kamal_cat
2009-10-08, 23:07
التعريف بالقانون الدولي لحقوق الإنسان
يعد تعبير حقوق الانسان من التعابير او المصطلحات التي قد تبدو مألوفة للمتلقي ، وذلك لارتباطها به كانسان ومن ناحية اخرى لكون تعبير ( حقوق ) يعد ايضا من الامور غير البعيدة عنه لارتباطها بمصيره وحياته ومستقبله ، بحيث ان هذا المصطلح لدى البعض قد يعد من الامور المعروفة جداً له ، وهذا القول قد يصبح لدى الاغلبية ايضا ، حيث ان هذا المصطلح بات من المصطلحات شائعة الاستعمال والمعروفة من الناحية السطحية للجميع كمعرفتهم بالسماء والارض حيث ان معرفتهم بها تعد من الامور يسيرة المعرفة ولكن التعمق في السؤال عن السماء او الارض قد يؤدي إلى ان نجد ان هناك قلة فقط تسطيع الاجابة عن هذه التساؤلات ، وان التعمق اكثر من ذلك قد يصل بنا إلى ان نجد ان عدداً قليلاً جدا يعرف ما موجود في كل من السماء والارض وإلى ابعاد عالية في السماء وإلى اعماق بعيدة في الارض . وهذا الوصف يصح إلى حد ما ان نطلقه بصدد حقوق الانسان ، حيث ان تعبير حقوق الانسان يعد شائعا ويسيرا على الكثيرين معرفة ما يقصد به ولكن التعمق في هذا الموضوع قد يؤدي إلى ان نجد ان عدداً قليلاً فقط هم الذين لديهم دراية في تفاصيل واعماق هذا الموضوع . واذا كان الامر كذلك فيما يتعلق بتعبير ( حقوق الانسان ) بشكل عام فان الامر قد يتعقد اكثر عندما نكون امام قانون يوصف بانه قانون لحقوق الانسان وقد يصعب الامر اكثر ويتعقد عندما نكون امام قانون دولي لهذه الحقوق ، حيث ان القانون الدولي بحد ذاته قد يكون من الامور البعيدة عن أذهان الكافة فكيف اذا كنا امام قانون دولي لحقوق الانسان.
فما هو القانون الدولي لحقوق الانسان ؟ كيف نشا وتطور وما وضعه الحالي ؟ وهل له ذاتية واستقلالية خاصة به ؟ وما طبيعة احكامه ومكانته وما هي مصادره كقانون ؟ للاجابة عن هذه التساؤلات سوف اقسم هذا المبحث إلى اربعة مطالب ، اتناول في الاول تعريف القانون الدولي لحقوق الانسان وفي الثاني نشأة وتطور هذا القانون وفي الثالث مصادر هذا القانون وسوف اخصص مطلب رابعاً مستقلاً لبيان العلاقة بين القانون الدولي لحقوق الانسان وقانون دولي اخر قريب منه هو القانون الدولي الانساني.
المطلب الأول
تعريف القانون الدولي لحقوق الإنسان
لم يكن مصطلح ( القانون الدولي لحقوق الإنسان ) من المصطلحات المعروفة في التداول على صعيد القانون الدولي العام التقليدي ، وحتى في ظل القانون الدولي المعاصر ، لم يكن هذا المصطلح من المصطلحات التي عرفت منذ زمن بعيد حيث انه يعد من المصطلحات الحديثة نسبياً على صعيد هذا القانون ، اذ لم يعرف تداول لهذا المصطلح على المستوى الفقهي الا في بداية السبعينات من القرن الماضي ( [77]) على الرغم من وجود بدايات للتداول حول ما يتعلق به في فترة سابقة على السبعينيات وهي الفترة التي اعقبت الحرب العالمية الثانية .
وحتى في فترة السبعينات لم يكن هذا المصطلح يستخدم بشكل واضح ومميز وثابت ، بل انه كان مغطى بالكثير من الضبابية وعدم الإجماع حول وجوده او صحة وجوده اصلا ، ومن ناحية اخرى كان كثيرا ما يستعاض عنه او يختلط بمصطلحات اخرى شبيهة به او قريبة منه من حيث الاختصاص والهدف والغاية البعيدة ومثال ذلك استخدام مصطلح ( القانون الدولي الانساني ) او مصطلح ( قانون حقوق الانسان في السلم )( [78]).
ويبدو ان السبب في حدوث هذا الخلط وعدم الوضوح يرجع إلى حداثة ظهور هذا القانون على صعيد القانون الدولي من جهة ، ومن جهة اخرى اشمل لحداثة مفاهيم حقوق الانسان على الصعيد الدولي بشكل عام .
أما السبب في الخلط بينه وبين مصطلحات اخرى والتي هناك اليوم تمايز بينها وبينه ، فقد يرجع إلى حداثة كل هذه المصطلحات على الصعيد الدولي في حينها وعدم وضوحها بشكل يؤدي فيه التقارب بينها من حيث الهدف او الغاية الا وهو الانسان وحقوقه ، إلى الخلط وكذلك فان التقارب في اليات التطبيق بين هذه القوانين يقود ايضا إلى الخلط فيما بينها .
وإذا كان هناك ثمة إشكالية وعدم وضوح فيما يتعلق بمصطلح القانون الدولي لحقوق الإنسان فان هناك إشكالية أخرى تتعلق بتعريف هذا القانون حيث نجد ان هناك قلة في التعريف الفقهي لهذا القانون ، إذ أن حتى الفقهاء والكتاب الذين تعرضوا لهذا القانون او تناولوه فان الكثير منهم لم يحاول وضع تعريف دقيق لهذا القانون .
ومن التعاريف الفقهية لهذا القانون تعريف الأستاذ ( Jean Pictit ) والذي عرفه بانه ذلك الجزء الخاص من القانون الدولي والذي شكله الإحساس بالإنسانية والذي يستهدف حماية الفرد الإنساني ، وكذلك تعريف ( سن لارج ) والذي يعرفه بانه ( ذلك القانون الذي يتكون من مجموعة القواعد القانونية الدولية المكتوبة او العرفية التي تؤكد احترام الإنسان الفرد وازدهاره .
نستنتج من هذين التعريفين انهما يركزان على كون موضوع التعريف قانوناً وان قواعده لها خصوصية مميزة وذلك لكونها تُعنى بحقوق الإنسان وهذا ما يميزه عن بقية القواعد الدولية التي تعنى بالأساس بالدول او المنظمات الدولية . اذ يعد موضوع حقوق الإنسان من الموضوعات ذات الخصوصية حتى على الصعيد الداخلي فكيف يكون الحال اذا كان على الصعيد الدولي ، حيث إننا سوف نكون بصدد قواعد ذات طبيعة تؤدي إلى نشاتها وتطورها وإعمالها على صعيد دولي ولكن محورها ومحلها وهدفها هو شخص موجود على الأغلب ضمن إطار القانون الداخلي .
وبعد ان علمنا ان القانون الدولي لحقوق الانسان هو قانون دولي ذو خصوصية نتساءل عن نشأة وتطور هذا القانون .
المطلب الثاني
نشأة القانون الدولي لحقوق الإنسان وتطوره
من المعروف ان الظهور الاول لمبادئ حقوق الانسان كان على صعيد القوانين الداخلية، إذ لم يكن الفرد في بداية الامر شخصا او موضوعا او محلا للقوانين الدولية إذ ان حقيقة الامر تفيد بان القوانين الداخلية اقدم بالظهور من القوانين الدولية. وان حاجة الانسان إلى ايجاد قواعد تصون حقوقه الانسانية قديمة قدم الانسان ، ولذلك اخذ هذا الانسان يحاول استثمار تلك القوانين في سبيل تحقيق الحماية والتطبيق لحقوقه وقد كان لآراء الفلاسفة ونضالهم فضلاً عن نضال بني البشر بشكل عام وعلى اختلاف الامم والعصور الدور الكبير في ايجاد مبادئ حقوق الانسان ضمن الاطر القانونية وتطوير ذلك وايصالها إلى نظم قانونية خاصة اسمى وتحقق صيانة اكبر لها وذلك بادخال هذه المبادئ في التنظيم الدستوري وذلك لاعطائها مكانة اسمى ضمن القوانين لضمان عدم انتهاكها . ولكن السؤال الذي يثار هو ، هل ان الانسان اكتفى بادخال مبادئ حقوق الانسان في التشريعات الداخلية وتطوير ذلك بادخالها ضمن الدساتير الوطنية ، ام انه كان مستمرا في البحث عن ضمانات اكبر لإعمال حقوقه الانسانية ؟
لم يكتفِ الانسان بما تحقق له في مراحل التطور السابقة واخذ يبحث عن ما يمكنه من الارتفاع بالمستوى السابق المتحقق ويعززه فكان توجه الانسان بعد ذلك إلى قانون جديد وذي طبيعة خاصة ومميزة عن القوانين العادية وقد تكون فيه صفات معينة تدعم ما يسعى اليه الانسان في سبيل الحصول على تفعيل افضل وضمانات اكبر لإعمال حقوقه الانسانية . فكان التوجه في مرحلة جديدة نحو القانون الدولي . والسؤال الذي يثار هنا هو لماذا قصد الانسان هذا القانون ؟ او لماذا اراد الانسان او من يسير مسيرة حقوق الانسان ويناضل من اجلها تدويل قضية تطبيق هذه الحقوق ؟
قبل الاجابة على ما تقدم قد يكون من المفيد القاء نظرة على وضع الانسان في القانون الدولي العام قبل البدء بتدويل مبادئ حقوق الانسان ومن بعد ذلك نتناول الدوافع إلى تدويل هذه المبادئ .
- وضع الفرد في ظل القانون الدولي العام :
كان الاعتقاد العالمي السائد قبل القرن العشرين هو ان الفرد لا يعد من اشخاص القانون الدولي العام ، ويرجع ذلك إلى كون بنية هذا القانون نفسه كانت إحدى العوائق الرئيسة فيما يتعلق بإمكانية اعتبار الفرد من أشخاص هذا القانون حيث ان دور هذا القانون كان يقتصر في تلك الفترة على تنظيم العلاقات بين الدول فقط ، إذ انها كانت الشخص الوحيد لهذا القانون ( [79]) واذا كان التعمق الموضوعي في القانون الدولي التقليدي يدلنا على ان الفرد على الرغم من كونه لم يكن من أشخاص هذا القانون الا انه مع ذلك كان هدفا لهذا القانون باعتباره قانوناً حاله كحال بقية القوانين التي وجدت في سبيل تحقيق هدف معين سامٍ وهو خدمة الفرد (الإنسان) الا ان اتجاهات الدول وسياساتها واتجاهات الفقهاء ونظرياتهم لم تكن تتجه بشكل عام إلى اعتبار الفرد من أشخاص القانون الدولي العام وان الفقهاء الذين كانوا يعتبرون الفرد من أشخاص هذا القانون لم يكونوا يمثلون في ذلك الوقت إلا رأي القلة( [80]).
وبموجب الاتجاهات المذكورة والتي كانت سائدة في القانون الدولي التقليدي ، فان الافراد كانوا اشخاصاً في القوانين الداخلية لدولهم ، وموضوعا للسلطة المطلقة التي كان لها كامل الحرية في اخضاعهم لسلطاتها وقوانينها دون ان يكون لأية جهة أجنبية الحق في التدخل في العلاقة القائمة بين الحكومة ( السلطة ) ورعاياها، حتى وان كانت تصرفات السلطة قائمة على أساس الخطأ او الظلم او اللا عدل . واذا كانت سلطة الدولة مطلقة على رعاياها فانها لم تكن كذلك فيما يتعلق بعلاقاتها بالأفراد الأجانب المقيمين داخل الاقليم الخاضع لها ، حيث ان الامر كان قد تطور مبكراً وأصبحت هذه العلاقة خاضعة لقواعد دولية خاصة قائمة على أساس فكرة وجود حد أدنى من الحقوق يجب ان يتمتع بها الفرد الاجنبي وعلى اساس ذلك يجب على الحكومات ان تعامل الاجانب المقيمين في اقليمها بمعاملة خاصة تختلف عن المعاملة التي تعامل بها رعاياها، بحيث تكون سلطة الدولة على الاجانب المقيمين في اقليمها سلطة مقيدة وليست مطلقة كما هو الحال بالنسبة إلى سلطتها على رعاياها .
وبمرور الزمن واستمرار عجلة التطور في القانون الدولي العام بالسير ، وبتهيئة الظروف المناسبة والحاجات الملحة وتطور مسيرة حقوق الانسان بشكل عام ، اخذت المبادئ الأساسية التي دفعت إلى تقييد سلطات الدولة فيما يتعلق بالتعامل مع الاجانب تتطور لتتحول إلى مبادئ تقضي بتقييد سلطات الدولة فيما يتعلق بتعاملها مع رعاياها ، بحيث ظهرت قواعد عرفية دولية تقضي بتقييد سلطات الدولة على رعاياها وجواز التدخل الاجنبي لضمان تطبيق مثل هذه القواعد ( [81]) ، وقد كان اول ما ظهر من هذه القواعد على شكل قواعد دولية تقضي بتوفير حماية دولية خاصة للأقليات وكانت البداية بتوفير مثل هذه الحماية للاقليات الدينية الموجودة في دولة معينة والتي يخشى ان تتعرض للاعتداء او القسوة او التعسف من قبل السلطة التي تسيطر عليها الاغلبية ( [82])، وبعد هذه التطورات اخذ وضع الفرد في القانون الدولي العام يتطور ويتحول من مرحلة اعتباره هدفاً قريباً لا بل هدفا مباشرا من اهداف هذا القانون واستمر هذا التطور إلى الحد الذي بدا الفرد يعتبر من اشخاص هذا القانون وذلك بعد ظهور قواعد دولية خاصة تخاطب الافراد بشكل مباشر وتمنحهم حقوقاً معينة او ترتب عليهم التزامات معينة ، وعلى اثر ظهور تلك القواعد ترتب وضع جديد للفرد في القانون الدولي العام يقضي بالاعتراف بكون الفرد يمكن ان يكون شخصا من اشخاص القانون الدولي العام او بحد أدنى موضوعاً من موضوعات هذا القانون وذلك لوجود قواعد قانونية تخاطبه بشكل مباشر وتمنحه حقوقاً او تفرض عليه التزامات معينة ، بدون التوسط بشخص الدولة التي ينتمي إليها او يخضع لها .
- الأسباب الدافعة إلى تدويل حقوق الإنسان :
علمنا مما تقدم ان فكرة حقوق الانسان ظهرت اول الامر على الصعيد الداخلي على شكل افكار معينة تطورت فيما بعد واصبحت مبادئ قانونية ضمن القوانين الداخلية العادية منها والدستورية ، ولكن الامر لم يتوقف عند هذا الحد بل أخذت هذه المبادئ تنتقل شيئا فشيئا من صعيد القانون الداخلي إلى صعيد القانون الدولي عندما بدأت تدخل مثل هذه المبادئ ضمن ما يعرف بالقانون الدولي العام والذي كان يعد بصيغته الاولى بعيدا عن التدخل في حماية حقوق الافراد , لكنه اخذ يتطور وياخذ على عاتقه وبشكل تدريجي التدخل في مثل هذه المسائل ولكن السؤال هنا هو ما هي الاسباب والدوافع التي أدت إلى تحقيق عملية الانتقال لمبادئ حقوق الانسان من القانون الداخلي إلى القانون الدولي ؟
يرجع هذا التطور في مسيرة حقوق الإنسان من جهة ومسيرة القانون الدولي العام من جهة أخرى إلى عدة عوامل أهمها :
1. تطور الحياة الإنسانية وازدياد الاحتكاك بين الشعوب بفضل التقدم الحاصل في مجال المواصلات والنقل والاتصالات وكذلك التطور الحاصل في مجال الحياة الاقتصادية وما يتعلق بالتبادل التجاري بين الدول وظهور منتجات اقتصادية متباينة من دولة إلى اخرى استدعت وجود علاقات تبادل وفرص عمل متباينة أدت إلى زيادة وجود العاملين خارج أوطانهم ( [83]) الامر الذي ادى إلى زيادة التقارب بين الشعوب وتعرف الشعوب بفضل احتكاكها مع غيرها على اوضاع حقوق الانسان لدى غيرها وتعرفها على مبادئ جديدة في هذا المجال اذ انه من المعلوم ان مبادئ حقوق الانسان والنظرة اليها كانت ولا تزال تختلف من شعب إلى اخر ومن حضارة إلى اخرى( [84]).
2. زيادة إعداد الأجانب المتواجدين خارج أوطانهم , وذلك بفعل التطور الحاصل في الحياة الاقتصادية وظهور مبادئ دعت إلى الانفتاح الاقتصادي او الاختلاف في مدى توفير فرص العمل من دولة إلى اخرى ، وان هذه الزيادة في عدد الاجانب الذين يعملون او يقيمون في دول لا ينتمون اليها برابطة الجنسية يعني احتمال الزيادة في الانتهاكات التي من الممكن ان يتعرض اليها هؤلاء الاجانب من قبل سلطات دولة الاقامة ، الامر الذي قد يؤدي إلى الاضرار بواقع العلاقات الدولية بين دولة الجنسية ودولة الاقامة مما قد يستدعي ان تتدخل الاسرة الدولية وتوجد أعرافاً معينة وتطورها على الصعيد الدولي في سبيل منع الاعتداء على هؤلاء الاجانب .
3. شعور الضمير العالمي بعدم كفاية نظم القانون الداخلي لحماية حقوق الانسان ، وان السبيل الافضل لضمان هذا الاحترام هو حمايتها عن طريق نظم القانون الدولي العام ، حيث انه على الرغم من اختلاف النظرة إلى حقوق الانسان من شعب إلى اخر ومن حضارة إلى اخرى الا ان الدافع إلى هذه النظرة او الهدف هو واحد الا وهو الانسان وان مشاكل الانسان من هذه الناحية هي واحدة اين ما وجد وفي أي زمان حيث ان دافعه هو التخلص او الاتقاء من انتهاك حقوقه وبما ان الدافع إلى التفكير بحقوق الانسان موحداً لدى البشرية فان الافراد اخذوا لا يفكرون بقضية حقوقهم الانسانية على صعيد اوطانهم فحسب بل انهم اخذوا يشتركون ويتضامنون مع الافراد في المجتمعات الانسانية الاخرى في سبيل توحيد الجهود والنضال لتحصيل الإعمال لحقوقهم . ولكن مهما اتحد الجهد فانه قد لا يؤتي ثماره اذا كان بعيدا عن تأطيره في اطار قانوني يضمن تحققه بصيغة تؤدي إلى استفادة كل من ناضل في سبيل هذه القضية من ثمار نضاله وجهوده فضلاً عن نضال وجهود غيره ممن سار في ذات الطريق . وخير اطار قانوني لتأطير قضية حقوق الانسان وتوحيد كافة الجهود الانسانية في هذا المجال هو قانون يمتاز بطبيعته بانه قانون يسري على مجموع الدول وبالتالي فان هذا يعني انه سوف يسري على مجموع الشعوب ويكون بمثابة المعزز والداعم لجميع النظم الداخلية التي وجدت لضمان حقوق الانسان في مختلف الدول . ويتمثل هذا القانون بالقانون الدولي العام ، وبداية انتقال مبادئ حقوق الانسان من الصعيد الداخلي إلى الصعيد الدولي كان البذر الاول للقانون الدولي لحقوق الانسان ذلك القانون الذي يقوم على فكرة وجود مجموعة من القواعد الدولية تعني بتحقيق الاحترام لحقوق الانسان .
واذا كانت مرحلة انتقال مبادئ حقوق الانسان من الصعيد الداخلي إلى الدولي بمثابة المرحلة الجنينية الممهدة لولادة القانون الدولي لحقوق الانسان فان هذه العملية استمرت وتزامن مع استمرارها ازدياد الوعي والاهتمام الدولي في مجال حقوق الانسان وبدأت تظهر نظم وقواعد عرفية دولية في مجال هذه الحقوق كنظام الحد الادنى في معاملة الاجانب ونظام التدخل الإنساني ونظام حماية الاقليات وأخذت تتكون العديد من القواعد الدولية في مجال حماية هذه الحقوق .
الا انه ورغم كل التطورات التي حصلت وازدياد الوعي في هذا المجال لم يؤدِ كل ذلك إلى ظهور ما يعرف بالقانون الدولي لحقوق الانسان . حيث انه وفي المرحلة الاولى (الجنينية) او الممهدة للولادة لم يكن هذا القانون معروفا كقانون قائم بحد ذاته ضمن فروع القانون الدولي العام لا بل حتى قواعده ضمن قواعد هذا القانون لم تكن معروفة لدى الجميع او ان وجودها لم يكن مؤيدا او مصادقا عليه على الصعيد الدولي سواء الرسمي او الفقهي .
واستمر هذا الوضع لفترة زمنية تزامن معها التحديث في القانون الدولي العام واستمرار سير مسيرة حقوق الانسان بشكل عام وعلى الصعيد الدولي بشكل خاص ، ولكن كل ذلك لم يؤدِ إلى ولادة القانون الدولي لحقوق الانسان بشكل صريح وواضح او تدويل حقوق الانسان الا بإصدار ميثاق منظمة الامم المتحدة ، ذلك الميثاق الذي مثل التصديق عليه من قبل غالبية الدول بمثابة التعديل لاحكام القانون الدولي ، حيث انه أوجد منظمة حكومية عالمية تظم في عضويتها غالبية دول العالم ، وتضطلع بمهام ذات طبيعة عامة تهم كل الدول الاعضاء في الاسرة الدولية ، حيث جاء هذا الميثاق راسما للخطوط العريضة لمسيرة حقوق الانسان على الصعيد الدولي وهيأ وبشكل رسمي البيئة المادية والقانونية والمعنوية المناسبة للبدء بإعمال حقوق الانسان بوسائل دولية واستمرار عملية التدويل أي الانتقال لبقية مبادئ حقوق الانسان ، لا بل انه هيأ لإمكانية ايجاد قواعد دولية جديدة لإعمال حقوق الانسان .
إذ جاء ميثاق الأمم المتحدة بالإجازة أو الإعلان الصريح عن تدويل حقوق الانسان وجعلها ضمن الموضوعات الدولية ، وكان ذلك من خلال تناول الميثاق لهذه الحقوق في العديد من مواده فضلاً عن ديباجته ( [85]).
والذي يلاحظ بصدد نصوص الميثاق ان هناك ترابطا فيما بينها بصدد مسالة حقوق الانسان . حيث ان الهدف الاساسي للامم المتحدة والمتمثل بحفظ الامن والسلم الدوليين ليس بالهدف البعيد عن موضوع حقوق الانسان ، حيث ان السلم الدولي وضمان استمراره يعد من اهم حقوق الانسان الجماعية ، الا وهو حق الانسان الجماعي في السلام فضلاً عن كون تحقيق السلام يوفر البيئة المناسبة لتطبيق حقوق الانسان( [86]).
وتبين نصوص حقوق الانسان الواردة في الميثاق ، ذلك الميثاق الذي يمثل معاهدة دولية جماعية فضلاً عن كونه يمثل دستور المنظمة ، تلك المنظمة التي تعد اكبر منظمة عالمية عرفها المجتمع الدولي ، ان ايراد هذه النصوص وما تتضمنه من احكام وعدها من مقاصد المنظمة التي تمثل المجتمع الدولي وتعبر عن ارادته وتوجهاته ، يفيد بتوجه ارادة المجتمع الدولي إلى جعل مبادئ حقوق الانسان قواعد امرة في القانون الدولي العام ( [87]).
وعلى الرغم من الايجابيات التي حققها الميثاق لحقوق الانسان الا انه كان مع ذلك يكتنفه الكثير من العيوب فيما يتعلق بهذه الحقوق حيث انه لم يتناولها بشكل تفصيلي وضمن مواد مفصلة بل انه تناولها في نصوص عامة وضمن مواد متفرقة كما انه لم يضع آليات معينة لإعمالها واكثر من تكرار ذكر ذات العبارات في الكثير من النصوص كل هذه العيوب وعيوب اخرى دفعت إلى حصول خلاف فقهي حول نصوص الميثاق المتعلقة بحقوق الانسان ومدى الزاميتها ( [88]).
ولم يتوقف جهد الامم المتحدة في مجال حقوق الانسان على صياغة واصدار الميثاق بل انها قامت بتعزيز حقوق الانسان من خلال العديد من الاجراءات والتصرفات على الصعيد الدولي والتي يمكن تفسيرها اما بانها تكون تكملة للنواقص التي كانت تشوب الميثاق او انها ترجمة تفصيلية للمبادئ العامة التي جاء بها الميثاق وقد ابتدات هذه الإعمال بالجهد الدولي الذي بدا بعد صدور الميثاق والذي ادى إلى تعريف حقوق الانسان ووصولا إلى ايجاد حماية لهذه الحقوق .
وسوف نتناول فيما يأتي وبهدف خدمة اهداف الدراسة موجزا عن جوانب نشاط الامم المتحدة المتعلق بتكوين القانون الدولي لحقوق الانسان .
لقد بدأ الجهد الدولي في مجال تعزيز حقوق الإنسان بعد إصدار الميثاق بمحاولة معالجة الفشل في التوصل إلى أيجاد لائحة لحقوق الإنسان في مؤتمر سان فرانسيسكو ، حيث فشل واضعو الميثاق في إيجاد لائحة لحقوق الانسان ، فأعيد طرح الموضوع مجددا في الامم المتحدة وكذلك في الدورة الاولى للجمعية العامة سنة 1946 ، واستمرت الجهود في هذا الاتجاه إلى حين التوصل عام 1948 إلى حل وسط يتمثل بإصدار لائحة دولية تضم هذه الحقوق تحت اسم (الاعلان العالمي لحقوق الانسان) وعلى شكل توصية غير ملزمة ، تم إعدادها من قبل لجنة حقوق الانسان واقرارها واصدارها من قبل الجمعية العامة ويتكون الاعلان من مقدمة وثلاثين مادة تتطرق بشكل عام إلى اهم الحقوق الانسانية على اختلاف انواعها وطبيعتها ( [89]).
وعلى الرغم من اهمية اصدار الاعلان باعتباره سابقة مهمة في المجتمع الدولي بصدد موضوع حقوق الانسان الا ان مواد هذا الاعلان لم تكن تتمتع بالالزام بل انها كانت وبموجب ما اتخذته من شكل ، مجرد قواعد توجيهية لا يترتب على مخالفتها أي جزاء او مسؤولية دولية ، الامر الذي ادى إلى اثارة خلاف فقهي ورسمي بصدد أهمية هذه القواعد والزاميتها( [90]) واذا كانت مواد الاعلان غير ملزمة فما الفائدة من اصدار مثل هذا الاعلان ؟ وما هي قيمته لدعم مسيرة حقوق الانسان على الصعيد الدولي ؟ وما اثر اصداره او دوره فيما يتعلق بتكوين القانون الدولي لحقوق الانسان ؟
علمنا مما تقدم ان موضوع حقوق الانسان في اعقاب الحرب العالمية الثانية كان من الموضوعات الجديدة نسبيا على القانون الدولي العام على الرغم من وجود خلفيات تاريخية له على صعيد هذا القانون ، فضلاً عن كون موضوع حقوق الانسان بشكل عام يعد من الموضوعات الحساسة بالنسبة إلى الحكومات فيما يتعلق بجوانب التطبيق الفعلي ومن المعروف ان الامم المتحدة تعد منظمة حكومية ، أي ان ارادتها تتكون من مجموع ارادات حكومات الدول الاعضاء فيها ، ومن المعروف ايضا انه ومنذ ان عرفت مبادئ حقوق الانسان سواء داخليا او دوليا كان هناك الكثير من الحكومات تقف ضدها او لا ترحب بها او بأقل تقدير تتحسس منها وخاصة في التاريخ المبكر لظهور هذه المبادئ ، لذلك فقد كان الإتيان بقواعد او قانون دولي ملزم لهذه الحقوق دفعة واحدة قد يكون من الأمور الصعبة والتي قد تواجه بالكثير من المعارضة من قبل الحكومات والتي كانت قد تصل إلى حد الانسحاب من المنظمة ، لذلك فكان لابد من الاتيان بهذه المبادئ بصيغ تدريجية معينة وليس دفعة واحدة وبشكل يتطور فيه الامر إلى حد الوصول إلى الطموح في هذا المجال ، وبالفعل فقد كانت البداية في ميثاق المنظمة كما علمنا والذي رسم الإطار القانوني العام لهذا الموضوع وبعد ذلك وبفترة مناسبة تم اصدار الاعلان على شكل توصية لا تؤدي إلى النفور ولا الحساسية ولا التخوف من قبل الحكومات فيما يتعلق بالجزاء والمسؤولية الدولية وهو في نفس الوقت فرصة للدول الراغبة في دعم مسيرة حقوق الانسان لاتخاذ ما يلزم في هذا الاتجاه.
وفضلاً عن ما تقدم فان اتجاه إرادة الأسرة الدولية الممثلة في الامم المتحدة إلى إصدار هذا الإعلان تعد بمثابة التأكيد على اتجاه ارادتها حين اصدار الميثاق نحو تدويل حقوق الانسان والتأكيد على قانونية مواد الميثاق الخاصة بحقوق الانسان ، وذلك من خلال الاستمرار بتوجيه وتحريك الجهد الدولي لخدمة مسيرة هذه الحقوق .
اما فيما يتعلق بفائدة واثر الاعلان بالنسبة إلى القانون الدولي لحقوق الانسان فتتمثل بكون هذا الاعلان جاء بمبادئ حقوق الإنسان الرئيسة وأبرزها على الساحة الدولية ، وهي المبادئ الأساسية التي تكون في ضوئها القانون الدولي لحقوق الانسان والتي لم يفصح عنها ميثاق الامم المتحدة عند صدوره ، أي انه كان من الممكن ان تعد هذا الميثاق بمثابة اللائحة الاولى او المشروع المثالي للقانون الدولي لحقوق الانسان وبالفعل فمن حيث الواقع فان ما جاء به الاعلان كان بمثابة المثل العليا والاهداف او الغايات العليا التي يجب على الدول ان تسعى إلى الوصول اليها في مجال حقوق الانسان او بتعبير واقعي ادق انها الغايات العليا التي يجب ان تسير الظروف العامة في سبيل الوصول اليها .
وتتضح الصفة التوجيهية العامة للاعلان من ناحية اخرى في كونه جاء بصيغ عامة وشاملة واتصف بالعالمية حيث انه بذلك خطط بشكل دقيق للقانون الدولي لحقوق الانسان على نحو يتفق وطبيعة هذه الحقوق حيث انه جاء بمستوى مشترك لكافة الشعوب والامم وفضلاً عن ما تقدم فان الاعلان يعد بمثابة الكاتالوج في مجال حقوق الانسان والذي تم الاستعانة به في سبيل ايصال هذه الحقوق إلى الإعمال ( [91]) ومن الناحية العملية وفضلاً عن ما تقدم فيما يتعلق بدور الاعلان بالنسبة إلى القانون الدولي لحقوق الانسان فان الاعلان في حقيقته كان بمثابة متن تضمن مجموعة من المعايير لقياس مدى احترام حقوق الانسان وانتهاكها وبموجبه يمكن تقييم وضع حقوق الانسان في أي مكان كما انه كان ولا يزال بمثابة المنهل الذي استقت منه العديد من القوانين الداخلية بعض مبادئها وهذا القول يصح لما يزيد على (25) دولة حيث تضمنت دساتيرها اشارة صريحة ومباشرة إلى الاعلان بعد مضي ما لا يزيد على العشرة سنوات من تاريخ اصداره .
وفضلاً عن كل ما تقدم وبعيداً عن النظر إلى الاعلان بمنظار قانوني بحيث يفيد بعدم قانونية او إلزامية الإعلان فانه وعند التعمق في محتواه وربطه بمسار الأحداث وأعماق النوايا والمقاصد للأسرة الدولية والنتائج المتحققة على ارض الواقع والمرتبطة به أي باختصار النظر اليه بمنظار عملي واقعي قائم على أساس الغايات والنتائج المتحققة وحتى دون الحاجة إلى الاستعانة بالآراء والاتجاهات المؤيدة لقانونية وإلزامية الإعلان ، نجد ان هذا الإعلان ليس بعيداً عن ان يكون ضمن ما يعرف بالقانون الدولي لحقوق الانسان لا بل يمكن اعتباره الركن الأساس في هذا القانون او دستوره وذلك لعدة اعتبارات أهمها كونه وان صدر على شكل توصية لكن روح هذه التوصية يميل وبشكل كبير نحو الإلزام والقانونية ويرجع ذلك إلى طبيعة ومكانة ما يحويه الاعلان من حقوق. وبالفعل فان ذلك قد تحقق وبشكل تدريجي على ارض الواقع ولو بشكل نسبي ولكن دون الحاجة إلى اجراء تعديل قانوني ولتغيير وصف او شكل الاعلان إلى وصف او شكل اخر . حيث نجد انه وعلى الرغم من عدم الزامية التوصية لا تجرؤ أية دولة او أية شخصية دولية المصارحة بمعارضتها او عدم ايمانها بمحتوى التوصية وهذا يعني ان لهذه الحقوق من القدسية ما يكفيها ويضفي على أي اطار يحتويها قدسية مشتقة منها وان القدسية المترتبة للاعلان تعني إعطاءه شيئاً من صفات القانون لكن مع خصوصية يقتضيها وضع الاعلان وظروف المجتمع الدولي . وبالفعل وبمرور الزمن اخذ الاعلان يتحول شيئا فشيئا نحو الالزام وذلك بتواتر التصرفات الدولية على اعتباره كذلك ، والتصريح بذلك علنا . فقد تم في مؤتمر طهران لحقوق الانسان عام 1968 والذي جرى باشراف الامم المتحدة وحضره ( 84 ) عضواً من أعضاء الامم المتحدة ، إقرار اعلان مفاده ( ان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان شكل التزاما على أعضاء الأسرة الدولية ) ( [92]) واذا كان هناك ثمة تساؤل حول الجزاء المترتب على من يخالف الإعلان فان هذا الجزاء ان كان الرأي الأغلب يراه متمثلا في استهجان الراي العام الدولي او العالمي للتصرف المخالف مما يعني وسيلة ضغط على الطرف المخالف ، فان آلية المجتمع الدولي لحماية حقوق الانسان اليوم ضمن مفهوم التدخل الإنساني لا تستبعد من نطاق التطبيق اذا كان الدافع إلى التدخل مخالفة ما ورد في الاعلان العالمي لحقوق الانسان ومهما يكن من أمر فإذا كان من الصعب ايراد الاعلان ضمن القانون الدولي لحقوق الانسان باعتباره قانونا إتفاقياً مكتوبا ، فان ايراده ضمن اطار العرف الذي درج اشخاص القانون الدولي العام على اتباعه يعد حلاً وسطاً ، ويكون ذلك باعتبار الاعلان يمثل فيما يتعلق بالاحكام والمبادئ التي لم يأتِ بصددها قانون اتفاقي مكتوب بمثابة العرف المكمل ضمن الاطار العام للقانون الدولي لحقوق الانسان ( [93]) ، وبعد اصدار الاعلان العالمي لحقوق الانسان لم يكتفِ المجتمع الدولي الممثل في الامم المتحدة بالاعلان في سبيل تفعيل ما جاء به الميثاق بخصوص حقوق الانسان ، حيث انه اذا كان الميثاق قد جاء بالارضية والقانون العام وكانت الخطوة الثانية اصدار الاعلان ودعمه فان الخطوات في سبيل إيجاد قانون دولي لحقوق الانسان قد استمرت ، وكان ذلك ضرورة وبشكل ملح نظراً إلى الشكل الذي صدر به الاعلان وما ترتب على ذلك من خلاف فقهي ودولي رسمي حول مدى قانونيته والزاميته فكانت الخطوات التالية قائمة على اساس تفادي النواقص والعيوب التي سادت كلاً من الميثاق والاعلان بخصوص الناحية العملية لإعمال حقوق الانسان ، وذلك بإيجاد قواعد قانونية دولية صريحة وملزمة وضمن اطار اتفاقي تكون بموجبها ما عرف بعد ذلك بالقانون الدولي لحقوق الانسان .
لقد كان اتجاه المجتمع الدولي ممثلا بالامم المتحدة نحو القانون الاتفاقي في سبيل البدء باعداد وتكوين القانون الدولي لحقوق الانسان أمراً راجعاً إلى اعتبارات موضوعية تتصل بطبيعة هذا القانون وما مطلوب له ان يكون من جهة او لطبيعة القانون الدولي الاتفاقي وما يستطيع ان يقدمه لحقوق الانسان من جهة اخرى ، وذلك نظرا لما يتمتع به من خصائص حيث ان من المعروف انه اذا كانت عملية تدويل حقوق الانسان هي في سبيل دعم مسيرة هذه الحقوق فان هذا الدعم لا يؤتي ثماره ما دام التنظيم لهذه الحقوق باقيا في نطاق قانون دولي بعيدا عن التزام الدول به ونقله إلى الصعيد الداخلي أي إلى حيث يعيش محل هذه الحقوق (أي الانسان) وعلى اساس ما تقدم فان القانون الدولي لحقوق الانسان يتطلب بطبيعته ان تكون الاثار النهائية لتطبيقه في محيط قريب من محل او موضوع الحقوق التي يحتويها ، وان خير سبيل إلى ذلك هو القانون الدولي الاتفاقي أي جعل هذه الحقوق ضمن اطار اتفاقيات دولية محددة الامر الذي يعطيها الاكتمال من حيث الشكل والمحافظة على المضمون ، ويترتب عليه التزامات دولية تتمثل بوجوب نقل محتواها إلى حيز التنفيذ بحيث يستفيد منها الانسان ، هذا كله فضلاً عن مكانة الاتفاقيات الدولية بين مصادر القانون الدولي العام حيث انها تمثل المصدر الاول من بين هذه المصادر .
وبناءا على ما تقدم نجد ان الجهد الدولي قد أثمر بالاتجاه لإعداد وابرام العديد من الاتفاقيات الدولية في مجال حقوق الانسان وقد كانت النقلة النوعية والاساسية في هذا المجال بإصدار عهدين دوليين لحقوق الإنسان عام 1966 ، الاول للحقوق المدنية والسياسية والثاني للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية . وشكل ايجاد هاتين الاتفاقيتين نقلة نوعية جديدة في مسيرة حقوق الانسان وذلك من حيث طبيعة نصوص الاتفاقيتين ومن حيث النتائج المترتبة على وجود مثل هذه النصوص . حيث امتازت الاتفاقيتان بالعالمية وذلك استنادا إلى الجهة التي تبنت الاتفاقيتين وهي الامم المتحدة ومن حيث وجود عبارات معينة تشير صراحة إلى العالمية وبصيغ اكثر صراحة من الاعلان العالمي حيث ان الصياغة التي استخدمت في هذين العهدين لا تتماثل مع صياغة الاعلان إذ جاء فيها ( ان الدول الاعضاء تتعهد بضمان الاحترام العالمي الفعال لهذه الحقوق ) إذ أنها استخدمت عبارة الدول بدلا من عبارة (الدول الأعضاء) التي استخدمها الاعلان ، وهذا يعني انها توجه إلى كافة الدول الاعضاء وغير الاعضاء في الامم المتحدة ( [94]).
وقد ترتب على وجود الاتفاقيتين بهذه الطبيعة اشارة صريحة إلى اتجاه ارادة المجتمع الدولي إلى الانتقال بموضوع حقوق الانسان من التعزيز إلى الحماية ، وبتعبير ادق الانتقال بحقوق الانسان من مجرد الالتزام الادبي بها إلى الالتزام القانوني الذي يضمن لها التفعيل ( [95]) .
وفضلاً عن الجهود سابقة الذكر للمجتمع الدولي لتكوين القانون الدولي لحقوق الانسان والتي كانت على شكل قواعد عامة لتعزيز وحماية هذه الحقوق فقد كان هناك اتفاقيات اخرى على الصعيد الدولي عززت تلك الجهود واكدت على اتجاه ارادة المجتمع الدولي في الاتجاه نحو تحقيق الالزام للقواعد الدولية لحقوق الانسان ، وتمثلت اهم هذه الاتفاقيات باتفاقيات دولية اقليمية كالاتفاقيات الاوربية والامريكية والافريقية لحقوق الانسان واتفاقيات اخرى خاصة تتعلق بحماية اشخاص معينين مثل النساء والاطفال والمعوقين واخرى تتعلق بحقوق معينة من حقوق الانسان وتعطيها مزيدا من العناية بشكل خاص وتنص على تفصيلات في وسائل الحماية وطرقها ، مثل اتفاقية قمع الفصل العنصري والمعاقبة عليها واتفاقية منع الرق واتفاقية منع جريمة الابادة الجماعية وغيرها .
وبتراكم مجموعة من القواعد الدولية العرفية في مجال حقوق الانسان وتعزيزها بمجموعة كبيرة من القواعد الدولية الاتفاقية سواء العالمية منها او الاقليمية وسواء التي تشمل مجموعة من الحقوق او التي تحمي وتعزز حقوقاً معينة بذاتها ، وسواء التي تحمي افراد معينين بالذات او التي تحمي الانسان بشكل عام ، تكون القانون الدولي لحقوق الانسان كقانون له مصادره القانونية الخاصة والتي تنبع من الطبيعة الخاصة لهذا القانون وذلك لتعلق أحكامه بالافراد بشكل مباشر ، وسوف نتناول في المطلب القادم مصادر هذا القانون .
المطلب الثالث
مصادر القانون الدولي لحقوق الإنسان
علمنا مما تقدم ان القانون الدولي لحقوق الانسان يعد فرعا من فروع القانون الدولي العام ، وبناءا على ذلك فانه كي نستطيع تحديد مصادر القانون الفرع لابد قبل ذلك من معرفة مصادر القانون الاصل وذلك للتمكن بعد ذلك من معرفة مدى امتلاك القانون الفرع لذات المصادر ، حيث ان تحقق ذلك يؤدي إلى تمكيننا من استخلاص نتيجتين مهمتين فيما يتعلق بالتعريف بالقانون الدولي لحقوق الانسان ، الاولى تتعلق بصحة اعتبار قواعده كقواعد قانونية والثانية تتعلق بصحة اعتبار مجموعة قواعده قانونا قائما بذاته وفرعا من فروع القانون الدولي العام .
وللتعرف على مصادر القانون الدولي العام فان خير ما يستعان به لهذا الغرض هو النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية باعتبارها الجهة القضائية التي تحتاج إلى البحث في مصادر هذا القانون في سبيل اعتماد الذي ينطبق منها على النزاع المعروض أمامها ، ويفيد هذا النظام الذي يمثل البيان المرجعي المقبول لتحديد تلك المصادر في مادته ( 38 ) والتي تتضمن كون ان المحكمة تمارس وظيفتها في الفصل في المنازعات الدولية المعروضة عليها بتطبيق المعاهدات الدولية ، العرف الدولي ، المبادئ العامة للقانون والمعترف بها من قبل الامم المتحضرة .
واذا علمنا مصادر القانون الدولي العام بحسب تحديد النظام الاساسي لمحكمة العدل الدولية ، نتساءل عن مصادر القانون الدولي لحقوق الانسان وهل هي ذات المصادر اعلاه ؟
قبل التطرق إلى مصادر القانون الدولي لحقوق الانسان قد يكون من المفيد ذكره انه لكون النظام القانوني الدولي نظاما غير مركزي ولا يوجد فيه سلطة تشريعية بالمعنى المعروف لدور هذه السلطة فان اغلب قواعد القانون الدولي العام قد نشات اما عن طريق الاتفاق او انها تظهر من خلال عملية التفاعل والتعامل بين الدول ( [96]).
وتتحدد مصادر القانون الدولي لحقوق الانسان فيما يأتي:
1. المعاهدات :
تعرف المعاهدة بانها اتفاق بين شخصين او اكثر من اشخاص القانون الدولي العام يهدف إلى احداث اثار قانونية معينة ( [97]) وقد اعطيت عدة مرادفات لتعبير ( معاهدة ) مثل اتفاقية او ميثاق او بروتوكول او عهد او نظام وقد حاول الكثير من الفقهاء التفرقة بين هذه المصطلحات الا انه وفي جميع الاحوال فان المعنى الاهم لها لا يخرج من إطار التعريف أعلاه ( [98]) .
وتمتاز المعاهدات بشكل عام بانها تعد الصيغة الاكثر تناسبا مع العلاقات الدولية التي تمتاز بتطورها وشدة تعقيدها ، حيث انها تأتي بقانون غير جامد وقابل للتطور وفي نفس الوقت محدد وغير مرن كالعرف كما انها الصيغة التي تتناسب مع قيام المجتمع الدولي الحديث على قاعدة السيادة وعدم قبول الخضوع لسلطة اعلى وقواعد لا تأتي عن إرادة الدول الصريحة . واذا كانت هذه الأوصاف تنطبق على المعاهدات ولها فائدة بشكل عام ، فان ذلك يبدو اكثر اهمية ويعطي فائدة اكبر لقواعد القانون الدولي الخاصة بحقوق الانسان حيث ان هذه القواعد كانت ولاتزال تعاني إلى حد ما من التشكيك في مدى الزاميتها ، لذلك كانت تحتاج إلى مصدر يزيل عنها احتمالات التشكيك ويعطيها قوة ودفع نحو التفعيل ، ويكون ذلك من خلال ادراجها ضمن المعاهدات الدولية ( [99]) لذلك نلاحظ انه على الرغم من ان قواعد القانون الدولي لحقوق الانسان تمثل في الوقت الحاضر تعبيراً عن ارادة المنظمات الدولية وتصدر في صيغ التصرفات لهذه المنظمات من قرارات وتوصيات واعلانات واتفاقيات الا ان هذه المنظمات تعمد لتأكيد القوة الملزمة للقواعد التي تتضمنها تصرفاتها سابقة الذكر والمشكوك في مدى الزاميتها ، إلى اللجوء إلى صيغة المعاهدات والاتفاقيات . وهذه الصيغة لا تتوقف عند مجرد اصدار التصرف او القرار بل انها تحتاج إلى عمل اخر تقوم به الدولة لتؤكد التزامها بالاتفاق وتحيله إلى التطبيق فعلا في الدائرة الدولية والدائرة الداخلية على السواء ( [100]) .
وبناءً على ما تقدم نجد ان هناك ارادة للمنظمات الدولية ملحقة بإرادتها في التوجيه نحو إعمال حقوق الانسان عن طريق الاعلانات والتوصيات والقرارات غير الملزمة الا وهي ارادة المنظمة لتحويل اثار هذه الاعلانات او التوصيات او القرارات إلى ما يضمن بصيغ قانونية الإعمال لما تحتويه ، لذلك نجد ان المنظمات الدولية كالامم المتحدة مثلا تحاول الضغط على ارادة الدول للانتقال بحقوق الانسان من مجرد التوصية مثلا لإيصالها إلى مرحلة الالزام بموجب اتفاقية ، ونستطيع تتبع مثل هذا القول من خلال تتبع تطور محتوى الكثير من وثائق حقوق الانسان والتي كان الامر في بدايته مجرد توصية من الجمعية العامة مثلا واذا بالحال يتطور إلى ان يصل إلى درجة الاتفاقية ، والمثال الواضح على ذلك الاعلان العالمي لحقوق الانسان والذي صدر عام 1948 على شكل توصية ثم تطور مضمونه إلى مشروعين لاتفاقيتين تم اقرارهما عام 1966 لتفعيل أحكامه وإضفاء صفة الإلزام عليه ويتكون القانون الدولي الاتفاقي لحقوق الانسان من مجموعة كبيرة من الاتفاقيات في مجال حقوق الانسان يتصف البعض منها بصفة العالمية وذلك اذا كانت الاتفاقية ذات نطاق عالمي وتضم غالبية دول العالم ، وتتصف بعضها بالعمومية وذلك اذا كانت ذات اتجاه عام في مجال حقوق الانسان وتضم او تنظم مجموعة من الحقوق الانسانية وقد تكون هذه الاتفاقيات خاصة برعاية افراد معينين يحتاجون إلى رعاية خاصة كالاطفال او النساء او المعوقين او قد تكون خاصة بحقوق انسانية او حق معين يحتاج إلى اهتمام وعناية خاصة وياتي في مقدمة هذه الاتفاقيات من حيث الاهمية ميثاق الامم المتحدة الصادر عام 1945 والعهدين الدوليين لحقوق الانسان المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية اذ تعتبر هذه الاتفاقيات من اهم الاتفاقيات الدولية العالمية وذات الاهمية البالغة في تكوين القانون الدولي لحقوق الإنسان كما علمنا عند تناولنا ذلك عند الكلام عن تطور القانون الدولي لحقوق الإنسان في المطلب السابق، كما ان هناك مجموعة من الاتفاقيات الإقليمية ذات الأهمية الكبيرة ، مثل الاتفاقيات الأوربية والأمريكية والأفريقية والتي لها دور كبير أيضاً في تكوين القانون الدولي لحقوق الانسان( [101]).
ومن الاتفاقيات الدولية الخاصة بحماية فئات معينة من بني البشر ، الاتفاقية الدولية الخاصة بجنسية المرأة المتزوجة لعام 1957 ، واتفاقية القضاء على جميع اشكال التمييز ضد المرأة لعام 1967 ، واتفاقية خفض حالات انعدام الجنسية لعام 1961 ، والاتفاقية الخاصة باللاجئين لعام 1951 وغيرها من الاتفاقيات لرعاية الأطفال والمتخلفين عقليا وكبار السن .
وإلى جانب الاتفاقيات السابقة وجدت العديد من الاتفاقيات الدولية المتخصصة بصيانة وضمان إعمال حقوق معينة بالذات وتخصيص آليات لحمايتها ، ومثال ذلك الاتفاقية الدولية للقضاء على كافة أشكال التمييز العنصري لعام 1965 والاتفاقية الخاصة بمنع الرق لعام 1926 ، واتفاقية منع السخرة لعام 1957 وغيرها من الاتفاقيات الدولية التي تعنى بحقوق معينة من حقوق الإنسان .
2. العرف :
يعد العرف المصدر الرسمي الثاني من مصادر القانون الدولي العام ، وعلى الرغم من مزايا الاتفاقيات الدولية كمصدر للقانون الدولي ، الا ان العرف تبقى له الأهمية الكبيرة لتنظيم العلاقات الدولية ، وان الكثير من الفقهاء يرون ان للعرف اهمية على صعيد العلاقات الدولية تفوق أهمية الاتفاقيات وذلك نظرا إلى كونه ينظم العلاقات في مجتمع غير منظم بشكل تام إلى الان ، الا وهو المجتمع الدولي ، وتاتي اهمية العرف الدولي من ناحيتين الأولى لكونه أوجد معظم قواعد القانون الدولي العام والثانية لكونه يتفوق على المعاهدات بكون قواعده عامة وشاملة ، أي انها ملزمة لجميع الدول في حين ان القوة الالزامية في المعاهدات تقتصر على الدول المتعاقدة ويتكون العرف باطراد الدول على اتباع قواعد معينة في سلوكهم دون ان تكون ملزمة ، وبمرور الزمن والاستمرار في اتباع هذه القواعد يتولد شعور لدى الدول بالزاميتها وترتيب جزاء على مخالفتها وقد كان ولا يزال للعرف اهمية ودور كبير في ايجاد وتطبيق القانون سواء داخلياً او دولياً ( [102]) .
واذا كانت هذه الاهمية للعرف واضحة كمصدر مهم للقانون بشكل عام فانها قد تكون اكبر بالنسبة إلى حقوق الانسان سواء على الصعيد الداخلي او الدولي ، فإن من المعروف وكما تناولنا فيما تقدم انه قد كانت هناك اهمية ودور كبير للعرف في تكوين قواعد حقوق الانسان على الصعيد الداخلي وان اغلب قواعد هذا القانون فيما يتعلق بحقوق الانسان كانت في بداية الامر عبارة عن اعراف ، كما قد علمنا مما تقدم ان قواعد حقوق الانسان عندما انتقلت من النطاق الداخلي إلى النطاق الدولي كانت قد دخلت القانون الاخير على شكل قواعد دولية عرفية تطور الامر بها بعد ذلك واصبحت بأشكال وصيغ دولية اخرى .
ويعد العرف من ناحية اخرى المصدر الأكثر ملاءمة من مصادر القانون الدولي لتلبية متطلبات تكوين قانون دولي لحقوق الإنسان حيث انه من المعروف ان مبادئ حقوق الانسان تكونت بجهود ونضال واسهام كبير للبشرية كلها على اختلاف الامم والحضارات كما ان هذه المبادئ نابعة من اصول يرجع الكثير منها إلى تعاليم الاديان وقواعد الاخلاق العامة إذ ان العرف هو الوسيلة الفعالة التي تتيح لهكذا قانون ان يتكون ويتطور ويواكب كل الحاجات البشرية على اختلاف الاماكن والعصور ويضاف إلى ما تقدم ان اهمية العرف لحقوق الإنسان يكمن في كون انه اذا اصبحت قاعدة معينة من قواعد حقوق الانسان جزءا من قانون العرف الدولي، فان ذلك يعني انها سوف تكون ملزمة لجميع الدول الاعضاء في الاسرة الدولية عكس الحال فيما يتعلق باتفاقيات محدودة من اتفاقيات حقوق الانسان حيث انها لا تسري الا على الدول الاطراف فيها .
ومنذ انتقال قواعد حقوق الانسان من الصعيد الداخلي إلى الصعيد الدولي برزت العديد من القواعد العرفية لحقوق الانسان والتي كون مجموعها القانون الدولي العرفي لحقوق الانسان ، ومثال ذلك القواعد التي تحكم سلوك المحاربين والقواعد التي تحمي ضحايا الحرب وعادات الفرسان ( [103]) ونظرية التدخل الانساني والمساعدة الانسانية والحد الادنى في معاملة الاجانب ويضاف إلى ذلك العديد من القواعد التي ظهرت من خلال جهود المنظمات الدولية وخاصة الامم المتحدة وذلك من خلال نشاطاتها الانسانية.
وهناك رأي يذهب إلى ان الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي جاءت به الامم المتحدة عام 1948 اذا لم يكن يحضى بالقوة الالزامية للمعاهدات فان قبوله وعدم معارضته من قبل الدول سواء الاعضاء او غير الاعضاء في الامم المتحدة قد كون مجموعة من القواعد العرفية التي كان لها دور كبير في إعمال حقوق الانسان على الصعيد الدولي. ( [104])
3. المبادئ العامة للقانون :
يقصد بالمبادئ العامة للقانون ، تلك المبادئ الاساسية التي تقرها وتستند اليها الانظمة القانونية الداخلية في مختلف الدول المتمدنة ، وتضم هذه المبادئ مجموعة من القواعد الاساسية التي تشترك في احترامها واقرارها اغلب الانظمة القانونية المعروفة كالنظام الاسلامي والانجلوسكسوني واللاتيني والجرماني حيث تشترك كل هذه الانظمة في الاخذ بمبادئ معينة مثل العقد شريعة المتعاقدين ومبدأ احترام الحقوق المكتسبة ومبدأ عدم مشروعية التعسف في استعمال الحق ومبدأ المسؤولية التقصيرية والتعاقدية وغير ذلك من المبادئ المعروفة ، ولهذه المبادئ بشكل عام صيغة عامة قائمة على اساس مراعاة العدالة والانصاف والمساواة وعلى اساس هذه الصيغة المقبولة بشكل عام فان تطبيق هذه المبادئ لا يقتصر على الصعيد الداخلي فحسب بل انه يتعدى حدود العلاقات الفردية إلى نطاق العلاقات الدولية ، وانه اذا لم يكن بين الدول علاقة قائمة على قاعدة اتفاقية او عرفية فانه يجوز لهذه الدول ان تلجا إلى هذه المبادئ لتنظيم العلاقات فيما بينها وتستوحي منها الحلول للخلافات الناشئة بينها أي انه اذا كان الاصل لهذه المبادئ ان تطبق على الصعيد الداخلي فانه يجوز اللجوء اليها وتطبيقها على الصعيد الدولي عند وجود الحاجة إلى ذلك لسد النقص في القواعد الدولية العرفية او الاتفاقية ( [105]) . وقد اقر النظام الاساسي لمحكمة العدل الدولية ذلك في المادة ( 38 ) منه.
وإذا كانت هذه المبادئ تضم خير القواعد القانونية لتنظيم العلاقات بين الافراد من حيث تحقيق غايات العدالة والانصاف والمساواة على اختلاف الاماكن والعصور وانها كانت ايضا خير قواعد لحل النزاعات بين الدول من حيث تحقيق ذات الغايات ، واذا كان اللجوء إلى هذه المبادئ على النطاق الدولي يكون جائزا في حالات معينة كما علمنا ، فان في هذا اللجوء ايجابية في كل الاحوال فيما يتعلق بحقوق الانسان حيث ان هذه المبادئ مرتبطة في اصلها وفلسفتها بحقوق الانسان وان عودة تطبيقها على هذا الانسان وان كان بوسائل دولية لا يعد الا بمثابة تطبيق القاعدة المناسبة والمفعلة لحقوق الانسان في اصلها على موضوعها الاصلي الا وهو الانسان .
ويظهر من التعداد السابق للمصادر الاساسية للقانون الدولي لحقوق الانسان والتي تتطابق مع تعداد المصادر الاساسية للقانون الدولي العام والتي جاء بها النظام الاساسي لمحكمة العدل الدولية ان القانون الدولي لحقوق الانسان يمكن اعتباره فرعا مستقلا من فروع القانون الدولي العام له خصوصيته وطبيعته المرتبطة بموضوعاته ومحوره الا وهو الانسان ، وله مصادره الخاصة وذات الخصوصية المرتبطة بطبيعته والمستقلة عن بقية مصادر القانون الدولي العام ، الا انه وعلى الرغم مما تقدم فان هناك من يذهب إلى وجود علاقة قوية او تداخل بين القانون الدولي لحقوق الانسان وقانون اخر ذي طبيعة دولية وخصوصية قريبة من القانون موضوع البحث الا وهو ما يعرف بالقانون الدولي الانساني . فما علاقة القانون الدولي لحقوق الانسان بالقانون الدولي الانساني وما مدى التداخل والتقارب بينهما وهل انهما يشكلان قانونا واحدا ام انهما فرعان مستقلان من فروع القانون الدولي العام ؟
وسوف نحاول الاجابة عن هذه التساؤلات في المطلب القادم .
القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني :
علمنا مما تقدم ان هناك العديد من العوامل التي تدفع إلى الاعتراف بذاتية خاصة للقانون الدولي لحقوق الانسان الا انه على الرغم من ذلك نجد ان هناك عدداً كبيراً من الكتاب يذهبون إلى وجود علاقة قوية جدا لهذا القانون مع مجموعة من القواعد الدولية ذات الخصوصية القريبة من خصوصية قواعد هذا القانون ، وهي قواعد ما يعرف بالقانون الدولي الانساني ، ويصل الربط بين القانونين بالبعض إلى درجة اعتبار كل من القانونين يمثلان شيئا واحدا (قانون موحد) .
من المعروف ان للقانون الدولي لحقوق الانسان علاقة بغيره من القوانين سواء الداخلية منها او الدولية ، حاله في ذلك حال أي قانون ( [106]) ولكن هذه العلاقة مع القوانين الاخرى تتخذ بعداً أخر ذا خصوصية وتداخل إلى حد تولد عنه خلاف فقهي بالنسبة للقانون الدولي الانساني، ومن استعراض هذه الاتجاهات الفقهية حول ذلك نستطيع ان نتعرف على حقيقة العلاقة بين القانونين ، وسوف نعرض لذلك فيما يأتي بعد اعطاء ايجاز تعريفي بالقانون الدولي الانساني .
التعريف بالقانون الدولي الانساني ( [107]) :
يعرف القانون الدولي الانساني بانه (ذلك الفرع من فروع القانون الدولي العام الذي تطبق قواعده – العرفية والمكتوبة – في حالات النزاع المسلح والتي تهدف إلى حماية الانسان باعتباره أنساناً) ( [108]) كما يعرف بانه (ذلك الجزء من قانون حقوق الانسان الذي يطبق في النزاعات الدولية المسلحة وفي حالات معينة يطبق في النزاعات والصراعات الداخلية أيضاً)( [109]) ، أي ان المقصود بالقانون الدولي الانساني ، مجموعة القواعد الدولية الموضوعة بمقتضى معاهدات او اعراف والمخصصة بالتحديد لحل المشاكل ذات الصيغة الانسانية الناجمة بشكل مباشر عن المنازعات المسلحة الدولية او غير الدولية والتي تحّد ولاعتبارات انسانية من حق اطراف النزاع في اللجوء إلى ما يحتاجونه من اساليب او وسائل للقتال وتحمي الاشخاص والممتلكات التي تصاب بسبب النزاع ( [110]) .
ويرجع ابتكار مصطلح ( القانون الدولي الانساني ) والذي تناولنا تعاريفه فيما تقدم، إلى القانوني المعروف ( Max Huber ) والذي شغل منصب رئاسة اللجنة الدولية للصليب الاحمر سابقا ولعدة سنوات ، ولم يلبث هذا المصطلح ان ظهر حتى تم تبنيه من قبل العديد من الفقهاء ، ويكاد يكون اليوم مصطلحاً رسمياً على الصعيد الدولي( [111]).
ومن التعاريف أعلاه ومن غيرها نستطيع ان نستنتج ان القانون الدولي الانساني ، عبارة عن مجموعة من القواعد الدولية التي تستهدف حماية شيئين اساسيين الاول هو حماية شخص الانسان ، الغاية الاساسية لهذا القانون وغيره من القوانين وثانيا حماية الأعيان والممتلكات لهذا الانسان . ولكن أي انسان هو المعني بحماية هذا القانون ، واي من ممتلكات هذا الانسان هي التي يحميها هذا القانون ؟ هل ان كل الافراد مشمولون بعناية هذا القانون ، وهل ان كل الاعيان مشمولة بهذه الحماية ؟
في الحقيقة ان القانون الدولي الانساني يعنى بالانسان والاعيان في وقت الحرب ، والانسان المشمول بهذه العناية هو الانسان غير المشترك في الحرب والانسان الغير قادر على مواصلة الاشتراك في الحرب ، والمثال على الحالة الاولى المدنيون بشكل عام باستثناء الذين يشتركون في العمليات القتالية ، والمثال على الحالة الثانية الأسرى والجرحى ( [112]) أما بالنسبة إلى الأعيان والممتلكات المشمولة بالحماية او ما تعرف بالأعيان المدنية ، فهي كافة الأهداف التي لا تعتبر أهدافاً عسكرية بالمفهوم العسكري ، ويشترط بالأهداف العسكرية أن تكون لخدمة غرض عسكري وان تكون محمية عسكرياً( [113]) .
والقانون الدولي لحقوق الانسان والذي نعرفه اليوم كقانون دولي كان قد مر بعدة مراحل تطور إلى حين وصوله إلى وضعه الحالي حيث ان القانون الإنساني قديم قدم الإنسان نفسه وقد واجه القادة والمقاتلون مشكلة السلوك الإنساني باستمرار ، ومنذ ان بدا الإنسان يعرف القانون والتنظيم الاجتماعي بجميع أشكاله فان الاهتمام بموضوع سلوك المقاتلين اثناء الحرب شغل الفلاسفة والقادة والمشرعين . وقد تراوح سلوك المقاتلين منذ القدم وإلى ايامنا هذه وعلى اختلاف الحضارات بين القسوة إزاء العدو إلى ابعد حدودها والرفق بالضحايا مهما كانوا وان نظريات القانون الانساني كانت قد دخلت في النظريات الفلسفية والدينية الكبرى بصيغة افكار وقوانين شرف وقواعد للفروسية والسلوك ازاء المقاتلين والمدنيين والاعيان ( [114]) .
والقانون الدولي الانساني بعد مراحل النشاة الاولى لافكاره بدوره مر بعدة مراحل تطور على الصعيد الدولي ، ابتداء بوجود اعراف دولية تتضمن مبادئه وتطورا إلى وجود قواعد دولية اتفاقية تتضمن هذه المبادئ ( [115]) وكانت الاتفاقية الاولى قد تمت المصادقة عليها عام 1864 بعد إعدادها من قبل اللجنة الدولية للصليب الاحمر والتي تأسست عام 1863 والتي تبنت مهمة الاعداد لما يعرف بالقانون الدولي الانساني ، وعلى الرغم من أن هذه الاتفاقية كانت تمثل نقلة مهمة في مجال هذا القانون ونقطة البداية للجزء الاتفاقي المكتوب فيه ، فان هذه الاتفاقية كان يشوبها الكثير من النقص الامر الذي دفع إلى تعديلها عدة مرات في الاعوام 1906 و 1929 اذ تم اعتماد اتفاقيات جنيف لتحسين مصير ضحايا الحرب . ومن جهة اخرى فان اتفاقيات لاهاي لسنة 1899 والتي تمت مراجعتها عام 1907 جعلت مبادئ جنيف مواكبة للحرب البحرية ، وبعد الحرب العالمية الثانية ونظراً للمآسي الكبيرة التي لحقت ببني البشر من عسكريين ومدنيين من جراء تلك الحرب ، تم في عام 1949 إبرام اتفاقية جنيف الرابعة وهدفها تحديد وضع السكان المدنيين زمن الحرب ، وفضلاً عن ما تقدم فقد كان هناك ضرورة كبيرة لتحسين اوضاع الاتفاقيات السابقة فأقرت الاتفاقية الاولى المتعلقة بحماية الجرحى والمرضى العسكريين في الميدان ، والاتفاقية الثانية المتعلقة بالجرحى والمرضى والغرقى للقوات البحرية ، والاتفاقية الثالثة الخاصة باسرى الحرب ولكن وبعد إبرام تلك الاتفاقيات لوحظ استمرار الماسي الانسانية بسبب الحروب التي نشبت بعد عام 1949 لذلك تم البحث عن حلول جديدة لتفادي هذه الماسي وتمخض عن ذلك ايجاد البروتوكولين ( الاول والثاني ) لعام 1977 ، كإضافة لاتفاقيات جنيف لعام 1949 ، حيث جاء البروتوكول الاول كتدعيم للمبادئ الانسانية التي جاءت بها اتفاقيات جنيف وخاصة للمفقودين والجرحى والمرضى . اما الثاني فقد حدد ودعم الحماية الدولية لضحايا النزاعات غير الدولية .
ومنذ نشأة القانون الدولي الانساني وإلى اليوم نلاحظ ان اللجنة الدولية للصليب الاحمر كانت ولا تزال تلعب الدور الأساسي في الإعداد لهذا القانون فضلاً عن دورها في تفعيل مبادئ هذا القانون ( [116]) حيث ان جهودها هي التي أفضت إلى إبرام الاتفاقية الاولى النواة لهذا القانون وبقية الاتفاقيات وهي مستمرة في هذا العمل لتطوير هذا القانون الذي اخذ يتطور ويكتسب اهمية كبيرة في نطاق العلاقات الدولية بشكل عام وفي الجانب الانساني منها بشكل خاص ( [117]).
العلاقة بين القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني :
تتمحور العلاقة بين القانون الدولي لحقوق الانسان والقانون الدولي الانساني في العديد من نقاط الالتقاء والاختلاف وهذه النقاط هي التي افضت إلى انقسام الاراء حول هذه العلاقة إلى من يرى ان القانونين يمثلان قانونين مستقلين احدهما عن الاخر وان كان هناك علاقة كبيرة بين القانونين من حيث الهدف والغاية ، ومن حيث الاصول الفلسفية والتاريخية لنشأتهما وغير ذلك من خيوط العلاقة التي تعني بالنهاية انها وان كانا قانونين مستقلين احدهما عن الاخر الا انهما يكمل احدهما الاخر في سبيل الوصول إلى ذات الغاية المنشودة من وجودهما ( [118]).
اما من يذهب إلى كون القانون الدولي لحقوق الانسان هو جزء من القانون الدولي الانساني ، فانه يستند إلى كون القانون الاخير اقدم في الوجود من القانون الاول وان مرحلة التطور التي قد وصل اليها على الصعيد الدولي هي اكثر تقدما من الاول ويرى بان القانون الدولي الانساني يتكون من قانون الحرب وقانون حقوق الانسان ( [119]).
اما من يذهب إلى كون القانون الدولي لحقوق الانسان يحتوي في حقيقته القانون الدولي الانساني ، فانه يستند على كون القانون الاول اعم من حيث الافكار الفلسفية واشمل من حيث نطاق التطبيق حيث يشمل تطبيقه كل بني البشر سواء كانوا مدنيين ام عسكريين وسواء كان ذلك وقت الحرب او في وقت السلم( [120]).
وللتعرف على حقيقة العلاقة بين هذين القانونين وترجيح احد الاتجاهات سابقة الذكر . لابد من استعراض اهم نقاط الالتقاء والاختلاف بين القانونين .
يلتقي القانون الدولي لحقوق الانسان مع القانون الدولي الانساني في العديد من نقاط الالتقاء والتي ياتي على راسها كون ان الهدف الاساسي لكل من القانونين يتمثل في حماية الانسان ، أي ان الشعور بالمسؤولية تجاه هذا الانسان لكونه إنساناً وليس لاي غرض اخر هو الذي دفع إلى وجود كل من القانونين ، اما من حيث نطاق وجود وعمل كل من القانونين فهو نطاق وحيز مشترك حيث يوجد كل من القانونين ويفعلان في نطاق دولي ، أي أن كلاً من القانونين يشتركان في الاتصاف بكونهما قانونين لهما طبيعة دولية ، ولكنهما يسعيان لحماية الانسان من هذا النطاق الدولي . وان اتصاف القانون بهذه الصيغة يتولد عنه بشكل عام اتصافهما بذات الصفات الايجابية والسلبية التي يتصف بها القانون الدولي العام . ومن ناحية القبول والجانب المعنوي لقواعد القانونين نجد أن كلاً من القانونين يحضى بقبول من قبل الضمير الانساني وقد لا يجرؤ أحد على رفض مبادئ القانونين او بأقل تقدير الإفصاح عن ذلك ، حيث ان مبادئ القانونين يشتركان في اتصافهما بكونهما نابعين من الضمير الإنساني ومن اعتبارات العدالة والإنصاف والاخلاق والتي تم تعزيزها بشكل كبير عند تناولها بموجب شرائع الاديان السماوية .
وعلى الرغم من نقاط الالتقاء الأساسية بين القانونين الا انه ووفقاً لاعتبارات قانونية وعملية نجد ان هناك نقاط اختلاف عديدة قائمة بين القانونين وتتمثل هذه النقاط في كون ان هناك اختلافاً في العلاقة التي يتم تنظيمها ، حيث ان القانون الدولي لحقوق الانسان ينظم العلاقة القائمة بين الدولة ورعاياها في حين ان القانون الدولي الانساني ينظم العلاقة بين الدول والافراد من رعايا دولة العدو . ومن ناحية اخرى فان سريان القانونين يختلفان من حيث ان القانون الدولي لحقوق الانسان يسري وقت السلم في حين ان القانون الاخر يسري وقت الحرب او النزاعات المسلحة لذلك نجد ان هناك من يقسم حقوق الانسان على اساس السريان الزماني وذلك على اساس وجود حقوق انسان تطبق وقت السلم واخرى تطبق وقت الحرب ( [121]) واضافة إلى ما تقدم نجد ان التعامل الدولي سواء الفقهي او الرسمي جرى على ان يميز بين كل من القانونين وقد كان ذلك نابعا من استقلالية احدهما عن الاخر من حيث مصدر القواعد ، حيث نجد ان المصدر الاساسي لقواعد القانون الدولي الانساني تمثل في اتفاقيات جنيف لعام 1949 في حين نجد ان مصادر القانون الاخر تمثلت في تلك الاتفاقيات التي ابرمت في اطار الامم المتحدة واخرى في النطاق الدولي الإقليمي واضافة إلى ذلك نجد ان التمييز بين القانونين يظهر من ناحية الجهة الداعمة للقانون والمشرفة على تطبيقه ، حيث نجد ان الامم المتحدة كانت وما زالت تلعب الدور الاساسي في ايجاد القانون الدولي لحقوق الانسان ، في حين ان اللجنة الدولية للصليب الاحمر هي المنظمة الدولية التي اسهمت وتسهم في اعداد القانون الدولي الانساني وتشرف على تطبيقه . نستنتج مما تقدم ان هناك العديد من نقاط الالتقاء والاختلاف بين كل من القانونين ، الامر الذي يعني ان هناك علاقة قائمة بين قانونين مستقلين متداخلين احدهما مع الاخر في العديد من الجوانب ضمن اطار وحدة الهدف والغاية وطبيعة القواعد واليات التطبيق وما يترتب على هذا الاستنتاج ان هناك قانونين بدا كل منهما بالظهور في وقت معين فالقانون الدولي الإنساني اقدم من حيث الظهور على الصعيد الدولي سواء فيما يتعلق بتلك الاعراف الاولى التي ظهر بها او بظهوره الواضح بعد ابرام اتفاقيات جنيف الاولى وان قدم القانون الدولي الانساني ليس قدما على صعيد القوانين الدولية التي تعنى بالانسان لا بل ان هذا القانون قديم على صعيد القوانين الدولية بشكل عام حيث تعد قواعده من بين اقدم القواعد الدولية ( [122]) اما القانون الدولي لحقوق الانسان فهو قانون حديث نسبيا ظهرت بوادره الاولى بعد تأسيس الامم المتحدة ولكن بظهور القانون الدولي لحقوق الانسان وان كان حديثا نسبيا وتشويه الكثير من مشاكل التطبيق فان نظرة معمقة إلى هذا القانون تدلنا على انه وبحسب طبيعته وما جاء به من مبادئ عامة لكل بني البشر على اختلاف الزمان والمكان فهو قانون قابل لان يكون القانون الاساس او الاصل او الاشمل لكل القواعد الدولية التي تهم الانسان ووجدت لخدمته بشكل مباشر وتتبين صحة هذا الافتراض ابتداءً من الصلة التاريخية القائمة بين القانونين ووصولا إلى التطورات الحاصلة في كل من القانونين إلى ايامنا هذه . حيث ان كل من القانونين مأخوذ من ذات المنبع والأصول الفكرية والفلسفية التي تهدف إلى حماية الانسان والإعلاء من شأنه وضمان تمتعه بحقوقه . اما من حيث التطور فان ثمة كثيراً من نقاط التطور التي حصلت على الصعيد الدولي والتي تعكس تنامي العلاقة بين القانونين إلى حد التداخل وصيرورة احدهما جزءا في الاخر ، ومن اهم هذه النقاط ان هناك العديد من الاتفاقيات الدولية التي تعد من مصادر القانون الدولي لحقوق الانسان تنص على الإحالة إلى القانون الدولي الانساني وذلك فيما يخص بعض النصوص الواردة في الاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان والخاصة بامكانية التنصل من بنود الاتفاقية في حالات الطوارئ التي غالبا ما تعلن عند حدوث النزاعات المسلحة سواء الدولية او الداخلية ، ومن هذه النصوص نص المادة (15) من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان والمادة (27) من الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان ، والتي تتضمن انه عند إعلان حالة الطوارئ يجوز للدولة التنصل عن تطبيق احكام الاتفاقية ولكن ذلك وفي أي حال يجب ان لا يخالف باقي الالتزامات الدولية الانسانية المتعلقة بمثل هذه الحالات ومن المعروف ان اهم هذه الالتزامات في وقت النزاعات المسلحة تلك الالتزامات التي يفرضها القانون الدولي الانساني ( [123]).
اما على صعيد العمل الدولي فنجد وفي العديد من المناسبات اشارات صريحة او ضمنية للتداخل بين القانونين والسير إلى اعتبارها قانونا واحدا ومن ذلك عندما اعلن المؤتمر الدولي لحقوق الانسان المنعقد في طهران عام 1968 ( ان السلم هو الشرط الاول لاحترام حقوق الانسان احتراما كاملا ، وان الحرب تعد انكارا لهذه الحقوق ) كما اكد صراحة على ان ( المبادئ الانسانية يجب ان ترجح وتكون لها الغلبة حتى في فترة النزاع المسلح ) ( [124]) وبذلك اشارة واضحة إلى ان قواعد القانون الدولي لحقوق الانسان يراد لها ان تمتد في تطبيقها إلى فترة الحرب والنزاعات المسلحة إلى جانب سريانها في فترة السلم . واستمر العمل الدولي في هذا الاتجاه وذلك بقيام الامم المتحدة بالاهتمام بحقوق الانسان في وقت الحرب والنزاعات المسلحة بشكل عام في حين انها كانت في البداية تعنى بحقوق الانسان في زمن السلم فحسب واتضح ذلك في العديد من التقارير السنوية للامين العام وبيانات الجمعية العامة وقراراتها اضافة إلى قرارات مجلس الامن، وعلى سبيل المثال قرار الجمعية العامة ذي الرقم (2444) لعام 1968 والذي اكد فيه على احترام حقوق الانسان في وقت النزاعات المسلحة وكذلك التقرير السنوي للامين العام للامم المتحدة لعام 1968 وبالنسبة لقرارات مجلس الامن فقد تضمنت سلسلة القرارات التي اصدرها هذا المجلس عام 1992 بشان النزاع في يوغسلافيا الكثير من النصوص بشان احترام حقوق الانسان في النزاعات المسلحة . وجانب اخر للعمل الدولي في مجال حقوق الانسان يفيد بالتداخل بين القانونين والاتجاه نحو تعميم القانون الدولي لحقوق الانسان في زمن الحرب والسلم ، وقد اتضح ذلك في نصوص اتفاقية اوتاوا لسنة 1997 والتي تضم إلى سلسلة اتفاقيات حقوق الانسان والتي اختصت بحظر استعمال الألغام المضادة للاشخاص وتخزينها وانتاجها ونقلها وتدميرها ، حيث ان هذه الاتفاقية استندت في مبادئها ونصوصها على القواعد العرفية في القانون الدولي الانساني والتي تحرم استخدام الاسلحة التي لا تميز بطبيعتها بين المدنيين والمقاتلين والتي تسبب معاناة لا مبرر لها وانتهاكا للحقوق الانسانية في الحياة والسلامة والامان( [125]).
وخلاصة القول انه يمكن ان نعتبر ان القانون الدولي لحقوق الانسان بمثابة القانون العام او الاصل للقواعد الدولية التي تحمي الانسان وان القانون الدولي الانساني هو فرع منه ، وهو ذلك الفرع الذي يحمي حقوق الانسان في زمن النزاعات المسلحة ، وهو القانون الذي يحتوي على التفاصيل الخاصة بهذه الحماية في حين ان القانون الاصل لم ينص الا على المبادئ العامة ، وان الواقع العملي للمجتمع الدولي المنظم ينسجم مع هذا القول من حيث المنظمة الدولية الراعية للقانون الاصل الا وهي الامم المتحدة ، وهي المنظمة الاكبر والاهم والاعم والتي تتفق طبيعتها واختصاصاتها وامكاناتها مع ما يحتاج اليه الانسان من حماية تتفق مع طبيعة حقوقه كانسان ، حيث انها حقوق لكل البشر بدون تمييز وفي جميع الاوقات حيث ان هذه الحقوق واحدة وبخاصة الاساسية منها سواء في وقت السلم او الحرب وفي كل بقاع العالم . واذا كان هناك تشكيك فيما تقدم وذلك على اعتبار ان القانون الدولي الانساني لايزال يمارس على انه قانون مستقل فان هذا الامر قد يكون مقصودا نظراً إلى عدم تبلور قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان كقانون عام ووصولاً إلى حد من الالزامية والنجاح في التطبيق على العكس من الكثير من قواعد القانون الدولي الإنساني . وهذا يعني انه لو تم اعتبار القانونين في ذات المكانة اليوم فان هذا يعني التراجع في المستوى المتحقق في القانون الدولي الانساني من المستوى المتقدم الذي هو فيه إلى المستوى غير المرضي الذي عليه القانون الدولي لحقوق الإنسان حالياً . لذلك يقتضي الامر حاليا الانتظار كما كان عليه الحال في الفترة الاولى لكل الاتفاقيات الدولية الانسانية .
يعد تعبير حقوق الانسان من التعابير او المصطلحات التي قد تبدو مألوفة للمتلقي ، وذلك لارتباطها به كانسان ومن ناحية اخرى لكون تعبير ( حقوق ) يعد ايضا من الامور غير البعيدة عنه لارتباطها بمصيره وحياته ومستقبله ، بحيث ان هذا المصطلح لدى البعض قد يعد من الامور المعروفة جداً له ، وهذا القول قد يصبح لدى الاغلبية ايضا ، حيث ان هذا المصطلح بات من المصطلحات شائعة الاستعمال والمعروفة من الناحية السطحية للجميع كمعرفتهم بالسماء والارض حيث ان معرفتهم بها تعد من الامور يسيرة المعرفة ولكن التعمق في السؤال عن السماء او الارض قد يؤدي إلى ان نجد ان هناك قلة فقط تسطيع الاجابة عن هذه التساؤلات ، وان التعمق اكثر من ذلك قد يصل بنا إلى ان نجد ان عدداً قليلاً جدا يعرف ما موجود في كل من السماء والارض وإلى ابعاد عالية في السماء وإلى اعماق بعيدة في الارض . وهذا الوصف يصح إلى حد ما ان نطلقه بصدد حقوق الانسان ، حيث ان تعبير حقوق الانسان يعد شائعا ويسيرا على الكثيرين معرفة ما يقصد به ولكن التعمق في هذا الموضوع قد يؤدي إلى ان نجد ان عدداً قليلاً فقط هم الذين لديهم دراية في تفاصيل واعماق هذا الموضوع . واذا كان الامر كذلك فيما يتعلق بتعبير ( حقوق الانسان ) بشكل عام فان الامر قد يتعقد اكثر عندما نكون امام قانون يوصف بانه قانون لحقوق الانسان وقد يصعب الامر اكثر ويتعقد عندما نكون امام قانون دولي لهذه الحقوق ، حيث ان القانون الدولي بحد ذاته قد يكون من الامور البعيدة عن أذهان الكافة فكيف اذا كنا امام قانون دولي لحقوق الانسان.
فما هو القانون الدولي لحقوق الانسان ؟ كيف نشا وتطور وما وضعه الحالي ؟ وهل له ذاتية واستقلالية خاصة به ؟ وما طبيعة احكامه ومكانته وما هي مصادره كقانون ؟ للاجابة عن هذه التساؤلات سوف اقسم هذا المبحث إلى اربعة مطالب ، اتناول في الاول تعريف القانون الدولي لحقوق الانسان وفي الثاني نشأة وتطور هذا القانون وفي الثالث مصادر هذا القانون وسوف اخصص مطلب رابعاً مستقلاً لبيان العلاقة بين القانون الدولي لحقوق الانسان وقانون دولي اخر قريب منه هو القانون الدولي الانساني.
المطلب الأول
تعريف القانون الدولي لحقوق الإنسان
لم يكن مصطلح ( القانون الدولي لحقوق الإنسان ) من المصطلحات المعروفة في التداول على صعيد القانون الدولي العام التقليدي ، وحتى في ظل القانون الدولي المعاصر ، لم يكن هذا المصطلح من المصطلحات التي عرفت منذ زمن بعيد حيث انه يعد من المصطلحات الحديثة نسبياً على صعيد هذا القانون ، اذ لم يعرف تداول لهذا المصطلح على المستوى الفقهي الا في بداية السبعينات من القرن الماضي ( [77]) على الرغم من وجود بدايات للتداول حول ما يتعلق به في فترة سابقة على السبعينيات وهي الفترة التي اعقبت الحرب العالمية الثانية .
وحتى في فترة السبعينات لم يكن هذا المصطلح يستخدم بشكل واضح ومميز وثابت ، بل انه كان مغطى بالكثير من الضبابية وعدم الإجماع حول وجوده او صحة وجوده اصلا ، ومن ناحية اخرى كان كثيرا ما يستعاض عنه او يختلط بمصطلحات اخرى شبيهة به او قريبة منه من حيث الاختصاص والهدف والغاية البعيدة ومثال ذلك استخدام مصطلح ( القانون الدولي الانساني ) او مصطلح ( قانون حقوق الانسان في السلم )( [78]).
ويبدو ان السبب في حدوث هذا الخلط وعدم الوضوح يرجع إلى حداثة ظهور هذا القانون على صعيد القانون الدولي من جهة ، ومن جهة اخرى اشمل لحداثة مفاهيم حقوق الانسان على الصعيد الدولي بشكل عام .
أما السبب في الخلط بينه وبين مصطلحات اخرى والتي هناك اليوم تمايز بينها وبينه ، فقد يرجع إلى حداثة كل هذه المصطلحات على الصعيد الدولي في حينها وعدم وضوحها بشكل يؤدي فيه التقارب بينها من حيث الهدف او الغاية الا وهو الانسان وحقوقه ، إلى الخلط وكذلك فان التقارب في اليات التطبيق بين هذه القوانين يقود ايضا إلى الخلط فيما بينها .
وإذا كان هناك ثمة إشكالية وعدم وضوح فيما يتعلق بمصطلح القانون الدولي لحقوق الإنسان فان هناك إشكالية أخرى تتعلق بتعريف هذا القانون حيث نجد ان هناك قلة في التعريف الفقهي لهذا القانون ، إذ أن حتى الفقهاء والكتاب الذين تعرضوا لهذا القانون او تناولوه فان الكثير منهم لم يحاول وضع تعريف دقيق لهذا القانون .
ومن التعاريف الفقهية لهذا القانون تعريف الأستاذ ( Jean Pictit ) والذي عرفه بانه ذلك الجزء الخاص من القانون الدولي والذي شكله الإحساس بالإنسانية والذي يستهدف حماية الفرد الإنساني ، وكذلك تعريف ( سن لارج ) والذي يعرفه بانه ( ذلك القانون الذي يتكون من مجموعة القواعد القانونية الدولية المكتوبة او العرفية التي تؤكد احترام الإنسان الفرد وازدهاره .
نستنتج من هذين التعريفين انهما يركزان على كون موضوع التعريف قانوناً وان قواعده لها خصوصية مميزة وذلك لكونها تُعنى بحقوق الإنسان وهذا ما يميزه عن بقية القواعد الدولية التي تعنى بالأساس بالدول او المنظمات الدولية . اذ يعد موضوع حقوق الإنسان من الموضوعات ذات الخصوصية حتى على الصعيد الداخلي فكيف يكون الحال اذا كان على الصعيد الدولي ، حيث إننا سوف نكون بصدد قواعد ذات طبيعة تؤدي إلى نشاتها وتطورها وإعمالها على صعيد دولي ولكن محورها ومحلها وهدفها هو شخص موجود على الأغلب ضمن إطار القانون الداخلي .
وبعد ان علمنا ان القانون الدولي لحقوق الانسان هو قانون دولي ذو خصوصية نتساءل عن نشأة وتطور هذا القانون .
المطلب الثاني
نشأة القانون الدولي لحقوق الإنسان وتطوره
من المعروف ان الظهور الاول لمبادئ حقوق الانسان كان على صعيد القوانين الداخلية، إذ لم يكن الفرد في بداية الامر شخصا او موضوعا او محلا للقوانين الدولية إذ ان حقيقة الامر تفيد بان القوانين الداخلية اقدم بالظهور من القوانين الدولية. وان حاجة الانسان إلى ايجاد قواعد تصون حقوقه الانسانية قديمة قدم الانسان ، ولذلك اخذ هذا الانسان يحاول استثمار تلك القوانين في سبيل تحقيق الحماية والتطبيق لحقوقه وقد كان لآراء الفلاسفة ونضالهم فضلاً عن نضال بني البشر بشكل عام وعلى اختلاف الامم والعصور الدور الكبير في ايجاد مبادئ حقوق الانسان ضمن الاطر القانونية وتطوير ذلك وايصالها إلى نظم قانونية خاصة اسمى وتحقق صيانة اكبر لها وذلك بادخال هذه المبادئ في التنظيم الدستوري وذلك لاعطائها مكانة اسمى ضمن القوانين لضمان عدم انتهاكها . ولكن السؤال الذي يثار هو ، هل ان الانسان اكتفى بادخال مبادئ حقوق الانسان في التشريعات الداخلية وتطوير ذلك بادخالها ضمن الدساتير الوطنية ، ام انه كان مستمرا في البحث عن ضمانات اكبر لإعمال حقوقه الانسانية ؟
لم يكتفِ الانسان بما تحقق له في مراحل التطور السابقة واخذ يبحث عن ما يمكنه من الارتفاع بالمستوى السابق المتحقق ويعززه فكان توجه الانسان بعد ذلك إلى قانون جديد وذي طبيعة خاصة ومميزة عن القوانين العادية وقد تكون فيه صفات معينة تدعم ما يسعى اليه الانسان في سبيل الحصول على تفعيل افضل وضمانات اكبر لإعمال حقوقه الانسانية . فكان التوجه في مرحلة جديدة نحو القانون الدولي . والسؤال الذي يثار هنا هو لماذا قصد الانسان هذا القانون ؟ او لماذا اراد الانسان او من يسير مسيرة حقوق الانسان ويناضل من اجلها تدويل قضية تطبيق هذه الحقوق ؟
قبل الاجابة على ما تقدم قد يكون من المفيد القاء نظرة على وضع الانسان في القانون الدولي العام قبل البدء بتدويل مبادئ حقوق الانسان ومن بعد ذلك نتناول الدوافع إلى تدويل هذه المبادئ .
- وضع الفرد في ظل القانون الدولي العام :
كان الاعتقاد العالمي السائد قبل القرن العشرين هو ان الفرد لا يعد من اشخاص القانون الدولي العام ، ويرجع ذلك إلى كون بنية هذا القانون نفسه كانت إحدى العوائق الرئيسة فيما يتعلق بإمكانية اعتبار الفرد من أشخاص هذا القانون حيث ان دور هذا القانون كان يقتصر في تلك الفترة على تنظيم العلاقات بين الدول فقط ، إذ انها كانت الشخص الوحيد لهذا القانون ( [79]) واذا كان التعمق الموضوعي في القانون الدولي التقليدي يدلنا على ان الفرد على الرغم من كونه لم يكن من أشخاص هذا القانون الا انه مع ذلك كان هدفا لهذا القانون باعتباره قانوناً حاله كحال بقية القوانين التي وجدت في سبيل تحقيق هدف معين سامٍ وهو خدمة الفرد (الإنسان) الا ان اتجاهات الدول وسياساتها واتجاهات الفقهاء ونظرياتهم لم تكن تتجه بشكل عام إلى اعتبار الفرد من أشخاص القانون الدولي العام وان الفقهاء الذين كانوا يعتبرون الفرد من أشخاص هذا القانون لم يكونوا يمثلون في ذلك الوقت إلا رأي القلة( [80]).
وبموجب الاتجاهات المذكورة والتي كانت سائدة في القانون الدولي التقليدي ، فان الافراد كانوا اشخاصاً في القوانين الداخلية لدولهم ، وموضوعا للسلطة المطلقة التي كان لها كامل الحرية في اخضاعهم لسلطاتها وقوانينها دون ان يكون لأية جهة أجنبية الحق في التدخل في العلاقة القائمة بين الحكومة ( السلطة ) ورعاياها، حتى وان كانت تصرفات السلطة قائمة على أساس الخطأ او الظلم او اللا عدل . واذا كانت سلطة الدولة مطلقة على رعاياها فانها لم تكن كذلك فيما يتعلق بعلاقاتها بالأفراد الأجانب المقيمين داخل الاقليم الخاضع لها ، حيث ان الامر كان قد تطور مبكراً وأصبحت هذه العلاقة خاضعة لقواعد دولية خاصة قائمة على أساس فكرة وجود حد أدنى من الحقوق يجب ان يتمتع بها الفرد الاجنبي وعلى اساس ذلك يجب على الحكومات ان تعامل الاجانب المقيمين في اقليمها بمعاملة خاصة تختلف عن المعاملة التي تعامل بها رعاياها، بحيث تكون سلطة الدولة على الاجانب المقيمين في اقليمها سلطة مقيدة وليست مطلقة كما هو الحال بالنسبة إلى سلطتها على رعاياها .
وبمرور الزمن واستمرار عجلة التطور في القانون الدولي العام بالسير ، وبتهيئة الظروف المناسبة والحاجات الملحة وتطور مسيرة حقوق الانسان بشكل عام ، اخذت المبادئ الأساسية التي دفعت إلى تقييد سلطات الدولة فيما يتعلق بالتعامل مع الاجانب تتطور لتتحول إلى مبادئ تقضي بتقييد سلطات الدولة فيما يتعلق بتعاملها مع رعاياها ، بحيث ظهرت قواعد عرفية دولية تقضي بتقييد سلطات الدولة على رعاياها وجواز التدخل الاجنبي لضمان تطبيق مثل هذه القواعد ( [81]) ، وقد كان اول ما ظهر من هذه القواعد على شكل قواعد دولية تقضي بتوفير حماية دولية خاصة للأقليات وكانت البداية بتوفير مثل هذه الحماية للاقليات الدينية الموجودة في دولة معينة والتي يخشى ان تتعرض للاعتداء او القسوة او التعسف من قبل السلطة التي تسيطر عليها الاغلبية ( [82])، وبعد هذه التطورات اخذ وضع الفرد في القانون الدولي العام يتطور ويتحول من مرحلة اعتباره هدفاً قريباً لا بل هدفا مباشرا من اهداف هذا القانون واستمر هذا التطور إلى الحد الذي بدا الفرد يعتبر من اشخاص هذا القانون وذلك بعد ظهور قواعد دولية خاصة تخاطب الافراد بشكل مباشر وتمنحهم حقوقاً معينة او ترتب عليهم التزامات معينة ، وعلى اثر ظهور تلك القواعد ترتب وضع جديد للفرد في القانون الدولي العام يقضي بالاعتراف بكون الفرد يمكن ان يكون شخصا من اشخاص القانون الدولي العام او بحد أدنى موضوعاً من موضوعات هذا القانون وذلك لوجود قواعد قانونية تخاطبه بشكل مباشر وتمنحه حقوقاً او تفرض عليه التزامات معينة ، بدون التوسط بشخص الدولة التي ينتمي إليها او يخضع لها .
- الأسباب الدافعة إلى تدويل حقوق الإنسان :
علمنا مما تقدم ان فكرة حقوق الانسان ظهرت اول الامر على الصعيد الداخلي على شكل افكار معينة تطورت فيما بعد واصبحت مبادئ قانونية ضمن القوانين الداخلية العادية منها والدستورية ، ولكن الامر لم يتوقف عند هذا الحد بل أخذت هذه المبادئ تنتقل شيئا فشيئا من صعيد القانون الداخلي إلى صعيد القانون الدولي عندما بدأت تدخل مثل هذه المبادئ ضمن ما يعرف بالقانون الدولي العام والذي كان يعد بصيغته الاولى بعيدا عن التدخل في حماية حقوق الافراد , لكنه اخذ يتطور وياخذ على عاتقه وبشكل تدريجي التدخل في مثل هذه المسائل ولكن السؤال هنا هو ما هي الاسباب والدوافع التي أدت إلى تحقيق عملية الانتقال لمبادئ حقوق الانسان من القانون الداخلي إلى القانون الدولي ؟
يرجع هذا التطور في مسيرة حقوق الإنسان من جهة ومسيرة القانون الدولي العام من جهة أخرى إلى عدة عوامل أهمها :
1. تطور الحياة الإنسانية وازدياد الاحتكاك بين الشعوب بفضل التقدم الحاصل في مجال المواصلات والنقل والاتصالات وكذلك التطور الحاصل في مجال الحياة الاقتصادية وما يتعلق بالتبادل التجاري بين الدول وظهور منتجات اقتصادية متباينة من دولة إلى اخرى استدعت وجود علاقات تبادل وفرص عمل متباينة أدت إلى زيادة وجود العاملين خارج أوطانهم ( [83]) الامر الذي ادى إلى زيادة التقارب بين الشعوب وتعرف الشعوب بفضل احتكاكها مع غيرها على اوضاع حقوق الانسان لدى غيرها وتعرفها على مبادئ جديدة في هذا المجال اذ انه من المعلوم ان مبادئ حقوق الانسان والنظرة اليها كانت ولا تزال تختلف من شعب إلى اخر ومن حضارة إلى اخرى( [84]).
2. زيادة إعداد الأجانب المتواجدين خارج أوطانهم , وذلك بفعل التطور الحاصل في الحياة الاقتصادية وظهور مبادئ دعت إلى الانفتاح الاقتصادي او الاختلاف في مدى توفير فرص العمل من دولة إلى اخرى ، وان هذه الزيادة في عدد الاجانب الذين يعملون او يقيمون في دول لا ينتمون اليها برابطة الجنسية يعني احتمال الزيادة في الانتهاكات التي من الممكن ان يتعرض اليها هؤلاء الاجانب من قبل سلطات دولة الاقامة ، الامر الذي قد يؤدي إلى الاضرار بواقع العلاقات الدولية بين دولة الجنسية ودولة الاقامة مما قد يستدعي ان تتدخل الاسرة الدولية وتوجد أعرافاً معينة وتطورها على الصعيد الدولي في سبيل منع الاعتداء على هؤلاء الاجانب .
3. شعور الضمير العالمي بعدم كفاية نظم القانون الداخلي لحماية حقوق الانسان ، وان السبيل الافضل لضمان هذا الاحترام هو حمايتها عن طريق نظم القانون الدولي العام ، حيث انه على الرغم من اختلاف النظرة إلى حقوق الانسان من شعب إلى اخر ومن حضارة إلى اخرى الا ان الدافع إلى هذه النظرة او الهدف هو واحد الا وهو الانسان وان مشاكل الانسان من هذه الناحية هي واحدة اين ما وجد وفي أي زمان حيث ان دافعه هو التخلص او الاتقاء من انتهاك حقوقه وبما ان الدافع إلى التفكير بحقوق الانسان موحداً لدى البشرية فان الافراد اخذوا لا يفكرون بقضية حقوقهم الانسانية على صعيد اوطانهم فحسب بل انهم اخذوا يشتركون ويتضامنون مع الافراد في المجتمعات الانسانية الاخرى في سبيل توحيد الجهود والنضال لتحصيل الإعمال لحقوقهم . ولكن مهما اتحد الجهد فانه قد لا يؤتي ثماره اذا كان بعيدا عن تأطيره في اطار قانوني يضمن تحققه بصيغة تؤدي إلى استفادة كل من ناضل في سبيل هذه القضية من ثمار نضاله وجهوده فضلاً عن نضال وجهود غيره ممن سار في ذات الطريق . وخير اطار قانوني لتأطير قضية حقوق الانسان وتوحيد كافة الجهود الانسانية في هذا المجال هو قانون يمتاز بطبيعته بانه قانون يسري على مجموع الدول وبالتالي فان هذا يعني انه سوف يسري على مجموع الشعوب ويكون بمثابة المعزز والداعم لجميع النظم الداخلية التي وجدت لضمان حقوق الانسان في مختلف الدول . ويتمثل هذا القانون بالقانون الدولي العام ، وبداية انتقال مبادئ حقوق الانسان من الصعيد الداخلي إلى الصعيد الدولي كان البذر الاول للقانون الدولي لحقوق الانسان ذلك القانون الذي يقوم على فكرة وجود مجموعة من القواعد الدولية تعني بتحقيق الاحترام لحقوق الانسان .
واذا كانت مرحلة انتقال مبادئ حقوق الانسان من الصعيد الداخلي إلى الدولي بمثابة المرحلة الجنينية الممهدة لولادة القانون الدولي لحقوق الانسان فان هذه العملية استمرت وتزامن مع استمرارها ازدياد الوعي والاهتمام الدولي في مجال حقوق الانسان وبدأت تظهر نظم وقواعد عرفية دولية في مجال هذه الحقوق كنظام الحد الادنى في معاملة الاجانب ونظام التدخل الإنساني ونظام حماية الاقليات وأخذت تتكون العديد من القواعد الدولية في مجال حماية هذه الحقوق .
الا انه ورغم كل التطورات التي حصلت وازدياد الوعي في هذا المجال لم يؤدِ كل ذلك إلى ظهور ما يعرف بالقانون الدولي لحقوق الانسان . حيث انه وفي المرحلة الاولى (الجنينية) او الممهدة للولادة لم يكن هذا القانون معروفا كقانون قائم بحد ذاته ضمن فروع القانون الدولي العام لا بل حتى قواعده ضمن قواعد هذا القانون لم تكن معروفة لدى الجميع او ان وجودها لم يكن مؤيدا او مصادقا عليه على الصعيد الدولي سواء الرسمي او الفقهي .
واستمر هذا الوضع لفترة زمنية تزامن معها التحديث في القانون الدولي العام واستمرار سير مسيرة حقوق الانسان بشكل عام وعلى الصعيد الدولي بشكل خاص ، ولكن كل ذلك لم يؤدِ إلى ولادة القانون الدولي لحقوق الانسان بشكل صريح وواضح او تدويل حقوق الانسان الا بإصدار ميثاق منظمة الامم المتحدة ، ذلك الميثاق الذي مثل التصديق عليه من قبل غالبية الدول بمثابة التعديل لاحكام القانون الدولي ، حيث انه أوجد منظمة حكومية عالمية تظم في عضويتها غالبية دول العالم ، وتضطلع بمهام ذات طبيعة عامة تهم كل الدول الاعضاء في الاسرة الدولية ، حيث جاء هذا الميثاق راسما للخطوط العريضة لمسيرة حقوق الانسان على الصعيد الدولي وهيأ وبشكل رسمي البيئة المادية والقانونية والمعنوية المناسبة للبدء بإعمال حقوق الانسان بوسائل دولية واستمرار عملية التدويل أي الانتقال لبقية مبادئ حقوق الانسان ، لا بل انه هيأ لإمكانية ايجاد قواعد دولية جديدة لإعمال حقوق الانسان .
إذ جاء ميثاق الأمم المتحدة بالإجازة أو الإعلان الصريح عن تدويل حقوق الانسان وجعلها ضمن الموضوعات الدولية ، وكان ذلك من خلال تناول الميثاق لهذه الحقوق في العديد من مواده فضلاً عن ديباجته ( [85]).
والذي يلاحظ بصدد نصوص الميثاق ان هناك ترابطا فيما بينها بصدد مسالة حقوق الانسان . حيث ان الهدف الاساسي للامم المتحدة والمتمثل بحفظ الامن والسلم الدوليين ليس بالهدف البعيد عن موضوع حقوق الانسان ، حيث ان السلم الدولي وضمان استمراره يعد من اهم حقوق الانسان الجماعية ، الا وهو حق الانسان الجماعي في السلام فضلاً عن كون تحقيق السلام يوفر البيئة المناسبة لتطبيق حقوق الانسان( [86]).
وتبين نصوص حقوق الانسان الواردة في الميثاق ، ذلك الميثاق الذي يمثل معاهدة دولية جماعية فضلاً عن كونه يمثل دستور المنظمة ، تلك المنظمة التي تعد اكبر منظمة عالمية عرفها المجتمع الدولي ، ان ايراد هذه النصوص وما تتضمنه من احكام وعدها من مقاصد المنظمة التي تمثل المجتمع الدولي وتعبر عن ارادته وتوجهاته ، يفيد بتوجه ارادة المجتمع الدولي إلى جعل مبادئ حقوق الانسان قواعد امرة في القانون الدولي العام ( [87]).
وعلى الرغم من الايجابيات التي حققها الميثاق لحقوق الانسان الا انه كان مع ذلك يكتنفه الكثير من العيوب فيما يتعلق بهذه الحقوق حيث انه لم يتناولها بشكل تفصيلي وضمن مواد مفصلة بل انه تناولها في نصوص عامة وضمن مواد متفرقة كما انه لم يضع آليات معينة لإعمالها واكثر من تكرار ذكر ذات العبارات في الكثير من النصوص كل هذه العيوب وعيوب اخرى دفعت إلى حصول خلاف فقهي حول نصوص الميثاق المتعلقة بحقوق الانسان ومدى الزاميتها ( [88]).
ولم يتوقف جهد الامم المتحدة في مجال حقوق الانسان على صياغة واصدار الميثاق بل انها قامت بتعزيز حقوق الانسان من خلال العديد من الاجراءات والتصرفات على الصعيد الدولي والتي يمكن تفسيرها اما بانها تكون تكملة للنواقص التي كانت تشوب الميثاق او انها ترجمة تفصيلية للمبادئ العامة التي جاء بها الميثاق وقد ابتدات هذه الإعمال بالجهد الدولي الذي بدا بعد صدور الميثاق والذي ادى إلى تعريف حقوق الانسان ووصولا إلى ايجاد حماية لهذه الحقوق .
وسوف نتناول فيما يأتي وبهدف خدمة اهداف الدراسة موجزا عن جوانب نشاط الامم المتحدة المتعلق بتكوين القانون الدولي لحقوق الانسان .
لقد بدأ الجهد الدولي في مجال تعزيز حقوق الإنسان بعد إصدار الميثاق بمحاولة معالجة الفشل في التوصل إلى أيجاد لائحة لحقوق الإنسان في مؤتمر سان فرانسيسكو ، حيث فشل واضعو الميثاق في إيجاد لائحة لحقوق الانسان ، فأعيد طرح الموضوع مجددا في الامم المتحدة وكذلك في الدورة الاولى للجمعية العامة سنة 1946 ، واستمرت الجهود في هذا الاتجاه إلى حين التوصل عام 1948 إلى حل وسط يتمثل بإصدار لائحة دولية تضم هذه الحقوق تحت اسم (الاعلان العالمي لحقوق الانسان) وعلى شكل توصية غير ملزمة ، تم إعدادها من قبل لجنة حقوق الانسان واقرارها واصدارها من قبل الجمعية العامة ويتكون الاعلان من مقدمة وثلاثين مادة تتطرق بشكل عام إلى اهم الحقوق الانسانية على اختلاف انواعها وطبيعتها ( [89]).
وعلى الرغم من اهمية اصدار الاعلان باعتباره سابقة مهمة في المجتمع الدولي بصدد موضوع حقوق الانسان الا ان مواد هذا الاعلان لم تكن تتمتع بالالزام بل انها كانت وبموجب ما اتخذته من شكل ، مجرد قواعد توجيهية لا يترتب على مخالفتها أي جزاء او مسؤولية دولية ، الامر الذي ادى إلى اثارة خلاف فقهي ورسمي بصدد أهمية هذه القواعد والزاميتها( [90]) واذا كانت مواد الاعلان غير ملزمة فما الفائدة من اصدار مثل هذا الاعلان ؟ وما هي قيمته لدعم مسيرة حقوق الانسان على الصعيد الدولي ؟ وما اثر اصداره او دوره فيما يتعلق بتكوين القانون الدولي لحقوق الانسان ؟
علمنا مما تقدم ان موضوع حقوق الانسان في اعقاب الحرب العالمية الثانية كان من الموضوعات الجديدة نسبيا على القانون الدولي العام على الرغم من وجود خلفيات تاريخية له على صعيد هذا القانون ، فضلاً عن كون موضوع حقوق الانسان بشكل عام يعد من الموضوعات الحساسة بالنسبة إلى الحكومات فيما يتعلق بجوانب التطبيق الفعلي ومن المعروف ان الامم المتحدة تعد منظمة حكومية ، أي ان ارادتها تتكون من مجموع ارادات حكومات الدول الاعضاء فيها ، ومن المعروف ايضا انه ومنذ ان عرفت مبادئ حقوق الانسان سواء داخليا او دوليا كان هناك الكثير من الحكومات تقف ضدها او لا ترحب بها او بأقل تقدير تتحسس منها وخاصة في التاريخ المبكر لظهور هذه المبادئ ، لذلك فقد كان الإتيان بقواعد او قانون دولي ملزم لهذه الحقوق دفعة واحدة قد يكون من الأمور الصعبة والتي قد تواجه بالكثير من المعارضة من قبل الحكومات والتي كانت قد تصل إلى حد الانسحاب من المنظمة ، لذلك فكان لابد من الاتيان بهذه المبادئ بصيغ تدريجية معينة وليس دفعة واحدة وبشكل يتطور فيه الامر إلى حد الوصول إلى الطموح في هذا المجال ، وبالفعل فقد كانت البداية في ميثاق المنظمة كما علمنا والذي رسم الإطار القانوني العام لهذا الموضوع وبعد ذلك وبفترة مناسبة تم اصدار الاعلان على شكل توصية لا تؤدي إلى النفور ولا الحساسية ولا التخوف من قبل الحكومات فيما يتعلق بالجزاء والمسؤولية الدولية وهو في نفس الوقت فرصة للدول الراغبة في دعم مسيرة حقوق الانسان لاتخاذ ما يلزم في هذا الاتجاه.
وفضلاً عن ما تقدم فان اتجاه إرادة الأسرة الدولية الممثلة في الامم المتحدة إلى إصدار هذا الإعلان تعد بمثابة التأكيد على اتجاه ارادتها حين اصدار الميثاق نحو تدويل حقوق الانسان والتأكيد على قانونية مواد الميثاق الخاصة بحقوق الانسان ، وذلك من خلال الاستمرار بتوجيه وتحريك الجهد الدولي لخدمة مسيرة هذه الحقوق .
اما فيما يتعلق بفائدة واثر الاعلان بالنسبة إلى القانون الدولي لحقوق الانسان فتتمثل بكون هذا الاعلان جاء بمبادئ حقوق الإنسان الرئيسة وأبرزها على الساحة الدولية ، وهي المبادئ الأساسية التي تكون في ضوئها القانون الدولي لحقوق الانسان والتي لم يفصح عنها ميثاق الامم المتحدة عند صدوره ، أي انه كان من الممكن ان تعد هذا الميثاق بمثابة اللائحة الاولى او المشروع المثالي للقانون الدولي لحقوق الانسان وبالفعل فمن حيث الواقع فان ما جاء به الاعلان كان بمثابة المثل العليا والاهداف او الغايات العليا التي يجب على الدول ان تسعى إلى الوصول اليها في مجال حقوق الانسان او بتعبير واقعي ادق انها الغايات العليا التي يجب ان تسير الظروف العامة في سبيل الوصول اليها .
وتتضح الصفة التوجيهية العامة للاعلان من ناحية اخرى في كونه جاء بصيغ عامة وشاملة واتصف بالعالمية حيث انه بذلك خطط بشكل دقيق للقانون الدولي لحقوق الانسان على نحو يتفق وطبيعة هذه الحقوق حيث انه جاء بمستوى مشترك لكافة الشعوب والامم وفضلاً عن ما تقدم فان الاعلان يعد بمثابة الكاتالوج في مجال حقوق الانسان والذي تم الاستعانة به في سبيل ايصال هذه الحقوق إلى الإعمال ( [91]) ومن الناحية العملية وفضلاً عن ما تقدم فيما يتعلق بدور الاعلان بالنسبة إلى القانون الدولي لحقوق الانسان فان الاعلان في حقيقته كان بمثابة متن تضمن مجموعة من المعايير لقياس مدى احترام حقوق الانسان وانتهاكها وبموجبه يمكن تقييم وضع حقوق الانسان في أي مكان كما انه كان ولا يزال بمثابة المنهل الذي استقت منه العديد من القوانين الداخلية بعض مبادئها وهذا القول يصح لما يزيد على (25) دولة حيث تضمنت دساتيرها اشارة صريحة ومباشرة إلى الاعلان بعد مضي ما لا يزيد على العشرة سنوات من تاريخ اصداره .
وفضلاً عن كل ما تقدم وبعيداً عن النظر إلى الاعلان بمنظار قانوني بحيث يفيد بعدم قانونية او إلزامية الإعلان فانه وعند التعمق في محتواه وربطه بمسار الأحداث وأعماق النوايا والمقاصد للأسرة الدولية والنتائج المتحققة على ارض الواقع والمرتبطة به أي باختصار النظر اليه بمنظار عملي واقعي قائم على أساس الغايات والنتائج المتحققة وحتى دون الحاجة إلى الاستعانة بالآراء والاتجاهات المؤيدة لقانونية وإلزامية الإعلان ، نجد ان هذا الإعلان ليس بعيداً عن ان يكون ضمن ما يعرف بالقانون الدولي لحقوق الانسان لا بل يمكن اعتباره الركن الأساس في هذا القانون او دستوره وذلك لعدة اعتبارات أهمها كونه وان صدر على شكل توصية لكن روح هذه التوصية يميل وبشكل كبير نحو الإلزام والقانونية ويرجع ذلك إلى طبيعة ومكانة ما يحويه الاعلان من حقوق. وبالفعل فان ذلك قد تحقق وبشكل تدريجي على ارض الواقع ولو بشكل نسبي ولكن دون الحاجة إلى اجراء تعديل قانوني ولتغيير وصف او شكل الاعلان إلى وصف او شكل اخر . حيث نجد انه وعلى الرغم من عدم الزامية التوصية لا تجرؤ أية دولة او أية شخصية دولية المصارحة بمعارضتها او عدم ايمانها بمحتوى التوصية وهذا يعني ان لهذه الحقوق من القدسية ما يكفيها ويضفي على أي اطار يحتويها قدسية مشتقة منها وان القدسية المترتبة للاعلان تعني إعطاءه شيئاً من صفات القانون لكن مع خصوصية يقتضيها وضع الاعلان وظروف المجتمع الدولي . وبالفعل وبمرور الزمن اخذ الاعلان يتحول شيئا فشيئا نحو الالزام وذلك بتواتر التصرفات الدولية على اعتباره كذلك ، والتصريح بذلك علنا . فقد تم في مؤتمر طهران لحقوق الانسان عام 1968 والذي جرى باشراف الامم المتحدة وحضره ( 84 ) عضواً من أعضاء الامم المتحدة ، إقرار اعلان مفاده ( ان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان شكل التزاما على أعضاء الأسرة الدولية ) ( [92]) واذا كان هناك ثمة تساؤل حول الجزاء المترتب على من يخالف الإعلان فان هذا الجزاء ان كان الرأي الأغلب يراه متمثلا في استهجان الراي العام الدولي او العالمي للتصرف المخالف مما يعني وسيلة ضغط على الطرف المخالف ، فان آلية المجتمع الدولي لحماية حقوق الانسان اليوم ضمن مفهوم التدخل الإنساني لا تستبعد من نطاق التطبيق اذا كان الدافع إلى التدخل مخالفة ما ورد في الاعلان العالمي لحقوق الانسان ومهما يكن من أمر فإذا كان من الصعب ايراد الاعلان ضمن القانون الدولي لحقوق الانسان باعتباره قانونا إتفاقياً مكتوبا ، فان ايراده ضمن اطار العرف الذي درج اشخاص القانون الدولي العام على اتباعه يعد حلاً وسطاً ، ويكون ذلك باعتبار الاعلان يمثل فيما يتعلق بالاحكام والمبادئ التي لم يأتِ بصددها قانون اتفاقي مكتوب بمثابة العرف المكمل ضمن الاطار العام للقانون الدولي لحقوق الانسان ( [93]) ، وبعد اصدار الاعلان العالمي لحقوق الانسان لم يكتفِ المجتمع الدولي الممثل في الامم المتحدة بالاعلان في سبيل تفعيل ما جاء به الميثاق بخصوص حقوق الانسان ، حيث انه اذا كان الميثاق قد جاء بالارضية والقانون العام وكانت الخطوة الثانية اصدار الاعلان ودعمه فان الخطوات في سبيل إيجاد قانون دولي لحقوق الانسان قد استمرت ، وكان ذلك ضرورة وبشكل ملح نظراً إلى الشكل الذي صدر به الاعلان وما ترتب على ذلك من خلاف فقهي ودولي رسمي حول مدى قانونيته والزاميته فكانت الخطوات التالية قائمة على اساس تفادي النواقص والعيوب التي سادت كلاً من الميثاق والاعلان بخصوص الناحية العملية لإعمال حقوق الانسان ، وذلك بإيجاد قواعد قانونية دولية صريحة وملزمة وضمن اطار اتفاقي تكون بموجبها ما عرف بعد ذلك بالقانون الدولي لحقوق الانسان .
لقد كان اتجاه المجتمع الدولي ممثلا بالامم المتحدة نحو القانون الاتفاقي في سبيل البدء باعداد وتكوين القانون الدولي لحقوق الانسان أمراً راجعاً إلى اعتبارات موضوعية تتصل بطبيعة هذا القانون وما مطلوب له ان يكون من جهة او لطبيعة القانون الدولي الاتفاقي وما يستطيع ان يقدمه لحقوق الانسان من جهة اخرى ، وذلك نظرا لما يتمتع به من خصائص حيث ان من المعروف انه اذا كانت عملية تدويل حقوق الانسان هي في سبيل دعم مسيرة هذه الحقوق فان هذا الدعم لا يؤتي ثماره ما دام التنظيم لهذه الحقوق باقيا في نطاق قانون دولي بعيدا عن التزام الدول به ونقله إلى الصعيد الداخلي أي إلى حيث يعيش محل هذه الحقوق (أي الانسان) وعلى اساس ما تقدم فان القانون الدولي لحقوق الانسان يتطلب بطبيعته ان تكون الاثار النهائية لتطبيقه في محيط قريب من محل او موضوع الحقوق التي يحتويها ، وان خير سبيل إلى ذلك هو القانون الدولي الاتفاقي أي جعل هذه الحقوق ضمن اطار اتفاقيات دولية محددة الامر الذي يعطيها الاكتمال من حيث الشكل والمحافظة على المضمون ، ويترتب عليه التزامات دولية تتمثل بوجوب نقل محتواها إلى حيز التنفيذ بحيث يستفيد منها الانسان ، هذا كله فضلاً عن مكانة الاتفاقيات الدولية بين مصادر القانون الدولي العام حيث انها تمثل المصدر الاول من بين هذه المصادر .
وبناءا على ما تقدم نجد ان الجهد الدولي قد أثمر بالاتجاه لإعداد وابرام العديد من الاتفاقيات الدولية في مجال حقوق الانسان وقد كانت النقلة النوعية والاساسية في هذا المجال بإصدار عهدين دوليين لحقوق الإنسان عام 1966 ، الاول للحقوق المدنية والسياسية والثاني للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية . وشكل ايجاد هاتين الاتفاقيتين نقلة نوعية جديدة في مسيرة حقوق الانسان وذلك من حيث طبيعة نصوص الاتفاقيتين ومن حيث النتائج المترتبة على وجود مثل هذه النصوص . حيث امتازت الاتفاقيتان بالعالمية وذلك استنادا إلى الجهة التي تبنت الاتفاقيتين وهي الامم المتحدة ومن حيث وجود عبارات معينة تشير صراحة إلى العالمية وبصيغ اكثر صراحة من الاعلان العالمي حيث ان الصياغة التي استخدمت في هذين العهدين لا تتماثل مع صياغة الاعلان إذ جاء فيها ( ان الدول الاعضاء تتعهد بضمان الاحترام العالمي الفعال لهذه الحقوق ) إذ أنها استخدمت عبارة الدول بدلا من عبارة (الدول الأعضاء) التي استخدمها الاعلان ، وهذا يعني انها توجه إلى كافة الدول الاعضاء وغير الاعضاء في الامم المتحدة ( [94]).
وقد ترتب على وجود الاتفاقيتين بهذه الطبيعة اشارة صريحة إلى اتجاه ارادة المجتمع الدولي إلى الانتقال بموضوع حقوق الانسان من التعزيز إلى الحماية ، وبتعبير ادق الانتقال بحقوق الانسان من مجرد الالتزام الادبي بها إلى الالتزام القانوني الذي يضمن لها التفعيل ( [95]) .
وفضلاً عن الجهود سابقة الذكر للمجتمع الدولي لتكوين القانون الدولي لحقوق الانسان والتي كانت على شكل قواعد عامة لتعزيز وحماية هذه الحقوق فقد كان هناك اتفاقيات اخرى على الصعيد الدولي عززت تلك الجهود واكدت على اتجاه ارادة المجتمع الدولي في الاتجاه نحو تحقيق الالزام للقواعد الدولية لحقوق الانسان ، وتمثلت اهم هذه الاتفاقيات باتفاقيات دولية اقليمية كالاتفاقيات الاوربية والامريكية والافريقية لحقوق الانسان واتفاقيات اخرى خاصة تتعلق بحماية اشخاص معينين مثل النساء والاطفال والمعوقين واخرى تتعلق بحقوق معينة من حقوق الانسان وتعطيها مزيدا من العناية بشكل خاص وتنص على تفصيلات في وسائل الحماية وطرقها ، مثل اتفاقية قمع الفصل العنصري والمعاقبة عليها واتفاقية منع الرق واتفاقية منع جريمة الابادة الجماعية وغيرها .
وبتراكم مجموعة من القواعد الدولية العرفية في مجال حقوق الانسان وتعزيزها بمجموعة كبيرة من القواعد الدولية الاتفاقية سواء العالمية منها او الاقليمية وسواء التي تشمل مجموعة من الحقوق او التي تحمي وتعزز حقوقاً معينة بذاتها ، وسواء التي تحمي افراد معينين بالذات او التي تحمي الانسان بشكل عام ، تكون القانون الدولي لحقوق الانسان كقانون له مصادره القانونية الخاصة والتي تنبع من الطبيعة الخاصة لهذا القانون وذلك لتعلق أحكامه بالافراد بشكل مباشر ، وسوف نتناول في المطلب القادم مصادر هذا القانون .
المطلب الثالث
مصادر القانون الدولي لحقوق الإنسان
علمنا مما تقدم ان القانون الدولي لحقوق الانسان يعد فرعا من فروع القانون الدولي العام ، وبناءا على ذلك فانه كي نستطيع تحديد مصادر القانون الفرع لابد قبل ذلك من معرفة مصادر القانون الاصل وذلك للتمكن بعد ذلك من معرفة مدى امتلاك القانون الفرع لذات المصادر ، حيث ان تحقق ذلك يؤدي إلى تمكيننا من استخلاص نتيجتين مهمتين فيما يتعلق بالتعريف بالقانون الدولي لحقوق الانسان ، الاولى تتعلق بصحة اعتبار قواعده كقواعد قانونية والثانية تتعلق بصحة اعتبار مجموعة قواعده قانونا قائما بذاته وفرعا من فروع القانون الدولي العام .
وللتعرف على مصادر القانون الدولي العام فان خير ما يستعان به لهذا الغرض هو النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية باعتبارها الجهة القضائية التي تحتاج إلى البحث في مصادر هذا القانون في سبيل اعتماد الذي ينطبق منها على النزاع المعروض أمامها ، ويفيد هذا النظام الذي يمثل البيان المرجعي المقبول لتحديد تلك المصادر في مادته ( 38 ) والتي تتضمن كون ان المحكمة تمارس وظيفتها في الفصل في المنازعات الدولية المعروضة عليها بتطبيق المعاهدات الدولية ، العرف الدولي ، المبادئ العامة للقانون والمعترف بها من قبل الامم المتحضرة .
واذا علمنا مصادر القانون الدولي العام بحسب تحديد النظام الاساسي لمحكمة العدل الدولية ، نتساءل عن مصادر القانون الدولي لحقوق الانسان وهل هي ذات المصادر اعلاه ؟
قبل التطرق إلى مصادر القانون الدولي لحقوق الانسان قد يكون من المفيد ذكره انه لكون النظام القانوني الدولي نظاما غير مركزي ولا يوجد فيه سلطة تشريعية بالمعنى المعروف لدور هذه السلطة فان اغلب قواعد القانون الدولي العام قد نشات اما عن طريق الاتفاق او انها تظهر من خلال عملية التفاعل والتعامل بين الدول ( [96]).
وتتحدد مصادر القانون الدولي لحقوق الانسان فيما يأتي:
1. المعاهدات :
تعرف المعاهدة بانها اتفاق بين شخصين او اكثر من اشخاص القانون الدولي العام يهدف إلى احداث اثار قانونية معينة ( [97]) وقد اعطيت عدة مرادفات لتعبير ( معاهدة ) مثل اتفاقية او ميثاق او بروتوكول او عهد او نظام وقد حاول الكثير من الفقهاء التفرقة بين هذه المصطلحات الا انه وفي جميع الاحوال فان المعنى الاهم لها لا يخرج من إطار التعريف أعلاه ( [98]) .
وتمتاز المعاهدات بشكل عام بانها تعد الصيغة الاكثر تناسبا مع العلاقات الدولية التي تمتاز بتطورها وشدة تعقيدها ، حيث انها تأتي بقانون غير جامد وقابل للتطور وفي نفس الوقت محدد وغير مرن كالعرف كما انها الصيغة التي تتناسب مع قيام المجتمع الدولي الحديث على قاعدة السيادة وعدم قبول الخضوع لسلطة اعلى وقواعد لا تأتي عن إرادة الدول الصريحة . واذا كانت هذه الأوصاف تنطبق على المعاهدات ولها فائدة بشكل عام ، فان ذلك يبدو اكثر اهمية ويعطي فائدة اكبر لقواعد القانون الدولي الخاصة بحقوق الانسان حيث ان هذه القواعد كانت ولاتزال تعاني إلى حد ما من التشكيك في مدى الزاميتها ، لذلك كانت تحتاج إلى مصدر يزيل عنها احتمالات التشكيك ويعطيها قوة ودفع نحو التفعيل ، ويكون ذلك من خلال ادراجها ضمن المعاهدات الدولية ( [99]) لذلك نلاحظ انه على الرغم من ان قواعد القانون الدولي لحقوق الانسان تمثل في الوقت الحاضر تعبيراً عن ارادة المنظمات الدولية وتصدر في صيغ التصرفات لهذه المنظمات من قرارات وتوصيات واعلانات واتفاقيات الا ان هذه المنظمات تعمد لتأكيد القوة الملزمة للقواعد التي تتضمنها تصرفاتها سابقة الذكر والمشكوك في مدى الزاميتها ، إلى اللجوء إلى صيغة المعاهدات والاتفاقيات . وهذه الصيغة لا تتوقف عند مجرد اصدار التصرف او القرار بل انها تحتاج إلى عمل اخر تقوم به الدولة لتؤكد التزامها بالاتفاق وتحيله إلى التطبيق فعلا في الدائرة الدولية والدائرة الداخلية على السواء ( [100]) .
وبناءً على ما تقدم نجد ان هناك ارادة للمنظمات الدولية ملحقة بإرادتها في التوجيه نحو إعمال حقوق الانسان عن طريق الاعلانات والتوصيات والقرارات غير الملزمة الا وهي ارادة المنظمة لتحويل اثار هذه الاعلانات او التوصيات او القرارات إلى ما يضمن بصيغ قانونية الإعمال لما تحتويه ، لذلك نجد ان المنظمات الدولية كالامم المتحدة مثلا تحاول الضغط على ارادة الدول للانتقال بحقوق الانسان من مجرد التوصية مثلا لإيصالها إلى مرحلة الالزام بموجب اتفاقية ، ونستطيع تتبع مثل هذا القول من خلال تتبع تطور محتوى الكثير من وثائق حقوق الانسان والتي كان الامر في بدايته مجرد توصية من الجمعية العامة مثلا واذا بالحال يتطور إلى ان يصل إلى درجة الاتفاقية ، والمثال الواضح على ذلك الاعلان العالمي لحقوق الانسان والذي صدر عام 1948 على شكل توصية ثم تطور مضمونه إلى مشروعين لاتفاقيتين تم اقرارهما عام 1966 لتفعيل أحكامه وإضفاء صفة الإلزام عليه ويتكون القانون الدولي الاتفاقي لحقوق الانسان من مجموعة كبيرة من الاتفاقيات في مجال حقوق الانسان يتصف البعض منها بصفة العالمية وذلك اذا كانت الاتفاقية ذات نطاق عالمي وتضم غالبية دول العالم ، وتتصف بعضها بالعمومية وذلك اذا كانت ذات اتجاه عام في مجال حقوق الانسان وتضم او تنظم مجموعة من الحقوق الانسانية وقد تكون هذه الاتفاقيات خاصة برعاية افراد معينين يحتاجون إلى رعاية خاصة كالاطفال او النساء او المعوقين او قد تكون خاصة بحقوق انسانية او حق معين يحتاج إلى اهتمام وعناية خاصة وياتي في مقدمة هذه الاتفاقيات من حيث الاهمية ميثاق الامم المتحدة الصادر عام 1945 والعهدين الدوليين لحقوق الانسان المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية اذ تعتبر هذه الاتفاقيات من اهم الاتفاقيات الدولية العالمية وذات الاهمية البالغة في تكوين القانون الدولي لحقوق الإنسان كما علمنا عند تناولنا ذلك عند الكلام عن تطور القانون الدولي لحقوق الإنسان في المطلب السابق، كما ان هناك مجموعة من الاتفاقيات الإقليمية ذات الأهمية الكبيرة ، مثل الاتفاقيات الأوربية والأمريكية والأفريقية والتي لها دور كبير أيضاً في تكوين القانون الدولي لحقوق الانسان( [101]).
ومن الاتفاقيات الدولية الخاصة بحماية فئات معينة من بني البشر ، الاتفاقية الدولية الخاصة بجنسية المرأة المتزوجة لعام 1957 ، واتفاقية القضاء على جميع اشكال التمييز ضد المرأة لعام 1967 ، واتفاقية خفض حالات انعدام الجنسية لعام 1961 ، والاتفاقية الخاصة باللاجئين لعام 1951 وغيرها من الاتفاقيات لرعاية الأطفال والمتخلفين عقليا وكبار السن .
وإلى جانب الاتفاقيات السابقة وجدت العديد من الاتفاقيات الدولية المتخصصة بصيانة وضمان إعمال حقوق معينة بالذات وتخصيص آليات لحمايتها ، ومثال ذلك الاتفاقية الدولية للقضاء على كافة أشكال التمييز العنصري لعام 1965 والاتفاقية الخاصة بمنع الرق لعام 1926 ، واتفاقية منع السخرة لعام 1957 وغيرها من الاتفاقيات الدولية التي تعنى بحقوق معينة من حقوق الإنسان .
2. العرف :
يعد العرف المصدر الرسمي الثاني من مصادر القانون الدولي العام ، وعلى الرغم من مزايا الاتفاقيات الدولية كمصدر للقانون الدولي ، الا ان العرف تبقى له الأهمية الكبيرة لتنظيم العلاقات الدولية ، وان الكثير من الفقهاء يرون ان للعرف اهمية على صعيد العلاقات الدولية تفوق أهمية الاتفاقيات وذلك نظرا إلى كونه ينظم العلاقات في مجتمع غير منظم بشكل تام إلى الان ، الا وهو المجتمع الدولي ، وتاتي اهمية العرف الدولي من ناحيتين الأولى لكونه أوجد معظم قواعد القانون الدولي العام والثانية لكونه يتفوق على المعاهدات بكون قواعده عامة وشاملة ، أي انها ملزمة لجميع الدول في حين ان القوة الالزامية في المعاهدات تقتصر على الدول المتعاقدة ويتكون العرف باطراد الدول على اتباع قواعد معينة في سلوكهم دون ان تكون ملزمة ، وبمرور الزمن والاستمرار في اتباع هذه القواعد يتولد شعور لدى الدول بالزاميتها وترتيب جزاء على مخالفتها وقد كان ولا يزال للعرف اهمية ودور كبير في ايجاد وتطبيق القانون سواء داخلياً او دولياً ( [102]) .
واذا كانت هذه الاهمية للعرف واضحة كمصدر مهم للقانون بشكل عام فانها قد تكون اكبر بالنسبة إلى حقوق الانسان سواء على الصعيد الداخلي او الدولي ، فإن من المعروف وكما تناولنا فيما تقدم انه قد كانت هناك اهمية ودور كبير للعرف في تكوين قواعد حقوق الانسان على الصعيد الداخلي وان اغلب قواعد هذا القانون فيما يتعلق بحقوق الانسان كانت في بداية الامر عبارة عن اعراف ، كما قد علمنا مما تقدم ان قواعد حقوق الانسان عندما انتقلت من النطاق الداخلي إلى النطاق الدولي كانت قد دخلت القانون الاخير على شكل قواعد دولية عرفية تطور الامر بها بعد ذلك واصبحت بأشكال وصيغ دولية اخرى .
ويعد العرف من ناحية اخرى المصدر الأكثر ملاءمة من مصادر القانون الدولي لتلبية متطلبات تكوين قانون دولي لحقوق الإنسان حيث انه من المعروف ان مبادئ حقوق الانسان تكونت بجهود ونضال واسهام كبير للبشرية كلها على اختلاف الامم والحضارات كما ان هذه المبادئ نابعة من اصول يرجع الكثير منها إلى تعاليم الاديان وقواعد الاخلاق العامة إذ ان العرف هو الوسيلة الفعالة التي تتيح لهكذا قانون ان يتكون ويتطور ويواكب كل الحاجات البشرية على اختلاف الاماكن والعصور ويضاف إلى ما تقدم ان اهمية العرف لحقوق الإنسان يكمن في كون انه اذا اصبحت قاعدة معينة من قواعد حقوق الانسان جزءا من قانون العرف الدولي، فان ذلك يعني انها سوف تكون ملزمة لجميع الدول الاعضاء في الاسرة الدولية عكس الحال فيما يتعلق باتفاقيات محدودة من اتفاقيات حقوق الانسان حيث انها لا تسري الا على الدول الاطراف فيها .
ومنذ انتقال قواعد حقوق الانسان من الصعيد الداخلي إلى الصعيد الدولي برزت العديد من القواعد العرفية لحقوق الانسان والتي كون مجموعها القانون الدولي العرفي لحقوق الانسان ، ومثال ذلك القواعد التي تحكم سلوك المحاربين والقواعد التي تحمي ضحايا الحرب وعادات الفرسان ( [103]) ونظرية التدخل الانساني والمساعدة الانسانية والحد الادنى في معاملة الاجانب ويضاف إلى ذلك العديد من القواعد التي ظهرت من خلال جهود المنظمات الدولية وخاصة الامم المتحدة وذلك من خلال نشاطاتها الانسانية.
وهناك رأي يذهب إلى ان الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي جاءت به الامم المتحدة عام 1948 اذا لم يكن يحضى بالقوة الالزامية للمعاهدات فان قبوله وعدم معارضته من قبل الدول سواء الاعضاء او غير الاعضاء في الامم المتحدة قد كون مجموعة من القواعد العرفية التي كان لها دور كبير في إعمال حقوق الانسان على الصعيد الدولي. ( [104])
3. المبادئ العامة للقانون :
يقصد بالمبادئ العامة للقانون ، تلك المبادئ الاساسية التي تقرها وتستند اليها الانظمة القانونية الداخلية في مختلف الدول المتمدنة ، وتضم هذه المبادئ مجموعة من القواعد الاساسية التي تشترك في احترامها واقرارها اغلب الانظمة القانونية المعروفة كالنظام الاسلامي والانجلوسكسوني واللاتيني والجرماني حيث تشترك كل هذه الانظمة في الاخذ بمبادئ معينة مثل العقد شريعة المتعاقدين ومبدأ احترام الحقوق المكتسبة ومبدأ عدم مشروعية التعسف في استعمال الحق ومبدأ المسؤولية التقصيرية والتعاقدية وغير ذلك من المبادئ المعروفة ، ولهذه المبادئ بشكل عام صيغة عامة قائمة على اساس مراعاة العدالة والانصاف والمساواة وعلى اساس هذه الصيغة المقبولة بشكل عام فان تطبيق هذه المبادئ لا يقتصر على الصعيد الداخلي فحسب بل انه يتعدى حدود العلاقات الفردية إلى نطاق العلاقات الدولية ، وانه اذا لم يكن بين الدول علاقة قائمة على قاعدة اتفاقية او عرفية فانه يجوز لهذه الدول ان تلجا إلى هذه المبادئ لتنظيم العلاقات فيما بينها وتستوحي منها الحلول للخلافات الناشئة بينها أي انه اذا كان الاصل لهذه المبادئ ان تطبق على الصعيد الداخلي فانه يجوز اللجوء اليها وتطبيقها على الصعيد الدولي عند وجود الحاجة إلى ذلك لسد النقص في القواعد الدولية العرفية او الاتفاقية ( [105]) . وقد اقر النظام الاساسي لمحكمة العدل الدولية ذلك في المادة ( 38 ) منه.
وإذا كانت هذه المبادئ تضم خير القواعد القانونية لتنظيم العلاقات بين الافراد من حيث تحقيق غايات العدالة والانصاف والمساواة على اختلاف الاماكن والعصور وانها كانت ايضا خير قواعد لحل النزاعات بين الدول من حيث تحقيق ذات الغايات ، واذا كان اللجوء إلى هذه المبادئ على النطاق الدولي يكون جائزا في حالات معينة كما علمنا ، فان في هذا اللجوء ايجابية في كل الاحوال فيما يتعلق بحقوق الانسان حيث ان هذه المبادئ مرتبطة في اصلها وفلسفتها بحقوق الانسان وان عودة تطبيقها على هذا الانسان وان كان بوسائل دولية لا يعد الا بمثابة تطبيق القاعدة المناسبة والمفعلة لحقوق الانسان في اصلها على موضوعها الاصلي الا وهو الانسان .
ويظهر من التعداد السابق للمصادر الاساسية للقانون الدولي لحقوق الانسان والتي تتطابق مع تعداد المصادر الاساسية للقانون الدولي العام والتي جاء بها النظام الاساسي لمحكمة العدل الدولية ان القانون الدولي لحقوق الانسان يمكن اعتباره فرعا مستقلا من فروع القانون الدولي العام له خصوصيته وطبيعته المرتبطة بموضوعاته ومحوره الا وهو الانسان ، وله مصادره الخاصة وذات الخصوصية المرتبطة بطبيعته والمستقلة عن بقية مصادر القانون الدولي العام ، الا انه وعلى الرغم مما تقدم فان هناك من يذهب إلى وجود علاقة قوية او تداخل بين القانون الدولي لحقوق الانسان وقانون اخر ذي طبيعة دولية وخصوصية قريبة من القانون موضوع البحث الا وهو ما يعرف بالقانون الدولي الانساني . فما علاقة القانون الدولي لحقوق الانسان بالقانون الدولي الانساني وما مدى التداخل والتقارب بينهما وهل انهما يشكلان قانونا واحدا ام انهما فرعان مستقلان من فروع القانون الدولي العام ؟
وسوف نحاول الاجابة عن هذه التساؤلات في المطلب القادم .
القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني :
علمنا مما تقدم ان هناك العديد من العوامل التي تدفع إلى الاعتراف بذاتية خاصة للقانون الدولي لحقوق الانسان الا انه على الرغم من ذلك نجد ان هناك عدداً كبيراً من الكتاب يذهبون إلى وجود علاقة قوية جدا لهذا القانون مع مجموعة من القواعد الدولية ذات الخصوصية القريبة من خصوصية قواعد هذا القانون ، وهي قواعد ما يعرف بالقانون الدولي الانساني ، ويصل الربط بين القانونين بالبعض إلى درجة اعتبار كل من القانونين يمثلان شيئا واحدا (قانون موحد) .
من المعروف ان للقانون الدولي لحقوق الانسان علاقة بغيره من القوانين سواء الداخلية منها او الدولية ، حاله في ذلك حال أي قانون ( [106]) ولكن هذه العلاقة مع القوانين الاخرى تتخذ بعداً أخر ذا خصوصية وتداخل إلى حد تولد عنه خلاف فقهي بالنسبة للقانون الدولي الانساني، ومن استعراض هذه الاتجاهات الفقهية حول ذلك نستطيع ان نتعرف على حقيقة العلاقة بين القانونين ، وسوف نعرض لذلك فيما يأتي بعد اعطاء ايجاز تعريفي بالقانون الدولي الانساني .
التعريف بالقانون الدولي الانساني ( [107]) :
يعرف القانون الدولي الانساني بانه (ذلك الفرع من فروع القانون الدولي العام الذي تطبق قواعده – العرفية والمكتوبة – في حالات النزاع المسلح والتي تهدف إلى حماية الانسان باعتباره أنساناً) ( [108]) كما يعرف بانه (ذلك الجزء من قانون حقوق الانسان الذي يطبق في النزاعات الدولية المسلحة وفي حالات معينة يطبق في النزاعات والصراعات الداخلية أيضاً)( [109]) ، أي ان المقصود بالقانون الدولي الانساني ، مجموعة القواعد الدولية الموضوعة بمقتضى معاهدات او اعراف والمخصصة بالتحديد لحل المشاكل ذات الصيغة الانسانية الناجمة بشكل مباشر عن المنازعات المسلحة الدولية او غير الدولية والتي تحّد ولاعتبارات انسانية من حق اطراف النزاع في اللجوء إلى ما يحتاجونه من اساليب او وسائل للقتال وتحمي الاشخاص والممتلكات التي تصاب بسبب النزاع ( [110]) .
ويرجع ابتكار مصطلح ( القانون الدولي الانساني ) والذي تناولنا تعاريفه فيما تقدم، إلى القانوني المعروف ( Max Huber ) والذي شغل منصب رئاسة اللجنة الدولية للصليب الاحمر سابقا ولعدة سنوات ، ولم يلبث هذا المصطلح ان ظهر حتى تم تبنيه من قبل العديد من الفقهاء ، ويكاد يكون اليوم مصطلحاً رسمياً على الصعيد الدولي( [111]).
ومن التعاريف أعلاه ومن غيرها نستطيع ان نستنتج ان القانون الدولي الانساني ، عبارة عن مجموعة من القواعد الدولية التي تستهدف حماية شيئين اساسيين الاول هو حماية شخص الانسان ، الغاية الاساسية لهذا القانون وغيره من القوانين وثانيا حماية الأعيان والممتلكات لهذا الانسان . ولكن أي انسان هو المعني بحماية هذا القانون ، واي من ممتلكات هذا الانسان هي التي يحميها هذا القانون ؟ هل ان كل الافراد مشمولون بعناية هذا القانون ، وهل ان كل الاعيان مشمولة بهذه الحماية ؟
في الحقيقة ان القانون الدولي الانساني يعنى بالانسان والاعيان في وقت الحرب ، والانسان المشمول بهذه العناية هو الانسان غير المشترك في الحرب والانسان الغير قادر على مواصلة الاشتراك في الحرب ، والمثال على الحالة الاولى المدنيون بشكل عام باستثناء الذين يشتركون في العمليات القتالية ، والمثال على الحالة الثانية الأسرى والجرحى ( [112]) أما بالنسبة إلى الأعيان والممتلكات المشمولة بالحماية او ما تعرف بالأعيان المدنية ، فهي كافة الأهداف التي لا تعتبر أهدافاً عسكرية بالمفهوم العسكري ، ويشترط بالأهداف العسكرية أن تكون لخدمة غرض عسكري وان تكون محمية عسكرياً( [113]) .
والقانون الدولي لحقوق الانسان والذي نعرفه اليوم كقانون دولي كان قد مر بعدة مراحل تطور إلى حين وصوله إلى وضعه الحالي حيث ان القانون الإنساني قديم قدم الإنسان نفسه وقد واجه القادة والمقاتلون مشكلة السلوك الإنساني باستمرار ، ومنذ ان بدا الإنسان يعرف القانون والتنظيم الاجتماعي بجميع أشكاله فان الاهتمام بموضوع سلوك المقاتلين اثناء الحرب شغل الفلاسفة والقادة والمشرعين . وقد تراوح سلوك المقاتلين منذ القدم وإلى ايامنا هذه وعلى اختلاف الحضارات بين القسوة إزاء العدو إلى ابعد حدودها والرفق بالضحايا مهما كانوا وان نظريات القانون الانساني كانت قد دخلت في النظريات الفلسفية والدينية الكبرى بصيغة افكار وقوانين شرف وقواعد للفروسية والسلوك ازاء المقاتلين والمدنيين والاعيان ( [114]) .
والقانون الدولي الانساني بعد مراحل النشاة الاولى لافكاره بدوره مر بعدة مراحل تطور على الصعيد الدولي ، ابتداء بوجود اعراف دولية تتضمن مبادئه وتطورا إلى وجود قواعد دولية اتفاقية تتضمن هذه المبادئ ( [115]) وكانت الاتفاقية الاولى قد تمت المصادقة عليها عام 1864 بعد إعدادها من قبل اللجنة الدولية للصليب الاحمر والتي تأسست عام 1863 والتي تبنت مهمة الاعداد لما يعرف بالقانون الدولي الانساني ، وعلى الرغم من أن هذه الاتفاقية كانت تمثل نقلة مهمة في مجال هذا القانون ونقطة البداية للجزء الاتفاقي المكتوب فيه ، فان هذه الاتفاقية كان يشوبها الكثير من النقص الامر الذي دفع إلى تعديلها عدة مرات في الاعوام 1906 و 1929 اذ تم اعتماد اتفاقيات جنيف لتحسين مصير ضحايا الحرب . ومن جهة اخرى فان اتفاقيات لاهاي لسنة 1899 والتي تمت مراجعتها عام 1907 جعلت مبادئ جنيف مواكبة للحرب البحرية ، وبعد الحرب العالمية الثانية ونظراً للمآسي الكبيرة التي لحقت ببني البشر من عسكريين ومدنيين من جراء تلك الحرب ، تم في عام 1949 إبرام اتفاقية جنيف الرابعة وهدفها تحديد وضع السكان المدنيين زمن الحرب ، وفضلاً عن ما تقدم فقد كان هناك ضرورة كبيرة لتحسين اوضاع الاتفاقيات السابقة فأقرت الاتفاقية الاولى المتعلقة بحماية الجرحى والمرضى العسكريين في الميدان ، والاتفاقية الثانية المتعلقة بالجرحى والمرضى والغرقى للقوات البحرية ، والاتفاقية الثالثة الخاصة باسرى الحرب ولكن وبعد إبرام تلك الاتفاقيات لوحظ استمرار الماسي الانسانية بسبب الحروب التي نشبت بعد عام 1949 لذلك تم البحث عن حلول جديدة لتفادي هذه الماسي وتمخض عن ذلك ايجاد البروتوكولين ( الاول والثاني ) لعام 1977 ، كإضافة لاتفاقيات جنيف لعام 1949 ، حيث جاء البروتوكول الاول كتدعيم للمبادئ الانسانية التي جاءت بها اتفاقيات جنيف وخاصة للمفقودين والجرحى والمرضى . اما الثاني فقد حدد ودعم الحماية الدولية لضحايا النزاعات غير الدولية .
ومنذ نشأة القانون الدولي الانساني وإلى اليوم نلاحظ ان اللجنة الدولية للصليب الاحمر كانت ولا تزال تلعب الدور الأساسي في الإعداد لهذا القانون فضلاً عن دورها في تفعيل مبادئ هذا القانون ( [116]) حيث ان جهودها هي التي أفضت إلى إبرام الاتفاقية الاولى النواة لهذا القانون وبقية الاتفاقيات وهي مستمرة في هذا العمل لتطوير هذا القانون الذي اخذ يتطور ويكتسب اهمية كبيرة في نطاق العلاقات الدولية بشكل عام وفي الجانب الانساني منها بشكل خاص ( [117]).
العلاقة بين القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني :
تتمحور العلاقة بين القانون الدولي لحقوق الانسان والقانون الدولي الانساني في العديد من نقاط الالتقاء والاختلاف وهذه النقاط هي التي افضت إلى انقسام الاراء حول هذه العلاقة إلى من يرى ان القانونين يمثلان قانونين مستقلين احدهما عن الاخر وان كان هناك علاقة كبيرة بين القانونين من حيث الهدف والغاية ، ومن حيث الاصول الفلسفية والتاريخية لنشأتهما وغير ذلك من خيوط العلاقة التي تعني بالنهاية انها وان كانا قانونين مستقلين احدهما عن الاخر الا انهما يكمل احدهما الاخر في سبيل الوصول إلى ذات الغاية المنشودة من وجودهما ( [118]).
اما من يذهب إلى كون القانون الدولي لحقوق الانسان هو جزء من القانون الدولي الانساني ، فانه يستند إلى كون القانون الاخير اقدم في الوجود من القانون الاول وان مرحلة التطور التي قد وصل اليها على الصعيد الدولي هي اكثر تقدما من الاول ويرى بان القانون الدولي الانساني يتكون من قانون الحرب وقانون حقوق الانسان ( [119]).
اما من يذهب إلى كون القانون الدولي لحقوق الانسان يحتوي في حقيقته القانون الدولي الانساني ، فانه يستند على كون القانون الاول اعم من حيث الافكار الفلسفية واشمل من حيث نطاق التطبيق حيث يشمل تطبيقه كل بني البشر سواء كانوا مدنيين ام عسكريين وسواء كان ذلك وقت الحرب او في وقت السلم( [120]).
وللتعرف على حقيقة العلاقة بين هذين القانونين وترجيح احد الاتجاهات سابقة الذكر . لابد من استعراض اهم نقاط الالتقاء والاختلاف بين القانونين .
يلتقي القانون الدولي لحقوق الانسان مع القانون الدولي الانساني في العديد من نقاط الالتقاء والتي ياتي على راسها كون ان الهدف الاساسي لكل من القانونين يتمثل في حماية الانسان ، أي ان الشعور بالمسؤولية تجاه هذا الانسان لكونه إنساناً وليس لاي غرض اخر هو الذي دفع إلى وجود كل من القانونين ، اما من حيث نطاق وجود وعمل كل من القانونين فهو نطاق وحيز مشترك حيث يوجد كل من القانونين ويفعلان في نطاق دولي ، أي أن كلاً من القانونين يشتركان في الاتصاف بكونهما قانونين لهما طبيعة دولية ، ولكنهما يسعيان لحماية الانسان من هذا النطاق الدولي . وان اتصاف القانون بهذه الصيغة يتولد عنه بشكل عام اتصافهما بذات الصفات الايجابية والسلبية التي يتصف بها القانون الدولي العام . ومن ناحية القبول والجانب المعنوي لقواعد القانونين نجد أن كلاً من القانونين يحضى بقبول من قبل الضمير الانساني وقد لا يجرؤ أحد على رفض مبادئ القانونين او بأقل تقدير الإفصاح عن ذلك ، حيث ان مبادئ القانونين يشتركان في اتصافهما بكونهما نابعين من الضمير الإنساني ومن اعتبارات العدالة والإنصاف والاخلاق والتي تم تعزيزها بشكل كبير عند تناولها بموجب شرائع الاديان السماوية .
وعلى الرغم من نقاط الالتقاء الأساسية بين القانونين الا انه ووفقاً لاعتبارات قانونية وعملية نجد ان هناك نقاط اختلاف عديدة قائمة بين القانونين وتتمثل هذه النقاط في كون ان هناك اختلافاً في العلاقة التي يتم تنظيمها ، حيث ان القانون الدولي لحقوق الانسان ينظم العلاقة القائمة بين الدولة ورعاياها في حين ان القانون الدولي الانساني ينظم العلاقة بين الدول والافراد من رعايا دولة العدو . ومن ناحية اخرى فان سريان القانونين يختلفان من حيث ان القانون الدولي لحقوق الانسان يسري وقت السلم في حين ان القانون الاخر يسري وقت الحرب او النزاعات المسلحة لذلك نجد ان هناك من يقسم حقوق الانسان على اساس السريان الزماني وذلك على اساس وجود حقوق انسان تطبق وقت السلم واخرى تطبق وقت الحرب ( [121]) واضافة إلى ما تقدم نجد ان التعامل الدولي سواء الفقهي او الرسمي جرى على ان يميز بين كل من القانونين وقد كان ذلك نابعا من استقلالية احدهما عن الاخر من حيث مصدر القواعد ، حيث نجد ان المصدر الاساسي لقواعد القانون الدولي الانساني تمثل في اتفاقيات جنيف لعام 1949 في حين نجد ان مصادر القانون الاخر تمثلت في تلك الاتفاقيات التي ابرمت في اطار الامم المتحدة واخرى في النطاق الدولي الإقليمي واضافة إلى ذلك نجد ان التمييز بين القانونين يظهر من ناحية الجهة الداعمة للقانون والمشرفة على تطبيقه ، حيث نجد ان الامم المتحدة كانت وما زالت تلعب الدور الاساسي في ايجاد القانون الدولي لحقوق الانسان ، في حين ان اللجنة الدولية للصليب الاحمر هي المنظمة الدولية التي اسهمت وتسهم في اعداد القانون الدولي الانساني وتشرف على تطبيقه . نستنتج مما تقدم ان هناك العديد من نقاط الالتقاء والاختلاف بين كل من القانونين ، الامر الذي يعني ان هناك علاقة قائمة بين قانونين مستقلين متداخلين احدهما مع الاخر في العديد من الجوانب ضمن اطار وحدة الهدف والغاية وطبيعة القواعد واليات التطبيق وما يترتب على هذا الاستنتاج ان هناك قانونين بدا كل منهما بالظهور في وقت معين فالقانون الدولي الإنساني اقدم من حيث الظهور على الصعيد الدولي سواء فيما يتعلق بتلك الاعراف الاولى التي ظهر بها او بظهوره الواضح بعد ابرام اتفاقيات جنيف الاولى وان قدم القانون الدولي الانساني ليس قدما على صعيد القوانين الدولية التي تعنى بالانسان لا بل ان هذا القانون قديم على صعيد القوانين الدولية بشكل عام حيث تعد قواعده من بين اقدم القواعد الدولية ( [122]) اما القانون الدولي لحقوق الانسان فهو قانون حديث نسبيا ظهرت بوادره الاولى بعد تأسيس الامم المتحدة ولكن بظهور القانون الدولي لحقوق الانسان وان كان حديثا نسبيا وتشويه الكثير من مشاكل التطبيق فان نظرة معمقة إلى هذا القانون تدلنا على انه وبحسب طبيعته وما جاء به من مبادئ عامة لكل بني البشر على اختلاف الزمان والمكان فهو قانون قابل لان يكون القانون الاساس او الاصل او الاشمل لكل القواعد الدولية التي تهم الانسان ووجدت لخدمته بشكل مباشر وتتبين صحة هذا الافتراض ابتداءً من الصلة التاريخية القائمة بين القانونين ووصولا إلى التطورات الحاصلة في كل من القانونين إلى ايامنا هذه . حيث ان كل من القانونين مأخوذ من ذات المنبع والأصول الفكرية والفلسفية التي تهدف إلى حماية الانسان والإعلاء من شأنه وضمان تمتعه بحقوقه . اما من حيث التطور فان ثمة كثيراً من نقاط التطور التي حصلت على الصعيد الدولي والتي تعكس تنامي العلاقة بين القانونين إلى حد التداخل وصيرورة احدهما جزءا في الاخر ، ومن اهم هذه النقاط ان هناك العديد من الاتفاقيات الدولية التي تعد من مصادر القانون الدولي لحقوق الانسان تنص على الإحالة إلى القانون الدولي الانساني وذلك فيما يخص بعض النصوص الواردة في الاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان والخاصة بامكانية التنصل من بنود الاتفاقية في حالات الطوارئ التي غالبا ما تعلن عند حدوث النزاعات المسلحة سواء الدولية او الداخلية ، ومن هذه النصوص نص المادة (15) من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان والمادة (27) من الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان ، والتي تتضمن انه عند إعلان حالة الطوارئ يجوز للدولة التنصل عن تطبيق احكام الاتفاقية ولكن ذلك وفي أي حال يجب ان لا يخالف باقي الالتزامات الدولية الانسانية المتعلقة بمثل هذه الحالات ومن المعروف ان اهم هذه الالتزامات في وقت النزاعات المسلحة تلك الالتزامات التي يفرضها القانون الدولي الانساني ( [123]).
اما على صعيد العمل الدولي فنجد وفي العديد من المناسبات اشارات صريحة او ضمنية للتداخل بين القانونين والسير إلى اعتبارها قانونا واحدا ومن ذلك عندما اعلن المؤتمر الدولي لحقوق الانسان المنعقد في طهران عام 1968 ( ان السلم هو الشرط الاول لاحترام حقوق الانسان احتراما كاملا ، وان الحرب تعد انكارا لهذه الحقوق ) كما اكد صراحة على ان ( المبادئ الانسانية يجب ان ترجح وتكون لها الغلبة حتى في فترة النزاع المسلح ) ( [124]) وبذلك اشارة واضحة إلى ان قواعد القانون الدولي لحقوق الانسان يراد لها ان تمتد في تطبيقها إلى فترة الحرب والنزاعات المسلحة إلى جانب سريانها في فترة السلم . واستمر العمل الدولي في هذا الاتجاه وذلك بقيام الامم المتحدة بالاهتمام بحقوق الانسان في وقت الحرب والنزاعات المسلحة بشكل عام في حين انها كانت في البداية تعنى بحقوق الانسان في زمن السلم فحسب واتضح ذلك في العديد من التقارير السنوية للامين العام وبيانات الجمعية العامة وقراراتها اضافة إلى قرارات مجلس الامن، وعلى سبيل المثال قرار الجمعية العامة ذي الرقم (2444) لعام 1968 والذي اكد فيه على احترام حقوق الانسان في وقت النزاعات المسلحة وكذلك التقرير السنوي للامين العام للامم المتحدة لعام 1968 وبالنسبة لقرارات مجلس الامن فقد تضمنت سلسلة القرارات التي اصدرها هذا المجلس عام 1992 بشان النزاع في يوغسلافيا الكثير من النصوص بشان احترام حقوق الانسان في النزاعات المسلحة . وجانب اخر للعمل الدولي في مجال حقوق الانسان يفيد بالتداخل بين القانونين والاتجاه نحو تعميم القانون الدولي لحقوق الانسان في زمن الحرب والسلم ، وقد اتضح ذلك في نصوص اتفاقية اوتاوا لسنة 1997 والتي تضم إلى سلسلة اتفاقيات حقوق الانسان والتي اختصت بحظر استعمال الألغام المضادة للاشخاص وتخزينها وانتاجها ونقلها وتدميرها ، حيث ان هذه الاتفاقية استندت في مبادئها ونصوصها على القواعد العرفية في القانون الدولي الانساني والتي تحرم استخدام الاسلحة التي لا تميز بطبيعتها بين المدنيين والمقاتلين والتي تسبب معاناة لا مبرر لها وانتهاكا للحقوق الانسانية في الحياة والسلامة والامان( [125]).
وخلاصة القول انه يمكن ان نعتبر ان القانون الدولي لحقوق الانسان بمثابة القانون العام او الاصل للقواعد الدولية التي تحمي الانسان وان القانون الدولي الانساني هو فرع منه ، وهو ذلك الفرع الذي يحمي حقوق الانسان في زمن النزاعات المسلحة ، وهو القانون الذي يحتوي على التفاصيل الخاصة بهذه الحماية في حين ان القانون الاصل لم ينص الا على المبادئ العامة ، وان الواقع العملي للمجتمع الدولي المنظم ينسجم مع هذا القول من حيث المنظمة الدولية الراعية للقانون الاصل الا وهي الامم المتحدة ، وهي المنظمة الاكبر والاهم والاعم والتي تتفق طبيعتها واختصاصاتها وامكاناتها مع ما يحتاج اليه الانسان من حماية تتفق مع طبيعة حقوقه كانسان ، حيث انها حقوق لكل البشر بدون تمييز وفي جميع الاوقات حيث ان هذه الحقوق واحدة وبخاصة الاساسية منها سواء في وقت السلم او الحرب وفي كل بقاع العالم . واذا كان هناك تشكيك فيما تقدم وذلك على اعتبار ان القانون الدولي الانساني لايزال يمارس على انه قانون مستقل فان هذا الامر قد يكون مقصودا نظراً إلى عدم تبلور قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان كقانون عام ووصولاً إلى حد من الالزامية والنجاح في التطبيق على العكس من الكثير من قواعد القانون الدولي الإنساني . وهذا يعني انه لو تم اعتبار القانونين في ذات المكانة اليوم فان هذا يعني التراجع في المستوى المتحقق في القانون الدولي الانساني من المستوى المتقدم الذي هو فيه إلى المستوى غير المرضي الذي عليه القانون الدولي لحقوق الإنسان حالياً . لذلك يقتضي الامر حاليا الانتظار كما كان عليه الحال في الفترة الاولى لكل الاتفاقيات الدولية الانسانية .