زنبقة الندى
2009-09-29, 13:26
:dj_17:نجيب محفوظ .. الروايةُ شِعْرُ الدنيا الجديدة!!OLD.QU.EDU.QA/HOME/PUBLICATION/HARELM
بقلم : د.محمد مصطفى سليم*
10,8,2009
هكذا تبدو سمة الكلاسيكيين الكبار، فأنت لا تحتاج معهم إلا إلى ما يكتبون؛ لأنه مخزون لسيرة الإنسان ومسيرة الحياة، مثلما لا تحتاج مع نجيب محفوظ إلا إلى رواياته وسرديَّاته التي باتت قلبًا نابضًا لعصرٍ طويلٍ، وزمنٍ يمتدُّ قرابةَ قرنٍ واقعًا، ويمتدُّ بعمق التجربة الإنسانية دلالةً ومجازًا؛ إذ يختزل محفوظ في تجربته الروائية المكان والإنسان، ويتعامل مع الرواية بوصفها الفتنة النّائمة في وجدانه؛ فتتماهى خيوط الفصل بين ما هو ذاتي وما هو غير ذاتي.
file:///C:/Users/nn/AppData/Local/Temp/msohtml1/01/clip_image001.jpg
فالمكان ليس إلا حالة خاصة لتجَلّي الحقائق الإنسانية الشاملة، فهو وإن بدا ضَيِّقًا في حيِّزه الطبوغرافِيّ فإنه يعكس فضاءً متَّسعًا للتأويل المتجدّد، كما أن محفوظ، وهو الذي يُعد أنشودةً للبساطة والكتابة عن كوامن الألم في الأحياء الفقيرة، قد أورثنا- في حياته وبعد مماته- خمسين عملاً سرديًّا؛ تسكنُها شخصياتٌ منحوتةٌ بوعيٍ مصريٍّ شديد الخصوصية، شخصيات واقعية بلا رتوش، قد اعتادت- في جانبٍ منها- أن تشتري السلامة بالإتاوة، والأمن بالخضوع والمهانة، فلاحَقَتهم العقوبات الصارمة لأدنى هفوةٍ في القول أو في الفعل، طالما أنَّ هناك الفتوّة، وأن هناك الحرافيش الذين يستعذبون آهةَ البدن لتبقى آهةَ الضَّمير في قعر الوعي؛ تبقى قابلةً للثورة والتّمرد؛ لأن الراوي- وأقصد هنا نجيب محفوظ- تغذّى على بواطن الإشراق من تأملاته الغارقة في دهاليز النفس، واستغرقته تجاربُ الروح مع حي بن يقظان، ودفاترُ الأولياء كالفتوحات المكية لمحيي الدين بن عربي، وأدابيرُ البلاغيين كالزمخشري والجرجاني وأدابيرُ ابن رشد، وغيرهم ممن أذابهم في مسروداته، فضلاً عن قراءةٍ عميقة للحياة والحارة والإنسان؛ فامتلأ بالأسئلة التي تفتقد الجواب، ثم اقترب بكل هذا من عالم الصوفية حينًا؛ مما قد يفسر- مثلاً- رفضه طباعة (أولاد حارتنا) مثلما رفض الشيخ علي عبدالرازق كتابه المدوّي (أصول الحكم).
file:///C:/Users/nn/AppData/Local/Temp/msohtml1/01/clip_image002.jpg إنّ تفضيل محفوظ الرواية على الفلسفة والشعر؛ لم يأت- فيما نظن- إلا بعد قراءته لطه حسين والعقاد وسلامة موسى، حيث تصوّر أن الفلسفةَ يمكن لها أن تجيب عن كوامن الأسئلة في ذاته، لكنه سرعان ما وقع على ضالته في فن الرواية، وأضلِفَ غوايتَها له بالبوح والإيهام المراوغ بالجواب؛ فأخلص لها أيَّما إخلاص، امتدَّ به على مدار سبعين عامًا، بل راهن عليها فقفز بها إلى حدِّ صدارة فنون الكتابة، بعد أن كانت في النّصف الأول من القرن العشرين في مرتبةٍ متأخرةٍ بعد الشعر وفن المقال، وأكّد منذ أربعينيات القرن الماضي أنّ الزمن القادم هو زمن الرواية ؛ لذا لا عجب أن يخوض معركةً ضدّ العقّاد الذي تحمس للشعر وحده، مستهينًا بالرواية إلى الحدِّ الذي رأى فيه أنّ بيتًا واحدًا من الشعر أكثر قيمةً من أهمّ الرّوايات؛ فجاء ردُّه على العقّاد مدافعًا عن فن الرواية واصفًا إيّاها بأنها (شِعْرُ الدنيا الجديدة)، وظل يكتب الرواية بحرفية الموظف، وهنا تكمن مفارقة إبداعية؛ إذ كيف يتحول فعلُ الإبداع، والإبداع قرينُ الفوضى والاستثناء، -كيف يتحول إلى فعلٍ ميكانيزميٍّ وظيفيٍّ؟ والرّاجح أنها حالة الإخلاص التي توّجت رحلته السردية الطويلة بالحصول على جائزة نوبل في الآداب عام 1988م، وإن كانت هذه- أيضًا- مصحوبة باندهاشٍ مفارقٍ؛ مفاده أن أمّة الشّعر- والشعرُ ديوان العرب- قدّمت نفسها عالميًّا عبْرَ هويّةٍ نثريَّةٍ وسردِيَّةٍ.
file:///C:/Users/nn/AppData/Local/Temp/msohtml1/01/clip_image004.jpgثَمّة عدول آخر، أو تفضيلٌ مغاير، أتى في تضاعيف شغفه بالتفاصيل الروائية، وهو عدوله عن كتابة الرواية التاريخية، أو بالأحرى، كتابة التاريخ المصري القديم، حيث كان ينوي تقديمه بصورة روتينية على غرار ما فعله سير وولترسكوت في تعامله مع تاريخ اسكتلندا، فبدأ برواية (عبث الأقدار) 1939م، و(رادوبيس) 1943م، و(كفاح طيبة) 1944م، لكن انفعاله الصادق بالأحداث السياسية الساخنة بعد الحرب العالمية الثانية وما خلفته من آثارٍ على المجتمع المصري جعله يرى الكتابة عن مصر الفرعونية- في هذا التوقيت- ضربًا من الترف الزائد، فهرب بقلمه إلى الحارة المصرية؛ لنستقبل- نحن القرّاء- العالمَ والواقعَ من خلال وعي أبطاله من أبناء الطبقات الفقيرة بالوجود والذَّات؛ مما ينفي، أو يُقلل، القولَ بأنه كاتبُ البرجوازية. وهنا أضاف محفوظ إلى إخلاصه الفني إخلاصًا لضمير الوطن ومحليته التي حفر في هوامشها ورَتَّق شروخَها وأزقّتها، وقرأ تفاصيل الانكسار على أوجه البسطاء في دروب القاهرة وأحيائها؛ فقدّم الشخصية (النَّمط) التي ننسى معها النص السردي؛ لتخرج الشخصية من بين أوراق الرواية وتنْدَس في الحياة والواقع، وتبدو كأنها منحوت حقيقي يمكن إلقاؤه على أيةِ ذاتٍ تتماس بها، مثلما خرج السيد أحمد عبدالجواد من الثلاثية ليصبح شخصية حقيقية واقعية من فرط الصدق في توصيفها، إلى حد أن (سي السّيّد) استحضار حقيقي لفعل إنساني يتحرك بيننا، مثلما هي الحال كذلك مع (هاملت) وغيرها من الشخصيات (النّمط)، التي تخرجُ من واقعٍ ذاتيٍّ خاص إلى واقعٍ تخييلي في النَّصِّ الأدبي، ثم تعود مرةً أخرى إلى الواقع، وقد اكتست لحمًا ودما؛ لا يمكنُ معهما تجاهل موهبةِ الحكَّاء/ السَّارد؛ الذي أذاب محلِيَّتَه في بوتقةٍ إنسانيةٍ عامةٍ، أظهرتها الروايات وأشهرتها نوبل.
file:///C:/Users/nn/AppData/Local/Temp/msohtml1/01/clip_image005.gifبَيْدَ أَنَّ الثَّابتَ في تجربة نجيب محفوظ الروائية أنه كان محط أنظار الدرس النقدي الغربي والترجمة قبل نوبل؛ إذ منذ عام 1964 بدأ الالتفات نحو ترجمة أعماله مع لغات الدول الاشتراكية مقارنة باللغات الأخرى، سواءً أكان ذلك على المستوى الأكاديمي في الجامعات أم على مستوى الجمهرة من الكتاب والقراء، ولعل هذا ما يتضح من خلال مقدمة يوري روشين الروسي في رسالته للدكتوراه عن الثلاثية من أكاديمية العلوم السوفييتية عام 1967م، فضلاً عن تنويهه بما في أبطال شخصياتها من قدرة على إعادة خلق نماذج ذلك الزمن بصدق مقنعٍ.
كما كان لإسبانيا دورٌ ملموسٌ في ذلك، فلقد اهتمت بأدبه قبل حصوله على نوبل، فيما ينقله مارتينيث مونتابيث، المستعرب البارز ورئيس جامعة مدريد، عن أن محفوظ شاهدٌ من نوعٍ خاص على أحداث عصره، وأكد ذلك أيضًا الناقد الأمريكي روجر آلن، وغيرهم كثيرون وضعوه في فصيل الكتاب الذين يُقلقهم مصير الإنسان وعبقرية المكان ،وشُبِّه بهؤلاء العالميين الكبار، مثل: بلزاك، وزولا، وجالدوس، وديستويفسكي الذي قرأه محفوظ بإمعانٍ وإعجاب، وتولستوي وجلاسوورذي وفيكتور هيجو، وترولوب، وغيرهم من كتَّاب الرواية الذين يُقيمون النصَّ السرديَّ على بطلٍ وحيد هو الزمن كما هي الحال في الثلاثية، أو المكان مثلما هو بادٍ في (زقاق المدق)، وغيرها.
file:///C:/Users/nn/AppData/Local/Temp/msohtml1/01/clip_image006.jpgكما أن قسم النشر بالجامعة الأمريكية قد بدأ بنشر الترجمات الإنجليزية لأعمال محفوظ منذ 1978م مع إصدار رواية (ميرامار)، وأصبح هذا القسم- منذ 1985م - ناشر نصوصه الرئيسي باللغة الإنجليزية إلى أن بات لدينا رصيد نفخر به؛ تعكسه أربعمائة وخمسون طبعة لأكثر من أربعين لغة من لغات العالم تُرجمت إليها نصوصه، ضمّت الإنجليزية وحدها ثلاثين نصًّا، كما تعد رواية (زقاق المدق) التي تُرجمت تحت عنوان (ممر المدق) هي الأكثر انتشارًا في نصوص محفوظ المترجمة حيث صدر عنها أكثر من ثلاثين طبعة في خمس عشرة لغة، ويليها (بين القصرين)، كما للثلاثية خمس وعشرون طبعة في إثنتي عشرة لغة من اللغات.
رحم الله نجيب محفوظ الذي كتب الإنسان والأشياء والقبح والجمال والانضباط والانفلات؛ ليجعل من رواياته (شِعْرُ الدنيا الجديدة) كاميرا تسجِّل حركةَ الزمن الذي يمضي فينا، وتنقل المكان الذي يتوارثنا جيلاً بعد جيل، وتشهد على تبدلات أفكار محفوظ تارة، وتحولات مجتمعه تارة أخرى.
* أستاذ مساعد بقسم اللغة العربية بكلية الآداب والعلوم ، لديه العديد من المؤلفات من أهمها : "أنا البحر" مجموعة قصصية 1996، "كأني أشبهني" رواية صدرت سنة 1998، "القصة وجدل النوع .. رؤية توصيفية وببليوجرافيا للقصة القصيرة المصرية" عن الدار المصرية اللبنانية للنشر القاهرة 2006م.
بقلم : د.محمد مصطفى سليم*
10,8,2009
هكذا تبدو سمة الكلاسيكيين الكبار، فأنت لا تحتاج معهم إلا إلى ما يكتبون؛ لأنه مخزون لسيرة الإنسان ومسيرة الحياة، مثلما لا تحتاج مع نجيب محفوظ إلا إلى رواياته وسرديَّاته التي باتت قلبًا نابضًا لعصرٍ طويلٍ، وزمنٍ يمتدُّ قرابةَ قرنٍ واقعًا، ويمتدُّ بعمق التجربة الإنسانية دلالةً ومجازًا؛ إذ يختزل محفوظ في تجربته الروائية المكان والإنسان، ويتعامل مع الرواية بوصفها الفتنة النّائمة في وجدانه؛ فتتماهى خيوط الفصل بين ما هو ذاتي وما هو غير ذاتي.
file:///C:/Users/nn/AppData/Local/Temp/msohtml1/01/clip_image001.jpg
فالمكان ليس إلا حالة خاصة لتجَلّي الحقائق الإنسانية الشاملة، فهو وإن بدا ضَيِّقًا في حيِّزه الطبوغرافِيّ فإنه يعكس فضاءً متَّسعًا للتأويل المتجدّد، كما أن محفوظ، وهو الذي يُعد أنشودةً للبساطة والكتابة عن كوامن الألم في الأحياء الفقيرة، قد أورثنا- في حياته وبعد مماته- خمسين عملاً سرديًّا؛ تسكنُها شخصياتٌ منحوتةٌ بوعيٍ مصريٍّ شديد الخصوصية، شخصيات واقعية بلا رتوش، قد اعتادت- في جانبٍ منها- أن تشتري السلامة بالإتاوة، والأمن بالخضوع والمهانة، فلاحَقَتهم العقوبات الصارمة لأدنى هفوةٍ في القول أو في الفعل، طالما أنَّ هناك الفتوّة، وأن هناك الحرافيش الذين يستعذبون آهةَ البدن لتبقى آهةَ الضَّمير في قعر الوعي؛ تبقى قابلةً للثورة والتّمرد؛ لأن الراوي- وأقصد هنا نجيب محفوظ- تغذّى على بواطن الإشراق من تأملاته الغارقة في دهاليز النفس، واستغرقته تجاربُ الروح مع حي بن يقظان، ودفاترُ الأولياء كالفتوحات المكية لمحيي الدين بن عربي، وأدابيرُ البلاغيين كالزمخشري والجرجاني وأدابيرُ ابن رشد، وغيرهم ممن أذابهم في مسروداته، فضلاً عن قراءةٍ عميقة للحياة والحارة والإنسان؛ فامتلأ بالأسئلة التي تفتقد الجواب، ثم اقترب بكل هذا من عالم الصوفية حينًا؛ مما قد يفسر- مثلاً- رفضه طباعة (أولاد حارتنا) مثلما رفض الشيخ علي عبدالرازق كتابه المدوّي (أصول الحكم).
file:///C:/Users/nn/AppData/Local/Temp/msohtml1/01/clip_image002.jpg إنّ تفضيل محفوظ الرواية على الفلسفة والشعر؛ لم يأت- فيما نظن- إلا بعد قراءته لطه حسين والعقاد وسلامة موسى، حيث تصوّر أن الفلسفةَ يمكن لها أن تجيب عن كوامن الأسئلة في ذاته، لكنه سرعان ما وقع على ضالته في فن الرواية، وأضلِفَ غوايتَها له بالبوح والإيهام المراوغ بالجواب؛ فأخلص لها أيَّما إخلاص، امتدَّ به على مدار سبعين عامًا، بل راهن عليها فقفز بها إلى حدِّ صدارة فنون الكتابة، بعد أن كانت في النّصف الأول من القرن العشرين في مرتبةٍ متأخرةٍ بعد الشعر وفن المقال، وأكّد منذ أربعينيات القرن الماضي أنّ الزمن القادم هو زمن الرواية ؛ لذا لا عجب أن يخوض معركةً ضدّ العقّاد الذي تحمس للشعر وحده، مستهينًا بالرواية إلى الحدِّ الذي رأى فيه أنّ بيتًا واحدًا من الشعر أكثر قيمةً من أهمّ الرّوايات؛ فجاء ردُّه على العقّاد مدافعًا عن فن الرواية واصفًا إيّاها بأنها (شِعْرُ الدنيا الجديدة)، وظل يكتب الرواية بحرفية الموظف، وهنا تكمن مفارقة إبداعية؛ إذ كيف يتحول فعلُ الإبداع، والإبداع قرينُ الفوضى والاستثناء، -كيف يتحول إلى فعلٍ ميكانيزميٍّ وظيفيٍّ؟ والرّاجح أنها حالة الإخلاص التي توّجت رحلته السردية الطويلة بالحصول على جائزة نوبل في الآداب عام 1988م، وإن كانت هذه- أيضًا- مصحوبة باندهاشٍ مفارقٍ؛ مفاده أن أمّة الشّعر- والشعرُ ديوان العرب- قدّمت نفسها عالميًّا عبْرَ هويّةٍ نثريَّةٍ وسردِيَّةٍ.
file:///C:/Users/nn/AppData/Local/Temp/msohtml1/01/clip_image004.jpgثَمّة عدول آخر، أو تفضيلٌ مغاير، أتى في تضاعيف شغفه بالتفاصيل الروائية، وهو عدوله عن كتابة الرواية التاريخية، أو بالأحرى، كتابة التاريخ المصري القديم، حيث كان ينوي تقديمه بصورة روتينية على غرار ما فعله سير وولترسكوت في تعامله مع تاريخ اسكتلندا، فبدأ برواية (عبث الأقدار) 1939م، و(رادوبيس) 1943م، و(كفاح طيبة) 1944م، لكن انفعاله الصادق بالأحداث السياسية الساخنة بعد الحرب العالمية الثانية وما خلفته من آثارٍ على المجتمع المصري جعله يرى الكتابة عن مصر الفرعونية- في هذا التوقيت- ضربًا من الترف الزائد، فهرب بقلمه إلى الحارة المصرية؛ لنستقبل- نحن القرّاء- العالمَ والواقعَ من خلال وعي أبطاله من أبناء الطبقات الفقيرة بالوجود والذَّات؛ مما ينفي، أو يُقلل، القولَ بأنه كاتبُ البرجوازية. وهنا أضاف محفوظ إلى إخلاصه الفني إخلاصًا لضمير الوطن ومحليته التي حفر في هوامشها ورَتَّق شروخَها وأزقّتها، وقرأ تفاصيل الانكسار على أوجه البسطاء في دروب القاهرة وأحيائها؛ فقدّم الشخصية (النَّمط) التي ننسى معها النص السردي؛ لتخرج الشخصية من بين أوراق الرواية وتنْدَس في الحياة والواقع، وتبدو كأنها منحوت حقيقي يمكن إلقاؤه على أيةِ ذاتٍ تتماس بها، مثلما خرج السيد أحمد عبدالجواد من الثلاثية ليصبح شخصية حقيقية واقعية من فرط الصدق في توصيفها، إلى حد أن (سي السّيّد) استحضار حقيقي لفعل إنساني يتحرك بيننا، مثلما هي الحال كذلك مع (هاملت) وغيرها من الشخصيات (النّمط)، التي تخرجُ من واقعٍ ذاتيٍّ خاص إلى واقعٍ تخييلي في النَّصِّ الأدبي، ثم تعود مرةً أخرى إلى الواقع، وقد اكتست لحمًا ودما؛ لا يمكنُ معهما تجاهل موهبةِ الحكَّاء/ السَّارد؛ الذي أذاب محلِيَّتَه في بوتقةٍ إنسانيةٍ عامةٍ، أظهرتها الروايات وأشهرتها نوبل.
file:///C:/Users/nn/AppData/Local/Temp/msohtml1/01/clip_image005.gifبَيْدَ أَنَّ الثَّابتَ في تجربة نجيب محفوظ الروائية أنه كان محط أنظار الدرس النقدي الغربي والترجمة قبل نوبل؛ إذ منذ عام 1964 بدأ الالتفات نحو ترجمة أعماله مع لغات الدول الاشتراكية مقارنة باللغات الأخرى، سواءً أكان ذلك على المستوى الأكاديمي في الجامعات أم على مستوى الجمهرة من الكتاب والقراء، ولعل هذا ما يتضح من خلال مقدمة يوري روشين الروسي في رسالته للدكتوراه عن الثلاثية من أكاديمية العلوم السوفييتية عام 1967م، فضلاً عن تنويهه بما في أبطال شخصياتها من قدرة على إعادة خلق نماذج ذلك الزمن بصدق مقنعٍ.
كما كان لإسبانيا دورٌ ملموسٌ في ذلك، فلقد اهتمت بأدبه قبل حصوله على نوبل، فيما ينقله مارتينيث مونتابيث، المستعرب البارز ورئيس جامعة مدريد، عن أن محفوظ شاهدٌ من نوعٍ خاص على أحداث عصره، وأكد ذلك أيضًا الناقد الأمريكي روجر آلن، وغيرهم كثيرون وضعوه في فصيل الكتاب الذين يُقلقهم مصير الإنسان وعبقرية المكان ،وشُبِّه بهؤلاء العالميين الكبار، مثل: بلزاك، وزولا، وجالدوس، وديستويفسكي الذي قرأه محفوظ بإمعانٍ وإعجاب، وتولستوي وجلاسوورذي وفيكتور هيجو، وترولوب، وغيرهم من كتَّاب الرواية الذين يُقيمون النصَّ السرديَّ على بطلٍ وحيد هو الزمن كما هي الحال في الثلاثية، أو المكان مثلما هو بادٍ في (زقاق المدق)، وغيرها.
file:///C:/Users/nn/AppData/Local/Temp/msohtml1/01/clip_image006.jpgكما أن قسم النشر بالجامعة الأمريكية قد بدأ بنشر الترجمات الإنجليزية لأعمال محفوظ منذ 1978م مع إصدار رواية (ميرامار)، وأصبح هذا القسم- منذ 1985م - ناشر نصوصه الرئيسي باللغة الإنجليزية إلى أن بات لدينا رصيد نفخر به؛ تعكسه أربعمائة وخمسون طبعة لأكثر من أربعين لغة من لغات العالم تُرجمت إليها نصوصه، ضمّت الإنجليزية وحدها ثلاثين نصًّا، كما تعد رواية (زقاق المدق) التي تُرجمت تحت عنوان (ممر المدق) هي الأكثر انتشارًا في نصوص محفوظ المترجمة حيث صدر عنها أكثر من ثلاثين طبعة في خمس عشرة لغة، ويليها (بين القصرين)، كما للثلاثية خمس وعشرون طبعة في إثنتي عشرة لغة من اللغات.
رحم الله نجيب محفوظ الذي كتب الإنسان والأشياء والقبح والجمال والانضباط والانفلات؛ ليجعل من رواياته (شِعْرُ الدنيا الجديدة) كاميرا تسجِّل حركةَ الزمن الذي يمضي فينا، وتنقل المكان الذي يتوارثنا جيلاً بعد جيل، وتشهد على تبدلات أفكار محفوظ تارة، وتحولات مجتمعه تارة أخرى.
* أستاذ مساعد بقسم اللغة العربية بكلية الآداب والعلوم ، لديه العديد من المؤلفات من أهمها : "أنا البحر" مجموعة قصصية 1996، "كأني أشبهني" رواية صدرت سنة 1998، "القصة وجدل النوع .. رؤية توصيفية وببليوجرافيا للقصة القصيرة المصرية" عن الدار المصرية اللبنانية للنشر القاهرة 2006م.