مشاهدة النسخة كاملة : أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنه) مناقبه وخلافته
seifellah
2016-01-03, 13:01
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلمتسليمًا كثيرا.
أما بعد؛ فهذا كتاب مختصر في سيرة أمير المؤمنين، وخالهم، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، وصهره، وابن عمه، معاوية بن أبي سفيان الأموي رضي الله عنه، ومناقبه وخلافته. وقسمته إلى فصول.
الفصل الأول اسمه ونسبه
هو أمير المؤمنين، أبو عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر «وهو قريش» بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
وأمه هي هند بنت عم أبيه عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي...إلخ.
يلتقي نسبه من جهة أبيه وأمه مع النبي صلى الله عليه وسلم في جده عبد مناف بن قصي، لأن عبد مناف ولد أربعة من الولد، كلهم أبو قبيلة وذو شرف، وهم:
هاشم – واسمه عامر أبو عمرو -، وهو جد النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: عبد شمس، وهو توأم لهاشم، وهو أبو أمية جد الأمويين.
والثالث: نوفل، هو جد بني نوفل.
والرابع: المطلب، وهو جد المطلبيين، ومنهم الإمام الشافعي.
seifellah
2016-01-03, 13:06
الفصل الثاني مولده
لم أقف على تحديد ولادته، بالدقة إلا ما ذكره ابن حجر في «الإصابة» قال: ولد قبل البعثة بخمس سنين وقيل بسبع وقيل بثلاث عشرة والأول أشهر. اهـ لكن الظاهر من التواريخ والأحداث أنه كان يوم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حدثًا جدًا، إذ كان عمره عام الهجرة النبوية إلى المدينة نحو ثلاث عشرة سنة، فقد ذكر ابن كثير في (البداية والنهاية) أنه مات سنة ستين للهجرة في رجب، واختار أن عمره يوم وفاته ثلاث وسبعون سنة، فيكون عمره يوم الهجرة ثلاث عشرة سنة، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث في مكة قبل الهجرة ثلاث عشرة سنةً – على الأصح – فيكون مولده عام البعثة والله أعلم، ويكون صغيرًا لم يبلغ الحنث أيام وجود النبي صلى الله عليه وسلم بمكة.
لم ينتقل رضي الله عنه إلى المدينة إلا بعد الفتح سنة ثمان، فيكون عمره يوم الفتح إحدى وعشرين سنةً، وهذا أقصى ما ذُكر في بدء إسلامه، بل الأصح أنه أسلم في مدة صلح الحديبية – كما سيأتي -.
ومما يؤيد هذا أنه بعد نُقلته إلى المدينة أيام النبي صلى الله عليه وسلم كان صعلوكًا – لا مال له -، فالظاهر أنه لم يتزوج بعد، فعن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة، قالت: فلما حللت ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم هشام خطباني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أبو الجهم فلا يضع عصاه على عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد»، فكرهته، ثم قال: «انكحي اسامة»، فنكحته، فجعل الله فيه خيرًا، واغتبطت([1]).
وتعني بالغبطة هنا: الفرح والسرور بالشيء فيما بعد.
و«الصعلوك» بالضم الفقير الذي لا مال له، وهذا يدل على أنه كان في غاية من الفقر والفاقة حتى قال في حقه إنه صعلوك، قال النووي رحمه الله: كان معاوية قليل المال جدًا. ا.هـ([2]).
قيل: إن فقره ذلك الوقت لأن أباه كان كافرًا، ولم يسلم بعد، ولم يعط ابنه شيئًا بعدما أسلم، وهذا مردود؛ لأن أباه من مسلمة الفتح، وانتقل للمدينة بعد ذلك، فالأظهر أنه لشح فيه، كما في حديث هند بنت عتبة في (الصحيحين) عن عائشة رضي الله عنها أن هندًا قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي؛ إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»([3]).
[/URL]([1]) أخرجه مسلم (1480).
وقوله: «فلا يضع عصاه عن عاتقه» قال ابن الأثير: أراد: التأديب والضرب، وقيل: أراد به: كثرة الأسفار عن وطنه، يقال: رفع الرجل عصاه: إذا سافر، ووضع عصاه: إذا نزل وأقام. اهـ قلت: والأول أرجح اختاره الإمام البغوي في «شرح السنة» (9/297) وقال: ورواه أبو بكر بن أبي الجهم بن صخير العدوي عن فاطمة، وقال: «وأما أبو جهم، فرجل ضراب للنساء» ا.هـ.
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref1)([2]) شرح النووي على صحيح مسلم (10/98).
[URL="http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref3"]([3]) أخرجه البخاري (2097، 2328، 3613، 5044، 5049، 5055، 6265، 6742، 6758)، ومسلم (1714).
seifellah
2016-01-03, 13:25
الفصل الثالث في إسلامه
أسلم معاوية رضي الله عنه قبل أبيه، وقت عمرة القضاء، في السنة السابعة من الهجرة، وعمره حينئذ أقل من عشرين سنة، وخاف من أبيه أن يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يظهر إسلامه إلا يوم الفتح. وهذا ما رجحه الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) كما سيأتي إن شاء الله. قال الحافظ ابن الجوزي: «قال معاوية لما كان عام الحديبية وكتبوا القضية: وقع الإسلام في قلبي، فذكرت ذلك لأمي، فقالت: إياك أن تخالف أباك، فيقطع عنك القوت، فأسلمت وأخفيت إسلامي، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام القضية وأنا مسلم، وعلم أبو سفيان بإسلامي فقال لي يومًا: أخوك خير منك، هو على ديني، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح، فأظهرت إسلامي، ولقيته فرحب بي، وكتبت له أسلم معاوية، وهو ابن ثمان عشرة سنة». ا.هـ([1]).
قال شيخ الإسلام([2]): «تواتر إسلام معاوية ويزيد وخلفاء بني أمية وبني العباس وصلاتهم وصيامهم وجهادهم للكفار» ا.هـ.
وقال حافظ المشرق أبو بكر الخطيب البغدادي: «أسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة، وكان يقول: أسلمت عام القضية، ولقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعت عنده إسلامي». ا.هـ([3]).
وقال مصعب الزبيري: «كان معاوية يقول: أسلمت عام القضية، لقيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان عام القضية لما صُد النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت» ا.هـ([4]). يعني عمرة القضاء سنة سبع، بعد الحديبية بسنة.
وقال الزبير بن بكار: «ومعاوية بن أبي سفيان كان يقول: أسلمت عام القضية، ولقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعت إسلامي عنده، وقبل مني»([5]).
وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني والحافظ أبو القاسم ابن عساكر: «أسلم قبيل الفتح، وقيل: عام القضية وهو ابن ثمان عشرة، عده ابن عباس من الفقهاء، وقال كان فقيهًا» ا.هـ([6]).
وعن عمر بن عبد الله العنسي قال: قال معاوية رضي الله عنه: لما كان عام الحديبية، وصدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت، وكتبوا بينهم القضية، وقع الإسلام في قلبي، فذكرت لأمي، فقالت: إياك أن تخالف أباك، فأخفيت إسلامي، فوالله لقد رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية وإني مصدق به، ودخل مكة عام عمرة القضية، وأنا مسلم. وعلم أبو سفيان بإسلامي، فقال لي يومًا: لكن أخاك خير منك، وهو على ديني. فقلت: لم آل نفسي خيرًا، وأظهرت إسلامي يوم الفتح، فرحب بي النبي صلى الله عليه وسلم وكُتبت له([7]).
ومما يؤيد ذلك ما صح عن مجاهد وعطاء عن ابن عباس أن معاوية رضي الله عنه: قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص([8]) قلنا لابن عباس ما بلغنا هذا إلا عن معاوية، فقال ابن عباس: ما كان معاوية على رسول الله صلى الله عليه وسلم متهمًا([9]).
وما جاء في بعض الروايات أن ذلك كان في حجة الوداع فغير صحيح، كما قال القاضي عياض وغيره، ورجح النووي والقاضي عياض أنها في عمرة الجعرانة بعد الفتح([10]).
قال ابن حجر في (الإصابة): «وقد أخرج أحمد من طريق محمد بن علي بن الحسين عن بن عباس أن معاوية قال قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة وأصل الحديث في البخاري من طريق طاوس عن بن عباس بلفظ قصرت بمشقص ولم يذكر المروة وذكر المروة يعين أنه كان معتمرًا لأنه كان في حجة الوداع حلق بمنى كما ثبت في الصحيحين عن أنس» ا.هـ.
ورجح الحافظ ابن حجر العسقلاني – رحمه الله – في (الفتح) أن ذلك كان في عمرة القضية سنة سبع، فقال – في شرح هذا الحديث([11]) -: روى مسلم في هذا الحديث أن ذلك كان بالمروة، ولفظه: قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص، وهو على المروة، أو رأيته يقصر عنه بمقشص، وهو على المروة، وهذا يحتمل أن يكون في عمرة القضية أو الجعرانة... وفي كونه في حجة الوداع نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحل حتى بلغ الهدي محله فكيف يقصر عنه على المروة. وقد بالغ النووي هنا في الرد على من زعم أن ذلك كان في حجة الوداع، فقال: هذا الحديث محمول على أن معاوية قصر عن النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الجعرانة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان قارنًا، وثبت أنه حلق بمنى وفرق أبو طلحة شعره بين الناس، فلا يصح حمل تقصير معاوية على حجة الوداع، ولا يصح حمله أيضًا على عمرة القضاء الواقعة سنة سبع؛ لأن معاوية لم يكن يومئذ مسلمًا إنما أسلم يوم الفتح سنة ثمان، هذا هو الصحيح المشهور، ولا يصح قول من حمله على حجة الوداع وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعًا؛ لأن هذا غلط فاحش.
قال ابن حجر: ولم يذكر الشيخ هنا ما مر في عمرة القضية، والذي رجحه من كون معاوية إنما أسلم يوم الفتح صحيح من حيث السند، لكن يمكن الجمع بأنه كان أسلم خفية وكان يكتم إسلامه ولم يتمكن من إظهاره إلا يوم الفتح. وقد أخرج ابن عساكر في «تاريخ دمشق» من ترجمة معاوية تصريح معاوية بأنه أسلم بين الحديبية والقضية، وأنه كان يخفي إسلامه خوفًا من أبويه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل في عمرة القضية مكة خرج أكثر أهلها عنها حتى لا ينظروه وأصحابه يطوفون بالبيت، فلعل معاوية كان ممن تخلف بمكة لسبب اقتضاه، ولا يعارضه أيضًا قول سعد بن أبي وقاص – فيما أخرجه مسلم([12]) وغيره: فعلناها – يعني العمرة في أشهر الحج – وهذا يومئذ كافر بالعرش، - بضمتين، يعني بيوت مكة، يشير إلى معاوية – لأنه يحمل على أنه أخبر بما استصحبه من حاله، ولم يطلع على إسلامه لكونه كان يخفيه. ويعكر على ما جوزوه أن تقصيره كان في عمرة الجعرانة أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب من الجعرانة بعد أن أحرم بعمرة ولم يستصحب أحدًا معه إلا بعض أصحابه المهاجرين، فقدم مكة، فطاف وسعى وحلق ورجع إلى الجعرانة فأصبح بها كبائبٍ، فخفيت عمرته على كثير من الناس. وكذا أخرجه الترمذي وغيره، ولم يعد معاوية فيمن صحبه حينئذ، ولا كان معاوية فيمن تخلف عنه بمكة في غزوة حنين حتى يقال لعله وجده بمكة، بل كان مع القوم([13])، وأعطاه مثل ما أعطى أباه من الغنيمة مع جملة المؤلفة، وأخرج الحاكم في (الإكليل) في آخر قصة غزوة حنين أن الذي حلق رأسه صلى الله عليه وسلم في عمرته التي اعتمرها من الجعرانة أبو هند عبد بني بياضة، فإن ثبت هذا وثبت أن معاوية كان حينئذ معه أو كان بمكة فقصر عنه بالمروة أمكن الجمع بأن يكون معاوية قصر عنه أولًا، وكان الحلاق غائبًا في بعض حاجته، ثم حضر فأمره أن يكمل إزالة الشعر بالحلق؛ لأنه أفضل ففعل، وإن ثبت أن ذلك كان في عمرة القضية وثبت أنه صلى الله عليه وسلم حلق فيها جاء هذا الاحتمال بعينه وحصل التوفيق بين الأخبار كلها، وهذا مما فتح الله علي به في هذا «الفتح» ولله الحمد، ثم لله الحمد أبدًا. انتهى كلام ابن حجر – رحمه الله -.
[/URL]([1]) انظر: تلقيح فهوم أهل الأثر (ص: 112).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref1)([2]) في منهاج السنة النبوية (2/62).
([3]) تاريخ بغداد (1/207).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref3)([4]) تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر (59/66) وسير أعلام النبلاء للذهبي (3/122).
([5]) تاريخ مدينة دمشق (59/66).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref5)([6]) معرفة الصحابة لأبي نعيم (5/2497)، وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر (59/60).
([7]) سير أعلام النبلاء (3/122)، وانظر: طبقات ابن سعد (7/406).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref7)([8]) المشقص: نصل السهم إذا كان طويلًا عريضًا.
([9]) أخرجه البخاري (1730، 1643)، ومسلم (3081، 1246)، وأبو داود (1804)، وأبو نعيم في المستخرج على مسلم (2886)، والبيهقي في السنن (9176)، والطبراني المعجم الكبير (19/309)، والخلال في السنة (674).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref9)([10]) شرح النووي على مسلم (8/231).
([11]) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (3/565).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref11)([12]) رقم (1225).
[URL="http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref13"]([13]) يعني مسلمة الفتح في حنين.
الربيع ب
2016-01-03, 15:22
بارك الله فيك أخي الفاضل وجزاك عنا كل خير
رضي الله عن معاوية وأبيه وعن الصحابة أجمعين
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المقتفين آثارهم المتبعين نهجهم
وليد كمال
2016-01-03, 22:46
مشكوررررررررررررررررر
abra1437mrc
2016-01-04, 10:08
رضي الله عن معاوية
و أين اليوم من الولاة أمثال معاوية
seifellah
2016-01-04, 12:55
الفصل الرابع في صفته رضي الله عنه([1])
كان معاوية رضي الله عنه طويلًا، أبيض، جميلًا، إذا ضحك انقلبت شفته العليا، وكان يخضب.
روى: سعيد بن عبد العزيز، عن أبي عبد ربه: رأيت معاوية يخضب بالصفرة، كأن لحيته الذهب. وقال أسلم مولى عمر: قدم علينا معاوية وهو أبيض الناس، وأجملهم.
وروى محمد بن إسحاق «صاحب السيرة»: عن أبيه: رأيت معاوية بالأبطح أبيض الرأس واللحية، كأنه فلج.
وعن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ قال: رأيت معاوية، وبيده قصة من شعر، فوضعها على رأسه، فما رأيتها على عروس ولا غيرها أجمل منه على معاوية رضي الله عنه([2]).
[/URL]([1]) انظر: سير أعلام النبلاء، للحافظ شمس الدين الذهبي (3/122).
[URL="http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref2"] (http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref1)([2]) رواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/418).
seifellah
2016-01-04, 13:04
الفصل الخامس
في فضله وعلمه وفقهه وصلاحه
لا شك أن معاوية رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته – كما تقدم -، ويكفيه هذا شرفًا وفضلًا، مع الصحبة، وهو خال المؤمنين، وصهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أخته أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو كاتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ونال شرف خدمته في مواقف كثيرة، منها أنه حلق له شعره في إحدى عمره أو في حجته([1])، ومنها ما روى أبو أمية عمرو بن يحيى بن سعيد، قال: سمعت جدي يحدث أن معاوية أخذ الإداوة بعد أبي هريرة يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، واشتكى أبو هريرة، فبينا هو يوضئ رسول الله صلى الله عليه وسلم، رفع رأسه إليه مرة أو مرتين فقال: «يا معاوية، إن وليت أمرًا فاتق الله عز وجل واعدل»، قال: «فما زلت أظن أني مبتلى بعمل لقول النبي صلى الله عليه وسلم، حتى ابتليت»([2]).
وعن عبد الله بن بريدة قال: قال معاوية: أما إنكم لا تجدون رجلًا منزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلتي، أقل حديثًا عنه، إني كنت ختنه([3]) وكنت في كتابه، وكنت أرحل له راحلته([4]).
وعن المسور بن مخرمة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الأنساب تنقطع يوم القيامة، غير نسبي وسببي وصهري»([5]).
وقال أبو بكر الخلال في كتاب (السنة)([6]): أخبرني عبد الملك بن عبد الحميد الميموني قال: قلت لأحمد بن حنبل: أليس قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل صهر ونسب ينقطع إلا صهري ونسبي»؟ قال: بلى! قلت: وهذه لمعاوية؟ قال: نعم، له صهر ونسب، قال: وسمعت ابن حنبل يقول: ما لهم ولمعاوية؟ نسأل الله العافية!
وعن عمر بن بزيع قال سمعت علي بن عبد الله بن عباس وأنا أريد أن أسب معاوية، فقال لي: مهلًا! لا تسبه؛ فإنه صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم([7]).
وعن أبي طالب صاحب الإمام أحمد أنه سأل أبا عبد الله أحمد بن حنبل: أقول معاوية خال المؤمنين وابن عمر خال المؤمنين؟ قال نعم معاوية أخو أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورحمهما، وابن عمر أخو حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورحمهما، قلت أقول معاوية خال المؤمنين؟ قال: نعم([8]).
وقال أبو بكر الخلال أخبرنا أبو بكر المروذي، قال: سمعت هارون ابن عبد الله يقول لأبي عبد الله: جاءني كتاب من الرقة أن قومًا قالوا: لا نقول معاوية خال المؤمنين! فغضب، وقال: ما اعتراضهم في هذا الموضع، يجفون حتى يتوبوا([9])!
وقال الخلال: وأخبرني محمد بن أبي هارون ومحمد بن أبي جعفر أن أبا الحارث حدثهم، قال: وجهنا رقعة إلى أبي عبد الله: ما تقول – رحمك الله – فيمن قال: لا أقول إن معاوية كاتب الوحي! ولا أقول إنه خال المؤمنين! فإنه أخذها بالسيف غصبًا! قال أبو عبد الله: هذا قول سوء رديء، يجانبون هؤلاء القوم، ولا يجالسون، ويبين أمرهم للناس.
قال الحافظ أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي الأصبهاني في كتاب «الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة»([10]) أخبرنا أحمد بن عبد الغفار بن أشتة، أخبرنا أبو منصور معمر بن أحمد([11]) قال: لما رأيت غربة السنة، وكثرة الحوادث واتباع الأهواء أحببت أن أوصي أصحابي وسائر المسلمين بوصية من السنة وموعظة من الحكمة، وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر، وأهل المعرفة والتصوف من السلف المتقدمين، والبقية من المتأخرين، فأقول وبالله التوفيق: ... ثم ذكر فصولًا من السنة، وقال: وإن أفضل الناس وخيرهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي رضوان الله عليهم أجمعين ، فإنهم الخلفاء الراشدون المهديون، بُويع كل واحد منهم يوم بويع، وليس أحد أحق بالخلافة منه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد للعشرة بالجنة، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة بن الزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح y، وأن عائشة الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله مبرأة من كل دنس، طاهرة من كان ريبة، فرضي الله عنها، وعن جميع أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين الطاهرات وأن معاوية بن أبي سفيان كاتب وحي الله وأمينة، ورديف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخال المؤمنين ...إلخ.
وقال الشيخ موفق الدين أبو محمد ابن قدامة المقدسي رحمه الله: ومعاوية خال المؤمنين، وكاتب وحي الله، وأحد خلفاء المسلمين رضي الله تعالى عنهم([12]).
قال الحافظ ابن بطة([13]) في سياق عقيدة أهل السنة والجماعة بعد كلام سبق: وتحب جميع أصحاب رسول الله على مراتبهم ومنازلهم أولًا فأولا، وتترحم على أبي عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان أخي أم حبيبة زوجة رسول الله، خال المؤمنين أجمعين، كاتب الوحي، وتذكر فضائله...إلخ.
وذكر البيهقي في (دلائل النبوة) خبرًا غريبًا، وذكره عنه ابن كثير في (البداية والنهاية) عن الكلبي، وهو شديد الضعف، عن أبي صالح، عن ابن عباس، في هذه الآية: ]عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً[ قال: كانت المودة التي جعل الله بينهم تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان؛ فصارت أم المؤمنين، وصار معاوية خال المؤمنين، قال البيهقي: كذا في رواية الكلبي([14]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والذين أطلقوا على الواحد من أصهار النبي صلى الله عليه وسلم أنه خال المؤمنين، قصدوا بذلك الإطلاق: أن لأحدهم مصاهرة مع النبي صلى الله عليه وسلم، واشتهر ذكرهم لذلك عن معاوية رضي الله عنه، كما اشتهر أنه كاتب الوحي، وقد كتب الوحي غيره، وأنه رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أردف غيره، فهم لا يذكرون ما يذكرون من ذلك لاختصاصه به، بل يذكرون ما له من الاتصال بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما يذكرون في فضائل غيره ما ليس من خصائصه، كقوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «لأعطين الراية رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله»([15])، وقوله: «إنه لعهد النبي الأمي إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق»([16])، وقوله صلى الله عليه وسلم: «أما ترضى أن تكون بمنى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعده»([17])، فهذه الأمور ليست من خصائص علي لكنها من فضائله ومناقبه التي تعرف بها فضيلته، واشتهر رواية أهل السنة لها؛ ليدفعوا بها قدح من قدح في علي رضي الله عنه وجعلوه كافرًا أو ظالمًا من الخوارج وغيرهم، ومعاوية رضي الله عنه أيضًا لما كان له نصيب من الصحبة والاتصال برسول الله صلى الله عليه وسلم، وصار أقوام يجعلونه كافرًا أو فاسقًا، ويستحلون لعنته، ونحو ذلك احتاج أهل العلم أن يذكروا ما له من الاتصال برسول الله صلى الله عليه وسلم، ليرعى بذلك حق المتصلين برسول الله صلى الله عليه وسلم بحسب درجاتهم، وهذا القدر لو اجتهد فيه الرجل وأخطأ لكان خيرًا ممن اجتهد في بغضهم وأخطأ، فإن باب الإحسان إلى الناس والعفو عنهم مقدم على باب الإساءة والانتقام، كما في الحديث: «ادرؤوا الحدود بالشبهات»([18])، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة» اهـ.([19]).
[/URL]([1]) وتقدم أن الصحيح أنه في عمرة القضاء سنة سبع من الهجرة.
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref1)([2]) أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (4/101) بإسناد صحيح.
([3]) الختن بفتح الخاء والتاء هو الصهر. كما في (القاموس).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref3)([4]) أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/426) بسند صحيح.
([5]) رواه أحمد في مسنده (18907)، والخلال في السنة (2/432) بإسناد حسن، والحاكم في مستدركه (4747)، والبيهقي في السنن (13778)، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وصححه ابن الملقن في البدر المنير وغيره.
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref5)([6]) كتاب السنة للحافظ أبي بكر الخلال الحنبلي (654).
([7]) السنة، للخلال (656).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref7)([8]) السنة (657).
([9]) أي يهجرون، حتى يتوبوا من قولهم هذا.
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref9)([10]) الحجة في بيان المحجة (1/247).
([11]) هو الشيخ الزاهد أبو منصور معمر بن أحمد بن محمد اللنباني.
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref11)([12]) لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد (ص: 33).
([13]) في كتاب الشرح والإبانة عن أصول الديانة (ص: 128-129)، ط. علي الحلبي. ونقله عنه مستشهدًا به الفقيه ابن حجر الهيتمي الشافعي في كتاب الصواعق المحرقة على أهل الرفض والزندقة.
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref13)([14]) دلائل النبوة (1339).
([15]) أخرجه البخاري (4210)، ومسلم (2406).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref15)([16]) أخرجه مسلم (78).
([17]) أخرجه مسلم (2404).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref17)([18]) روي بعدة ألفاظ، وانظر الترمذي (1424)، والدارقطني (3/84)، والحاكم (4/384)، وانظر: تلخيص الحبير (4/160).
[URL="http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref19"]([19]) منهاج السنة النبوية (4/370-371).
nadirkorichi
2016-01-05, 15:17
رضي الله عنه
عبدالنور.ب
2016-01-05, 16:54
جزاكم الله خيرا
seifellah
2016-01-17, 22:30
الفصل السادس في علمه وفقهه
كان معاوية من فقهاء الصحابة وعلمائهم المعدودين، قال الحافظ ابن عساكر: «كان من الكتبة، الحسبة، الفصحة، أسلم قبيل الفتح وقيل عام القضية، وهو ابن ثمان عشرة، عده ابن عباس من الفقهاء، وقال: كان فقيهًا» اهـ([1]).
وقد حدث عن: النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب له الوحي والكتب، وحدث أيضًا عن: أخته أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها، وعن: أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما.
روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم مائة حديث وثلاثة وستون حديثًا([2])، روى عنه من الصحابة جرير بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري، والنعمان بن بشير، وعبد الله بن الزبير، وابن عباس، ومن التابعين سعيد بن المسيب، وأبو صالح السمان، وأبو إدريس الخولاني، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعروة بن الزبير، وسعيد المقبري، وخالد بن معدان، وهمام بن منبه، وعبد الله بن عامر المقرئ، والقاسم أبو عبد الرحمن، وعمير بن هانئ، وعبادة بن نسي، وسالم بن عبد الله، ومحمد بن سيرين، ووالد عمرو بن شعيب، وخلق سواهم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قال: «خرج معاوية على حلقة في المسجد، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قال: آلله ما أجلسنا غيره، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمةً لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثًا مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومن به علينا، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمةً لكم، ولكنه أتاني جبريل، فأخبرني أن الله عليه السلام يباهي بكم الملائكة»([3]).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ما رأيت أحدًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من أميركم هذا – يعني معاوية -([4]).
وعن عمرو بن واقد: حدثنا يونس بن ميسرة: سمعت معاوية يقول على منبر دمشق: تصدقوا، ولا يقل أحدكم، إني مقل، فإن صدقة المقل أفضل من صدقة الغني([5]).
وعن ابن أبي مليكة قال قيل لابن عباس: هل لك في معاوية ما أوتر إلا بواحدة! قال: أصاب، إنه فقيه([6]).
وعن كريب مولى ابن عباس: أنه رأى معاوية صلى العشاء، ثم أوتر بركعة واحدة لم يزد، فأُخبر ابن عباس، فقال: أصاب، أي بني! ليس أحد منا أعلم من معاوية، هي واحدة أو خمس أو سبع، أو أكثر([7]).
[/URL]([1]) تاريخ مدينة دمشق (59/60).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref1)([2]) تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص: 172).
([3]) أخرجه مسلم (2701)، والترمذي (3379)، والنسائي (5426).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref3)([4]) أخرجه الطبراني في مسند الشاميين (282، 283).
([5]) أخرجه الطبراني في مسند الشاميين (2191)، وابن عساكر في تاريخ دمشق.
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref5)([6]) رواه البخاري (3554).
[URL="http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref7"]([7]) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (4641)، والشافعي في مسنده (386)، ومن طريقه البيهقي في السنن (4988).
seifellah
2016-01-17, 22:33
الفصل السابع كتابته للوحي ومنزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم
من فضل الله عليه أن شرفه بكتابة الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان كاتبًا أمينًا، فعن عبد الله بن عمرو، قال: كان معاوية يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية([1]) والذهبي([2]) وابن القيم([3]) وابن كثير([4]) وابن حجر وجماعات من العلماء والمؤرخين في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بالغ مبلغ التواتر المعنوي، قال الذهبي وابن حجر: وفي مسند أحمد – وأصله في مسلم – عن ابن عباس قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «ادع لي معاوية» وكان كاتبه([5]).
[/URL]([1]) منهاج السنة النبوية (4/371).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref1)([2]) في سير أعلام النبلاء (3/122-123).
([3]) زاد المعاد في هدي خير العباد (1/117).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref3)([4]) في البداية والنهاية في حوادث سنة 60هـ.
[URL="http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref5"]([5]) الإصابة في تمييز الصحابة (10/231).
seifellah
2016-01-17, 22:43
الفصل الثامن فضائله ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم له
الأحاديث في فضائل معاوية رضي الله عنه ومناقبه خاصة، وافرة مشهورة بعضها في الصحيحين. قال الحافظ ابن كثير([1]): قال ابن عساكر([2]): وأصح ما رُوي في فضل معاوية حديث أبي حمزة عن ابن عباس أنه كاتب النبي منذ أسلم، أخرجه مسلم في صحيحه، وبعده حديث العرباض: «اللهم علمه الكتاب»([3])، وبعد حديث ابن أبي عميرة: «اللهم اجعله هاديًا مهديًا»([4]).
وقال الحافظ الذهبي([5]): روى جماعة: عن معاوية بن صالح، عن يونس بن سيف، عن الحارث بن زياد، عن أبي رهم السماعي، عن العرباض رضي الله عنه: سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو إلى السحور في شهر رمضان: «هلم إلى الغداء المبارك»، ثم سمعته يقول: «اللهم علم معاوية الكتاب، والحساب، وقه العذاب»([6])، رواه: ابن مهدي، وأسد السنة، وأبو صالح، وبشر بن السري، عنه، وللحديث شاهد قوي، أبو مسهر: حدثنا سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني – وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية: «اللهم علمه الكتاب، والحساب، وقه العذاب»([7])، وهو حديث مشهور، له طرق وشواهد كثيرة مرسلة إلى متصلة تقويه، وتثبت أنه ليس فيه تفرد.
ومنها عن جماعة عن أبي هلال، حدثنا جبلة بن عطية، عن مسلمة بن مخلد – أو عن رجل عن مسلمة بن مخلد -، أنه رأى معاوية يأكل فقال لعمرو بن العاص: إن ابن عمك هذا لمخضد، أما إني أقول هذا، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم علمه الكتاب، ومكن له في البلاد وقه العذاب»([8]).
قال الذهبي: وجاء نحوه من مراسيل الزهري، ومراسيل عروة بن رويم، وحريز بن عثمان.
ومنها عن عبد الرحمن بن أبي عميرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لمعاوية: «اللهم اجعله هاديًا، مهديًا واهدِ به»([9]).
ومنها عن شريح بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لمعاوية بن أبي سفيان: «اللهم علمه الكتاب، والحساب، وقه العذاب»([10])، وقال الذهبي: هذا حديث مرسل قوي.
عن عبد الله بن بسر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في أمرٍ، فقال: «أشيروا» فقالا: الله ورسوله أعلم، فقال صلى الله عليه وسلم: «أشيروا علي» فقالا: الله ورسوله أعلم، فقال: «ادعوا معاوية» فقال أبو بكر وعمر: أما كان في رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلين من رجال قريش ما ينفذون أمرهم حتى يبعث الله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غلام من غلمان قريش، فقال: «ادعوا لي معاوية» فلما وقف بين يديه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحضروا أمركم، وأشهدوه أمركم؛ فإنه قوي أمين»([11]).
وعن جبير بن نفير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير ومعه جماعة، فذكروا الشام، فقال رجل: كيف نستطيع الشام وفيه الروم؟ قال:- ومعاوية في القوم، وبيده عصا – فضرب بها كتف معاوية، وقال: «يكفيكم الله بهذا»، قال الذهبي: «هذا مرسل، قوي، فهذه أحاديث مقاربة» ا.هـ.
وعن أبي إدريس الخولاني قال: لما عزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمير بن سعد عن حمص ولى معاوية، فقال الناس: عزل عميرًا وولى معاوية؟! فقال عمير: لا تذكروا معاوية إلا بخير، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم اهد به»([12]).
ومنها أنه أول من غزا البحر وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه قد أوجب فقد أخرج البخاري – رحمه الله – في صحيحه([13]) عن أنس بن مالك عن خالته أم حرام بنت ملحان، قالت: نام النبي صلى الله عليه وسلم يومًا قريبًا مني، ثم استيقظ يبتسم، فقلت: ما أضحكك؟ قال: «أناس من أمتي عرضوا علي، يركبون هذا البحر الأخضر، كالملوك على الأسرة»! قالت: فادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، ثم نام الثانية، ففعل مثلها، فقالت قولها، فأجابها مثلها، فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: «أنت من الأولين»، فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازيًا أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية، فلما انصرفوا من غزوتهم قافلين، فنزلوا الشام، فقربت إليها دابة لتركبها، فصرعتها فماتت.
قال ابن حجر معلقًا على رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قوله: «ناس من أمتي عرضوا علي غزاة...» يشعر بأن ضحكه كان إعجابًا بهم، وفرحًا لما رأى لهم من المنزلة الرفيعة» ا.هـ.
وعن أم حرام بنت ملحان رضي الله عنه قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا». قالت أم حرام: قلت: يا رسول الله أنا فيهم؟ قال: «أنت فيهم»، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر – أي القسطنطينية – مغفور لهم»، فقلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: «لا»([14]).
ومعنى «أوجبوا»: أي فعلوا فعلًا وجبت لهم به الجنة([15]). قال المهلب بن أحمد بن أبي صفرة الأسدي الأندلسي (ت435هـ) معلقًا على هذا الحديث: في هذا الحديث منقبة لمعاوية لأنه أول من غزا البحر([16]).
قلت: ومن المتفق عليه بين المؤرخين أن غزو البحر وفتح جزيرة قبرص كان في سنة (27هـ) في إمارة معاوية رضي الله عنه على الشام، أيام خلافة عثمان رضي الله عنه، وكذلك غزو القسطنطينية كان في منتصف عهده([17]).
قال ابن كثير: «وقد كان يزيد أول من غزى مدينة قسطنطينية في سنة تسع وأربعين في قول يعقوب بن سفيان، وقال خليفة بن خياط: سنة خمسين، ثم حج بالناس في تلك السنة بعد مرجعه من هذه الغزوة من أرض الروم. وقد ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أول جيش يغزو مدينة قيصر مغفور لهم»، وهو الجيش الثاني الذي رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه عند أم حرام فقالت: «ادع الله أن يجعلني منهم»، فقال: «أنت من الأولين»، يعني جيش معاوية حين غزا قبرص ففتحها في سنة سبع وعشرين أيام عثمان بن عفان، وكانت معهم أم حرام فماتت هنالك بقبرص، ثم كان أمير الجيش الثاني ابن يزيد بن معاوية، ولم تُدرك أم حرام جيش يزيد هذا، وهذا من أعظم دلائل النبوة» ا.هـ.
وقال الخلال: وأخبرنا أبو بكرالمروذي، قال: قلت لأبي عبد الله: أيما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز فقال: معاوية أفضل، لسنا نقيس بأصحاب رسول الله أحدًا قال النبي صلى الله عليه وسلم «خير الناس قرني الذي بعثت فيهم»([18]).
وقال الخلال: أخبرني يوسف بن موسى وأحمد بن الحسين بن حسان أن أبا عبد الله قيل له: هل يُقاس بأصحاب رسول الله أحد؟ قال: معاذ الله! قيل: فمعاوية أفضل من عمر بن عبد العزيز قال: أي لعمري، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني».
وقال سمعت أبا بكر بن صدقة يقول: حدثنا إبراهيم بن سعيد، قال: سمعت أبا أسامة([19]) وذكروا له معاوية رضي الله عنه وعمر بن عبد العزيز، فقال: لا يقاس بأصحاب النبي أحد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني».
وقال الخلال: أخبرني أبو بكر المروذي قال: كتب إلينا علي بن خشرم، قال: سمعت بشر بن الحارث([20]) يقول: سُئل المعافى([21]) وأنا أسمع أو سألته: معاوية أفضل أو عمر بن عبد العزيز، فقال: كان معاوية أفضل من ستمائة مثل عمر بن عبد العزيز!
قال الخلال: أخبرنا يعقوب بن سفيان، قال ثنا أبو عاصم، عن ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله أي الناس أفضل؟ قال: «أنا ومن معي» قيل: ثم من؟ قال: «الذين على الأثر» قيل: ثم من؟ قال: «الذي على الأثر» ثم رفضهم في الرابعة([22]).
قال الخلال: أخبرني محمد بن يزيد بن سعيد النهرواني، قال: وجدت في كتاب أبي بخطه قال: حدثني الفضل بن جعفر، قال يا أبا عبد الله([23]): أيش تقول في حديث قبيصة، عن عباد السماك، عن سفيان: أئمة العدل خمسة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز! فقال: هذا باطل. يعني ما ادعى على سفيان([24])! ثم قال: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدانيهم أحد، أصحاب رسول الله لا يقاربهم أحد.
قال: وسألت أبا معمر الكرخي([25]) عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبو بكر وعمر وعثمان. قلت: إن عندنا إنسانًا يقول: وعلي وعمر بن عبد العزيز! فقال أبو معمر: ما قال بهذا أحد([26]) ويحك من هذا؟ لم تصحبون مثل هذا! لم يخطئ معاوية؟ أصحاب محمد عليه السلام خير الناس بعد رسول الله، لو جاء من بعدهم بأمثال الجبال من الأعمال لكانوا أفضل منه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه»([27]) ولو أن رجلًا في قلبه على أصحاب محمد لكان كافرًا؛ لأن الله عز وجل يقول: ]أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ[ [الفتح: 29] فمن كان في قلبه غيظ فهو كافر([28]).
[/URL]([1]) في البداية والنهاية (11/410).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref1)([2]) انظر: تاريخ دمشق، لابن عساكر (59/106).
([3]) سيأتي.
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref3)([4]) سيأتي.
([5]) في السير (3/125).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref5)([6]) أخرجه الإمام أحمد في المسند (17152)، وفضائل الصحابة (1748)، والطبراني في المعجم الكبير (18/628)، وصححه ابن خزيمة (1938)، وابن حبان (2278 موارد)، وصححه الألباني في الصحيحة (3227).
([7]) أخرجه البخاري بإسناد صحيح في تاريخه الكبير (5/240)، والطبراني في مسند الشاميين (1/190) والترمذي وحسنه وقال الشيخ الألباني: صحيح كما في السلسلة الصحيحة (1969)، وصحيح سنن الترمذي (3/236).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref7)([8]) أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة (2/915)، والطبراني في معجمه الكبير (19/439) وغيرهم، ورواه الإمام أحمد في فضائل الصحابة (2/913) بسند صحيح عن شُريح بن عُبيد مرسلًا. قال الألباني: وهذا إسناد شامي مرسل صحيح، رجاله ثقات. ورواه الحسن بن عرفة في جزئه (66)، ومن طريقه ابن عساكر (59/79) بسند صحيح عن حريز بن عثمان الرحبي مرسلًا. قال الألباني: «وهذا أيضًا إسناد شامي مرسل صحيح. ورواه ابن عساكر (59/85) بسند صحيح عن يونس بن ميسرة بن حلبس مرسلا» ا.هـ. انظر: السلسلة الصحيحة (3227).
([9]) أخرجه الإمام البخاري بسند صحيح في التاريخ الكبير (5/240)، والطبراني في مسند الشاميين (1/190)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2/358).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref9)([10]) أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة (2/914).
([11]) أخرجه الطبراني في مسند الشاميين (1110)، ورواه البزار مختصرًا (2721)، عن عمر بن الخطاب السجستاني، عن نعيم به، وفي نعيم كلام، قال الهيثمي في المجمع (9/356): «فهو حديث منكر».
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref11)([12]) رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/236).
([13]) البخاري مع الفتح (6/22).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref13)([14]) أخرجه البخاري (6/22 فتح). ومسلم (13/57 نووي).
([15]) قاله ابن حجر في الفتح (6/121).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref15)([16]) انظر: الفتح، لابن حجر (6/120).
([17]) انظر: تاريخ الطبري (4/258)، وتاريخ الإسلام، للذهبي، عهد الخلفاء الراشدين (ص: 317).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref17)([18]) أخرجه البخاري (3649) بنحوه.
([19]) حماد بن أسامة من أئمة الحديث وشيوخ الإسلام.
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref19)([20]) هو الحافي.
([21]) هو المعافى بن عمران شيخ أهل السنة في الموصل والجزيرة.
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref21)([22]) في سنده ضعف وأخرجه الإمام أحمد في المسند (2/297).
([23]) هو أحمد بن حنبل.
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref23)([24]) قال الذهبي في ميزان الاعتدال: «عباد السماك عن سفيان الثوري وعنه قبيصة لا يدرى من هو!»، وقال ابن حجر في التقريب: «عباد السماك عن الثوري: مجهول!».
([25]) قال الذهبي: «الإمام الحافظ الكبير الثبت، أبو معمر، إسماعيل بن إبراهيم بن معمر بن الحسن الهذلي الهروي، ثم البغدادي حدث عنه: البخاري، ومسلم، وأبو داود، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ذكره محمد بن سعد في طبقاته فقال: ثقة ثبت، صاحب سنة وفضل. قال عبيد بن شريك البزار: كان أبو معمر القطيعي من شدة إدلاله بالسنة يقول: لو تكلمت بلغتي لقالت: إنها سنية» ا.هـ.
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref25)([26]) يعني تفضيل عمر بن عبد العزيز على معاوية، لم يقل به أحد من علماء السنة.
([27]) أخرجه البخاري (3673) بنحوه.
[URL="http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref28"] (http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref27)([28]) السنة، للخلال (666).
islem310
2016-01-18, 13:05
شكرااااااااااا
حسين3033
2016-01-19, 01:28
رضي الله عنه وأرضاه اللهم احشرنا مع الصحابة
seifellah
2016-01-21, 20:27
تنبيه:
قد شاع في بعض الكتب نسبة قول لبعض المحدثين بعدم صحة الحديث في فضائل معاوية، فهذا غير دقيق؛ لأن لعلماء الحديث اصطلاحًا قديمًا في تقسيم الحديث إلى صحيح وضعيف فقط، فالصحيح عندهم هو ما ثبت عدالة رواته وتمام ضبطهم واتصال السند، فلا يدخل فيه إلا قسم الصحيح لذاته عند المتأخرين، وما سوى ذلك يسمونه ضعيفًا باعتبار السند، فيدخل فيه الصحيح لغيره والحسن لذاته والحسن لغيره، فهذه من قسم الضعيف المنجبر بعضها أقوى من بعض، ويدخل فيه الضعيف غير المنجبر([1]).
ولهذا أمثلة كثيرة لأحاديث ضعفها الحفاظ ويعملون بها من باب القبول، ومن هذا الباب قول الإمام البخاري أنه لم يجد في فضائل معاوية شيئًا، فقد أجاب عنها ابن حجر بقوله: إن كان المراد أنه لم يصح منها شيء وفق شرطه – أي شرط البخاري – فأكثر الصحابة كذلك، ولكنه أخرج في صحيحه وتاريخه أحاديث صحيحة في فضائل معاوية رضي الله عنه.
إذا تقرر هذا ففضائل معاوية رضي الله عنه كثيرة مما صح فيه خاصة وما ورد من نصوص في فضل عموم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: ]وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ[ [الحديد: 10].
قال ابن كثير: أي: لا يستوي هذا ومن لم يفعل كفعله، وذلك أن قبل فتح مكة كان الحال شديدًا، فلم يكن يؤمن حينئذ إلا الصديقون، وأما بعد الفتح فإنه قد ظهر الإسلام ظهورًا عظيمًا، ودخل الناس في دين الله أفواجًا؛ ولهذا قال: ]أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى[ والجمهور على أن المراد بالفتح هاهنا فتح مكة، وعن الشعبي وغيره أن المراد بالفتح هاهنا: صلح الحديبية، وقوله: ]وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى[ يعني المنفقين قبل الفتح وبعده، كلهم لهم ثواب على ما عملوا، وإن كان بينهم تفاوت في تفاضل الجزاء، كما قال: ]لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلًا وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا[ [النساء: 95]. وإنما نبه بهذا لئلا يهدر جانب الآخر بمدح الأول دون الآخر، فيتوهم متوهم ذمه؛ فلهذا عطف بمدح الآخر والثناء عليه، مع تفضيل الأول عليه؛ ولهذا قال: ]وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ[ أي: فلخبرته فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن فعل ذلك بعد ذلك، وما ذلك إلا لعلمه بقصد الأول وإخلاصه التام، وإنفاقه في حال الجهد والقلة والضيق، وفي الحديث: «سبق درهم مائة ألف»([2]) ولا شك عند أهل الإيمان أن الصديق أبا بكر، رضي الله عنه، له الحظ الأوفر من هذه الآية، فإنه سيد من عمل بها من سائر أمم الأنبياء، فإنه أنفق ماله كله ابتغاء وجه الله تعالى، ولم يكن لأحد عنده نعمة يجزيه بها. اهـ.
قال القرطبي: «قوله تعالى: ]وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى[ أي المتقدمون المتناهون السابقة، والمتأخرون اللاحقون، وعدهم الله جميعًا الجنة مع تفاوت الدرجات» ا.هـ.
وقال الطاهر بن عاشور: «وقوله: ]وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى[ احتراس من أن يتوهم متوهم أن اسم التفضيل مسلوب المفاضلة للمبالغة مثل ما في قول: ]قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ[ [يوسف: 33]، أي حبيب إلي دون ما يدعونني إليه من المعصية، وعبر بالحسنى لبيان أن الدرجة هي درجة الحسنى ليكون للاحتراس معنى زائد على التأكيد وهو ما فيه من البيان» ا.هـ.
وقال تعالى: ]وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ {74} وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[ [الأنفال: 74-75]. وقال تعالى: ]لَـكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {88} أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[ [التوبة: 88-89].
قال الإمام الطحاوي في (عقيدة أهل السنة والجماعة): «ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان» ا.هـ.
قال شارحها الشيخ علي بن أبي العز الحنفي رحمه الله([3]): «يشير الشيخ – رحمه الله – إلى الرد على الروافض والنواصب، وقد أثنى الله تعالى على الصحابة هو ورسوله، ورضي عنهم، ووعدهم الحسنى، كما قال تعالى: ]وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[ [التوبة: 100]. وقال تعالى: ]مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا[ [الفتح: 29]، إلى آخر السورة، وقال تعالى: ]لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ[ [الفتح: 18]. وقال تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ[ [الأنفال: 72]، إلى آخر السورة. وقال تعالى ]لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ[ [الحديد: 10]، وقال تعالى: ]لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ {8} وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {9} وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ[ [الحشر: 8-10]، وهذه الآيات تتضمن الثناء على المهاجرين والأنصار، وعلى الذين جاءوا من بعدهم، يستغفرون لهم، ويسألون الله أن لا يجعل في قلوبهم غلا لهم، وتتضمن أن هؤلاء هم المستحقون للفيء، فمن كان في قلبه غل للذين آمنوا ولم يستغفر لهم لا يستحق في الفيء نصيبًا، بنص القرآن، وفي الصحيحين([4]) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء، فسبه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أحدًا من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحدٍ ذهبًا، ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه»، انفرد مسلم بذكر سب خالد لعبد الرحمن، دون البخاري، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لخالد ونحوه: «لا تسبوا أصحابي»، يعني عبد الرحمن وأمثاله، لأن عبد الرحمن ونحوه هم السابقون الأولون، وهم الذين أسلموا من قبل الفتح وقاتلوا، وهم أهل بيعة الرضوان، فهم أفضل وأخص بصحبته ممن أسلم بعد بيعة الرضوان، وهم الذين أسلموا بعد الحديبية، وبعد مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة، ومنهم خالد ابن الوليد، وهؤلاء أسبق ممن تأخر إسلامهم إلى فتح مكة، وسموا الطلقاء، منهم أبو سفيان وابناه يزيد ومعاوية، والمقصود أنه نهى من له صحبة آخرًا أن يسب من له صحبة أولًا، لامتيازهم عنهم من الصحبة بما لا يمكن أن يشركوهم فيه، حتى لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، فإذا كان هذا حال الذين أسلموا بعد الحديبية، وإن كان قبل فتح مكة فكيف حال من ليس من الصحابة بحال من الصحابة؟! رضي الله عنهم أجمعين.
والسابقون الأولون – من المهاجرين والأنصار – هم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، وفي صحيح مسلم عن جابر، قال: قيل لعائشة رضي الله عنها: إن ناسًا يتناولون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أبا بكر وعمر! فقالت: وما تعجبون من هذا! انقطع عنهم العمل، فأحب الله أن لا يقطع عنهم الأجر، وروى ابن بطة بإسناد صحيح، عن ابن عباس، أنه قال: لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فلمقام أحدهم ساعة يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم، خير من عمل أحدكم أربعين سنة، وفي رواية وكيع: خير من عبادة أحدكم عمره، وفي الصحيحين من حديث عمران بن حصين وغيره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»([5]).قال عمران: فلا أدري: أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، الحديث، وقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة»([6])، وقال تعالى: ]لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ[ [التوبة: 117] الآيات، ولقد صدق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في وصفهم، حيث قال: إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، وابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئًا فهو عند الله سيء، وفي رواية: وقد رأى أصحاب محمد جميعًا أن يستخلفوا أبا بكر فمن أضل ممن يكون في قلبه غل على خيار المؤمنين، وسادات أولياء الله تعالى بعد النبيين؟ بل قد فضلهم اليهود والنصارى بخصلة، قيل لليهود: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى، وقيل للنصارى: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب عيسى، وقيل للرافضة: من شر أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب محمد!! لم يستثنوا منهم إلا القليل، وفيمن سبوهم من هو خير ممن استثنوهم بأضعاف مضاعفة.
وقوله: «ولا نفرط في حب أحد منهم»، أي لا نتجاوز الحد في حب أحد منهم، كما تفعل الشيعة، فنكون من المعتدين، قال تعالى: ]يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ[ [النساء: 171].
وقوله: «ولا نتبرأ من أحد منهم»، كما فعلت الرافضة! فعندهم لا ولاء إلا ببراء، أي لا يتولى أهل البيت حتى يتبرأ من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما!! وأهل السنة يوالونهم كلهم، وينزلونهم منازلهم التي يستحقونها، بالعدل والإنصاف، لا بالهوى والتعصب، فإن ذلك كله من البغي الذي هو مجاوزة الحد، كما قال تعالى: ]فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ[ [الجاثية: 17]، وهذا معنى قول من قال من السلف: الشهادة بدعة، والبراءة بدعة، يُروى ذلك عن جماعة من السلف، من الصحابة والتابعين، منهم: أبو سعيد الخدري، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، والضحاك، وغيرهم، ومعنى الشهادة: أن يشهد على معين من المسلمين أنه من أهل النار، أو أنه كافر، بدون العلم بما ختم الله له به.
وقوله: وحبهم دين وإيمان وإحسان؛ لأنه امتثال لأمر الله فيما تقدم من النصوص، وروى الترمذي عن عبد الله بن مغفل، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضًا بعدي([7])، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله تعالى، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه»([8]) ا.هـ.
[/URL]([1]) قال الحافظ ابن القيم – في كتاب إعلام الموقعين (1/31) في سياق ذكر أصول الإمام أحد التي بنى عليها مذهبه -: «الأصل الرابع: الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه وهو الذي رجحه على القياس، وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا المنكر ولا ما في روايته تهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه، والعمل به؛ بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح وقسم من أقسام الحسن، ولم يكن يقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، بل إلى صحيح وضعيف، وللضعيف عنده مراتب، فإذا لم يجد في الباب أثرًا يدفعه ولا قول صاحب ولا إجماعًا على خلافه كان العمل به عنده أولى من القياس، وليس أحد من الأئمة إلا وهو موافقة على هذا الأصل من حيث الجملة فإنه ما منهم أحد إلا وقد قدم الحديث الضعيف على القياس» ا.هـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (18/23 و25): «وأما قسمة الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف فهذا أول من عرف أنه قسمه هذه القسمة أبو عيسى الترمذي، ولم تعرف هذه القسمة عن أحدٍ قبله، وقد بين أبو عيسى مراده بذلك. فذكر: أن الحسن قد تعددت طرقه ولم يكن فيهم متهم بالكذب ولم يكن شاذًا وهو دون الصحيح الذي عرفت عدالة ناقليه وضبطهم... وأما من قبل الترمذي من العلماء فما عرف عنهم هذا التقسيم الثلاثي لكن كانوا يقسمونه إلى صحيح وضعيف، والضعيف عندهم نوعان: ضعيف ضعفًا لا يمتنع العمل به وهو يشبه الحسن في اصطلاح الترمذي. وضعيف ضعفًا يوجب تركه وهو الواهي وهذا بمنزلة مرض المريض قد يكون قاطعًا بصاحبه فيجعل التبرع من الثلث، وقد لا يكون قاطعًا بصاحبه وهذا موجود في كلام الإمام أحمد وغيره؛ ولهذا يقولون: هذا فيه لين، فيه ضعف، وهذا عندهم موجود في الحديث» ا.هـ.
وقال العلامة التعانوي في كتابه قواعد في علوم الحديث (ص: 99-100): «قال الحافظ ابن تيمية: إثبات الحسن اصطلاح الترمذي وغير الترمذي من أهل الحديث ليس عندهم إلا صحيح وضعيف، والضعيف عندهم ما انحط عن درجة الصحيح، ثم قد يكون متروكًا وهو أن يكون متهمًا بالكذب أو كثير الغلط، وقد يكون حسنًا بأن لا يتهم بالكذب، وهذا معنى قول أحمد: والعمل بالضعيف أولى من القياس» ا.هـ.
فالمشهور أن أول من عرف الحديث الحسن وشهره هو الإمام أبو عيسى الترمذي – رحمه الله – وتعريفه له ينطبق على الحسن لغيره، قال رحمه الله في العلل الصغير له الذي ختم به جامعه: «وما ذكرنا في هذا الكتاب حديث حسن فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا، كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذًا، وُيروى من غير وجه» ا.هـ. انظر: العلل في آخر جامع الترمذي (5/758).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref1)([2]) رواه النسائي في السنن (2528)، وصححه ابن خزيمة (2443)، وابن حبان (838 موارد)، والحاكم (1519) من حديث أبي هريرة. وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه» ا.هـ.
([3]) شرح الطحاوية (1/467).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref3)([4]) أخرجه البخاري (3673)، ومسلم (2540).
([5]) أخرجه البخاري (6429)، ومسلم (2533).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref5)([6]) ينظر البخاري (4155)، ومسلم (1857).
([7]) الغرض: الهدف، أي: لا تجعلوهم هدفًا ومرمى ترمونهم بأقوالكم وطعنكم وسبابكم.
[URL="http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref8"] (http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref7)([8]) أخرجه أحمد في المسند (20549) وفي فضائل الصحابة (3)، والترمذي (3862)، وابن أبي عاصم في السنة (992)، والروياني في مسنده (882) والبيهقي في الاعتقاد (ص: 207)، والبغوي في شرح السنة (3860)، وصححه ابن حبان (7256)، وحسنه الترمذي، وضعفه غيرهما.
seifellah
2016-01-21, 20:34
الفصل التاسع: صلاحه وإصلاحاته ورأفته بالرعية
عن قيس بن أبي حازم قال: أخرج معاوية ذراعيه كأنهما عسيبا نخل، فقال: ما الدنيا إلا ما رأينا وجربنا، والله لوددت أني لا أغبر فيكم إلا ثلاث حتى ألحق بالله – تعالى -! قالوا: يا أمير المؤمنين إلى رحمة الله – تعالى – ورضانه، وإلى ما شاء، قد علم الله تعالى إني لم آلو، وما أراد الله – تعالى – أن يغير غيره([1]).
وعن المسور بن مخرمة قال قال معاوية رضي الله عنه: «ما كنت لأخير ما بين الله تعالى وبين ما سواه إلا اخترت الله سبحانه وتعالى على ما سواه»([2]).
وعن ابن أبي حملة، عن أبيه، قال: رأيت معاوية على المنبر، وعليه قباء مرقوع([3]).
وعن أبي هريرة المكتب حباب، قال: كنا عند الأعمش فذكروا عمر بن عبد العزيز وعدله، فقال الأعمش: فكيف لو أدركتم معاوية؟ قالوا: يا أبا محمد يعني في حلمه، قال: لا والله، ألا بل في عدله([4]).
وعن قتادة، قال: لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثركم هذا المهدي([5]).
وعن أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق: ما رأيت بعده مثله – يعني معاوية -([6]).
[/URL]([1]) رواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/422).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref1)([2]) رواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/423).
([3]) الآحاد والمثاني (1/423).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref3)([4]) السنة، للخلال (667).
([5]) السنة، للخلال (668، 669).
[URL="http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref6"] (http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref5)([6]) السنة، للخلال (670).
seifellah
2016-01-27, 21:28
الفصل العاشر: في كرمه وجوه وسؤدده
كان رضي الله عنه معدودًا من كرماء الرجال، وأجواد الخلفاء، فعن عبد الله بن بريدة أن الحسن بن علي رضي الله عنه دخل على معاوية رضي الله عنه فقال: لأجيزنك بجائزة لم أجز بها أحدًا قبلك، ولا أجيز بها أحدًا من العرب بعدك، فأجازه بأربع مائة ألف ألف فقبلها([1]).
وعن عطاء أن عائشة رضي الله عنها بعث إليها معاوية رضي الله عنه بقلادة قومت مائة ألف درهم، فقسمتها بين أمهات المؤمنين لا أدري دنانير أو دراهم([2]).
وعن جبير بن نفير عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: لا مدينة بعد عثمان، ولا رخاء بعد معاوية رضي الله عنهما([3]).
وعن معمر عن همام بن منبه، قال: سمعت ابن عباس يقول: ما رأيت رجلًا كان أخلق للملك من معاوية، إن كان الناس ليردون منه على وادي الرحب، ولم يكن كالضيق الحصيص الضجر المتغضب([4]).
قال الخلال: سألت أحمد بن يحيى ثعلب عن حديث ابن عباس: لم يكن معاوية كالضيق الحصيص، فقال: الذي يضبط الأمور. قلت لثعلب: يكون أنه يعني لم يكن ضيق الخلق، قال: يكون في الخلق وغيره، إلا أنه في المال أكثر.
عن أبي إسحاق، قال: لما قدم معاوية عرض الناس على عطية آبائهم حتى انتهى إلي فأعطاني ثلاثمائة درهم([5]).
[/URL]([1]) رواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/415).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref1)([2]) رواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/418).
([3]) رواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/430).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref3)([4]) رواه الخلال في السنة (677).
[URL="http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref5"]([5]) رواه الخلال (676) بسند صحيح.
أم سمية الأثرية
2016-01-28, 07:58
بارك الله فيكم وجزاكم الله خيرا على هذا النقل الطيب
فاليوم أصبحنا نسمع من يطعن فيه و على رؤوس المنابر وممن يدعي أنه من اهل السنة والجماعة و الله المستعان
سُئل أبوعبد الرحمن النسائي عن معاويةَ بن أبي سفيان -صاحبِ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ـ، فقال: «إنما الإسلام كدارٍ لها بابٌ، فبابُ الإسلام الصحابة، فمن آذى الصحابةَ إنما أرادَ الإسلام، كمن نَقرَ البابَ إنما يريدُ دخولَ الدار؛ فمن أراد معاويةَ فإنما أراد الصحابة».
ذكره الحافظ المزي في تهذيب الكمال (1/ 45)
وعن العرباض بن سارية –رضي الله عنه- قال سمعت رسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهمَّ عَلِّمْ مُعَاوِيَةَ الْكِتَابَ وَالْحِسَابَ وَقِهِ الْعَذَابَ" ،
أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" حديث (4/127)، وفي "فضائل الصحابة" حديث (1748)، والبزار حديث (2723)، والطبراني في "المعجم الكبير" (18/251)، وأورده الألباني في "السلسلة الصحيحة" حديث رقم (3227) وذكر أن جماعة من الصحابة رووا هذا الحديث وهم عبد الله بن عباس، وعبد الرحمن بن أبي عميرة المزني،ومسلمة بن مُخلَّد، ثم ذكر مع روايات هؤلاء مرسل شُريح بن عُبيد، ومرسل حَرِيز بن عثمان.
seifellah
2016-02-15, 22:01
الفصل الحادي عشر: في شجاعته
روى ابن أبي عاصم([1]) عن عبد الله بن العلاء، قال: ثغر المسلمون من حائط قيسارية فلسطين ثغرة فتحاماها الناس، فكتب عمر إلى معاوية رضي الله عنه بتوليه قتالها، فتناول اللواء وأنهضه الناس، وتبعوه، فركز لواءه في الثغرة، فقال: أنا بن عنبسة – يريد الأسد -.
ذكر ابن كثير في تاريخه: في وقعة صفين أن عبد الله بن بديل أراد أن يتقدم إلى أهل الشام، فأمره الأشتر أن يثبت مكانه فإنه خير لي، فأبى عليه ابن بديل، وحمل نحو معاوية، فلما انتهى إليه وجده واقفًا أمام أصحابه وفي يده سيفان، وحوله كتائب أمثال الجبال، فلما اقترب ابن بديل تقدم إليه جماعة منهم فقتلوه، وألقوه إلى الأرض قتيلًا، وفرَّ أصحابه منهزمين، وأكثرهم مجروح، فلما انهزم أصحابه قال معاوية لأصحابه: انظروا إلى أميرهم، فجاؤوا إليه فلم يعرفوه فتقدم معاوية إليه، فإذا هو عبد الله بن بديل، فقال معاوية: هذا والله كما قال الشاعر – وهو حاتم الطائي-:
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها
وإن شمَّرت يومًا به الحرب شمرًا
ويحمي إذا ما الموت كان لقاؤه
قدى الشبر يحمى الأنف أن يتأخرا
كليث هزبر كان يحمي ذماره
رمته المنايا سهمها فتقطرا
ثم حمل الأشتر النخعي بمن رجع معه من المنهزمين، فصدق الحملة حتى خالط الصفوف الخمسة الذين تعاقدوا أن لا يفروا وهم حول معاوية، فخرق منهم أربعة وبقي بينه وبين معاوية صف، قال الأشتر: فرأيت هولًا عظيمًا، وكدت أن أفر فما ثبتني إلا قول ابن الأطنابة وهي أمه من بلقين وكان هو من الأنصار، وهو جاهلي:
أبت لي عفتي وأبى بلائي
وإقدامي على البطل المشيح
وإعطائي على المكروه مالي
وضربي هامة الرجل السميح
وقولي كلما جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تستريحي
قال: فهذا الذي ثبتني في ذلك الموقف.
والعجب أن ابن ديزيل روى في كتابه أن أهل العراق حملوا حملة واحدة، فلم يبق لأهل الشام صف إلا أزالوه، حتى أفضوا إلى معاوية فدعا بفرسه لينجو عليه، قال معاوية: فلما وضعت رجلي في الركاب تمثلت بأبيات عمرو بن الاطنابة:
أبت لي عفتي وأبى بلائي
وأخذي الحمل بالثمن الربيح
وإعطائي على المكروه مالي
وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تستريحي
قال: فثبت، ونظر معاوية إلى عمرو بن العاص، فقال: اليوم صبر وغدًا فخر، فقال له عمرو: صدقت، قال معاوية: فأصبت خير الدنيا، وأنا أرجو أن أُصيب خير الآخرة.
وذكر الذهبي عن أبان بن عثمان: كان معاوية رضي الله عنه وهو غلام يمشي مع أمه هند، فعثر، فقالت: قم، لا رفعك الله، وأعرابي ينظر، فقال: لم تقولين له: فوالله إني لأظنه سيسود قومه، قالت: لا رفعه إن لم يسد إلا قومه.
وعن نافع عن بن عمر رضي الله عنه قال: ما رأيت أحدًا بعد رسول الله أسود من معاوية، قيل: ولا أبو بكر؟ قال: ولا أبو بكر، قد كان أبو بكر خيرًا منه، وكان أسود منه، قيل: ولا عمر؟ قال: والله لقد كان عمر خيرًا منه، ولكنه كان أسود منه، قيل: ولا عثمان؟ قال: والله إن كان عثمان لسيدًا، ولكنه كان أسود منه([2]).
قال الخلال أخبرنا عبد الله بن أحمد قال سمعت أبي يقول في حديث ابن عمر ما رأيت أحدًا بعد النبي صلى الله عليه وسلم كان أسود من معاوية، قال تفسيره: أسخى منه.
قال الخلال: «أخبرني محمد بن مخلد بن حفص العطار، قال: سألت أحمد بن حنبل: فقلت: يا أبا عبد الله أيش معنى السيد؟ قال: السيد الحليم، والسيد المعطي، أعطى معاوية أهل المدينة عطايا ما أعطاها خليفة كان قبله» ا.هـ([3]).
وأما حلمه رضي الله عنه فهذا هو البحر في صفاته رضي الله عنه قال السيوطي: كان يضرب بحلمه المثل، وقد أفرد ابن أبي الدنيا وأبو بكر بن أبي عاصم تصنيفًا في حلم معاوية.
وقال ابن كثير: وكان حليما وقورا رئيسا سيدا في الناس، كريما عادلا شهما. وقال المدائني عن صالح بن كيسان قال: رأى بعض متفرسي العرب معاوية وهو صبي صغير، فقال: إني لا أظن هذا الغلام سيسود قومه، فقالت هند: ثكلته إن كان لا يسود إلا قومه([4]).
قال ابن عون: كان الرجل يقول لمعاوية: والله لتستقيمن بنا يا معاوية، أو لنقومنك فيقول: بماذا؟ فيقول: بالخشب، فيقول: إذن نستقيم([5]).
وقال قبيصة بن جابر: صحبت معاوية، فما رأيت رجلًا أثقل حلمًا ولا أبطأ جهلًا ولا أبعد أناةً منه([6]).
[/URL]([1]) الآحاد والمثاني (1/429).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref1)([2]) رواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/425)، والخلال في السنة (678).
([3]) السنة، للخلال (679).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref3)([4]) البداية والنهاية (8/126).
([5]) في تاريخ الخلفاء (ص: 172).
[URL="http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref6"] (http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref5)([6]) رواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/421).
seifellah
2016-02-27, 20:14
الفصل الثاني عشر
في خلافته وجهاده والفتوحات على يديه وفي عهده
وأما خلافته رضي الله عنه فنذكرها ونمهد قبلها بتمهيد في خلافة النبوة وخلافة الملك:
نظرًا لكثرة الخوض في عرض أمير المؤمنين معاوية لهذا الأمر، وهو خلافته، حتى زعم بعضهم أن سبب هلاك الأمة هو خلافته، وكونها من بعده وراثة لابنه يزيد، نمهد بشيء من أحكام الإمامة، فنقول وبالله التوفيق:
تنازع العلماء في خلافة الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم هل يجب أن تكون خلافة نبوة على نهج النبوة، أم يستحب ذلك ويجوز أن تكون ملكًا يجب فيه العدل، كما كان في ملك آل داود وسليمان عليهما السلام.
للعلماء قولان في هذا: فمنهم من قال: الواجب خلافة النبوة، ومنهم من قال: بل الواجب العدل، وتوفر شروط الإمامة، ولو كان ملكًا متوارثًا، وخلافة النبوة مستحبة، وقد قرر هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية تقريرًا محررًا لا مزيد عليه في «قاعدة في الخلافة والملك»([1]) وخلاصته:
قال النبي صلى الله عليه وسلم «خلافة النبوة ثلاثون سنة؛ ثم يؤتي الله ملكه – أو الملك – من يشاء»([2]) وهو حديث مشهور عن سعيد بن جمهان عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أهل السنن – كأبي داود وغيره – واعتمد عليه الإمام أحمد وغيره في تقرير خلافة الخلفاء الراشدين الأربعة، وثبته أحمد؛ واستدل به على من توقف في خلافة علي رضي الله عنه؛ من أجل افتراق الناس عليه؛ حتى قال أحمد: من لم يربع بعلي في الخلافة فهو أضل من حمار أهله؛ ونهى عن مناكحته، وهو متفق عليه بين الفقهاء وعلماء السنة وأهل المعرفة والتصوف وهو مذهب العامة.
وإنما يخالفهم في ذلك بعض أهل الأهواء من أهل الكلام ونحوهم: كالرافضة الطاعنين في خلافة الثلاثة أو الخوارج الطاعنين في خلافة الصهرين عثمان وعلى رضي الله عنهما أو بعض الناصبة النافين لخلافة علي أو بعض الجهال من المتسننة الواقفين في خلافته.
ووفاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من هجرته وإلى عام ثلاثين سنة([3])، كان إصلاح ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي السيد بين فئتين من المؤمنين بنزوله عن الأمر عام إحدى وأربعين في شهر جمادى الأولى وسمي (عام الجماعة)؛ لاجتماع الناس على معاوية، وهو أول الملوك.
وفي الحديث: «ستكون خلافة نبوة ورحمة ثم يكون ملك ورحمة ثم يكون ملك وجبرية ثم يكون ملك عضوض»([4])، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور في «السنن»، وهو صحيح: «إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة»([5]).
ويجوز تسمية من بعد الخلفاء الراشدين خلفاء وإن كانوا ملوكًا؛ ولم يكونوا خلفاء الأنبياء، بدليل ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كانت بنو إسرائيل يسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر»؛ قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «فوا ببيعة الأول فالأول؛ ثم أعطوهم حقهم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم»([6]).
فقوله: «فتكثر» دليل على من سوى الراشدين، فإنهم لم يكونوا كثيرًا، وأيضًا قوله: «فوا ببيعة الأول فالأول» دل على أنهم يختلفون؛ والراشدون لم يختلفوا، وقوله: «فأعطوهم حقهم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم» دليل على مذهب أهل السنة؛ في إعطاء الأمراء حقهم؛ من المال والمغنم...والغرض هنا بيان جماع الحسنات والسيئات الواقعة بعد خلافة النبوة في الإمارة وفي تركها؛ فإنه مقام خطر؛ وذلك أن خبره بانقضاء خلافة النبوة فيه الذم للملك والعيب له؛ لاسيما وفي حديث أبي بكرة: أنه استاء للرؤيا، وقال: خلافة نبوة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء([7]).
ثم النصوص الموجبة لنصب الأئمة والأمراء، وما في الأعمال الصالحة التي يتولونها من الثواب حمد لذلك، وترغيب فيه؛ فيجب تخليص محمود ذلك من مذمومه، وفي حكم اجتماع الأمرين وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله خيرني بين أن أكون عبدًا رسولًا وبين أن أكون نبيًا ملكًا فاخترت أن أكون عبدًا رسولًا»([8]) فإذا كان الأصل في ذلك شوب الولاية؛ من الإمارة والقضاء والملك، هل هو جائز في الأصل والخلافة مستحبة؟ أم ليس بجائز إلا لحاجة من نقص علم، أو نقص قدرة بدونه؟
فنحتج بأنه ليس بجائز في الأصل بل الواجب خلافة النبوة لقوله صلى الله عليه وسلم «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها؛ وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فكل بدعة ضلالة»([9]) بعد قوله: «من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا» فهذا أمر وتحضيض على لزوم سنة الخلفاء، وأمر بالاستمساك بها، وتحذير من المحدثات المخالفة لها، وهذا الأمر منه والنهي: دليل بين في الوجوب.
وأيضًا فكون النبي صلى الله عليه وسلم استاء للملك بعد خلافة النبوة دليل على أنه متضمن ترك بعض الدين الواجب، وقد يحتج من يجوز الملك بالنصوص التي منها قوله لمعاوية: «إن ملكت فأحسن»([10]) ونحو ذلك، وفيه نظر! ويحتج بأن عمر أقر معاوية لما قدم الشام على ما رآه من أبهة الملك، لما ذكر له المصلحة فيه فإن عمر قال: لا آمرك ولا أنهاك، ويقال في هذا: إن عمر لم ينهه؛ لا أنه أذن له في ذلك؛ لأن معاوية ذكر وجه الحاجة إلى ذلك، ولم يثق عمر بالحاجة، فصار محل اجتهاد في الجملة.
فهذان القولان متوسطان، أن يقال: الخلافة واجبة، وإنما يجوز الخروج عنها بقدر الحاجة، أو أن يقال: يجوز قبولها من الملك بما ييسر فعل المقصود بالولاية ولا يعسره؛ إذ ما يبعد المقصود بدون لابد من إجازته، وأما ملك فإيجابه أو استحبابه محل اجتهاد، وهنا طرفان:
[/URL]([1]) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (35/18، وما بعدها).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref1)([2]) أخرجه أبو داود (4648)، والترمذي (4649)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم (3341).
([3]) أي من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تمام الثلاثين سنة الواردة في الحديث.
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref3)([4]) رواه الدارمي (2/2114)، والطبراني في المعجم الكبير (1/157)، ح(368). والعضوض الذي فغيه ظلم وعسف.
([5]) سيأتي.
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref5)([6]) أخرجه البخاري (3455)، ومسلم (1842).
([7]) أخرجه أحمد (20445) وفي فضائل الصحابة (573) وأبو داود (4635)، والترمذي (2287)، والنسائي في فضائل الصحابة (33)، وسنده حسن وله شواهد.
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref7)([8]) أخرجه أحمد (7160) وأبو يعلى (6105) وعن ابن حبان في «صحيحه» (6365) والطبراني في الكبير (13309) بسند صحيح عن أبي هريرة قال: «جلس جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى السماء فإذا ملك ينزل فقال جبريل: إن هذا الملك ما نزل منذ يوم خلق قبل الساعة فلما نزل قال: يا محمد أرسلني إليك ربك قال: أفملكا نبيا يجعلك أو عبدا رسولا قال جبريل: تواضع لربك يا محمد قال: «بل عبدا رسولا».
([9]) أخرجه أحمد (17145)، وأبو داود (4607) والترمذي (2676) وابن ماجة (43) والدارمي (96) وابن حبان (5) والحاكم (1/95-97) بسند صحيح من حديث العرباض بن سارية ت. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال الهروي: وهذا من أجود حديث في أهل الشام. وقال البزار: حديث ثابت صحيح. وقال ابن عبد البر: حديث ثابت. وقال الحاكم: صحيح ليس له علة. وصححه الضياء المقدسي في جزء إتباع السنن واجتناب البدع.
[URL="http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref10"] (http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref9)([10]) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (31358)، والطبراني في المعجم الكبير (19/361) ح(850)، والأوسط (5500)، والبيهقي في دلائل النبوة (2761) من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن عبد الملك بن عمير، قال: «قال معاوية: والله ما حملني على الخلافة إلا قول النبي صلى الله عليه وسلم لي: «يا معاوية، إن ملكت فأحسن». قال البيهقي: إسماعيل بن إبراهيم هذا ضعيف عند أهل المعرفة بالحديث» ا.هـ.
seifellah
2016-03-05, 17:33
أحدهما: من يوجب ذلك في كل حال وزمان وعلى كل أحد ويذم من خرج عن ذلك مطلقا أو لحاجة كما هو حال أهل البدع من الخوارج والمعتزلة وطوائف من المتسننة والمتزهدة.
والثاني: من يبيح الملك مطلقًا؛ من غير تقيد بسنة الخلفاء؛ كما هو فعل الظلمة والإباحية وأفراد المرجئة، وتحقيق الأمر أن يقال:
انتقال الأمر عن خلافة النبوة إلى الملك، إما أن يكون لعجز العباد عن خلافة النبوة، أو اجتهاد سائغ، أو مع القدرة على ذلك علمًا وعملًا؛ فإن كان مع العجز علمًا أو عملًا كان ذو الملك معذورًا في ذلك، وإن كانت خلافة النبوة واجبة مع القدرة؛ كما تسقط سائر الواجبات مع العجز كحال النجاشي لما أسلم، وعجز عن إظهار ذلك في قومه؛ بل حال يوسف الصديق تشبه ذلك مع بعض الوجوه؛ لكن الملك كان جائزًا لبعض الأنبياء كداود وسليمان ويوسف([1])، وإن كان مع القدرة علمًا وعملًا، وقدر أن خلافة النبوة مستحبة ليست واجبة، وأن اختيار الملك جائز في شريعتنا كجوازه في غير شريعتنا: فهذا التقدير إذا فرض أنه حق فلا إثم على الملك العادل أيضًا، وهذا الوجه قد ذكره القاضي أبو يعلى في «المعتمد» لما تكلم في تثبيت خلافة معاوية، وبنى ذلك على ظهور إسلامه، وعدالته، وحسن سيرته، وأنه ثبتت إمامته بعد موت علي رضي الله عنه لما عقدها الحسن له، وسمي ذلك (عام الجماعة)، وذكر حديث عبد الله بن مسعود: «تدور رحا الإسلام على رأس خمس وثلاثين»([2]) قال: قال أحمد في رواية ابن الحكم: يروي عن الزهري أن معاوية كان أمره خمس سنين لا ينكر عليه شيء؛ فكان هذا على حديث نبي صلى الله عليه وسلم خمس وثلاثين سنة: قال ابن الحكم: قلت لأحمد: من قال حديث ابن مسعود «تدور رحا الإسلام لخمس وثلاثين» إنها من مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: لقد أخبر هذا، وما عليه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يصف الإسلام بسير هو بالجناية إنما يصف ما يكون بعده من السنين، قال: وظاهر هذا من كلام أحمد أنه أخذ بظاهر الحديث؛ وأن خلافة معاوية كانت من جملة الخمس والثلاثين، وذكر أن رجلا سأل أحمد عن الخلافة، فقال: كل بيعة كانت بالمدينة فهي خلافة نبوة لنا، قال القاضي: وظاهر هذا: أن ما كان بغير المدينة لم يكن خلافة نبوة.
قلت: نصوص أحمد على أن الخلافة تمت بعلي كثيرة جدًا، ثم عارض القاضي ذلك بقوله: «الخلافة ثلاثون سنةً، ثم تصير ملكًا» قال السائل: فلما خص الخلافة بعده بثلاثين سنة، كان آخرها آخر أيام علي، وأن بعد ذلك يكون ملكًا، دل على أن ذلك ليس بخلافة فأجاب القاضي: بأنه يحتمل أن يكون المراد به الخلافة التي لا يشوبها ملك بعده ثلاثون سنة، وهكذا كانت خلافة الخلفاء الاربعة و[خلافة] معاوية، قد شابها الملك.
وليس هذا قادحًا في خلافته، كما أن ملك سليمان لم يقدح في نبوته، وإن كان غيره من الأنبياء فقيرًا.
قلت: فهذا يقتضي أن شوب الخلافة بالملك جائز في شريعتنا وأن ذلك لا ينافي العدالة وإن كانت الخلافة المحضة أفضل، وكل من انتصر لمعاوية وجعله مجتهدًا في أموره ولم ينسبه إلى معصية: فعليه أن يقول بأحد القولين: إما جواز شوبها بالملك، أو عدم اللوم على ذلك، فيتجه إذًا... ([3]) قال: إن خلافة النبوة واجبة، فلو قدر فإن عمل سيئة فكبيرة، وإن كان دينًا، أو لأن الفاسق من غلبت سيئاته حسناته، وليس [معاوية] كذلك، وهذا رحمة بالملوك العادلين، إذ لهم في الصحابة من يقتدى به.
وأما أهل البدع كالمعتزلة: فيفسقون معاوية لحرب علي وغير ذلك، بناء على أنه فعل كبيرة وهي توجب التفسيق فلابد من منع إحدى المقدمتين، ثم إذا ساغ هذا للملوك، ساغ للقضاة والأمراء ونحوهم، وأما إذا كانت خلافة النبوة واجبة وهي مقدورة، وقد تركت: فترك الواجب سبب للذم والعقاب، ثم هل تركها كبيرة أو صغيرة؟ إن كان صغيرة لم يقدح في العدالة، وإن كان كبيرة ففيه القولان.
لكن يقال هنا: إذا كان القائم بالملك والإمارة يفعل من الحسنات المأمور بها ويترك من السيئات المنهي عنها ما يزيد به ثوابه على عقوبة ما يتركه من واجب أو يفعله من محظور، فهذا قد ترجحت حسناته على سيئاته، فإذا كان غيره مقصرًا في هذه الطاعة التي فعلها مع سلامته عن سيئاته، فله ثلاثة أحوال إما أن يكون الفاضل من حسنات الأمير أكثر من مجموع حسنات هذا أو أقل، فإن كان فاضله أكثر، كان أفضل، وإن كان أقل، كان مفضولًا، وإن تساويا تكافآ، هذا موجب العدل، ومقتضى نصوص الكتاب والسنة في الثواب والعقاب، وهو مبني على قول من يعتبر الموازنة والمقابلة في الجزاء، وفي العدالة أيضًا، وأما من يقول: إنه بالكبيرة الواحدة يستحق الوعيد، ولو كان له حسنات كثيرة عظيمة: فلا يجيء هذا، وهو قول طائفة من العلماء في العدالة([4])، والأول أصح على ما تدل عليه النصوص. انتهى المقصود من كلام ابن تيمية باختصار.
قال أبو بكر بن العربي([5]): فإن قيل: ألم يكن في الصحابة أقعد بالأمر من معاوية؟
قلنا: كثير، ولكن معاوية اجتمعت فيه خصال، وهي أن عمر جمع له الشامات كلها وأفرده بها، لما رأى من حسن سيرته، وقيامه بحماية البيضة وسد الثغور، وإصلاح الجند والظهور على العدو وسياسة الخلق. وقد شهد له في صحيح الحديث بالفقه، وشهد بخلافته في حديث أم حرام أن ناسا من أمته يركبون ثبج البحر الأخضر ملوكًا على الأسرة، أو مثل الملوك على الأسرة، وكان ذلك في ولايته، ويحتمل أن تكون مراتب في الولاية خلافة ثم ملك. فتكون ولاية الخلافة للأربعة، وتكون ولاية الملك لابتداء معاوية. وقد قال الله في داود – وهو خير من معاوية -: ]وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ[ [البقرة: 251] فجعل النبوة ملكا. فلا تلتفتوا إلى أحاديث ضعف سندها ومعناها. ولو اقتضت الحال النظر في الأمور لكان – والله أعلم – رأى آخر للجمهور، ولكن انعقدت البيعة لمعاوية بالصفة التي شاءها الله، على الوجه الذي وعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم مادحًا له، راضيًا عنه، راجيًا هدنة الحال فيه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»([6]). وقد تكلم العلماء في إمامة المفضول مع وجود من هو أفضل منه، فليست المسألة في الحد الذي تجعله فيه العامة، وقد بيناها في موضعها. اهـ.
أما عن خلافة معاوية رضي الله عنه، فإنه بعد تلك الحروب والفتن التي جرت بعد مقتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، وتنازع أهل العراق وأهل الشام، ومقتل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ثم اجتماع الناس على معاوية رضي الله عنه، في (عام الجماعة) عندما تنازل السبط الصالح الحسن بن علي لمعاوية عن الخلافة، اجتمع الناس عليه بالمبايعة، واجتماع المسلمين.
وذلك أنه لما قتل الخوارج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ بايع أهل العراق ابنه الحسن رضي الله عنه، وتجهزوا لقصد الشام في كتائب أمثال الجبال، وكان الحسن سيدًا، كبير القدر، يرى حقن الدماء، ويكره الفتن، ورأى من العراقيين ما يكره.
قال جرير بن حازم: بايع أهل الكوفة الحسن بعد أبيه، وأحبوه أكثر من أبيه.
وقال ابن شوذب: سار الحسن يطلب الشام، وأقبل معاوية في أهل الشام، فالتقوا، فكره الحسن القتال، وبايع معاوية على أن جعل له العهد بالخلافة من بعده، فكان أصحاب الحسن يقولون له: يا عار المؤمنين! فيقول: العار خير من النار، وصدقت فيه نبوءة جده صلى الله عليه وسلم حيث قال في الحسن: «إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»([7]).
وعن الحسن البصري رحمه الله قال: استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاص: إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها! فقال له معاوية – وكان الله خير الرجلين -: أي عمرو! إن قتل هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء من ولي بأمور الناس؟ من لي بنسائهم؟ من لي بضيعتهم؟ فبعث إليه رجلين من قريش، من بني عبد شمس، عبد الرحمن بن سمرة، وعبد الله بن عامر بن كريز، فقال: اذهبا إلى هذا الرجل، فاعرضا عليه، وقولا له واطلبا إليه، فأتياه، فدخلا عليه، فتكلما وقالا له، فطلبا إليه، فقال لهما الحسن بن علي: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها! قالا: فإنه يعرض عليك كذا وكذا، ويطلب إليك، ويسألك، قال: فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به، فما سألهما شيئًا إلا قالا نحن لك به، فصالحه، فقال الحسن البصري: ولقد سمعت أبا بكرة يقول رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، والحسن بن علي إلى جنبه، وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى، ويقول: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين».
ثم إن معاوية لما أجابه الحسن إلى الصلح، وسر بذلك، دخل هو والحسن الكوفة راكبين، وتسلم معاوية الخلافة في آخر ربيع الآخر، وسمي (عام الجماعة)؛ لاجتماعهم على إمام، وهو عام أحد وأربعين.
وذكر الذهبي([8]) عن علي رضي الله عنه، أنه قال: «لا تكرهوا إمرة معاوية، فلو قد فقدتموه لرأيتم الرؤوس تندر([9]) عن كواهلها».
قال ابن حجر: وأخرج سعيد بن منصور، والبيهقي في (الدلائل) من طريقه، ومن طريق غيره، بسندهما إلى الشعبي، قال: لما صالح الحسن بن علي معاوية، قال له معاوية: قم فتكلم، فقام فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإن أكيس الكيس التقى وإن أعجز العجز الفجور، ألا وإن هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية حق لامرئ كان أحق به مني، أو حق لي تركته، لإرادة إصلاح المسلمين، وحقن دمائهم، وإن أدري لعله فتنة لكم، ومتاع إلى حين، ثم استغفر ونزل.
[/URL]([1]) يعني أن الملك جائز في شريعتهم، ولا تجب خلافة النبوة، كما قال تعالى عنهم: ]أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ[ وقوله: ]وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا[ الآية ثم قال: ]فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ[ [البقرة: 251]، وكان الملك قبل ذلك وبعده في ذرية الملوك منهم.
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref1)([2]) أخرجه الإمام أحمد (3730)، وأبو داود الطيالسي في مسنده (383)، وأبو داود السجستاني في السنن (4254)، وأبو يعلى الموصلي (5281)، والحاكم (8589)، وأبو جعفر الطحاوي في المشكل (1609) بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تدور رحا الإسلام لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين فإن يهلكوا فسبيل من هلك وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عامًا» فقال عمر: يا رسول الله بما مضى أو بما بقي؟ قال: «بما بقي».
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي والألباني.
قال أبو جعفر الطحاوي: فتأملنا هذه الآثار لنقف على المراد بها إن شاء الله فكان قوله صلى الله عليه وسلم: تدور أو تزول رحى الإسلام يريد بذلك الأمور التي عليها يدور الإسلام، وشبه ذلك بالرحى فسماه باسمها، وكان قوله صلى الله عليه وسلم: بعد خمس وثلاثين، أو ست وثلاثين، أو سبع وثلاثين ليس على الشك، ولكن على أن يكون ذلك فيما يشاؤه الله لأ من تلك السنين، فشأ لأ أن كان في سنة خمسة وثلاثين، فتهيأ فيها على المسلمين حصر إمامهم، وقبض يده عما يتولاه عليهم مع جلالة مقداره؛ لأنه من الخلفاء الراشدين المهديين حتى كان ذلك سببًا لسفك دمه رضوان الله عليه، وحتى كان ذلك سببًا لوقوع الاختلاف وتفرق الكلمة، واختلاف الآراء، فكان ذلك مما لو هلكوا عليه لكان سبيل مهلك لعظمه، ولما حل بالإسلام منه، ولكن الله ستر وتلافى، وخلف نبيه في أمته من يحفظ دينهم عليهم، ويبقي ذلك لهم» ا.هـ.
([3]) بياض في المخطوطة. كذا في الفتاوى لابن تيمية.
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref3)([4]) وهو مذهب الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم!
([5]) العواصم من القواصم (ص: 209).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref5)([6]) سبق تخريجه.
([7]) أخرجه البخاري (2557، 3430، 3536، 6692).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref7)([8]) السير (3/145)، وانظر: البداية (8/131)، وتاريخ الإسلام (2/302).
[URL="http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref9"]([9]) أي تسقط وتقع.
seifellah
2016-03-05, 17:38
وأخرج يعقوب بن سفيان، ومن طريقه أيضًا البيهقي في (الدلائل) من طريق الزهري، فذكر القصة وفيها: فخطب معاوية، ثم قال: قم يا حسن، فكلم الناس، فتشهد ثم قال: أيها الناس إن الله هداكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وإن لهذا الأمر مدة، والدنيا دول وذكر بقية الحديث([1]).
وقال ابن إسحاق: بويع معاوية بالخلافة في ربيع الأول، سنة إحدى وأربعين، لما دخل الكوفة.
وقال أبو معشر: بايعه الحسن بأذرح، في جمادى الأولى، وهو عام الجماعة.
وعن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه، قالت: قدم معاوية، فأرسل إلى عائشة: أن أرسلي إلي بأنبجانية رسول الله صلى الله عليه وسلم وشعره، فأرسلت به معي أحمله، حتى دخلت عليه، فأخذ الأنبجانية، فلبسها، ودعا بماء فغسل الشعر، فشربه، وأفاض على جلده.
وعن الشعبي، قال: لما قدم معاوية المدينة عام الجماعة، تلتقه قريش، فقالوا: الحمد لله الذي أعز نصرك، وأعلى أمرك، فسكت حتى دخل المدينة، وعلا المنبر، فحمد الله، وقال: أما بعد، فإني – والله – وليت أمركم حين وليته، وأنا أعلم أنكم لا تسرون بولايتي، ولا تحبونها، وإني لعالم بما في نفوسكم، ولكن خالستكم بسيفي هذا مخالسة، ولقد أردت نفسي على عمل أبي بكر وعمر، فلم أجدها تقوم بذلك، ووجدتها عن عمل عمر أشد نفورًا، وحاولتها على مثل سنيات عثمان، فأبت علي، وأين مثل هؤلاء؛ هيهات أن يدرك فضلهم، غير أني سلكت طريقًا لي فيه منفعة، ولكم فيه مثل ذلك، ولكل فيه مواكلة حسنة، ومشاربة جميلة، ما استقامت السيرة، فإن لم تجدوني خيركم، فأنا خير لكم، والله لا أحمل السيف على من لا سيف معه، ومهما تقدم مما قدم علمتموه، فقد جعلته دبر أذني، وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله، فارضوا ببعضه، فإنها ليست بقائبة قوبها([2])، وإن السيل إن جاء تترى، وإن قل أغنى، إياكم والفتنة، فلا تهموا بها، فإنها تفسد المعيشة، وتكدر النعمة، وتورث الاستئصال، واستغفر الله لي ولكم، ثم نزل([3]).
وعن ثابت – مولى سفيان بن أبي مريم -، قال: سمعت معاوية رضي الله عنه يقول: «يا أيها الناس، والله ما أنا بخيركم وإن بينكم من هو خير مني، عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وغيرهما من الأفاضل، ولكن عسى أن أكون أنفعكم لكم ولاية، وأنكاكم في عدوكم، وأدركم حلبًا»([4]).
وعن همام بن منبه، قال سمعت ابن عباس رضي الله عنه يقول: ويح ابن أبي سفيان ما رأيت أحدًا كان أخلق لملك منه!، وإن كان الناس ليرجون منه رجاء إلا وجدوه، ولم يكن بالضيق المتغضب ولا الحصر الحصوص([5]).
مسألة: قال أبو بكر بن العربي: فإن قيل: ألم يكن في الصحابة أقعد بالأمر من معاوية؟
قلنا: كثير، ولكن معاوية اجتمعت فيه خصال: وهي أن عمر جمع له الشامات كلها وأفرده بها، لما رأى من حسن سيرته، وقيامه بحماية البيضة وسد الثغور، وإصلاح الجند والظهور على العدو وسياسة الخلق. وقد شهد له في صحيح الحديث بالفقه، وشهد بخلافته في حديث أم حرام أن ناسا من أمته يركبون ثبج البحر الأخضر ملوكًا على الأسرة، أو مثل الملوك على الأسرة، وكان ذلك في ولايته، ويحتمل أن تكون مراتب في الولاية: خلافة ثم ملك. فتكون ولاية الخلافة للأربعة، وتكون ولاية الملك لابتداء معاوية. وقد قال الله في داود – وهو خير من معاوية -: ]وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ[ [البقرة: 251] فجعل النبوة ملكا. فلا تلتفتوا إلى أحاديث ضعف سندها ومعناها. ولو اقتضت الحال النظر في الأمور لكان – والله أعلم – رأى آخر للجمهور، ولكن انعقدت البيعة لمعاوية بالصفة التي شاءها الله، على الوجه الذي وعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم مادحًا له، راضيًا عنه، راجيًا هدنة الحال فيه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»([6]). وقد تكلم العلماء في إمامة المفضول مع وجود من هو أفضل منه، فليست المسألة في الحد الذي تجعله فيه العامة، وقد بيناها في موضعها. اهـ.
قال الحافظ ابن كثير: لم يزل معاوية نائبا على الشام في الدولة العمرية والعثمانية مدة خلافة عثمان، وافتتح في سنة سبع وعشرين جزيرة قبرص وسكنها المسلمون قريبًا من ستين سنة في أيامه ومن بعده، ولم تزل الفتوحات والجهاد قائمًا على ساقه في أيامه في بلاد الروم والفرنج وغيرها، فلما كان من أمره وأمر أمير المؤمنين على ما كان، لم يقع في تلك الأيام فتح بالكلية، لا على يديه ولا على يدي علي، وطمع في معاوية ملك الروم بعد أن كان قد أخشاه وأذله، وقهر جنده ودحاهم، فلما رأى ملك الروم اشتغال معاوية بحرب علي تداني إلى بعض البلاد في جنود عظيمة وطمع فيه، فكتب معاوية إليه: والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين لاصطلحن أنا وابن عمي عليك ولأخرجنك من جميع بلادك، ولا ضيقن عليك الأرض بما رحبت.
فعند ذلك خاف ملك الروم وانكف، وبعث يطلب الهدنة.
ثم كان من أمر التحكيم ما كان، وكذلك ما بعده إلى وقت اصطلاحه مع الحسن بن علي كما تقدم، فانعقدت الكلمة على معاوية، وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين كما قدمنا، فلم يزل مستقلًا بالأمر في هذه المدة إلى هذه السنة التي كانت فيها وفاته، والجهاد في بلاد العدو قائم، وكلمة الله عالية والغنائم ترد إليه من أطراف الأرض، والمسلمون معه في راحة وعدل، وصفح وعفو.
قال الإمام أحمد بن حنبل: فتحت قياسرية سنة تسع عشرة، وأميرها معاوية.
وقال يزيد بن عبيدة: غزا معاوية قبرص سنة خمس وعشرين.
وقال سعيد بن عبد العزيز: لما قتل عثمان، ووقع الاختلاف، لم يكن للناس غزو حتى اجتمعوا على معاوية، فأغزاهم مرات. ثم أغزى ابنه يزيد في جماعة من الصحابة برًا وبحرًا، حتى أجاز بهم الخليج، وقاتلوا أهل القسطنطينية على بابها، ثم قفل.
وروى أبو بكر بن أبي مريم: عن ثابت مولى سفيان؛ سمعت معاوية وهو يقول: إني لست بخيركم، وإن فيكم من هو خير مني: ابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وغيرهما، ولكني عسيت أن أكون أنكاكم في عدوكم، وأنعمكم لكم ولاية، وأحسنكم خلقًا([7]).
وعن عروة بن الزبير أن المسور بن مخرمة أخبره: أنه وفد على معاوية، فقضى حاجته، ثم خلا به، فقال: يا مسور! ما فعل طعنك على الأئمة؟ قال: دعنا من هذا وأحسن. قال: لا والله، لتكلمني بذات نفسك بالذي تعيب علي. قال مسور: فلم أترك شيئا أعيبه عليه إلا بينت له. فقال: لا أبرأ من الذنب، فهل تعد لنا يا مسور ما نلي من الإصلاح في أمر العامة، فإن الحسنة بعشر أمثالها، أم تعد الذنوب، وتترك الإحسان؟ قال: ما تُذكر إلا الذنوب. قال معاوية: فإنا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه، فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أن تهلكك إن لم تُغفر؟ قال: نعم. قال: فما يجعلك الله برجاء المغفرة أحق مني، فوالله ما ألي من الإصلاح أكثر مما تلي، ولكن – والله – لا أخير بين أمرين بين الله وبين غيره، إلا اخترت الله على ما سواه، وإني لعلى دين يقبل فيه العمل ويجزى فيه بالحسنات، ويجزى فيه بالذنوب إلا أن يعفو الله عنها. قال: فخصمني. قال عروة: فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلا صلى عليه. يعني ترحم عليه.
ولكن الذهبي عن ابن شهاب: قدم عمر الجابية، فبقى على الشام أميرين؛ أبا عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان، ثم توفي يزيد، فنعاه عمر إلى أبي سفيان، فقال: ومن أمرت مكانه؟ قال: معاوية، فقال: وصلتك – يا أمير المؤمنين – رحم.
وقال خليفة بن خياط: ثم جمع عمر الشام كلها لمعاوية، وأقره عثمان – رضي الله عنهم أجمعين -.
قال الذهبي معلقًا: «حسبك بمن يؤمره عمر، ثم عثمان على إقليم – وهو ثغر – فيضبطه، ويقوم به أتم قيام، ويرضي الناس بسخائه وحلمه، وإن كان بعضهم تألم مرةً منه، وكذلك فليكن الملك، وساد وساس العالم بكمال عقله، وفرط حلمه، وسعة نفسه، وقوة دهائه، ورأيه، وكان محببًا إلى رعيته، عمل نيابة الشام عشرين سنة، والخلافة عشرين سنة، ولم يهجه أحد في دولته([8])، بل دانت له الأمم، وحكم على العرب والعجم، وكان ملكه على الحرمين، ومصر، والشام، والعراق، وخراسان، وفارس، والجزيرة، واليمن، والمغرب، وغير ذلك» ا.هـ.
وعن إسماعيل بن أمية: أن عمر رضي الله عنه أفرد معاوية رضي الله عنه بالشام، ورزقه في الشهر ثمانين دينارًا.
والمحفوظ: أن الذي أفرد معاوية بالشام عثمان رضي الله عنه.
ولما قدم عمر الشام رضي الله عنه، تلقاه معاوية في موكب عظيم، وهيئة، فلما دنا منه، قال: أنت صاحب الموكب العظيم؟ قال: نعم. قال: مع ما بلغني عنك من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك؟ قال: نعم. قال: ولم تفعل ذلك؟ قال: نحن بأرض جواسيس العدو بها كثير، فيجب أن نظهر من عز السلطان ما يرهبهم، فإن نهيتني، انتهيت. قال: يا معاوية! ما أسألك عن شيء إلا تركتني في مثل رواجب الضرس، لئن كان ما قلت حقًا، إنه لرأي أريب، وإن كان باطلًا، فإنه لخدعة أديب. قال: فمرني. قال: لا آمرك، ولا أنهاك. فقيل: يا أمير المؤمنين! ما أحسن ما صدر عما أوردته. قال: لحسن مصادره وموارده جشمناه ما جشمناه. وقال المدائني: كان عمر إذا نظر إلى معاوية، قال: هذا كسرى العرب.
وعن المقبري؛ قال عمر: تعجبون من دهاء هرقل وكسرى، وتدعون معاوية؟([9]).
وعن عمر بن يحيى بن سعيد الأموي، عن جده، قال: دخل معاوية على عمر، وعليه حلة خضراء، فنظر إليها الصحابة قال: فوثب إليه عمر بالدرة، وجعل يقول: الله الله يا أمير المؤمنين! فيم فيم؟ فلم يكلمه حتى رجع. فقالوا: لم ضربته، وما في قومك مثله؟ قال: ما رأيت وما بلغني إلا خيرًا، ولكن رأيته – وأشار بيده([10]) – فأحببت أن أضع منه.
[/URL]([1]) فتح الباري (13/63).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref1)([2]) القائبة: البيضة، والقوب: الفرخ، يقال: قابت البيضة: إذا انفلقت عن الفرخ.
([3]) السير (3/149).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref3)([4]) رواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/420).
([5]) رواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/422).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref5)([6]) سبق تخريجه.
([7]) السير (3/151).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref7)([8]) أي لم يثر عليه أحد ويفسد عليه دولته.
([9]) السير (3/135).
[URL="http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref10"] (http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref9)([10]) يعني مرتفعًا بلباسه.
seifellah
2016-04-30, 12:43
مسألة: فإن قيل: فقد عهد إلى يزيد وليس بأهل للخلافة؟
فالجواب كما قال الإمام القاضي عبد الرحمن بن خلدون المالكي: والذي دعا معاوية رضي الله عنه لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون سواه، إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع واتفاق أهوائهم، باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ من بني أمية، إذ بنو أمية يومئذ لا يرضون سواهم، وهم عصابة قريش وأهل الملة أجمع، وأهل الغلب منهم. فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها. وعدل عن الفاضل إلى المفضول حرصًا على الاتفاق واجتماع الأهوال الذي شأنه أهم عند الشارع، وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا لعدالته. وصحبته مانعة من سوى ذلك، وحضور أكابر الصحابة لذلك وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه، فليسوا مما يأخذهم في الحق هوادة، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق، فإنهم كلهم أجل من ذلك، وعدالتهم مانعة منه.
ثم قال ابن خلدون بعد كلام طويل: «أفلا ترى إلى المأمون لما عهد إلى علي بن موسى بن جعفر الصادق، وسماه الرضا، كيف أنكرت العباسية ذلك، ونقضوا بيعته وبايعوا عمه إبراهيم بن المهدي، وظهر من الهرج والخلاف، وانقطاع السبل، وتعدد الثوار والخوارج، ما كاد يصطلم الأمر حتى بادر المأمون من خراسان إلى بغداد، ورد أمرهم لمعاهده»([1]) ا.هـ.
وقال أبو محمد بن حزم رحمه الله: ولم يختلفوا في أن عقد الإمامة تصح بعهد من الإمام الميت إذا قصد فيه حسن الاختيار للأمة عند موته ولم يقصد بذلك هوى. ا.هـ([2]).
وقال القاضي أبو بكر ابن العربي رحمه الله([3]): لسنا ننكر، ولا تبلغ بنا الجهالة، ولا لنا في الحق حمية جاهلية، ولا تنطوي على غل لأحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بل نقول: ]رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ[ إلا أن نقول: إن معاوية تلك الأفضل في أن يجعلها شورى، وألا يخص بها أحد من قرابته فكيف ولدًا، وأن يقتدي بما أشار به عبد الله بن الزبير في الترك أو الفعل، فعدل إلى ولاية ابنه وعقد له البيعة([4])، وبايعه الناس، وتخلف عنها من تخلف، فانعقدت البيعة شرعًا، لأنها تنعقد بواحد، وقيل باثنين.
فإن قيل: ليس فيه شروط الإمامة. قلنا: ليس السن في شروطها، ولم يثبت أنه يقصر يزيد عنها.
فإن قيل: كان منها العدالة والعلم، ولم يكن يزيد عدلًا ولا عالمًا. قلنا: وبأي شيء نعلم عدم علمه، أو عدم عدالته([5])؟ ولو كان مسلوبهما لذكر ذلك الثلاثة الفضلاء الذين أشاروا عليه بأن لا يفعل([6])، وإنما رموا إلى الأمر بعيب التحكم، وأرادوا أن تكون شورى.
فإن قيل: كان هناك من هو أحق منه عدالةً وعلمًا، منهم مائة وربما ألف.
قلنا: إمامة المفضول، مسألة خلاف بين العلماء، ذكرها العلماء في موضعها([7]).
وقد حسم البخاري الباب، ونهج جادة الصواب، فروى في صحيحه ما يبطل جميع هذا المتقدم، وهو أن معاوية خطب وابن عمر حاضر في خطبته، فيما رواه البخاري عن عكرمة بن خالد أن ابن عمر قال: دخلت على حفصة ونوساتها تنطف([8]). قلت: قد كان من الأمر ما ترين، قلم يجعل لي من الأمر شيء. فقالت: «الحق، فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة». فلم تدعه حتى ذهب. فلما تفرق الناس خطب معاوية فقال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه. قال حبيب بن مسلمة: فلا أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي، وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع، وتسفك الدماء، وتحمل عني غير ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان، فقال حبيب: حفظت وعصمت([9]).
([1]) تاريخ ابن خلدون (1/211).
([2]) الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/129).
([3]) في العواصم من القواصم (ص: 228، وما بعدها).
([4]) عدل عن الوجه الأفضل لما كان يتوجس من الفتن والمجازر إذا جعلها شورى، وقد رأى القوة والطاعة والنظام والاستقرار في الجانب الذي فيه ابنه.
([5]) أما عن العدالة فقد شهد له محمد بن علي بن أبي طالب في مناقشته لابن مطيع عند قيام الثورة على يزيد في المدينة فقال عن يزيد: ما رأيت منه ما تذكرون. وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظبًا على الصلاة، متحريًا للخير، يسأل عن الفقه، ملازمًا للسنة. ذكره ابن كثير في البداية والنهاية (8/233).
([6]) وهم ابن عمر والحسين وابن الزبير.
([7]) قال أبو محمد ابن حزم في الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/126): ذهبت طوائف من الخوارج وطوائف من المعتزلة وطوائف من المرجئة منهم محمد بن الطيب الباقلاني ومن اتبعه وجميع الرافضة من الشيعة إلى: أنه لا يجوز إمامة من يوجد في الناس أفضل منه، وذهبت طائفة من الخوارج وطائفة من المعتزلة وطائفة من المرجئة وجميع الزيدية من الشيعة وجميع أهل السنة إلى أن الإمامة جائزة لمن غيره أفضل منه، قال أبو محمد: وما نعلم – لمن قال إن الإمامة لا تجوز إلا لأفضل من يوجد – حجة أصلًا لا من قرآن ولا من سنة ولا من إجماع ولا من صحة عقل ولا من قياس ولا قول صاحب! وما كان هكذا فهو أحق قول بالاطراح…إلخ.
([8]) أي: وذوائبها تقطر ماءًا.
([9]) رواه البخاري (4108).
seifellah
2016-04-30, 12:47
وروى البخاري أن أهل المدينة لما خلعوا يزيد بن معاوية، جمع ابن عمر حشمه وولده، وقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة» وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني لا أعلم غدرًا أعظم من أن نبايع رجلًا على بيع الله ورسوله، ثم ينصب له القتال. وإني لا أعلم أحدًا منكم خلعه، ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه([1]).
فانظروا معشر المسلمين إلى ما روى البخاري في الصحيح، وإلى رواية بعضهم أن عبد الله بن عمر لم يبايع! وأن معاوية كذب! وقال: قد بايع، وتقدم إلى حرسه يأمره بضرب عنقه إن كذبه. وهو قد قال في رواية البخاري: «قد بايعناه على بيع الله ورسوله»، وما بينهما من التعارض، وخذوا لأنفسكم بالأرجح في طلب السلامة، والخلاص بين الصحابة والتابعين، فلا تكونوا ولم تشاهدوهم – وقد عصمكم الله من فتنتهم – ممن دخل بلسانه في دمائهم، فيلغ فيها ولوغ الكلب بقية الدم على الأرض بعد رفع الفريسة بلحمها، ولم يلحق الكلب منها إلا بقية دم سقط على الأرض.
وروى الثبت العدل عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن محمد بن المنكدر، قال: قال ابن عمر حين بويع يزيد: إن كان خيرًا رضينا، وإن كان شرًا صبرنا.
وثبت عن حميد بن عبد الرحمن قال: دخلنا على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استخلف يزيد بن معاوية فقال: تقولون إن يزيد بن معاوية ليس بخير أمة محمد، ولا أفقهها فيها فقهًا، ولا أعظمها فيها شرفًا، وأنا أقول ذلك، ولكن والله، لأن تجتمع أمة محمد أحب إلى من أن تفترق، أرأيتم بابًا دخل فيه أمة محمد ووسعهم، أكان يعجز عن رجل واحد لو كان دخل فيه؟ قلنا: لا، قال: أرأيتم لو أن أمة محمد قال كل رجل منهم لا أريق دم أخي ولا آخذ ماله، أكان هذا يسعهم؟ قلنا: نعم. قال: فذلك ما أقول لكم، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يأتيك من الحياء إلا خير»([2]).
فهذه الأخبار الصحاح كلها تعطيك أن ابن عمر كان مسلمًا في أمرة يزيد، وأنه بايع وعقد له والتزم ما التزم الناس، ودخل فيما دخل فيه المسلمون، وحرم على نفسه ومن إليه بعد ذلك أن يخرج على هذا أو ينقضه.
وظهر لك أن أقول من قال: إن معاوية كذب في قوله: «بايع ابن عمر»، ولم يبايع، وأن ابن عمر وأصحابه سئلوا فقالوا: «لم نبايع» فقد كذب.
وقد صدق البخاري في روايته قول معاوية على المنبر: «إن ابن عمر قد بايع»، بإقرار ابن عمر ذلك، وتسليمه له، وتماديه عليه.
فأي الفريقين أحق بالصدق إن كنتم تعلمون؟ الفريق الذي فيه البخاري، أم الذي فيه غيره؟ فخذوا لأنفسكم بالأحزم والأصح، أو اسكتوا عن الكل، والله يتولى توفيقكم وحفظكم.
والصاحب الذي كنى عنه (حميد بن عبد الرحمن) هو ابن عمر، والله أعلم. وإن كان غيره فقد أجمع رجلان عظيمان على هذه المقالة وهي تعضد ما أصلنا لكم من أن ولاية المفضول نافذة وإن كان هنالك من هو أفضل منه إذا عقدت له. ولما في حلها – أو طلب الأفضل – من استباحة ما لا يباح، وتشتيت الكلمة، وتفريق أمر الأمة.
فإن قيل: كان يزيد خمارًا. قلنا: لا يحل إلا بشاهدين، فمن شهد بذلك عليه بل شهد العدول بعدالته، فروى يحيى بن بكير، عن الليث بن سعد، قال الليث: توفى أمير المؤمنين يزيد في تاريخ كذا! فسماه الليث أمير المؤمنين بعد ذهاب ملكهم وانقراض دولتهم، ولولا كونه عنده كذلك ما قال إلا توفى يزيد. انتهى كلام ابن العربي([3]).
قال ابن كثير: ولما رجع أهل المدينة من عند يزيد، مشى عبد الله بن مطيع وأصحابه إلى محمد بن الحنفية([4])، فأرادوه على خلع يزيد فأبى عليهم، فقال ابن مطيع: إن يزيد يشرب الخمر، ويترك الصلاة، ويتعدى حكم الكتاب فقال لهم: ما رأيت منه ما تذكرون، وقد حضرته، وأقمت عنده، فرأيته مواظبًا على الصلاة، متحريًا للخير، يسأل عن الفقه، ملازمًا للسنة، قالوا: فإن ذلك كان منه تصنعًا لك، فقال: وما الذي خاف منى أو رجا، حتى يظهر إلي الخشوع أفأطلعكم على ما تكرون من شرب الخمر؟ فئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه، وإن لم يطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا، قالوا: إنه عندنا لحق، وإن لم يكن رأيناه، فقال لهم: أبى الله ذلك على أهل الشهادة، فقال: ]إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[، ولست من أمركم في شيء، قالوا: فلعلك تكره أن يتولى الأمر غيرك، فنحن نوليك أمرنا، قال: ما أستحل القتال على ما تريدونني عليه تابعًا ولا متبوعًا، قالوا: فقد قاتلت مع أبيك، قال: جيئوني بمثل أبي أقاتل على مثل ما قاتل عليه، فقالوا: فمر ابنيك أبا القاسم والقاسم بالقتال معنا، قال: لو أمرتهما قاتلت، قالوا: فقم معنا مقاما تحض الناس فيه على القتال، قال: سبحان الله آمر الناس بما لا أفعله، ولا أرضاه، إذًا ما نصحت لله في عباده، قالوا: إذًا نكرهك، قال: إذًا آمر الناس بتقوى الله، ولا يرضون المخلوق بسخط الخالق، وخرج إلى مكة» ا.هـ([5]).
[/URL]([1]) أخرجه البخاري (11/7).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref1)([2]) أخرجه البخاري بلفظ: «الحياء لا يأتي إلا بخير»، رقم (6117)، ومسلم (37).
([3]) العواصم (ص: 228-232).
(http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref3)([4]) هو محمد بن علي بن أبي طالب، والحنفية أمه، كانت من بني حنيفة.
[URL="http://www.djelfa.info/vb/#_ftnref5"]([5]) البداية والنهاية (8/233).
AZEZKADI
2016-04-30, 17:32
شكرااا رائع
seifellah
2016-05-07, 10:39
الفصل الثالث عشر
في موقف المسلم من الفتنة التي جرت بين الصحابة
تمهيد:
الواجب على المسلم أن يكون عفيف اللسان، سليم القلب للمسلمين عامةً ولأصحاب رسول الله خاصة، لأن الله سبحانه وتعالى أمرنا بذلك في حقهم، وأكد عليه في سياق ذكر من يستحق الفيء من المسلمين، وأنهم ثلاثة أصناف، المهاجرون والأنصار ومن جاء بعدهم ممن تبعهم وترحم عليهم، فقال: ]مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {7} لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ {8} وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {9} وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ[ [الحشر: 7-10].
قال القرطبي في تفسريه: «قوله تعالى: ]وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ[ يعني التابعين ومن دخل في الإسلام إلى يوم القيامة، قال ابن أبي ليلى: الناس على ثلاث منازل: المهاجرون، والذين تبوءوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم، فاجتهد ألا تخرج من هذه المنازل. وروى مصعب بن سعيد قال: الناس على ثلاث منازل، فمضت منزلتان، وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت. وعن جعفر بن محمد بن علي، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين رضي الله عنه، أنه جاءه رجل فقال له: يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقول في عثمان؟ فقال له: يا أخي أنت من قوم قال الله فيهم: ]لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ[ الآية قال: لا! قال: فوالله لئن لم تكن من أهل الآية فأنت من قوم قال الله فيهم: ]وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ[ الآية قال: لا! قال: فوالله لئن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجن من الإسلام! وهي قوله تعالى: ]وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ[ الآية وقد قيل: إن محمد بن علي بن الحسن رضي الله عنهما روي عن أبيه: أن نفرًا من أهل العراق جاءوا إليه فسبوا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم عثمان رضي الله عنه، فأكثروا فقال لهم: أمن المهاجرون الأولين أنتم؟ قالوا: لا، فقال: أفمن الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم؟ فقالوا: لا، فقال: قد تبرأتم من هذين الفريقين! أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله سبحانه وتعالى: ]وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ[، قوموا، فعل الله بكم وفعل!! ذكره النحاس.
هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة؛ لأنه جعل لمن بعدهم حظًا في الفيء ما أقاموا على محبتهم، ومولاتهم، والاستغفار لهم، وأن من سبهم، أو واحدًا منهم، أو اعتقد فيه شرًا، إنه لا حق له في الفيء، رُوي ذلك عن مالك وغيره.
قال مالك: من كان يبغض أحدًا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أو كان في قلبه عليهم غل، فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ ]وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ[ الآية. أُمروا أن يستغفروا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.
قال ابن عباس رضي الله عنه: أمر الله تعالى بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يعلم أنهم سيفتنون.
وقال عائشة رضي الله عنها: أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد، فسببتموهم، سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها»([1]).
وقال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا رأيتم الذين يسبون أصحابي فقولوا لعن الله أشركم»([2]) وقال العوام بن حوشب: أدركت صدر هذه الأمة يقولون: اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تألف عليهم القلوب، ولا تذكروا ما شجر بينهم، فتجسروا الناس عليهم.
وقال الشعبي: تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة، سئلت اليهود: من خير أهل ملتكم؟ فقالوا أصحاب موسى، وسئلت النصارى: من خير أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب عيسى، وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب محمد، أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم، فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة، لا تقوم لهم راية، ولا تثبت لهم قدم، ولا تجتمع لهم كلمة، كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله بسيف دمائهم، وإدحاض حجتهم، أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلة([3]). انتهى كلام القرطبي رحمه الله([4]).
وقال الحافظ ابن كثير([5]): وقوله: ]وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ[ هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء، وهم المهاجرون ثم الأنصار، ثم التابعون بإحسان، كما قال في آية براءة: ]وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ[ [التوبة: 100] فالتابعون لهم بإحسان هم: المتبعون لآثارهم الحسنة وأوصافهم الجميلة، الداعون لهم في السر والعلانية؛ ولهذا قال في هذه الآية الكريم: ]وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ[ أي القائلين: ]رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا[ أي بغضًا وحسدًا ]لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ[ وما أحسن ما استنبط الإمام مالك من هذه الآية الكريمة: أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب؛ لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قولهم: ]رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ[.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي، حدثنا محمد بن بشر، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أُمروا أن يستغفروا لهم، فسبوهم! ثم قرأت هذه الآية: ]وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ[ الآية: وقال إسماعيل بن علية، عن عبد الملك بن عمير، عم مسروق، عن عائشة قالت: أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فسببتموهم، سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها» رواه البغوي([6]). اهـ.
وقال البغوي: قوله سبحانه وتعالى ]وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ[ يعني التابعين، وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة، ثم ذكر أنهم يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم بالإيمان والمغفرة، ]وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا[ غشًا وحسدًا وبغضًا، ]لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ[ من كان في قلبه غل على أحدٍ من الصحابة، ولم يترحم على جميعهم، فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية؛ لأن الله تعالى رتب المؤمنين على ثلاث منازل: المهاجرين والأنصار والتابعين الموصوفين بما ذكر الله، فمن لم يكن من التابعين بهذه الصفة كان خارجًا من أقسام المؤمنين. قال ابن أبي ليلى: «الناس على ثلاثة منازل: الفقراء المهاجرين، والذين تبوءوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم، فاجتهد أن لا تكون خارجًا من هذه المنازل» ا.هـ.
قال الإمام أبو بكر الحميدي في كتاب (أصول السنة) ([7]): «والترحم على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم، فإن الله سبحانه وتعالى قال: ]وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ[ فلن يؤمن إلا بالاستغفار لهم، فمن سبهم أو تنقصهم، أو أحدًا منهم، فليس على السنة، وليس له في الفيء حق. أخبرنا بذلك غير واحدٍ عن مالك بن أنس، أنه قال: قسم الله – تعالى – الفيء، فقال: ]لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ[، ثم قال: ]وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا[ الآية، فمن لم يقل هذا لهم فليس ممن جعل له الفيء» ا.هـ.
قال الإمام أحمد بن حنبل في رسالته في (أصول السنة) رواية عبدوس العطار: «ومن الحجة الواضحة الثابتة البينة المعروفة ذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم أجمعين، والكف عن ذكر مساويهم، والخلاف الذي شجر بينهم، فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحدًا منهم، أو تنقصه، أو طعن عليهم، أو عرض بعيبهم، أو عاب أحدًا منهم فهو مبتدع رافضي خبيث، مخالف لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا؛ بل حبهم سنة، والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة» ا.هـ([8]).
وقال تعالى: ]مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا[ [الفتح: 29].
يخبر – تعالى – عن رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار، أنهم بأكمل الصفات، وأجل الأحوال، وأنهم ]أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ[ أي جادون ومجتهدون في عداوتهم، وساعون في ذلك بغاية جهدهم، فلم يروا منهم إلا الغلظة والشدة، فلذلك ذل أعداؤهم لهم، وانكسروا، وقهرهم المسلمون، ]رُحَمَاء بَيْنَهُمْ[ أي متحابون متراحمون متعاطفون، كالجسد الواحد، يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، هذه معاملتهم مع الخلق، وأما معاملتهم مع الخالق فإنك ]تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا[ أي وصفهم كثرة الصلاة، التي أجل أركانها الركوع والسجود.
]يَبْتَغُونَ[ بتلك العبادة ]فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا[ أي هذا مقصودهم بلوغ رضا ربهم، والوصول إلى ثوابه.
]سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ[ أي قد أثرت العبادة – من كثرتها وحسنها – في وجوههم، حتى استنارت، لما استنارت بالصلاة بواطنهم، استنارت بالجلال ظواهرهم.
]ذَلِكَ[ المذكور ]مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ[ أي هذا وصفهم الذي وصفهم الله به، مذكور بالتوراة هكذا.
وأما مثلهم في الإنجيل، فإنهم موصوفون بوصف آخر، وأنهم في كمالهم وتعاونهم ]كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ[ أي أخرج فراخه، فوازرته فراخه في الشباب والاستواء.
]فَاسْتَغْلَظَ[ ذلك الزرع، أي قوي وغلظ، ]فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ[ جمع ساق، ]يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ[ من كماله واستوائه، وحسنه واعتداله، كذلك الصحابة رضي الله عنهما، هم كالزرع في نفعهم للخلق واحتياج الناس إليهم، فقوة إيمانهم وأعمالهم بمنزلة قوة عروق الزرع وسوقه، وكون الصغير والمتأخر إسلامه، قد لحق الكبير السابق ووازره وعاونه على ما هو عليه، من إقامة دين الله والدعوة إليه، كالزرع الذي أخرج شطأه، فآزره فاستغلظ، ولهذا قال: ]لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ[ حين يرون اجتماعهم وشدتهم على دينهم، وحين يتصادمون هم وهم في معارك النزال، ومعامع القتال. ثم قال: ]وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا[ فالصحابة رضي الله عنهما، الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، قد جمع الله لهم بين المغفرة، التي من لوازمها وقاية شرور الدنيا والآخرة، والأجر العظيم في الدنيا والآخرة.
([1]) سيأتي تخريجه.
([2]) أخرجه الطبراني في الأوسط (8362).
([3]) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (8/1461-1462) وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة: (1/23-26) عن ابن شاهين في كتاب اللطيف من السنة، وخشيش بن أصرم في كتابه، ومن طريقه أبو عمرو الطلمنكي في كتابه الأصول.
([4]) الجامع في أحكام القرآن للقرطبي (20/372-375).
([5]) تفسير القرآن العظيم (8/73).
([6]) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (15/125)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/21): رواه الطبراني في الأوسط، وفيه إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر وهو ضعيف. ويشهد له ما أخرجه مسلم في التفسير [من صحيحه] عن عروة قال: قالت لي عائشة: يا ابن أختي! أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم.
([7]) المطبوع في ذيل مسنده.
([8]) انظر: طبقات الحنابلة (1/29) ط. الفقي.
seifellah
2016-05-10, 18:31
قال ابن كثير: «قال مالك – رحمه الله -: بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة الذين فتحوا الشام يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا. وصدقوا في ذلك، فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نوه الله بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة؛ ولهذا قال هاهنا: ]ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ[، ثم قال: ]وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ[: ]أَخْرَجَ شَطْأَهُ[ أي فراخه، ]فَآزَرَهُ[ أي شده ]فَاسْتَغْلَظَ[ أي شب وطال، ]فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ[ أي فكذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم آزروه، وأيدوه، ونصروه، فهم معه كالشطء مع الزرع، ]لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ[.
ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك – رحمه الله، في رواية عنه – بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة، قال: لأنهم يغيظونهم، ومن غاظ الصحابة فهو كافر لهذه الآية. ووافقه طائفة من العلماء على ذلك. والأحاديث في فضائل الصحابة والنهي عن التعرض لهم بمساءة كثيرة، ويكفيهم ثناء الله عليهم، ورضاه عنهم. ثم قال: ]وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم[ «من» هذه لبيان الجنس([1])، ]مَّغْفِرَةً[ أي: لذنوبهم. ]وَأَجْرًا عَظِيمًا[ أي ثوابًا جزيلًا ورزقًا كريمًا، ووعد الله حق وصدق، لا يخلف ولا يبدل، وكل من اقتفى أثر الصحابة فهو في حكمهم، ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة، رضي الله عنهم وأرضاهم، وجعل جنات الفردوس مأواهم، وقد فعل.
والواجب على المسلم
السكوت عما شجر بينهم، وعدم سبهم
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحدٍ ذهبًا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه»([2]).
وهذا هو دأب الصالحين من هذه الأمة، فقد كان عمر بن عبد العزيز إذا سئل عن صفين والجمل، قال: أمر أخرج الله يدي منه، لا أدخل لساني فيه([3]).
وعن أحمد بن الحسن الترمذي، قال: سألت أبا عبد الله [يعني أحمد بن حنبل]، قلت: ما تقول فيما كان من أمر طلحة والزبير وعلي وعائشة، وذكر معاوية، فقال: من أنا؟ أقول في أصحاب رسول الله كان بينهم شيئًا! الله أعلم([4]).
وعن حنبل بن عم الإمام أحمد قال: أردت أن أكتب كتاب صفين والجمل عن خلف بن سالم، فأتيت أبا عبد الله أكلمه في ذاك، وأسأله، فقال: وما تصنع بذاك، وليس فيه حلال ولا حرام، قال حنبل: فأتيت خلف فكتبتها، فبلغ أبا عبد الله فقال لأبي: خذ الكتاب فاحبسه عنه، ولا تدعه ينظر فيه([5]).
وعن أبي الحارث قال: سمعت أبا عبد الله يقول: قال: «خير الناس قرني» فلا يُقاس بأصحابه أحد من التابعين. وقال أبو عبد الله: من تنقص أحدًا من أصحاب رسول الله فا ينطوي إلا على بلية، وله خبيئة سوء إذا قصد إلى خير الناس، وهم أصحاب رسول الله، حسبك([6]).
أخبرنا أبو بكر المروذي، قال: حدثني عبد الصمد، قال: قال بشر: قال عبد الله بن إدريس: لو أن الروم سبوا من المسلمين من الروم إلى الحيلة، ثم ردهم رجل في قلبه شيء على أصحاب محمد، ما قبل الله منه ذلك([7]).
عن أبي عروة الزبيري، قال: ذُكر عند مالك بن أنس رجل ينتقص [يعني ينتقص الصحابة] فقرأ: ]مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ[ [الفتح: 29]، فقال مالك: «من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب محمد عليه السلام فقد أصابته الآية»([8]).
وعن أبي يعقوب بن العباس، قال: كنا عند أبي عبد الله سنة سبع وعشرين، أنا وأبو جعفر بن إبراهيم، فقال له أبو جعفر: أليس نترحم على أصحاب رسول الله كلهم معاوية وعمرو بن العاص وعلى أبي موسى الأشعري والمغيرة، قال: نعم كلهم، وصفهم الله في كتابه، فقال: ]سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ[([9]).
وقال الخلال([10]): أخبرنا أبو بكر المروذي قال: قيل لأبي عبد الله – يعني أحمد بن حنبل – ونحن بالعسكر وقد جاء بعض رسل الخليفة – وهو يعقوب – فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول فيما كان من علي ومعاوية رحمهما الله؟ فقال أبو عبد الله: ما أقول فيها إلا الحسنى رحمهم الله أجمعين.
وقال: بشر بن الحارث الحافي: خطأ أصحاب محمد عليه السلام موضوع عنهم([11]).
قال أبو بكر المروذي سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل: إن قومًا يكتبون هذه الأحاديث الرديئة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حكوا عنك أنك قلت أنا لا أنكر أن يكون صاحب حديث يكتب هذه الأحاديث يعرفها فغضب، وأنكره إنكارًا شديدًا! وقال: باطل معاذ الله! أنا لا أنكر هذا؟ لو كان هذا في أفناء الناس لأنكرته! فكيف في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم! وقال: أنا لم أكتب هذه الأحاديث! قلت لأبي عبد الله: فمن عرفته يكتب هذه الأحاديث الديئة ويجمعها أيهجر؟ قال: نعم، يستاهل صاحب هذه الأحاديث الرديئة الرجم! وقال أبو عبد الله: جاءني عبد الرحمن بن صالح، فقلت له: تحدث بهذه الأحاديث! فجعل يقول: قد حدث بها فلان، وحدث بها فلان! وأنا أرفق به، وهو يحتج، فرأيته بعد فأعرضت عنه ولم أكلمه([12]).
وقال أبو بكر المروذي سمعت ابن نمير يقول سمعت أبي يقول سمعت الأعمش يقول وذكر حديثه الذي ينكرونه، فقال كنت أحدثهم بأحاديث يقولها الرجل لأخيه في الغضب([13]) فاتخذوها دينًا([14])، لا جرم لا أعود لها([15]).
وقال أبو بكر المروذي: قلت لأبي عبد الله استعرت من صاحب حديث كتابًا يعني فيه الأحاديث الرديئة، ترى أن أحرقه أو أخرقه! قال: نعم لقد استعار سلام بن أبي مطيع من أبي عوانة كتابًا فيه هذه الأحاديث فأحرق سلام الكتاب! قلت: فأحرقه؟ قال: نعم([16]).
قلت: هذا – والله – الفقه، لأن هذه الكتب كتب بدعة محرمة، والمحرم لا يعد مالًا محترمًا، ولا يحل بيعه، كما قال الفقهاء في كتب المجون والبدع، فقد ذهب الفقهاء إلى أن الكتب المحرمة يجوز إتلافها([17])، قال فقهاء المالكية: كتب العلم المحرم كالتوراة والإنجيل يجوز إحراقها وإتلافها إذا كانا محرفين. وقال فقهاء الشافعية: يجب إتلاف كتب الكفر والسحر والتنجيم والشعبذة والفلسفة لتحريم الاشتغال بها. ونقل الشيخ عميرة عن «شرح المهذب»: وكتب الكفر والسحر ونحوها يحرم بيعها ويجب إتلافها([18]).
قال الشيخ موسى الحجاوي الحنبلي في «الإقناع»: ويصح شراء كتب زندقة ليتلفها([19])، يعني أنه لا يجوز ولا يصح إلا بهذا القصد، وهو إتلافها. وفي كتاب «الأسئلة والأجوبة الفقهية»: «يجب إتلاف كتبهم المبدلة دفعًا لضررها، وقياسه كتب نحو رفض واعتزال» ا.هـ([20]).
([1]) أي ليست هنا للتبعيض قال ابن هشام في مغني اللبيب (ص: 421): في ذكر معاني «من»: بيان الجنس وكثيرًا ما تقع بعد «ما» و«مهما» وهما بها أولى لإفراط إبهامهما نحو ]مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا[، وهي مخفوضها في ذلك في موضع نصب على الحال ومن وقوعها بعد غيرهما ]يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ[، الشاهد في غير الأولى فإن تلك للابتداء وقيل زائدة ونحو ]فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ[ وأنكر مجيء من لبيان الجنس قوم وقالوا هي في ]مِن ذَهَبٍ[ و]مِّن سُندُسٍ[ للتبعيض وفي ]مِنَ الْأَوْثَانِ[ للابتداء والمعنى فاجتنبوا من الأوثان الرجس وهو عبادتها وهذا تكلف وفي كتاب (المصاحف) لابن الأنباري أن بعض الزنادقة تمسك بقوله تعالى: ]وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم[، في الطعن على بعض الصحابة! والحق أن «من» فيها «للتبيين» ولا «للتبعيض»، أي الذين آمنوا هم هؤلاء ومثله: ]الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ[ وكلهم محسن ومتق، ]وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[، فالمقول فيهم ذلك كلهم كفار» ا.هـ.
([2]) أخرجه البخاري (3673)، ومسلم (2540).
([3]) رواه الخلال في السنة (2/461) ح(717).
([4]) السنة، للخلال (2/460) ح(714).
([5]) السنة، للخلال (2/464) ح(723).
([6]) السنة، للخلال (2/477) ح(758).
([7]) السنة، للخلال (2/478) ح(759).
([8]) السنة (2/478) ح(760).
([9]) السنة (2/477) ح(755).
([10]) في كتاب السنة (2/460).
([11]) السنة، للخلال (2/480).
([12]) السنة، للخلال (3/501).
([13]) يعني ما يروى من سباب بعض الصحابة لبعضهم.
([14]) يعني يستدلون بها في التنقص لهم أو بالاقتداء بها. وهي مما لا يقتدى به، لأنه على خلاف الأصل، بل جاءت بمقتضى البشرية وأنهم غير معصومين.
([15]) السنة، للخلال (3/508).
([16]) السنة، للخلال (3/510).
([17]) انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية (34/192)، ومواهب الجليل في شرح مختصر خليل، للشيخ محمد الرعيني الحطاب المالكي (1/287)، ومغني المحتاج، للشيخ محمد الشربيني الشافعي (2/12)، وكشاف القناع، للشيخ منصور البهوتي الحنبلي (3/155).
([18]) حاشية عميرة على شرح المنهاج (2/15).
([19]) انظر: كشاف القناع، للشيخ منصور البهوتي (3/155).
([20]) انظر: كتاب الأسئلة والأجوبة الفقهية، للشيخ عبد العزيز السلمان رحمه الله (3/109).
salahababsa
2016-05-12, 18:57
جزاك الله خيرا...
أبو هاجر القحطاني
2016-05-12, 19:49
بارك الله فيك ورضي الله عن خال المؤمنين وكاتب الوحي معاوية ابن ابي سفيان وأبيه وأمه
عبد الباسط آل القاضي
2016-05-12, 20:20
حبُ الصحابة كلهم لي مذهبٌ ومودة القربى بها أتوسلُ
سامية الاخلاق
2016-05-13, 14:10
بارك الله فيك و نفع بك
لدي فقط طلب إن أمكن
فأنا أبحث عن ترجمة للصحابي عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما
و لكن خشيت من المعلومات الخاطئة و لم أعلم أي موقع أعتمد عليه .
و جزاك الله خيرا
seifellah
2016-05-13, 18:38
بارك الله فيك و نفع بك
لدي فقط طلب إن أمكن
فأنا أبحث عن ترجمة للصحابي عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما
و لكن خشيت من المعلومات الخاطئة و لم أعلم أي موقع أعتمد عليه .
و جزاك الله خيرا
إليك هذا من كتاب سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي رحمه الله (http://library.islamweb.net/newlibrary/display_book.php?ID=322&bk_no=60&flag=1)
أو عليك بكتاب
بالهمة وصل إلى القمة ( الصحابي عبدالله بن عمر رضي الله عنهما ) (PDF) (http://www.alukah.net/Books/Files/Book_5493/BookFile/elktab_2.pdf)
(http://www.alukah.net/authors/view/home/5647/)
سامية الاخلاق
2016-05-13, 20:06
إليك هذا من كتاب سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي رحمه الله (http://library.islamweb.net/newlibrary/display_book.php?ID=322&bk_no=60&flag=1)
أو عليك بكتاب
بالهمة وصل إلى القمة ( الصحابي عبدالله بن عمر رضي الله عنهما ) (PDF) (http://www.alukah.net/Books/Files/Book_5493/BookFile/elktab_2.pdf)
(http://www.alukah.net/authors/view/home/5647/)
جزاك الله خيرا
غريب في الأنام
2016-05-14, 17:34
بارك الله فيك اخي
رضي الله عن معاوية وعن العشرة والآل والصحابة أجمعين
seifellah
2016-06-10, 11:58
الفصل الرابع عشر
في عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في (العقيدة الواسطية):
ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما وصلهم الله به في قوله تعالى: ]وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ[ [الحشر: 10] وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه»([1]).
ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم.
ويفضلون من أنفق من قبل الفتح – وهو صلح الحديبيبة – وقاتل، على ما أنفق من بعد وقاتل، ويقدمون المهاجرين على الأنصار.
ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر – وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»([2]) وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم([3])، بل لقد رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة([4]).
ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، كالعشرة([5])، وثابت بن قيس بن شماس وغيرهم من الصحابة.
ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ويثلثون بعثمان، ويربعون بعلي رضوان الله عليهم أجمعين ، كما دلت عليه الآثار، وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة؛ مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي رضي الله عنهما – بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر – أيهما أفضل! فقدم قوم عثمان وسكتوا، أو ربعوا بعلي، وقدم قوم عليا، وقوم توقفوا! لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان ثم علي، وإن كانت هذه المسألة – مسألة عثمان وعلي – ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة؛ لكن التي يضلل فيها مسألة الخلافة، وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله.
ويحبون أهل بيت رسول الله، ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم...
إلى أن قال رحمه الله: ويتبرءون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، ومن طريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت، بقولٍ أو عمل.
ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم: منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص، وغير عن وجهه، والصحيح منه، هم فيه معذورون، إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون.
وهم – مع ذلك – لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره! بل تجوز عليهم الذنوب، في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم – إن صدر – حتى إنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنهم خير القرون»، وإن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهبا ممن بعدهم. ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غُفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه.
فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين، إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطئوا فلهم أجرٌ واحدٌ والخطأ مغفور لهم؟
ثم القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزرٌ مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم، من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة والنصرة، والعلم النافع والعمل الصالح.
ومن نظر في سيرة القوة بعلم وبصيرة وما من الله به عليهم من الفضائل علم يقينًا أنهم خلق الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم هم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله تعالى. ا.هـ.
([1]) أخرجه البخاري (7/21 فتح)، ومسلم (16/326 نووي).
([2]) أخرجه البخاري (7/304 فتح)، ومسلم (16/287 نووي).
([3]) أخرجه مسلم (16/290 نووي) عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل النار – إن شاء الله – من أصحاب الشجرة أحد الذي بايعوا تحتها».
([4]) قال الله تعالى: ]لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا[ [الفتح: 18].
([5]) عن رياح بن الحارث قال: كنت قاعدا عند فلان في الكوفة في المسجد، وعنده أهل الكوفة، فجاء سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، فرحب به وحياه، وأقعده عند رجله على السرير، فجاء رجل من أهل الكوفة يقال له: قيس بن علقمة، فاستقبله، فسب وسب، فقال سعيد: من يسب هذا الرجل؟ قال: يسب عليًا، فقال: ألا أرى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبون عندك، ثم لا تنكر ولا تغير؟ أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول – وإني لغني أن أقول عليه ما لم يقل، فيسألني عنه غدًا إذا لقيته-: «أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وسعد بن مالك في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة»، وسكت عن العاشر. قالوا: ومن هو العاشر؟ فقال: «سعيد بن زيد» - يعني نفسه – ثم قال: والله لمشهد رجل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر فيه وجهه خير من عمل أحدكم ولو عمر عمر نوح» أخرجه أحمد (1/188) (1637، 1631) وأبو داود (4649)، والترمذي (3757) والنسائي في فضائل الصحابة (106)، وابن ماجة (133)، وابن حبان (6993).
anis sebaihia
2016-06-10, 14:02
:1::dj_17:
لا الاه الا الله الله أكبر
أبو أنس ياسين
2016-06-12, 11:42
جزاك الله خيرًا ونفع بك
سُئل أبوعبد الرحمن النسائي عن معاويةَ بن أبي سفيان -صاحبِ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ـ، فقال: «إنما الإسلام كدارٍ لها بابٌ، فبابُ الإسلام الصحابة، فمن آذى الصحابةَ إنما أرادَ الإسلام، كمن نَقرَ البابَ إنما يريدُ دخولَ الدار؛ فمن أراد معاويةَ فإنما أراد الصحابة».
ذكره الحافظ المزي في تهذيب الكمال (1/ 45)
منقول للفائدة.
أبو أنس ياسين
2016-06-12, 11:51
روى ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (59/211) وبنحوه الآجري في "كتاب الشريعة" (5/2466) عن عبدالله بن المبارك أيهما أفضل: معاوية بن أبي سفيان أم عمر بن عبدالعزيز؟ فقال: والله إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من عمر بألف مرة صلى معاوية خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سمع الله لمن حمده, فقال معاوية: ربنا ولك الحمد فما بعد هذا؟
وأخرج الآجري "كتاب الشريعة" (5/2466)، واللالكائي في "شرح السنة" (2785)، والخطيب البغدادي في "تاريخه" (1/233)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (59/208), بسند صحيح عن الجراح الموصلي قال: سمعت رجلا يسأل المعافى بن عمران فقال: يا أبا مسعود، أين عمر بن عبدالعزيز من معاوية بن أبي سفيان! فرأيته غضب غضبا شديدا وقال: لا يقاس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحد, معاوية رضي الله عنه كاتبه وصاحبه وصهره وأمينه على وحيه عز وجل .. الحديث.
منقول للفائدة.
أسأل الله أن يجمعنا بالصحابة رضي الله عنهم في جنات النعيم مع سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم
seifellah
2016-06-25, 12:35
الفصل الخامس عشر في حكم من لعن معاوية رضي الله عنه
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية – رحمه الله([1]) -: من لعن أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - كمعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص ونحوهما؛ ومن هو أفضل من هؤلاء: كأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة، ونحوهما؛ أو من هو أفضل من هؤلاء كطلحة، والزبير، وعثمان، وعلي بن أبي طالب، أو أبي بكر الصديق، وعمر، أو عائشة أم المؤمنين، وغير هؤلاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - فإنه مستحق للعقوبة البليغة باتفاق أئمة الدين.
وتنازع العلماء: هل يعاقب بالقتل؟ أو ما دون القتل؟ كما قد بسطنا ذلك في غير هذا الموضع. وقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه»([2])، واللعنة أعظم من السب، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن المؤمن كقتله»([3]) فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم لعن المؤمن كقتله، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيار المؤمنين، ما ثبت عنه أنه قال: «خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم. ثم الذين يلونهم»([4])، وكل من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنا به فله من الصحبة بقدر ذلك، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يغزو جيش، فيقول: هل فيكم من صحب رسول الله؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم. ثم يغزو جيش فيقول: هل فيكم من رأى رسول الله؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم. وذكر الطبقة الثالثة»([5])، فعلق الحكم برؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم كما علقه بصحبته. ولما كان لفظ الصحبة فيه عموم وخصوص: كان من اختص من الصحابة بما يتميز به عن غيره يوصف بتلك الصحبة، دون من لم يشركه فيها، «قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد المتقدم لخالد بن الوليد لما اختصم هو وعبد الرحمن: «يا خالد لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه»([6])، فإن عبد الرحمن بن عوف هو وأمثاله من السابقين الأولين، من الذين أنفقوا قبل الفتح فتح الحديبية، وخالد بن الوليد وغيره ممن أسلم بعد الحديبية، وأنفقوا وقاتلوا دون أولئك.
قال تعالى: ]لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى[ والمراد بالفتح فتح الحديبية لما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه تحت الشجرة، وكان الذين بايعوه أكثر من ألف وأربعمائة...
فمن توهم أن سورة الفتح نزلت بعد فتح مكة فقد غلط غلطًا بينًا. والمقصود أن أولئك الذين صحبوه قبل الفتح اختصوا من الصحبة بما استحقوا به التفضيل على من بعدهم، حتى قال لخالد: «لا تسبوا أصحابي» فإنهم صحبوه قبل أن يصحبه خالد وأمثاله.
ولما كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه من مزية الصحبة ما تميز به على جميع الصحابة خصه بذلك في الحديث الصحيح، الذي رواه البخاري عن أبي الدرداء، أنه كان بين أبي بكر وعمر كلام، فطلب أبو بكر من عمر أن يستغفر له فامتنع عمر، وجاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ما جرى، ثم إن عمر ندم، فخرج يطلب أبا بكر في بيته، فذكر له أنه كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فلما جاء عمر أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يغضب لأبي بكر؛ وقال: «أيها الناس إني جئت إليكم فقلت: إني رسول الله إليكم، فقلتم كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟»([7]) فما أوذي بعدها.
فهنا خصه باسم الصحبة، كما خصه به القرآن في قوله تعالى: ]ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا[ وفي الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن عبدا خيره الله بين الدنيا والآخرة، فاختار ذلك العبد ما عند الله» فبكى أبو بكر، فقال: بل نفديك بأنفسنا؛ وأموالنا. قال: فجعل الناس يعجبون أن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عبدا خيره الله بين الدنيا والآخرة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا به. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر، ولو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا؛ ولكن أخي وصاحبي، سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر»([8])، وهذا من أصح حديث يكون باتفاق العلماء العارفين بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وأحواله والمقصود أن الصحبة فيها خصوص وعموم، وعمومها يندرج فيه كل من رآه مؤمنا به، ولهذا يقال صحبته سنة؛ وشهرًا، وساعةً، ونحو ذلك.
ومعاوية، وعمرو بن العاص، وأمثالهم من المؤمنين؛ لم يتهمهم أحد من السلف بنفاق؛ بل قد ثبت في الصحيح أن عمرو بن العاص لما بايع النبي صلى الله عليه وسلم قال: على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي. فقال: «يا عمرو أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله»([9])، ومعلوم أن الإسلام الهادم هو إسلام المؤمنين؛ لا إسلام المنافقين. وأيضًا فعمرو بن العاص وأمثاله ممن قدم مهاجرًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية هاجروا إليه من بلادهم طوعًا لا كرهًا، والمهاجرون لم يكن فيهم منافق؛ وإنما كان النفاق في بعض من دخل من الأنصار؛ وذلك أن الأنصار هم أهل المدينة؛ فلما أسلم أشرافهم وجمهورهم احتاج الباقون أن يظهروا الإسلام نفاقا؛ لعز الإسلام وظهوره في قومهم...
إلى أن قال: والمهاجرون من أولهم إلى آخرهم ليس فيهم من اتهمه أحد بالنفاق؛ بل كلهم مؤمنون مشهود لهم بالإيمان «ولعن المؤمن كقتله»([10]).
وأما معاوية بن أبي سفيان وأمثاله من الطلقاء الذين أسلموا بعد فتح مكة: كعكرمة بن أبي جهل، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب؛ هؤلاء وغيرهم ممن حسن إسلامهم باتفاق المسلمين، ولم يتهم أحد منهم بعد ذلك بنفاق.
ومعاوية قد استكتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «اللهم علمه الكتاب والحساب، وقه العذاب»([11]). وكان أخوه يزيد بن أبي سفيان خيرًا منه وأفضل وهو أحد الأمراء الذين بعثهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه في فتح الشام، وصاه بوصية معروفة، وأبو بكر ماش، ويزيد راكب، فقال له: يا خليفة رسول الله إما أن تركب وإما أن أنزل، فقال: لست براكب، ولست بنازل. إني أحتسب خطاي في سبيل الله. وكان عمرو بن العاص هو الأمير الآخر والثالث شر حبيل بن حسنة، والرابع خالد بن الوليد، وهو أميرهم المطلق، ثم عزله عمر، وولى أبا عبيدة عامر بن الجراح، الذي ثبت في الصحيح([12]) أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له أنه أمين هذه الأمة فكان فتح الشام على يد أبي عبيدة، وفتح العراق على يد سعد بن أبي وقاص.
ثم لما مات يزيد بن أبي سفيان في خلافة عمر استعمل أخاه معاوية، وكان عمر بن الخطاب من أعظم الناس فراسة، وأخبرهم بالرجال، وأقومهم بالحق، وأعلمهم به، حتى قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه»([13])، وقال: «لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر»([14])، وقال ابن عمر: ما سمعت عمر يقول في الشيء إني لأراه كذا وكذا إلا كان كما رآه. وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما رأك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك»([15]). ولا استعمل عمر قط؛ بل ولا يوجد أبو بكر على المسلمين: منافقًا: ولا استعملا من أقاربهما، ولا كان تأخذهما في الله لومة لائم؛ بل لما قاتلا أهل الردة وأعادوهم إلى الإسلام منعوهم ركوب الخيل، وحمل السلاح حتى ظهر صحة توبتهم، وكان عمر يقول لسعد بن أبي وقاص وهو أمير العراق: لا تستعمل أحدًا منهم، ولا تشاورهم في الحرب. فإنهم كانوا أمراء أكابر: مثل طليحة الأسدي، والأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، والأشعث بن قيس الكندي، وأمثالهم فهؤلاء لما تخوف أبو بكر وعمر منهم نوع نفاق لم يولهم على المسلمين.
([1]) مجموع الفتاوى (35/58، وما بعدها) باختصار.
([2]) أخرجه البخاري (3673)، ومسلم (2541).
([3]) أخرجه البخاري (6652)، عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه.
([4]) انظر البخاري (2651)، ومسلم (2535).
([5]) أخرجه البخاري (2897)، ومسلم (2532).
([6]) سبق تخريجه.
([7]) أخرجه البخاري (3661).
([8]) أخرجه البخاري (3904)، ومسلم (2382).
([9]) أخرجه مسلم (121) عن أبي شُماسة المهري.
([10]) سبق تخريجه.
([11]) صحيح أخرجه أحمد (4/127)، عن العرباض بن سارية وتقديم تخريجه.
([12]) انظر البخاري (3744) عن أنس.
([13]) أخرجه الترمذي (3682)، وابن ماجه (108).
([14]) أخرجه الترمذي (3686)، وقال: «حسن غريب».
([15]) أخرجه البخاري (3683)، ومسلم (4396).
seifellah
2016-06-25, 12:43
فلو كان عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان وأمثالهما ممن يتخوف منهما النفاق لم يولوا على المسلمين؛ بل عمرو بن العاص قد أمره النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات السلاسل، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يول على المسلمين منافقًا، وقد استعمل على نجران أبا سفيان بن حرب أبا معاوية، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان نائبه على نجران، وقد اتفق المسلمون على أن إسلام معاوية خير من إسلام أبيه أبي سفيان، فكيف يكون هؤلاء منافقين والنبي صلى الله عليه وسلم يأتمنهم على أحوال المسلمين في العلم والعمل وقد علم أن معاوية وعمرو بن العاص وغيرهما كان بينهم من الفتن ما كان، ولم يتهمهم أحد من أوليائهم، لا محاربوهم، ولا غير محاربيهم، بالكذب على النبي صلى الله عليه وسلم بل جميع علماء الصحابة والتابعين بعدهم متفقون على أن هؤلاء صادقون على رسول الله، مأمونون عليه في الرواية عنه، والمنافق غير مأمون على النبي صلى الله عليه وسلم بل هو كاذب عليه، مكذب له.
وإذا كانوا مؤمنين، محبين لله ورسوله، فمن لعنهم فقد عصى الله ورسوله، وقد ثبت في صحيح البخاري ما معناه: أن رجلا يلقب حمارًا، وكان يشرب الخمر، وكان كلما شرب أتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم جلده فأتي به إليه مرة، فقال رجل: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنوه، فإنه يحب الله ورسوله»([1])، وكل مؤمن يحب الله ورسوله، ومن لم يحب الله ورسوله فليس بمؤمن، وإن كانوا متفاضلين في الإيمان وما يدخل فيه من حب وغيره. هذا مع أنه صلى الله عليه وسلم «لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها»([2])، وقد نهى عن لعنة هذا المعين، لأن اللعنة من باب الوعيد فيحكم به عمومًا.
وأما المعين: فقد يرتفع عند الوعيد لتوبة صحيحة، أو حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة، أو غير ذلك من الأسباب التي ضررها يرفع العقوبة عن المذنب. فهذا هو حق من له ذنب محقق. وكذلك حاطب بن أبي بلتعة فعل ما فعل، وكان يسيء إلى مماليكه، حتى ثبت في (الصحيح) أن غلامه قال: يا رسول الله، والله ليدخلن حاطب بن أبي بلتعة النار. قال: «كذبت، إنه شهد بدرا؛ والحديبية»([3]). وفي (الصحيح) عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله والزبير بن العوام، وقال لهما: «ائتيا روضة خاخ، فإن بها ظعينة، ومعها كتاب» قال علي: فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى لقينا الظعينة، فقلنا: أين الكتاب؟ فقالت: ما معي كتاب. فقلنا لها: لتخرجن الكتاب، أو لنلقين الثياب، قال فأخرجته من عقاصها، فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم وإذا كتاب من حاطب إلى بعض المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما هذا يا حاطب؟» فقال: والله يا رسول الله ما فعلت هذا ارتدادًا عن ديني، ولا رضاء بالكفر بعد الإسلام؛ ولكن كنت أمرأ ملصقًا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المسلمين لهم قرابات يحمون بها أهاليهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك منهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي وفي لفظ: وعلمت أن ذلك لا يضرك – يعني لأن الله ينصر رسوله والذين آمنوا – فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك أن الله قد اطلع على أهل بدر، فقال لهم: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم»([4]).
فهذه السيئة العظيمة غفرها الله له بشهود بدر. فدل ذلك على أن الحسنة العظيمة يغفر الله بها السيئة العظيمة، والمؤمنون يؤمنون بالوعد والوعيد، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة»([5])، وأمثال ذلك؛ مع قوله: ]إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا[ [النساء: 10].
ولهذا لا يشهد لمعين بالجنة إلا بدليل خاص، ولا يشهد على معين بالنار إلا بدليل خاص؛ ولا يشهد لهم بمجرد الظن من اندراجهم في العموم؛ لأنه قد يندرج في العمومين فيستحق الثواب والعقاب؛ لقوله تعالى: ]فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ {7} وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ[ [الزلزلة: 7-8]. والعبد إذا اجتمع له سيئات وحسنات فإنه وإن استحق العقاب على سيئاته فإن الله يثيبه على حسناته، ولا يحبط حسنات المؤمن لأجل ما صدر منه؛ وإنما يقول بحبوط الحسنات كلها بالكبيرة الخوارج والمعتزلة الذين يقولون بتخليد أهل الكبائر، وأنهم لا يخرجون منها بشفاعة ولا غيرها، وأن صاحب الكبيرة لا يبقى معه من الإيمان شيء. وهذه أقوال فاسدة، مخالفة للكتاب، والسنة المتواترة، وإجماع الصحابة.
وسائر أهل السنة والجماعة وأئمة الدين لا يعتقدون عصمة أحد من الصحابة، ولا القرابة، ولا السابقين، ولا غيرهم؛ بل يجوز عندهم وقوع الذنوب منهم، والله تعالى يغفر لهم بالتوبة، ويرفع بها درجاتهم، ويغفر لهم بحسنات ماحية، أو بغير ذلك من الأسباب، قال تعالى: ]وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ {33} لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ {34} لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ[ [الزمر: 33-35]، وقال تعالى: ]حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ {15} أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ[ [الأحقاف: 15-16].
ولكن الأنبياء – رضوان الله تعالى عليهم أجمعين – هم الذين قال العلماء: إنهم معصومون من الإصرار على الذنوب. فأما الصديقون، والشهداء؛ والصالحون: فليسوا بمعصومين. وهذا في الذنوب المحققة. وأما ما اجتهدوا فيه: فتارة يصيبون، وتارة يخطئون. فإذا اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤهم مغفور لهم. وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين: فتارة يغلون فيهم؛ ويقولون: إنهم معصومون. وتارة يجفون عنهم؛ ويقولون: إنهم باغون بالخطأ. وأهل العلم والإيمان لا يعصمون، ولا يؤثمون.
ومن هذا الباب تولد كثير من فرق أهل البدع والضلال. فطائفة سبت السلف ولعنتهم؛ لاعتقادهم أنهم فعلوا ذنوبًا، وأن من فعلها يستحق اللعنة؛ بل قد يفسقونهم؛ أو يكفرونهم، كما فعلت الخوارج الذين كفروا علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، ومن تولاهم، ولعنوهم، وسبوهم، واستحلوا قتالهم. وهؤلاء هم الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية»([6])، وقال صلى الله عليه وسلم: «تمرق مارقة على فرقة من المسلمين، فتقاتلها أولى الطائفتين لأجل الحق»([7]) وهؤلاء هم المارقة الذين مرقوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وكفروا كل من تولاه. وكان المؤمنون قد افترقوا فرقتين: فرقة مع علي، وفرقة مع معاوية. فقاتل هؤلاء عليا وأصحابه، فوقع الأمر كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وكما ثبت عنه أيضًا في (الصحيح) أنه قال عن الحسن ابنه: «إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين»([8]) فأصلح الله به بين شيعة علي وشيعة معاوية. وأثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الحسن بهذا الصلح الذي كان على يديه وسماه سيدا بذلك؛ لأجل أن ما فعله الحسن يحبه الله ورسوله، ويرضاه الله ورسوله.
ولو كان الاقتتال الذي حصل بين المسلمين هو الذي أمر الله به ورسوله لم يكن الأمر كذلك؛ بل يكون الحسن قد ترك الواجب، أو الأحب إلى الله.
وهذا النص الصحيح الصريح يبين أن ما فعله الحسن محمود، مرضي لله ورسوله، وقد ثبت في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضعه على فخذه، ويضع أسامة بن زيد، ويقول: «اللهم إني أحبهما، وأحب من يحبهما»([9]) وهذا أيضًا مما ظهر فيه محبته ودعوته صلى الله عليه وسلم فإنهما كانا أشد الناس رغبة في الأمر الذي مدح النبي صلى الله عليه وسلم به الحسن، وأشد الناس كراهة لما يخالفه، وهذا مما يبين أن القتلى من أهل صفين لم يكونوا عند النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة الخوارج المارقين، الذين أمر بقتالهم، وهؤلاء مدح الصلح بينهم ولم يأمر بقتالهم؛ ولهذا كانت الصحابة والأئمة متفقين على قتال الخوارج المارقين، وظهر من علي رضي الله عنه السرور بقتالهم؛ ومن روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتالهم: ما قد ظهر عنه وأما قتال الصحابة فلم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أثرًا، ولم يظهر فيه سرورًا؛ بل ظهر منه الكآبة، وتمنى أن لا يقع، وشكر بعض الصحابة، وبرأ الفريقين من الكفر والنفاق، وأجاز الترحم على قتلى الطائفتين.
وأمثال ذلك من الأمور التي يعرف بها اتفاق علي وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين على أن كل واحدة من الطائفتين مؤمنة. وقد شهد القرآن بأن اقتتال المؤمنين لا يخرجهم عن الإيمان بقوله تعالى: ]وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {9} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[ فسماهم مؤمنين وجعلهم إخوة مع وجود الاقتتال والبغي. والحديث المذكور «إذا اقتتل خليفتان فأحدهما ملعون» كذب مفترى، لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث، ولا هو في شيء من دواوين الإسلام المعتمدة. ومعاوية لم يدع الخلافة؛ ولم يبايع له بها حين قاتل عليًا، ولم يقاتل على أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة، ويقرون له بذلك، وقد كان معاوية يقر بذلك لمن سأله عنه، ولا كان معاوية وأصحابه يرون أن يبتدوا عليًا وأصحابه بالقتال، ولا يعلوا.
([1]) أخرجه البخاري (6780).
([2]) أخرجه الترمذي (1295)، وابن ماجه (3381).
([3]) رواه مسلم (2195) عن جابر رضي الله عنه.
([4]) أخرجه البخاري (3983).
([5]) أخرجه أحمد (22034)، وأبو داود (3116)، والحاكم (1299) عن معاذ بن جبل، وسنده صحيح. وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» ا.هـ.
([6]) أخرجه البخاري (3610)، ومسلم (1064).
([7]) أخرجه مسلم (1065).
([8]) سبق تخريجه.
([9]) أخرجه البخاري (3735).
نور العقل
2016-06-25, 13:02
رحم الله كل المسلمين الموتى والأحياء
تحول الخلافة الى ملكية منعطف تاريخي خطير؟لكن حدث ماحدث؟؟؟؟ولا نزكي على الله أحد بل الله يزكي من يشاء
fouadcrb
2016-06-26, 19:15
مششكوووووورر
MouhaKamikaz
2016-06-28, 05:10
بارك الله فيك على الموضوع
hoho2016
2016-06-28, 05:30
شكرا وبارك الله فيكم
seifellah
2016-07-19, 09:18
بل لما رأى علي رضي الله عنه وأصحابه أنه يجب عليهم طاعته ومبايعته، إذ لا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد، وأنهم خارجون عن طاعته ويمتنعون عن هذا الواجب، وهم أهل شوكة رأى أن يقاتلهم حتى يؤدوا هذا الواجب، فتحصل الطاعة والجماعة. وهم قالوا: إن ذلك لا يجب عليهم، وإنهم إذ قوتلوا على ذلك كانوا مظلومين، قالوا: لأن عثمان قتل مظلومًا باتفاق المسلمين، وقتلته في عسكر علي، وهم غالبون لهم شوكة، فإذا امتنعنا ظلمونا واعتدوا علينا. وعلي لا يمكنه دفعهم، كما لم يمكنه الدفع عن عثمان؛ وإنما عينا أن نبايع خليفة يقدر على أن ينصفنا ويبذل لنا الإنصاف. وكان في جهال الفريقين من يظن بعلي وعثمان ظنونًا كاذبة، برأ الله منها عليًا، وعثمان: كان يظن بعلي أنه أمر بقتل عثمان، وكان علي يحلف، وهو البار الصادق بلا يمين أنه لم يقتله، ولا رضي بقتله، ولم يمالئ على قتله.
وهذا معلوم بلا ريب من علي رضي الله عنه. فكان أ،اس من محبي علي ومن مبغضيه يشيعون ذلك عنه: فمحبوه يقصدون بذلك الطعن على عثمان بأنه كان يستحق القتل، وأن عليًا أمر بقتله. ومبغضوه يقصدون بذلك الطعن على علي، وأنه أعان على قتل الخليفة المظلوم الشهيد، الذي صبر نفسه ولم يدفع عنها، ولم يسفك دم مسلم في الدفع عنه، فكيف في طلب طاعته وأمثال هذه الأمور التي يتسبب بها الزائغون على المتشيعين العثمانية والعلوية. وكل فرقة من المتشيعين مقرة مع ذلك بأنه ليس معاويًا كفئا لعلي بالخلافة، ولا يجوز أن يكون خليفة مع إمكان استخلاف علي رضي الله عنه. فإن فضل علي وسابقيته، وعلمه، ودينه، وشجاعته، وسائر فضائله: كانت عندهم ظاهرة معروفة، كفضل إخوانه: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين ولم يكن بقي من أهل الشورى غيره وغير سعد، وسعد كان قد ترك هذا الأمر، وكان الأمر قد انحصر في عثمان وعلي؛ فلما توفي عثمان لم يبق لها معين إلا علي رضي الله عنه. وإنما وقع الشر بسبب قتل عثمان، فحصل بذلك قوة أهل الظلم والعدوان وضعف أهل العلم والإيمان، حتى حصل من الفرقة والاختلاف ما صار يطاع فيه من غيره أولى منه بالطاعة؛ ولهذا أمر الله بالجماعة والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف؛ ولهذا قيل: ما يكرهون في الجماعة خير مما يجمعون من الفرقة. وأما الحديث الذي فيه «إن عمارا تقتله الفئة الباغية»([1]) فهذا الحديث قد طعن فيه طائفة من أهل العلم؛ لكن رواه مسلم في صحيحه، وهو في بعض نسخ البخاري: قد تأوله بعضهم على أن المراد بالباغية الطالبة بدم عثمان، كما قالوا: نبغي ابن عفاف بأطراف الأسل([2]). وليس بشيء؛ بل يقال ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق كما قاله، وليس في كون عمار تقتله الفئة الباغية ما ينافي ما ذكرناه، فإنه قد قال الله تعالى: ]وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {9} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ[ [الحجرات: 9-10]، فقد جعلهم مع وجود الاقتتال والبغي مؤمنين إخوة؛ بل مع أمره بقتال الفئة الباغية جعلهم مؤمنين. وليس كل ما كان بغيًا وظلمًا أو عدوانًا يخرج عموم الناس عن الإيمان، ولا يوجب لعنتهم؛ فكيف يخرج ذلك من كان من خير القرون؟
وكل من كان باغيًا، أو ظالمًا، أو معتديًا، أو مرتكبًا ما هو ذنب فهو قسمان متأول، وغير متأول، فالمتأول المجتهد: كأهل العلم والدين، الذين اجتهدوا، واعتقد بعضهم حل أمور، واعتقد الآخر تحريمها كما استحل بعضهم بعض أنواع الأشربة، وبعضهم بعض المعاملات الربوية وبعضهم بعض عقود التحليل والمتعة، وأمثال ذلك، فقد جرى ذلك وأمثاله من خيار السلف. فهؤلاء المتأولون المجتهدون غايتهم أنهم مخطئون، وقد قال الله تعالى: ]رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا[. وقد ثبت في (الصحيح) أن الله استجاب هذا الدعاء([3]). وقد أخبر سبحانه عن داود وسليمان عليهما السلام إنهما حكما في الحرث، وخص أحدهما بالعلم والحكم، مع ثنائه على كل منهما بالعلم والحكم. والعلماء ورثة الأنبياء، فإذا فهم أحدهم من المسألة ما لم يفهمه الآخر لم يكن بذلك ملومًا ولا مانعًا لما عرف من علمه ودينه، وإن كان ذلك مع العلم بالحكم يكون إثمًا وظلمًا، والإصرار عليه فسقًا، بل متى علم تحريمه ضرورة كان تحليله كفرًا. فالبغي هو من هذا الباب.
أما إذا كان الباغي مجتهدًا ومتأولًا، ولم يتبين له أنه باغٍ، بل اعتقد أنه على الحق، وإن كان مخطئًا في اعتقاده: لم تكن تسميته باغيًا موجبة لإثمه، فضلًا عن أن تجب فسقه. والذين يقولون بقتال البغاة المتأولين؛ يقولون: مع الأمر بقتالهم قتالنا لهم لدفع ضرر بغيهم؛ لا عقوبة لهم؛ بل للمنع من العدوان. ويقولون: إنهم باقون على العدالة؛ لا يفسقون. ويقولون هم كغير المكلف، كما يمنع الصبي والمجنون والناسي والمغمى عليه والنائم من العدوان أن لا يصدر منهم؛ بل تمنع البهائم من العدوان. ويجب على من قتل مؤمنًا خطًا الدية بنص القرآن مع أنه لا إثم عليه في ذلك، وهكذا من رفع إلى الإمام من أهل الحدود وتاب بعد القدرة عليه فأقام عليه الحد، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.
والباغي المتأول يُجلد عند مالك والشافعي وأحمد ونظائره متعددة. ثم بتقدير أن يكون البغي بغير تأويل: يكون ذنبًا، والذنوب تزول عقوبتها بأسباب متعددة: بالحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، وغير ذلك. ثم «إن عمارًا تقتله الفئة الباغية» ليس نصًا في أن هذا اللفظ لمعاوية وأصحابه؛ بل يمكن أنه أريد به تلك العصابة التي حملت عليه حتى قتلته، وهي طائفة من العسكر، ومن رضي بقتل عمار كان حكمه حكمها. ومن المعلوم أنه كان في العسكر من لم يرض بقتل عمار: كعبد الله بن عمرو بن العاص، وغيره؛ بل كان الناس كانوا منكرين لقتل عمار، حتى معاوية، وعمرو. ويروى أن معاوية تأول أن الذي قتله هو الذي جاء به؛ دون مقاتليه: وأن عليًا رد هذا التأويل بقوله: فنحن إذا قتلنا حمزة. ولا ريب أن ما قاله علي هو الصواب؛ لكن من نظر في كلام المتناظرين من العلماء الذين ليس بينهم قتال ولا ملك، وأن لهم في النصوص من التأويلات ما هو أضعف من معاوية بكثير. ومن تأويل هذا التأويل لم ير أنه قتل عمارًا، فلم يعتقد أنه باغ، ومن لم يعتقد أنه باغٍ وهو في نفس الأمر باغٍ: فهو متأول مخطئ.
والفقهاء ليس فيهم من رأيه القتال مع من قتل عمارًا؛ لكن لهم قولان مشهوران، كما كان عليهما أكابر الصحابة: منهم من يرى القتال مع عمار وطائفته، ومنهم من يرى الإمساك عن القتال مطلقًا. وفي كل من الطائفتين طوائف من السابقين الأولين. ففي القول الأول عمار، وسهل بن حنيف، وأبو أيوب. وفي الثاني سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة؛ وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر ونحوهم. ولعل أكثر الأكابر من الصحابة كانوا على هذا الرأي؛ ولم يكن في العسكرين بعد علي أفضل من سعد بن أبي وقاص، وكان من القاعدين.
وحديث عمار قد يحتج به من رأى القتال؛ لأنه إذا كان قاتلوه بغاة فالله يقول: ]فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي[ [الحجرات: 9]. والمتمسكون يحتجون بالأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن «القعود عن الفتنة خير من القتال فيها»([4])، وتقول: إن هذا القتال ونحوه هو قتال الفتنة؛ كما جاءت أحاديث صحيحة تبين ذلك؛ وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالقتال؛ ولم يرض به؛ وإنما رضي بالصلح؛ وإنما أمر الله بقتال الباغي؛ ولم يأمر بقتاله ابتداء؛ بل قال: ]وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ [ [الحجرات: 9]، قالوا: والاقتتال الأول لم يأمر الله به؛ ولا أمر كل من بغي عليه أن يقاتل من بغى عليه؛ فإنه إذا قتل كل باغ كفر؛ بل غالب المؤمنين؛ بل غالب الناس: لا يخلو من ظلم وبغي؛ ولكن إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين فالواجب الإصلاح بينهما؛ وإن لم تكن واحدة منهما مأمورة بالقتال، فإذا بغت الواحدة بعد ذلك قوتلت؛ لأنها لم تترك القتال؛ ولم تجب إلى الصلح؛ فلم يندفع شرها إلا بالقتال. فصار قتالها بمنزلة قتال الصائل الذي لا يندفع ظلمه عن غيره إلا بالقتال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد»([5]).
قالوا: فبتقدير أن جميع العسكر بغاة فلم نؤمر بقتالهم ابتداء؛ بل أمرنا بالإصلاح بينهم وأيضًا، فلا يجوز قتالهم إذا كان الذين معهم ناكلين عن القتال فإنهم كانوا كثيري الخلاف عليه ضعيفي الطاعة له. والمقصود أن هذا الحديث لا يبيح لعن أحد من الصحابة، ولا يوجب فسقه. وأما أهل البيت فلم يسبوا قط. ولله الحمد. ولم يقتل الحجاج أحدًا من بني هاشم، وإنما قتل رجالًا من أشراف العرب، وكان قد تزوج بنت عبد الله بن جعفر فلم يرض بذلك بنو عبد مناف ولا بنو هاشم ولا بنو أمية حتى فرقوا بينه وبينها؛ حيث لم يروه كفؤًا. والله أعلم. انتهى كلام ابن تيمية رحمه الله.
([1]) أخرجه البخاري (447)، ومسلم (2915).
([2]) هو كل ما أرق من الحديد، وحدد السيف.
([3]) أخرجه مسلم (123).
([4]) أخرجه البخاري (7081، 7082)، ومسلم (2886) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
([5]) أخرجه أبو داود (4772)، والترمذي (1421).
seifellah
2016-07-19, 09:26
الفصل السادس عشر في موت معاوية رضي الله عنه
عن عبادة بن نسي قال خطبنا معاوية رضي الله عنه على منبر الصنبرة، فنظر في وجوه القوم، ثم استغفر وبكى، وقال: كثرت الوجوه، وقلت المعارف، وإنما الناس قرون، من فناء المرء فناء قرنه، لقد شهد معي صفين عدة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما أصبح على وجهه الأرض مثل عدتهم، ثم نزل فتوجه إلى دمشق، فلم يلبث أن مات رحمه الله([1]).
وعن همام بن محمد عمن حدثه أن معاوية قام في جمعة شهدها، فقال: ألا إن من زرع فقد آن حصاده، فقد بلغت سنًا ما بلغها أحد من أهل بيتي إلا أهلك وأيم الله ما أحسبني أغبر فيكم إلا قليلًا، ولا أراكم ترون بعدي إلا من هو شر مني كما لم يكن قبلي إلا من هو خير مني([2]).
قال ابن حجر: مات معاوية في رجب سنة ستين على الصحيح([3]).
قال ابن كثير: قال ابن جرير: وأجمعوا على أنه هلك في رجب منها، وكان مدة ملكه استقلالا من جمادى سنة إحدى وأربعين حين بايعه الحسن بن علي باذرج، فذلك تسع عشرة سنة وثلاث أشهر، وكان نائبًا في الشام عشرين سنة تقريبًا، وقيل غير ذلك: وكان عمره ثلاثا وسبعين سنة، وقيل خمسا وسبعين سنة، وقيل ثمانيا وسبعين سنة، وقيل خمسا وثمانية سنة([4]).
قال السيوطي: مات معاوية في شهر رجب سنة ستين ودفن بين باب الجابية وباب الصغير وقيل: إنه عاش سبعًا وسبعين سنة وكان عنده شيء من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلامة أظفاره فأوصى أن تجعل في فمه وعينيه وقال: افعلوا ذلك وخلوا بيني وبين أرحم الراحمين([5]).
رضي الله عن أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان وأرضاه، ]رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ[ [الحشر: 10].
([1]) رواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/416).
([2]) رواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/424).
([3]) الإصابة في تمييز الصحابة (6/154).
([4]) البداية والنهاية (8/124).
([5]) تاريخ الخلفاء (ص: 173)، وقد أساء السيوطي في ترجمته من هذا الكتاب فأورد التنقصات الواهية، وأغفل الممادح، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
*بيلسان*
2016-07-19, 17:55
بارك الله فيك
vBulletin® v3.8.10 Release Candidate 2, Copyright ©2000-2025, TranZ by Almuhajir