أبومحمد17
2016-02-11, 12:52
العقيدة بين التفعيل الايجابي و سلبيات مسائل الهوية
الحمد لله وحده، و الصلاة و السلام على من لا نبيَّ بعده.
لقد طبع علم الكلام ~ طيلة قرون طويلة ~ العقيدة الإسلامية بمباحثه وجدله فعقَّد البسيط وطوَّل القصير؛ و اختلف الناس في سبب ظهوره، فبعضهم ~ كان ولا يزال ~ يرى أنه لا سبب لوجوده إلا قطع الطريق على النص و التحايل في الالتفاف عليه ؟
وهذا و إن انطبق على بعض المتكلمين،أو في حالات مخصوصة لا ينطبق على كل المتكلمين، وفي جميع القضايا العلمية ،و أظن أن سبب ظهوره طبيعي، يعني: هو نتيجة اتصال العرب بأعراق و حضارات أخرى ،فالأفكار تسافر مع الناس، لكن تمدده عند فئة من المعتزلة وبعد ذلك عند الأشاعرة هو لملء فراغ و شرخ سببه احتكاك العرب مع الوافدين الجدد، فمن طبيعة المجتمعات في طور النشوء الحضاري أن تظهر فيها العلوم و تتفاعل بينها الأفكار.
وكما هو حاصل اليوم ~ وفي كل وقت ~ تستقر الأفكار الجديدة أولا عند نخبة تكون في العادة ذات خبرة تحتاجها الدولة فتمكنهم من مؤسساتها، ومنها ينشرون فكرهم، إضافةً إلى عامل الطوائف المخالفة التي في حاجتها إلى القوة و الدفاع عن مصالحها تقوم ببلورة المذاهب كما فعل الشيعة لم يكن لهم علم كلام ولا فقه خاص بهم فاضطروا لتقوية مذهبهم إلى استلاف مذهب المعتزلة و التحوُّل من التجسيم إلى التأويل في زمن ابن أبي الحديد ،و بعد ذلك و تحت هيمنة ابن سينا و تلامذته كالطوسي تحوَّلوا إلى الفلسفة المحضة ممزوجة بإشراق السهروردي.
وهكذا بدأت اللغة العلمية في التغير، ولم يشعر بها أهل الحديث كما يجب فكان تجاوبهم مع الوضع الجديد فيه تدرج [قد فصَّلنا الأسباب المعرفية في مقال " حكم العلوم الدقيقة"] فأولا استعملوا إستراتجية الإهمال: " رفض الرد و المناظرة و المقاطعة التامة " .
ومنهم ~ كالإمام أحمد و غيره ~ من رفض كتابة العلم إلا الحديث؛ جاء في " مسائل ابن هانئ"{164/2}:" .. لا يعجبني شيء من وضع الكتب و من وضع شيئا من الكتب فهو مبتدع"، و ".... كتاب مالك و الشافعي أحب إليك؟ أو كتب أبي حنيفة و أبي يوسف؟ فقال: الشافعي أعجب إلي، هذا و إن كان وضع كتابا، فهؤلاء يفتون بالحديث، وهذا يفتي بالرأي، فكم بين هذين ؟"
فقوله :"هذا و إن كان و ضع كتابا" يفيد كراهته لوضع الكتب و لكن يعجبه منها ما كان من تأليف أهل الحديث، أو ما كان في فقه الحديث و علومه.
و قال:" سألت أبا عبد الله عن كتب أبي ثور ؟ فقال: كل كتاب ابتدع فهو بدعة "
قال الميموني:" ذاكرت أبا عبد الله خطأ الناس في العلم، فقال:" و أي الناس لا يخطئ؟ ولا سيما من وضع الكتب، فهو أكثر خطأ"{الطرق الحكمية:ص:267}.
توجيه هذه النقول ، وهذا الموقف مع موقف الأئمة الذين كتبوها فصلته في بحث قديم بعنوان" كيف نعامل المخالف".
ثم لما لم تنفع هذه الخطة و كان مردودها ضعيفا، لم يمنع العقائد الجديدة من الانتشار انتقلوا إلى الرد بالكتابة و المناظرة، وكانوا أولا لا يرون المناظرة إلا أمام السلطان لاجتناب التشغيب و تثبيت العقوبة على المتعمد،فأدوا ما عليهم، و حافظوا على أصالة العقيدة بلغتها الأولى ، وكانوا رمانة الميزان التي تشير إلى مدى الابتعاد أو الاقتراب من النص.
وفي ظني شدة تمسكهم بالعبارات الواردة، و ميل جمهورهم إلى رفض الكلام في العلوم الدقيقة دون التفريق بين القادر عليها و الضعيف فيها، وبين من يحتاج أن يخاطب بها ومن لا يحتاج من المسلمين هو السبب الرئيس في ظهور الكلام السني.
و أَّثَّر عليهم علم الكلام فأحدث فيهم بعض الشروخ و النزاعات، فإنه دفعهم إلى الخوض في مسائل لم تتناولها النصوص، و اضطروا إلى الاستنباط و الاستخراج و البحث في اللوازم فحدثت فيهم فتنة " اللفظ" لعدة قرون ، و اختلفوا حول بعض المصطلحات كـ " الحد" ، و " الحركة"؛ و قد أشار ابن تيمية بلغته المتزنة إلى هذا في كتبه كـ " بيان تلبيس الجهمية" عندما وقف عند مشكلة المصطلحات المتجددة و حكمها، وما عناه هو شخصيا عندما قال : (ولم يقل أحد من أئمة السنة:إن السني هو الذي لا يتكلم إلا بالألفاظ الواردة التي لا يفهم معناها، بل من فهم معاني النصوص فهو أحق بالسنة ممن لم يفهمها، ومن دفع ما يقوله المبطلون مما يعارض تلك المعاني، وبين أن معاني النصوص تستلزم نفي تلك الأمور المعارضة لها فهو أحق بالسنة من غيره.) بيان تلبيس الجهمية {445/1 }.
وواضح من نفسه أن هذا الكلام موجه لأهل الحديث فهم من اتخذ موقف المقاطعة مع المصطلحات المتجددة.
المهم اصطدم ابن تيمية بمشكلة المصطلحات مع المتكلمين ومع المحدثين على حد سواء، مع المتكلمين رفض القول المشهور " لا مشاحة في الاصطلاح" فلم يسلم لهم بها إلا بعد اعتبار مدلولاتها بالكتاب و السنة.
ومع المحدثين حاول أن يفهمهم أنه قد تجددت الألفاظ بعد عهد السلف بحكم تجدد المسائل، و أنها بمنزلة تنوع اللغات و تركيب الألفاظ المفردات، و أن رفضها لأجل أنها جديدة لا معنى له ،ولا أصل شرعي له، بل يجب أن ترفض إذا خالفت مدلولات الكتاب و السنة و ليس لأنها مستحدثة ، و أنه لا يحرم رد الباطل بعبارة مطابقة له ، و أن الكتاب و السنة يدل بالإخبار تارة، ويدل بالتنبيه تارة، و الإرشاد و البيان للأدلة العقلية تارة. المنهاج 2/110.
ومع ذلك لا يزال السلفيون ~ الذين لم يفهموا أن ابن تيمية هو التطور الطبيعي أو التجاوب الفعلي لأهل الحديث مع الأوضاع المعرفية المستجدة من غير أن يلزم عن هذا تقليده حرفيا ~ يعانون من هذه العُقدة و يُشغِّبون على العلماء و طلبة العلم؟
و لعله من المفيد في هذا الباب الاطلاع على رسالة الأشعري ~ رحمه الله ~ " استحسان الخوض في علم الكلام "، وقد سبق و فصَّلتُ موقف ابن تيمية من المسألة في مقالي المطول " مسارح النظر و مطارح الفكر"، و كذلك في" حكم المصطلحات المتجددة"، " حكم العلوم الدقيقة".
فمن المشاكل المعرفية العويصة التي يعاني منها المسلمون المعاصرون مشكلة اختلاف المصطلح العلمي أو المصطلحية، خاصة و أن صياغة هذا العلم لا يشارك فيها أهل علوم الوحي .
المهم، ومع ذلك فقد كان لعلم الكلام بعض الايجابيات، إما في جهد المتكلمين في مواجهة الإلحاد الفلسفي و الديانات الأخرى، و إما ~ و هذا أثر ارتدادي غير مقصود ~ في مساهمته في تكوين المتكلمين السنة على شاكلة ابن كلاب ،و الأشعري و الباقلاني و ابن تيمية، فإن تكوين هذا الأخير الحديثي أولا ثم الكلامي ثانيا هما السبب المعرفي المباشر في قوة نقده للفلسفة، فليس من المنطق الصحيح أن نقول: إنه طفرة، أو خرج من لا شيء، بل استعان كثيرا بما كتبه المتكلمون في تصور القضايا الفسلفية و الانطلاق بعد ذلك في النقد المنهجي، فمن الصعب جدا على الباحث أن ينطلق في نقد النظريات و بناء أخرى مناقضة لها من لا شيء بدون أن تكون لديه قاعدة يشرف منها على الأقوال المختلفة، و بعد ذلك يشق طريقه الخاص به، و يعود على القاعدة بالنقد و التصحيح.
و أنا أذكر أنه بدأ مسألة خطيرة مثل نقد "نظرية الصدور" بنقد ابن ملكا لها، فهو من أقوى الردود على ابن سينا، ولم يكن ابن تيمية يُعاني من عقدة نقص مثل كثير منَّا يخشى الاستشهاد بمتكلم أو فيلسوف فيما هو حق ، حتى إنك تجد التسطيح عند بعض طلبة العلم ~ في مواقع الكترونية سلفية مشهورة ~ ينتقدون كتابا لأنه أورد فيه أسماء بعض المفكرين الغربيين، ويحكمون لأجل هذا أنه متأثر بمدارس الفكر الغربية !
وكان ميزانه دائما يميل لصالح المتكلمين عند مقارنتهم بالفلاسفة، ولم يجعلهم في كفة واحدة كما يصنع جمهور السلفيين المعاصرين، بل كان يفضل بعضهم على بعض الحنابلة ، و يفاضل بينهم، و يعلم أنهم ليسوا سواء لا في القصد ولا في العلم ، و يجعلهم طبقات فيجعل بعضهم مباشرة بعد طبقة أئمة السنة كمالك و الشافعي و أحمد، قال: ( ومعلوم أن طريقة أئمة الصوفية وأئمة الفقهاء أكمل من طريقة أبي القاسم القشيري ،ومن طريقة أبي طالب والحارث، ومن طريقة أبي المعالي وأمثاله، وأولئك الأئمة كانوا أعلم بطريقة الصحابة وأتبع لها من أتباعهم فالقاضي أبو بكر الباقلاني وأمثاله أعلم بالأصول والسُّنَّة وأتبع لها من أبي المعالي وأمثاله، والأشعري والقلانسي ونحوهما أعلى طبقة في ذلك من القاضي أبي بكر ،وعبد الله بن سعيد بن كلاب، والحارث المحاسبي أعلى طبقة في ذلك من هؤلاء ،ومالك، والأوزاعي، وحماد بن زيد، والليث بن سعد وأمثالهم أعلى طبقة من هؤلاء، والتابعون أعلى من هؤلاء، والصحابة أعلى من التابعين.) الأصفهانية،1/129.
المهم، الاستعانة بالغزالي و ابن حزم و متكلمة أهل السنة واضح في كتبه، وقد يستعين بفيلسوف كابن رشد في الرد على ابن سينا في مسائل النفس وغيرها، و لعل أبلغ أعماله " نقض المنطق" استأنف فيها موقف النظار المسلمين و طوَّره ليصبح نقدا كاملا ، و هذا واضح فإن الخروج المعرفي من فراغ ممتنع ،لمن أراد أن يفهم .
وقد يُفضِّل آخر أن يقول: لقد اعتمد على الصحيح من علم الكلام، و لأني أقصد الوصول إلى قضية أخرى فلن أناقش هنا هذا الجواب، فلعلي أعود إليه في مناسبة أخرى، وهي أهمية علم الكلام السني في مواجهة ظاهرة الإلحاد المادي المعاصر.
و الذي يعنينا ~ هنا ~ بالدرجة الأولى أن علم الكلام انحرف عن القصد الأول، وهو: "الجدال عن العقيدة النصية بالأدلة العقلية" إلى استحداث عقيدة سلبية تقوم على النفي أو التوقف المسمى اصطلاحا " التفويض"، وهو ~ كما طوَّره المتكلمون للتفريق بين التفويض لعدم العلم و التفويض المنهجي ~ نفي مقنع أو غير مباشر ، فبدلا من الاهتمام بما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه و سلم، يعني: الحديث عن الله عز وجل بالحديث عن أوصافه ، و التعريف به بالنص انحرف إلى الحديث عن كل ما ليس هو الله، أو ما ليس عليه الله، بما يمكن أن نسميه "علم الكلام السلبي" المبني على النفي و السلب، لا على الإثبات ، وهو ما يُسمى بـ السلوبية " L’apophatisme "
هذه السلوبية عبارة عن مقاربة فلسفية مبنية على النفي،وهي عقيدة مناقضة للقرآن الذي جاء بالإثبات الوصفي، ولم يستعمل النفي " السلب" إلا لخدمة الإثبات فلقد بيَّن القرآن أنه يجوز الإخبار عن الله تعالى بالسلوب التي تتضمن ثبوتا كما في قوله تعالى:{ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ }،فإنه يتضمن إثبات كمال حياة الله و قيوميته.
وكذلك قوله تعالى:{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ } يتضمن إثبات كمال قدرته،لأن نفي مس اللغوب الذي هو التعب والإعياء يدل على كمال القدرة ونهاية القوة، بخلاف المخلوق الذي يلحقه من التعب والكلال ما يلحقه.
وقوله تعالى:{ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ } يتضمن إثبات كمال علمه و إحاطته بأقل الأشياء وهي الذرة .
وقوله تعالى:{ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} يتضمن إثبات كمال صمديته،وغناه عن خلقه.
وكذلك قوله :{ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} يتضمن إثبات تفرده بكماله، و أنه لا نظير له،وهذا مطرد في كل سلب ورد في حقه في القرآن أو السنة،لا ينفي شيئا عنه إلا ليثبت ما يحمد به، و يثنى به عليه، و يمجد به من الصفات.
ومن المعلوم لدى كافة المسلمين أن النبي صلى الله عليه و سلم و الصحابة و التابعين و أئمة السلف لم يكونوا يعظمون الله تعالى بشيء من هذه السلوب،بل لم يثبت عنهم إلا طريقة الإثبات المفصل و السلب المجمل.
المهم، أنه لا يوصف بصفة سلب إن لم تتضمن معنى ثبوتيا،فكل صفة سلبية لا تتضمن ثبوتا فلا يوصف بها إلا المعدوم.
وكل صفة تصلح للمعدوم المحض فإنها لا تصلح أن يوصف بها الله تعالى، لأنها حينئذ صفة لا مدح فيها بحال،إذ المعدوم المحض لا يمدحه عاقل،وما لا يكون فيه مدح، فإن الله لا يوصف به،فله الأسماء الحسنى و المثل الأعلى.
ومعلوم ~ أيضا ~ أن السلوب لا نهاية لها ،ومهما كثرت لم يزداد الموصوف بها تميّزا،فعندما يقولون : " إن الله واحد ليس كمثله شيء، و ليس بجسم، ولا شبح، ولا جثة، ولا صورة، ولا شخص، ولا جوهر، ولا عرض، ولا بذي لون، ولا طعم ولا رائحة، ولا مجسة،ولا بذي حرارة، ولا برودة، ولا رطوبة ،ولا يبوسة ، ولا طول، ولا عرض، ولا عمق، ولا اجتماع، ولا افتراق، ولا يتحرك، ولا يسكن، ولا يتبعض، و ليس بذي أبعاض و أجزاء، و ليس بذي جهات، لا يمين، ولا شمال، و أمام، و خلف، و فوق، و تحت، ولا يحيط به مكان، ولا يجري عليه زمان، ولا تجوز عليه المماسة، ولا العزلة، ولا الحلول في الأماكن، ولا يوصف بأنه متناه، ولا يوصف بمساحة، ولا ذهاب في الجهات، و ليس بمحدود، ولا تحيط به الأقدار، ولا تحجبه الأستار، ولا تدركه الحواس، وكل ما يخطر بالبال و تصور بالوهم فغير مشبه له،لا تراه العيون، ولا تدركه الأبصار، ولا تحيط به الأوهام، ولا يسمع بالأسماع، شيء لا كالأشياء"
يلزمهم أنه معدوم، إذ هذه صفات العدم المحض؟
ومعلوم أننا لو زدنا على هذه السلوب آلاف السلوب الأخرى لما ازداد إلا غموضا، و ازددنا جهلا به، فكل هذه السلوب و آلاف أخرى لا يعرف بها المؤمن ربه، لأنه لم يعرف صفاته التي يحمد بها و يمجد، وهي الصفات الثبوتية التي تعيّن و تميّز وجوده عن غيره.
[ تجد هذه المسألة مفصلة في مقالي " الموقف الشرعي من طريقة السلوب و أحكام الوهم و الخيال"
كذلك وجدناه سبحانه في القرآن يُعرف نفسه ، يتكلَّم عنها بـ " أنا"و،"هو"،كما في قوله تعالى: { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}[طه]، و قوله:{ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[النمل]، و قوله:{ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[القصص].
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الحشر]. فأجرى كل الأسماء صفات لاسم الجلالة.
{ لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [الزمر]}،{ قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }، { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}،{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ }.
فالقرآن يخبر من هو الله من خلال صفات ثبوتية ،وفي السلوبية لا نتحدث إلا عما ليس هو .
تعمل هذه الطريقة الفلسفية بطريقين :
الأول: بالنفي وهما ما نُسميه "السلوب".
الثاني: بالحذف، حذف الصفات الثبوتية الذي جاء نتيجة لعملية الطرح و التقليص في التعريف المنطقي.
لقد بدأت السلوبية كعقيدة دينية عند المسيحيين في القرن الثاني، عند المدعو كليمان الاسكندراني [Clément d'Alexandrie] لكن جذورها تعود إلى الفلسفة القديمة إلى دينوسيوس المسيحي الذي استلفها من [Damascios] وهو فيلسوف من الأفلاطونية المحدثة كان معاديا للمسيحية، وهذا يذكرنا بـ"الذرية" التي نشأت عند الإغريق كفلسفة مادية إلحادية وتحوَّلت عند بعض المسلمين إلى أدلة إثبات وجود الله.
كما نجدها في فلسفات الشرق الأقصى في البوذية و الطاوية و الهندوسية، انتقلت إلى الإسلام عن طريق المعتزلة ،نقل الأشعري في(المقالات){43/1} هذا القول عن ضرار بن عمرو، قال:
(( قال ضرار بن عمرو:معنى أن الله عالم أنه ليس بجاهل، ومعنى أنه قادر أنه ليس بعاجز، ومعنى أنه حي أنه ليس بميت.
وقال النظام: معنى قولي "عالم" إثبات ذاته ونفي الجهل عنه، ومعنى قولي "قادر" إثبات ذاته ونفي العجز عنه، ومعنى قولي "حي" إثبات ذاته ونفي الموت عنه، وكذلك قوله في سائر صفات الذات على هذا الترتيب)).
نقل ابن حجر في ( الفتح){13/164} كتاب الإيمان عن بعض المحققين، ولم يسمه، مقرا له أنه قال: (( الحقائق الإلهية لا تعرف إلا بطريق السلب كما في العلم لا يدرك منه إلا أنه ليس بجاهل))؟
وفي الحقيقة لم يفهم بعض الأفاضل طريقة السلوب على حقيقتها وبعدها الفلسفي و استهوتهم العبارات الجميلة فحقيقة السلوبية أن كل فكرة نكوِّنها عن الإله تجد نفسها مشلولة في عدم كفاءتها في تحديد ما لا حد له، يعني: أن العجز عن الإحاطة بالكل يوجب حتما إنكار وجود الجزء،أو بتعبير أدق: عدم إدراك الكيفية يوجب نفي العلم بأجزائها، فإذا لم نعرف كيفية الله فالواجب أننا لا نعرف صفاته؟
فمثلا إذا جئنا إلى الإثبات التالي " الله موجود" فلا يمكن في السلوبية تصور معناه تماماً كما لو قلنا : "الله عليم" لأن التعبير عن التعالي يمكن فقط بقضايا سلبية، و باللجوء إلى الحذف، وفي نهاية المطاف بالصمت " التوقف الذي يسميه المسلمون " التفويض"
يعني أن السلوبية مرحلة تأتي ما بعد التأويلية تنتهي عند أقطاب الفلسفة وعلم الكلام و التصوف بالتوقف " الواقفية أو التفويض"، لأنه بالنسبة إليهم حتى القضية ذات المظهر السلبي هي ثبوتية بالنسبة للمطلق " الخالي من الوصف ، أو اللا موصوف" الذي لا يمكن أن نثبت له شيئا، فقولنا: " الله غير جاهل" هو في النهاية إثبات ايجابي تماماً كقولنا: " الله عليم" ما دام الله ليس بعليم ولا لا عليم؟
لماذا ينتهون إلى إنكار السلب هو الآخر كما أنكروا الإثبات ؟
لأن السلب عند المناطقة المتفلسفة المتكلمة هو نفي معنى زائد على نفسه،أو نفي المادة عنه، أو نفي الغيبة عنه،وكل سلب خاص لا يتضمن سلبا عاما،و السلب إنما يتضمن غيره إذا كان أعم منه.
قال ابن سينا في( منطق الإشارات):
(( السلوب لوازم للأشياء بالقياس إلى اعتبار معان ليست لها،فإن غير الناطق أمر يعقل باعتبار الناطق))
أي:لا يعقل السلب إلا بعد أن يعقل الإثبات،فهو فرع على الإثبات،أو هو درجة ثانية من الإثبات كما سأبينه لاحقا،فمن لم يعقل العلم و القدرة لا يعقل الجهل و العجز.
و السلوب عند ابن سينا لا تصح إلا عن المعدومات،وذلك لأن إيجاب المعاني الموجودة لها يكذب عليها إلا بشرط وحال،فقولنا: "الحجر صحيح، و الحجر ليس بصحيح"، الصدق هو السالب منهما،فإثبات الصحة المضادة للمرض للحجر كاذب، بينما نفيها عنه صادق،وهذا ما يبين بوضوح أن السلوب من صفات المعدوم لا الموجود.
يقع الاشتراك في السلوب عند بعض المتكلمين،وهي عندهم مغايرة للأحوال إذ هي أعدام محضة، بينما الحال لا يوصف عندهم بالعدم،كما لا يوصف بالوجود،إذ هو أمر نسبي و إضافي،و عليه فالسلوب التي يوصف بها الموجود فإنها معدومة لا أحوال،والفلاسفة يعتقدون أن الله تعالى واحد من جميع جهاته لا تعدد فيه أصلا،بل جميع صفاته راجعة إلى السلوب و الإضافات.
وقد علم العقلاء أن الاختلاف بين معاني الصفات و الأسماء يستدعي مميزا بينها و إلا كانت شيئا واحدا،وقولهم يجوز أن يسند ذلك إلى السلوب و الإضافات فمندفع، وذلك أن السلب عمن لا تقع بينهما المشاركة من الصفات المختلفة كالجبار و الرحيم و العليم و القدير يعني إثبات صفة زائدة أو معنى زائد،فقولنا ليس بعاجز غير قولنا ليس بجاهل.
المهم ، تهدف السلوبية إلى الوصول المباشر للمطلق بإلغاء كل انضمام عقلي للمفاهيم، بتعبير آخر: تهدف هذه الطريقة إلى نفي ذاتها ، يعني: نفي الثبوت في المرحلة الأولى ثم نفي السلوب في المرحلة الثانية لتتحد بالمطلق.
قال دينوسيوس في كتابه " اللاهوت الصوفي "[ De la théologie mystique] : " هنا، في اللاهوت الإثباتي ينزل خطابنا من أعلى إلى أسفل مادام أنه يتسع تدريجيا مع نزوله لكن الآن لأننا نصعد من الأسفل إلى المتعالي يتقلص خطابنا [بالحذف و الطرح] بحسب صعودنا، و إذا وصلنا إلى النهاية نكون صامتين تماما و موحدين مع اللا موصوف".
ومثل هذه المعاني موجودة بكثرة عند الفلاسفة الإسلاميين وعند أصحاب وحدة الوجود، وحتى في تعريف الفلسفة حاصرتهم هذه الطريقة ، فعرف الفارابي الفلسفة بأنها العلم بالموجودات بما هي موجودة، و يعرفها ابن سينا في"الشفا" حيث يقول: موضوع العلم الإلهي الوجود المطلق،و منه أخذه الجرجاني في" التعريفات" عندما قال: هي العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه،وكذلك قال ابن خلدون في "المقدمة":علم الإلهيات علم ينظر في الوجود المطلق".
وهذه العبارات كما ترى أخذت من كتاب أرسطو "ما بعد الطبيعة" من المقالة الأولى، و اختصارا انتهى المعاصرون منهم إلا في الفلسفة الوضعية التي لا تعترف بوجود المطلق إلى أن الفلسفة هي علم المطلق.
و المطلق عندهم ~ في الميتافيزيقا ~هو الشيء الذي هو بنفسه أو الموجود كما هو موجود وراء ما يبدو لنا من صفاته ،أي: الشيء في ذاته،و هذا المعنى المتفق عليه بينهم في وصف الله، أو الذي لا يتوقف على أي شيء، الذي هو بدون أية علاقة يعني: الخالي من الاستثناء و الشرط و الصفة و القيد.
إذا عرفنا هذا فهمنا أن كل تعريفات الفلسفة تجعل موضوعها المطلق،و في الواقع العلة الأولى هي الكائن أو الكينونة، منهم يأتي كل الواقع، أو هم كل الواقع ،فالبحث عن العلة الأولى هو المبدأ الأول، هو البحث عن البدائي المطلق،سواء في عالم المعرفة أو عالم الوجود، ومع ذلك فما هو المطلق في الأول (المعرفة) انه عقل الإنسان، في الثاني (الوجود) إنه الله ، من هنا تلتقي كل التعريفات في هذا : " الفلسفة هي علم المطلق".
الحمد لله وحده، و الصلاة و السلام على من لا نبيَّ بعده.
لقد طبع علم الكلام ~ طيلة قرون طويلة ~ العقيدة الإسلامية بمباحثه وجدله فعقَّد البسيط وطوَّل القصير؛ و اختلف الناس في سبب ظهوره، فبعضهم ~ كان ولا يزال ~ يرى أنه لا سبب لوجوده إلا قطع الطريق على النص و التحايل في الالتفاف عليه ؟
وهذا و إن انطبق على بعض المتكلمين،أو في حالات مخصوصة لا ينطبق على كل المتكلمين، وفي جميع القضايا العلمية ،و أظن أن سبب ظهوره طبيعي، يعني: هو نتيجة اتصال العرب بأعراق و حضارات أخرى ،فالأفكار تسافر مع الناس، لكن تمدده عند فئة من المعتزلة وبعد ذلك عند الأشاعرة هو لملء فراغ و شرخ سببه احتكاك العرب مع الوافدين الجدد، فمن طبيعة المجتمعات في طور النشوء الحضاري أن تظهر فيها العلوم و تتفاعل بينها الأفكار.
وكما هو حاصل اليوم ~ وفي كل وقت ~ تستقر الأفكار الجديدة أولا عند نخبة تكون في العادة ذات خبرة تحتاجها الدولة فتمكنهم من مؤسساتها، ومنها ينشرون فكرهم، إضافةً إلى عامل الطوائف المخالفة التي في حاجتها إلى القوة و الدفاع عن مصالحها تقوم ببلورة المذاهب كما فعل الشيعة لم يكن لهم علم كلام ولا فقه خاص بهم فاضطروا لتقوية مذهبهم إلى استلاف مذهب المعتزلة و التحوُّل من التجسيم إلى التأويل في زمن ابن أبي الحديد ،و بعد ذلك و تحت هيمنة ابن سينا و تلامذته كالطوسي تحوَّلوا إلى الفلسفة المحضة ممزوجة بإشراق السهروردي.
وهكذا بدأت اللغة العلمية في التغير، ولم يشعر بها أهل الحديث كما يجب فكان تجاوبهم مع الوضع الجديد فيه تدرج [قد فصَّلنا الأسباب المعرفية في مقال " حكم العلوم الدقيقة"] فأولا استعملوا إستراتجية الإهمال: " رفض الرد و المناظرة و المقاطعة التامة " .
ومنهم ~ كالإمام أحمد و غيره ~ من رفض كتابة العلم إلا الحديث؛ جاء في " مسائل ابن هانئ"{164/2}:" .. لا يعجبني شيء من وضع الكتب و من وضع شيئا من الكتب فهو مبتدع"، و ".... كتاب مالك و الشافعي أحب إليك؟ أو كتب أبي حنيفة و أبي يوسف؟ فقال: الشافعي أعجب إلي، هذا و إن كان وضع كتابا، فهؤلاء يفتون بالحديث، وهذا يفتي بالرأي، فكم بين هذين ؟"
فقوله :"هذا و إن كان و ضع كتابا" يفيد كراهته لوضع الكتب و لكن يعجبه منها ما كان من تأليف أهل الحديث، أو ما كان في فقه الحديث و علومه.
و قال:" سألت أبا عبد الله عن كتب أبي ثور ؟ فقال: كل كتاب ابتدع فهو بدعة "
قال الميموني:" ذاكرت أبا عبد الله خطأ الناس في العلم، فقال:" و أي الناس لا يخطئ؟ ولا سيما من وضع الكتب، فهو أكثر خطأ"{الطرق الحكمية:ص:267}.
توجيه هذه النقول ، وهذا الموقف مع موقف الأئمة الذين كتبوها فصلته في بحث قديم بعنوان" كيف نعامل المخالف".
ثم لما لم تنفع هذه الخطة و كان مردودها ضعيفا، لم يمنع العقائد الجديدة من الانتشار انتقلوا إلى الرد بالكتابة و المناظرة، وكانوا أولا لا يرون المناظرة إلا أمام السلطان لاجتناب التشغيب و تثبيت العقوبة على المتعمد،فأدوا ما عليهم، و حافظوا على أصالة العقيدة بلغتها الأولى ، وكانوا رمانة الميزان التي تشير إلى مدى الابتعاد أو الاقتراب من النص.
وفي ظني شدة تمسكهم بالعبارات الواردة، و ميل جمهورهم إلى رفض الكلام في العلوم الدقيقة دون التفريق بين القادر عليها و الضعيف فيها، وبين من يحتاج أن يخاطب بها ومن لا يحتاج من المسلمين هو السبب الرئيس في ظهور الكلام السني.
و أَّثَّر عليهم علم الكلام فأحدث فيهم بعض الشروخ و النزاعات، فإنه دفعهم إلى الخوض في مسائل لم تتناولها النصوص، و اضطروا إلى الاستنباط و الاستخراج و البحث في اللوازم فحدثت فيهم فتنة " اللفظ" لعدة قرون ، و اختلفوا حول بعض المصطلحات كـ " الحد" ، و " الحركة"؛ و قد أشار ابن تيمية بلغته المتزنة إلى هذا في كتبه كـ " بيان تلبيس الجهمية" عندما وقف عند مشكلة المصطلحات المتجددة و حكمها، وما عناه هو شخصيا عندما قال : (ولم يقل أحد من أئمة السنة:إن السني هو الذي لا يتكلم إلا بالألفاظ الواردة التي لا يفهم معناها، بل من فهم معاني النصوص فهو أحق بالسنة ممن لم يفهمها، ومن دفع ما يقوله المبطلون مما يعارض تلك المعاني، وبين أن معاني النصوص تستلزم نفي تلك الأمور المعارضة لها فهو أحق بالسنة من غيره.) بيان تلبيس الجهمية {445/1 }.
وواضح من نفسه أن هذا الكلام موجه لأهل الحديث فهم من اتخذ موقف المقاطعة مع المصطلحات المتجددة.
المهم اصطدم ابن تيمية بمشكلة المصطلحات مع المتكلمين ومع المحدثين على حد سواء، مع المتكلمين رفض القول المشهور " لا مشاحة في الاصطلاح" فلم يسلم لهم بها إلا بعد اعتبار مدلولاتها بالكتاب و السنة.
ومع المحدثين حاول أن يفهمهم أنه قد تجددت الألفاظ بعد عهد السلف بحكم تجدد المسائل، و أنها بمنزلة تنوع اللغات و تركيب الألفاظ المفردات، و أن رفضها لأجل أنها جديدة لا معنى له ،ولا أصل شرعي له، بل يجب أن ترفض إذا خالفت مدلولات الكتاب و السنة و ليس لأنها مستحدثة ، و أنه لا يحرم رد الباطل بعبارة مطابقة له ، و أن الكتاب و السنة يدل بالإخبار تارة، ويدل بالتنبيه تارة، و الإرشاد و البيان للأدلة العقلية تارة. المنهاج 2/110.
ومع ذلك لا يزال السلفيون ~ الذين لم يفهموا أن ابن تيمية هو التطور الطبيعي أو التجاوب الفعلي لأهل الحديث مع الأوضاع المعرفية المستجدة من غير أن يلزم عن هذا تقليده حرفيا ~ يعانون من هذه العُقدة و يُشغِّبون على العلماء و طلبة العلم؟
و لعله من المفيد في هذا الباب الاطلاع على رسالة الأشعري ~ رحمه الله ~ " استحسان الخوض في علم الكلام "، وقد سبق و فصَّلتُ موقف ابن تيمية من المسألة في مقالي المطول " مسارح النظر و مطارح الفكر"، و كذلك في" حكم المصطلحات المتجددة"، " حكم العلوم الدقيقة".
فمن المشاكل المعرفية العويصة التي يعاني منها المسلمون المعاصرون مشكلة اختلاف المصطلح العلمي أو المصطلحية، خاصة و أن صياغة هذا العلم لا يشارك فيها أهل علوم الوحي .
المهم، ومع ذلك فقد كان لعلم الكلام بعض الايجابيات، إما في جهد المتكلمين في مواجهة الإلحاد الفلسفي و الديانات الأخرى، و إما ~ و هذا أثر ارتدادي غير مقصود ~ في مساهمته في تكوين المتكلمين السنة على شاكلة ابن كلاب ،و الأشعري و الباقلاني و ابن تيمية، فإن تكوين هذا الأخير الحديثي أولا ثم الكلامي ثانيا هما السبب المعرفي المباشر في قوة نقده للفلسفة، فليس من المنطق الصحيح أن نقول: إنه طفرة، أو خرج من لا شيء، بل استعان كثيرا بما كتبه المتكلمون في تصور القضايا الفسلفية و الانطلاق بعد ذلك في النقد المنهجي، فمن الصعب جدا على الباحث أن ينطلق في نقد النظريات و بناء أخرى مناقضة لها من لا شيء بدون أن تكون لديه قاعدة يشرف منها على الأقوال المختلفة، و بعد ذلك يشق طريقه الخاص به، و يعود على القاعدة بالنقد و التصحيح.
و أنا أذكر أنه بدأ مسألة خطيرة مثل نقد "نظرية الصدور" بنقد ابن ملكا لها، فهو من أقوى الردود على ابن سينا، ولم يكن ابن تيمية يُعاني من عقدة نقص مثل كثير منَّا يخشى الاستشهاد بمتكلم أو فيلسوف فيما هو حق ، حتى إنك تجد التسطيح عند بعض طلبة العلم ~ في مواقع الكترونية سلفية مشهورة ~ ينتقدون كتابا لأنه أورد فيه أسماء بعض المفكرين الغربيين، ويحكمون لأجل هذا أنه متأثر بمدارس الفكر الغربية !
وكان ميزانه دائما يميل لصالح المتكلمين عند مقارنتهم بالفلاسفة، ولم يجعلهم في كفة واحدة كما يصنع جمهور السلفيين المعاصرين، بل كان يفضل بعضهم على بعض الحنابلة ، و يفاضل بينهم، و يعلم أنهم ليسوا سواء لا في القصد ولا في العلم ، و يجعلهم طبقات فيجعل بعضهم مباشرة بعد طبقة أئمة السنة كمالك و الشافعي و أحمد، قال: ( ومعلوم أن طريقة أئمة الصوفية وأئمة الفقهاء أكمل من طريقة أبي القاسم القشيري ،ومن طريقة أبي طالب والحارث، ومن طريقة أبي المعالي وأمثاله، وأولئك الأئمة كانوا أعلم بطريقة الصحابة وأتبع لها من أتباعهم فالقاضي أبو بكر الباقلاني وأمثاله أعلم بالأصول والسُّنَّة وأتبع لها من أبي المعالي وأمثاله، والأشعري والقلانسي ونحوهما أعلى طبقة في ذلك من القاضي أبي بكر ،وعبد الله بن سعيد بن كلاب، والحارث المحاسبي أعلى طبقة في ذلك من هؤلاء ،ومالك، والأوزاعي، وحماد بن زيد، والليث بن سعد وأمثالهم أعلى طبقة من هؤلاء، والتابعون أعلى من هؤلاء، والصحابة أعلى من التابعين.) الأصفهانية،1/129.
المهم، الاستعانة بالغزالي و ابن حزم و متكلمة أهل السنة واضح في كتبه، وقد يستعين بفيلسوف كابن رشد في الرد على ابن سينا في مسائل النفس وغيرها، و لعل أبلغ أعماله " نقض المنطق" استأنف فيها موقف النظار المسلمين و طوَّره ليصبح نقدا كاملا ، و هذا واضح فإن الخروج المعرفي من فراغ ممتنع ،لمن أراد أن يفهم .
وقد يُفضِّل آخر أن يقول: لقد اعتمد على الصحيح من علم الكلام، و لأني أقصد الوصول إلى قضية أخرى فلن أناقش هنا هذا الجواب، فلعلي أعود إليه في مناسبة أخرى، وهي أهمية علم الكلام السني في مواجهة ظاهرة الإلحاد المادي المعاصر.
و الذي يعنينا ~ هنا ~ بالدرجة الأولى أن علم الكلام انحرف عن القصد الأول، وهو: "الجدال عن العقيدة النصية بالأدلة العقلية" إلى استحداث عقيدة سلبية تقوم على النفي أو التوقف المسمى اصطلاحا " التفويض"، وهو ~ كما طوَّره المتكلمون للتفريق بين التفويض لعدم العلم و التفويض المنهجي ~ نفي مقنع أو غير مباشر ، فبدلا من الاهتمام بما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه و سلم، يعني: الحديث عن الله عز وجل بالحديث عن أوصافه ، و التعريف به بالنص انحرف إلى الحديث عن كل ما ليس هو الله، أو ما ليس عليه الله، بما يمكن أن نسميه "علم الكلام السلبي" المبني على النفي و السلب، لا على الإثبات ، وهو ما يُسمى بـ السلوبية " L’apophatisme "
هذه السلوبية عبارة عن مقاربة فلسفية مبنية على النفي،وهي عقيدة مناقضة للقرآن الذي جاء بالإثبات الوصفي، ولم يستعمل النفي " السلب" إلا لخدمة الإثبات فلقد بيَّن القرآن أنه يجوز الإخبار عن الله تعالى بالسلوب التي تتضمن ثبوتا كما في قوله تعالى:{ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ }،فإنه يتضمن إثبات كمال حياة الله و قيوميته.
وكذلك قوله تعالى:{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ } يتضمن إثبات كمال قدرته،لأن نفي مس اللغوب الذي هو التعب والإعياء يدل على كمال القدرة ونهاية القوة، بخلاف المخلوق الذي يلحقه من التعب والكلال ما يلحقه.
وقوله تعالى:{ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ } يتضمن إثبات كمال علمه و إحاطته بأقل الأشياء وهي الذرة .
وقوله تعالى:{ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} يتضمن إثبات كمال صمديته،وغناه عن خلقه.
وكذلك قوله :{ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} يتضمن إثبات تفرده بكماله، و أنه لا نظير له،وهذا مطرد في كل سلب ورد في حقه في القرآن أو السنة،لا ينفي شيئا عنه إلا ليثبت ما يحمد به، و يثنى به عليه، و يمجد به من الصفات.
ومن المعلوم لدى كافة المسلمين أن النبي صلى الله عليه و سلم و الصحابة و التابعين و أئمة السلف لم يكونوا يعظمون الله تعالى بشيء من هذه السلوب،بل لم يثبت عنهم إلا طريقة الإثبات المفصل و السلب المجمل.
المهم، أنه لا يوصف بصفة سلب إن لم تتضمن معنى ثبوتيا،فكل صفة سلبية لا تتضمن ثبوتا فلا يوصف بها إلا المعدوم.
وكل صفة تصلح للمعدوم المحض فإنها لا تصلح أن يوصف بها الله تعالى، لأنها حينئذ صفة لا مدح فيها بحال،إذ المعدوم المحض لا يمدحه عاقل،وما لا يكون فيه مدح، فإن الله لا يوصف به،فله الأسماء الحسنى و المثل الأعلى.
ومعلوم ~ أيضا ~ أن السلوب لا نهاية لها ،ومهما كثرت لم يزداد الموصوف بها تميّزا،فعندما يقولون : " إن الله واحد ليس كمثله شيء، و ليس بجسم، ولا شبح، ولا جثة، ولا صورة، ولا شخص، ولا جوهر، ولا عرض، ولا بذي لون، ولا طعم ولا رائحة، ولا مجسة،ولا بذي حرارة، ولا برودة، ولا رطوبة ،ولا يبوسة ، ولا طول، ولا عرض، ولا عمق، ولا اجتماع، ولا افتراق، ولا يتحرك، ولا يسكن، ولا يتبعض، و ليس بذي أبعاض و أجزاء، و ليس بذي جهات، لا يمين، ولا شمال، و أمام، و خلف، و فوق، و تحت، ولا يحيط به مكان، ولا يجري عليه زمان، ولا تجوز عليه المماسة، ولا العزلة، ولا الحلول في الأماكن، ولا يوصف بأنه متناه، ولا يوصف بمساحة، ولا ذهاب في الجهات، و ليس بمحدود، ولا تحيط به الأقدار، ولا تحجبه الأستار، ولا تدركه الحواس، وكل ما يخطر بالبال و تصور بالوهم فغير مشبه له،لا تراه العيون، ولا تدركه الأبصار، ولا تحيط به الأوهام، ولا يسمع بالأسماع، شيء لا كالأشياء"
يلزمهم أنه معدوم، إذ هذه صفات العدم المحض؟
ومعلوم أننا لو زدنا على هذه السلوب آلاف السلوب الأخرى لما ازداد إلا غموضا، و ازددنا جهلا به، فكل هذه السلوب و آلاف أخرى لا يعرف بها المؤمن ربه، لأنه لم يعرف صفاته التي يحمد بها و يمجد، وهي الصفات الثبوتية التي تعيّن و تميّز وجوده عن غيره.
[ تجد هذه المسألة مفصلة في مقالي " الموقف الشرعي من طريقة السلوب و أحكام الوهم و الخيال"
كذلك وجدناه سبحانه في القرآن يُعرف نفسه ، يتكلَّم عنها بـ " أنا"و،"هو"،كما في قوله تعالى: { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}[طه]، و قوله:{ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[النمل]، و قوله:{ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[القصص].
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الحشر]. فأجرى كل الأسماء صفات لاسم الجلالة.
{ لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [الزمر]}،{ قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }، { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}،{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ }.
فالقرآن يخبر من هو الله من خلال صفات ثبوتية ،وفي السلوبية لا نتحدث إلا عما ليس هو .
تعمل هذه الطريقة الفلسفية بطريقين :
الأول: بالنفي وهما ما نُسميه "السلوب".
الثاني: بالحذف، حذف الصفات الثبوتية الذي جاء نتيجة لعملية الطرح و التقليص في التعريف المنطقي.
لقد بدأت السلوبية كعقيدة دينية عند المسيحيين في القرن الثاني، عند المدعو كليمان الاسكندراني [Clément d'Alexandrie] لكن جذورها تعود إلى الفلسفة القديمة إلى دينوسيوس المسيحي الذي استلفها من [Damascios] وهو فيلسوف من الأفلاطونية المحدثة كان معاديا للمسيحية، وهذا يذكرنا بـ"الذرية" التي نشأت عند الإغريق كفلسفة مادية إلحادية وتحوَّلت عند بعض المسلمين إلى أدلة إثبات وجود الله.
كما نجدها في فلسفات الشرق الأقصى في البوذية و الطاوية و الهندوسية، انتقلت إلى الإسلام عن طريق المعتزلة ،نقل الأشعري في(المقالات){43/1} هذا القول عن ضرار بن عمرو، قال:
(( قال ضرار بن عمرو:معنى أن الله عالم أنه ليس بجاهل، ومعنى أنه قادر أنه ليس بعاجز، ومعنى أنه حي أنه ليس بميت.
وقال النظام: معنى قولي "عالم" إثبات ذاته ونفي الجهل عنه، ومعنى قولي "قادر" إثبات ذاته ونفي العجز عنه، ومعنى قولي "حي" إثبات ذاته ونفي الموت عنه، وكذلك قوله في سائر صفات الذات على هذا الترتيب)).
نقل ابن حجر في ( الفتح){13/164} كتاب الإيمان عن بعض المحققين، ولم يسمه، مقرا له أنه قال: (( الحقائق الإلهية لا تعرف إلا بطريق السلب كما في العلم لا يدرك منه إلا أنه ليس بجاهل))؟
وفي الحقيقة لم يفهم بعض الأفاضل طريقة السلوب على حقيقتها وبعدها الفلسفي و استهوتهم العبارات الجميلة فحقيقة السلوبية أن كل فكرة نكوِّنها عن الإله تجد نفسها مشلولة في عدم كفاءتها في تحديد ما لا حد له، يعني: أن العجز عن الإحاطة بالكل يوجب حتما إنكار وجود الجزء،أو بتعبير أدق: عدم إدراك الكيفية يوجب نفي العلم بأجزائها، فإذا لم نعرف كيفية الله فالواجب أننا لا نعرف صفاته؟
فمثلا إذا جئنا إلى الإثبات التالي " الله موجود" فلا يمكن في السلوبية تصور معناه تماماً كما لو قلنا : "الله عليم" لأن التعبير عن التعالي يمكن فقط بقضايا سلبية، و باللجوء إلى الحذف، وفي نهاية المطاف بالصمت " التوقف الذي يسميه المسلمون " التفويض"
يعني أن السلوبية مرحلة تأتي ما بعد التأويلية تنتهي عند أقطاب الفلسفة وعلم الكلام و التصوف بالتوقف " الواقفية أو التفويض"، لأنه بالنسبة إليهم حتى القضية ذات المظهر السلبي هي ثبوتية بالنسبة للمطلق " الخالي من الوصف ، أو اللا موصوف" الذي لا يمكن أن نثبت له شيئا، فقولنا: " الله غير جاهل" هو في النهاية إثبات ايجابي تماماً كقولنا: " الله عليم" ما دام الله ليس بعليم ولا لا عليم؟
لماذا ينتهون إلى إنكار السلب هو الآخر كما أنكروا الإثبات ؟
لأن السلب عند المناطقة المتفلسفة المتكلمة هو نفي معنى زائد على نفسه،أو نفي المادة عنه، أو نفي الغيبة عنه،وكل سلب خاص لا يتضمن سلبا عاما،و السلب إنما يتضمن غيره إذا كان أعم منه.
قال ابن سينا في( منطق الإشارات):
(( السلوب لوازم للأشياء بالقياس إلى اعتبار معان ليست لها،فإن غير الناطق أمر يعقل باعتبار الناطق))
أي:لا يعقل السلب إلا بعد أن يعقل الإثبات،فهو فرع على الإثبات،أو هو درجة ثانية من الإثبات كما سأبينه لاحقا،فمن لم يعقل العلم و القدرة لا يعقل الجهل و العجز.
و السلوب عند ابن سينا لا تصح إلا عن المعدومات،وذلك لأن إيجاب المعاني الموجودة لها يكذب عليها إلا بشرط وحال،فقولنا: "الحجر صحيح، و الحجر ليس بصحيح"، الصدق هو السالب منهما،فإثبات الصحة المضادة للمرض للحجر كاذب، بينما نفيها عنه صادق،وهذا ما يبين بوضوح أن السلوب من صفات المعدوم لا الموجود.
يقع الاشتراك في السلوب عند بعض المتكلمين،وهي عندهم مغايرة للأحوال إذ هي أعدام محضة، بينما الحال لا يوصف عندهم بالعدم،كما لا يوصف بالوجود،إذ هو أمر نسبي و إضافي،و عليه فالسلوب التي يوصف بها الموجود فإنها معدومة لا أحوال،والفلاسفة يعتقدون أن الله تعالى واحد من جميع جهاته لا تعدد فيه أصلا،بل جميع صفاته راجعة إلى السلوب و الإضافات.
وقد علم العقلاء أن الاختلاف بين معاني الصفات و الأسماء يستدعي مميزا بينها و إلا كانت شيئا واحدا،وقولهم يجوز أن يسند ذلك إلى السلوب و الإضافات فمندفع، وذلك أن السلب عمن لا تقع بينهما المشاركة من الصفات المختلفة كالجبار و الرحيم و العليم و القدير يعني إثبات صفة زائدة أو معنى زائد،فقولنا ليس بعاجز غير قولنا ليس بجاهل.
المهم ، تهدف السلوبية إلى الوصول المباشر للمطلق بإلغاء كل انضمام عقلي للمفاهيم، بتعبير آخر: تهدف هذه الطريقة إلى نفي ذاتها ، يعني: نفي الثبوت في المرحلة الأولى ثم نفي السلوب في المرحلة الثانية لتتحد بالمطلق.
قال دينوسيوس في كتابه " اللاهوت الصوفي "[ De la théologie mystique] : " هنا، في اللاهوت الإثباتي ينزل خطابنا من أعلى إلى أسفل مادام أنه يتسع تدريجيا مع نزوله لكن الآن لأننا نصعد من الأسفل إلى المتعالي يتقلص خطابنا [بالحذف و الطرح] بحسب صعودنا، و إذا وصلنا إلى النهاية نكون صامتين تماما و موحدين مع اللا موصوف".
ومثل هذه المعاني موجودة بكثرة عند الفلاسفة الإسلاميين وعند أصحاب وحدة الوجود، وحتى في تعريف الفلسفة حاصرتهم هذه الطريقة ، فعرف الفارابي الفلسفة بأنها العلم بالموجودات بما هي موجودة، و يعرفها ابن سينا في"الشفا" حيث يقول: موضوع العلم الإلهي الوجود المطلق،و منه أخذه الجرجاني في" التعريفات" عندما قال: هي العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه،وكذلك قال ابن خلدون في "المقدمة":علم الإلهيات علم ينظر في الوجود المطلق".
وهذه العبارات كما ترى أخذت من كتاب أرسطو "ما بعد الطبيعة" من المقالة الأولى، و اختصارا انتهى المعاصرون منهم إلا في الفلسفة الوضعية التي لا تعترف بوجود المطلق إلى أن الفلسفة هي علم المطلق.
و المطلق عندهم ~ في الميتافيزيقا ~هو الشيء الذي هو بنفسه أو الموجود كما هو موجود وراء ما يبدو لنا من صفاته ،أي: الشيء في ذاته،و هذا المعنى المتفق عليه بينهم في وصف الله، أو الذي لا يتوقف على أي شيء، الذي هو بدون أية علاقة يعني: الخالي من الاستثناء و الشرط و الصفة و القيد.
إذا عرفنا هذا فهمنا أن كل تعريفات الفلسفة تجعل موضوعها المطلق،و في الواقع العلة الأولى هي الكائن أو الكينونة، منهم يأتي كل الواقع، أو هم كل الواقع ،فالبحث عن العلة الأولى هو المبدأ الأول، هو البحث عن البدائي المطلق،سواء في عالم المعرفة أو عالم الوجود، ومع ذلك فما هو المطلق في الأول (المعرفة) انه عقل الإنسان، في الثاني (الوجود) إنه الله ، من هنا تلتقي كل التعريفات في هذا : " الفلسفة هي علم المطلق".