جمال البليدي
2009-10-01, 21:19
]علم الكلام والجدل
(نقلا عن موسوعة أهل السنة في نقد الأحباش ومن وافق أصولهم للشيخ عبد الرحمان دمشقية)[/center]
من أعظم بدع العقائد التي طغت على المسلمين بدعة علم الكلام حتى أن الأحباش ليصفونه بأنه أشرف العلوم وأعظمها على الإطلاق ([1]) . لأن علم الكلام عندهم هو التوحيد الذي أمر الله به ([2]) .
أما السلف فلم يكونوا يتطلعون إلى مصادر أخري تزيدهم إيماناً فقد أغناهم الله بكتابه وسنة نبيه وأكمل لهم الدين وأتم عليهم النعمة كما قال { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } .
مواقف عمريه فذة :
ولما فتحت فارس ودخلها المسلمون ، وجدوا فيها كتباً كثيرة . فكتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب ليستأذنه في تنقيلها للمسلمين . فكتب عمر أن اطرحوها في الماء ، فأن يكن فيها هدي فقد هدانا الله بأهدى منها ، وإن تكن ضلالا فقد كفانا الله . فطرحوها في الماء ، وذهبت علوم الفرس منها عن أن تصل إلى المسلمين ([3]) .
الغزو الفكري القديم لا المعاصر فقط
وليت المسلمين مضوا على هذا المنهج . ولو فعلوا لحفظوا عقائد الناس ، ولكن لما فتحت أبواب البدع على مصراعيها وجدت علوم الأمم الأخرى طريقها إلى المسلمين ، ودخل على الأمة غزو فكري منذ القدم وهو علم اليونان بشقيه : الجدلي والصوفي ، فأشربته الأمة واستساغته وصار يطلق على علم الكلام : علم الكلام السني ، وعلي التصوف : الزهد وصار يتخرج مشايخ ومعلمون من الجامعات الإسلامية يتعلمون هذين الأصليين ويعلمونها الناس ، حتى صار هذان العنصران هما السنة ومنكرهما هو المبتدع .
إن الغزو الفكري الذي يحذر منه المصلحون اليوم يكاد ينحصر في المناهج المعاصرة التي درسها الغربيون والتنصيريون في هذا القرن ، ولا يتحدثون عن غزو فكري مازال موجوداً في الأمة منذ ألف ومئتي سنة وهو غزو علم الكلام الذي دخل في علم أصول الأمة ، والتصوف الذي في دخل روحها ، وما زال العديد من المحذرين أنفسهم يسوغون التصوف بالرغم من تحذيرهم من الغزو الفكري المعاصر .
أول متكلمي هذه الأمة
وكان أول متكلمي هذه الأمة صبيغ ، فقد أتي عمر بن الخطاب وأخذ يسأله عن متشابه القرآن فضربه عمر حتى أدمي رأسه ثم نفاه وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد ([4]) ، وهذا موقف آخر من عمر في تحصين الدين من مخلفات الجدل .
كيف دخل علم الكلام إلى هذه الأمة :
وعلم الكلام وريثة أهل المنطق والكلام كأرسطو وأفلاطون وهو كما قال الزبيدي " أكثره احتمال وهمي " ([5]) . استحسنه المأمون وأمر بترجمة كتاب اليونان إلى العربية . فأعجب بها وطلب من ملك الروم شراء مكتبة ضخمة في علم المنطق النصارى .
قال السيوطي " قال صلاح الصفدي في شرح لامية العجم : حكي أن المأمون لما هادن بعض ملوك النصارى – أظنه صاحب جزيرة قبرص – كتب يطلب خزانة كتب اليونان وكانت عندهم مجموعة في بيت لا يظهر عليه أحد . فجمع الملك خواصه من ذوي الرأي واستشارهم في ذلك فكلهم أشار عليه بعدم تجهيزها إليه ، إلا بطراق ( قسيس ) واحد ، فأنه قال : جهزها إليهم ، فما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلا أفسدتها وأوقعت بين علمائها " ([6]) .
وكان المأمون يستخدم النصارى لترجمة علوم المنطق كإسحاق بن حنين وغيره . وجرت بسببه فتن كثيرة كالقول بخلق القرآن ونفي الصفات وأدي ذلك إلى اضطهاد العلماء الذين ثبتوا على السنة وفي طليعتهم الأمام أحمد . وبقيت حركة الترجمة تنشط ، وقواعد علم الكلام ومصطلحاته تتداخل كتب المسلمين ، حتى أفتتن الناس به ، وظهر نتيجة ذلك أناس كجهم بن صفوان وبشر المريسي ، ونفوا صفات الله بحجة أن ظاهرها يوهم تشبيه الله بخلقه .
وأحسن البعض الظن به وظنوه يساعد على مجادلة خصوم الإسلام حتي صارت مادته اليوم توجد في أكثر الكتب عقائد .
زعموا إبراهيم عليه السلام أوصى بعلم الكلام
وأعجب لما يقوله الحافظ ابن عساكر أن الجويني رأى إبراهيم عليه السلام فسأله عن علم الكلام فأثني عليه قائلاً " يدفع به الشبه والأباطيل " ([7]) . والمنامات الدليل الأخير عند انعدام الدليل.
ولكن : إذا كان أوصاه بعلم الكلام فلماذا تاب الجويني منه عند موته وقال " ليتني لم أشتغل بعلم الكلام " ؟
وأعجب من ذلك حين تجد ابن عساكر يطعن على الطاعن في علم الكلام بالجهل أو بالانتماء إلى مذهب فاسد يخشى أن يفضحه أهل الكلام ([8]) . وبمثله قال القشيري الذي تعجب بدوره من قول القائل ليس في القرآن شئ من علم الكلام ([9]) .
ولا زال قوم يعملون على تقريبه حتى أدخلوه في اصل الدين وروج لعلم الكلام جماعة من الزنادقة تستروا بالإسلام وأدخلوا في الدين مخلفات اليونان لإفساده .
ثم ما لبث علم المنطق والكلام أن اختلط في أصول العقيدة الإسلامية حتى صار البعض يطلق على علم الكلام علم التوحيد ويصف أهله " أهل الحق والتوحيد " . وصار يعرف بعلم التوحيد ، حتى قال صاحب الجوهرة " وسمي علم التوحيد لأن مبحث التوحيد أشهر مباحثه ، ويسمي علم الكلام " ([10]) . مع أن السلف عابوه وحذروا من أهل الكلام باعتراف الحبشي ([11]) ، وحرموا الاشتغال به كالشافعي وأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم من أئمة السنة .
السيوطي يحكي الإجماع على ذمه
قال السيوطي لما سئل عن علم الكلام :
الجواب " روينا بإسناد صحيح من طريق المزني أن رجلاً سأله عن شئ من الكلام فقال إني أكره هذا بل أنهي عنه كما نهي عنه الشافعي ، فلقد سمعت الشافعي يقول : سئل مالك عن الكلام والتوحيد فقال مالك " محال أن نظن بالنبي صلي الله عليه وسلم أنه علم أمته الاستنجاء ولم يعلمهم التوحيد ، والتوحيد ما قاله النبي صلي الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " فما عصم به الدم والمال هو حقيقة التوحيد " . قال السيوطي " هذا جواب مالك عن هذا السؤال وبه أجبت " .
وأعترف المرتضي الزبيدي بذم السيوطي لعلم الكلام ([12]) . وحكي عن الحافظ ابن عبد البر أنه قال " الكلام في الدين أكرهه وأنهي عنه ، ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه " ([13]) .
وصدرت لابن الصلاح فتوى في مقدمة كتابه علوم الحديث بتحريم الاشتغال بعلم الكلام .
وكذلك كتب الإمام موفق الدين المقدسي صاحب ( المغني ) رسالة " تحريم النظر في كتب الكلام .
وللإمام الخطابي كتاب الغنية عن الكلام وأهله ، وصف فيه مقالات المتكلمين بأنها سريعة التهافت كثيرة التناقض . ([14])
موقف الأئمة الأربعة من علم الكلام
* قال الشافعي للربيع " لا تشتغل بالكلام فإني اطلعت من أهل الكلام على التعطيل " وقال " لو رأيت رجلاً من أهل الكلام يمشي على الماء فلا تركن إليه " ([15])
وحكي الزبيدي أن الشافعي كان ينهي عن الاشتغال بعلم الكلام ويأمر بالاشتغال في الفقه ([16]). وحكي السبكي أن أبا بكر الشاشي كان يعيب على أهل الكلام كثرة خوضهم في الله وصفاته ([17]) .
وقال الشافعي " لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه فرارهم من الأسد"([18]) .
القدرية والجبرية ثمرة علم الكلام
*وهذا النص يرد على من زعم ذم الشافعي إنما هو موجة للقدرية المعتزلة الذين كانوا ينفون القدر ، حيث أطلق الذم ولم يقيده بالقدر دون تأويل الصفات . ويؤكده ما رواه أشهب بن عبد العزيز عن الإمام مالك أنه قال " إياكم وأهل البدع ، قالوا : ما البدع ؟ قال : أهل البدع الذين يتكلمون في أسمائه وصفاته وكلامه وقدرته ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة "([19]) .
* والأشاعرة لم يسكتوا عما سكت عنه السلف ، بل تكلموا بالجوهر والعرض والكسب والكلام النفساني والجزء الذي لا يتجزأ ومتعلقات الصفات وتأويلاتها . وخاضوا في القدر فقالوا بالجبر في مقابل المعتزلة القدرية . وأن العبد لا مشيئة له فيما يفعل عندهم ألا في أنه يكسب الفعل من الله فقط . فالمعتزلة يمثلون الإفراط والأشاعرة يمثلون التفريط وهما نتيجة علم الكلام .
* وقد شهد الجويني على الأشعري مخالفته للحق في مسألة كسب العبد وأضطر هو والباقلاني وجماعة من الأشاعرة إلى مخالفته .
والتعطيل واحد نتائج علم الكلام . ويؤكد ذلك قول الشافعي لمحمد بن الحكم " يا محمد إن سألك رجل عن شئ " من الكلام فلا تجيبه " وقوله " لا أحب أن ينسب إلى منه شئ " ([20]) . غير أن الحبشي ينسب علم الكلام إلى الشافعي ، وهو خلاف وصيته وخلاف ما حكاه الزبيدي أن الشافعي كان ينهي عن الاشتغال بعلم الكلام ويأمر بالاشتغال في الفقه([21]) .
* وقال " حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ، ويحملوا على الإبل ، ويطاف بهم في العشائر والقبائل ، وينادي عليهم : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام " ([22])
* واحتج بقول مالك في الرد على أهل الكلام فقال " محال أن نظن بالنبي صلي الله عليه وسلم أنه علم أمته الاستنجاء ، ولم يعلمهم التوحيد " ([23]) .
* وكان مالك يقول " أوكلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد بالنبي صلي الله عليه وسلم لجدله "([24])
* وذكر البخاري عن ابي الزناد أنه قال " لا يقيم ( المجادلون على أمر – وأن أعجبهم – إلا نقلهم الجدل إلى أمر سواه ، فهم كل يوم في شبهه جديدة ودين ضلال )([25]) .
* ولهذا لم يكن السلف يناظرون أهل البدع على طريقة أهل البدع بل كانوا يفحمونهم بكتاب الله وسنة رسوله بالنبي صلي الله عليه وسلم . ولما قيل لعبد الرحمن بن مهدي " إن فلاناً صنف كتباً يرد فيها على المبتدعة . قال : بأي شئ : بالكتاب والسنة ؟ قالوا : لا ولكن بعلم المعقول والنظر فقال : أخطأ السنة . ورد بدعة ببدعة " ([26])
فيا من تفخرون بأنكم تنافحون عن الدين إليكم ما قاله أحمد بن حنبل " لا تجالسوا أهل الكلام وأن ذبوا عن السنة " ([27]) . فلا يغرنكم من يسمي علم الكلام " علم التوحيد " أو علم الكلام السني .
* وقال أبو حنيفة " أني وجدت أهل الكلام قاسية قلوبهم ، غليظة أفئدتهم، لا يبالون مخالفة الكتاب والسنة ، وليس عندهم ورع ولا تقوى" ([28]) . وهذا مطابق لقول الشافعي " المراء في الدين يقسي القلب " ([29]) .
* وصدق فيما قال ، فإن علم الكلام يخالف الكتاب والسنة في طريقة عرض مسائل العقدية ، حين يعرضونها في قالب فلسفي جدلي يحوطه التعقيد والجفاف والتخطيط بطريقة غريبة على الإسلام وطبيعته المتميزة التي يفهمها العالم والعامي ، تكثر فيه الإيرادات والردود عليها ويندر فيها كلام الله وكلام رسوله بالنبي صلي الله عليه وسلم وهذا ما جعل المخضرمين من المتكلمين ينتهون إلى الطريق إلى المعرفة مسدودة من هذا الوجه .
وقال السبكي " وليس على العقائد أضر من شيئين :
علم الكلام والحكمة اليونانية " ([30]) . وقال بتفصيل طريقة أهل الحديث على طريقة المتكلمين المستدلين بالجوهر والعرض وحدوث العالم " لأن أهل الحديث أقرب إلى الحق ، والشكوك التي ترد عليهم أقل".
ولو علم الله في علوم ( الجوهر والعرض ) نفعاً لأوحي بشيء منها إلى نبيه صلي الله عليه وسلم ولكن : علم الله أن تنزيهه لا يتحقق بها : بل هي التي علمت الناس سلب ما وصف به نفسه وآلت بأصحابها إلى الشك والحيرة وجرأتهم على الله وصفاته ووحيه .
وما أدل على ذلك من قول الرازي حين أستعرض أقوال المعتزلة والأشاعرة حول مسألة التحسين والتقبيح العقليين : " وأعلم أن هذه المذاهب ظهر في كل واحد منها من المدائح والقبائح ، فعند هذا قال أصحاب الحيرة والدهشة : أن هذه الدلائل ما بلغت في الوضوح والقوة إلى حيث تزيل الشك وتملأ بقوتها ونورها : العقل : بل كل واحد منها يتوجه فيه نوع غموض " ([31]).
* وقال في غياث المفتي " رأيت بخط شمس الأئمة الحلواني عن أبي يوسف رحمة الله أنه لا تجوز الصلاة خلف المتكلم " ([32])
* وسئل أبو حنيفة : ما تقول فيما أحدثه الناس من الكلام في الأعراض والأجسام ؟ فقال : مقالات الفلاسفة ، عليك بالأثر وطريقة السلف وإياك وكل محدثة فإنها بدعة ([33]) . وكان أبو حنيفة يلعن عمرو بن عبيد الذي ابتدع بدعة الكلام ([34]).
وهناك روايات تفيد بأن أبا حنيفة رحمة الله خاض في أول الأمر في علم الكلام غير أنه رجع عنه كما قال قبيصة بن عقبة " كان الأمام أبو حنيفة رحمة الله في أول أمره يجادل أهل الأهواء حتى صار رأساً في ذلك ثم ترك الجدل ورجع إلى الفقه والسنة وصار إماماً " ([35]) وفي رواية أن أبا حنيفة قال " لا حاجة لي في علم الكلام "([36])
ثم صار ينهي الناس عنه حتى قال لابنه حماد " يا حماد دع الكلام " ([37]) . وقال البزدوي " ونحن نتبع أبا حنيفة فإنه إمامنا ... وإنه كان يجوز تعليمه وتعلمه والتصنيف فيه ولكن في أخر عمره امتنع عن المناظرة فيه ونهي أصحابه عن المناظرة فيه "([38])
وسأل رجل الحسن بن زياد الؤلؤي عن زفر بن الهذيل : أكان ينظر في الكلام ؟ فقال : سبحان الله ما أحمقك ، ما أدركت مشيختنا زفر وأبا يوسف وأبا حنيفة ومن جالسنا وأخذنا عنهم يهمهم غير الفقه والإقتداء بمن تقدمهم " ([39]) .
فكيف يدعي الحبشي أن الماتريدي المخالف لشيخه أبي حنيفة كان إمام أهل السنة والجماعة وكتبة مشحونة بالفلسفة وعلم الكلام وقد رأيت نهي شيخه عن علم الكلام ؟! .
قال مالك " لا تجوز شهادة أهل البدع " وذكر حافظ المغرب وفقيهها ابن عبد البر بسنده عن فقيه المالكية أبي بكر بن خويزمنداد ([40]) أنه قال معلقاً على قول مالك " لا يجوز شهادة أهل البدع والأهواء ) قال " أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعرياً كان أو غير أشعري ولا تقبل شهادة له في الإسلام أبداً ، ويهجر ويؤدب على بدعته "([41]) وهذا أكبر دليل على أنهم كانوا يرون مذهب الأشعرية مذهب بدعة وعلم كلام كمذهب المعتزلة . وقد أستحسن هذا الكلام السيوطي وابن عبد البر والموفق المقدسي .
_ وتحدث ( التفتازاني ) عن اختلاط علم الكلام بالفلسفة فقال " لما نقلت الفلسفة إلى العربية وخاض
فيها الإسلاميون ، حاولوا الرد على على الفلاسفة فيما خالفوا به الشريعة فخلطوا بالكلام كثيراً من الفلسفة حتى كاد لا يتميز عن الفلسفة لولا اشتماله على السمعيات "([42]) .
وذكر بن خلدون أيضاً أن علم الكلام اختلط بعلم الفلسفة حتى كاد لا يتميز أحدهما على الآخر([43]).
ويحدثنا الشهرستاني أن المعتزلة أول من خلط علم الكلام بالفلسفة ([44]) . وهذا مما يسجل على الأشاعرة أنهم تلقوا أصول منهجهم وقواعده عن المعتزلة.
وقال أبو طالب المكي " ثم ظهرت بعد سنة ومائتين مصنفات الكلام وكتب المتكلمين بالرأي والهوى والمعقول والقياس " ([45]) .
وكان إبراهيم الحربي يقول " وأحرج على من كان من أهل الكلام والجدال أن يحضر مجلسي أو يسألني عن شئ فأنه لا علم لي بالكلام ولا أقول به لو عرفته ما حدثته " ([46])
وأعتبر ابن الجوزي أن أساس البدع دخلت على الأمة من طريقين .
1) الفلسفة : التي عكف عليها خلق من العلماء لم يقنعوا بما قنع به رسول الله بالنبي صلي الله عليه وسلم حتي خاضوا في الكلام الذي حملهم على مذاهب ردية أفسدوا بها العقائد .
2) الرهبنة : حيث أخذ خلق من المتزهدين عن الرهبان طريق التقشف"([47]) ويعني بهم الصوفية .
وقال أبو محمد ابن قتيبة الدينوري في كتاب تأويل مختلف الحديث " لقد تدبرت مقالة أهل الكلام فوجدتهم يقولون على الله ما لا يعلمون ، ويفتنون الناس بما يأتون ، يتهمون غيرهم في النقل (أي استدلالهم بالنصوص) ولا يتهمون آراءهم في التأويل ([48]) .
وقال " الكلام ليس من شأننا ولا أري أكثر من هلك إلا به " ([49])
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) مجلة منار " الهدي " 22 / 29 .
([2]) صريح البيان 11 طبعة مجلدة
([3]) مقدمة بن خلدون 480
([4]) الاصابة 5 : 167 الشريعة للآجري 73 الدرامي 146 الاتقان 2 : 4 .
([5]) اتحاف السادة المتقين 2 / 51 .
([6]) صوت المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام ص 9
([7]) تبيين كذب المفتري ص 356 .
([8]) تبين كذب المفتري 359 .
([9]) شكايه أهل السنة بحكاية ما جري لهم من المنحة 47 .
([10]) جوهرة التوحيد 21 .
([11]) إظهار العقيدة السنية 63 ، 80 .
([12]) الحاوي للفتاوي 2 / 129 اتحاف السداة المتقين 1 / 177 سير أعلام النبلاء 10 / 36 .
([13]) جامع بيان العلم وفضله 2 / 95 .
([14]) سير أعلام النبلاء 17 : 36 وصون المنطق للسيوطي 91 – 99 .
([15]) سير أعلام النبلاء 10 / 28 صون المنطق والكلام 64 .
([16]) اتحاف السادة المتقين 2 / 11 .
([17]) فتاوي السبكي 2 / 578
([18]) حلية الأولياء 9 / 111 سير أعلام النبلاء 10 / 16 .
([19]) ذكره البغوي في شرح السنة 1 / 217 والصابوني في عقيدة السلف وأصحاب الحديث 51 .
([20]) سير أعلام النبلاء 10 / 28 و 31 .
([21]) اتحاف السادة المتقين 2 / 11 .
([22]) سير ألاعلام 10 / 29 صون المنطق 65 الحلية لأبي نعيم 9 / 0116 ومناقب الشافعي للبيهقي 1 / 462 .
([23]) سير أعلام النبلاء 10 / 26 .
([24]) سير أعلام النبلاء 8 / 99 حلية الأولياء 6 / 324 .
([25]) رواة البخاري في خلق أفعال العباد 89 .
([26]) صون المنطق 131 للسيوطي
([27]) رواه بن الجوزي في مناقب أحمد ص 205 .
([28]) سير أعلام النبلاء 6 / 399 مفتاح دار السعادة 2 : 136 .
([29]) رواه أبو نعيم في الحلية 9 / 111 .
([30]) مقدمة السيف الصقيل ص 12 وذكرها المرتضي الزبيدي في شرح الأحياء 2 / 10 .
([31]) المطالب العالمية 4 / 426 .
([32]) مفتاح دار السعادة 2 / 137 .
([33]) رواه السيوطي في صون المنطق والكلام 32 وتبييض الصحيفة في مناقب أبي حنيفة 324 .
([34]) صوت المنطق والكلام 30 .
([35]) عقود الجمان 161 مناقب أبي حنيفة للمكي 53 وللكردي 137 .
([36]) تاريخ بغداد للخيب البغدادي 13 / 333 .
([37]) مناقب أبي حنيفة للمكي 183 .
([38]) أصول البزدوي ص 4 .
([39]) صون المنطق والكلام 136 عن الحسن بن زياد اللؤلؤي .
([40]) هو محمد بن أحمد ( 390 هـ ) كان متمسكاً بالسنة شديداً على أهل البدع ( أنظر ترتيب المدارك 7 / 77 والديباج المذهب 2 / 229 والوافي بالوفيات 2 / 52 .
([41]) جامع بيان العلم وفضله 2 : 96 صون المنطق والكلام للسيوطي 137 مفتاح السعادة 2 : 137 وأحتج به الموفق المقدسي في رسالته (تحريم النظر في علم الكلام ص 42 بتحقيقي ) وقد حذف طاش كبري زادة من النص ما يتعلق بالأشاعرة .
([42]) شرح العقائد النسفيه 8 .
([43]) مقدمة بن خلدون 466 .
([44]) الملل والنحل 1 /32 .
([45]) قوت القلوب 2 /37 صون المنطق السيوطي 127 .
([46]) صون المنطق والكلام 131 .
([47]) صيد الخاطر 266.
([48]) تأويل مختلف الحديث 12 وأنظر 43 .
([49]) الاختلاف في اللفظ ص 225
(نقلا عن موسوعة أهل السنة في نقد الأحباش ومن وافق أصولهم للشيخ عبد الرحمان دمشقية)[/center]
من أعظم بدع العقائد التي طغت على المسلمين بدعة علم الكلام حتى أن الأحباش ليصفونه بأنه أشرف العلوم وأعظمها على الإطلاق ([1]) . لأن علم الكلام عندهم هو التوحيد الذي أمر الله به ([2]) .
أما السلف فلم يكونوا يتطلعون إلى مصادر أخري تزيدهم إيماناً فقد أغناهم الله بكتابه وسنة نبيه وأكمل لهم الدين وأتم عليهم النعمة كما قال { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } .
مواقف عمريه فذة :
ولما فتحت فارس ودخلها المسلمون ، وجدوا فيها كتباً كثيرة . فكتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب ليستأذنه في تنقيلها للمسلمين . فكتب عمر أن اطرحوها في الماء ، فأن يكن فيها هدي فقد هدانا الله بأهدى منها ، وإن تكن ضلالا فقد كفانا الله . فطرحوها في الماء ، وذهبت علوم الفرس منها عن أن تصل إلى المسلمين ([3]) .
الغزو الفكري القديم لا المعاصر فقط
وليت المسلمين مضوا على هذا المنهج . ولو فعلوا لحفظوا عقائد الناس ، ولكن لما فتحت أبواب البدع على مصراعيها وجدت علوم الأمم الأخرى طريقها إلى المسلمين ، ودخل على الأمة غزو فكري منذ القدم وهو علم اليونان بشقيه : الجدلي والصوفي ، فأشربته الأمة واستساغته وصار يطلق على علم الكلام : علم الكلام السني ، وعلي التصوف : الزهد وصار يتخرج مشايخ ومعلمون من الجامعات الإسلامية يتعلمون هذين الأصليين ويعلمونها الناس ، حتى صار هذان العنصران هما السنة ومنكرهما هو المبتدع .
إن الغزو الفكري الذي يحذر منه المصلحون اليوم يكاد ينحصر في المناهج المعاصرة التي درسها الغربيون والتنصيريون في هذا القرن ، ولا يتحدثون عن غزو فكري مازال موجوداً في الأمة منذ ألف ومئتي سنة وهو غزو علم الكلام الذي دخل في علم أصول الأمة ، والتصوف الذي في دخل روحها ، وما زال العديد من المحذرين أنفسهم يسوغون التصوف بالرغم من تحذيرهم من الغزو الفكري المعاصر .
أول متكلمي هذه الأمة
وكان أول متكلمي هذه الأمة صبيغ ، فقد أتي عمر بن الخطاب وأخذ يسأله عن متشابه القرآن فضربه عمر حتى أدمي رأسه ثم نفاه وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد ([4]) ، وهذا موقف آخر من عمر في تحصين الدين من مخلفات الجدل .
كيف دخل علم الكلام إلى هذه الأمة :
وعلم الكلام وريثة أهل المنطق والكلام كأرسطو وأفلاطون وهو كما قال الزبيدي " أكثره احتمال وهمي " ([5]) . استحسنه المأمون وأمر بترجمة كتاب اليونان إلى العربية . فأعجب بها وطلب من ملك الروم شراء مكتبة ضخمة في علم المنطق النصارى .
قال السيوطي " قال صلاح الصفدي في شرح لامية العجم : حكي أن المأمون لما هادن بعض ملوك النصارى – أظنه صاحب جزيرة قبرص – كتب يطلب خزانة كتب اليونان وكانت عندهم مجموعة في بيت لا يظهر عليه أحد . فجمع الملك خواصه من ذوي الرأي واستشارهم في ذلك فكلهم أشار عليه بعدم تجهيزها إليه ، إلا بطراق ( قسيس ) واحد ، فأنه قال : جهزها إليهم ، فما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلا أفسدتها وأوقعت بين علمائها " ([6]) .
وكان المأمون يستخدم النصارى لترجمة علوم المنطق كإسحاق بن حنين وغيره . وجرت بسببه فتن كثيرة كالقول بخلق القرآن ونفي الصفات وأدي ذلك إلى اضطهاد العلماء الذين ثبتوا على السنة وفي طليعتهم الأمام أحمد . وبقيت حركة الترجمة تنشط ، وقواعد علم الكلام ومصطلحاته تتداخل كتب المسلمين ، حتى أفتتن الناس به ، وظهر نتيجة ذلك أناس كجهم بن صفوان وبشر المريسي ، ونفوا صفات الله بحجة أن ظاهرها يوهم تشبيه الله بخلقه .
وأحسن البعض الظن به وظنوه يساعد على مجادلة خصوم الإسلام حتي صارت مادته اليوم توجد في أكثر الكتب عقائد .
زعموا إبراهيم عليه السلام أوصى بعلم الكلام
وأعجب لما يقوله الحافظ ابن عساكر أن الجويني رأى إبراهيم عليه السلام فسأله عن علم الكلام فأثني عليه قائلاً " يدفع به الشبه والأباطيل " ([7]) . والمنامات الدليل الأخير عند انعدام الدليل.
ولكن : إذا كان أوصاه بعلم الكلام فلماذا تاب الجويني منه عند موته وقال " ليتني لم أشتغل بعلم الكلام " ؟
وأعجب من ذلك حين تجد ابن عساكر يطعن على الطاعن في علم الكلام بالجهل أو بالانتماء إلى مذهب فاسد يخشى أن يفضحه أهل الكلام ([8]) . وبمثله قال القشيري الذي تعجب بدوره من قول القائل ليس في القرآن شئ من علم الكلام ([9]) .
ولا زال قوم يعملون على تقريبه حتى أدخلوه في اصل الدين وروج لعلم الكلام جماعة من الزنادقة تستروا بالإسلام وأدخلوا في الدين مخلفات اليونان لإفساده .
ثم ما لبث علم المنطق والكلام أن اختلط في أصول العقيدة الإسلامية حتى صار البعض يطلق على علم الكلام علم التوحيد ويصف أهله " أهل الحق والتوحيد " . وصار يعرف بعلم التوحيد ، حتى قال صاحب الجوهرة " وسمي علم التوحيد لأن مبحث التوحيد أشهر مباحثه ، ويسمي علم الكلام " ([10]) . مع أن السلف عابوه وحذروا من أهل الكلام باعتراف الحبشي ([11]) ، وحرموا الاشتغال به كالشافعي وأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم من أئمة السنة .
السيوطي يحكي الإجماع على ذمه
قال السيوطي لما سئل عن علم الكلام :
الجواب " روينا بإسناد صحيح من طريق المزني أن رجلاً سأله عن شئ من الكلام فقال إني أكره هذا بل أنهي عنه كما نهي عنه الشافعي ، فلقد سمعت الشافعي يقول : سئل مالك عن الكلام والتوحيد فقال مالك " محال أن نظن بالنبي صلي الله عليه وسلم أنه علم أمته الاستنجاء ولم يعلمهم التوحيد ، والتوحيد ما قاله النبي صلي الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " فما عصم به الدم والمال هو حقيقة التوحيد " . قال السيوطي " هذا جواب مالك عن هذا السؤال وبه أجبت " .
وأعترف المرتضي الزبيدي بذم السيوطي لعلم الكلام ([12]) . وحكي عن الحافظ ابن عبد البر أنه قال " الكلام في الدين أكرهه وأنهي عنه ، ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه " ([13]) .
وصدرت لابن الصلاح فتوى في مقدمة كتابه علوم الحديث بتحريم الاشتغال بعلم الكلام .
وكذلك كتب الإمام موفق الدين المقدسي صاحب ( المغني ) رسالة " تحريم النظر في كتب الكلام .
وللإمام الخطابي كتاب الغنية عن الكلام وأهله ، وصف فيه مقالات المتكلمين بأنها سريعة التهافت كثيرة التناقض . ([14])
موقف الأئمة الأربعة من علم الكلام
* قال الشافعي للربيع " لا تشتغل بالكلام فإني اطلعت من أهل الكلام على التعطيل " وقال " لو رأيت رجلاً من أهل الكلام يمشي على الماء فلا تركن إليه " ([15])
وحكي الزبيدي أن الشافعي كان ينهي عن الاشتغال بعلم الكلام ويأمر بالاشتغال في الفقه ([16]). وحكي السبكي أن أبا بكر الشاشي كان يعيب على أهل الكلام كثرة خوضهم في الله وصفاته ([17]) .
وقال الشافعي " لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه فرارهم من الأسد"([18]) .
القدرية والجبرية ثمرة علم الكلام
*وهذا النص يرد على من زعم ذم الشافعي إنما هو موجة للقدرية المعتزلة الذين كانوا ينفون القدر ، حيث أطلق الذم ولم يقيده بالقدر دون تأويل الصفات . ويؤكده ما رواه أشهب بن عبد العزيز عن الإمام مالك أنه قال " إياكم وأهل البدع ، قالوا : ما البدع ؟ قال : أهل البدع الذين يتكلمون في أسمائه وصفاته وكلامه وقدرته ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة "([19]) .
* والأشاعرة لم يسكتوا عما سكت عنه السلف ، بل تكلموا بالجوهر والعرض والكسب والكلام النفساني والجزء الذي لا يتجزأ ومتعلقات الصفات وتأويلاتها . وخاضوا في القدر فقالوا بالجبر في مقابل المعتزلة القدرية . وأن العبد لا مشيئة له فيما يفعل عندهم ألا في أنه يكسب الفعل من الله فقط . فالمعتزلة يمثلون الإفراط والأشاعرة يمثلون التفريط وهما نتيجة علم الكلام .
* وقد شهد الجويني على الأشعري مخالفته للحق في مسألة كسب العبد وأضطر هو والباقلاني وجماعة من الأشاعرة إلى مخالفته .
والتعطيل واحد نتائج علم الكلام . ويؤكد ذلك قول الشافعي لمحمد بن الحكم " يا محمد إن سألك رجل عن شئ " من الكلام فلا تجيبه " وقوله " لا أحب أن ينسب إلى منه شئ " ([20]) . غير أن الحبشي ينسب علم الكلام إلى الشافعي ، وهو خلاف وصيته وخلاف ما حكاه الزبيدي أن الشافعي كان ينهي عن الاشتغال بعلم الكلام ويأمر بالاشتغال في الفقه([21]) .
* وقال " حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد ، ويحملوا على الإبل ، ويطاف بهم في العشائر والقبائل ، وينادي عليهم : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام " ([22])
* واحتج بقول مالك في الرد على أهل الكلام فقال " محال أن نظن بالنبي صلي الله عليه وسلم أنه علم أمته الاستنجاء ، ولم يعلمهم التوحيد " ([23]) .
* وكان مالك يقول " أوكلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد بالنبي صلي الله عليه وسلم لجدله "([24])
* وذكر البخاري عن ابي الزناد أنه قال " لا يقيم ( المجادلون على أمر – وأن أعجبهم – إلا نقلهم الجدل إلى أمر سواه ، فهم كل يوم في شبهه جديدة ودين ضلال )([25]) .
* ولهذا لم يكن السلف يناظرون أهل البدع على طريقة أهل البدع بل كانوا يفحمونهم بكتاب الله وسنة رسوله بالنبي صلي الله عليه وسلم . ولما قيل لعبد الرحمن بن مهدي " إن فلاناً صنف كتباً يرد فيها على المبتدعة . قال : بأي شئ : بالكتاب والسنة ؟ قالوا : لا ولكن بعلم المعقول والنظر فقال : أخطأ السنة . ورد بدعة ببدعة " ([26])
فيا من تفخرون بأنكم تنافحون عن الدين إليكم ما قاله أحمد بن حنبل " لا تجالسوا أهل الكلام وأن ذبوا عن السنة " ([27]) . فلا يغرنكم من يسمي علم الكلام " علم التوحيد " أو علم الكلام السني .
* وقال أبو حنيفة " أني وجدت أهل الكلام قاسية قلوبهم ، غليظة أفئدتهم، لا يبالون مخالفة الكتاب والسنة ، وليس عندهم ورع ولا تقوى" ([28]) . وهذا مطابق لقول الشافعي " المراء في الدين يقسي القلب " ([29]) .
* وصدق فيما قال ، فإن علم الكلام يخالف الكتاب والسنة في طريقة عرض مسائل العقدية ، حين يعرضونها في قالب فلسفي جدلي يحوطه التعقيد والجفاف والتخطيط بطريقة غريبة على الإسلام وطبيعته المتميزة التي يفهمها العالم والعامي ، تكثر فيه الإيرادات والردود عليها ويندر فيها كلام الله وكلام رسوله بالنبي صلي الله عليه وسلم وهذا ما جعل المخضرمين من المتكلمين ينتهون إلى الطريق إلى المعرفة مسدودة من هذا الوجه .
وقال السبكي " وليس على العقائد أضر من شيئين :
علم الكلام والحكمة اليونانية " ([30]) . وقال بتفصيل طريقة أهل الحديث على طريقة المتكلمين المستدلين بالجوهر والعرض وحدوث العالم " لأن أهل الحديث أقرب إلى الحق ، والشكوك التي ترد عليهم أقل".
ولو علم الله في علوم ( الجوهر والعرض ) نفعاً لأوحي بشيء منها إلى نبيه صلي الله عليه وسلم ولكن : علم الله أن تنزيهه لا يتحقق بها : بل هي التي علمت الناس سلب ما وصف به نفسه وآلت بأصحابها إلى الشك والحيرة وجرأتهم على الله وصفاته ووحيه .
وما أدل على ذلك من قول الرازي حين أستعرض أقوال المعتزلة والأشاعرة حول مسألة التحسين والتقبيح العقليين : " وأعلم أن هذه المذاهب ظهر في كل واحد منها من المدائح والقبائح ، فعند هذا قال أصحاب الحيرة والدهشة : أن هذه الدلائل ما بلغت في الوضوح والقوة إلى حيث تزيل الشك وتملأ بقوتها ونورها : العقل : بل كل واحد منها يتوجه فيه نوع غموض " ([31]).
* وقال في غياث المفتي " رأيت بخط شمس الأئمة الحلواني عن أبي يوسف رحمة الله أنه لا تجوز الصلاة خلف المتكلم " ([32])
* وسئل أبو حنيفة : ما تقول فيما أحدثه الناس من الكلام في الأعراض والأجسام ؟ فقال : مقالات الفلاسفة ، عليك بالأثر وطريقة السلف وإياك وكل محدثة فإنها بدعة ([33]) . وكان أبو حنيفة يلعن عمرو بن عبيد الذي ابتدع بدعة الكلام ([34]).
وهناك روايات تفيد بأن أبا حنيفة رحمة الله خاض في أول الأمر في علم الكلام غير أنه رجع عنه كما قال قبيصة بن عقبة " كان الأمام أبو حنيفة رحمة الله في أول أمره يجادل أهل الأهواء حتى صار رأساً في ذلك ثم ترك الجدل ورجع إلى الفقه والسنة وصار إماماً " ([35]) وفي رواية أن أبا حنيفة قال " لا حاجة لي في علم الكلام "([36])
ثم صار ينهي الناس عنه حتى قال لابنه حماد " يا حماد دع الكلام " ([37]) . وقال البزدوي " ونحن نتبع أبا حنيفة فإنه إمامنا ... وإنه كان يجوز تعليمه وتعلمه والتصنيف فيه ولكن في أخر عمره امتنع عن المناظرة فيه ونهي أصحابه عن المناظرة فيه "([38])
وسأل رجل الحسن بن زياد الؤلؤي عن زفر بن الهذيل : أكان ينظر في الكلام ؟ فقال : سبحان الله ما أحمقك ، ما أدركت مشيختنا زفر وأبا يوسف وأبا حنيفة ومن جالسنا وأخذنا عنهم يهمهم غير الفقه والإقتداء بمن تقدمهم " ([39]) .
فكيف يدعي الحبشي أن الماتريدي المخالف لشيخه أبي حنيفة كان إمام أهل السنة والجماعة وكتبة مشحونة بالفلسفة وعلم الكلام وقد رأيت نهي شيخه عن علم الكلام ؟! .
قال مالك " لا تجوز شهادة أهل البدع " وذكر حافظ المغرب وفقيهها ابن عبد البر بسنده عن فقيه المالكية أبي بكر بن خويزمنداد ([40]) أنه قال معلقاً على قول مالك " لا يجوز شهادة أهل البدع والأهواء ) قال " أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعرياً كان أو غير أشعري ولا تقبل شهادة له في الإسلام أبداً ، ويهجر ويؤدب على بدعته "([41]) وهذا أكبر دليل على أنهم كانوا يرون مذهب الأشعرية مذهب بدعة وعلم كلام كمذهب المعتزلة . وقد أستحسن هذا الكلام السيوطي وابن عبد البر والموفق المقدسي .
_ وتحدث ( التفتازاني ) عن اختلاط علم الكلام بالفلسفة فقال " لما نقلت الفلسفة إلى العربية وخاض
فيها الإسلاميون ، حاولوا الرد على على الفلاسفة فيما خالفوا به الشريعة فخلطوا بالكلام كثيراً من الفلسفة حتى كاد لا يتميز عن الفلسفة لولا اشتماله على السمعيات "([42]) .
وذكر بن خلدون أيضاً أن علم الكلام اختلط بعلم الفلسفة حتى كاد لا يتميز أحدهما على الآخر([43]).
ويحدثنا الشهرستاني أن المعتزلة أول من خلط علم الكلام بالفلسفة ([44]) . وهذا مما يسجل على الأشاعرة أنهم تلقوا أصول منهجهم وقواعده عن المعتزلة.
وقال أبو طالب المكي " ثم ظهرت بعد سنة ومائتين مصنفات الكلام وكتب المتكلمين بالرأي والهوى والمعقول والقياس " ([45]) .
وكان إبراهيم الحربي يقول " وأحرج على من كان من أهل الكلام والجدال أن يحضر مجلسي أو يسألني عن شئ فأنه لا علم لي بالكلام ولا أقول به لو عرفته ما حدثته " ([46])
وأعتبر ابن الجوزي أن أساس البدع دخلت على الأمة من طريقين .
1) الفلسفة : التي عكف عليها خلق من العلماء لم يقنعوا بما قنع به رسول الله بالنبي صلي الله عليه وسلم حتي خاضوا في الكلام الذي حملهم على مذاهب ردية أفسدوا بها العقائد .
2) الرهبنة : حيث أخذ خلق من المتزهدين عن الرهبان طريق التقشف"([47]) ويعني بهم الصوفية .
وقال أبو محمد ابن قتيبة الدينوري في كتاب تأويل مختلف الحديث " لقد تدبرت مقالة أهل الكلام فوجدتهم يقولون على الله ما لا يعلمون ، ويفتنون الناس بما يأتون ، يتهمون غيرهم في النقل (أي استدلالهم بالنصوص) ولا يتهمون آراءهم في التأويل ([48]) .
وقال " الكلام ليس من شأننا ولا أري أكثر من هلك إلا به " ([49])
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) مجلة منار " الهدي " 22 / 29 .
([2]) صريح البيان 11 طبعة مجلدة
([3]) مقدمة بن خلدون 480
([4]) الاصابة 5 : 167 الشريعة للآجري 73 الدرامي 146 الاتقان 2 : 4 .
([5]) اتحاف السادة المتقين 2 / 51 .
([6]) صوت المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام ص 9
([7]) تبيين كذب المفتري ص 356 .
([8]) تبين كذب المفتري 359 .
([9]) شكايه أهل السنة بحكاية ما جري لهم من المنحة 47 .
([10]) جوهرة التوحيد 21 .
([11]) إظهار العقيدة السنية 63 ، 80 .
([12]) الحاوي للفتاوي 2 / 129 اتحاف السداة المتقين 1 / 177 سير أعلام النبلاء 10 / 36 .
([13]) جامع بيان العلم وفضله 2 / 95 .
([14]) سير أعلام النبلاء 17 : 36 وصون المنطق للسيوطي 91 – 99 .
([15]) سير أعلام النبلاء 10 / 28 صون المنطق والكلام 64 .
([16]) اتحاف السادة المتقين 2 / 11 .
([17]) فتاوي السبكي 2 / 578
([18]) حلية الأولياء 9 / 111 سير أعلام النبلاء 10 / 16 .
([19]) ذكره البغوي في شرح السنة 1 / 217 والصابوني في عقيدة السلف وأصحاب الحديث 51 .
([20]) سير أعلام النبلاء 10 / 28 و 31 .
([21]) اتحاف السادة المتقين 2 / 11 .
([22]) سير ألاعلام 10 / 29 صون المنطق 65 الحلية لأبي نعيم 9 / 0116 ومناقب الشافعي للبيهقي 1 / 462 .
([23]) سير أعلام النبلاء 10 / 26 .
([24]) سير أعلام النبلاء 8 / 99 حلية الأولياء 6 / 324 .
([25]) رواة البخاري في خلق أفعال العباد 89 .
([26]) صون المنطق 131 للسيوطي
([27]) رواه بن الجوزي في مناقب أحمد ص 205 .
([28]) سير أعلام النبلاء 6 / 399 مفتاح دار السعادة 2 : 136 .
([29]) رواه أبو نعيم في الحلية 9 / 111 .
([30]) مقدمة السيف الصقيل ص 12 وذكرها المرتضي الزبيدي في شرح الأحياء 2 / 10 .
([31]) المطالب العالمية 4 / 426 .
([32]) مفتاح دار السعادة 2 / 137 .
([33]) رواه السيوطي في صون المنطق والكلام 32 وتبييض الصحيفة في مناقب أبي حنيفة 324 .
([34]) صوت المنطق والكلام 30 .
([35]) عقود الجمان 161 مناقب أبي حنيفة للمكي 53 وللكردي 137 .
([36]) تاريخ بغداد للخيب البغدادي 13 / 333 .
([37]) مناقب أبي حنيفة للمكي 183 .
([38]) أصول البزدوي ص 4 .
([39]) صون المنطق والكلام 136 عن الحسن بن زياد اللؤلؤي .
([40]) هو محمد بن أحمد ( 390 هـ ) كان متمسكاً بالسنة شديداً على أهل البدع ( أنظر ترتيب المدارك 7 / 77 والديباج المذهب 2 / 229 والوافي بالوفيات 2 / 52 .
([41]) جامع بيان العلم وفضله 2 : 96 صون المنطق والكلام للسيوطي 137 مفتاح السعادة 2 : 137 وأحتج به الموفق المقدسي في رسالته (تحريم النظر في علم الكلام ص 42 بتحقيقي ) وقد حذف طاش كبري زادة من النص ما يتعلق بالأشاعرة .
([42]) شرح العقائد النسفيه 8 .
([43]) مقدمة بن خلدون 466 .
([44]) الملل والنحل 1 /32 .
([45]) قوت القلوب 2 /37 صون المنطق السيوطي 127 .
([46]) صون المنطق والكلام 131 .
([47]) صيد الخاطر 266.
([48]) تأويل مختلف الحديث 12 وأنظر 43 .
([49]) الاختلاف في اللفظ ص 225