المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بحث حول طائفة المرجئة (شبهات و ردود)


العضوالجزائري
2016-07-03, 01:01
أبو مريم محمد الجريتلي

(منقول)
إنَّ الحمْدَ لله نحْمَده، ونستعينه ونستغفِره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومِن سيِّئاتِ أعمالنا، مَن يهدِ الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحْده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
*
أما بعد:
فقد أضْحى الحديثُ عن الفِرَق التي خالفتْ أهلَ السُّنَّة والجَمَاعة، وبيان أطوار نشأتها، ومنهجها، وطرق استدلالها على بِدْعتها، ودحْض شبهاتها - مِن الأمر الذي زَخَرتْ به المكتبةُ الإسلامية قديمًا وحديثًا، وقد نالتْ فِرقةُ المرجئة النصيبَ الوافر من المؤلَّفات؛ لما للإرجاء من خَطَر عظيم على العقيدة الإسلامية، كما قال الزُّهري رحمه الله: "ما ابتُدِعت في الإسلام بِدعةٌ هي أضرُّ على أهله مِن هذه - يعني: الإرجاء"، قال الأوزاعي: "كان يحيى وقتادَة يقولان: ليس مِن أهل الأهواء شيء أخوف عندَهم على الأمَّة من الإرجاء"، وقال إبراهيم النَّخَعي - رحمه الله -: "لآثار المرجئة أخوفُ على هذه الأمَّة مِن فِتنة الأزارقة"[1]، والأزارقة هم طائفةٌ من الخوارج، وقال: "ترَكوا هذا الدِّين أرقَّ من الثوب السابري"، الثوب السابري: ثوبٌ رقيق.
*
ولكن مقام المقالة جمْع ما تفرَّق مِن شُبهات المرجئة القديمة والمعاصَرة، وتركيز العبارة في الردِّ بجُمَل ثابتة منقولة عن علماء أهل السُّنَّة والجماعة؛ حتى يتيسَّرَ على طالب العلم حِفظُها، والردُّ على المرجئة بها دون عناء البحث والتنقيب، وتحرير محلِّ النزاع، والله من وراء القصد.
*
أولاً: أقدِّم بين يدي الشبهات والردِّ عليها بتعريفٍ مختصَر للإرجاء:
يقول الإمام محمَّدُ بن جَرِير الطبري - رحمه الله - في كتابه "تهذيب الآثار": "فإنْ قال لنا قائل: ومَن هم المرجئة؟ وما صفتهم؟
*
قيل: إنَّ المرجئة هم قومٌ موصوفون بإرْجاء أمرٍ مختلف فيما ذلك الأمر، فأمَّا إرجاؤه فتأخيره، وهو مِن قول العرب: أرجأ فلان هذا الأمر، فهو يُرجئه إرجاءً، وهو مرجئه، بهمز، وأرجاه فلان يُرجيه أرجا، بغير الهمز، فهو مرجيه، ومِنه قول الله - تعالى ذِكْرُه -: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 106].
*
يُقرأ بالهمز وغير الهمز، بمعنى: مؤخَّرون لأمر الله، وقوله مخبِرًا عن الملأ مِن قوم فرعون: ﴿قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ﴾ [الأعراف: 111]، بهمز أرجه، وبغير الهمز.
*
فأمَّا الأمر الذي بتأخيره سُمِّيت المرجئةُ مرجئةً، فإنَّ ابن عيينة كان يقول فيما حدَّثني عبدالله بن عمير الرازيُّ قال: سمعتُ إبراهيم بن موسى - يعني الفرَّاءَ الرازي - قال: سُئِل ابن عيينة عن الإرجاء؟ فقال: الإرجاء على وجهين: قومٌ أرجوا أمرَ علي وعثمان، فقد مضَى أولئك، فأمَّا المرجئة اليوم، فهم يقولون: الإيمان قول بلا عمل، فلا تجالسوهم، ولا تُؤاكلوهم، ولا تشاربوهم، ولا تصلُّوا معهم، ولا تُصلُّوا عليهم".
*
الشبهة الأولى
الإيمان في الشَّرْع هو التصديق، كما أنَّه في اللغة هو التصديق، قال القاضي أبو بكر الباقلاني (أشعري المذهب):
"فإن قال قائل: خبِّرونا ما الإيمانُ عنبدَكم؟ قلنا: الإيمان هو التصديق بالله تعالى، وهو العِلم، والتصديق يوجد بالقلْب، فإنْ قال قائل: وما الدليلُ على ما قلتم؟ قيل له: إجماعُ أهل اللغة قاطبةً على أنَّ الإيمان في اللغة قبلَ نزول القرآن وبعْثةِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو التَّصْديق، لا يَعرِفون في لغتهم إيمانًا غير ذلك، ويدلُّ على ذلك قوله – تعالى -: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾ [يوسف: 17]؛ أي: وما أنت بمصدِّق لنا، فوجب أن يكونَ الإيمان في الشريعة هو الإيمانَ المعروف في اللُّغة؛ لأنَّ الله - عزَّ وجلَّ - ما غيَّر لسان العرب، ولا قَلَبه، ولو فعل ذلك لتواترتِ الأخبار بفِعْله، وتوفَّرتْ دواعي الأمَّة على نقْله، ولغلَب إظهارُه وإشهاره على طلبِه وكِتمانه، وفي علمنا أنه لم يفعلْ ذلك؛ بل أقر أسماء الأشياء والتخاطُب بأسْره على ما كان فيها - دليلٌ على أنَّ الإيمان في الشَّرْع هو الإيمان اللغوي"[2].
*
والجواب باختصار: في نقطتين:
الأولى: إبطال القوْل بأنَّ الإيمان هو التصديق؛ فإنَّ الإيمان يختلف عن التصديق في اللفظ والمعنى:
في اللفظ:
فإنَّك تقول لمن أخبرَك بخبر صدَّقْته، فيتعدَّى بنفسه، ولا يقال: آمنته؛ بل يُقال: آمنتُ له، فيتعدَّى بحَرْف الجر، وكذلك الاستعمال: فإنَّ التصديق يُستعمل في كلِّ خبر، فيُقال لمن قال: السماء فوقَ الأرض: صدقْت، أو صدقْنا بذلك، ولا يقال له: آمنا لك، ولا آمنَّا بهذا؛ لأنَّ هذه الأخبار من الأمور المشهودة، أما لفظ الإيمان، فلا يُستعمل إلا في الإخْبار عن الأمور الغائبة.
*
في المعنى:
فإنَّ الإيمان مأخوذٌ من الأمْن، الذي هو الطُّمأنينة، كما أنَّ الإقرار مأخوذٌ من القرار، وهو قريب من "أَمِن يأمن"، فالمؤمِن دخَل في الأمْن، كما أنَّ المقر دخَل في الإقرار، ومِن الفروق اللغوية الهامَّة: أنَّ لفظ الإيمان يقابله لفظُ الكفر، وأما لفظ التصديق فيُقابله لفظُ التكذيب؛ ولأنَّ الكُفْر ليس محصورًا في التكذيب فقط، فوجَب أن يكون ما يقابله - وهو الإيمان - ليس محصورًا في التصديق.
*
النقطة الثانية:
مع التسليم بأنَّ الإيمان لُغةً هو التصديق:
• فإنَّ الإيمان وإنْ كان في اللغة هو التصديق، فالتصديقُ يكون بالقلْب واللِّسان، وسائر الجوارح، كما في الحديث: ((والفَرْج يُصدِّق ذلك أو يُكذِّبه)).
• إنْ ثَبَت أنَّ الإيمان في اللغة هو التصديق، فليس هو مطلَق التصديق، بل هو تصديقٌ خاص، مقيَّد بقيود اتَّصل اللفظ بها، كما في الصلاة، فهي في اللغة: الدعاء، ولكنَّها في الشَّرْع عبادة مخصوصة، بأركان وشروط مخصوصة، تبدأ بالتكبير وتُختم بالتسليم.
• وإن كان التصديقُ هو المعنى المراد مِن الإيمان، فالتصديق الذي يقوم بالقلْب يستلزم أعمال القلوب والجوارح، فإنَّها لوازمُ الإيمان، وانتفاء اللازم دليلٌ على انتفاء الملزوم.
• أو يُقال: إنَّ لفظ الإيمان بقِي على معناه في اللُّغة، لكن الشارع زاد فيه أحكامًا.
• أو يقال: إنَّ الشارع نقَل المعنى من اللُّغة إلى الشَّرْع.
"ومِن هنا يتبيَّن لك: أنَّ من قال من أهل السُّنة في الإيمان هو التصديق على ظاهر اللغة، أنَّهم إنما عنوا التصديقَ الإذعانيَّ المستلزمَ للانقياد ظاهرًا وباطنًا"[3].
*
الشبهة الثانية
عطْف الأعمال الصالحة على الإيمان يدلُّ على المغايرة:
والجواب:أنَّ عطْف الشيء على الشيء في القرآن، وسائرِ الكلام، يقتضي مغايرةً بين المعطوف والمعطوف عليه، مع اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الحُكْم الذي ذُكِر لهما، ولكن المغايرة على مراتب:
1- أن يكونَا متباينين، ليس أحدُهما هو الآخرَ، ولا جزءَه، ولا يُعرف لزومه له؛ مثل: السموات والأرض، جبريل وميكال، التوراة والإنجيل، وهذا هو الغالِب.
2- أن يكون بينهما لزوم؛ مثل:
﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون﴾ [البقرة: 42]، فإنَّ مَنْ لَبَسَ الحق بالباطل أخْفَى من الحق بقدْر ما ظهَر مِن الباطل، ومَن كتَم الحق احتاج أن يُقيم من موضعه باطلاً، فهُما متلازمان.
3- أن يكون من عطف بعض الشيء عليه؛ مثل:
﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ [البقرة: 238]، ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: 98]، ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ [الأحزاب: 7].
4- عطْف الشيء على الشيء لاختلاف الصِّفتين:
﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ [الأعلى: 1 - 3]، ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة: 3 - 4].
5- أن يكون اللفظان مما يتَّفقان عندَ الإطلاق والتجريد، ويفترقان عندَ الاقتران والتقييد: وذلك أنَّ الاسم الواحد تختلف دلالتُه بالإفراد والاقتران، فقد يكون عند الإفراد فيه عمومٌ لمعنيين، وعند الاقتران لا يدلُّ إلا على أحدهما، كلفظ الفقير والمسكين، والإثم والذنب، والإيمان والإسلام، والمنكَر والبغي، إذا أُفْرِد أحدهما تناول الآخَر، وإذا جُمِع بينهما كان لكلِّ واحد منهما مسمًّى يخصه، والإيمان والعمل الصالح مِن هذا النوع، قال - تعالى -: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ [المؤمنون: 99 - 100]، ﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 103].
"فإذا قُرِن الإيمان بالعمل، كما في قوله - تعالى -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [البقرة: 277]، فقد يُقال: اسم الإيمان لم يدخلْ فيه العمل، وإنْ كان لازمًا له، وقد يقال: بل دخَل فيه، وعُطِف عليه عطفَ العام على الخاص"[4].
*
ويَقصد الإمامُ ابن تيمية بالحالة الأولى: أنَّ الإيمان أصله في القلب، وأعمال الجوارح لازمة له لزومًا لا ينفكُّ عنه.
أو أنَّ عطْف العمل الصالح على الإيمان مِن باب عطْف الخاص على العام؛ لبيان أهميَّة الخاص، أو رفْع توهُّم مظنون؛ مثل قوله - تعالى -: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ [البقرة: 238]؛ لبيان شرَف الصلاة الوسطى وفضلِها، والحذر مِن إضاعتها.
أو كقوله - تعالى -: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: 98]؛ ردًّا على اليهود الذين يزعمون أنَّهم لم يدخلوا في الإسلام؛ بسبب بُغْضِهم لرسول الوحي جبريل - عليه السلام - فنصَّ القرآن على عداوةِ الملائكة عامَّة، ثم خصَّ بالذِّكْر جبريلَ وميكال؛ ردًّا على باطلهم.
*
الشبهة الثالثة
أنَّ قول اللسان عمل:
لَمَّا وجَد أصحابُ البِدع من المرجئة تَكْرارَ ذِكْر العمل في النصوص الشرعية مِن الكتاب والسنَّة، وأقوال السلف الصالح، لجؤوا إلى قولٍ خبيث، وهو: إذا كان الإيمانُ ظاهرًا وباطنًا، وأنَّ الباطن لا يصلُح إلا بالظاهر، كما أنَّ الظاهر لا يصلح إلا بالباطن، وأنهما متلازمان، إذا زال الظاهرُ بالكلية زال الباطن، وإذا نقَص نقَص، وإذا زاد زاد، لجؤوا إلى القول بأنَّ الظاهر المستلزم للباطن هو مجرَّد قول اللِّسان، ولكن لكي تستقرَّ الشبهةُ في قلوب الأتباع، قالوا: (إذا قال، فقد عَمِل)، فالقول هو عملُ اللِّسان.
*
وأهل السنَّة يقولون: الإيمان قولٌ باللِّسان، واعتقاد بالجَنان، وعمل بالأركان، ففرَّق السَّلفُ بين قول اللسان، وعمل الجوارح، واعتقاد القلب، قال الإمام البدر العيني - رحمه الله -: "وما ذَهَب إليه السلفُ وأهل الأثر أنَّ الإيمان عبارةٌ عن مجموع ثلاثة أشياء: التصديق بالجَنان، والإقرار باللسان، والعمل بالأركان"[5].
*
أما جواب الشبهة:
فقد روى الخلاَّل في كتاب "السنَّة": "عن أبي بكر الأثرم - رحمه الله - قال: سمعتُ أبا عبدِالله - وقيل له: (شبابة) أيّ شيء تقول فيه؟ فقال: (شبابة) كان يَدَّعي الإرجاء، وحُكي عن (شبابة) قولٌ أخبثُ مِن هذه الأقاويل، ما سمعت عن أحدٍ بمثله، قال شبابة: إذا (قال) فقَدْ (عمِل بلسانه)، كما يقولون، فإذا (قال) فقَدْ (عمِل) بجارحته؛ أي: بلِسانه حين تكلَّم به، ثم قال أبو عبدالله: هذا قولٌ خبيث، ما سمعتُ أحدًا يقول به، ولا بلغني"[6].
*
وقد حدَّثتُ داعية من دعاة الإرْجاء، فقال: الظاهر اللازم للباطن هو (لا إله إلا الله)، فإنْ قال، فقد أتى بلازم التصديق الباطن، وإن لم يفعلْ أيَّ شيء مع القُدرة والاستطاعة، فسألتُه: مَن نشأ لأبوين مسلمين، كيف ينجو يومَ القيامة؟ قال: بالاعتقاد والإقرار بالشهادتين، فقلتُ له: هل مِن دليلٍ على أنَّ الذي وُلِد لأبوين مسلمين مطالَبٌ بالإقرار بالشهادتين؟ فسكَتَ وتحيَّر، ثم قال: نعم مطالَب بهما، فقلتُ له: هل هذا شرْط أو واجب؟ قال: بل هو واجب، فقلت: هل لو تخلَّف عن واجبٍ مِن الواجبات يخلد في النار؟ واحتار لفساد مذهبِه، وقلَّة حُجَّته ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82]، ثم زَعَم أنه يَكفيه الاعتقاد، قلت: انتهى المطاف إلى قول جهْم - والعياذ بالله.
*
قال الوليد بن مسلِم: سمعتُ الأوزاعي، ومالكَ بن أنس، وسعيد بن عبدالعزيز "يذكرون قولَ مَن يقول: إنَّ الإيمان قول بلا عمل، ويقولون: لا إيمانَ إلا بعمل، ولا عملَ إلا بإيمان"[7].
*
قال ابن تيمية: "فإنَّ حقيقةَ الدِّين هو الطاعة والانقياد، وذلك إنما يتمُّ بالفِعْل لا بالقول فقط، فمَن لم يفعلْ لله شيئًا، فما دان لله دِينًا، ومَن لا دِين له فهو كافِر"[8].
*
وعلَّق الشيخ ابن باز على قوْل صاحب الطحاوية: "والإيمان هو الإقرار باللِّسان والتصديق بالجَنان"، فقال - رحمه الله -: "هذا التعريفُ فيه نظَرٌ وقصور، والصوابُ الذي عليه أهلُ السُّنَّة والجماعة: أنَّ الإيمان قول وعمل واعتقاد، يَزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، والأدلَّة على ذلك من الكتاب والسنة أكثرُ مِن أن تُحصَر، وقد ذكر الشارح ابن أبي العز جُملةً منها، فراجعْها إن شئت.
*
وإخراج العمل مِن الإيمان هو قولُ المرجئة، وليس الخلاف بينهم وبيْن أهل السنة لفظيًّا؛ بل هو لفظي ومعنوي، ويترتَّب عليه أحكامٌ كثيرة يعلمها مَن تدبَّر كلامَ أهل السنَّة، وكلامَ المرجئة، والله المستعان"[9].

*****************************
[1] "رفع اللائمة": 5.
[2] "تمهيد الأوائل"، ص: 388.
[3] "معارج القبول"، حافظ الحكمي (2/19).
[4] "كتاب الإيمان"، ص: 161.
[5] "عمدة القاري" (1/ 103).
[6] كتاب "السنة"، ص: 571.
[7] "أصول اعتقاد أهل السنة"، للالكائي، ص: 1586.
[8] ابن تيمية، "شرح العمدة" - كتاب الصلاة - ص: 86.
[9] تعليق ابن باز على الطحاوية، ص: 22.

العضوالجزائري
2016-07-03, 05:10
الشبهة الرابعة
أنَّ الترْك عمل:
وأصحابُ هذه الشُّبهة يقولون: نعم، الإيمان قول وعمل؛ قول بالقلْب واللسان، وعمل بالقلْب والجوارح، وهذه عقيدةُ أهل السنة، ولكنَّهم يقولون: ومقصودُنا من عمل الجوارح، هو التُّروك دون الأفعال، واعتبارُ التَّرْك عملاً معمولٌ به عند كثيرٍ من الأصوليِّين، واحتجاجًا بقوله - تعالى -: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة: 79].
*
الجواب: نعم، التَّرْك عمل عند كثيرٍ من الأصوليِّين؛ كما يقول الشاطبي: "فإذًا قوله في الحد (حد البدعة): "طريقة مخترَعة تُضاهي الشرعية" يشمل البِدعةَ التَّرْكية، كما يشمل غيرها؛ لأنَّ الطريقة الشرعية أيضًا تنقسِم إلى ترْك وغيره، وسواء علينا قلْنا: إنَّ التَّرْك فعْل، أم قلنا: إنَّه نفي الفعل، الطريقتين المذكورتين في أصول الفِقه، وكما يشمل الحدُّ الترك، يشمل أيضًا ضدَّ ذلك، وهو ثلاثة أقسام: قسم الاعتقاد، وقسم القوْل، وقسم الفِعْل، فالجميع أربعة أقسام، وبالجملة فكلُّ ما يتعلَّق به الخطابُ الشرعي يتعلَّق به الابتداع"[10].
*
ولكن الخلاف بيْن أهل السنَّة والمرجئة ليس في التروك؛ وإنما في العمل، وهو الفِعْل الظاهر.
*
يقول الإمام ابن تيمية: "وإذا كانتِ الأعمال والتروك الظاهرة لازمةً للإيمان الباطن، كانتْ مِن موجَبِه ومقتضاه، وكان من المعلوم أنَّها تَقْوَى بقوَّته، وتَزيد بزيادته، وتنقص بنقصانه، فإنَّ الشيء المعلول لا يَزيد إلا بزيادة موجِبه ومقتضيه، ولا ينقص إلا بنقصان ذلك، فإذا جُعِل العمل الظاهر موجبَ الباطن ومقتضاه، لَزِم أن تكون زيادتُه لزيادة الباطن، فيكون دليلاً على زيادة الإيمان الباطن، ونقْصه لنقص الباطن، فيكون نقصه دليلاً على نقْص الباطن، وهو المطلوب"[11].
*
ويقول - رحمه الله -: "إذ رأسُ الأمر شهادة أن لا إله إلا الله، والنفوس خُلِقت لتعملَ لا لتترك، وإنما التَّرْك مقصودٌ لغيره، فإن لم يشتغلْ بعمل صالح، وإلا لم يترك العمل السيِّئ أو الناقص، لكن لَمَّا كان من الأعمال السيِّئة ما يُفسد عليها العملَ الصالح نُهِيتْ عنه؛ حفظًا للعمل الصالح"[12].
*
يقول ابن القيم: "وكل حقيقة باطِنة لا يقوم صاحبُها بشرائع الإسلام الظاهر لا تنفع، ولو كانتْ ما كانتْ، فلو تمزَّقَ القلب بالمحبَّة والخوف، ولم يتعبَّدْ بالأمر وظاهر الشَّرع، لم يُنجِه ذلك من النار"[13].
*
الشبهة الخامسة
الأعمال شرْط كمال، إلا ما دلَّ الدليل على أنه شرْط صحَّة، ولم يدلَّ الدليل على شيء:
سبحان الله! هذه الشُّبْهة من أعجب الشُّبَه، وهي مناقضةٌ للشرع والعقل بنوع من الحِيَل، وكأنهم يقولون: الإيمان: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، وعمل الجوارح على قسمين:
1- منه ما هو شرْطُ كمال، وهو الغالِب.
2- منه ما هو شرْط صحَّة، وهو القليل.
*
ولو وَقَف عند هذا الحد لقلنا: أصبتَ منهج أهل السنة، وأخطأتَ في العبارة، غير أنه ما يَلْبثُ أن ينقضَ ذلك بقوله: (ولم يدلَّ الدليل)، والمعنى أنَّ القسم الثاني (ما هو شرْط صحَّة، وهو القليل) قسم وهمي فارِغ، لا يوجد فيه شيء؛ وإنما الاستثناءُ كان مِن باب استثناء العدم مِن الكل!
*
والجواب:
إذا كنت تقول: إنَّ مِن الأعمال ما هو شرْط صحَّة، ولم يدلَّ الدليل عليها، فقد قلت: إنَّ الأعمال كلها شرْط كمال كما قالتِ المرجئة، ولكن المرجئة بالأمس كانوا أكثرَ صراحةً ووضوحًا في بيان مذهبهم بغيْر الْتواء ولا ادِّعاء.
*
قال الكوثريُّ: "ولَمَّا كان العمل شرْطَ كمال عند المرجئة، فقد ذَهبوا إلى أنَّ الكفر لا يكون إلا بالجَحْد والتكذيب"[14].
*
وسُئل ابن باز - رحمه الله - عمن يقول: إنَّ العمل داخلٌ في الإيمان، لكنه شرْط كمال، فأجاب - رحمه الله -: "لا، لا، ما هو بشرْط كمال، هو جزء مِن الإيمان، هذا قول المرجئة"[15].
*
وسُئِل الشيخ صالِح الفوزان عن قوْل بعض الناس:
إنَّ عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة: أنَّ العمل شرْطٌ في كمال الإيمان، وليس شرطًا في صحَّة الإيمان، فقال - حفظه الله -: "هو قولُ مرجئة أهل السنَّة، وهو خطأ، والصواب أنَّ الأعمال داخلةٌ في حقيقة الإيمان، فهو اعتقاد وقول وعمل، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية"[16].
*
قال الشيخ علويُّ السقَّاف ردًّا على ابن حجر: (الأعمال شرْط كمال)
"وكلامه هذا عليه مآخِذ: أهمها نِسبتُه القول بأنَّ الأعمال شرْط كمال الإيمان للسَّلَف، وهو على إطلاقه غيرُ صحيح؛ بل في ذلك تفصيل، فالأعمال المكفِّرة، سواء كانت تركًا؛ كترك جِنْس العمل، أو الشهادتين، أو الصلاة، أو كانتْ فعلاً؛ كالسجود لصَنم، أو الذبح لغير الله - فهي شرْطٌ في صحَّة الإيمان، وما كان ذنبًا دون الكُفْر فشرْط كمال"[17].
*
قال سفيان الثوري: "رُكوبُ المحارِم من غير استحلال معصيةٌ، وترْكُ الفرائض متعمِّدًا مِن غير جهل، ولا عُذْر كفر"[18].
*
قال الشيخ عبدالقادر الجيلاني: "تَرْك العبادات المفروضات زَنْدَقة، وارتكاب المحظورات معصيةٌ، لا تسقط الفرائضُ عن أحدٍ بحالٍ من الأحوال"[19].
*
يقول الشيخ عبدالله آل سعد: عن قوله - تعالى -: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [البقرة: 143]: "هذه الآية الكريمة لا تُفيدُ أنَّ العمل مِن الإيمان فحسْبُ؛ بل تفيد أنَّ العمل لا بدَّ منه في الإيمان، وأنه لا ينفكُّ عنه، ولا يصحُّ دونَه"[20].
*
الشبهة السادسة
أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - حَكَم بالإسلام بمجرَّد الإقرار:
والجواب:
أنَّ صاحبَ هذه الشُّبهة لم يفرِّق بيْن أحكام الدنيا والآخرة، والنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حَكَم للمنافقين بالإسلام، وأجْرى عليهم أحكامَه الظاهرة؛ (أي: أحكام الدنيا)، وحَكَم الله عليهم بأنَّهم في الدَّرْك الأسفل مِن النار؛ (أي: أحكام الآخرة).
*
فأحكام الدنيا على قسمين:
1- أحكام الإسلام.
2- أحكام الكفر.
وأحكامُ الإسلام الظاهرة يَشترك فيها المؤمِنُ الصادق، والمنافق الذي يُظهِر الإسلامَ ويُبطِن الكفر.
*
أما أحكام الآخرة، وهي مَحلُّ البحث، فعلى ثلاثة أقسام:
1- مؤمن.
2- منافق.
3- كافر.
*
المنافق: الذي عُصِم دَمُه وماله في الدنيا بالكلمة، والْتزام ظاهِر الإسلام، لا يعصمه ذلك مِن عذاب الله - عزَّ وجلَّ - يومَ القيامة؛ بل هو كما قال - سبحانه -: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ [النساء: 145]، فهو أشدُّ من الكافر؛ لأنَّه جمَع بين أمرين: الكفر بالله - عزَّ وجلَّ - وخِداع المؤمنين، خلافًا للكافِر المُظهِر للكفر.
"فلا يَنفع ظاهرٌ لا باطنَ له، وإن حُقِن به الدماء، وعُصِم به المال والذريَّة"[21].
*
"وقد اتَّفق العلماءُ على أنَّ اسم المسلِمين في الظاهر يَجري على المنافقين؛ لأنَّهم استسلموا ظاهرًا، وأَتَوا بما أتَوا به من الأعمال الظاهرة؛ بالصلاة الظاهرة، والزكاة الظاهرة، والحج الظاهر، والجهاد الظاهر، كما كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُجري عليهم أحكامَ الإسلام الظاهر، واتَّفقوا على أنَّه مَن لم يكن معه شيءٌ من الإيمان، فهو كما قال - تعالى -: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ [النساء: 145]"[22].
*
وقال وكيع: "المرجئة الذين يقولون: الإقرار يجزئ عن العمل، ومَن قال هذا فقد هلَك"[23].
*
واحتجَّ صاحِبُ الشُّبهة بحديثِ الجارية، وفيه قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أعتِقْها، فإنها مؤمنة)).
*
والجواب:*
أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إنما أخبر عن تِلْك الأَمَة بالإيمان الظاهِر، الذي علِّقتْ به الأحكام الظاهرة، ويجب التفريقُ بيْن أحكام المؤمنين الظاهرة التي يحكم فيها الناسُ في الدنيا، وبين حُكْمهم في الآخرة بالثواب والعِقاب، فالمؤمِن المستحق للجنة لا بدَّ أن يكون مؤمنًا في الباطن باتِّفاق جميعِ أهل القِبلة.
*
"وأما احتجاجُهم بقوله للأمَة: ((أعتِقْها فإنَّها مؤمنة))، فهو مِن حُجَجهم المشهورة، وبه احتجَّ ابن كُلاَّب، وكان يقول: الإيمان هو التصديق والقول جميعًا، فكان قوله أقربَ من قول جهْم وأتباعه، وهذا لا حُجَّة فيه؛ لأنَّ الإيمانَ الظاهر الذي تَجري عليه الأحكامُ في الدنيا، لا يستلزم الإيمان في الباطن الذي يكون صاحبُه مِن أهل السَّعَادة في الآخرة"[24].
*
"فإنَّ الإيمان الذي عُلِّقتْ به أحكامُ الدنيا هو الإيمانُ الظاهر، وهو الإسلام، فالمسمَّى واحد في الأحْكام الظاهرة؛ ولهذا لما ذَكَر الأثرم لأحمدَ احتجاجَ المرجئة بقول النبي: ((أعتِقها فإنَّها مؤمنة))، أجابه بأنَّ المراد حُكمها في الدنيا حُكْم المؤمنة، لم يُرِد أنها مؤمِنةٌ عندَ الله تستحقُّ دخولَ الجنة بلا نار، إذا لقيتْه بمجرَّد هذا الإقرار"[25].
*
فللَّه تعالى حُكمان:
• حُكمٌ في الدنيا على الشرائع الظاهِرة، وأعمال الجوارح.
• وحُكمٌ في الآخِرة على الظواهر والبواطن.
ولهذا كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَقبل علانيةَ المنافقين، ويَكِل أسرارَهم إلى الله تعالى، فيُناكحون، ويَرِثون ويُورثون ويُعتدُّ بصلاتهم في أحكام الدنيا، فلا يكون حُكمهم حُكمَ تارك الصلاة؛ إذ قد أتوا بصورتها الظاهرة، وأحكام الثواب والعِقاب ليستْ إلى البَشَر؛ بل إلى الله، والله يتولاَّه في الدار الآخرة"[26].
*
"فالخِطاب بالإيمان يدخل فيه ثلاثُ طوائف:
• يدخل فيه المؤمِنُ حقًّا.
• ويدخُل فيه المنافِق في أحكامه الظاهرة، وإنْ كانوا في الآخرة في الدَّرْكِ الأسفل من النار، وهو في الباطن يُنفَى عنه الإسلام والإيمان، وفي الظاهر يُثبَت له الإسلام والإيمان الظاهر.
•*ويدخل فيه الذين أسْلموا، وإنْ لم تدخلْ حقيقة الإيمان في قلوبهم، لكنْ معهم جزءٌ من الإيمان والإسلام يُثابون عليه"[27].

**************
[10] "الاعتصام"، ص: 49.
[11] "شرح حديث جبريل"، ص: 495، 496.
[12] "اقتضاء الصراط المستقيم"، ص: 254.
[13] "الفوائد"، ص: 155.
[14] "تأنيب الخطيب"، ص: 76.
[15] "رفْع اللائمة" ص: 52 عن مجلة المشكاة - العدد الثاني، ص: 297.
[16] "التوسط والاقتصاد"، ص: 140، 141.
[17] "التوسط والاقتصاد"، علوي السقَّاف، ص: 71 هامش.
[18] "السنة"، لعبدالله بن أحمد، ص: 745.
[19] "الفيض الربَّاني"، ص: 54.
[20] "رفع اللائمة"، ص: 19.
[21] "الفوائد"، لابن القيم، ص: 94.
[22] "كتاب الإيمان"، ص: 209.
[23] "كتاب الإيمان"، ص: 183.
[24] "كتاب الإيمان"، لابن تيمية، ص: 128.
[25] "كتاب الإيمان"، ص: 246.
[26] "مدارج السالكين"، لابن القيم 1/567.
[27] "كتاب الإيمان" لابن تيمية، ص: 145.

business70
2016-07-03, 13:49
موضوع طويل

MohammedHD
2017-04-09, 02:11
شكرا لك علي الموضوع
لكن المرة القادمة اقسم الموضوع الذي مثل هذا الى ثلاثة موضيع او اربعة
لكي لا يكره الزائر من كثرة القرأة

zakarai_m
2017-04-09, 15:17
شكرا لك علي الموضوع