تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : خواطر مربي ينهي عقده الخامس


ملاح
2016-04-08, 23:37
خواطر مربي ينهي عقده الخامس


قال أحدهم: "إذا علّمنا الطلاب بنفس الأسلوب الذي استخدمناه بالأمس، فإننا سنسرق منهم الغد"، وأنا أقرأ هذه المقولة يحضرني موقف سخيف لأستاذ الاجتماعيات الأجنبي، نحن طلاب السنة النهائية، وهو يدخل القسم يسلّم فنردّ بصوت مسموع، بل نُسمع جيراننا في الأقسام المجاورة وحتى البعيدة، يفتح سجل المناداة فلا تسمع إلا عبارة "حاضر أستاذ" – حاضرا كان المعني أو غائبا- ثم يلتفت إلى السبورة ويبدأ بكتابة تاريخ اليوم ثم عنوان الدرس، وأثناء كل ذلك يتسلل أكثرنا الواحد تلو الآخر من النافذة، لنغادر حجرة الدراسة. لقد قرأنا أستاذنا وحفظنا كل تصرفاته، حتى أصبح روتينه ورتابته مبتذلة عندنا، كنّا ونحن الطلاب نسخر منها ونجعل منها فاكهة حديثنا. فما أسوأ أن تكون معلما مبتذلا مكشوفا أمام تلاميذك يعرفون ما ستقوم به مسبقا، يتهامسون فيما بينهم: سيقوم بكذا، سيفعل كذا، متأهبون دوما لما سيقوم به، وقد حضروا الأقوال والأفعال المناسبة لكل ذلك.

توماس كاروثرس قال: "المعلّم هو الشخص الذي يجعلك لا تحتاج إليه تدريجيا"، أما نحن فمعلمونا هم الذين يحسنون جعلنا نحتاج إليهم في كل كبيرة وصغيرة، وكم يسعدهم الحديث عن بطولاتهم وهم يصححون أخطاء تلاميذهم ويساعدونهم على تجاوز المواقف التي لا يمكنهم تجاوزها إلا بوجود هؤلاء الأبطال الخرافيين الذين تتوقف الحياة بدونهم، ولا تسير المراكب إلا بدفعهم لها ... كانوا يتعمدون ذلك، ويجعلوننا نرتبط بهم، ليس ارتباطا عاطفيا وإنما هو ارتباط عمليّ، لأننا فاقدو الإرادة مسلوبو الحرية، ورسخوا في أذهاننا قصورنا وعجزنا عن حلّ مشاكلنا دون الرجوع إليهم، وأية مشاكل، أليست تلك التي قال عنها قاستون باشلار (1884-1962) المفكر والفيلسوف الفرنسي؛ لولاها لما وجدت المعرفة، وكيف ستتحقق هذه المعرفة دون أن نواجه بأنفسنا هذه المشكلات، لقد كانت مشكلتهم الوحيدة إعدادنا للاختبار، وليس إعدادنا لمواجهة الحياة.

قلّة من معلمينا كانت تربطنا بهم علاقات حميمية، كان التصور السائد ذلك الوقت، أن تترك مسافة بينك وبين طلابك، مسافة لفرض الاحترام والتقدير، ولترسيخ مبدأ الهيبة والهيمنة والمكانة التي من المؤكد أن تتهاوى إذا ما أنت اقتربت من الطلاب، ونسوا أنّ العقول مثل القلوب، تذهب حيث يتمّ تقديرها، وأنّ تحسين العلاقة بالآخرين يتأتّى بتقديرهم والاعتراف بمكانتهم وتمضية الوقت معهم، وجعلهم من الأولويات؛ بذلك فقط تكون الشخص المؤثر بحياتهم، لقد كنّا نخافهم، نخافهم فقط، نخافهم لا أكثر، ألم يقل العارفون أنّ على المعلّم أن يمتلك أقصى سلطة، وأقل قوّة؟

لقد قال أحد الحكماء: "ما يجمّل الحديقة هو الزهور وليس السياج، هكذا التربية: اغرس القيم في أولادك بدلا من السيطرة عليهم". نعم فالسيطرة تنتج الخنوع والخضوع، تنتج التكيف، ذلك الشعار الذي طالما روّجت له مناهجنا التربوية، وبذلنا قصارى جهدنا لنجعل متعلمينا يتكيفون ويندمجون في المجتمع، ليكونوا بذلك أفرادا صالحين فاعلين، وكأن صلاحهم وفاعليتهم مرتبطة أساسا بهذا التكيف، ولم يعلموا أن الخطر كل الخطر في نشر الوعي المتكيف، حسب باولو فريري المفكر البرازيلي الذي يقترح تعليما فاعلا إيجابيا فالشخص المتكيف حسبه دائما هو الذي سُلبت منه فاعلية مقاومة التخلّف والهيمنة وكل ما يعوق خطواتنا نحو الحرية.

تركيبة المشكلة غالبا ما تكون أكثر أهمية من الحل هذا ما قاله إينشتاين، ومشكلتنا اليوم أن نعرف حقيقة مشكلتنا، حينها سيكون الحل متيسرا ومن السهل الوصول إليه خاصة إذا ما توفرت الإرادة الحقيقية لذلك، إنّنا ما زلنا نتخبط من القمة التي لم تحدّد أهدافا وطنية واضحة لمنظومتنا، إلى القاعدة التي لا تريد أن تقبل بهذا التغيير الذي وإن كان لا يرقى لمستوى تطلعاتها، فإنه يمكن أن يكون محاولة لعبور الجسر الذي تردّدنا كثيرا لعبوره.

إنّه جسر لطالما فصل بين عالمين، عالم أوّل متطور، وعالم ثالث يعاني التخلف والفقر، عالم تقتله التخمة في كل شيء، التخمة حتى في المعرفة التي أصبح سوقها رائجا، وعالم يموت لأنه محروم من هذه المعرفة. عالم يعمل، وعالم يقول، وقد نسينا أن الأفعال تتحدّث بصوت أعلى من الكلمات، ألسنا ظاهرة صوتية على حدّ قول القصيمي، شعراء نقول ما لا نفعل، شعراء .. وأي شعراء. عرفوا ذلك فرسّخوا كل هذه المقولات في عقولنا لأنهم يعرفون أن التعليم يحرس الحرية أفضل من جيش منظم، سمحوا لنا بتكوين الجيوش المنظمة، دفعوا أبناءنا للإنخراط فيها وحرمونا التعليم الذي سيحرس حريتنا، ولست أتحدث هنا عن قوى خارجية وأطراف أجنبية حسب نظرية المؤامرة، إنهم من يدعون حمايتنا والحرص على حريتنا. يدعون الثقافة التي لا يستطيعون ترجمتها إلى فعل، فهل يستحقون هذا اللقب، إنهم لا يستحقونه حسب رأي المفكر العربي عبد الوهاب المسيري، وبذلك فهم لا يستحقون قيادتنا، لأنهم سبب أزمتنا وسبب تأزم وضعنا.

ألسنا أمة اقرأ التي لا تقرأ؟ أليس التعليم جواز السفر إلى المستقبل؟ ألم تشبّه الكاتبة الجزائرية الذائعة الصيت أحلام مستغانمي القراءة غذاء العقل بأنها نوع رخيص من المخدرات، لا تفعل بها سوى الغياب عن الوعي؟ هل تحولت القراءة فعلا إلى مخدر للغياب عن الوعي؟ هل تحول التعليم عندنا إلى وظيفة، مجرد وظيفة لكسب الرزق يتحصل عليها كل من سمحت لهم الظروف (المعاملات الحسابية) بذلك، دون أدنى تمحيص أو إعداد؟ ليتحولوا بين عشية وضحاها إلى حاملي راية بناء رجال الغد المتكيفين مع الواقع.

وأخيرا لقد قال نجيب محفوظ: "لم نُخلق للبقاء فاصنع لروحك أثرا طيبا يبقى من بعدك"؛ فهل تركنا نحن الأثر الطيب الذي يبقى بعدنا؟ نحن الجيل الذي عاش الحداثة العربية عندما تركها أصحابها إلى ما بعدها، وعرفنا العولمة ولكننا لم نستطع مواكبة العالم من حولنا، ما زلنا ننتظر يدا سحرية تمتدّ لتنتشلنا من ضعفنا وحزننا وتخلفنا وقهرنا وفقرنا، اليد التي تنقذنا من تكيفنا.
عبد القادر بشيشي
03/03/2016

benmessaoud75
2016-04-09, 11:07
بارك الله فيك
هذه ليست بخواطر إنما هي حقيقة

zinou01
2016-04-09, 20:52
لقد جئت على الوجيعة

محمد علي 12
2016-04-09, 22:18
شكرا يااستاذ

بن عسكر
2016-04-11, 08:16
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته : وما ذنب المطرقة والسندان؟

سائح61
2016-04-11, 09:21
أصبت أستاذنا الكريم .هو الجرح الذي ينزف نخسر الدماء منتظرين دون ان نجد العلاج.