يقول : أحل الله كذا أو حرّم كذا ، فيقول الله له : كذبت لم أحل كذا ، ولم أحرمه) وقال ابن المنكدر : (العالم بين اللّه وبين خلقه ، فلينظر كيف يدخل بينهم ؟) وشبه الإمام القرافي المفتي بالمترجم عن الله من جهة إخباره الناس بالأحكام
(الجزء رقم : 97، الصفحة رقم: 150)
الشرعية أما ابن القيم فوصف المفتي (بالموقع عن الله) وعقد لذلك فصلاً كاملاً جعله بعنوان (ما يشترط فيمن يوقع عن الله ورسوله) ، ثم قال : (ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ ، والصدق فيه ، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق ؛ فيكون عالما بما يبلغ ، صادقًا فيه ، ويكون مع ذلك حسن الطريقة ، مرضي السيرة ، عدلاً في أقواله وأفعاله ، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله ؛ وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله ، ولا يجهل قدره ، وهو من أعلى المراتب السنيات ، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات ؟ فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته ،وأن يتأهب له أهبته ، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه ، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به ، فإن الله ناصره وهاديه . وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه ، وليوقن أنه مسؤول غدًا وموقوف بين يدي الله)
ويقول النووي : (اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر، كبير الموقع ، كثير الفضل ، لأن المفتي وارث الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - وقائم بفرض الكفاية ، لكنه معرض للخطأ ، ولهذا قالوا : المفتي موقع عن الله تعالى ، وروينا عن ابن المنكدر قال : العالم بين الله تعالى وخلقه فلينظر كيف يدخل بينهم ؟ وروينا عن السلف وفضلاء الخلف من التوقف عن الفتيا أشياء كثيرة معروفة نذكر منها أحرفًا تبركًا :
(الجزء رقم : 97، الصفحة رقم: 151)
روينا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا ، وهذا إلى هذا ، حتى ترجع إلى الأول .
وفي رواية : ما منهم من يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه إياه ، ولا يستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا .
وعن ابن مسعود ، وابن عباس رضي الله عنهم : من أفتى عن كل ما يسأل فهو مجنون .
وعن الشعبي ، والحسن ، وأبي حصين - بفتح الحاء - التابعيين قالوا : إن أحدكم ليفتي في المسألة لو وردت على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لجمع لها أهل بدر .
وعن عطاء بن السائب التابعي : أدركت أقوامًا يسأل أحدهم عن الشيء فيتكلم وهو يرعد .
وعن ابن عباس ، ومحمد بن عجلان : إذا أغفل العالم لا أدري أصيبت مقاتله .
وعن سفيان بن عيينة ، وسحنون : أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما .
وعن الشافعي وقد سئل عن مسألة فلم يجب ، فقيل له : حتى أدري أن الفضل في السكوت أو في الجواب .
وعن الأثرم ، سمعت أحمد بن حنبل يكثر أن يقول : لا أدري ، وذلك فيما عرف الأقاويل فيه .
وعن الهيثم بن جميل : شهدت مالكًا سئل عن ثمان وأربعين مسألة ، فقال في ثنتين وثلاثين منها: لا أدري .
وعن مالك أيضًا : أنه ربما كان يسأل عن خمسين مسألة ، فلا يجيب في واحدة منها ، وكان يقول : من أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يعرض
(الجزء رقم : 97، الصفحة رقم: 152)
نفسه على الجنة والنار وكيف خلاصه ، ثم يجيب .
وسئل عن مسألة فقال : لا أدري ، فقيل : هي مسألة خفيفة سهلة ، فغضب وقال : ليس في العلم شيء خفيف .
وقال الشافعي : ما رأيت أحدًا جمع الله تعالى فيه من آلة الفتيا ما جمع في ابن عيينة أسكت منه عن الفتيا .
وقال أبو حنيفة : لولا الفرق من الله تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت ، يكون لهم المهنأ وعلي الوزر .
وأقوالهم في هذا كثيرة معروفة ، قال الصيمري والخطيب : قلَّ من حرص على الفتيا وسابق إليها وثابر عليها إلا قلَّ توفيقه ، واضطرب في أموره ، وإن كان كارهًا لذلك غير مؤثر له ما وجد عنه مندوحة وأحال الأمر فيه على غيره كانت المعونة له من الله أكثر ، والصلاح في جوابه أغلب)
وقد تكاثرت نصوص الكتاب والسنة في التحذير من الأئمة المضلين ، والجهلة المتعالمين ، والمتصدرين للفتوى وليسوا من أهلها ؛ ولهذا أمرنا الله تعالى بسؤال أهل الذكر خاصة ، فقال : [الأنبياء: 7] ، وأهل الذكر هم : العلماء الراسخون ، الذين شهدت لهم الأمة بالعلم والإمامة في الدين ، أما أدعياء العلم ، وأنصاف المتعلمين ، والمتطفلون على موائد العلماء ، فليسوا أهلاً لأن يستفتوا ويصدر عن رأيهم ، وبخاصة في
(الجزء رقم : 97، الصفحة رقم: 153)
الأمور العامة التي تمس مصالح الأمة .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - يحذر من هؤلاء تحذيرًا شديدًا ، فيقول : إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يُبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا
وهذا يتضمن التحذير من ترئيس الجهال ، وتخلية الساحة لهم ، بقعود العلماء الراسخين عما أوجبه الله عليهم من البلاغ والتبيين .
وفيه التحذير من استفتاء أدعياء العلم وأنصاف المتعلمين ، ومن يتصدرون للفتوى وهم في الحقيقة جهال أدعياء .
وفيه التحذير الشديد لهؤلاء من القول على الله بلا علم ، وإقحام أنفسهم فيما لا يحسنون ، والخوض في بحر لا يجيدون السباحة فيه ، فيَضلون ويُضلون ، ويتحملون أوزارهم وأوزار من يضلونهم بغير علم .
وقد صح عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال : (يهدم الإسلام زلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، وأئمة مضلون) فإذا كانت زلة العالم تهدم الإسلام ،وتضل الأنام ، فكيف بفتاوى أئمة الضلالة وأرباب الجهالة والغواية !! فليس شيء أخطر على الأمة ، ولا أضيع لدينها من جاهل دعي ،
(الجزء رقم : 97، الصفحة رقم: 154)
أو منافق ذكي ، يستعمل ذكاءه وعلمه وفصاحته في إضلال الخلق ، وصدهم عن الهدى ودين الحق ، فعن أبي عثمان النهدي قال : إني لجالس تحت منبر عمر - رضي الله عنه - وهو يخطب الناس فقال في خطبته : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة كل منافق عليم اللسان
فإذا كان المنافق عليمَ اللسان ، قويَّ البيان ، كان ذلك سببًا لفتنة الناس ولبس الحق بالباطل ؛ ولهذا كان أخوف شيء يخافه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته هم أئمة الضلالة هؤلاء ؛ وذلك لشدة خطرهم ، وعموم ضررهم ، فعن ثوبان - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين ، وفي رواية : أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون
بل كان يخاف على أمته منهم أشد من خوفه عليهم من فتنة المسيح الدجال ، الذي أُمرنا بالتعوذ من فتنته في كل صلاة ، وما من نبي إلا وأنذر أمته الدجال ؛ وذلك لعظيم خطره ، وشدة فتنته ، ومع ذلك فأئمة الضلالة أشد
(الجزء رقم : 97، الصفحة رقم: 155)
ضررًا على الأمة من فتنته ، فعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال : كنت مخاصر النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا إلى منزله ، فسمعته يقول : غير الدجال أخوف على أمتي من الدجال ، فلما خشيت أن يدخل قلت : يا رسول الله ، أي شيء أخوف على أمتك من الدجال ؟ قال : الأئمة المضلين وعن علي - رضي الله عنه - قال : كنا جلوسًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو نائم ، فذكرنا الدجال ، فاستيقظ محمرًا وجهه فقال : غير الدجال أخوف عندي عليكم من الدجال : أئمة مضلون
ويؤكد ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين حذر من فتنة الخوارج ، وأمر بقتلهم ، بين أنهم إنما أُتوا من قبل جهلهم ، وقلة فقههم ، فجنوا على أنفسهم وعلى أمتهم ، ولم يشفع لهم حسن نيتهم ، وسلامة قصدهم ، وكثرة عبادتهم ، فعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : سيخرج في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان ، سفهاء الأحلام ، يقولون من خير قول البرية ، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة
(الجزء رقم : 97، الصفحة رقم: 156)
وكلما تقادم الزمان ، وبعد الناس عن عهد النبوة ، كثر جهلهم ، وقلَّ فقههم ، ورق دينهم ، وتصدوا لما لا يعنيهم ، وخاضوا فيما ليس من شأنهم ، وتكلم الجهلة والغوغاء ، والمنافقون وأهل الأهواء في مصالح الأمة وقضاياها العامة ، فلبسوا الحق بالباطل ، واستحلوا الحرمات ، ووقعوا في المنكرات ، واتبعوا الأهواء والشهوات ، وتجرؤوا على حمى الشريعة ، وحرماتها المنيعة ، وهذا من أشراط الساعة ، التي نبه عليها نبينا - صلى الله عليه وسلم - في قوله : إن بين يدي الساعة سنين خداعة ، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ، ويخون فيها الأمين ، وينطق فيها الرويبضة ! قيل : وما الرويبضة ؟ قال : الرجل التافه يتكلم في أمر العامة وفي الصحيحين عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ، ويظهر الجهل ،ويفشو الزنى ، ويشرب الخمر ، ويذهب الرجال ، وتبقى النساء ، حتى يكون لخمسين امرأة قيم واحد .
منقول (http://www.alifta.net/Fatawa/FatawaSubjects.aspx?********name=ar&View=Page&HajjEntryID=0&HajjEntryName=&RamadanEntryID=0&RamadanEntryName=&NodeID=9412&PageID=13666&SectionID=2&SubjectPageTitlesID=21357&MarkIndex=8&0)