مشاهدة النسخة كاملة : درس / الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم
أم سمية الأثرية
2016-01-03, 10:16
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله ونبيه محمد الأمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد
فإن سيرة الرسول سيد ولد آدم صلى الله عليه وعلى أبينا آدم وسلَّم تسليما كثيراً تشمل حياة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كلَّها من ولادة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى وفاته ، أفعاله، عبادته، حياته، شمائله، غزواته .
وإن دراسة سيرة رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لمن أعظم نِعم الله عز وجل لِمَا في دراستها من الإعانة على الحصول على الخير والأجر والسعادة في الدنيا والآخرة.
سيرة رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ من ثمار معرفتها ودراستها أنها- تحقق المتابعة للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ الذي قال الله عز وجل عنه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب :21] .
ولا سعادة ولا فوز بالجنة إلا بلزوم نهجه وطريقته {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}.
وأخرج البخاري في صحيحه (7280) عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى» .
سيرة النبي صلى الله عون على محبته وإجلاله وقد أخرج البخاري في صحيحه (14 )عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ».
وكما أنها تبعث المحبة فكذلك قراءة السيرة من أسباب زيادة الإيمان والإيمان به وكم من إنسان أسلم بسبب سماعه ومعرفته سيرة رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وما رزقه الله من الأخلاق العالية فيُسلِم، ويترك دينه وطريقته.
فسيرة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ مؤثِّرة .
قال ابن حزم رحمه الله في "الفِصل في الملل والنحل " (2/73) إن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم لمن تدبرها تقتضي تصديقه ضرورةً، وتشهد له بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته صلى الله عليه وسلم لكفى اهـ
دراسة سيرة نبينا محمد من خلالها نعرف الحق من الباطل والمحق من المبطل .
وعون على فهم الدين فهما صحيحا وفهم العقيدة والتوحيد وعون على فهم القرآن كما أن معرفة أسباب النزول عون على فهم القرآن .
وعون لنا على الأخلاق الزكية فقد أعطاه الله السيرة العلِيَّة والصفات الزكيَّة في سلوكه وسمته وكرمه وشجاعته ورفقه ورحمته وحُسن معاملته كما وصفه ربه سبحانه بذلك فقال: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وقال :{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}وقال { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}.
فسيرة رسول الله دعوة إلى الأخلاق الحميدة كالصدق، والحياء، والكرم، والشجاعة، والصبر، والحلم ، والزهد في الدنيا الفانية الزائلة، والإقبال على الآخرة ، والاستعداد لدار المعاد ، فكل حياته ووقته جهاد ومجاهدة .
ومن خلال معرفة سيرة هذا النبي الكريم نعرف عبادته وصومه وصبره وعبوديته لربه مما يبعث الهمم والشوق إلى المقامات العالية .
أخرج البخاري (4837)ومسلم (2820)عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: «أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا .. »
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه (485)من طريق ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: كَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ فِي الرُّكُوعِ؟ قَالَ: أَمَّا سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ. فَأَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: افْتَقَدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، فَتَحَسَّسْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ، فَإِذَا هُوَ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ يَقُولُ: «سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، إِنِّي لَفِي شَأْنٍ وَإِنَّكَ لَفِي آخَرَ.
من خلال معرفة السيرة النبوية نعرفة منزلة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلا غلو فنرفعه فوق منزلته ولا جفاء فننزله عن منزلته .
هذه بعض ثمار دراسة سيرة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
ونحمد الله سبحانه وتعالى إذ وفَّقنا لقراءة سيرة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وبين يدينا كتاب الحافظ ابن كثير "الفصول في سيرة الرسول "نسأل الله أن يفقهنا في دينه .
وسمى الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ كتابه ب (الفصول ) لأن هذا الكتاب عبارة عن فصول .
تعريف الفَصْل
قال الجُرجاني في "التعريفات " ص 167 : قطعةٌ من الباب مستقلة بنفسها منفصلة عما سواها .
مؤلف الكتاب
هو الإمام الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن عُمر بن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ
وهو مؤلف التفسير الذي أثنى عليه العلماء بثناء عظيم قال الزرقاني في" شرح المواهب اللدنية" (1/77) عن تفسير ابن كثيرلم يؤلف على نمطه مثله .
وقال السيوطي في "ذيل تذكرة الحفاظ" في ترجمة ابن كثير: له التفسير الذي لم يؤلف على نمطه مثله .
وقال الشوكاني في ترجمة ابن كثير من "البدر الطالع ": وله تصانيف مفيدة منها التفسير المشهور وهو في مجلدات وقد جمع فيه فاوعى ونقل المذاهب والاخبار والآثار وتكلم بأحسن كلام وأنفسه وهو من أحسن التفاسير ان لم يكن أحسنها .
و ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ من كبار المحدثين ومن كبار العلماء وأسرته أسرة علم كما أن آل أبي شيبة أسرة علم، وآل أبي اسحاق ـ عمرو بن عبدالله ـ السَّبيعي أسرته أسرة علم ، وهذامن النعم العظيمة أن تكون الأسرة كلها أسرة علم، الجد والأب والأبناء والأحفاد .
قال الشوكاني في " البدر الطالع "ترجمة ابن كثير : ولد بقرية من أَعمال مَدِينَة بصرى سنة 701 ثمَّ انْتقل إلى دمشق سنة سِتّ وَسَبْعمائة وتفقه بالشيخ برهَان الدَّين الفرارى وَغَيره وَسمع من الْقَاسِم بن عَسَاكِر والمزي وَغَيرهمَا.
وبرع في الْفِقْه وَالتَّفْسِير والنحو وأمعن النظر في الرِّجَال والعلل .
وَمن جملَة مشايخه شيخ الإسلام تقى الدَّين ابْن تَيْمِية ولازمه وأحبه حبا عَظِيما كَمَا ذكر معنى هَذَا ابْن حجر في الدُّرَراهـ
وزوجة ابن كثير اسمها زينب بنت الحافظ المزي حافظة للقرآن سمعت من أبيها .
وأم زينب اسمها عائشة زوجة الحافظ المزي امرأة فاضلة عابدة مقرئة للقرآن
ترجم لها الحافظ ابن حجر في "الدرر الكامنة" (3/ 2) وقال :عَائِشَة بنت إِبْرَاهِيم بن صديق زوج الْحَافِظ الْمزي ولدت سنة 61 وَسمعت من أبي الْفضل بن عَسَاكِر وَغَيره وَحدثت وَكَانَت تحفظ الْقُرْآن وتلقنه النِّسَاء قَالَ ابْن كثير وَكَانَ زوج ابْنَتهَا كَانَت عديمة النظير لِكَثْرَة عبادتها وَحسن تأديتها لِلْقُرْآنِ تفضل فِي ذَلِك على كثير من الرِّجَال وأقرأت عدَّة من النِّسَاء وختمن عَلَيْهَا وانتفعن بهَا وَكَانَت زاهدة فِي الدُّنْيَا متقللة مِنْهَا مَاتَت فِي جُمَادَى الأولى سنة 741.
وهذه بعض التعليقات المفيدة على كتاب الحافظ ابن كثير (الفصول في سيرة الرسول صلى عليه وسلم)أرجو من ربي أن ينفعني بها وأن ينفع بها إنه جواد كريم .
ولمَّا كان يرغب بعض الأخوات حفظهن الله في حضور الدرس معنا ولكن لم يتيسر لهن وعدتُهن بإدخال درس "الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم" في المدونة (فوائد ورسائل أم عبدالله الوادعية) ودرس (كتاب التوحيد من صحيح البخاري) رغبةً في التعاون على الخير ونشر السنة أسأل من ربي التوفيق وأن يعيننا على ما أردنا ولا حول ولاقوة إلا بالله .
أم عبدالله بنت الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله .
***********************
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من أخلص له قلبه وانجابت عنه أكدار الشرك وصفا، وأقر له برِقِّ العبودية، واستعاذ به من شر الشيطان والهوى، وتمسك بحبله المتين المنزل على رسوله الأمين محمد خير الورى صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الحشر واللقا، ورضي الله عن أصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه أجمعين، أولي البصائر والنهى.
**************************
(الحمد لله ) تعريف الحمد: الإخبار بالشيء مع محبته وإجلاله وتعظيمه كما قاله شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى وتلميذه ابن القيم في بدائع الفوائد رحمهما الله.
على هذا إذا أخبر بأوصاف من غير محبة لا يقال له حمد .
أما الثناء فهو: تَكرار المحامد، كما قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في "بدائع الفوائد" .
ومْن هنا يُستفادُ الفرق بين الحمد والثناء ودليل ذلك ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي الحديث .
الشاهد أنه قال سبحانه في الحمد ( حمدني عبدي) فلما كررالوصف قال ( أثنى علي عبدي) لأن الثناء تَكرار المحامد، وأما الحمد فلا يلزم فيه التكرار.
الفرق بين الحمد والمدح
قال ابن كثير في تفسيره (1/67) وَأَمَّا الْمَدْحُ فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْحَمْدِ لِأَنَّهُ يَكُونُ لِلْحَيِّ وَلِلْمَيِّتِ وَلِلْجَمَادِ أَيْضًا كَمَا يمدح الطعام
المكان وَنَحْوُ ذَلِكَ وَيَكُونُ قَبْلَ الْإِحْسَانِ وَبَعْدَهُ، وَعَلَى الصِّفَاتِ الْمُتَعَدِّيَةِ وَاللَّازِمَةِ أَيْضًا فَهُوَ أَعَمُّ.
وقال ابن القيم في بدائع الفوائد (2/92) المخبر عن محاسن الغير إما أن يقترن بإخباره حب له وإجلال أو لا فإن اقترن به الحب فهو الحمد وإلا فهو المدح اهـ .
تبيَّن من هذا أن المدح قد يكون للحي وللميت وللجماد ولا يلزم أن يكون في الصفات الاختيارية، أما الحمد فلا يكون إلا على الصفات الاختيارية ومع محبة، ولهذا المدح أعم والحمد أخص فكل حمدٍ مدحاً وليس كل مدح حمداً.
الصفات الاختيارية يُخرِج الصفات الاضطرارية ـ و الصفات الاضطرارية هي الجبلِّيَّة مثل: الطول والجمال هذه صفات جبلِّيَّة ماهي باختيار الإنسان ـ مثلاً: فلان جميل ،فلان طويل ،هذا يكون مدحاَ .
الحمد يكون في الصفات الاختيارية التي يختارها الشخص، مثل الكرم، والحلم ، والشجاعة .
وأيضاً مع المحبة لو مدح تاجراً فقال فلان التاجر كريم وهوما يحبه لأن متكبر لكنه وصفه بهذا والكرم من الصفات الاختيارية ، هذا يقال له مدح ولا يقال له حمد.
(الذين اصطفى )أي اختار.
(وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له) الشهادة: الإخبار بالشيء مع صحته واعتقاد ثبوته، كما قال الشيخ الهراس ـ رحمه الله تعالى ـ في شرح العقيدة الواسطية .
إذن لو أقرَّ بلسانه بدون قلبه لا يسمى شهادة، لهذا لما ذكر الله عز وجل قصة المنافقين (ِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) [المنافقين:1] كذَّبهم الله على شهادتهم لأنها ما هي شهادة صادقة لابد من الشهادة أن تكون باللسان والقلب.
وذكرُ الشهادة في خطبة الحاجة مستحب لما رواه أبوداوود في سننه(4841)بسند حسن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَشَهُّدٌ، فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ».
فلهذا ينبغي أن نتنبَّه إذا ذكرنا خطبة الحاجة أو طرفاً منها لا نتساهل في كتابة الشهادتين قد يحدث خطأ وقد يكون عن جهل ولكن بالعلم يذهب الخطأ ويزول الجهل .
وذات مرة كتبت رسالة عند الوالد الشيخ مقبل- رحمه الله -وفي أولها طرفٌ من خُطبة الحاجة ولم أكتب الشهادتين فقال لي الوالد ـ رحمه الله تعالى ـ :اكتبي الشهادتين لحديث «كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَشَهُّدٌ، فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ».
فهذا من أدب خطبة الحاجة ذكر الشهادتين .
(شهادة من أخلص له قلبه وانجابت عنه أكدار الشرك وصفا)
الإخلاص أحد شروط لا إله إلا الله { أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} .
وبقية الشروط تُراجع من درسنا الآخر (كتاب التوحيد) .
(انجابت) : أي زالت وانكشفت. (أكدار): الأكدار الأوساخ.
(وأقر له برق العبودية}وهذا غاية الشرف للنفس أن تكون تحت رق العبودية لله عز وجل لا للمخلوقين، ولهذا ربنا وصف نبيه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بالعبودية في أشرف المقامات، ففي مقام الإسراء قال سبحانه وتعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ...)[ الإسراء:1] وفي مقام الإيحاء قال سبحانه وتعالى: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى)[النجم:10] وفي مقام الدعوة قال سبحانه وتعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ...)[الجن:19] وفي مقام التحدي قال سبحانه وتعالى:وإن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ...)[البقرة:23] ذكر هذا شيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه العبودية.
وقد يعبد الإنسان المخلوق وقد يعبد الدنيا كما أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم ( تَعِسَ عَبْدُ اَلدِّينَارِ, وَالدِّرْهَمِ, وَالْقَطِيفَةِ, إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ, وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ ).
قال ابن القيم في تحفة المودود 114 أما قَوْله تعس عبد الدينَّار فَلم يرد بِهِ الِاسْم وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْوَصْف وَالدُّعَاء على من يعبد قلبه الدِّينَار وَالدِّرْهَم فَرضِي بعبوديتها عَن عبودية ربه تَعَالَى اهـ
(واستعاذ به من شر الشيطان والهوى)
الاستعاذة: الالتجاء إلى الله والتحصن به من شر كل ذي شر، كما قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ في تفسير الاستعاذة من تفسيره.
الشيطان :كل عاتٍ متمرد .
وعلى هذا التعريف اللغوي ـ تعريف الشيطان ـ يدخل فيه كل من تمرد من حيوان، ومن إنس، ومن جن قال سبحانه وتعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا...)[الأنعام:112] أثبت شياطين من الجن، وشياطين من الإنس، ويقال للدابة المتمردة شيطانة.
والهوى الهوى: ميل الطبع إلى ما يلائمه، كما قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في روضة المحبين .
وغالباً جاءت الأدلة في ذم الهوى، لأن الهوى يكون متجاوزاً للحد غالباً .
وقد يأتي الهوى في الشيء المستحسن وفي المباح فلا يكون مذموماً، ومن هذا ما في الصحيحين من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ لما نزل قوله تعالى: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ) [الأحزاب:51] قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ :ما أرى ربك إلا يسارع إلا في هواك) .
وفي صحيح مسلم (1213) من حديث جابر بن عبدالله ـ رضي الله عنهما ـ في قصة حجة أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا سَهْلًا، إِذَا هَوِيَتِ الشَّيْءَ تَابَعَهَا عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَهَا مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَأَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ مِنَ التَّنْعِيمِ. ( سهلاً) أي ليناً .
وهكذا الإنسان يهوى الطعام والشراب والنوم وهذا لا شيء فيه.
(وتمسك بحبله المتين)
الحبل ذكره الله عز وجل في قوله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا)[آل عمران:103]ومن المفسرين من يقول :حبل الله القرآن، ومنهم من يقول :حبل الله الإسلام ولا تعارض في ذلك .
وروى مسلم في صحيحه (2408) عن زيد بن أرقم ـ رضي الله عنه وفيه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال :أَلَا وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَحَدُهُمَا كِتَابُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، هُوَ حَبْلُ اللهِ، مَنِ اتَّبَعَهُ كَانَ عَلَى الْهُدَى، وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ عَلَى ضَلَالَةٍ ".
والثاني ذكره مسلم في رواية سابقة «وَأَهْلُ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي» .
والشاهد أن القرآن يصدق عليه حبل الله لأنه يوصل إلى الله، وإلى الجنة ـ جعلنا الله من أهلها ـ
المتين: القوي.
(خير الورى) الورى: الخلق.
وقداستعمل الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ في هذه المقدمة السجع.
والسجع على قسمين فإن كان بحق فهو محمود وهو نوع من البلاغة ، ومنه حديث (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها ) .
وإن كان في باطل فهو مذموم ومنه ما في صحيح البخاري (5758)وصحيح مسلم (1681) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ اقْتَتَلَتَا، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِحَجَرٍ، فَأَصَابَ بَطْنَهَا وَهِيَ حَامِلٌ، فَقَتَلَتْ وَلَدَهَا الَّذِي فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَضَى: أَنَّ دِيَةَ مَا فِي بَطْنِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ، فَقَالَ وَلِيُّ المَرْأَةِ الَّتِي غَرِمَتْ: كَيْفَ أَغْرَمُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ لاَ شَرِبَ وَلاَ أَكَلَ، وَلاَ نَطَقَ وَلاَ اسْتَهَلَّ، فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الكُهَّانِ».
عارض السنة فكان سجعه مذموماً .
**********************************
أما بعد:
فإنه لا يجمل بأولي العلم إهمال معرفة الأيام النبوية والتواريخ الإسلامية، وهي مشتملة على علوم جمة وفوائد مهمة، لا يستغني عالم عنها، ولا يعذر في العُرُوِّ منها.
وقد أحببت أن أعلق تذكرةً في ذلك لتكون مدخلاً إليه وأنموذجاً وعوناً له وعليه، وعلى الله اعتمادي، وإليه تفويضي واستنادي، وهي مشتملة على ذكر نسب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وسيرته وأعلامه، وذكر أيام الإسلام بعده إلى يومنا هذا، مما يمس حاجة ذوي الأرَب إليه، على سبيل الاختصار إن شاء الله تعالى.
************************************
(لا يجمل): أي لا يحسُن.
(ولا يعذرُ في العُروِّ منها)
العرو: الخُلو . أي أن يكون خالياً من علم السيرة لا يعرف عنها شيئاً.
وقد اعتنى العلماء بالكتابة في السيرة النبوية، ومن هذه الكتب السيرة النبوية من البداية والنهاية )وهو كتاب أشمل وأوسع من كتابنا هذا الذي نقرأُ فيه ( الفصول من سيرة الرسول)، وهناك أيضاً كتب أخرى ك سيرة ابن إسحاق وغيرها.
وفي زاد المعاد لابن القيم جملة كبيرة في سيرة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وهنا فائدتان استفدتهما من والدي الشيخ مقبل رحمه الله:
1-سألت والدي الشيخ مقبل رحمه الله عن أحسن كتاب في السيرة فقال :البداية والنهاية ) لابن كثير .
2-سمعت الوالد رحمه الله أكثر مِن مَرَّة يقول: قال الإمام أحمد بن حنبل: ثلاثة كتب ليس لها أصول: المغازي، والملاحم، والتفسير.
قال : يعني الإمام أحمد كتباً مخصوصة كمغازي الواقدي وتفسير الكلبي .
قلت :الأثر أخرجه ابن عدي رحمه الله في «مقدمة الكامل» (1/119) ومن طريق ابن عدي أخرجه الخطيب في «جامعه» (1536) بسند صحيح .
وقال عقبه الخطيب : هذا الكلام محمول على وجه وهو أن المراد به كتب مخصوصة في هذه المعاني الثلاثة غير معتمد عليها ولا موثوق بصحتها لسوء أحوال مصنفيها وعدم عدالة ناقليها وزيادات القصاص فيها. اهـ المراد
وذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة «اللسان» (1/24) هذا الأثر ثم قال: قلت: ينبغي أن يضاف إليها الفضائل فهذه أودية الأحاديث الضعيفة والموضوعة إذا كانت العمدة في المغازي على مثل الواقدي، وفي التفسير على مثل مقاتل والكلبي، وفي الملاحم على الإسرائيليات، وأما الفضائل فلا تحصى كم وضع الرافضة في فضل أهل البيت وعارضهم جهلة أهل السنة بفضائل معاوية بدأوا بفضائل الشيخين وقد أغناهما الله وأعلى مرتبتهما عنه. اهـ
(وذكر أيام الإسلام بعده إلى يومنا هذا)وفي هذا الكتاب ليس هناك ما أشار إليه من ذكر أيام الإسلام بعد الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى يومنا هذا إلى يوم ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ لكن هذا في كتابه الآخر ( البداية والنهاية) .
(ذوي الأرَب إليه)الأرَب: الحاجة.
(على سبيل الاختصار) قال الفَيُّومِي في المصباح المنير : اخْتِصَارُ الْكَلَامِ :الِاقْتِصَارُ عَلَى تَقْلِيلِ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى .
(إن شاء الله تعالى) هذا من حُسْن الأدب قول(إن شاء الله) سواء في الكلام أو الكتابة فإن الله عز وجل يقول: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)[الكهف:23،24] .
وأخرج البخاري (3424) ومسلم (1654)عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: قَالَ: سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً، تَحْمِلُ كُلُّ امْرَأَةٍ فَارِسًا يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ، وَلَمْ تَحْمِلْ شَيْئًا إِلَّا وَاحِدًا، سَاقِطًا أَحَدُ شِقَّيْهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ قَالَهَا لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ " .
علَّق والدي على هذا الحديث وقال: كلمةُ إن شاء الله كلمة مباركة لا تُذكَرُ في شيء إلا تحقَّقَ غالباً .
وفي إحالات الوالد في بحوثه وكتاباته كان يقول:إن شاء الله .
وكان إذا نسي وذكَّره أحد أن يقول إن شاء الله: يقولها ويدعو لمن ذكَّره .
ومرة رأى في يد صبي مُصحفاً فقال :يابُني هذا مُصحفُكَ؟.
فقال الصبي: إن شاءالله .
فتعجَّب الوالد الشيخ مقبل ورأى أن هذا ليس موضع إن شاء الله وقال:كيف إن شاءالله.
وكان ينبه رحمه الله على خطأ بعض الناس في كتابة إن شاءالله يكتبها هكذا (إنشاءالله ).
يقول :إن شاءالله تُكتب إن مفصولة هكذا (إن شاء الله) .لأنهما كلمتان إن و شاء .
***********************************
الجزء الأول
سيرتهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَزَواتُهُ
فصل: ذكرُ نسبِه صلى الله عليه وسلم
هو سيد ولد آدم: أبو القاسم محمد، وأحمد، والماحي الذي يمحى به الكفر، والحاشر الذي يُحشَرُ الناس، والعاقب الذي ليس بعده نبي، والمقفي، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي المَلْحَمة.
***********************************
(هو سيد ولد آدم) أي المقدَّم عليهم في المنزلة، والكرامة، ودخول الجنة وغير ذلك.
والسيد لغة :من ساد قومه .
وقوله(هو سيد ولد آدم) إشارة إلى ما في صحيح مسلم (2278) عن أبي هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه ـ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ».
و النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ سيد ولد آدم يوم القيامة، و قبل يوم القيامة ، في الأولى وفي الأخرى، لكن نُصَّ على يوم القيامة لأنه ما فيه أحد ينازع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في سيادته بخلاف الدنيا هناك الملوك هناك الرؤساء لهذا قال : أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) .
نظيرقوله عز وجل (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)[الفاتحة:4] الله سبحانه وتعالى مالك الأولى والأخرى.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير سورة الفاتحة :وَتَخْصِيصُ الْمُلْكِ بِيَوْمِ الدِّينِ لَا يَنْفِيهِ عَمَّا عَدَاهُ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَذَلِكَ عَامٌّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا أُضِيفَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي أَحَدٌ هُنَالِكَ شَيْئًا وَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [النَّبَأِ: 38] وَقَالَ تَعَالَى:
وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً [طَهَ: 108] وقال تَعَالَى: يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هُودٍ: 105] اهـ
(أبو القاسم) هذه كنية النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أبو القاسم.
(محمد، وأحمد، والماحي الذي يُمحَى به الكفر، والحاشر الذي يحشر الناس، والعاقب الذي ليس بعده نبي).
قال الإمام البخاري بَابُ مَا جَاءَ فِي أَسْمَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ} [الفتح: 29] وَقَوْلِهِ {مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] "
ثم ذكر حديث جبير بن مطعم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (3532) وهو عند الإمام مسلم (2354)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ وَأَنَا المَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِي الكُفْرَ، وَأَنَا الحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا العَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ أَحَدٌ، وَقَدْ سَمَّاهُ اللهُ رَءُوفًا رَحِيمًا ".
وليس عند البخاري (الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ أَحَدٌ، وَقَدْ سَمَّاهُ اللهُ رَءُوفًا رَحِيمًا) .
وفي رواية لمسلم (وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى عَقِبِي) بدل قدمي .
وكأنه في هذه النسخة (الفصول) سقط( عَلَى قَدَمِي ) وقال في البداية والنهاية (2/ 252): وَالْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيْهِ.
(والمقفي، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملحمة).
دليله . أخرج مسلم في صحيحه (2355)عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمِّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً، فَقَالَ: «أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْمُقَفِّي، وَالْحَاشِرُ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ».
زاد الإمام أحمد في مسنده(32/ 291) من حديث أبي موسى (ونَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ ) .
هذه بعض أسماء النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ واقتصر عليها مع أن له أسماءً أُخرى صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وقد بيَّن السبب الإمام النووي في شرحه لهذا وقال :
قَالَ الْعُلَمَاءُ وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى هَذِهِ الْأَسْمَاءِ مع أن لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْمَاءُ غَيْرُهَا كَمَا سَبَقَ لِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ وموجودة للأمم السالفة اهـ
وقد فُسِّرَتْ ثلاثة من أسماء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذا الحديث ( أناالْمَاحِي، الَّذِي يُمْحَى بِيَ الْكُفْرُ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى عَقِبِي، وَأَنَا الْعَاقِبُ وَالْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ).
قال النووي في شرح صحيح مسلم : (وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى عَقِبِي )قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُمَا يُحْشَرُونَ عَلَى أَثَرِي وَزَمَانِ نُبُوَّتِي وَرِسَالَتِي وَلَيْسَ بَعْدِي نبي وقيل يتبعوني .
وقال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد(1/ 92) وَأَمَّا الْحَاشِرُ، فَالْحَشْرُ هُوَ الضَّمُّ وَالْجَمْعُ، فَهُوَ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِهِ، فَكَأَنَّهُ بُعِثَ لِيُحْشَرَ النَّاسُ.
وقال ابن رجب في فتح الباري(4/ 336) فالحاشر: الذي يحشر الناس لبعثهم يوم القيامة على قدمه - يعني: أن بعثهم وحشرهم يكون عقيب رسالته، فهو مبعوث بالرسالة وعقيبه يجمع الناس لحشرهم.
(وَالْمُقَفِّي)هو بمعنى العاقب الذي ليس بعده نبي.
يعني أنه خاتم الأنبياء.
(وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ) قال النووي في شرح صحيح مسلم: وَأَمَّا نَبِيُّ التَّوْبَةِ وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ وَنَبِيُّ الْمَرْحَمَةِ فَمَعْنَاهَا مُتَقَارِبٌ وَمَقْصُودُهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بِالتَّوْبَةِ وَبِالتَّرَاحُمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ نَبِيُّ الْمَلَاحِمِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ بِالْقِتَالِ اهـ
نبي الرحمة كما قال سبحانه وتعالى : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء:107]
و ظاهر الآية أنها عامة (للعالمين ) فهو رحمة للمؤمنين ورحمة للكفار.
وقد سُئِل الوالد الشيخ مقبل رحمه الله هل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بُعِث رحمة للكفار؟.
فأجاب : نعم لقوله تعالى ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).
قال ابنُ القيم رحمه الله في زاد المعاد (1/ 93)وَأَمَّا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، فَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، فَرُحِمَ بِهِ أَهْلُ الْأَرْضِ كُلُّهُمْ مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ، أَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَنَالُوا النَّصِيبَ الْأَوْفَرَ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَأَهْلُ الْكِتَابِ مِنْهُمْ عَاشُوا فِي ظِلِّهِ وَتَحْتَ حَبْلِهِ وَعَهْدِهِ، وَأَمَّا مَنْ قَتَلَهُ مِنْهُمْ هُوَ وَأُمَّتُهُ فَإِنَّهُمْ عَجَّلُوا بِهِ إِلَى النَّارِ وَأَرَاحُوهُ مِنَ الْحَيَاةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي لَا يَزْدَادُ بِهَا إِلَّا شِدَّةَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ اهـ.
قلت: ومن رحمته صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالكفارأنه كان لا يتعجَّل في عقوبتهم
وأنه كان إذا قيل له يدعو عليهم يدعو لهم .
أخرج البخاري (3231 )ومسلم (1795) عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ، قَالَ: " لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ، ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا " .
وأخرج البخاري (2937) ومسلم (2524) عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدِمَ طُفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ وَأَصْحَابُهُ، عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا، فَقِيلَ: هَلَكَتْ دَوْسٌ، قَالَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ» .
وأخرج مسلم في صحيحه (2599) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً».
فهذا من رحمة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالكفار .
فرحمته عامة حتى إنه كان رحيما بالحيوان أخرج أبو داود في سننه (2549)بسند صحيح وأصله في مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الحديث وفيه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ حَائِطًاً لِرَجُلٍ من الْأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ، فَقَالَ: «مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ، لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟» ، فَجَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: «أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا؟، فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ» .
قال صاحب عون المعبود : (حَنَّ) أَيْ رَجَّعَ صَوْتَهُ وَبَكَى .
وقوله (فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ) قال الخطابي في معالم السنن : الذفري من البعير مؤخر رأسه وهو الموضع الذي يعرق من قفاه.
(وتدئبه ) يريد تكده وتتعبه اهـ.
ومِن معرفتنا لمعاني أسمائه نعلم أن أسماءالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعلام وأوصاف .
قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد (1/ 84)
وَكُلُّهَا نُعُوتٌ لَيْسَتْ أَعْلَامًا مَحْضَةً لِمُجَرَّدِ التَّعْرِيفِ، بَلْ أَسْمَاءٌ مُشْتَقَّةٌ مِنْ صِفَاتٍ قَائِمَةٍ بِهِ تُوجِبُ لَهُ الْمَدْحَ وَالْكَمَالَ اهـ.
فكل اسم يتضمن صفة أو أوصافاً هذا معنى أعلام وأوصاف، فالاسم الأول محمد اسم علم يشتمل على صفة يقولون سُمي بذلك لكَثرة خصاله الحميدة .
وَأَمَّا أَحْمَدُ، فَهُوَ اسْمٌ عَلَى زِنَةِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ مُشْتَقٌّ أَيْضًا مِنَ الْحَمْدِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ هَلْ هُوَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَوْ مَفْعُولٍ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ، أَيْ حَمْدُهُ لِلَّهِ أَكْثَرُ مِنْ حَمْدِ غَيْرِهِ لَهُ، فَمَعْنَاهُ: أَحْمَدُ الْحَامِدِينَ لِرَبِّهِ .
ومنهم من قال :هو بمعنى مفعول أي يحمده الخلقُ .
ذكر هذا ابن القيم ثم رجح في زاد المعاد(1/90) أن محمداً وأحمد وَاقِعَانِ عَلَى الْمَفْعُولِ قال :وَهَذَا أَبْلَغُ فِي مَدْحِهِ وَأَكْمَلُ مَعْنًى. وَلَوْ أُرِيدَ مَعْنَى الْفَاعِلِ(أي أن أحمد بمعنى فاعل) لَسُمِّيَ الْحَمَّادَ، أَيْ كَثِيرَ الْحَمْدِ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَكْثَرَ الْخَلْقِ حَمْدًا لِرَبِّهِ، فَلَوْ كَانَ اسْمُهُ أَحْمَدَ بِاعْتِبَارِ حَمْدِهِ لِرَبِّهِ لَكَانَ الْأَوْلَى بِهِ الْحَمَّادَ كَمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ أُمَّتُهُ اهـ المراد.
ويراجع (جلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام )لابن القيم .
و الماحي الذي يمحَى به الكفر قال ابن القيم في زاد المعاد: وَلَمْ يَمْحُ الْكُفْرَ بِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ مَا مُحِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ بُعِثَ وَأَهْلُ الْأَرْضِ كُلُّهُمْ كُفَّارٌ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمْ مَا بَيْنَ عُبَّادِ أَوْثَانٍ وَيَهُودَ مَغْضُوبٍ عَلَيْهِمْ وَنَصَارَى ضَالِّينَ وَصَابِئَةٍ دَهْرِيَّةٍ لَا يَعْرِفُونَ رَبًّا وَلَا مَعَادًا، وَبَيْنَ عُبَّادِ الْكَوَاكِبِ، وَعُبَّادِ النَّارِ، وَفَلَاسِفَةٍ لَا يَعْرِفُونَ شَرَائِعَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا يُقِرُّونَ بِهَا، فَمَحَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِرَسُولِهِ ذَلِكَ حَتَّى ظَهَرَ دِينُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ دِينٍ، وَبَلَغَ دِينُهُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَسَارَتْ دَعْوَتُهُ مَسِيرَ الشَّمْسِ فِي الْأَقْطَارِ.
، و الحاشر الذي يحشر الناس على عقبه ، و العاقب الذي ليس بعده نبي نجد كل اسم وله تفسير، مما يدل على أن أسماء النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ليست أعلاماً محضة.
******************************
ابن عبد الله، وهو أخوالحارث، والزبير، وحمزة، والعباس، ويكنى أبا الفضل، وأبي طالب، واسمه عبد مناف، وأبي لهب، واسمه عبد العزى، وعبد الكعبة، وهو المقوم، وقيل: هما اثنان، وحجل، واسمه المغيرة، والغيداق، وسمي بذلك لكثرة جوده، وأصل اسمه نوفل، وقيل: حجل، وضرار.
*********************************
(ابن عبدالله )هذا والد الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وقد مات على الكفر أخرج مسلم في صحيحه (203)عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: «فِي النَّارِ» ، فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ» . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ هُوَ مِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ لِلتَّسْلِيَةِ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْمُصِيبَةِ .
(وهو أخوالحارث…) هؤلاء أعمام النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وهم عشرة (الحارث، والزبير، وحمزة، والعباس، ويكنى أبا الفضل، وأبوطالب، واسمه عبد مناف، وأبو لهب، واسمه عبد العزى، وعبد الكعبة، وهو المقوم، وقيل: هما اثنان، وحجل، واسمه المغيرة، والغيداق، وسمي بذلك لكثرة جوده –أي كرمه-، وأصل اسمه نوفل، وقيل: حجل، وضرار).
قال ابن القيم في زاد المعاد(1/102) وَأَسَنُّ أَعْمَامِهِ الحارث- أي أكبرهم سناً -، وَأَصْغَرُهُمْ سِنًّا: العباس، وَعَقَبَ مِنْهُ حَتَّى مَلَأَ أَوْلَادُهُ الْأَرْضَ اهـ.
ومات أغلبُهم على الكُفر .
قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في زاد المعاد: وَلَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ إِلَّا حمزة، والعباس اهـ.
وأدرك الاسلامَ منهم أربعةٌ قال الحافظ في فتح الباري (3884 ):مِنْ عَجَائِبِ الِاتِّفَاقِ أَنَّ الَّذِينَ أَدْرَكَهُمُ الْإِسْلَامُ مِنْ أَعْمَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةٌ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمُ اثْنَانِ وَأَسْلَمَ اثْنَانِ وَكَانَ اسْمُ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ يُنَافِي أَسَامِيَ الْمُسْلِمَيْنِ وَهُمَا أَبُو طَالِبٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ مَنَافٍ وَأَبُو لَهَبٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى بِخِلَافِ مَنْ اسْلَمْ وهما حَمْزَة وَالْعَبَّاس .
أما أبو طالب فجاء النص أنه من أهل النار أخرج البخاري(3883)ومسلم (209) عن العباس بن عَبْدِ المُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: «هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ».
وأخرج البخاري(3884)عنابْنِ المُسَيِّبِ وهوسعيد، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ، دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: «أَيْ عَمِّ، قُلْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ» فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَلَمْ يَزَالاَ يُكَلِّمَانِهِ، حَتَّى قَالَ آخِرَ شَيْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ» فَنَزَلَتْ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ} [التوبة: 113] . وَنَزَلَتْ: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56].
أبو لهب معروف نزل فيه (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)[المسد:1] فهو من أهل النار.
كما أخرج البخاري(4770) ومسلم (208)عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ، صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي: «يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ» - لِبُطُونِ قُرَيْشٍ - حَتَّى اجْتَمَعُوا فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ، فَقَالَ: «أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟» قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا، قَالَ: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ اليَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 2] .
وقد ذكر الحافظ ابن كثير أسماءهم فمن كان مشهوراً بكنيته بدأ بكنيته ثم اسمه ومن كان مشهوراً باسمه بدأ باسمه ومن له لقب ذكر لقبه وذلك لتمام الفائدة رحمه الله .
*******************************
وصفية، وعاتكة، وأروى، وأميمة، وبَرَّة، وأم حكيم ـ وهي البيضاء .
*******************************
هؤلاءعمات النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
كم عدد عمات النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ؟ ست وأعمامه عشرة صار المجموع ستة عشر كلهم أولاد عبد المطلب .
وصفية هي أم الزبير بن العوام ـ رضي الله عنهما .
قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في زاد المعاد(1/102) أَسْلَمَ مِنْهُنَّ صفية، وَاخْتُلِفَ فِي إِسْلَامِ عاتكة وأروى، وَصَحَّحَ بَعْضُهُمْ إِسْلَامَ أروى.
*******************************
هؤلاء كلهم أولاد عبد المطلب، واسمه شيبة الحمد على الصحيح، ابن هاشم واسمه عمرو، وهو أخو المطلب ـ وإليهما نسب ذوي القربى ـ وعبد شمس، ونوفل، أربعتهم أبناء عبد مناف أخي عبد العزى، وعبد الدار، وعبد، أبناء قصي، واسمه زيد، وهو أخو زهرة، ابنا كلاب أخي تيم، ويقظة أبي مخزوم، ثلاثتهم أبناء مرة أخي عدي، وهصيص، وهم أبناء كعب أخي عامر، وسامة، وخزيمة، وسعد، والحارث، وعوف، سبعتهم أبناء لؤي أخي تيم الأدرم.
ابني غالب أخي الحارث، ومحارب، بني فهر أخي الحارث ابني مالك أخي الصلت، ويخلد، بني النضر أخي مالك، وملكان، وعبد مناة، وغيرهم، بني كنانة أخي أسد، وأسدة، الهون، بني خزيمة أخي هذيل، ابن مدركة، واسمه عمرو، وهوأخو طابخة، واسمه عامر، وقمعة، وثلاثتهم أبناء إلياس، أخي الناس، وهو عيلان والد قيس كلها، كلاهما، ولد مضر أخي ربيعة وهما الصريحان من ولد إسماعيل، وأخي أنمار، وإياد، وقد تيامنا، أربعتهم أولاد نزار أخي قضاعة في قول أكثر أهل النسب، كلاهما ابنا معد بن عدنان.
****************************
عبد المطلب الجد الأول للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأجداده إلى عدنان عِشرون .
وقوله (عبد المطلب) التعبيد لغير الله لا يجوز.
والتسمية بالتعبيد لغير الله عز وجل من عدم الإحسان إلى الأولاد، ومن المستحب اختيار الاسم الحسن للولد ومن حق الولد على أبويه .
وقد قال ابن حزم ـ رحمه الله تعالى ـ في "مراتب الإجماع في العبادات والمعاملات والاعتقادات " 154: وَاتَّفَقُوا على تَحْرِيم كل اسْم معبَّد لغير الله عز وَجل كَعبد الْعُزَّى وَعبد هُبل وَعبد عَمْرو وَعبد الْكَعْبَة وَمَا اشبه ذَلِك حاشا عبد الْمطلب اهـ
استثنى عبدالمطلب وهذا رأى ابن حزم ـ رحمه الله تعالى ـ وليس بصحيح وقد خالفه العلماء في هذا.
ويراجع تحفة المودود لابن القيم .
(عبدالمطلب )سبب تسميته بهذا
قال الحافظ في فتح الباري : وَسُمِّيَ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ وَاشْتُهِرَ بِهَا لِأَنَّ أَبَاهُ لَمَّا مَاتَ بِغَزَّةَ كَانَ خَرَجَ إِلَيْهَا تَاجِرًا فَتَرَكَ أُمَّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِالْمَدِينَةِ فَأَقَامَتْ عِنْدَ أَهْلِهَا مِنَ الْخَزْرَجِ فَكَبُرَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَجَاءَ عَمُّهُ الْمُطَّلِبُ فَأَخَذَهُ وَدَخَلَ بِهِ مَكَّةَ فَرَآهُ النَّاسُ مُرْدِفَهُ فَقَالُوا هَذَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَغَلَبَتْ عَلَيْهِ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَة ذكرهَا بن إِسْحَاق وَغَيره اهـ.
قالوا له عبدالمطلب على أنه غلامه ثم غلب عليه واشتهر به .
(واسمه شيبة الحمد على الصحيح) يقال له (شيبة) لأنه عنده خصال من الشعر بيض ولُقِّب الحمد لأنه كان كريماً.
(على الصحيح)وهذا قول الجمهور . قال الحافظ في فتح الباري :اسْمُهُ شَيْبَةُ الْحَمْدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَزعم ابن قُتَيْبَةَ أَنَّ اسْمَهُ عَامِرٌاهـ
الجد الثاني من أجداد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هاشم يقول ابن كثير واسمه عمرو .
قال الحافظ في فتح الباري : وَقِيلَ لَهُ هَاشِمٌ لِأَنَّهُ أول من هشم الثَّرِيد بِمَكَّة لِأَهْلِ الْمَوْسِمِ وَلِقَوْمِهِ أَوَّلًا فِي سَنَةِ الْمَجَاعَةِ وَفِيهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ
عَمْرُو الْعُلَا هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ وَرِجَال مَكَّة مسنتون عجاف
(وهو أخو المطلب ـ وإليهما نسب ذوي القربى )
أخو المطلب ـ سبحان الله ـ يذكر الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ إخوة كل جد للفائدة.
واختار ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ أن ذوي القربى هم بنو المطلب وبنو هاشم، وهو قول الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ ودليل من قال بنو المطلب من أهل البيت ما أخرج البخاري (3140 )عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْتَ بَنِي المُطَّلِبِ وَتَرَكْتَنَا، وَنَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا بَنُو المُطَّلِبِ، وَبَنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ».
وجمهور العلماء يقولون : ليس بنو المطلب من أهل البيت.
وقوله وَنَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ لأنهم كلهم أولاد عبد مناف .وعثمان بن عفان رضي الله عنه من بني عبد شمس وجبير رضي الله عنه من بني نوفل .
(أربعتهم أبناء عبد مناف) أولاد عبد مناف أربعة هاشم، والمطلب، وعبدشمس، ونوفل.
(ابنا كلاب أخي تيم، ويقظة أبي مخزوم، ثلاثتهم أبناء مرة)
ثلاثتهم: أي كلاب ، وتيم، ويقظة.
(أبناء لؤي أخي تيم الأدرم ابني غالب)
ابني غالب (ابني): للتثنية، لؤي وتيم الأدرم.
(ابني مالك أخي الصلت، ويخلد)
وفي بعض النسخ مَخلد.
(بني النضر أخي مالك، وملكان، وعبد مناة، وغيرهم، بني كنانة)
أولاد كنانة أربعة النضر، ومالك ، وملكان، و عبد مناة ، كلهم أولاد كنانة.
(كلاهما، ولد مضر أخي ربيعة وهما الصريحان من ولد إسماعيل)
(وهما ) أي مضر، وربيعة.
(الصريحان من ولد إسماعيل)
أي بلا نزاع قال ابن عبدالبرفي الإنباه على قبائل الرواة 38 وَلَا خلاف بَين الْعلمَاء أَن الصَّرِيح من ولد إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام مُضر وَرَبِيعَة ابْنا نزار بن معد بن عدنان .
(وأخي أنمار، وإياد، وقد تيامنا)
أي قصدا اليمن ، فإن إيادا وأنمارا لَحقا بِأَرْض الْيمن كما في الإنباه على قبائل الرواة .
(أربعتهم أولاد نزار)مضر، وربيعة، وأنمار، وإياد.
(أخي قضاعة في قول أكثر أهل النسب)
ابن كثير ينص أن قضاعة هوأخو نزار في قول أكثر أهل النسب .
وقال ابن عبدالبر في الإنباه : فَأَما قضاعة فالاختلاف فِيهَا كثير وَالْأَكْثَر على أَنَّهَا من معدّ بن عدنان وَأَن قُضاعة بكرْ ولدَ مَعدّا وَبِه كَانَ يكنى .
وعلى هذا يكون قضاعة عدنانية .
(كلاهما ابنا معد بن عدنان) عدنان الجد العشرون للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ .
أجداد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عِشرون أدناهم عبدالمطلب وأعلاهم عدنان .
وما فوق عدنان لا يصح فيه شيء، أما إلى عدنان فهذا نسب صحيح بإجماع العلماء لانزاع فيه بين العلماء .
انتهينا من نسب النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ ذكر جملة من الفوائد والمسائل في أثناء سرد نسب النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ومن هؤلاء أعمام وعمات النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ، إخوة كل جد من أجداد النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ، ذكرالألقاب أيضاً إلى غير ذلك.
واستفدنا أيضاً أن مضر وربيعة بلا خلاف أنهما من نسل إسماعيل عليه السلام .
وبما أن الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ ذكر فوائد وجُملاً من المسائل في أثناء سرد النسب النبوي نذكر نسب النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ سرداً من أجل أن يسهل حفظه .
قال الإمام البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ في صحيحه في ترجمة حديث(3851) "(بَاب مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعبِ بْنِ لؤَيِّ بْنِ غالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ" .
*********************************
فجميع قبائل العرب ينتسبون إلى من ذكرت من أبناء عدنان.
وقد بين ذلك الحافظ أبو عمر النمري في كتاب الإنباه بمعرفة قبائل الرواة بياناً شافياً رحمه الله تعالى .
*********************************
(من أبناء عدنان )أي نسل عدنان .
(الحافظ أبو عمر النمري) هو الشهير بابن عبدالبر يوسف بن عبدالله بن عبدالبر.
وقوله(فجميع قبائل العرب) أي العدنانية ومع قول ابن كثير ـ رحمه الله تعالى فيما سيأتي (ص 10) : فأما قبائل اليمن كحمير وحضرموت وسبأ، وغير ذلك، فأولئك من قحطان ليسوا من عدنان) يفيد أن ابن كثير يرى أن العرب على قسمين عدنانية وقحطانية، وهذا عليه جمهور أهل الأنساب على هذا يكون عدنان من نسل إسماعيل ، أما قحطان فلا .
ومن أهل العلم من يقول : العرب كلهم العدنانية والقحطانية من نسل إسماعيل ، هذا قول لبعض العلماء وأما الجمهورفهم على التقسيم السابق .
قال ابن عبدالبر في الإنباه على قبائل الرواة 28: يشْهد لقَوْل من جعل قحطان وَسَائِر الْعَرَب من ولد إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام قولُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقوم من أسلم وَالْأَنْصَار ارموا بني إِسْمَاعِيل فَإِن أَبَاكُم كَانَ رامياً .
وكيف يكون إسماعيل نسله من العرب وإسحاق نسله من العجم مع أنهما أخوان ؟.
إسماعيل ليس بعربي أصالة ، ولكنه لمَّا تزوج بامرأة من جرهم وتلقَّى منهم اللغة العربية ،وهكذا أولاده صار يتكلم باللغة العربية، فمن كان من نسله كان من العرب .
**************************
وقريش على قول أكثر أهل النسب هم الذين ينتسبون إلى فهر بن مالك بن النضر بن كنانة وأنشدوا في ذلك:
قصي لعمري كان يدعى مجمعاً ... به جمع الله القبائل من فهر.
**************************
عندنا الآن مسألة قريش تنتسب إلى من ، من أبو قريش؟ .
قريش تنتسب إلى فهر بن مالك على قول أكثر أهل النسب.
قُصي يقال له مجمع لأنه جمع أهل مكة بعد تفرقهم، (به جمع الله القبائل من فهر)الذي هو أبو قريش عند جمهور أهل النسب .
على هذا من كان من ولد فِهْر فهو قُرشي ومن ليس من ولد فِهر فلا يكون قرشياً.
وكل هاشمي قرشي وليس كل قرشي هاشمياً.
****************************
وقيل: بل جماع قريش هو النضر بن كنانة، وعليه أكثر العلماء والمحققين، واستدل على ذلك بالحديث الذي ذكره أبو عمر بن عبد البر ـ رحمه الله تعالى ـ «عن الأشعث بن قيس رضي الله عنه قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد كندة فقلت: ألستم منا يا رسول الله؟ قال: لا، نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا ولا ننتفى من أبينا » .
وقد رواه ابن ماجه في سننه بإسناد حسن، وفيه: فكان الأشعث يقول: لا أوتَى برجل نفى رجلاً من قريش من النضر بن كنانة إلا جلدته الحد.
***************************
(بل جماع قريش) أي يجتمع نسب قريش في النضر ، قريش هو النضر بن كنانة .
(وعليه أكثر العلماء والمحققين) هذا قول أكثر العلماء .
والقول الأول قول أكثر أهل النسب -أهل الفن-أن قريشاً تنتسب إلى فهر بن مالك.
(لا نقفوا أمنا): قال ابن الأثير في النهاية : أَيْ لَا نَتَّهِمها وَلَا نَقْذِفُها. يُقَالُ: قَفَا فُلانٌ فُلاناً إِذَا قَذَفَه بِمَا لَيْسَ فِيهِ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: لَا نَتْرك النَّسَب إِلَى الْآبَاءِ ونَنْتَسِب إِلَى الأمَّهات.
(فكان الأشعث يقول: لا أوتى برجل نفى رجلاً من قريش من النضر بن كنانة إلا جلدته الحد)
لأن الأشعث وهو ابن قيس ـ رضي الله عنه ـ على ما دل عليه الحديث .
والحديث في السلسلة الصحيحة (2375) للشيخ الألباني رحمه الله تعالى .
الحديث فيه أن قريشاً من ولد النضر بن كنانة .
قال ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ في البداية والنهاية عن هذا الحديث (2/201):" هذا الحديث هو فيصل قوي في هذه المسألة فلا التفات إلى قول من خالفه ".
************************
وقيل: إن جماع قريش إلياس بن مضر بن نزار.
وقيل: بل جماعهم أبوه مضر.
وهما قولان لبعض أصحاب الشافعي، حكاهما أبو القاسم عبد الكريم الرافعي في شرحه، وهما وجهان غريبان جداً.
فأما قبائل اليمن كحمير وحضرموت وسبأ، وغير ذلك، فأولئك من قحطان ليسوا من عدنان.
وقضاعة فيها ثلاثة أقوال: قيل: إنها من العدنانية، وقيل: قحطانية، وقيل: بطن ثالث لا من هؤلاء ولا من هؤلاء، وهو غريب، حكاه أبو عمر وغيره.
******************************
هذه أربعة أقوال ذكرها ابن كثير في بيان من تنتسب إليه قريش .
وقوله(فأما قبائل اليمن كحمير وحضرموت وسبأ)
قال ابن عبدالبر في الإنباه على قبائل الرواة :إذا قلت سبأ لم تحتج إلى ذكر حمير بن سبأ) .
وهذه فائدة وابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ في تفسير سورة النمل (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)[النمل:22] يقول: وَسَبَأٌ: هُمْ: حِمْير).
وقوله (وقضاعة فيها ثلاثة أقوال)
من أين قضاعة؟
قال ـ رحمه الله تعالى ـ :" قيل : إنها من العدنانية"
الذين هم من نسل إسماعيل عليه السلام. وتقدم نص الحافظ ابن كثير (…نزار أخي قضاعة في قول أكثر أهل النسب).
فهذا قول أكثر أهل النسب أن قُضاعة من نسل عدنان .
فقهنا ربي جميعا في دينه ونسأله أن ينفعنا بما يعلمنا .والله المستعان .
الكاتب أم عبدالله الوادعية
سمير عطلاوي
2016-01-03, 17:46
كلام طيب،فجزاك الله خيرا
أم سمية الأثرية
2016-01-03, 18:04
واياكم جزى الله خيرا و زيادة
Wissem2016
2016-01-09, 17:02
بارك الله فيك
أم سمية الأثرية
2016-01-09, 19:02
وفيكم بارك الله
sidali75
2016-01-09, 19:53
بارك الله فيكِ وسأتابع بإذن الله معكم هذه الدروس المُحمدية صلى الله عليه وسلم
وإن تدارُسها لمن فضل الله علينا وإنها سيرة أبداً لن تمِل من سماعها وفقكم الله
أم سمية الأثرية
2016-01-09, 21:46
لدرس الثاني من/ الفصول من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم السبت 24 من شهر الله المحرم 1437
بسم الله الرحمن الرحيم
مذاكرة :
قوة الحفظ في الصغر
الحفظ في الصغر كالنقش على الحجر .
ما الحلم إلا بالتحلم في الكِبر ... وما العلم إلا بالتعلم في الصغر
لو ثُقِب القلب المعلَّم في الصبا ... لألفيت فيه العلم كالنقش في الحجر .
يقول علقمة بن قيس ـ رحمه الله تعالى ـ : ما سمعته وأنا شاب فكأني أنظر إليه في قرطاس أو ورقة)أخرجه أبوخيثمة زهير بن حرب رحمه الله في كتاب «العلم» (156) بسند صحيح.
محفوظاته التي حفظها وهو شاب كأنها أمامه في ورقة.
مثل بعض حفَّاظ القرآن الكريم المتقنين يقرأ السورة وكأن المصحف أمامه الورقة تلو الأخرى .
سن الشباب الذي ضيعه وفرط فيه كثير من الشباب إلا من رحم الله عز وجل .
وسن الشباب سن عظيم لهذا كان سن أهل الجنة ( إن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً) كما في الصحيح .
فننصح الصغيرات والشابات بالحفظ ، فإن الحفظ سلاح، وكما قيل ( متونها حصونها) حفظ المتون حصن بإذن الله ، فهو يعد سلاحاً في مجاهدة الشيطان ، سلاحاً في دفع الشبهات ، سلاحاً في دفع الشهوات . و النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يقول: حجبت الجنة بالمكاره وحجبت النار بالشهوات) .
من ضيع شبابه فهذه خسارة في حقه .
سن الشباب عشرون عاماً من بداية السادسة عشرة إلى خمس وثلاثين، أسرع ما يمرُّ من الأعمار سن الشباب ، ولا يعرف قدر الشباب إلا من وفقه الله عز وجل.
لهذا كان الشاب الذي نشأ في عبادة الله يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله كما في الصحيحين عن أبي هريرة .
وفيه تحفيز للنفوس وبعث الهمم إلى الخير ودار القرار{ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } .
فلا يضيع هذا السن النفيس.
أخرج الرامهرمزي في المحدث الفاصل أن عروة بن الزبيرقال :أَيْ بُنَيَّ كُنَّا صِغَارَ قَوْمٍ فَأَصْبَحْنَا كِبَارَهُمْ، وَإِنَّكُمُ الْيَوْمَ صَغَائِرُ قَوْمٍ وَيُوشِكُ أَنْ تَكُونُوا كِبَارَهُمْ، فَمَا خَيْرٌ فِي كَبِيرٍ، وَلَا عِلْمَ لَهُ، فَعَلَيْكُمْ بِالسُّنَّةِ .
وقال الخطيب في "الفقيه والتفقه" (2/818) التفقه في زمن الشبيبة وإقبال العمر والتمكن منه بقلة الأشغال وكمال الذهن وراحة القريحة (أي راحة البال) يرسخ في القلب ويثبت ويتمكن ويستحكم، فيحصل الانتفاع به والبركة إذا صحبه من الله حسن التوفيق.
وإذا أهمل إلى حالة الكِبَر المغيرة للأخلاق الناقصة للآلات كان ما قال الشاعر:
إذا أنت أعياك التعلم ناشئا ... فمطلبه شيخًا عليك شديد. اهـ
*التركيز والتنبُّه
يقول تعالى {إِنَّ فِيَ ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37].
فمن فرَّغ قلبه للعلم يستفيد.
ومن كان مهملا غير مبالٍ فإنه يسأم ويأتيه النعاس ولا يدري ما يُقال ويُحرَم الاستفادة .
يقول الوالد الشيخ مقبل ـ رحمه الله تعالى ـ (بعض الإخوان يسافر وهو عندنا في الجَلسة ) .
وكان يقول للذي ما ينتبه :أسافرت سفراً بعيداً أو قصيراً).
فالشيطان حريص على أن يصرفنا عن العلم بالوسوسة وشرود الذهن.
وليس هذا من آداب من يطلب العلم أخرج ابن أبي حاتم رحمه الله في «الجرح والتعديل» (2/34) بسند صحيح عن يحيى بن سعيد وهو القطان: ينبغي لكتبة الحديث أن يكون ثبت الأخذ، ويفهم ما يقال له، ويبصر الرجل -يعني: المحدث- ثم يتعاهد ذلك منه -يعني: نطقه- يقول: حدثنا، أو سمعت، أو يرسله.
فقد قال هشام بن عروة: إذا حدثك رجل بحديث فقل: عمن هذا؟ أو فممن سمعته؟ فإن الرجل يحدث عن آخر دونه -يعني: دونه- في الإتقان، والصدق.
قال يحيى: فعجبت من فطنته.
يقول (ويفهم ما يقال له) وهذا لا يكون إلا بالتركيز والتيقظ .نسأل الله التوفيق .
***************************
قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى:
فصل ذكر نسبه صلى الله عليه و سلم بعد عدنان
و هذا النسب الذي سقناه إلى عدنان لا مرية فيه و لانزاع ، و هو ثابت بالتواتر و الإجماع ، و إنما الشأن فيما بعد ذلك ، لكن لا خلاف بين أهل النسب و غيرهم من علماء أهل الكتاب أن عدنان من ولد إسماعيل نبي الله ، وهو الذبيح على الصحيح من قول الصحابة و الأئمة ، وإسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن عليه أفضل الصلاة و السلام .
***************************
(وهذا النسب الذي سقناه إلى عدنان) وهو ما تقدم من محمد بن عبدالله إلى الجد العشرين عدنان هذا لا خلاف فيه بين العلماء، لكن ما بعد عدنان حصل فيه خلاف.
(لا مرية فيه ولانزاع) لا شك فيه ولا خلاف.
(و هو ثابت بالتواتر) التواتر لغة: التتابع.
والتواتر عند أهل العلم : هو نقل جماعةٍ عن جماعة يستحيل في العادةِ تواطؤهم على الكذب ، ويستندون إلى شيء محسوس .
الحواس خمس : السمع، والبصر، والشم ، والذوق، واللمس.
والمقصود بـ (ويستندون إلى شيء محسوس): أي إلى السمع ، والبصر، ما يكون مثل ما عند النصارى تناقل بعضهم عن بعض أن الله ثالث ثلاثة تعالى الله عز وجل عن ذلك علواً كبيراً، وهذا التناقل مبني على التفكير، وحديث النفس فلم يستندوا فيه إلى شيء محسوس ، فلا يقال إنه حق ، وقد كذَّبهم الله عز وجل وكفَّرهم فقال سبحانه وتعالى :{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ... }[المائدة:73] .
(و إنما الشأن فيما بعد ذلك )أي ما فوق عدنان .
(لكن لا خلاف بين أهل النسب وغيرهم من علماء أهل الكتاب أن عدنان من ولد إسماعيل نبي الله) .
هذه فائدة أن عدنان من ولد نبي الله إسماعيل ـ عليه السلام ـ بلا خلاف بين أهل النسب.
فهم وإن اختلفوا فيما فوق عدنان إلا أنهم متفقون في عدنان أنه من سُلالة إسماعيل نبي الله .
وتقدم أن النسب النبوي إلى عدنان لا مرية فيه و لانزاع ، وهو ثابت بالتواتر و الإجماع .
فيكون أيضاً بالإجماع أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من سُلالة إسماعيل بن إبراهيم خليلِ الله لأن عدنان من ولد إسماعيل .
(وهو الذبيح على الصحيح من قول الصحابة والأئمة) ترابط كبير ـ ياأخوات ـ بين السيرة وبين القرآن الكريم فالإلمام بالسيرة يعين على فهم القرآن الكريم.
فقوله(وهو الذبيح) يشير إلى قوله تعالى:{ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107].
(على الصحيح) أنه نبي الله إسماعيل ـ عليه السلام ـ ، وهناك قول آخر أنه إسحاق ـ عليه السلام ـ، والقول الصحيح أنه إسماعيل ـ عليه السلام ـ
سُئل شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى(4/ 331) عَنْ " الذَّبِيحِ " مِنْ وَلَدِ خَلِيلِ اللَّهِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ هُوَ: إسْمَاعِيلُ أَوْ إسْحَاقُ؟.
وكان مما أفاد أن النِّزَاعَ فِيهَا مَشْهُورٌ لَكِنَّ الَّذِي يَجِبُ الْقَطْعُ بِهِ أَنَّهُ إسْمَاعِيلُ وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالدَّلَائِلُ الْمَشْهُورَةُ وَهُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ الَّتِي بِأَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ.
وعزا هذا القول شيخ الإسلام إلى أكثر العلماءفي كتابه الرد على المنطقيين 517.
وجزم رحمه الله في مجموع الفتاوى أن القول بأنه إسحاق أَصْلهُ مِنْ تَحْرِيفِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَتَلَقَّى ذَلِكَ عَنْهُمْ مَنْ تَلَقَّاهُ وَشَاعَ عِنْدَ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ إسْحَاقُ.
ونقتصر على بعض الأدلة في إثبات كون إسماعيل الذبيح
1- الآيات في سورة الصافات{ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ }
وبيَّن شيخ الإسلام- رحمه الله- الشاهد من الآيات أَنَّهُ بَشَّرَهُ بِالذَّبِيحِ وَذَكَرَ قِصَّتَهُ أَوَّلًا فَلَمَّا اسْتَوْفَى ذَلِكَ قَالَ: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إسْحَاقَ} فَبَيَّنَ أَنَّهُمَا بِشَارَتَانِ: بِشَارَةٌ بِالذَّبِيحِ وَبِشَارَةٌ ثَانِيَةٌ بِإِسْحَاقِ وَهَذَا بَيِّنٌ.
قال : ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ الْبِشَارَتَيْنِ جَمِيعًا: الْبِشَارَةُ بِالذَّبِيحِ وَالْبِشَارَةُ بِإِسْحَاقِ بَعْده كَانَ هَذَا مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ إسْحَاقَ لَيْسَ هُوَ الذَّبِيحَ.
2-أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ قِصَّةَ الذَّبِيحِ فِي الْقُرْآنِ إلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَفِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ يَذْكُرُ الْبِشَارَةَ بِإِسْحَاقِ خَاصَّةً كَمَا فِي سُورَةِ هُودٍ: مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إسْحَاقَ يَعْقُوبَ} فَلَوْ كَانَ الذَّبِيحُ إسْحَاقَ لَكَانَ خَلْفًا لِلْوَعْدِ فِي يَعْقُوبَ.
3- إسماعيل وأمه هاجر هُمَا اللَّذَانِ كَانَا بِمَكَّةَ دُونَ إِسْحَاقَ وَأُمِّهِ .
قال شيخ الإسلام :وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّ إسْحَاقَ ذَهَبَ إلَى مَكَّةَ لَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا غَيْرِهِمْ .
وهذا ما اختاره ابن القيم يراجع زاد المعاد (1/ 71) .
(وإسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن عليه أفضل الصلاة و السلام) إسماعيل بن إبراهيم ـ عليهما السلام ـ وإسماعيل بن إبراهيم بن آزر كما قال تعالى :{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً }[الأنعام:74] الآية نص في المسألة .
ومن قال : آزر عم إبراهيم ـ عليه السلام ـ أو رجلٌ آخرفقد خالف ظاهر الدليل .
***************************
و قد اختُلف في كم أب بينهما على أقوال :فأكثر ما قيل أربعون أباً ، و أقل ما قيل سبعة آباء ، و قيل : تسعة ، و قيل : خمسة عشر ، ثم اختلف في أسمائهم .
و قد كره بعض السلف و الأئمة الانتساب إلى ما بعد عدنان ، ويحكى عن مالك بن أنس الأصبحي الإمام رحمه الله أنه كره ذلك .
***************************
(و قد اختلف في كم أب بينهما على أقوال) في كم أب بين عدنان وإسماعيل ـ عليه السلام ـ على أقوال.
(فأكثر ما قيل أربعون أباً ، و أقل ما قيل سبعة آباء ، و قيل : تسعة ، و قيل : خمسة عشر ، ثم اختلف في أسمائهم) .
يعني الخلاف من وجهين من حيث العدد، ومن حيث الأسماء.
(و قد كره بعض السلف و الأئمة الانتساب إلى ما بعد عدنان) نعم، لا ينبغي الانتساب إلى ما فوق عدنان؛ لأن هذا مختلف فيه.
(ويُحكى عن مالك بن أنس الأصبحي الإمام رحمه الله أنه كره ذلك) مالك بن أنس أبوعبدالله (الأصبحي) من أصبح ، وأصبح من حمير، وحمير من اليمن ،فهذا الإمام هو من أهل اليمن ولكنه كان في مدينة رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ، ويلقب بـ (إمام دار الهجرة).
***************************
قال الإمام أبو عمر ابن عبد البر في كتاب الإنباه و الذي عليه أئمة هذا الشأن في نسب عدنان قالوا : عدنان بن أدد ، بن مقوم بن ناحور ، بن تيرح ، بن يعرب ، بن يشجب ، بن نابت ، بن إسماعيل ، بن إبراهيم خليل الرحمن ، بن تارح ـ و هو آزر ـ بن ناحور ، بن شاروخ ، بن راعو ، بن فالخ ، بن عيبر ، ابن شالخ ، بن أرفخشذ ، بن سام ، بن نوح بن لامك ، بن متوشلخ ، بن أخنوخ ـ و هو إدريس النبي عليه السلام فيما يزعمون ، و الله أعلم ، و هو أول بني آدم أعطي النبوة بعد آدم و شيث ، و أول من خط بالقلم ، بن يرد ، بن مهليل ، بن قينن ، بن يانش ، بن شيث ، بن آدم صلى الله عليه و سلم .
هكذا ذكره محمد بن إسحق بن يسار المدني صاحب السيرة النبوية ، و غيره من علماء النسب .
و قد نظم ذاك أبو العباس عبد الله بن محمد الناشي المعتزلي في قصيدة يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه
و سلم .
وقد أوردها الإمام أبو عمر ، و شيخنا في تهذيبه ، و هي قصيدة بليغة أولها :
مدحت رسول الله أبغي بمدحه وفور حظوظي من كريم المآرب
مدحت امرءاً فاق المديح موحداً بأوصافه عن مبعد و مقارب
***************************
(قال الإمام أبو عمر بن عبد البر) يوسف بن عبدالله و كتابه( الإنباه على قبائل الرواة).
(أُدَد بن مقوم بن ناحور ، بن تيرح ، بن يعرب ، بن يشجب ، بن نابت ، بن إسماعيل ، بن إبراهيم خليل الرحمن ...بن نوح بن لامك ، بن متوشلخ ، بن أخنوخ ...) أسماء أعجمية.
ويذكر النحويون كابن هشام رحمه الله في شرح قطر الندى 313: أن جَمِيعَ أَسمَاء الْأَنْبِيَاء أَعْجَمِيَّة إِلَّا أَرْبَعَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصَالح وَشُعَيْب وَهود صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ .
(وهو أول بني آدم) أي إدريس ـ عليه السلام ـ.
(أعطي النبوة بعد آدم و شيث ... بن شيث ، بن آدم) ظاهر العبارة أن شيث ولد آدم لصلبه وأنه هو وإدريس كانا ممن أُعطِي النبوة قبل نبي الله نوح ـ عليه السلام ـ وقد نبَّه الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله تعالى ـ على هذه المسألة في شرح الأربعين النووية 45وقال: واعلم بأنك ستجد في بعض كتب التاريخ أن إدريس عليه الصلاة والسلام كان قبل نوح عليه السلام، وأن هناك بعضاً آخرين مثل شيث، كل هذا كذبٌ وليس بصحيح.
فإدريس بعد نوح قطعاً، وقد قال بعض العلماء: إن إدريس من الرسل في بني إسرائيل، لأنه دائماً يذكر في سياق قصصهم، لكن نعلم علم اليقين أنه ليس قبل نوح، والدليل قول الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنبيينَ مِنْ بَعْدِهِ) (النساء: الآية163) وقال الله عزّ وجل: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ) (الحديد: الآية26) فأرسلهم الله وهم القمة، وجعل في ذريتهما النبوة والكتاب، فمن زعم أن إدريس قبل نوح فقد كذب القرآن وعليه أن يتوب إلى الله من هذا الاعتقاد اهـ.
أما أبونا آدم ـ عليه السلام ـ فقد جاء فيه النص أنه نبي فقد سأل أبو ذر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقال :أو نبي كان آدم؟ قال: نعم، نبي مُكلَّم .
قال القاري في مرقاة المفاتيح : أَيْ: لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا فَقَطْ، بَلْ كَانَ نَبِيًّا مُكَلَّمًا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الصُّحُفُ اهـ
(و أول من خط بالقلم) أول أي إدريس ـ عليه السلام ـ، وهذا جاء في حديث ضعيف لا يثبت أن أول من خطَّ بالقلم إدريس ـ عليه السلام ـ رواه الحكيم الترمذي في كتابه نوادر الأُصول ، وضعَّفه الشيخ الألباني ـ رحمه الله تعالى ـ في ضعيف الجامع (2127).
والحكيم الترمذي استفدنا من الوالد الشيخ مقبل ـ رحمه الله تعالى ـ أنه صوفي لا يعتمد عليه.
(هكذا ذكره محمد بن إسحق بن يسار المدني صاحب السيرة النبوية ، و غيره من علماء النسب) ذكر هذا النسب ولكن ما فوق عدنان لا يحتاج له ؛ لأنه لا يثبت.
(و قد نظم ذاك أبو العباس عبد الله بن محمد) أي النسب النبوي.
(الناشي المعتزلي) المعتزلي نسبة إلى المعتزلة ، والمعتزلة من فرق الضلال والأهواء.
(و قد أوردها الإمام أبو عمر) أبو عمر يوسف بن عبدالله بن عبد البر ـ رحمه الله تعالى ـ أوردها في كتابه الإنباه على قبائل الرواة 21.
(و شيخنا في تهذيبه) أي الإمام المٍزِّي أبو الحجاج .
(في تهذيبه) تهذيب الكمال. فالإمام المٍزِّي ـ رحمه الله تعالى ـ من مشايخ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ ، وكان ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ متزوجاً بابنة المِزِّي ـ رحمه الله تعالى ـ واسمها زينب.
***************************
فجميع قبائل العرب مجتمعون معه في عدنان ، ولهذا قال الله تعالى : " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : لم يكن بطن من قريش إلا و لرسول الله صلى الله عليه و سلم فيهم قرابة .
وهو صفوة الله منهم كما رواه مسلم في صحيحه " عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله اختار كنانة من ولد إسماعيل ثم اختار من كنانة قريشاً ، ثم اختار من قريش بني هاشم ، ثم اختارني من بني هاشم)
***************************
(فجميع قبائل العرب مجتمعون معه في عدنان) أي تجتمع مع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في عدنان .
وقول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ (لم يكن بطن من قريش إلا و لرسول الله صلى الله عليه و سلم فيهم قرابة ) .
البطن: ما دون القبيلة وما فوق الفخذ كما في تحفة الأحوذي.
وأثر ابن عباس في صحيح البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قُرْبَى آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَجِلْتَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا كَانَ لَهُ فِيهِمْ قَرَابَةٌ فَقَالَ إِلَّا أَنْ تَصِلُوا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنْ الْقَرَابَةِ).
سعيد بن جُبير ـ رحمه الله تعالى ـ وجماعة من المفسرين يفسرون الآية بأن المراد مودة ومحبة قرابة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أي إلا أن تودوا قرابتي .
وابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ حَبر الأمة وتُرجمان القرآن الذي دعا له النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بقوله : اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ ) يرى أن المراد {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يقول لا أسألكم عليه أجراً إلا أن تَوَدُّوني لقرابتي منكم وبهذا يقول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ
قال الحافظ في فتح الباري تحت رقم (4818) وَالْحَاصِلُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ وَمَنْ وَافَقَهُ كَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَالسُّدِّيِّ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْهُمْ حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى أَمْرِ الْمُخَاطَبِينَ بِأَنْ يُوَادِدُوا أَقَارِبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم.
وابن عَبَّاسٍ حَمَلَهَا عَلَى أَنْ يُوَادِدُوا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجْلِ الْقَرَابَةِ الَّتِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ .
فَعَلَى الْأَوَّلِ الْخِطَابُ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ وَعَلَى الثَّانِي الْخِطَابُ خَاصٌّ بِقُرَيْشٍ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ. اهـ المراد
وعلى القول الأول الذي فسره سعيد بن جبير ومن معه يكون الآية فيها فضل قرابة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ، والحث على مودتهم ، واحترامهم، وأما على تفسير ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فمعناها آخر .
وقد ثبت في الأدلة المتكاثرة احترام أهل البيت ، ومحبتهم ، وقد قال أبوبكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي)أخرجه البخاري(3711)ومسلم (1759).
الشيعة يتهمون أهل السنة أنهم لا يحبون أهل البيت وهم كاذبون في ذلك ، فنحن نحب الصالحين منهم حباً شرعياً.
(وهو صفوة الله منهم) أي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خيار قريش .
قال الجوهري في الصحاح :صفوة الشيء خالصه.
(منهم) أي من قريش . فالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ خيرة قريش أي أفضلهم .
وحديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه فيه فضل نسب قريش ، ونسب بني هاشم ، وأن نسب بني هاشم أفضل.
فالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وكذاسائر الأنبياء من أنساب رفيعة ، وقد قال هرقل لأبي سفيان (كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ) أي صاحب نسب .
و قال هرقل بعد ذلك (سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي أَحساب قَوْمِهَا) والله أعلم.
وقد ذكروا حِكَماً في كون الرسُل تُبعث من أنساب رفيعة.
واقتصرالنووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم في قصة هرقل على أمرين فقال:
قِيلَ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ أَبْعَدُ مِنَ انْتِحَالِهِ الْبَاطِلَ .
وَأَقْرَبُ إِلَى انْقِيَادِ النَّاسِ لَهُ اهـ.
فصاحب النسب الرفيع يؤثِّر فيه نسبه في المكارم والأخلاق والتحلي بالصدق.
ولأن صاحب النسب الرفيع ينقاد له الناسُ .
أيضاً هيبته في المجتمع إذا كان من نسب عالي فيكون له حماية بإذن الله من قتله والاعتداء عليه.
***************************
وكذلك بنو إسرائيل أنبياؤهم و غيرهم يجتمعون معه في إبراهيم الخليل عله الصلاة والسلام ، الذي جعل الله في ذريته النبوة و الكتاب ، وهكذا أمر الله سبحانه بني إسرائيل على لسان موسى عليه السلام ، و هو في التوراة كما ذكره غير واحد من العلماء ممن جمع بشارات الأنبياء به صلى الله عليه و سلم ، إن الله تعالى قال لهم ما معناه : ( سأقيم لكم من أولاد أخيكم نبياً كلكم يسمع له ، و أجعله عظيماً جداً ) .
***************************
(وكذلك بنو إسرائيل أنبياؤهم و غيرهم يجتمعون معه في إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام) أي يجتمع نسبهم مع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـفي إبراهيم الخليل .
(الذي جعل الله في ذريته النبوة و الكتاب) كما في الآية { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ }[العنكبوت:27] قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية : هَذِهِ خِلْعَةٌ-أي جودة- سَنِيَّةٌ عَظِيمَةٌ مَعَ اتِّخَاذِ اللَّهِ إِيَّاهُ خَلِيلًا، وَجَعْلِهِ لِلنَّاسِ إِمَامًا أَنْ جَعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ، فَلَمْ يُوجَدْ نَبِيٌّ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا وَهُوَ مِنْ سُلَالَتِهِ، فَجَمِيعُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ سُلَالَةِ يَعْقُوبَ بْنِ إسحاق بن إِبْرَاهِيمَ، حَتَّى كَانَ آخِرُهُمْ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَقَامَ فِي مَلَئِهِمْ مُبَشِّرًا بِالنَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْقُرَشِيِّ الْهَاشِمِيِّ خَاتَمِ الرُّسُلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الَّذِي اصْطَفَاهُ اللَّهُ مِنْ صَمِيمِ الْعَرَبِ الْعَرْبَاءِ مِنْ سُلَالَةِ إِسْمَاعِيلَ بن إبراهيم عليهما السَّلَامُ، وَلَمْ يُوجَدْ نَبِيٌّ مِنْ سُلَالَةِ إِسْمَاعِيلَ سواه، عليه أفضل الصلاة والسلام اهـ.
ما أعظم بركة عِلْمِ هذا الإمام في أسطر يسيرة يذكر أنه لا يُوجَدْ نَبِيٌّ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا وَهُوَ مِنْ سُلَالَتِهِ أخذا من الآية الكريمة .
وأن نبينا محمد مِنْ سُلَالَةِ إِسْمَاعِيلَ بن إبراهيم عليهما السَّلَامُ، وَلَمْ يُوجَدْ نَبِيٌّ مِنْ سُلَالَةِ إِسْمَاعِيلَ سواه، عليه أفضل الصلاة والسلام .
(إن الله تعالى قال لهم ما معناه : (سأقيم لكم من أولاد أخيكم نبياً كلكم يسمع له ، و أجعله عظيماً جداً ).
من أولاد أخيكم يعني إسماعيل ـ عليه السلام ـ (نبياً) وهو نبينا محمد ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ
وهذا من الإسرائيليات التي لايعتمد عليها .
وقد ذكر شيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى ـ (أن ماجاءنا من الأخبار المتقدمة ماكان في شرعنا تصديقه نقبله ، وما كان في شرعنا تكذيبه نرده ، وما كان مسكوتاً عنه لا من هذا ولا من هذا نتوقف فيه) أو نحو هذا ذكره في كتابه مقدمة في أصول التفسير.
*************************
و لم يولد من بني إسماعيل أعظم من محمد صلى الله عليه و سلم ، بل لم يولد من بني آدم أحد و لا يولد إلى قيام الساعة أعظم منه صلى الله عليه و سلم ، فقد صح أنه قال : " أنا سيد ولد آدم و لا فخر ، آدم فمن دونه من الأنبياء تحت لوائي " و صح عنه أنه قال : " سأقوم مقاماً يرغب إلي الخلق كلهم حتى إبراهيم "..
و هذا هو المقام المحمود الذي وعده الله تعالى ، و هو الشفاعة العظمى التي يشفع في الخلائق كلهم ، ليريحهم الله بالفضل بينهم من مقام المحشر ، كما جاء مفسراً في الأحاديث الصحيحة عنه صلى الله عليه و سلم .
و أمه صلى الله عليه و سلم : آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة .
*******************************
(فقد صح أنه قال : " أنا سيد ولد آدم و لا فخر ، آدم فمن دونه من الأنبياء تحت لوائي ") الحديث في صحيح الجامع للشيخ الألباني ـ رحمه الله تعالى ـ (1468).
وفيه دليل على فضل النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ على غيره من الأنبياء وغيرهم .
(و صح عنه أنه قال : (سأقوم مقاماً يرغب إلي الخلق كلهم حتى إبراهيم ) وهذا قطعة من حديث عند الإمام مسلم (820) عن أُبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ
(و هذا هو المقام المحمود الذي وعده الله تعالى ، و هو الشفاعة العظمى التي يشفع في الخلائق كلهم ، ليريحهم الله بالفصل بينهم من مقام المحشر ، كما جاء مفسراً في الأحاديث الصحيحة عنه صلى الله عليه و سلم) .
وهذا أي المقام في قوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : سأقوم مقاماً يرغب إلي الخلق كلهم حتى إبراهيم) .
وإليه الإشارة في قوله تعالى :{ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا }[الإسراء:79]
المقام المحمود الذي يحمده عليه جميع الخلائق ما هو؟
هو الشفاعة العظمى فإن الناس في عرصات يوم القيامة تدنو الشمس من رؤوسهم ، ويقفون في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فيبلغ بهم من الهم والكرب مالا يحتملون ولا يطيقون فيتشاورون فيقول بعضهم لبعض : ألا ترون من يشفع لنا ؟ ألا ترون ما قد حلَّ بنا ؟ فينتقلون من نبي إلى نبي ، وكل منهم يحيل الشفاعة إلى الآخر حتى تصل إلى النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتِمُ الأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ العَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا، لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَقُولُ: أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لاَ حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنَ البَابِ الأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَبْوَابِ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ مَا بَيْنَ المِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الجَنَّةِ، كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَحِمْيَرَ - أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى - ") والحديث متفق عليه عن أبي هريرة.
و الشفاعة العظمى لا ينكرها أحد من الأمة الإسلامية ؛ لأنها لفصل القضاء هذا باتفاق بين أهل القبلة ثبوت الشفاعة العظمى.
(و أمه صلى الله عليه و سلم : آمنة) هذه أُمُّ النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ
(بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة) ونسبها يلتقي مع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في كلاب بن مرة وهو الجد الخامس.
وقد ماتت أم النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ على الكفر ثبت في صحيح مسلم (976)عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: زَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَ أُمِّهِ، فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، فَقَالَ: «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ» .
بهذا نكون انتهينا من هذا الفصل ولله الحمد.
واستفدنا عدة مسائل نلخص ما تيسر من باب التيسير.
الأول: أن نسب النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إلى عدنان لا خلاف فيه وما فوق عدنان هذا مختلف فيه .
الثاني: أنه لاخلاف بين أهل النسب وغيرهم أن عدنان من ولد إسماعيل الذبيح.
الثالث: أن الذبيح هو إسماعيل ـ عليه السلام ـ على الصحيح.
الرابع: وجود الاختلاف فيما فوق عدنان في أمرين العدد والأسماء .
الخامس:أنه جاء أن أول من خط بالقلم إدريس ولا يصح هذا فالله أعلم مَن أول مَن خط بالقلم .
السادس:أنه تناقلت الكتب خبر أن شيث وإدريس كانا قبل نوح نبي الله والتنبيه على هذا .
السابع: أن جميع قبائل العرب تجتمع مع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في عدنان.
الثامن: معنى قول الله عز وجل {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } وفسره ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ إلا أن تودوني بسبب قرابتي منكم.
التاسع: أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أفضل قريش وأفضل بني هاشم نسباً .
العاشر:أنه يجتمع نسب بني إسرائيل وأنبيائهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في إبراهيم الخليل .
الحادي عشر: بيان المقام المحمود وأنه الشفاعة العظمى.
الأخير: أُمُّ النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ آمنة ، وتلتقي في نسبها مع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في كلاب بن مرة وأنها ماتت على الكفر.
والحمد لله ونسأل الله أن ينفعنا جميعاً وأن يحفظ لنا ديننا.
أم سمية الأثرية
2016-01-09, 21:48
الدرس الثالث من (الفصول في سيرة الرسول) 1من شهر صفر 1437.
بسم الله الرحمن الرحيم
مذاكرة:
نذكِّر أنفسنا وأخواتنا بالصبر والاحتساب فبالاحتساب يحصل الأجروتُنالُ الجنة ، وقد رغب النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في حضور حلقات العلم كما في صحيح مسلم (2699)عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه ـ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (... وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ ) .
وروى البخاري (6408) ومسلم (2689) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قال الحديث في فضل مجالس الذكر- والعلم النافع من جملة الذكر-وفي آخره أنَّ اللهَ عزوجل يقول :قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا ، وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا . قَالَ : فَيَقُولُونَ : رَبِّ فِيهِمْ فُلَانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ . فَيَقُولُ : وَلَهُ غَفَرْتُ ، هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ ) .
هذا دليلٌ على أن حلقات العلم كفارة للذنوب ، يأتي إلى حَلقات العلم وهو يحمل الذنوب ويخرج بإذن الله وقد زالت عنه ومُحِيت، فهذا فيه ترغيب للنفوس ، وشحذ الهمم في حضور حلقات العلم ، والصبر وقد قال الله عز وجل :{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ }[السجدة:24] .
فنتواصى جميعاً بالصبر والاحتساب وبالفرح بهذا الفضل العظيم قال الله عز وجل :{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ }[يونس:58] حينما يخرج من حلقة العلم مغفوراً له قد محِيت ذنوبُه.
وعلينا بالالتزام بالسكينة والخشوع ، فحلقة العلم من آدابها الاتصاف بهذين الأدبين وبهذين الخُلُقين.
*الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ ينص في تفسيره أنه لم يولد نبي من نسل إسماعيل إلا نبينا محمد ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وفي هذا يقول الله عز وجل :{ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ }[يس:6] .
قوماً أي العرب.
*النسب لا ينفع (وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ) لأن الشيعة منهم من يتكل على نسبه ، يقولون نحن من آل البيت النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ سيشفع لنا (وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ).
وأخرج ابن أبي عاصم في السنة عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ خَرَجَ مَعَهُ يُوصِيهِ ثُمَّ الْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ:
"إِنَّ أَهْلَ بَيْتِي هَؤُلاءِ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِي وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّ أَوْلِيَائِي مِنْكُمُ الْمُتَّقُونَ مَنْ كَانُوا وحَيْثُ كَانُوا. اللَّهُمَّ إِنِّي لا أُحِلُّ لَهُمْ فَسَادَ مَا أَصْلَحْتُ وايم والله لَتُكْفَأَنَّ أُمَّتِي عَنْ دِينِهَا كَمَا تكفأن الإناء في البطحاء". والحديث صحيح .
وأدلة في القرآن أيضاً تدل أن القرب من الأنبياء ومن أهل الفضل لا ينفع مثل : ولد نبي الله نوح عليه السلام، ومثل امرأة نوح ، وامرأة لوط حكم الله عز وجل بكفرهم وهم قريبون من الأنبياء الذين هم ذُروة الخلق . والله أعلم.
************************
فصل ـ ولادته و رضاعه و نشأته
ولد صلى الله عليه و سلم يوم الإثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول ، و قيل : ثامنه ، و قيل عاشره ، و قيل لثنتي عشرة منه ، وقال الزبير بن بكار : ولد في رمضان ، و هو شاذ ، حكاه السهيلي في روضه .
و ذلك عام الفيل ، بعده بخمسين يوماً ، و قيل بثمانية و خمسين يوماً ، و قيل بعده بعشر سنين ، و قيل : بعد الفيل بثلاثين عاماً ، وقيل : بأربعين عاماً ، و الصحيح أنه ولد عام الفيل ، و قد حكاه إبراهيم بن المنذر الحزامي شيخ البخاري ، و خليفة بن خياط و غيرهما إجماعاً .
************************
(ولد في رمضان ، و هو شاذ)أي مخالف للصواب فلا يُلتفتُ إليه.
(شيخ البخاري ، و خليفة بن خياط و غيرهما إجماعاً) في بعض نُسخِ الفصول (وغيرها )بإسقاط الميم وهو خطأ .
فالضمير يعود إلى اثنين وهما الحزامي وخليفة والميم دال على التثنية والألف للعماد .
نحن الآن في ولادة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ورضاعه ونشأته في صِغَرِهِ وقبلَ المبْعَث .
وهذه عدةُ مسائل
الأولى: بيان أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ولد يوم الاثنين ،وهو ثابت في صحيح مسلم (1162 ) عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وفيه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ قَالَ: ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ...)الحديث.
قال ابن كثير في البداية والنهاية(2/ 320): وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّهُ وُلِدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم يَوْمَ الِاثْنَيْنِ.
وَأَبْعَدَ بَلْ أَخْطَأَ مَنْ قَالَ وُلِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ نَقَلُهُ الْحَافِظُ ابْنُ دحية فيما قرأه في كتاب أعلام الروي بأعلام الهدى لبعض الشيعة.
ثم شَرَعَ ابْنُ دِحْيَةَ فِي تَضْعِيفِهِ وَهُوَ جَدِيرٌ بِالتَّضْعِيفِ إِذْ هُوَ خِلَافُ النَّصِّ.
الثانية: أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ولد في شهر ربيع الأول وهذا هو المشهور والصحيح عند أهل العلم.
الثالثة: أنه اختلف في كم يوم كان قد مضى من شهر ربيع الأول قال ـ رحمه الله تعالى ـ : لليلتين خلتا من ربيع الأول ) هذا القول الأول (خلتا) أي : مضتا.
القول الثاني : لثمان خلين .القول الثالث: لعشر خلين، والرابع : لثنتي عشرة خلين . فالعلماء اختلفوا في تحديد اليوم .
والذين يحتفلون بالمولد النبوي يبنون على خيال ؛ لأنه غير مؤكَّد في تعيين اليوم عند أهل السير.
وأهل العلم على أن الاحتفال بالمولد النبوي بدعة ما أنزل الله به من سلطان لما في البخاري (2550) و مسلم(1718 ) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ .
وقوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ ) وكل لفظ من ألفاظ العموم ، ولو كان هذا خيراً لسبقنا إليه الصحابة والتابعون فإنهم أهل السبق والفضل والله أعلم.
الرابعة: بيان أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ولد عام الفيل، وقد ثبت في مستدرك الحاكم ـ رحمه الله ـ عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ (أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ولد عام الفيل ).
فالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ كانت ولادته في عام الفيل ، وهذه أقوال أخرى ولكنها ليست صحيحة ، ولهذا حُكي إجماعاً أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ولد عام الفيل.
وليس كلُ خلافٍ جاء معتبَراً إلاَّ خِلاف له حظ من النظر
************************
و مات أبوه و هو حمل ، و قيل بعد ولادته بأشهر ، و قيل بسنة ، و قيل بسنتين ، والمشهور الأول ، و استُرضع له في بني سعد ، فأرضعته حليمة السعدية كما روينا ذلك بإسناد صحيح ، و أقام عندها في بني سعد نحواً من أربع سنين ،
و شُقَّ عن فؤاده هناك ، فردتْه إلى أمه ، فخرجَت به أمه إلى المدينة تزورُ أخوالَه بالمدينة ، فتوفيت بالأبواء ، وهي راجعة إلى مكة و له من العمر ست سنين و ثلاثة أشهر و عشرة أيام ، وقيل : بل أربع سنين ، وقد روى مسلم في صحيحه "أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما مر بالأبواء و هو ذاهب إلى مكة عام الفتح استأذن ربه في زيارة قبر أمه فأذن له ، فبكى وأبكى من حوله و كان معه ألف مقنَّع [ يعني بالحديد ] " .
************************
(و مات أبوه و هو حمل ) هذه مسألة في وفاة والد النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وهو عبدالله ، ونص الحافظ ابن كثيرٍ هنا أن المشهور أنه توفى و النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ حَمْلٌ في بطن أمه .
(فأرضعته حليمة السعدية كما رُوِّينا ذلك بإسناد صحيح )
أمهات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الرضاعة
حليمة السعدية .
وثويبة ففي صحيح البخاري(5101)وصحيح مسلم (1449) عن أُمِّ حَبِيبَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْكِحْ أُخْتِي بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، فَقَالَ: «أَوَتُحِبِّينَ ذَلِكِ» ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ ذَلِكِ لاَ يَحِلُّ لِي» . قُلْتُ: فَإِنَّا نُحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ؟ قَالَ: «بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ» ، قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: «لَوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حَجْرِي مَا حَلَّتْ لِي، إِنَّهَا لاَبْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ، فَلاَ تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلاَ أَخَوَاتِكُنَّ».
وثويبة أرضعت حمزة أيضاً عم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
(و أقام عندها في بني سعد نحواً من أربع سنين ) أي : عند حليمة السعدية.
(و شُق عن فؤاده هناك ) شق فؤاد النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وهو صغير ثابت في صحيح مسلم (162) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً ، فَقَالَ : هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ ، ثُمَّ لَأَمَهُ ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ ، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ يَعْنِي ظِئْرَهُ ، فَقَالُوا : إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ ، فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ ، قَالَ أَنَسٌ : وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ ".
(ثُمَّ لَأَمَهُ ) أي جمع بعضه إلى بعض ،( ظِئْرَهُ) أي مرضعته ، (مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ ) أي متغير اللون ،( وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ) المخيط الإبرة، (هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ ) أي لو استمر معك.
(فردته إلى أمه ) حليمة السعدية ردت النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إلى أمه آمنة.
( فخرجت به أمه إلى المدينة تزور أخواله بالمدينة ، فتوفيت بالأبواء ، وهي راجعة إلى مكة ) .
قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في زاد المعاد (1/75) : وَلَا خِلَافَ أَنَّ أُمَّهُ مَاتَتْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ " بِالْأَبْوَاءِ " مُنْصَرَفَهَا مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ زِيَارَةِ أَخْوَالِهِ.
وقد ذكر الحافظ ابنُ كثير الدليلَ على ذلك .
(و له من العمر ست سنين و ثلاثة أشهر و عشرة أيام ، وقيل : بل أربع سنين ) الله أعلم بهذا .
************************
فلما ماتت أمه حضنته أمُّ أيمن و هي مولاته ، ورِثَها من أبيه .
************************
(فلما ماتت أمه حضنته أم أيمن و هي مولاته ) أم أيمن ـ رضي الله عنها ـ اسمها بركة الحبشية من الصحابيات الفاضلات ومن المهاجرات ، وكان النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لها بمنزلة الولد حتى إنها ربما كانت تصيح عليه وتغضب كما في صحيح مسلم (2453) عَنْ أَنَسٍ قَالَ (انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَنَاوَلَتْهُ إِنَاءً فِيهِ شَرَابٌ قَالَ فَلَا أَدْرِي أَصَادَفَتْهُ صَائِمًا أَوْ لَمْ يُرِدْهُ فَجَعَلَتْ تَصْخَبُ عَلَيْهِ وَتَذَمَّرُ عَلَيْهِ) .
وأما ما جاء أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قال : (أم أيمن أمي بعد أمي ) فهذا حديث معضل رواه سليمان بن أبي شيخ معضلاً .
وضعف الحديثَ العلامة الألباني رحمه الله في الضعيفة(7059) .
أم أيمن بقيت بعد وفاة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فقد ثبت في صحيح مسلم (2454) عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ : " انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ ، نَزُورُهَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزُورُهَا ، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ ، فَقَالَا لَهَا : مَا يُبْكِيكِ ؟ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ : مَا أَبْكِي أَنْ لَا أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ ، فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا " (فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ) أي حملتهما على البكاء .
وفيه البكاء على فراق الخير وفراق الصالحين والحزن لذلك.
وقد جاء في صحيح مسلم قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : (...ثُمَّ تُوُفِّيَتْ بَعْدَ مَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ ). ولكن ظاهره الإرسال فابن شهاب لم يدرك ذلك الزمن والله تعالى أعلم .
حواضن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم
أمه آمنة فهي تُعدُّ من حواضنه ، وأمُّ أيمن ،وحليمة السعدية، وثويبة، وجدامة الشيماء
فإنها كانت تساعد أمها حليمة في حضانته، راجعي زاد المعاد (1/ 82 )والله تعالى أعلم .
أشهر حواضن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أم أيمن ـ رضي الله عنها - بعد أمِّه .
(وهي مولاته ) الولاء هنا بمعنى ولاء عِتق .
والموالي على ثلاثة أقسام :
الأول : مولى عتق . مملوك يُعتَق،هذا المملوك يكون مولى لمن أعتقه .
يُقال فلان القرشي مولاهم،فلانٌ الطائي مولاهم، الجهني مولاهم، فلانٌ الدمشقي مولاهم ،مولى فلان ،نسبة ولاء عتاقة ، أي أنه ليس من صلبهم ولكنه كان عبداً فأعتقه قريش أو الطائيون وهكذا .
الثاني: مولى إسلام وهو أن يسلم على يد شخص فيكون مولى للذي أسلم على يديه .
ومن أمثلته الإمام البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ يقال عنه مولى الجُعْفيين يقولون بعض أجداده أسلم على يد بعض الجُعفيين .
فمثلاً: نصرانيٌّ أسلم على يد شيخ فهذا الذي كان نصرانياً يكون مولى لهذا الشيخ .
ومولى إسلام: يكون من حيث المعرفة والمِنَّة ولا يترتب عليه أحكام .
الثالث: مولى حلف .ومن أمثلته الإمام مالك بن أنس بن مالك الأصبحي ويُقال له مولى التيميين ،وهو حميري أصبحي صليبةً، ولكن كان جده مالك بن أبي عامر حليفاً لهم كما في مختصر علوم الحديث .
الحِلْف : التعاقد على التناصر والتعاون والأخوَّة ، وكان هذا مما يتعاقد عليه أهل الجاهلية فأبطل الإسلام الباطل منه ، وأقر الحق والعدل الذي فيه كما قال النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ (لا حِلْفَ فِي الإِسْلامِ , وَأَيُّمَا حَلِفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الإِسْلامُ إِلا شِدَّةً ).
وللحِلْف أسباب منها ضعف الشخص فيحالف قبيلة للتعاون معه .
هذه ثلاثة يذكرها أهل العلم.
و الأغلب في الموالي، كما يقول أهل الحديث أنه إذا قيل مولى يقصد به مولى عتق غالباً.
وكما أن هذ هو الغالب فأيضاً في مقدمة ابن الصلاح 400 يقول: وَأَهَمُّ ذَلِكَ مَعْرِفَةُ الْمَوَالِي الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الْقَبَائِلِ بِوَصْفِ الْإِطْلَاقِ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ فِي الْمَنْسُوبِ إِلَى قَبِيلَةٍ - كَمَا إِذَا قِيلَ: " فُلَانٌ الْقُرَشِيُّ " أَنَّهُ مِنْهُمْ صَلِيبَةً، فَإِذًاً بَيَانُ مَنْ قِيلَ فِيهِ " قُرَشِيٌّ " مِنْ أَجْلِ كَوْنِهِ مَوْلًى لَهُمْ مُهِمٌّ اهـ.
فقد يُتوهم أنه منهم صليبة إذا قيل فلانٌ القرشي يتبادر إلى الذهن أنه قرشي من أولاد قريش لأن هذا هو الأصل فإذا قيل : القرشي مولاهم حصل التمييز وزال الالتباس.
ولأهمية معرفة الموالي فأهل المصطلح يعقدون له باباً في كتبهم .
وكما أنه قد يُطلق مولى على الأسفل يقال مولى القرشيين .
كذلك قد يطلق على الأعلى وهو السيد يقال: فلانٌ مولى فلان ، أي فلان سيد فلان .
فهو يُطلق على المعتِق وعلى المعتَق .
(ورثها من أبيه) هوعبدالله .
هكذا ذكروا أنه ورثها من أبيه ، ولما كبر أعتقها وزوَّجها زيدَ بن حارثة ـ رضي الله عنه ـ فأم أيمن ـ رضي الله عنها ـ أم أسامة بن زيد بن حارثة ـ رضي الله عنهما ـ حِب رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وابن حِبه.
**************************
وكفله جدُّه عبد المطلب فلما بلغ رسولُ الله صلى الله عليه و سلم من العمر ثماني سنين توفي جده ، وأوصى به إلى عمه أبي طالب ، لأنه كان شقيقَ عبدالله فكفله ، وحاطه أتم حياطة ، ونصره حين بعثه الله أعزَّ نصر ، مع أنه كان مستمراً على شركه إلى أن مات ، فخفَّف الله بذلك من عذابه كما صح الحديث بذلك .
*************************
(وأوصى به إلى عمه أبي طالب) أبوطالب المشهور في اسمه أنه عبد مناف .
فجده عبدالمطلب كفله بعد موت أبيه ثم كفله عمه أبوطالب .
(لأنه كان شقيقَ عبدالله) أخ لأبيه وأمه .
(وحاطه أتم حياطة ، ونصره حين بعثه الله أعز نصر ، مع أنه كان مستمراً على شركه إلى أن مات ، فخفف الله بذلك من عذابه كما صح الحديث بذلك ) . يشير إلى ما أخرجه البخاري(3883)ومسلم (209) عن العباس بن عَبْدِ المُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: «هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ». ».
الهداية بيد الله ، هذا أبو طالب كان محباً للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ غايةَ المحبة وشفيقاً عليه، ولم ينفعه القرب من النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ولا قربه من الخير والوحي ، مات على شركه .
ومن الحِكم التي ذكروها في عدم إسلام أبي طالب أن أبا طالب لو أسلم لما كان للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ حصانة وحماية ، وقد كان أبو طالب مُبجَّلاً في قومه ولو أسلم لزال ذلك .والله أعلم .
استفدنا أن الهداية بيد الله نسأل الله أن يهدينا ويهدي أولادنا لكل خير .
النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يدعو أبا طالب حينما كان محتضراً أخرج البخاري(3884) عن ابْنِ المُسَيِّبِ وهوسعيد، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ، دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ:«أَيْ عَمِّ، قُلْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ» في أشد الشفقة على عمه أبي طالب .وفيه نزل قوله تعالى {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56].
ومن شدة شفقة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قال: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ» فَنَزَلَتْ الآية في النهي عن الاستغفار للمشركين {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ} [التوبة: 113] .
إذن لا يلتفت إلى من يقول بإسلام أبي طالب فلنكن على بصيرة ونور .
************************
و خرج به عمُّه إلى الشام في تجارةٍ و هو ابنُ ثنتي عشرة سنةً ، و ذلك من تمام لطفِه به ، لعدم من يقومُ إذا تركه بمكة ، فرأى هو وأصحابُه ممن خرج معه إلى الشام من الآيات فيه صلى الله عليه و سلم ما زاد عمه في الوصاة به
والحرص عليه ، كما رواه الترمذي في جامعه بإسناد رجاله كلهم ثقات ، من تظليل الغمامة له و ميل الشجرة بظلها عليه ،و تبشير بحيرا الراهب به ، و أمْرُه لعمه بالرجوع به لئلا يراه اليهودُ فيرمونه سوءاً ، والحديث له أصل محفوظ و فيه زيادات أخر .
************************
(و خرج به عمه) عمه أبو طالب .
(و ذلك من تمام لطفه به ) أي لطف أبي طالب (به) أي بالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ
(كما رواه الترمذي في جامعه بإسناد رجاله كلهم ثقات)الحديث عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ في سنن الترمذي (3620) وفيه أنهم كانوا من مَرَّ ببحيرا الراهب وهو نصراني ما كان يلتفت إلى من يمر به، فلما خرجوا مرة ومعهم النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ، ونزلوا بجور بحيرا الراهب جاء إليهم ، وجعل ينظر إلى النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قَالَ: هَذَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) فشهد للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بالنبوة.
ومن الآيات التي شاهدوها تظليل الغمام على النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وهو يمشي وإذا جلس مالت الشجرة بظلها والحديث في الصحيح المسند من دلائل النبوة للوالد الشيخ مقبل ـ رحمه الله تعالى ـ وصححه الشيخ الألباني ـ رحمه الله تعالى ـ إلا أنه فيه بعض الزيادات فيها كلام ، وإليها يشير ابن كثيرـ رحمه الله ـ بقوله (و فيه زيادات أخر).
وذلك أنه في آخر الحديث أن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ بعث مع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بلالا. وبلال لم يكن قد اشتراه أبوبكر ـ رضي الله عنه ـ ، وهذه الزيادة منكرة تكلم عليها أهل العلم ومنهم ابن حجر .
قال الحافظ ابن حجر في الإصابة ترجمة بحيرا :سبب نكارتها أن أبا بكر حينئذ لم يكن متأهّلا، ولا اشترى يومئذ بلالا. إلا أن يحمل على أن هذه الجملة الأخيرة مقتطعة من حديث آخر أدرجت في هذا الحديث وفي الجملة هي وهم من أحد رواته.
وأما الإمام الذهبي ـ رحمه الله تعالى ـ فإنه في سير أعلام النبلاء(1/ 58)ضعَّف الحديث من أصله وقال في بداية كلامه : وهو حديث منكر جدا؛ وأين كان أبو بكر؟ كان ابن عشر سنين، فإنه أصغر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين ونصف؛ وأين كان بلال في هذا الوقت؟ فإن أبا بكر لم يشتره إلا بعد المبعث، ولم يكن ولد بعد ...
والله تعالى أعلم.
(بحيرا الراهب) كان نصرانياً وكان يعرفُ من كتبهم أن هناك نبياً سيبعث ففي حديث أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ ما يدل على أنه كان مؤمناً بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
قال الحافظ في الإصابة : بحيرا الراهب
ذكره ابن مندة، وتبعه أبو نعيم (واسم كتابيهما معرفة الصحابة)، وقصته معروفة في المغازي، وما أدري أدرك البعثة أم لا؟ اهـ.
وهل تثبتُ صُحبته لكونه كان مؤمناً بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قبل بِعْثَتِهِ؟.
الحافظ يقول في مقدمة الإصابة في تعريف الصحابي : وأصحّ ما وقفت عليه: أن الصحابي من لقي النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم مؤمنا به، ومات على الإسلام .
ثم ذكر فوائد قيود هذا التعريف .
ثم قال : وقولنا: «به» يخرج من لقيه مؤمنا بغيره، كمن لقيه من مؤمني أهل الكتاب قبل البعثة. وهل يدخل من لقيه منهم وآمن بأنه سيبعث أو لا يدخل؟ محلّ احتمال. ومن هؤلاء بحيرا الراهب ونظراؤه.
وجزم الحافظ في ترجمة بَحِيرا الراهب أنه لقي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قبل أن يُبعث .
ولا يرِدُ ذِكرُ الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ له في كتابه( الإصابة في معرفة الصحابة ) وهو ليس بصحابي لأنه ذكر أربعة أقسام في كتابه الإصابة كما نصَّ عليه في المقدمة:
القسم الأول: الصحابة الذين جاء ما يدل على صحبتهم .
القسم الثاني : صغار الصحابة ممن مات صلّى اللَّه عليه وسلم وهو في دون سن التمييز .
قال : أحاديث هؤلاء عنه من قبيل المراسيل عند المحققين من أهل العلم بالحديث، ولذلك أفردتهم عن أهل القسم الأول .
القسم الثالث :المخضرمون .
قال :وهم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، ولم يرد في خبر قط أنهم اجتمعوا بالنبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم، ولا رأوه، سواء أسلموا في حياته أم لا، وهؤلاء ليسوا أصحابه باتفاق من أهل العلم بالحديث.
القسم الرابع: فيمن ذكر في الكتب المذكورة على سبيل الوَهَم والغلَط .
****************************
ثم خرج ثانياً إلى الشام في تجارة لخديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها مع غلامها ميسرة على سبيل القِرَاض ، فرأى ميسرةُ ما بهرَه من شأنه ، فرجع فأخبر سيدتَه بما رأى ، فرغبت إليه أن يتزوجها ، لِمَا رجت في ذلك من الخير الذي جمعه الله لها ، و فوق ما يخطر ببال بشر ، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه و سلم و له خمس وعشرون سنة .
*****************************
(سيدته) خديجة بنت خويلد ـ رضي الله عنها ـ
وهذه رحلة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إلى الشام. الرحلة الأولى كانت مع عمه أبي طالب ، والرحلة الثانية خرج متاجراً في مال خديجة ـ رضي الله عنها ـ .
فإن خديجة ـ رضي الله عنها ـ كانت ثرية وتستأجر من يعمل لها في مالها. وكان النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يعمل لها في مالها على سبيل القِراض.
القِراض: أن يدفع رجلٌ المال إلى رجل آخر يعمل فيه على نسبة معينة إما الربع ، أو الثلث ، أو النصف وما أشبه ذلك. والقراض يقال له المضاربة في كتب الفقه.
قال النووي في (تحرير ألفاظ التنبيه) :الْقِراض بكسرالْقَاف مُشْتَقّ من الْقَرْض وَهُوَ الْقطع سمي بذلك لِأَن الْمَالِك قطع لِلْعَامِلِ قِطْعَة من مَاله يتَصَرَّف فِيهَا وَقطعَة من الرِّبْح وَسمي الْقَرَاض مُضَارَبَة لِأَن الْعَامِل يضْرب فِي الأَرْض للاتجار يُقَال ضرب فِي الأَرْض أَي سَافر قَالَ الْأَزْهَرِي أهل الْحجاز يسمونه قراضا وَالْعراق مُضَارَبَة .
(ميسرة) غلام خديجة ـ رضي الله عنها ـ وكان مرافقاً للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في التجارة.
قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ في الإصابة (لم أرَ رواية صريحة بأنه بقي للبعثة فكتبته على الاحتمال) .
(فرغبتْ إليه أن يتزوجها ، لِما رجتْ في ذلك من الخير الذي جمعه الله لها ، و فوق ما يخطر ببال بشر ، فتزوَّجها رسول الله صلى الله عليه و سلم و له خمس وعشرون سنة ) .
وكانت خديجة ـ رضي الله عنها ـ في سن الأربعين ، والنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ابن خمس وعشرين ، فهي أكبر منه بخمسة عشر عاماً.
وفي هذا دليل على أنه لا يلزم التكافؤ في السن.
وتزوج النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بعائشة ـ رضي الله عنها ـ وهو فوق الأربعين ، وعقد عليها وهي ابنة ست ، وبنى عليها وهي ابنة تسع سنين .
ولا بأس بمراعاة المكافأة في السن وذلك لما رواه النسائي ـ رحمه الله تعالى ـ (3221 ) عن بريدة ـ رضي الله عنه ـ أن أبا بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ خطبا فاطمة ـ رضي الله عنها ـ فقال إنها صغيرة ثم خطبها على ـ رضي الله عنه ـ فتزوجها. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : خَطَبَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَاطِمَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّهَا صَغِيرَةٌ فَخَطَبَهَا عَلِيٌّ فَزَوَّجَهَا مِنْهُ.
وقصة خديجة ـ رضي الله عنها ـ تدل على عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح.
وقد ثبت في صحيح البخاري (5120) من طريق ثابتٍ البُناني عن أنس بن مالك جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْرِضُ عَلَيْهِ نَفْسَهَا ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَكَ بِي حَاجَةٌ، فَقَالَتْ بِنْتُ أَنَسٍ: مَا أَقَلَّ حَيَاءَهَا وَا سَوْأَتَاهْ وَا سَوْأَتَاهْ ، قَالَ: هِيَ خَيْرٌ مِنْكِ رَغِبَتْ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا .
(وَا سَوْأَتَاهْ ) السوأة: الفضيحة.
فللمرأة أن تعرض نفسها على الرجل الصالح ، ولكن لابُدَّ من الحكْمة ومراعاة للأولياء.
وفي الكلام هنا أن سبب رغبة خديجة ـ رضي الله عنها ـ أم المؤمنين في الزواج من النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لما رأت من أخلاقه الحميدة، في الأمانة ، والصدق ، والنصح ، ولهذا عرضت الزواج على النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ
ولم يتزوج عليها إكراماً لها حتى ماتت رضي الله عنها .
وقد كانت نعم العون للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بعد زواجه بها فحينما نزل عليه الوحي كما في صحيح البخاري (2) وصحيح مسلم(160) في نزول الوحي (فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي فَقَالَتْ خَدِيجَةُ كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ) الحديث
وهذا من صفات المرأة الصالحة أنها تكون معينة لزوجها، ومؤانسة له، ومسلِّية عليه . والله أعلم.
************************
و كان الله سبحانه قد صانه و حماه من صِغره ، و طهَّره من دنَس الجاهلية و من كل عيب ، و منحَه كل خلق جميل حتى لم يكن يُعرَفُ بين قومه إلا بالأمين ، لِمَا شاهدوا من طهارته و صدقِ حديثه و أمانتِه ، حتى إنَّه لما بنت قريش الكعبة في سنة خمس و ثلاثين من عمره فوصلوا إلى موضع الحجر الأسود اشتجروا فيمن يضع الحجر موضعه ، فقالت كل قبيلة : نحن نضعها ، ثم اتفقوا على أن يضعه أول داخل عليهم ، فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : جاء الأمين ، فرضوا به ، فأمر بثوب ، فوضع الحجر في وسطه ، وأمر كل قبيلة أن ترفع بجانب من جوانب الثوب ، ثم أخذا الحجر فوضعه موضعه صلى الله عليه وسلم .
************************
(إشتجروا) أي تخاصموا.
(وأمر كل قبيلة أن ترفع بجانب من جوانب الثوب ) من أجل أن يكون الجميع حمله (كل قبيلة) المراد به هنا بعض أي من كل قبيلة يقوم بعضهم يحمله.
الحديث هو في مسند أحمد (24/ 262)من طريق مُجَاهِدٍ، عَنْ مَوْلَاهُ وهو السائب بن عبد الله أَنَّهُ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ كَانَ فِيمَنْ يَبْنِي الْكَعْبَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: وَلِي حَجَرٌ أَنَا نَحَتُّهُ بِيَدَيَّ أَعْبُدُهُ مِنْ دُونِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَأَجِيءُ بِاللَّبَنِ الْخَاثِرِ الَّذِي أَنْفَسُهُ عَلَى نَفْسِي، فَأَصُبُّهُ عَلَيْهِ، فَيَجِيءُ الْكَلْبُ فَيَلْحَسُهُ، ثُمَّ يَشْغَرُ فَيَبُولُ فَبَنَيْنَا حَتَّى بَلَغْنَا مَوْضِعَ الْحَجَرِ، وَمَا يَرَى الْحَجَرَ أَحَدٌ، فَإِذَا هُوَ وَسْطَ حِجَارَتِنَا مِثْلَ رَأْسِ الرَّجُلِ يَكَادُ يَتَرَاءَى مِنْهُ، وَجْهُ الرَّجُلِ فَقَالَ: بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ نَحْنُ نَضَعُهُ، وَقَالَ: آخَرُونَ نَحْنُ نَضَعُهُ، فَقَالُوا: اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ حَكَمًا، قَالُوا: أَوَّلَ رَجُلٍ يَطْلُعُ مِنَ الْفَجِّ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَتَاكُمُ الْأَمِينُ، فَقَالُوا لَهُ، " فَوَضَعَهُ فِي ثَوْبٍ، ثُمَّ دَعَا بُطُونَهُمْ فَأَخَذُوا بِنَوَاحِيهِ مَعَهُ، فَوَضَعَهُ هُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " .
وذكره الشيخ الألباني ـ رحمه الله تعالى ـ في صحيح السيرة 45 .
الشاهد من ذكْرِه أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ كان في حماية وصيانة من صغره عن خصال الجاهلية ، وصفاتهم الرذيلة ، وأفعالهم المنكرة ، كعبادة الأصنام وشرب الخمر، والزنى ، والأخلاق الذميمة، مثل: نهب الأموال ، والسرقة ، والكذب ، وقد كانت هذه منتشرة في الجاهلية ، وصان الله سبحانه نبيه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ عن ذلك ، حتى إنهم كانوا يلقبون النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بالصادق الأمين ، ولما نادى قريشاً فجاءوا فقال لو أخبرتكم بشيء أكنتم مصدقي، فقالوا : ما جربنا عليك كذبا ) شهدوا له بالصدق ، فقال : فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ اليَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}. أخرجه البخاري(4770) ومسلم (208)عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
ومن صيانة الله له ما أخرج البخاري(364 ) ومسلم (340) عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْقُلُ مَعَهُمُ الحِجَارَةَ لِلْكَعْبَةِ وَعَلَيْهِ إِزَارُهُ» ، فَقَالَ لَهُ العَبَّاسُ عَمُّهُ: يَا ابْنَ أَخِي، لَوْ حَلَلْتَ إِزَارَكَ فَجَعَلْتَ عَلَى مَنْكِبَيْكَ دُونَ الحِجَارَةِ، قَالَ: «فَحَلَّهُ فَجَعَلَهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَسَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَمَا رُئِيَ بَعْدَ ذَلِكَ عُرْيَانًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» .
قال النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث :وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ بَعْضِ مَا أَكْرَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتعالى بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَصُونًا مَحْمِيًّا فِي صِغَرِهِ عَنِ الْقَبَائِحِ وَأَخْلَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ .
وأما ما جاء في قول الله سبحانه وتعالى{ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى}[الضحى:7] فهذا ليس من الضلال الذي هو ضد الهدى ، وهكذا قوله تعالى { وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}[يوسف:7] ولكن المراد أنه كان غافلاً عن تفاصيل الحق والهدى ، كما يقول المفسرون والله تعالى أعلم.
وهذه القصة المذكورة في بناء قريش الكعبة ، فإنها كانت هُدمت هدمها السيل فقاموا وبنوها ، ولكنهم لما وصلوا إلى حمل الحجر الأسود اختلفوا حتى كادوا أن يقتتلوا من يحمله ، فقال واحد منهم : نحكِّم أوَّل داخل فإذا بالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، وحكَم بهذا ، وانتهوا وانقطع الخلاف الذي كان قد حصل بينهم.
نكون انتهينا من هذا الفصل ولله الحمد.
أم سمية الأثرية
2016-01-09, 21:49
الدرس الرابع من/الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم /11من شهر صفر 1437.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ
فصل ـ مبعثُه صلى الله عليه وسلم
و لمَّا أراد الله تعالى رحمةَ العباد ، وكرامتَه بإرساله إلى العالمين ، حَبَّب إليه الخلاء ، فكان يتحنَّث في غار حراء ، كما كان يصنع ذلك متعبدو ذلك الزمان ، كما قال أبو طالب في قصيدته المشهورة اللامية :
و ثورِ و مَن أرسَى ثبيراً مكانه
وراقٍ لبرٍ في حراءٍ و نازل
*******************************
(حَبب إليه الخلاء ) أي: الله سبحانه وتعالى حَبَّب إليه.
و (الخلاء) أي: الانفراد.
(فكان يتحنث في غار حراء ) التحنث: التعبد .
وهذا قِطعة من حديث عائشة رضي الله عنها المتفق عليه.
قال النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث من صحيح مسلم : أَمَّا الْخَلَاءُ فَمَمْدُودٌ وَهُوَ الْخَلْوَةُ وَهِيَ شَأْنُ الصَّالِحِينَ وَعِبَادِ اللَّهِ الْعَارِفِينَ .
قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : حُبِّبَتِ الْعُزْلَةُ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ مَعَهَا فَرَاغَ الْقَلْبِ وَهِيَ مُعِينةٌ عَلَى التَّفَكُّرِ وَبِهَا يَنْقَطِعُ عَنْ مَأْلُوفَاتِ الْبَشَرِ وَيَتَخَشَّعُ قَلْبُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ
هذا الفصل في شهر المبعث ، وأوِّل البِعثة ، وبيان أن الله عز وجل أرسل هذا النبي الكريم رحمة للعباد وكرامة له صلى الله عليه وسلم، فإن الناس قد كانوا في جاهلية جهلاء وفي شر وبلاء، كما ثبت في صحيح مسلم (2865) من حديث عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ ـ رضي الله عنه ـ وفيه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) .
مقتهم أي: أبغضهم الله لشدة فجورهم ، وانتشار الشركيات فيهم ، والفواحش ، والقتل ، و القتال ، والظلم والجهل المُطبِق فأرسلَ الله عز وجل هذا النبي الكريم رحمة للعباد ،كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107].
وقبل أن يوحى إليه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ حُبِّب إليه الخلاء فكان يتعبد لله عز وجل فيه، و في ذلك أثنى عمُّه أبو طالب بقوله:
و ثورٍ و مَن أرسى ثبيراً مكانه
وراقٍ لبِرٍّ في حِراء و نازل
(ثور، و ثبير، و حراء) جبال من جبال مكة.
(ومَن أرسى) أي: أثبت كقوله تعالى (وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا)[النازعات:32]. أي: أثبتها.
(ومَن أرسى) من : اسم موصول بمعنى الذي أي: الله عز وجل.
(وراقٍ) أي: صاعِد.
( لِبِرِّ ) البر: ضدُّ الإثم.
ويذكرون لأبي طالب لاميَّة في الثناء على النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـومناصرته له ، وقد ذكرها ابنُ إسحاق ـ رحمه الله تعالى ـ فيما ذكره ابنُ هِشامٍ في السيرة بطولها بدون إسناد (1/245) .فالله أعلم .
*******************************
(ففجأه الحقُّ و هو بغار حراء في رمضان ، و له من العمر أربعون سنة)
*******************************
(ففجأه الحق)
قال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (3/10)أي جَاءَ بَغْتَةً عَلَى غَيْرِ مَوْعِدٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَة من رَبك (1) " الْآيَة.
(و هو بغار حراء في رمضان)
هذا شهر المبعث الشهر الذي بعث فيه النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ هو شهر رمضان.
(و له من العمر أربعون سنة)
كان سن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لما نزل عليه الوحي أربعين سنة .
قال الشوكاني في فتح القدير-تفسير سورة الأحقاف -: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلَّا بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً .
وهذا هو سنُّ الأشد عند بعض العلماء ، وقد حكى الأقوالَ الشوكاني في فتح القدير-تفسير سورة الأنعام - وانتقدهذا وقال : اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْأَشُدِّ فَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: بُلُوغُهُ وَإِينَاسُ رُشْدِهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هُوَ الْبُلُوغُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ انتهاء الكهولة، ومنه قول سحيم الرّياحي:
أخو خمسين مجتمع أشدّي ... ونجّدني مداورة الشّؤون
وَالْأَوْلَى فِي تَحْقِيقِ بُلُوغِ الْأَشُدِّ: أَنَّهُ الْبُلُوغُ إِلَى سِنِّ التَّكْلِيفِ مَعَ إِينَاسِ الرُّشْدِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي تَصَرُّفَاتِهِ بِمَالِهِ سَالِكًا مَسْلَكَ الْعُقَلَاءِ، لَا مَسْلَكَ أَهْلِ السَّفَهِ وَالتَّبْذِيرِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ:
{وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ } فَجَعَلَ بُلُوغَ النِّكَاحِ، وَهُوَ بُلُوغُ سِنِّ التَّكْلِيفِ مُقَيَّدًا بِإِينَاسِ الرُّشْدِ اهـ
قلت:وهذا ما استفدناه من والدي رحمه الله أن بلوغ الأشُد قد يكون قبل الأربعين .
وكان في يوم الاثنين ، كما في صحيح مسلم (1162) عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِإثْنَيْنِ ، قَالَ : ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ) .
قال ابن القيم في زاد المعاد (1/76) :وَلَا خِلَافَ أَنَّ مَبْعَثَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ .
فيوم الاثنين نزل على النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فيه الوحي ، نبئ النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يوم الاثنين في شهر رمضان ، وعمره أربعون سنة.
****************************
فجاءه الملك فقال له اقرأ ، قال لستُ بقارىء ، فغتَّه حتى بلغ منه الجَهد ، ثم أرسله فقال له : اقرأ ، قال : لست بقارئ ثلاثاً ثم قال : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}. فرجع بها رسولُ الله صلى الله عليه و سلم ترجف بوادرُه ، فأخبر بذلك خديجةَ رضي الله تعالى عنها ، و قال : قد خشيت بها على عقلي ، فثبَّتته و قالت : أبشر كلا و الله لا يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم ، و تصدْق الحديث و تحمل الكلَّ ، و تُعين على نوائب الدهر "...
في أوصاف أخر جميلة عددتها من أخلاقِه صلى الله عليه وسلم و تصديقاً منها له و تثبيتاً وإعانةً على الحق .
فهي أول صدِّيق له رضي الله تعالى عنها و أكرمها .
**************************
(فجاءه الملك فقال له اقرأ ، قال لست بقارئ، فغتَّه)
قال الخليل بن أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ في كتاب (العين): الغَتُ: كالغَطُ في الماء .
وروايةُ الصحيحين (فغطَّني)
قال النووي في شرح صحيح مسلم : أَمَّا غَطَّنِي فَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَمَعْنَاهُ عَصَرَنِي وَضَمَّنِي يُقَالُ غَطَّهُ وَغَتَّهُ وَضَغَطَهُ وَعَصَرَهُ وَخَنَقَهُ وَغَمَزَهُ كُلُّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ .
(حتى بلغ منه الجَهد)
الجَهد: المشقة.
وفي قوله سُبحانه {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}[العلق:3] دليلٌ على أن الذي يعطِي العلم ، ويعين على حفظه هو الله عز وجل ، فالإنسان يقرأ ويتعلم ويسأل ربه (الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ) والله سبحانه يعطيه من واسعِ فضله العظيم {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}[العلق:3]
وفي {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}[العلق:4] فضلُ الكتابة .
(فرجع بها رسولُ الله صلى الله عليه و سلم ترجف بوادرُه)
(ترجُف) أي: تضطرب.
(بوادرُه) قال النووي في شرح هذا الحديث :قال أبوعُبيدة وسائرُ أهل اللغة والغريب : البادرة هي اللحمة بين العنق والمنكب ، تضطرب عن فزع الإنسان.
(الكَلَّ): الثِّقل .
(نوائبُ الدهر) شدائده.
(و قالت : أبشر كلا و الله لا يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحمَ ، و تصدْق الحديث و تحمل الكلَّ ، و تُعين على نوائبِ الدهرِ) يستفاد منه التزكية لمن يستحقه .
وهذا عند الحاجة، وبشرط الأمن على المزكَّى من الإعجاب والغرور،فقد أخرج البخاري(2663 )ومسلم(3001) عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ فِي مَدْحِهِ، فَقَالَ: «أَهْلَكْتُمْ - أَوْ قَطَعْتُمْ - ظَهَرَ الرَّجُلِ» .
وثبت في صحيح مسلم ( 3002) من طريق هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ يَمْدَحُ عُثْمَانَ فَعَمِدَ الْمِقْدَادُ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ ، وَكَانَ رَجُلًا ضَخْمًا فَجَعَلَ يَحْثُو فِي وَجْهِهِ الْحَصْبَاءَ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: مَا شَأْنُكَ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمْ التُّرَابَ).
أما للحاجة ومع الأمن فلا بأس حتى لا نعين الشيطانَ عليه فقد يحمله المدح على الغرور والعجب وهما مَهْلكة.
ومرةً كان واحد من طلاب الوالد الشيخ مقبل ـ رحمه الله تعالى ـ في ( دار الحديث في دماج ) يلقي نصائح ـ وقد توفي رحمه الله ـ فكان مما قال : تُترَك التزكية ، فلما انتهى من كلامه ، قام الوالد ـ رحمه الله تعالى ـ وعقَّب على كلامه و قال: كيف نترك التزكية لأهل الأهواء ، و لا نزكي إخوانَنا ، وهم يقولون : جاء الشيخ ، خرج الشيخ.
وفي ترجمة الوالد الشيخ مقبل ـ رحمه الله تعالى ـ التي بقلمه ذكر عدداً من طلابه ، و زكَّاهم للمصلحة ، لمعرفة الطالب والانتفاع منه إذا كان عنده علم ، والمعصوم من عصمه الله ـ نسأل الله أن يثبتنا ولا يفتِنَّا ـ ذكرنا هذا للفائدة والمذاكرة.
موقف أمِّ المؤمنين خديجة - رضي الله عنها - يدل على قوة إيمانها وذكائها ورُجحان عقلها حيث قالت: كلا و الله لا يخزيك الله أبداً..) وهذا من مواقف المرأة الصالحة الوقوف مع الزوج بتثبيته وإعانته .
ومن هذا الباب ما جاء في صحيح البخاي (3578) ومسلم (2040)عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ـ رضي الله عنه ـ يَقُولُ: قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أَخْرَجَتْ خِمَارًا لَهَا فَلَفَّتْ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ، ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ يَدِي وَلَاثَتْنِي بِبَعْضِهِ ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ: فَذَهَبْتُ بِهِ فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَمَعَهُ النَّاسُ فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: بِطَعَامٍ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِمَنْ مَعَهُ قُومُوا، فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ، فَقَالَتْ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا عِنْدَكِ ، فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفُتَّ وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً فَأَدَمَتْهُ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ : ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلًا) .
(فَقَالَتْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ): أي إنما فعل النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ هذا لحكمة.
وهذا فيه معجزة للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ و ضيق حال النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وصحابته ، ولو كانت الدنيا مكرمةً لأكرم الله نبيه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وصحابته، لكن الكرامة و الميزان هوالتقوى كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات:13] .
والشاهد موقف أم سليم الطيب وقوة عقلها وحُسْن تصرفها وذكائها وثباتِها حيث قالت( الله ورسوله أعلم) لمّا قال لها أبوطلحة( يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ ) وقد كانت أقوى من أبي طلحة في هذا.
ولها موقف آخر أبلغ وأوقع في النفس ،من الثبات وقوة الصبر والتجلُّد، وهو ما أخرجه البخاري(5470) ومسلم (2144) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ يَشْتَكِي، فَخَرَجَ أَبُو طَلْحَةَ، فَقُبِضَ الصَّبِيُّ، فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو طَلْحَةَ، قَالَ: مَا فَعَلَ ابْنِي، قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: هُوَ أَسْكَنُ مَا كَانَ، فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ العَشَاءَ فَتَعَشَّى، ثُمَّ أَصَابَ مِنْهَا، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَتْ: وَارُوا الصَّبِيَّ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبُو طَلْحَةَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: «أَعْرَسْتُمُ اللَّيْلَةَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمَا» فَوَلَدَتْ غُلاَمًا، قَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: احْفَظْهُ حَتَّى تَأْتِيَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرْسَلَتْ مَعَهُ بِتَمَرَاتٍ، فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَمَعَهُ شَيْءٌ؟» قَالُوا: نَعَمْ، تَمَرَاتٌ، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَضَغَهَا، ثُمَّ أَخَذَ مِنْ فِيهِ، فَجَعَلَهَا فِي فِي الصَّبِيِّ وَحَنَّكَهُ بِهِ، وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ .
فقصة خديجة - رضي الله عنها - مع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لما بشَّرته وآنستْه ، وقصة أم سليم لأبي طلحة عندما (فَقَالَتْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) وقصتها الأخرى في وفاة ولدها.
من مجموع ذلك نستفيد فضل المرأة الصالحة ومنزلتها ، وفضل أم سليم وخديجة - رضي الله عنهما - وموقفهُما الحسن.
وفي قصة خديجة ـ رضي الله عنها ـ أيضاً تسليةُ مَن نزل به أمرٍ والتخفيف عنه .
ومن هذا ما في صحيح مسلم (203) عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: فِي النَّارِ. فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ).
يستفاد من مجموع الحديثين تسلية من حصل عليه شيء ومؤانسته ورفع معنويته.
وقد استدلَّت خديجةُ ـ رضي الله عنها ـ بهذه الصفات الكريمة التي هي من أشرف الأوصاف على تطمين النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وأنه لا خوفَ عليه ؛ لأن هذه صفات تعودُ على صاحبها بالخير والسلامة.
حديث أنس المذكور (إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ) وجه تسلية المصاب فيه أن الاشتراك في المصيبة يخُفِّف حرارتها ويُسلي كما قالت الخنساء :
وَلَوْلا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي ... عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
إلى أن قالت
وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ ... أَعَزِي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأسِي
قال النووي في شرح صحيح مسلم شرح حديث (إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ) :هو مِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ لِلتَّسْلِيَةِ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْمُصِيبَةِ .
ومن هذا الباب ما في البخاري(290) ومسلم (1211) واللفظ للبخاري عن عَائِشَةَ ـ رضي الله عنها ـ تَقُولُ خَرَجْنَا لَا نَرَى إِلَّا الْحَجَّ فَلَمَّا كُنَّا بِسَرِفَ حِضْتُ ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي، قَالَ: مَا لَكِ أَنُفِسْتِ ، قُلْتُ: نَعَمْ ، قَالَ : إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ قَالَتْ: وَضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ) .
هذه ثلاثة أدلة في مؤانسة المصاب والتسلية عليه.
قصة خديجة ـ رضي الله عنها ـ في مؤانسته وتذكيره أنه لن يُصيبَهُ سوءٌ لِما له من المحاسن والصفات الحميدة .
وحديث أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ (إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ) فيه ذكرالاشتراك في المصيبة.
و حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ في التذكير بالإيمان بالقدر (إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ..) .
والتسلية من جُملة الأدب ومن حق المسلم على أخيه المسلم بالتحدث معه بما يسلي عليه ويؤانِسُه ويُثبِّتُه.
وليس بما يُهيِّج الأمر ويزيدُهُ .
(فهي أول صدِّيق له رضي الله تعالى عنها و أكرمها)
(فهي أول) أول من أسلم مطلقاً أم المؤمنين خديجة - رضي الله عنها - وهذا من مناقِبها.
*******************************
ثم مكث رسولُ الله صلى الله عليه و سلم ما شاء اللهُ أن يمكثَ لا يرى شيئاً ، و فتر عنه الوحيُ ، فاغتمَّ لذلك و ذهب مراراً ليتردى من رُؤوس الجبال ، و ذلك من شوقه إلى ما رأى أول مرَّة ، من حلاوة ما شاهده من وحي الله إليه .
فقيل : إن فترة الوحي كانت قريباً من سنتين أو أكثر .
ثم تبدَّى له الملَك بين السماء و الأرض على كرسي ، و ثبَّته ، و بشَّره بأنه رسول الله حقاً ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه و سلم فرِق منه و ذهب إلى خديجة و قال : زمِّلوني . دثِّروني . فأنزل الله عليه {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)}.
و كانت الحالُ الأولى حالَ نبوةٍ و إيحاء ، ثم أمره الله في هذه الآية أن ينذرَ قومَه و يدعوهم إلى الله ) .
*******************************
(و فتر عنه الوحيُ ، فاغتمَّ لذلك)
فتور الوحي ذكر الحافظ ـ رحمه الله تعالى ـ وغيره أن الحكمة من ذلك ليذهب ما كان ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وجده من الروع ، وللشَّوق إلى العود .
(و ذهب مراراً ليتردى من رؤوس الجبال)
هذه اللفظة هي من بلاغات الزهري ـ رحمه الله تعالى ـ وهي عند البخاري برقم (6982)( وَفَتَرَ الوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فِيمَا بَلَغَنَا، حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رُءُوسِ شَوَاهِقِ الجِبَالِ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ مِنْهُ نَفْسَهُ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ، وَتَقِرُّ نَفْسُهُ، فَيَرْجِعُ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ ).
قال الحافظ ـ رحمه الله تعالى ـ في فتح الباري : إن القائل ( فيما بلغنا) هو الزهري .
قال الشيخ الألباني ـ رحمه الله تعالى ـ في السلسلة الضعيفة (10/ 453) يعني أنه ليس بموصول .
وحكم الشيخ الألباني رحمه الله على المتن بالنكارة ، وأنه قد جاء عن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في الحديث المتفق عليه (مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا) .
مدة فترة الوحي، يقول الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ هنا:
(كانت قريباً من سنتين أو أكثر).
(و كانت الحالُ الأولى حالَ نبوة و إيحاء)
الحالة الأولي أي السابقة في نزول صدرِ{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} .
(ثم أمره الله في هذه الآية أن ينذر قومَه و يدعوهم إلى الله )
وبهذا يجمع بين الدليلين، عائشة - رضي الله عنها - تقول : أول ما نزل {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)}[العلق] الخمس الآيات الأولى من سورة العلق. وفي حديث جابر بن عبدالله ـ رضي الله عنهما ـ أنه الخمس الآيات من سورة المدثر، فيجمع بينهما أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ نبئ بسورة العلق و أرسل بالمدثر.
*******************************
فشمَّر صلى الله عليه و سلم عن ساقِ التكليف ، وقام في طاعة الله أتمَّ قيام ، يدعو إلى الله سبحانه ، الكبير،والصغير ، و الحر والعبد ، و الرجال و النساء ، و الأسود و الأحمر ، فاستجاب له عبادُ الله من كلِّ قبيلة .
و كان حائزَ سبْقهم أبو بكر رضي الله عنه ، عبد الله بن عثمان التيمي و آزره في دين الله ، ودعا معه إلى الله على بصيرة ، فاستجاب لأبي بكر عثمانُ بنُ عفان ، و طلحةُ ، و سعدُ بن أبي وقاص.
و أما عليٌّ فأسلم صغيراً ابن ثماني سنين ، و قيل : أكثر من ذلك و قيل : كان إسلامه قبل إسلام أبي بكر ، و قيل : لا ، و على كلِ حال ، فإسلامُه ليس كإسلام الصدِّيق ، لأنه كان في كفالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذَه من عمِّه إعانةً له على سنة محل .
*******************************
( وكان حائزَ سبْقهم)
أي الذي حازَ السبْقَ.
(فاستجاب لأبي بكر عثمان بن عفان)
في أول البعثة اهتدى على يد أبي بكر رضي الله عنه ـ الذي آزر النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ونصره ـ استجاب له ـ عثمان وطلحة وهو ابن عبيدالله، وسعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنهم ـ كلهم من العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم .
وآخرُ العشرة المبشرين بالجنة موتاً سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ ، كما أن آخرَ أزواجِ النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ موتاً أم سلمة - رضي الله عنها - ، و آخر الصحابة موتاً على الإطلاق أبوالطفيل عامر بن واثلة ـ رضي الله عنه ـ
هذه المسألة في أوَّل مَن أسلم من صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ النص جاء أن أول من أسلم خديجة - رضي الله عنها - فإن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لما جاءه الملك وأنزل عليه القرآن رجع يرجف فؤاده ، ثم آمنت بذلك ، وثبتت النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فهي أول مَن آمَن مطلقاً وقد نصَّ على ذلك ابن كثير كما تقدَّم عنه حيث قال (فهي أول صدِّيق له رضي الله تعالى عنها و أكرمها) .
وقال رحمه الله في مختَصر علوم الحديث: وادعى الثعلبي المفسر على ذلك الإجماع قال: وإنما الخلاف فيمن أسلم بعدها اهـ.
ويذكر أهلُ المصطلح تفصيلاً : أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر ـ ، ومن النساء خديجة ، ومن الصبيان علي بن أبي طالب ، ومن الموالي زيد بن حارثة ، ومن الأرقاء بلال بن رباح رضي الله عنهم جميعاً .
قوله(و أما علي فأسلم صغيراً ابن ثماني سنين ، و قيل : أكثر من ذلك و قيل : كان إسلامه قبل إسلام أبي بكر ، و قيل : لا ، و على كل حال ، فإسلامه ليس كإسلام الصديق ، لأنه كان في كفالة رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذه من عمه إعانة له على سنة مَحْل .)
يعني كان تابعاً للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وقد جاء في صحيح البخاري وصحيح مسلم واللفظ للبخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ ) بخلاف أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ فإنه كان كبيراً وكان عن اقتناع أما الصغير فإنه يكون تابعاً .
(سنة مَحل) أي عام جَدْبٍ قال الجوهري في الصحاح : المَحْلُ: الجَدبُ، وهو انقطاع المطر ويبس الأرض من الكلاء.
*******************************
وكذلك أسلمت خديجةُ ، وزيد بن حارثة .
وأسلم القس ورقةُ بن نوفل فصدَّق بما وجد من وحي الله ، وتمنَّى أن لو كان جَذعاً ، و ذلك أول ما نزلَ الوحي ، و قد روى الترمذي : "أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رآه في المنام في هيئةٍ حسنة ، و جاء في حديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( رأيت القس عليه ثياب بيض ) " و في الصحيحين أنه قال : هذا الناموس الذي جاء موسى بن عمران . لما ذهبت خديجةُ به إليه ، فقصَّ عليه رسول الله صلى الله عليه و سلَّم ما رأى من أمر جبريل عليه السلام .
*******************************
( رأيت القس عليه ثياب بيض) في الصحاح (الْقَسُّ): رَئِيسٌ مِنْ رُؤَسَاءِ النَّصَارَى فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ وَكَذَا الْقِسِّيسُ) اهـ.
ورقة بنُ نوفل صحابي ابن عم خديجة ـ رضي الله عنها ـ
ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قُصي بن كلاب بن مرة ، وخديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قُصي بن كلاب بن مرة ، ويلتقيان مع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في قُصي ، وهما أقرب إلى قُصي بواحد .
لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو :محمد بنُ عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبدمناف بن قُصي بن كلاب ..
ورقة بن نوفل لما جاءت خديجة ـ رضي الله عنها ـ بالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إليه وقالت: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ) فأخبره فآمن بالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وقال: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ قَالَ نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا) .
وهذادليل أن ورقة بن نوفل كان مقرًّا برسالة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ، وهذا يدل على صحبته.
(جَذَعًا) أي : شاباً قوياً ، من أجل أن يكون عوناً للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وناصراً له .
(عُودِيَ) أي أوذي.
(النَّامُوسُ) يقول الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله تعالى في فتح الباري شرح هذا الحديث ـ : وَالْمُرَادُ بِالنَّامُوسِ هُنَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
قال :وَقَوْلُهُ " عَلَى مُوسَى " وَلَمْ يَقُلْ عَلَى عِيسَى مَعَ كَوْنِهِ نَصْرَانِيًّا ; لِأَنَّ كِتَابَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ ، بِخِلَافِ عِيسَى . وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
أَوْ لِأَنَّ مُوسَى بُعِثَ بِالنِّقْمَةِ عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَنْ مَعَهُ ، بِخِلَافِ عِيسَى . كَذَلِكَ وَقَعَتِ النِّقْمَةُ عَلَى يَدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفِرْعَوْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهُوَ أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَمَنْ مَعَهُ بِبَدْرٍ .
أَوْ قَالَهُ تَحْقِيقًا لِلرِّسَالَةِ ; لِأَنَّ نُزُولَ جِبْرِيلَ عَلَى مُوسَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ ، بِخِلَافِ عِيسَى فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ يُنْكِرُونَ نُبُوَّتَهُ اهـ.
وقال الحافظ ابنُ كثير في البداية (3/13): ، وَلَمْ يَذْكُرْ-أي ورقة - عِيسَى وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا بَعْدَ مُوسَى، لِأَنَّهُ كَانَتْ شَرِيعَتُهُ مُتَمِّمَةً وَمُكَمِّلَةً لِشَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَنَسَخَتْ بَعْضَهَا عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ.
كَمَا قَالَ: (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) [آل عمران: 50] .
وَقَوْلُ وَرَقَةَ هَذَا كَمَا قَالَتِ الْجِنُّ: (يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الحقِ إلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) [الأحقاف: 30] .اهـ
وهذه فائدةُ في بيان ذكرِ ورقة ومسلمي الجن لرسالة موسى دون عيسى عليهما السلام .
*******************************
و دخل من شرح اللهُ صدرَه للإسلام على نور وبصيرة و معاينة فأخذهم سفهاءُ مكة بالأذى والعقوبة ، و صان الله رسوله و حماه بعمِّه أبي طالب ، لأنه كان شريفاً مطاعاً فيهم ، نبيلاً بينهم ، لا يتجاسرُون على مفاجأته بشيء في أمر محمد صلى الله عليه و سلم لِما يعلمون من محبته له .
و كان من حكمةِ الله بقاؤه على دينهم لِما في ذلك من المصلحة .
وهذا رسول الله يدعو إلى الله ليلاً و نهاراً سرَّاً و جهاراً لا يصده عن ذلك صاد و لا يردُّه عنه راد ، و لا يأخذه في الله لومةُ لائم.
*******************************
(و دخل من شرح الله صدره للإسلام على نور وبصيرة و معاينة فأخذهم سفهاء مكة بالأذى و العقوبة )
وهذا فيه بيان من دخل في الإسلام بعد أولئك الذين تقدم ذكرهم، وهم من شرح الله صدرهم للإسلام ، وأنهم ابتُلوا بسفهاء مكة بالأذى، والعذاب و أنه لم يصل شيء إلى النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ من الأذى بسبب عمه أبي طالب فقد كان ينصره، ويحوطه كما تقدم، ويدفع عنه الأذى، ولمكانة أبي طالب بين قريش ما كانوا يتجرؤون على الأذى.
(لا يتجاسرون على مفاجأته بشيء في أمر محمد صلى الله عليه و سلم لما يعلمون من محبته له)
أي لا يتجرؤون على الاعتداء على النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لمكانة أبي طالب في نفوسهم ، ثم أشار إلى الحكمة في بقاء أبي طالب بقوله:
(و كان من حكمة الله بقاؤه على دينهم لما في ذلك من المصلحة)
نعم لمصلحة الإسلام وقد تقدم شيء من هذا.
(وهذا رسول الله يدعو إلى الله ليلاً و نهاراً سراً و جهاراً لا يصده عن ذلك صاد و لا يرده عنه راد ، و لا يأخذه في الله لومةُ لائم)
بسبب حماية عمه أبي طالب له و نصرته له ،وهذا من دفاع الله عن نبيه وحِفظه له فهو الذي قيَّض عمَّه لمحبته ونصرته .
هذا الباب في مبعث النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وبيان حال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمَّا فَجِأَهُ الوحي .
وأن شهر المبعث هو شهر رمضان، وكان في غار حراء، وهو ابن أربعين سنة.
وأول ما نزل من القر آن .
وفي بيان أول من أسلم من الصحابة ، فهؤلاء جملةٌ لهم السبْق في الإسلام خديجة ، أبوبكر ، علي ، طلحة ،سعدابنُ أبي وقاص ، ورقة بن نوفل ـ رضي الله عنهم جميعاً ـ هؤلاء لهم السبق في الإسلام .
نكون انتهينا من هذا الفصل ولله الحمد والشكر .
أم سمية الأثرية
2016-01-09, 21:52
الدرسُ الخامس من /الفصول من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم 29من شهر صفر 1437.
فصل : فتنةُ المعَذَّبِين والهجرة إلى الحبشة
و لمَّا اشتدَّ أذى المشركين على مَن آمن وفَتَنُوا منهم جماعةً حتَّى إنهم كانوا يَصْبِرونهم ، و يُلقونهم في الحرِّ ، و يضعُونَ الصخرةَ العظيمةَ على صدرِ أحدِهم في شدَّة الحر ، حتى إنَّ أحدَهم إذا أُطْلِق لا يستطيعُ أن يجلسَ من شدَّة الألمِ فيقولون لأحدهم : اللَّاتُ إلهُك من دون الله . فيقول مُكْرَهاً : نعم ! و حتى إن الجُعَل ليمُرُّ فيقولون : و هذا إلهُك من دون الله . فيقول نعم ! و مَرَّ الخبيثُ عدوُّ الله أبو جهل عمرو بن هشام بسميةَ أمِّ عمار وهي تعذَّب و زوجُها وابنُها ، فطعنَها بحربةٍ في فرجها فقتلَها ، رضي اللهُ عنها و عن ابنِها و زوجِها .
******************************
عندنا في هذا الفصل فتنةُ المعذَّبين من الصحابةِ رضي اللهُ عنهم وبيانُ الهجرتين الأولى والثانية إلى الحبشة .
وسببُ اشتدادِ أذى المشركين للمسلمين أنهم رَأوا انتشارَ الإسلام، وكثرة من يسلم فاغتاظوا لذلك، وازداد أذاهم .
شأنُ الأعداء أنهم يغيظهم ظهورُ الحق وانتشارُ الحق .
ومما استفدنا من الوالد الشيخ مقبل ـ رحمه الله تعالى ـ في هذا ( الدَّعوَةُ إِذَا قَوِيَت كَثُرَ أَعدَاؤُهَا).
{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } .
ثم ذكر الحافظُ ابنُ كثير ـ رحمه الله تعالى ـ أنواعًا من أذى كفارِ قريش للمسلمين .
فقال: (حتى إنهم كانوا يَصْبِرونهم) قال ابنُ الأثير في النهاية عن حديث :نَهى النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم عَنْ
قَتْل شَيْءٍ مِنَ الدَّواب صَبْراً» قال :هُوَ أَنْ يُمسَك شيءٌ من ذوات الرُّوح حيَّا ثم يُرْمى بِشَيْءٍ حَتَّى يَمُوتَ.
(حتَّى إن أحدَهم إذا أُطلِق)
أُطلق: أي خُلِّي سَبيلُه .
(فيقولون لأحدهم : اللَّاتُ إلهُك من دون الله . فيقول مُكرهاً : نعم !)
في بعض النسخ ( اللَّاتي ) والموافق للقرآن لفظ اللَّاتُ.
وهذا أحد موانع التكفير. فالتكفير له موانع:
الأول: الإكراه ، قال سبحانه و تعالى: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)} [النحل:106] .
الثاني: الخطأ ، فإذا سبق اللسانُ إلى كلمةٍ كفريةٍ لا يضر، قال سبحانه و تعالى: { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا... } [البقرة:286] وقال سبحانه {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ }.
و في صحيح مسلم (2747) من حديث أنسِ بن مالك قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ) .
وفي معناهُ مَنْ أُغلق على عقله وغُطِّيَ عليه ، بسبب غضبٍ ،أو فرح ، أو سُكْرٍ ، ونحو ذلك ففي الصحيحين عن عليٍّ رضي اللهُ عنه أن حمزة سَكِرَ فقال حَمْزَةُ للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولِمن معه من الصحابة : هَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي؟ .
الثالث: الجهل ، قال سبحانه و تعالى: {... وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) } [الإسراء:15] .
وقال : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } .
وأخرج البخاري (7506) ومسلم (2756) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ: فَإِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ وَاذْرُوا نِصْفَهُ فِي البَرِّ، وَنِصْفَهُ فِي البَحْرِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لاَ يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ العَالَمِينَ، فَأَمَرَ اللَّهُ البَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ البَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: لِمَ فَعَلْتَ؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ، فَغَفَرَ لَهُ " .
فهذا الرجل شكَّ في قدرة الله عز وجل ، والشك في قدرة الله كفر، لكن هذا الرجل لما كان جاهلاً ما ضرَّه في دينه و لا دخل بقوله في الكفر.
وهكذا قصةُ الحواريِّين ، قال سبحانه و تعالى عن الحواريين: { إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) } [المائدة:112] .
ما كفَّرهم عيسى عليه السلام لكن أمرهم بتقوى الله وحذَّرهم من هذا القول .
الرابع وهو الأخير: التأويلُ السائغ، هناك تأويلات لا تُبرِّر العذرَ لصاحبها، مثل: أن ينكر شيئاً معلوماً من الدين ضرورة.
كإنكار البعث وجحد الصلوات الخمس و ما أشبه ذلك .
إلا إذا كان حديثَ عهدٍ بإسلام قال الشيخُ ابنُ عثيمين رحمه الله في القواعد المُثلى 89 : قال أهلُ العلم: لا يكفر جاحد الفرائض إذا كان حديث عهد بإسلام حتى يُبيَّن له.اهـ
وهكذا التأويل السائغ مانعٌ من الكفر .
قال الشيخُ ابنُ عثيمين رحمه الله في شرح كشف الشبهات43: من الموانع أيضاً أن يكون شبهة تأويل في الكفر بحيث يظن أنه على حق، لأن هذا لم يتعمد الإثمَ والمخالفة .
قال : فيكون داخلاً في {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ }.
قال : ولأن هذا غاية جهده فيكون داخلاً في قوله - تعالى-: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } .
قال في المغني 8/131: وإن استحل قتلَ المعصومين وأخذ أموالِهم بغير شبهة ولا تأويل فكذلك - يعني يكون كافراً - وإن كان بتأويل كالخوارج فقد ذكرنا أن أكثر الفقهاء لم يحكموا بكفرهم مع استحلالهم دماء المسلمين وأموالهم، وفعلهم ذلك متقربين به إلى الله تعالى .
إلى أن قال وقد عُرف من مذهب الخوارج تكفير كثير من الصحابة ومن بعدهم واستحلال دمائهم، وأموالهم، واعتقادهم التقرب بقتلهم إلى ربهم، ومع هذا لم يحكم الفقهاءُ بكفرهم لتأويلهم، وكذلك يخرج في كل محرم استحل بتأويل مثل هذا". اهـ المرادُ
هذه أربعة أمور من موانع التكفير .
والتكفير مسألة خطيرة جدَّاً يُرجَع فيها إلى العلماء ، لأنهم السادةُ والقادةُ ،وهم الذين يُقيمون الحُججَ
كما قال تعالى {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } .
وبسببِ عدم الرجوعِ إلى أهل العلم الراسخين حصل انتشارُ التكفير وقد روى البخاري ومسلم واللفظ لمسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لاَ يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلًا بِالفُسُوقِ، وَلاَ يَرْمِيهِ بِالكُفْرِ، إِلَّا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ» .
وقولهُ (و حتى إن الجُعَل ليمر فيقولون : وهذا إلهُك من دونِ الله . فيقول نعم !).
قال الدَّمِيري في حياة الحيوان الكبرى (1/ 281 ) : الجُعَل كصُرَد ورُطب جمعه جِعْلان بكسر الجيم والعين ساكنة.
والناس يسمونه أبا جعران لأنه يجمع الجعر اليابس ويدخره في بيته.
وهو أكبر من الخُنفساء شديد السواد، في بطنه لون حمرة، للذكر قرنان، يوجد كثيرا في مراح البقر والجواميس ومواضع الروث .
ويتولَّدُ غالبا من أخثاء البقر ،ومن شأنه جمعُ النجاسة وادِّخارها .
ومن عجيب أمره أنه يموت من ريح الورد وريح الطيب، فإذا أعيد إلى الروث عاش .
وله جناحان لا يكادان يُريان إلا إذا طار ، وله ستة أرجل وسنام مرتفع جداً .
وهو يمشي القهقرى أي يمشي إلى خلف وهو مع هذه المشية يهتدي إلى بيته .
وإذا أراد الطيران تنفَّش فيظهر جناحاه فيطير .
ومن عادتِه أن يحرس النيامَ فمن قام لقضاء حاجته تبعه وذلك من شهوته للغائط لأنه قوَّته.اهـ المراد
(فيقولون : وهذا إلهك من دون الله . فيقول نعم !).
من شدَّة التعذيب يُظهر الكفر مُكْرَهَاً وهو في الباطن مؤمن ولهذا جزمَ أهلُ العلم أنَّ مكة لم يكن فيها نفاقٌ اعتقادي لضعف المسلمين ، ولا يُسلم فيها إلا مَن كان عن رغبة في الإسلام .
وقد فصَّل ابنُ كثير في تفسيره بكلامٍ يُستفادُ منه تاريخ ظهور النفاق -أعاذنا الله منه- .
قال في تفسير قوله تعالى { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ..} إِنَّمَا نَزَلَتْ صِفَاتُ الْمُنَافِقِينَ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ
لِأَنَّ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نِفَاقٌ بَلْ كَانَ خِلَافُهُ، مِنَ النَّاسِ مَنْ كَانَ يُظْهِرُ الْكُفْرَ مُسْتَكْرَهًا وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ مُؤْمِنٌ.
فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ بِهَا الْأَنْصَارُ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَكَانُوا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ
يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ عَلَى طَرِيقَةِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَبِهَا الْيَهُودُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى طَرِيقَةِ أَسْلَافِهِمْ وَكَانُوا ثلاث قبائل: بنو
قينقاع حلفاء الخزرج، بنو النَّضِيرِ وَبَنُو قُرَيْظَةَ حُلَفَاءُ الْأَوْسِ .
فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وَأَسْلَمَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ قَبِيلَتَيِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَقَلَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ إِذْ ذَاكَ نِفَاقٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدُ شَوْكَةٌ تُخَافُ، بَلْ قَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَادَعَ الْيَهُودَ وَقَبَائِلَ كَثِيرَةً مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ حَوَالَيِ المدينة فلما كانت وقعة بدر وأظهر الله كلمته وأعز الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِيِّ بْنِ سَلُولَ وَكَانَ رَأْسًا فِي الْمَدِينَةِ وَهُوَ مِنَ الْخَزْرَجِ وَكَانَ سَيِّدَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى أَنْ يُمَلِّكُوهُ عَلَيْهِمْ فَجَاءَهُمُ الْخَيْرُ وَأَسْلَمُوا وَاشْتَغَلُوا عَنْهُ فَبَقِيَ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ بدر قال: هذا أمر الله قَدْ تَوَجَّهَ فَأَظْهَرَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ وَدَخَلَ مَعَهُ طَوَائِفُ مِمَّنْ هُوَ عَلَى طَرِيقَتِهِ وَنِحْلَتِهِ وَآخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.
قال : فَمِنْ ثَمَّ وُجِدَ النِّفَاقُ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْأَعْرَابِ .
قال : فَأَمَّا الْمُهَاجِرُونَ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ نافق لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُهَاجِرُ مُكْرَهًا بَلْ يهاجر فيترك مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَأَرْضَهُ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. اهـ
(و مرَّ الخبيثُ عدُوُّ الله أبو جهل عمرو بن هشام بسميَّة أم عمار، وهي تعذَّب وزوجها وابنها ، فطعنها بحربة في فرجها فقتلها ، رضي الله عنها و عن ابنها وزوجها.)
هؤلاء الثلاثةُ -وهم آلُ ياسرٍ- عذَّبهم المشركون ولهم السَبْق في الإسلام، وهم ممَّن فتنَهم المشركون.
وأوَّل من أظهر الإسلامَ سبعةٌ ، وأمَّا الباقون فكانوا يخفون إسلامهم، خوفاً من إهانةِ وتعذيب المشركين لهم.
أخرج ابنُ ماجة في سننه (150 )عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: " كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ سَبْعَةٌ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَمَّارٌ، وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَالْمِقْدَادُ، فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ، وَصَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ، فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وَاتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا، إِلَّا بِلَالًا، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، فَأَخَذُوهُ فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ، فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّةَ، وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ " .
والحديث حسن من أجل عاصم ابنِ أبي النجود ، وقد حسَّنه والدي رحمه الله في الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين رقم 847.
فهؤلاء السبعةُ سبقوا في إظهار الإسلام ومنهم عمَّار ووالدته سُميَّة رضي الله عنهم جميعاً .
واتوهم أي وافقوهم تقيةً ، نعوذ بالله من الفتن .
وهناك حديث أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (1508 ) والحاكم في المستدرك (5666 )من طريق أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَبِأَهْلِهِ، وَهُمْ يُعَذَّبُونَ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ: «أَبْشِرُوا آلَ يَاسِرٍ، مَوْعِدُكُمُ الْجَنَّةُ».
وأبوالزبير مدلِّسٌ وقد عنعن .
وله شواهدُ وقد ذكرهُ الشيخُ الألباني رحمه الله في صحيح السيرة .
سمية والدة عمار ، كانت عجوزاً ضعيفة ، وقد عذَّبها المشركون لترجع عن دينها .
ويذكرون -والله أعلم -وكذا يذكره أهلُ السير أنه مرَّ بها أبو جهل فطعنها في قُبُلِها فماتت - رضي الله عنها - .
يقول أهل السير: وهي أولُ شهيدة في الإسلام .
ياسر زوجها صحابي جليل وعُذِّب في الله عز وجل ، وكذلك عمار بن ياسر وهو أبواليقظان، هؤلاء الثلاثة ممن عذَّبهم الكفار وفتنوهُم ، والفتنة هي الابتلاء .
****************************
و كان الصِدِّيق رضي الله تعالى عنه إذا مرَّ بأحد من الموالي يُعذَّب ، يشتريه من مواليه ،ويعتقُه ، منهم بلال ، وأمه حمَامة ، و عامر بن فُهيرة ، وأم عُبَيْس ، و زُهيرة ، و النَّهدية ، و ابنتُها ، و جارية لبني عدي ، كان عمر يعذِّبها على الإسلام قبل أن يُسلم . حتى قال له أبوه أبو قحافة : يا بُنيَّ ، أراك تُعتق رقاباً ضعافاً فلو أعتقت قوماً جُلْداً يمنعونك . فقال له أبو بكر : إني أريد ما أريد . فيقال إنه نزلت فيه { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى }، إلى آخر السورة .
******************************
قوله (و كان الصدِّيق رضي الله تعالى عنه) أبوبكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ ممن أُذن له في الهجرة إلى الحبشة، لكنه
لما وصل إلى بَرْكِ الغماد - موضع - لقيه ابنُ الدَّغنة فيه وجعله في جواره فرجع رضي اللهُ عنه وتقدم في الشرح (فَأَمَّا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ ).
ونسوقُ الشاهد من قصة أبي بكرٍ في هذا للعبرة والاستفادة .
في صحيح البخاري (3905) أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَخْرَجَنِي قَوْمِي فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الْأَرْضِ وَأَعْبُدَ رَبِّي قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ فَإِنَّ مِثْلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ إِنَّكَ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَأَنَا لَكَ جَارٌ ارْجِعْ وَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبَلَدِكَ فَرَجَعَ وَارْتَحَلَ مَعَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ فَطَافَ ابْنُ الدَّغِنَةِ عَشِيَّةً فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلَا يُخْرَجُ أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَيَصِلُ الرَّحِمَ وَيَحْمِلُ الْكَلَّ وَيَقْرِي الضَّيْفَ وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ فَلَمْ تُكَذِّبْ قُرَيْشٌ بِجِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ وَقَالُوا لِابْنِ الدَّغِنَةِ مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَلْيُصَلِّ فِيهَا وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ وَلَا يُؤْذِينَا بِذَلِكَ وَلَا يَسْتَعْلِنْ بِهِ فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا فَقَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لِأَبِي بَكْرٍ فَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ وَلَا يَسْتَعْلِنُ بِصَلَاتِهِ وَلَا يَقْرَأُ فِي غَيْرِ دَارِهِ ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَنْقَذِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ وَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ بِجِوَارِكَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَقَدْ جَاوَزَ ذَلِكَ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ فَأَعْلَنَ بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهِ وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا فَانْهَهُ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ وَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ بِذَلِكَ فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ فَإِنَّا قَدْ كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ الِاسْتِعْلَانَ قَالَتْ عَائِشَةُ فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَاقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ وَإِمَّا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيَّ ذِمَّتِي فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فَإِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ...) الحديث .
(أَخْرَجَنِي قَوْمِي فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الْأَرْضِ وَأَعْبُدَ رَبِّي)ما أخبره بالجهة التي يقصدها خوفاً على نفسه. (فَلَمْ تُكَذِّبْ قُرَيْشٌ بِجِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ) أي لم يردُّوا قوله) .
( فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ بِجِوَارِكَ ) رفعوا الأمر إلى ابن الدغنة.( فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ) كان عندهم محافظة على سمعتهم ووفاء بالوعد.
استفدنا من هذا أن أبابكر ـ رضي الله عنه ـ كان قد أُذن له بالهجرة إلى الحبشة ثم رَجَعَ لما أمَّنَهُ ابن الدَّغِنَة.
( و كان الصدِّيق رضي الله تعالى عنه إذا مرَّ بأحدٍ من الموالي يُعذَّب ، يشتريه من مواليه و يعتقه).
مواليه هنا : أسياده.
(منهم بلال ، وأمه حَمامة ، و عامر بن فُهيرة ، وأم عُبَيْس ، و زهيرة ، و النهدية ، و ابنتها ، و جارية لبني عدي)
هؤلاء موالي لأبي بكرٍ لأنه أعتقهم رضي اللهُ عنهم أجمعين .
بلال : مولى أبوبكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ ولاء عتق .
وبلال بن رباح الحبشي مؤذن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ .
و أمه حمامة صحابية - رضي الله عنها - ممن كان يُعذَّبُ في الله .
ولها ترجمة في الإصابة في معرفة الصحابة للحافظ ابنِ حجر .
عامر بنُ فُهيرة : مولى أبي بكر كان ممن يُعذب في الله وقصته في الهجرة من مكة إلى المدينة مرافقاً للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبي بكر في صحيح البخاري (3905) .
أُمُّ عبيس :وقع في ط مكتبة الهدي المحمدي الطبعة الأولى : عَبْس .
والصواب ما أثبتناه قال ابن الأثير في أُسْدِ الغابة (7/353) :عبيس: بضم العين المهملة، وفتح الباء الموحدة، وتسكين الياء تحتها نقطتان، وآخره سين مهملة .
(و جارية لبني عدي كان عمرُ يعذبها على الإسلام قبل أن يُسلم).
وقد كان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ شديداً على المسلمين قبل إسلامه حتى إنه ثبت في صحيح البخاري من طريق قَيْس ـ وهو ابن أبي حازم ـ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ لِلْقَوْمِ: ( لَوْ رَأَيْتُنِي مُوثِقِي عُمَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ أَنَا وَأُخْتُهُ وَمَا أَسْلَمَ وَلَوْ أَنَّ أُحَدًا انْقَضَّ لِمَا صَنَعْتُمْ بِعُثْمَانَ لَكَانَ مَحْقُوقًا أَنْ يَنْقَضَّ) .
ربطَ عمرُ سعيدَ بن زيد أحد المبشرين بالجنة ،وزوجته فاطمة بنت الخطاب أخت عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم أجمعين - فعل ذلك تعذيباً لهم ، ولإرجاعهم من الإسلام إلى الكفر .
وفاطمةُ بنت الخطاب يقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى – تحت رقم (763) عن أُمِّ الْفَضْلِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ أَنَّ اسْمَهَا لُبَابَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةِ وَيُقَالُ إِنَّهَا أَوَّلُ امْرَأَةٍ أَسْلَمَتْ بَعْدَ خَدِيجَةَ .
قال : وَالصَّحِيحُ أُخْتُ عُمَرَ زَوْجُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ لِمَا سَيَأْتِي فِي الْمَنَاقِبِ مِنْ حَدِيثِهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَعُمَرَ مُوثِقِي وَأُخْتَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَاسْمُهَا فَاطِمَةُ .اهـ
هذه فائدة ،السيرة سهلة الحفظ و ممتعة و يفرح بها الصغار.
تقدم أول من أسلم من النساء خديجة .
وأول من أسلم من النساء بعد خديجة فاطمة بنت الخطاب .
وتقدم أول شهيدة في الإسلام سُمية رضي الله عنهن أجمعين .
عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أسلم كان في جُوار العاصِ بوَّب البخاري وقال : بَابُ إِسْلاَمِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
ومن ضِمْنِ ما ذكرهُ تحت هذا الباب برقم (3864) عن ابن عمر رضي الله عنهما قَالَ: بَيْنَمَا هُو –أي عمر - فِي الدَّارِ خَائِفًا، إِذْ جَاءَهُ العَاصِ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ أَبُو عَمْرٍو، عَلَيْهِ حُلَّةُ حِبَرَةٍ وَقَمِيصٌ مَكْفُوفٌ بِحَرِيرٍ، وَهُوَ مِنْ بَنِي سَهْمٍ، وَهُمْ حُلَفَاؤُنَا فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ لَهُ: مَا بَالُكَ؟ قَالَ: " زَعَمَ قَوْمُكَ أَنَّهُمْ سَيَقْتُلُونِي إِنْ أَسْلَمْتُ، قَالَ: لاَ سَبِيلَ إِلَيْكَ، بَعْدَ أَنْ قَالَهَا أَمِنْتُ، فَخَرَجَ العَاصِ فَلَقِيَ النَّاسَ قَدْ سَالَ بِهِمُ الوَادِي، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُونَ؟ فَقَالُوا: نُرِيدُ هَذَا ابْنَ الخَطَّابِ الَّذِي صَبَا، قَالَ: لاَ سَبِيلَ إِلَيْهِ فَكَرَّ النَّاسُ "
، فكرَّ الناس أي تركوا وانصرفوا؛ لأنه في جوار وائل بن العاص .
وعزَّ الله عز وجل الإسلامَ وتمكَّن الإسلامُ شيئاً فشيئاً لمَّا أسلم عمر ـ رضي الله عنه ـ ثبت في صحيح البخاري برقم (3863) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ).
الهداية بيد الله عز وجل ، عمر بن الخطاب قبل أن يسلم كان شديداً على المسلمين، ولما أسلم كان شجاعًا بطلاً مناصرًا للرسول ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وكان إسلامه فتحاً وقوَّةً للإسلام والمسلمين .
(حتى قال له أبوه أبو قحافة)
هذا والد الصدِّيق واسمه عثمان صحابي أسلم وقد كان كبيرًا في السن .
ونذكر هنا فائدة يقول ابن الصلاح ـ رحمه الله تعالى ـ : ( لا نعلم أربعة من الصحابة على نسقٍ سوى هؤلاء الأربعة هم محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة).
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله تعالى – في مختصر علوم الحديث (ويقاربهم عبدُ الله بن الزبير أمه أسماء بنت أبي بكر بن أبي قحافة )- رضي الله عنهم – جميعاً .
(يا بني ، أراك تُعتِق رقاباً ضعافاً فلو أعتقتَ قوماً جُلْداً يمنعونك )
أي: أقوياء يمنعونك ويكونون أنصاراً لك.
(فقال له أبو بكر : إني أريدُ ما أريد)
أريد الأجر في إنقاذ هؤلاء المستضعفين من أيدي المشركين.
(فيُقال إنه نزلت فيه {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} ، إلى آخر السورة.) [الليل:17،18]
هذا لم يثبت سنده ، جاء عند ابنِ أبي حاتمٍ في تفسير هذه الآية عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ أَعْتَقَ سبعة كلهم يعذب في الله، بلال وَعَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ وَالنَّهْدِيَّةَ وَابْنَتَهَا وَزِنِّيرَةَ وَأُمَّ عِيسَى وَأَمَةَ بَنِي الْمُؤَمِّلِ، وَفِيهِ نَزَلَتْ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى إِلَى آخَرِ السُّورَةِ .
وهذا منقطِعٌ .
قال العلائي رحمه الله في جامع التحصيل 236 قال أبو حاتم وأبو زرعة حديثه –أي عروة- عن أبي بكر الصديق وعمر وعلي رضي الله عنهم مرسل . اهـ
وله طريق أخرى مرسلة عند ابنِ هشام في السيرة 192 .
وقد حُكي ذلكَ إجماعاً قال ابنُ الجوزي في زادِ المسير في تفسير هذه الآية : يعني: أبا بكر الصدِّيق في قول جميع المفسرين .
وقال الحافظ ابنُ كثير في تفسيره : قَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ حَكَى الْإِجْمَاعَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى ذَلِكَ .
وَلَا شَكَّ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهَا وَأَوْلَى الْأُمَّةِ بِعُمُومِهَا فَإِنَّ لَفْظَهَا لَفْظُ الْعُمُومِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى }وَلَكِنَّهُ مُقَدَّمُ الْأُمَّةِ وَسَابِقُهُمْ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ وَسَائِرِ الْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا تَقِيًا كَرِيمًا جَوَادًا بَذَّالًا لِأَمْوَالِهِ فِي طَاعَةِ مَوْلَاهُ وَنُصْرَةِ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فَكَمْ مِنْ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ بَذَلَهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْكَرِيمِ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ عِنْدَهُ مِنَّةٌ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُكَافِئَهُ بِهَا، وَلَكِنْ كَانَ فَضْلُهُ وَإِحْسَانُهُ عَلَى السَّادَاتِ وَالرُّؤَسَاءِ مِنْ سَائِرِ الْقَبَائِلِ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ وَهُوَ سَيِّدُ ثَقِيفٍ يَوْمَ صُلْحِ الحديبية: أما والله لولا يدلك كَانَتْ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لَأَجَبْتُكَ .
وَكَانَ الصدِّيق قد أغلظ له في المقالة، فإن كَانَ هَذَا حَالُهُ مَعَ سَادَاتِ الْعَرَبِ وَرُؤَسَاءِ القبائل فكيف بمن عداهم، ولهذا قال تعالى:{ وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى}. اهـ
قلت: ومن الأدلة على أنه كان رضي الله عنه كريماً يعطي وينفق من ماله نصرة للإسلام وللحق ما أخرج البخاري في صحيحه(466) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ» ، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ؟ إِنْ يَكُنِ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ العَبْدَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا، قَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ لاَ تَبْكِ، إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلاَمِ وَمَوَدَّتُهُ، لاَ يَبْقَيَنَّ فِي المَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ، إِلَّا بَابُ أَبِي بَكْرٍ».
رضي اللهُ عنْ أبي بكرٍ الصِّديق وأرضاهُ .
******************************
فلمَّا اشتد البلاءُ أذِن الله سبحانه وتعالى في الهجرة إلى أرض الحبشة و هي في غرْب مكة ، بين البلدين صحارى السودان ، و البحر الآخذ من اليمن إلى القُلزُم .
فكان أول من خرج فاراً بدينه إلى الحبشة عثمان بن عفان رضي الله عنه ، و معه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم ، وتبعه الناس .
وقيل : بل أوَّل من هاجر إلى أرض الحبشة أبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك .
ثم خرج جعفرُ بن أبي طالب و جماعاتٌ رضي الله عنهم وأرضاهم و كانوا قريباً من ثمانينَ رجلاً .
و قد ذكر محمدُ بن إسحاق في جملةِ من هاجرَ إلى أرض الحبشة أبا موسى الأشعري عبدَ الله بن قيس ، وما أدري ما حمله على هذا ؟ فإن هذا أمرٌ ظاهر لا يخفى على مَن دونَه في هذا الشأن ، و قد أنكر ذلك عليه الواقدي وغيرُه من أهل المغازي ، و قالوا : إن أبا موسى إنما هاجر من اليمن إلى الحبشة إلى عند جعفر ، كما جاء ذلك مصرحاً به في الصحيح من روايته رضي الله عنه
******************************
(فلما اشتد البلاءُ أذن الله سبحانه وتعالى في الهجرة إلى أرض الحبشة و هي في غرْب مكة ، بين البلدين صحارى السودان ، و البحر الآخذِ من اليمن إلى القلزم)
وهذه هي الهجرة الأولى إلى الحبشة كانت سنة خمس من المبعث.
(فكان أول من خرج فاراً بدينه إلى الحبشة عثمانُ بن عفان رضي الله عنه)
مختلف في أول من خرج مهاجراً إلى الحبشة.
عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ خرج مهاجراً ومعه زوجته رقية بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ، وعثمان بن عفان ممن هاجر الهجرتين إلى الحبشة .
وقد أخرج ابنُ أبي عاصم في السنة (1311)عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: خَرَجَ عُثْمَانُ مُهَاجِرًا إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَمَعَهُ ابْنَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا احْتَبَسَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرُهُمْ، فَكَانَ يَخْرُجُ فَيَتَوَكَّفُ عَنْهُمُ الْخَبَرَ. فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَأَخْبَرَتْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَحِبَهُمَا اللَّهُ، إِنَّ عُثْمَانَ أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ إِلَى اللَّهِ بِأَهْلِهِ بَعْدَ لُوطٍ» .
لكن الحديث ضعيف. ذكرناه لمعرفة حاله، فيه بشار بن موسى الخفَّاف، قال عنه الإمام البخاري: منكر الحديث.
وذكره الشيخ الألباني ـ رحمه الله تعالى ـ في السلسلة الضعيفة (3181) .
هجرة الصحابة رضوان الله عليهم إلى الحبشة دليل على أنه إذا لم يتيسر الهجرة إلى بلد مسلمة، وكان هناك بلد كفر أخف فإنه يهاجر إليها ، والهجرة فيها مشقة؛ لأن المهاجر يترك أهله ووطنه و داره و ممتلكاته ويخرج فاراً بدينه إلى الله عز وجل ، و لكن في ذلك الأجر، والجزاء بالجنة لمن كانت نيته الهجرة إلى سبحانه وتعالى جعلنا الله و إياكم من أهل الجنة .
والنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يبشر؛ أنَّ هناك هجرةً أخرى ويقول: (إِنَّ الْمُهَاجِرَ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ) أي المهاجر الحقيقي ، الذي يترك المعاصي ،ويتقي الله عز وجل هذا يُعدُّ مهاجرًا.
(ثم خرج جعفرُ بنُ أبي طالب و جماعاتٌ رضي الله عنهم وأرضاهم)
مِن هنا يبدأُ ذكرُ الهجرةِ الثانية إلى الحبشة
الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ ذكر في هذا الفصل الهجرتين إلى الحبشة، الهجرة الأولى تكلم عنها في بدايةِ الفصل ، ثم ذكر الهجرة الثانية وبدايتها في قوله: (ثم خرج جعفر بن أبي طالب و جماعات رضي الله عنهم...)
الهجرة الأولى إلى الحبشة كان عدد الذين خرجوا أحد عشر رجلًا و أربع نسوة .
ومن الرجال عثمان بن عفان، و عثمان بن مظعون، و عبدالرحمن بن عوف، و الزبير بن العوَّام وآخرون.
والأربع النسوة أم سلمة، و رقية بنت النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ و سهلة زوجة أبي حذيفة، و ليلى.
وليلى بنت أبي حثمة ابن حذيفة قال الحافظ قال ابن سعد: أسلمت قديما، وبايعت وكانت من المهاجرات الأُوَل، هاجرت الهجرتين إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، يقال: إنها أول ظعينة دخلت المدينة في الهجرة، ويقال أم سلمة . يراجع الإصابة لابن حجر رحمه الله .
هؤلاء الذين ذهبوا إلى الحبشة في الهجرة الأولى تسلَّلُوا، و خرجوا مختَفين؛ لئلا يطَّلِع عليهم كفار قريش فيؤذوهم .
ثم بعد ذلك أخبارٌ أُشيعت أنَّ أهلَ مكة أسلموا، يقول بعضهم السبب في هذه الإشاعة ما في صحيح البخاري (1067) وصحيح مسلم (576)عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّجْمَ بِمَكَّةَ فَسَجَدَ فِيهَا وَسَجَدَ مَنْ مَعَهُ غَيْرَ شَيْخٍ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى - أَوْ تُرَابٍ - فَرَفَعَهُ إِلَى جَبْهَتِهِ، وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا "، فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا .
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم : هَذَا الشَّيْخُ هُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَقَدْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا وَلَمْ يَكُنْ أسْلَمَ قَطُّ .اهـ
فانتشر الكلام بإسلام أهل مكة ـ الله المستعان ـ فرجع بعضُ من هاجر. ولما رجعوا و رأوا أن العذاب والأذى أكثر مما كان، منهم من رجع إلى الحبشة ، ومنهم من بقي .
وبالنسبة لسجود المشركين فيه احتمالات منها : أنهم تأثَّروا بالقرآن، فإن القرآن مؤثِّر فلهذا سجدوا .
و منها أنه التبس عليهم أنه يمدح آلهتهم ، كما قيل (حُبُّك الشيء يعمي ويُصِمُّ).
أما ما جاء أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ مدحَ آلهتَهم في التلاوة و أنه قال كلمات منها : (تلك الغرانيقُ العُلى منها الشفاعة تُرتجى) ، و أنه نزل في ذلك قوله تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)} [الحج:52] .
فهذا ليس بصحيح وقد وعد الله عز وجل بحفظ دينه، والقصة منكرة ضعَّفها المحققون من أهل العلم.
قال القاضي رحمه الله في إكمال المُعْلِم (2/ 293) :لا يصح هذا فى شىءٍ من طريق النقل ، ولا من طريق العقل ؛ لأنَّ مدح اَلهة غير الله كفر الخ ما قال .
والشيخ الألباني ـ رحمه الله تعالى ـ له رسالة في تضعيفها (نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق) .
وكان الوالد الشيخ مقبل الوادعي ـ رحمه الله تعالى ـ أيضاً يضعفها.
والقصة مشهورة ، لكنه قد تشتهر أحاديث وهي مكذوبة، قد تشتهر أقوال وهي مكذوبة، والواجب التثبت.
وأما الهجرة الثانية إلى الحبشة فخرج فيها جعفر بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ هو و زوجته أسماء بنت عميس - رضي الله عنها - .
أسماء بنت عميس تزوجت بثلاثة بجعفر بن أبي طالب، ثم تزوجت بأبي بكر الصديق، ثم تزوجت بعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ
وممن خرج في هذه الهجرة أمُّ حبيبة - رملـة بنتُ أبي سفيان - رضي الله عنها - هي وزوجُها عبيد الله بن جحش خرجا هارِبَين بدينِهما .
أمَّا أمُّ حبيبة فثبتت على إسلامها، و أمَّا زوجها عبيدالله فارتدَّ و تنصَّرـ والعياذ بالله ـ وفي درسنا مواقف في الثبات سنذكرها بعدُ إن شاء اللهُ .
(و كانوا قريباً من ثمانين رجُلاً)
كم كان عدد أصحاب الهجرة الثانية؟ .
قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ : (و كانوا قريباً من ثمانين رجلاً) .
وكان عددُ النساء ثماني عشرةَ امرأة.
(و قد ذكر محمدُ بن إسحاق في جُملةِ مَن هاجر إلى أرض الحبشة أبا موسى الأشعري عبدَ الله بن قيس ، وما أدري ما حمله على هذا ؟ الخ)
فيه إشكال أن يكون أبوموسى الأشعري هاجر من مكة إلى الحبشة؛ لأنه ثبت أنه خرج من اليمن إلى الحبشة كما أخرج البخاري في صحيحه (3876) عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ فَرَكِبْنَا سَفِينَةً فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ فَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكُمْ أَنْتُمْ يَا أَهْلَ السَّفِينَةِ هِجْرَتَانِ) .
(فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ)يعني قدَراً، و لم يكن هذا مقصوداً جاءت أمواج فألقتْهم إلى الحبشة.
(فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ )فتحُ خيبر كان في السنة السابعة للهجرة.
من قال بأن أبا موسى الأشعري هاجر من مكة إلى الحبشة فهذا معتمِد على روايةٍ في مسند أحمد (7/ 408) عن عبدالله بن مسعود وهو يدل أن هجرته إلى الحبشة كانت من مكة .
ولكن الرواية فيها حُديج بن معاوية وهو ضعيف ، على هذا لا يعارض ما في الصحيح فإن الضعيف لا يقوى على معارضة الصحيح .
وأما الحافظ ابنُ حجر في فتح الباري تحت رقم (3876) فحسَّن إسنادَه ولهذا احتاج للجمع بين الروايتين وقال : وَقَدِ اسْتُشْكِلَ ذِكْرُ أَبِي مُوسَى فِيهِمْ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَبَا مُوسَى خَرَجَ مِنْ بِلَادِهِ هُوَ وَجَمَاعَةٌ قَاصِدًا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ فَأَلْقَتْهُمُ السَّفِينَةُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ فَحَضَرُوا مَعَ جَعْفَرٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ أَبُو مُوسَى هَاجَرَ أَوَّلًا إِلَى مَكَّةَ فَأَسْلَمَ فَبَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَنْ بَعَثَ إِلَى الْحَبَشَةِ فَتَوَجَّهَ إِلَى بِلَادِ قَوْمِهِ وَهُمْ مُقَابِلُ الْحَبَشَةِ مِنَ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ فَلَمَّا تَحَقَّقَ اسْتِقْرَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ بِالْمَدِينَةِ هَاجَرَ هُوَ وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَلْقَتْهُمُ السَّفِينَةُ لِأَجْلِ هَيَجَانِ الرِّيحِ إِلَى الْحَبَشَةِ فَهَذَا مُحْتَمَلٌ وَفِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَخْبَارِ فَلْيُعْتَمَدْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . اهـ
وينظر زاد المعاد (3/25) فلابن القيم كلامٌ على هذا .
(و قد أنكر ذلك عليه الواقدي)
محمد بن عمر من أصحاب المغازي وهو متروك.
******************************
فانحازَ المهاجِرون إلى ممْلكةِ أصْحمةَ النجاشي فآواهم و أكرمَهم ، فكانوا عنده آمنين . فلما علمت قريشٌ بذلك بعثتْ في إثرهم عبدَ الله بن أبي ربيعة و عمرو بن العاص بهدايا و تُحَف من بلادهم إلى النجاشي ، ليردَّهم عليهم ، فأبى ذلك عليهم و تشفَّعوا إليه بالقوَّاد من جُنده ، فلم يُجِبهم إلى ما طلبوا ، فوشَوا إليه : إنَّ هؤلاءِ يقولون في عيسى قولاً عظيماً ، يقولون : إنه عبدٌ ، فأُحضِر المسلمونَ إلى مجلسه ، و زعيمُهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، فقال : ما يقول هؤلاءِ إنكم تقولون في عيسى ؟ ! فتلا عليه جعفر سورة " كهيعص " فلما فرغ أخذ النَّجاشيُّ عوداً من الأرض فقال : ما زاد هذا على
ما في التوراة و لا هذا العُود ، ثم قال : اذهبوا فأنتم شُيومٌ بأرضي ، من سبَّكم غُرِّم ، و قال لعمرو وعبد الله : و الله لو
أعطيتموني دَبْراً من ذهب -يقول : جبلاً من ذهب -ما سلمتهم إليكما ، ثم أمر فرُدَّت عليهما هداياهما ، و رَجعا مقبُوحَيْنِ بشرِّ خَيبةٍ و أسوئِها.
******************************
(فانحاز المهاجرون إلى ممْلكةِ أصحمة النجاشي)
أصحمة اسم النجاشي، والنجاشي رجل فاضل، وهو من جملة المُخضرمين، و لما مات النجاشي صلى النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ عليه صلاة الغائب كما في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي اليَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ خَرَجَ إِلَى المُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا» .
ثم ذكر قصة الذين هاجروا إلى الحبشة وكيد قريش لهم لمَّا علمت إيواء النجاشي لهم ومحاولتهم رد المهاجرين إلى مكة فأرسلوا اثنينِ أحدُهما عمرو بنُ العاص بن وائل من دُهاة العرب والثاني عبدالله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي .
والقصة في مسند أحمد من حديث أم سلمة رضي اللهُ عنها بسندٍ حسن ونسوقُ الشاهدَ للاستفادة والتذكير .
تقول أمُّ سلمةَ رضي اللهُ عنها : إنه لَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا ائْتَمَرُوا أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ فِينَا رَجُلَيْنِ جَلْدَيْنِ، وَأَنْ يُهْدُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَا مِمَّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكَّةَ، وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيهِ مِنْهَا إِلَيْهِ: الْأَدَمُ، فَجَمَعُوا لَهُ أَدَمًا كَثِيرًا وَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقًا إِلَّا أَهْدَوْا لَهُ هَدِيَّةً، ثُمَّ بَعَثُوا بِذَلِكَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيَّ وَأَمَرُوهُمَا أَمْرَهُمْ وَقَالُوا لَهُمَا: ادْفَعَا إِلَى كُلِّ بِطْرِيقٍ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمُوا النَّجَاشِيَّ فِيهِمْ، ثُمَّ قَدِّمُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَاهُ، ثُمَّ سَلُوهُ أَنْ يُسَلِّمَهُمْ إِلَيْكُمْ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ قَالَتْ: فَخَرَجَا فَقَدِمَا عَلَى النَّجَاشِيِّ وَنَحْنُ عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ، وَخَيْرِ جَارٍ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقٌ إِلَّا دَفَعَا إِلَيْهِ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَا النَّجَاشِيَّ، ثُمَّ قَالَا: لِكُلِّ بِطْرِيقٍ مِنْهُمْ إِنَّهُ قَدْ صَبَا إِلَى بَلَدِ الْمَلِكِ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتُمْ، وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَى الْمَلِكِ فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ لِنَرُدَّهُمْ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا كَلَّمْنَا الْمَلِكَ فِيهِمْ فَأَشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يُسَلِّمَهُمْ إِلَيْنَا، وَلَا يُكَلِّمَهُمْ فَإِنَّ قَوْمَهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُمَا: نَعَمْ. ثُمَّ إِنَّهُمَا قَرَّبَا هَدَايَاهُمْ إِلَى النَّجَاشِيِّ فَقَبِلَهَا مِنْهُمَا، ثُمَّ كَلَّمَاهُ فَقَالَا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ .
ثم قالا له نحواً مما قالا لبطارقة النجاشي .
فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ: صَدَقُوا أَيُّهَا الْمَلِكُ قَوْمُهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ فَأَسْلِمْهُمْ إِلَيْهِمَا فَلْيَرُدَّاهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ وَقَوْمِهِمْ. قَالَ: فَغَضِبَ النَّجَاشِيُّ ثُمَّ قَالَ: لَا هَايْمُ اللهِ إِذًاً لَا أُسْلِمَهُمْ إِلَيْهِمَا وَلَا أَكَادُ قَوْمًا جَاوَرُونِي، وَنَزَلُوا بِلَادِي وَاخْتَارُونِي عَلَى مَنْ سِوَايَ حَتَّى أَدْعُوَهُمْ فَأَسْأَلَهُمْ مَا يَقُولُ هَذَانِ فِي أَمْرِهِمْ فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولَانِ أَسْلَمْتُهُمْ إِلَيْهِمَا وَرَدَدْتُهُمْ إِلَى قَوْمِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتُهُمْ مِنْهُمَا، وَأَحْسَنْتُ جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِي قَالَتْ: ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَاهُمْ فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولُهُ اجْتَمَعُوا. ثُمَّ قَالَ: بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَا تَقُولُونَ لِلرَّجُلِ إِذَا جِئْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَقُولُ وَاللهِ مَا عَلِمْنَا وَمَا أَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَائِنٌ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ فَلَمَّا جَاءُوهُ، وَقَدْ دَعَا النَّجَاشِيُّ أَسَاقِفَتَهُ فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ حَوْلَهُ، سَأَلَهُمْ فَقَالَ: مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ وَلَمْ تَدْخُلُوا فِي دِينِي وَلَا فِي دِينِ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَمِ؟ .
قَالَتْ: فَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ. حَتَّى بَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، " فَدَعَانَا: إِلَى اللهِ تَعَالَى لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَ بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ. وَنَهَانَا عَنْ: الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ. وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ ". قَالَ: فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ، وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ فَعَبَدْنَا اللهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا فَعَذَّبُونَا فَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ، وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنَ الْخَبَائِثِ، فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا، وَشَقُّوا عَلَيْنَا وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا، خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ، وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ، وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ.
قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: فَاقْرَأْهُ عَلَيَّ. فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ كهيعص. قَالَتْ: فَبَكَى وَاللهِ النَّجَاشِيُّ حَتَّى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُمْ حِينَ سَمِعُوا مَا تَلَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِيُّ: إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ انْطَلِقَا فَوَاللهِ لَا أُسْلِمُهُمْ إِلَيْكُمْ أَبَدًا وَلَا أَكَادُ. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: وَاللهِ لَآتِيَنَّهُ غَدًا أَعِيبُهُمْ عِنْدَهُ، ثُمَّ أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ.
قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَكَانَ أَتْقَى الرَّجُلَيْنِ فِينَا،: لَا تَفْعَلْ؛ فَإِنَّ لَهُمْ أَرْحَامًا، وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَالَفُونَا.
قَالَ: وَاللهِ لَأُخْبِرَنَّهُ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَبْدٌ. قَالَتْ: ثُمَّ غَدَا عَلَيْهِ الْغَدَ. فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَوْلًا عَظِيمًا، فَأَرْسِلْ إِلَيْهِمْ فَسَلْهُمْ عَمَّا يَقُولُونَ فِيهِ.
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَسْأَلُهُمْ عَنْهُ قَالَتْ: وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهَا فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى إِذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ؟ قَالُوا: نَقُولُ وَاللهِ فِيهِ مَا قَالَ اللهُ وَمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُمْ: مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؟ قَالَ لَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: نَقُولُ فِيهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ.
قَالَتْ: فَضَرَبَ النَّجَاشِيُّ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ، فَأَخَذَ مِنْهَا عُودًا. ثُمَّ قَالَ: مَا عَدَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ حِينَ قَالَ: مَا قَالَ فَقَالَ: وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاللهِ اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ سُيُومٌ بِأَرْضِي.، وَالسُّيُومُ: الْآمِنُونَ، مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ، ثُمَّ مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ، ثُمَّ مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ، فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي دَبْرَ ذَهَبٍ وَأَنِّي آذَيْتُ رَجُلًا مِنْكُمْ، وَالدَّبْر بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ: الْجَبَلُ، رُدُّوا عَلَيْهِمَا هَدَايَاهُمَا فَلَا حَاجَةَ لَنَا بِهَا الحديث .
والرواية التي ذكرها ابنُ كثير (شُيوم ) قَوْمٌ شُيُومٌ: آمِنُونَ، حَبَشِيَّةٌ. كذا في لسانِ العرب .
(من سبَّكم غرم ) عليه غرامة سجن أو مال أو عقوبةٌ هذا في السبِّ فكيف بالأذى والضرب والقتل .
و حديث أم سلمة في الصحيح المسند للوالد الشيخ مقبل الوادعي ـ رحمهما الله تعالى ـ .
(بشر خَيبة و أسوئِها)
الخيبةُ : الحِرمان .
وهذا الفصل في أذى المشركين للمسلمين بأنواعٍ من العذاب .
وثبات الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - مع شدة التعذيب الذي وقع لهم، والإهانة التي حصلت لهم، ولم يرجعوا عن دينهم ـ نسأل الله الثبات ـ .
وثبات النجاشي فإنه لما قال للمهاجرين إليه : اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي ، من سبكم غرم، نخرت بطارقته قال ابنُ الأثير في النهاية : أَيْ تَكَلَّمَتْ، وَكَأَنَّهُ كلامٌ مَعَ غَضَبٍ ونُفُور.
فقال النجاشي: وإن نخَرتم لن أُسْلمهم) .
عكس هِرَقل عظيم الروم ، هرقل جمع أصحابَه (فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الرُّومِ هَلْ لَكُمْ فِي الْفَلَاحِ وَالرُّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الْأَبْوَابِ فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ وَأَيِسَ مِنْ الْإِيمَانِ قَالَ رُدُّوهُمْ عَلَيَّ وَقَالَ إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ فَقَدْ رَأَيْتُ فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ) متفقٌ عليه .
بقى على كفره حتى توفي ، وقد كان في نفسه أن يُسلِمَ لكنه ما ثبَت أثَّر عليه جلساؤه ،فمن أسباب عدم الثبات جُلساءُ السوء ، وخاف أيضاً على المُلك، فالمُلك سُكْر وفتنة .
الجليس له تأثير عظيم في الخير وفي الشر، و لهذا ربنا تبارك و تعالى يقول: { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) }[الفرقان] .
يدعو بالويل على نفسه، يتحسر على مصاحبته لجليس السوء فقد سعى في إضلاله قولا وفِعْلا .
وفي سورة الصافات { قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)}
)مَدِينُونَ) أي مبعوثون. (مُطَّلِعُونَ): نطَّلع إلى هذا الذي كان يدعونا إلى الفساد والكفر والضلال يقول لأهل الجنة: (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ)أي: في وسط النار ـ والعياذ بالله - (قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ) كدت أن تهلكني بدعوتك . (وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) عزو النعمة إلى معطيها وهو الله عز وجل، وهكذا في كل الأحوال الإنسان يعترف بفضل الله عز وجل ، وهذا من تمام التوحيد ،لا يقول : هذا بذكائي ، وبحسن تصرفي ، الذي يعزو إلى نفسه ، هذا مخطئ ، هذا نقصٌ في التوحيد ، قال تعالى منكراً ذلك على قارون : { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ } [القصص:78] .
وهذا من الأخطاء في العقيدة ننتبه إلى هذا الأمر في كلامنا و تصرفاتنا و نربي أبنائنا على عزوِ النعمة إلى الله عز وجل .
درسُنا هذا اليوم عن هجرتي الصحابة إلى الحبشة لمَّا اشتدَّ أذى المشركينَ لهم .
وصبرُهم وثباتُهم على دين الله عز وجل، ومن قال شيئاً فإنما هو إكراهٌ رضي الله عنهم أجمعين .
أم سمية الأثرية
2016-01-09, 21:54
الدَّرْسُ السادسُ من /الفُصول من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم 4من ربيع الأوََل 1437
مذاكرةٌ قبل الدَّرس :
من نعمةِ الله أن الأمهاتِ الصالحات في غايةِ الحرص على صلاح أولادهن ، وفي غاية الحرص على أن يتعلموا العلم
الشرعي ، وعلى قربهم من الخير و أهل الخير ـ وجزى الله الأمهات الحاضرات خيرًا ـ وهذا من الواجبات المتحتمات
على المرأة -حرصها على صلاح أولادها والدعاء لهم .
ومن فضل الله ،الأمهات الآن في أشدِّ الحرص على استفادة
أولادها- ذُكوراً وإناثاً -وحفظهم للقرآن الكريم ، محفِّزات
على العلم والحفظ، واستغلال لهذا العمر النفيس .
حتى إنَّ من الأمهات من تقول: أنا مفرِّغة لابنتي تحفظ،
وتحضر الدروس، وتستفيد .
والمحروم من حُرِمَ نعمة العلم النافع ، ونعوذ بالله من الفتن .
نسأل الله أن يصلح الحال- الهمم هابطة ،والعزيمة ضعيفة ،
قطع على الناس -إلا من رحم ربي - طريقَ السعادة
والتجارةِ الخالدةِ الكسلُ والراحة ،وكثرة وسائلِ الضياع ،.
اطلب العلمَ ولا تكسل فمَا أبعدَ الخيرَ على أهلِ الكسل
وقد ذكر ابنُ القيم رحمه الله في مدارج السالكين (2/ 166) أنه
أَجْمَعَ عُقَلَاءُ كُلِّ أُمَّةٍ عَلَى أَنَّ النَّعِيمَ لَا يُدْرَكُ بِالنَّعِيمِ
وَأَنَّ مَنْ رَافَقَ الرَّاحَةَ فَارَقَ الرَّاحَةَ ، وَحَصَلَ عَلَى الْمَشَقَّةِ وَقْتَ
الرَّاحَةِ فِي دَارِ الرَّاحَةِ، فَإِنَّ قَدْرَ التَّعَبِ تَكُونُ الرَّاحَةُ .
عَلَى قَدْرِ أَهْلِ الْعَزْمِ تَأْتِي الْعَزَائِمُ ... وَتَأْتِي عَلَى قَدْرِ الْكَرِيمِ الْكَرَائِمُ
وَيَكْبُرُ فِي عَيْنِ الصَّغِيرِ صَغِيرُهَا ... وَتَصْغُرُ فِي عَيْنِ الْعَظِيمِ الْعَظَائِمُ
وَالْقَصْدُ: أَنَّ مُلَاحَظَةَ حُسْنِ الْعَاقِبَةِ تُعِينُ عَلَى الصَّبْرِ فِيمَا تَتَحَمَّلُهُ
بِاخْتِيَارِكَ وَغَيْرِ اخْتِيَارِكَ. اهـ
أيام والمسؤولية تكثر، أيام والحقوق تكبر، فاستغلال هذا
الوقت، وهذا الفراغ .
وقد روى البخاريُّ في صحيحه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ
فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ " .
معرفة قدر هذه النعمة قبل أن تزول ، قبل الحسرة، إذا كبُرت
المسؤوليَّة ، الذهن يتشتت، والتركيز يضعف، والحافظية
تنهار، وقد يكون هناك أمور أخرى ـ والعياذ بالله ـ فكلما تأخر
الزمن كثرت الفتن، وكثرت الشواغل، مع ما الدُّنيا عليه من
أصلها دارُ هُمومٍ وابتلاء ، ودار فناء لا بقاء ، فيبقى في حسرة
عظيمة ، في الأولى والأُخرى .
والله مامشى من الدقائق والسنين لايمكن تداركه، فالمحافظة
على الوقت في طلب العلم قبل فوات الفرصة، قبل
الانشغال ، والفراغ لا يدومُ ، والعُمْر قصير ،والزَّمن يسير كما
يقولُ أهلُ العلم .
اقبلي النصيحة من محبةٍ للخير لك قبل أن تقعي في التجرُبة
بنفسك ،والسعيدُ منِ اعتبر بغيره ،لا من اعتبر بنفسه .
والله سبحانه هو الميسر نسأل الله أن ييسر لنا ولأخواتنا سُبل
العلم .
كان من أدعيةِ الوالد الشيخ مقبل ـ رحمه الله تعالى ـ أن اللهَ
ييسر لي طلب العلم (نذكر هذا من باب التحدُّث بالنعمة
وليتأسَّى به الأمهاتُ وليتربَّى البناتُ على هذا الخير ) .
الدعاء للأولاد بالخير، والسعادة، وأن يقذف الله في قلوبهم نورَ
العلم، والهداية بيد الله ليست بأيدينا نسأل الله أن يصلحَ
أولادنا ويعيذنا وإياهم من الفتن .
ولايعرف قدرَ هذا النعمة إلا من وفقه الله عز وجل .
******************************
فصلٌ : مقاطعة قريش لبني هاشم وبني المطلب
ثم أسلم حمزةُ عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجماعةٌ
كثيرون، وفشا الإسلامُ .
فلما رأت قريشٌ ذلك ساءَها، وأجمعوا على أن يتعاقدوا على
بنى هاشم وبني المطلب ابنَي عبد مناف: ألا يبايعُوهم، ولا
يناكحُوهم، ولا يكلِّموهم، ولا يجالسوهم، حتى يسْلِموا إليهم
رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وكتبوا بذلك صحيفة وعلَّقوها
في سقف الكعبة، ويقال إن الذي كتبها منصور بن عكرمة بن
عامر بن هاشم بن عبد مناف، ويقال: بل النَّضر بن
الحارث، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشُلَّت يدُه.
وانحاز إلى الشِّعب بنو هاشم وبنو المطلب، مؤمنهم وكافرهم إلا
أبا لهب- لعنهُ الله- فإنه ظاهرَ قريشاً.
وبقوا على تلك الحال لا يدخل عليهم أحدٌ نحواً من ثلاث سنين .
وهناك عمِل أبو طالب قصيد تَه المشهورة :
جزى الله عنا عبدَ شمس ونوفلا .
******************************
هذا الفصل في مقاطعة وهجر قريش لبني المطلب وبني هاشم، فإن قريشاً هَالَهَا، وأفْزَعها انتشارُ الإسلام و علوُّ الإسلام، ورأت أنه أسلم عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ الذي أعز الله به الإسلام، وأسلم حمزة ـ رضي الله عنه ـ عم رسول الله
ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وانتشار الإسلام في نواحي
العرب، وإيواء النجاشي للذين هاجروا إليه ، فرأت أن تقاطع
بني هاشم وبني المطلب، و قالوا إما أن تُسْلِموا النبي ـ صلى الله
عليه وعلى آله وسلم ـ أو نقاطعكم .
و ذكر هنا الحافظُ ابنُ كثير وجهَ المقاطعة .
فقال ـ رحمه الله تعالى ـ : (وأجمعوا على أن يتعاقدوا على بنى
هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف: ألا يبايعوهم، ولا
يناكحوهم، ولا يكلِّموهم، ولا يجالسوهم) .
لا فيه بيع بينهم، ولا شراء، ولا تزويج، ولا كلام، ولا مجالسة
هجر كُلِّي، وكتبوا هذه المعاقدة في صحيفة ـ الصحيفة:
الورقة ـ وعلَّقوها في سقف الكعبة .
يقول الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ في البداية و النهاية: (تَوْكِيدًا على أنفسهم) .
فتمَّ الأمرُ على هذا .
و من رحمة الله عز وجل أن يسَّر للنبي صلى الله عليه وعلى
آله وسلَّم من يناصره وهم بنو هاشم و بنو المطلب مؤمنُهم
و كافرُهم، وما خرج منهم إلا أبو لهب عم رسول الله ـ صلى الله
عليه وعلى آله وسلم ـ فإنه ظاهر قريشًا أي: عاونهم
وناصرهم على النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وعلى
الحق .
ووقوف الكفار من بني المطلب وبني هاشم مع النبي ـ صلى
الله عليه وعلى آله وسلم ـ حميةً و عصبية؛ لأنه منهم و في
ذلك وأمثاله يقول النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ (إِنَّ
اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ) متفق عليه عن أبي هريرة ـ
رضي الله عنه ـ (يُؤَيِّدُ) أي: ينصر.
و تمَّ حصار النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ و من معه
ممن آواه و نصره في شِعْب أبي طالب سنة سبعٍ من
البعثة، و كانت المدة ثلاثَ سنين -مدة طويلة -، وهم في حصار
وحَبس لا يأتيهم طعام، ولا شراب، ولا غذاء إلا إذا
استطاع أحدٌ أن يتسلَّل بشيء من الطعام والخبز و إذا عثر عليه
قريش نكَّلوا به و عاقبوه.
(وهناك عمل أبو طالب قصيدته المشهورة: جزى الله عنا عبد شمسٍ ونوفلا) .
هذه القصيدة تُسمَّى لاميةَ أبي طالب .
وتتمةُ البيت لأنه ما ذكر ابنُ كثير إلا الشطرَ الأوَّلَ منه
جزى الله عنا عبد شمسٍ و نوفلا***عقوبةَ شر عاجلا غير آجل
لأن عبد شمس و نوفل من المعادين للنبي ـ صلى الله عليه
وعلى آله وسلم ـ و من معه ممن آواه بخلاف هاشم والمطلب.
بنو عبد مناف أربعة ـ كما تقدم في أول الكتاب ـ هاشم،
والمطلب، وعبد شمس، ونوفل .
ولامية أبي طالب بطولها ما ثبتت، لكن فيها بعض الأبيات
جاءت بأسانيد أخرى ثابتة .
(إلا أبا لهب لعنه الله، فإنه ظاهرَ قريشاً)
يقول هنا الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ في أبي لهب لعنه
الله .
ولعن الكافر الميت لمصلحة الإسلام ولبيان حاله جائز .
أما إذا كان لغير مصلحة فهذا منهي عنه روى البخاري
(1329) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا).
أما الكافر الحي فلا يجوز لعنُهُ لأنَّ الله قد يهديه للإسلام
أخرج البخاري في صحيحه (4069) عن عبد الله بن عمر
رضي الله عنهما سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ
رَأْسَهُ مِنْالرُّكُوعِ مِنْ الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ مِنْ الْفَجْرِ يَقُولُ اللَّهُمَّ الْعَنْ
فُلَانًا وَفُلَانًا وَفُلَانًا بَعْدَ مَا يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ
الْحَمْدُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ إِلَى قَوْلِهِ فَإِنَّهُمْ
ظَالِمُونَ}.
و في صحيح مسلم (675) عن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبي سَلَمَةَ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ حِينَ يَفْرُغُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ
مِنْ الْقِرَاءَةِ وَيُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا
وَلَكَ الْحَمْدُ ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَسَلَمَةَ
بْنَ هِشَامٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ
اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ كَسِنِي يُوسُفَ
اللَّهُمَّ الْعَنْ لِحْيَانَ وَرِعْلًا وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ عَصَتْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ثُمَّ
بَلَغَنَا أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لَمَّا أُنْزِلَ لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) .
وهذا التفصيلُ في لعن الكافر سمعناه مراراً من الوالد الشيخ
مقبل رحمه الله .
وقال النووي في شرح صحيح مسلم (2/ 67)اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى
تَحْرِيمِ اللَّعْنِ فَإِنَّهُ فِي اللُّغَةِ الْإِبْعَادُ وَالطَّرْدُ.
وَفِي الشَّرْعِ :الْإِبْعَادُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبْعَدَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَنْ لَا يُعْرَفَ حالُه
وخاتمة أمره مَعْرِفَةً قَطْعِيَّةً فَلِهَذَا قَالُوا لَا يَجُوزُ لَعْنُ أحد بعينه
مسلما كان أوكافرا أَوْ دَابَّةً إِلَّا مَنْ عَلِمْنَا بِنَصٍّ شَرْعِيٍّ أَنَّهُ مَاتَ
عَلَى الْكُفْرِ أَوْ يَمُوتُ عَلَيْهِ كَأَبِي جَهْلٍ وَإِبْلِيسَ .
وتكلَّم على المسألة العلَّامةُ ابن عثيمين رحمه الله في شرح
رياض الصالحين تحت (باب تحريم لعن إنسان بعينه أو دابة) .
وقال:حتى لو كان كافرا وهو حي فإنه لا يجوز أن تلعنه واستدل
بحديث ابن عمر المذكور .
وقال ابن عُثيمين رحمه الله : ومن الناس من تأخذه الغيرةُ
فيلعن الرجل المعين إذا كان كافرا وهذا لا يجوز، لأنك لا تدري
لعل الله أن يهديه وكم من إنسان كان من أشد الناس عداوة
للمسلمين والإسلام هداه الله وصار من خيار عباد الله المؤمنين،
ونضرب لهذا مثلا: عمر بن الخطاب الرجل الثاني بعد أبي بكر
في هذه الأمة، كان من ألدِّ أعداء الإسلام ففتحالله عليه فأسلم .
خالد بن الوليد كان يقاتل المسلمين في أحد وهو من جملة من
كرَّ عليهم وداهمهم .
عكرمة بن أبي جهل وغيرهم من كبار الصحابة الذين كانوا من
أول ألدِّ أعداء المسلمين فهداهم الله عز وجل .
ولهذا قال: { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أويعذبهم فإنهم ظالمون } .
أما إذا مات الإنسان على الكفر وعلمنا أنه مات كافرا فلا بأس
أن نلعنه لأنه ميؤوس من هدايته والعياذ بالله لأنه مات على
الكفر .
ولكن ما الذي نستفيده من لعنه ربما يدخل هذا - أعني لعنه -
في قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا الأموات فإنهم
أفضوا إلى ما قدموا .اهـ المراد
وأبو لهب: اسمه عبد العزى، عم النبي ـ صلى الله عليه وعلى
آله وسلم ـ .
و نذكر هُنا ما مضى للاستذكار
الإسلامُ أدرك أربعةً من أعمام النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله
وسلم ـ وهم أبو طالب، وأبو لهب، والعباس، وحمزة، أما أبو
طالب وأبو لهب فماتا على الكفر، وأما العباس و حمزة فهما
من خيار صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ .
قال الحافظ في فتح الباري (3884 ):مِنْ عَجَائِبِ الِاتِّفَاقِ أَنَّ
الَّذِينَ أَدْرَكَهُمُ الْإِسْلَامُ مِنْ أَعْمَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَرْبَعَةٌ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمُ اثْنَانِ وَأَسْلَمَ اثْنَانِ وَكَانَ اسْمُ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ
يُنَافِي أَسَامِيَ الْمُسْلِمَيْنِ وَهُمَا أَبُو طَالِبٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ مَنَافٍ وَأَبُو
لَهَبٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى بِخِلَافِ مَنْ اسْلَمْ وهما حَمْزَة وَالْعَبَّاس .
******************************
ثم سعى في نقضِ تلكِ الصحيفةِ أقوامٌ من قريش، فكان القائمُ
في أمر ذلك هشامُ بن عمرو بنِ ربيعة بنِ الحارث بن حَبِيب بن
جذيمة بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لؤي، مشى في ذلك إلى
مُطعم بنِ عدي وجماعةٍ من قريش، فأجابوه إلى ذلك، وأخبر
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قومَه أن اللهَ قد أرسلَ على تلك
الصحيفةِ الأَرَضَة، فأكلت جميعَ ما فيها إلا ذكرَ الله
عز وجل، فكان كذلك .
ثم رجع بنو هاشم وبنو المطلب إلى مكة، وحصل الصلحُ برغمٍ
من أبي جهل عمرو بن هشام .
******************************
في هذه الجُمَل بيان أنهم بعد أن أجمع كفارُ قُريش على مقاطَعةِ
مُناصري النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من بني هاشم
وبني المطلب حصل بينهم فيما بعدُ اختلافٌ وافتراق حينما
أكلت الأرَضَةُ الصحيفةَ فسعى نفرٌ في نقض الصحيفة التي
كان تمَّ اجتماعهم عليها وتبرَّأُوا منها وقامَ بنقضِها هشامُ بنُ
عمرو والمُطعم بن عدي وآخرون .
وقد أشار هُنا ابنُ كثير ـ رحمه الله تعالى -إلى قصَّة يذكرها
بعضُ أهلِ السير أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي
طَالِبٍ: «يَا عَمِّ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَلَّطَ الْأَرَضَةَ عَلَى صَحِيفَةِ قُرَيْشٍ فَلَمْ
تَدَعْ فِيهَا اسْمًا هُوَ للَّه إِلَّا أَثْبَتَتْهُ فِيهَا، وَنَفَتْ مِنْهَا الظُّلْمَ وَالْقَطِيعَةَ
وَالْبُهْتَانَ» . فَقَالَ أَرَبُّكَ أَخْبَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ «نعم» ! قال فو الله مَا
يَدْخُلُ عَلَيْكَ أَحَدٌ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ
ابْنَ أخى قد أَخْبَرَنِي بِكَذَا وَكَذَا فَهَلُمَّ صَحِيفَتَكُمْ فَإِنْ كَانَتْ كَمَا قَالَ
فَانْتَهُوا عَنْ قَطِيعَتِنَا وَانْزِلُوا عَنْهَا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا دَفَعْتُ إِلَيْكُمُ
ابْنَ أَخِي. فَقَالَ الْقَوْمُ: قَدْ رَضِينَا فَتَعَاقَدُوا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ نَظَرُوا فَإِذَا
هِيَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزَادَهُمْ ذَلِكَ شَرًّا
فَعِنْدَ ذَلِكَ صَنَعَ الرَّهْطُ مِنْ قُرَيْشٍ فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ مَا صَنَعُوا.
وقول الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ: (فأكلت جميع ما فيها
إلا ذكر الله عز وجل، فكان كذلك) .
أي كان الأمر على ما حكاه النبيُّ ـ صلى الله عليه وعلى آله
وسلم ـ من أكلِ الأَرَضةِ وهي دود تأكل الأخشاب ونحوها ،
إلَّا ذِكرَ الله ِ .
والله أعلم القصة ذكرها ابنُ هشام في السيرة (2/ 19)بدون
إسناد فقد قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذَكَرَ بعضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَبِي طَالِبٍ: يَا عَمِّ؛ إنَّ رَبِّي اللَّهَ قَدْ
سَلَّطَ الْأَرَضَةَ عَلَى صَحِيفَةِ قُرَيْشٍ الخ .
ثم بعد هذا انفكَّ الحصارُ وانتهى، فرجع بنو هاشم و بنو
المطلب إلى مكة بعد ثلاث سنين ،وكان من حكمة اللهِ ورحمته
أن تفرَّقَّتْ قلوبُهم وتنافَرت مما كان سبباً في خروج النبي صلى
الله عليه وعلى آله وسلم ومُناصريه من الحبْس والحِصار .
(وحصل الصلح برغم من أبي جهل) نفذ الصلح على الرغم من
أبي جهل و إن كان رافِضَاً له .
******************************
واتصل الخبر بالذين هم بالحبشة أن قريشاً أسلموا، فقدم مكةَ
منهم جماعةٌ، فوجَدوا البلاءَ والشدَّة كما كانا، فاستمرُّوا بمكة
إلى أن هاجروا إلى المدينة، إلا السَّكرانَ بن عمرو زوج سود
بنت مزمعة، فإنه مات بعد مقدمِه من الحبشة بمكة قبلَ الهجرة
إلى المدينة وإلا سلمةَ بن هشام، وعياشَ بن أبي ربيعة، فإنهما
احتبسا مستضعَفين، وإلا عبدَ الله بن مخرمة بن عبد العزى فإنه
حُبس فلما كان يومَ بدر، هرب من المشركين إلى المسلمين .
******************************
هنا تمام هذا الفصل يذكر ابنُ كثير ـ رحمه الله تعالى ـ أنه
أشيعت أخبارٌ أن قريشاً بمكةَ أسلموا، وبلغ ذلك المهاجرين إلى
الحبشة، وهذا قبل هجرة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ
إلى المدينة بقليل ، في السنة العاشرة من البعثة،
وقد مكثَ النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في مكة ثلاثة
عشر عاماً .
فرجع المهاجرون من الحبشة وهذا غير رجوعهم الأول، رجعوا
فوجدوا البلاءَ، والشدَّة، والأذى كما كان من قبل فبقوا
بمكة إلى أن هاجر النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إلى المدينة.
فلما هاجر النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ هاجر
أصحاب الهجرة إلى الحبشة معه إلى المدينة إلا هؤلاء النفر .
قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ : (إلا السكران بن
عمرو زوج سود بنت زمعة) كان زوجُ سودةَ قبل أن يتزوجها
النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ، سودة بنت زمعة -
رضي الله عنها - كانت تحت السكران بن عمرو ـ رضي الله عنه
ـ صحابي أسلم قديمًا، وهاجر إلى الحبشة، ولم يخرج مع النبي ـ
صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إلى المدينة؛ لأنه مات قبل
الهجرة .
قال - رحمه الله تعالى - (و إلا سلمةَ بن هشام) أخو أبو جهل
عمرو بن هشام والحارث .
(وعياش بن أبي ربيعة، فإنهما احتُبسا مستضعَفين)
لم يخرجا مع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ حينما
هاجرَ إلى المدينة بسبب حَبْس قريش لهما .
وقنت النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يدعولهما فقد
ثبت في الصحيحين البخاري (1006) ومسلم (295 )-
(675) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا
رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ، يَقُولُ: " اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي
رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الوَلِيدَ بْنَ الوَلِيدِ،
اللَّهُمَّ أَنْجِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى
مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ: وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: غِفَارُ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ " .
سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة - رضي الله عنهما - لم
يشهدا بدرًا، ولا أحدًا، ولا الخندقَ؛ لأنهما كانا محبوسَين .
الوليد بن الوليد قال الحافظ في الإصابة في ترجمته: الوليد بن
الوليد بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم القرشي
المخزوميّ، أخو خالد بن الوليد .
لما أسلم حبسه أخواله، فكان النبيّ صلى اللَّه عليه وآله وسلم
يدعو له في القنوت، كماثبت في الصّحيح ثم أُفلت من أسرهم،
ولحق بالنّبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم في عمرة القضية .اهـ المراد
.
وقد نجاهم اللهُ سبحانه وتعالى من أيدي المشركين جميعاً .
(وإلا عبد الله بن مخرمة بن عبد العزى فإنه حُبس)
عبدالله بن مخرمة بن عبد العزى أيضًا لم يخرج مع النبي ـ
صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إلى المدينة حبسه المشركون.
(فلما كان يوم بدر، هرب من المشركين إلى المسلمين)
هرب من أيدي المشركين وشهد مع النبي ـ صلى الله عليه
وعلى آله وسلم بدراً وجميعَ المشاهد .
ونحن في دروسنا هذه نتذكر جرائمَ الحوثيين، وأفعالَهم الشنيعة
من حصار الصالحين الأخيار في –دار الحديث بدماج –
وأذاهم،وتعذيبهم، وصب النيران عليهم ، وسفْك الدماء البريئة
وقتل الضُّعفاء من النساء والصبيان وكبار السِّن نتذكَّرُهَا لأننا
نجدهامطابقة بل وأشد ، فهذه الأفعال أفعال مشركين ماهي
أفعال مسلمين ،ومن غيرِأيِّ سبب كما قال تعالى { وَمَا نَقَمُوا
مِنْهُمْإِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } .
و اللهُ ليس بغافلٍ عنهم ولكنه سبحانه يمْهل ويستدرج الظلمة
بالنِّعم والأولاد والأموال ثم يأخذهم أخذ عزيزٍ مقتدر.
وهُمُ الآن في حضيضِ البلاء والعذاب نسألَ اللهَ أن يخمدَ
شوكتهم ويكفي البلادَ والعباد شرَّهُم .
******************************
فصل ـ خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف
فلما نُقِضت الصحيفةُ وافق موتَ خديجةَ رضي الله عنها، وموتَ
أبي طالب، وكان بينهما ثلاثةَ أيام، فاشتدَّ البلاءُ على رسول الله
صلى الله عليه وسلم من سفهاء قومِه، وأقدموا عليه، فخرج
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف لكي يؤووه
وينصروه على قومه، ويمنعوه منهم، ودعاهم إلى الله عز وجل،
فلم يجيبوه إلى شيءٍ من الذي طَلب، وآذوه أذى عظيماً، لم ينل
قومُه منه أكثر مما نالوا منه فرجع عنهم .
******************************
لمَّا نُقضت الصحيفةُ التي كان تمَّ الإجماع عليها، وهذا في سنةِ
عشر من البعثة النبوية.
تتابعت المصائبُ على النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ
فماتت خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - التي كانت
مناصرةً، مؤانسةً، معينةً للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم
ـ و مات أبو طالب عمُّ النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ
الذي كان يغضب له و يحوطه، وهذا من تتابع المصائب ولله
الحكمة البالغة .
(وكان بينهما ثلاثة أيام )
يقول : كان بين وفاتيهما ثلاثة أيام، والذي نستطيع أن نجزم به
،أنه كان موتُهما في عامٍ واحد ، وكان بين وفاتيهما مدة
يسيرة، يقول بعضهم ثلاثة أيام، وقيل غير ذلك.
ثم اشتد البلاء على النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ؛
لأن أبا طالب كان مانعًا لأذى رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى
آله وسلم ـ فلما مات اشتد الأذى على رسول الله ـ صلى الله
عليه وعلى آله وسلم ـ ، فخرج رسول الله ـ صلى الله عليه
وعلى آله وسلم ـ إلى الطائف؛ لكي يؤووه وينصروه ليبلغ
الرسالة، والإسلام فقابله أهلُ الطائف بأشد أنواع الأذى،
وردُّوا قوله، ولم يستجيبُوا له ثم رجع بعد ذلك إلى مكة.
وقد ثبت في صحيح البخاري (3231) عَنِ عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا
قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ
يَوْمِ أُحُدٍ، قَالَ: (لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا
لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ
عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى
وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا
بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ
اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ
الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ
قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ، ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ
الأَخْشَبَيْنِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ
اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) .
(بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ) ميقات أهل نجد، وهو قرن المنازل (الأَخْشَبَيْنِ)
أي : جبال مكة.
وهذا من رحمة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ
بالكفار، لم يدعُ عليهم، وأحيانًا قد يدعو عليهم إذا اشتدت
شوكةُ الكفار ، قد يدعو ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ عليهم حسب المصلحة. والله تعالى أعلم .
وهذا الحديث فيه إرسالُ الله ملَك الجبال إلى النبي ـ صلى الله
عليه وعلى آله وسلم ـ عند رجوعه من الطائف إلى مكة على
قول من أقوال أهل العلم أن هذا في رجوعه من الطائف إلى مكة .
******************************
ودخل مكة في جوارِ المطعمِ بن عدي بن نوفل بن عبد مناف،
وجعلَ يدعو إلى الله عز وجل، فأسلم الطفيلُ بن عمرو الدَّوسي،
ودعا له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله له آيةً ،
فجعل الله في وجهِه نوراً، فقال: يا رسولَ الله أخشى أن يقولوا
هذا مُثْلَةٌ، فدعا له، فصار النورُ في سوطه، فهو المعروف بذي النُّور.
ودعا الطفيلُ قومَه إلى الله فأسلم بعضُهم، وأقام في بلاده، فلما
فتح الله على رسوله خيبر قدم بهم في نحوٍ من ثمانين بيتاً.
******************************
لمَّا رجع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ من الطائف
إلى مكة كان في جوار المُطعِم بن عَدي، والمُطعِم بن عَدي كان
كافرًا ومات على ذلك، ولم ينسَ النبي ـ صلى الله عليه وعلى
آله وسلم ـ هذا الإحسان من المُطعِم بن عَدي بل حفظ له ذلك،
وأحب أن يكافِئَه كما في صحيح البخاري عَنْ جبير بن مطعم
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي
أُسَارَى بَدْرٍ: «لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي
هَؤُلاَءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ» .
(النَّتْنَى) الأسرى من كفار قريش الذين كانوا بأيدي المسلمين،
نتنى لكفرهم .
فهنا كان النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بجوار المُطعِم
بن عَدي أنه لا يتعرض أحدٌ بأذى له .
وكان النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يدعو الله فجاء
الطفيل بن عمرو الدوسي إلى مكة، وكانوا يحذِّرونه، وهذا شأن
الأعداء كانوا يقولون: إنه كاهن ، ساحر، فقال: لِمَ لا أسمع
منه، فأسلم على يد النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ
و هنا ذكر الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ قصةً له.
(ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله له آية)
(الآية): العلامة. نور بينَ عينيه يضيء إذا مشى في الظلام .
(فجعل الله في وجهه نوراً، فقال: يا رسول الله أخشى أن يقولوا
هذا مُثلة)
قد يقولون هذا عيب .
(فدعا له، فصار النُّور في سوطه، فهو المعروف بذي النُّور)
السوط: العصا .
القصة من طريق ابن الكلبي، وهو هشام بن محمد بن السائب
الكلبي، وهو متروك .
وللفائدة أيضاً أبوه محمد بن السائب متروك .
و الطفيل بن عمرو هاجر إلى النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله
وسلم ـ بالمدينة ومعه صاحب له فاجتَوَوا المدينة ـ أي: تغير
عليهم الجوـ ، وعمد صاحبه إلى مشاقص فقطع بَرَاجِمَه ـ
البراجم: مفاصل الأصابع ـ فجعل يَشخُبُ دمًا ـ أي: ينزُف ـ كما
في صحيح مسلم عَنْ جَابِرٍ أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ، أَتَى
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ لَكَ فِي
حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنْعَةٍ؟ - قَالَ: حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ -
فَأَبَى ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي ذَخَرَ اللهُ لِلْأَنْصَارِ،
فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، هَاجَرَ إِلَيْهِ
الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ،
فَمَرِضَ، فَجَزِعَ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ لَهُ، فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ، فَشَخَبَتْ
يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ، فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ، فَرَآهُ وَهَيْئَتُهُ
حَسَنَةٌ، وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ
لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكَ
مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟ قَالَ: قِيلَ لِي: لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ، فَقَصَّهَا
الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ» .
الطفيل عرض على النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ
بمكة الخروج إلى دوس، وقال: إن هناك حصنًا لدوس، وأراد
الله أن يجعل هذا للأنصار فهاجر النبي ـ صلى الله عليه وعلى
آله وسلم ـ إلى المدينة {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54] .
قال القاضي في إكمال المُعْلِم (1/ 270 ) : فَأبى ذلكً النَّبِى (
صلى الله عليه وسلم ) لِلَّذِى ذَخَرَ الَلّهُ لِلأنْصًارِ .
( و دعا الطفيل قومَه) يعني قبيلة دوس .
(و أقام في بلاده ، فلما فتح اللهُ على رسوله خيبر قدم بهم في
نحوٍ من ثمانين بيتاً).
سبحان الله إسلام أمة عظيمة من قبيلة دوس، وقد ثبت في
الصحيحين البخاري (2937) ومسلم (197)عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدِمَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ دَوْسًا قَدْ عَصَتْ وَأَبَتْ فَادْعُ
اللَّهَ عَلَيْهَا، فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ يَدْعُو عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا
وَأْتِ بِهِمْ).
وهذا من رحمة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بالكفار
و قد تقدم في أول الكتاب.
وبهذا ننتهي .
أم سمية الأثرية
2016-01-09, 21:55
الدرس السابع من /الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم 12من شهر ربيع الأول 1437 .
فصل ـ الإسراء و المعراج و عرض النبي نفسَه على القبائل
و أُسْرِي برسولِ الله صلى الله عليه وسلم بجسدِه على الصحيح
من قولَي الصحابةِ والعلماء، من المسجدِ الحرامِ إلى بيتِ
المقدِس، راكِباً البُراق في صُحْبةِ جبريل عليه السلام .
******************************
هذا الفصلُ في أمرين من سيرة الرسول ـ صلى الله عليه وعلى
آله وسلم ـ في الإسراء والمعراج، وفي عرْض النبي ـ صلى الله
عليه وعلى آله وسلم ـ نفسَه على القبائل .
الإسراء والمعراج من أعظم الكراماتوالفضائل للنبي ـ صلى
الله عليه وعلى آله وسلم ـ حتى إنَّ شيخَ الإسلام ابنَ تيمية ـ رحمه
الله تعالى ـ يقول في مجموع الفتاوى: أفضل ليلة في حق النبي ـ
صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ليلة الإسراء .
وذلكَ لِما كان له ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ من المكانة
والكرامة والنِّعم العظيمة وفرض الصلوات الخمس .
ونسوقُ نصَّ عبارته رحمه الله في مجموع الفتاوى (25/ 286)
وَسُئِلَ:
عَنْ " لَيْلَةِ الْقَدْرِ ". وَ " لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟
فَأَجَابَ:
بِأَنَّ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ أَفْضَلُ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْلَةَ
الْقَدْرِ أَفْضَلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأُمَّةِ فَحَظُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ مِنْهَا أَكْمَلُ مِنْ حَظِّهِ مِنْ لَيَالِي الْقَدْرِ.
وَحَظُّ الْأُمَّةِ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَكْمَلُ مِنْ حَظِّهِمْ مِنْ لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ. وَإِنْ
كَانَ لَهُمْ فِيهَا أَعْظَمُ حَظٍّ. لَكِنَّ الْفَضْلَ وَالشَّرَفَ وَالرُّتْبَةَ الْعُلْيَا إنَّمَا
حَصَلَتْ فِيهَا لِمَنْ أُسْرِيَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . اهـ
وبعد ما لاقى النبيُّ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ من الشِدَّة،
والأذى، وأنواع المتاعب من الكفار، ومن موت عمه أبي طالب،
ثم موت أم المؤمنين خديجة - رضي الله عنها - وتكذيب أهل
الطائف له وغير ذلك، أكرمه اللهُ عز وجل بالإسراء والمعراج .
وهذه سنةُ الله سبحانه وحِكْمَتُهُ أنه إذا اشتدَّت الأمورُ يأتي بعدها
الفرَجُ ويأتي الرخاء .
ومن ذلك قصةُ يوسف - عليه الصلاة والسلام - ابتُلي ابتلاء
عظيمًا من كيد إخوته له بأنواع المكائد، ثم ابتلي بامرأة العزيز،
وبالنسوة الأُخريات، فدُعِيَ إلى نفسه، واتُّهم في عرضه، ثم ابتُلي
بالسجن أكثر من ثلاث سنين ظلمًا وعدوانًا؛ لأن الله عز وجل
يقول: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}[يوسف:42]، والبضع مابين
الثلاث إلى التسع.
ثم بعد ذلك جاءالفرج، وارتفعت مكانة يوسف - عليه الصلاة
والسلام - أتمَّ الله له النعمةَ، ثم بعد زمن جمع الله بينه وبين أبيه
وإخوته بعد فراق طويل ولله سبحانه الحكمة البالغة.
وحصل ليوسف - عليه الصلاة والسلام - الرخاء والرفعة
والمنزلة .
وهكذا أمُّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - ابتُليت باتهامِها في
عرضها، وكان في هذا كُربةٌ وشدَّة عظيمة حتى إن أمَّ المؤمنين
عائشة - رضي الله عنها - تقول: (قَالَتْ: وَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي،
وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا، لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، حَتَّى
إِنِّي لَأَظُنُّ أَنَّ البُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي) .
واستمر النبيُّ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ شهرًا لا يُوحَى
إليه.
ثمَّ أنزلَ اللهُ في شأنها آيات وجاءت البشارة ونزلَ الفرَجُ تقولُ أمُّ
المؤمنين في سياق قصة حادثةِ الإفكِ (وَلَأَنَا أَحْقَرُ فِي نَفْسِي مِنْ
أَنْ يُتَكَلَّمَ بِالقُرْآنِ فِي أَمْرِي، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ، فَوَاللَّهِ مَا رَامَ
مَجْلِسَهُ وَلاَ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ البَيْتِ، حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ الوَحْيُ،
فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ البُرَحَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ
الجُمَانِ مِنَ العَرَقِ فِي يَوْمٍ شَاتٍ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا، أَنْ قَالَ لِي:
«يَا عَائِشَةُ احْمَدِي اللَّهَ، فَقَدْ بَرَّأَكِ اللَّهُ ) .
وهُنا النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بعد هذه الابتلاءات
الشديدة أكرمه الله عز وجل بهذه النِّعَم العظيمة، النعمةُ تلو
النعمة وقبلَ الإسراء نزل جبريل عليه السلامُ وشَقَّ صدرَ النبي ـ
صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ كما في صحيح البخاري ومسلم
وهذا لفظ مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ، يُحَدِّثُ، أَنَّ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ،
فَنَزَلَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ مِنْ
مَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهَا
فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ...." الحديث .
وفي الصحيحين في رواية أنس عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وفيه : (فَأُتِيتُ
بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ، مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَشُقَّ مِنَ النَّحْرِ إِلَى مَرَاقِّ
البَطْنِ، ثُمَّ غُسِلَ البَطْنُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا ) .
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم ) : إِلَى مَرَاقِّ البَطْنِ) هُوَ
بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ وَهُوَ مَا سَفَلَ مِنَ الْبَطْنِ وَرَقَّ مِنْ جِلْدِهِ . اهـ
وهذه مرَّةً أخرى غير المرَّة السابقة في أوائلِ الفُصُول التي ثبتت
في صحيح مسلم (162) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ
الْغِلْمَانِ ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ ،
فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً ، فَقَالَ : هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي
طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ ، ثُمَّ لَأَمَهُ ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ ،
وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ يَعْنِي ظِئْرَهُ ، فَقَالُوا : إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ
قُتِلَ ، فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ ، قَالَ أَنَسٌ : وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ
ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِه. ".
فهاتان حالتان، الأولى: عندما كان النبي ـ صلى الله عليه وعلى
آله وسلم ـ صغيرًا .
والحالة الثانية: بعد البعثة قبل الإسراء بالنبي ـ صلى الله عليه
وعلى آله وسلم ـ .
فالنَّبيُّ صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم شُقَّ صدرُهُ مرتين .
والإسراء جاء في بعض الروايات تحديدُ اليوم والشهر وأنه في
سبع وعشرين في شهر رجب،و لا يثبت هذا .
قال شيخُ الإسلامُ فيما نقله عنه تلميذهُ ابنُ القيم في زادِ المعاد(1/
58 ) : وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ مَعْلُومٌ لَا عَلَى شَهْرِهَا وَلَا عَلَى عَشْرِهَا وَلَا
عَلَى عَيْنِهَا، بَلِ النُّقُولُ فِي ذَلِكَ مُنْقَطِعَةٌ مُخْتَلِفَةٌ لَيْسَ فِيهَا مَا يُقْطَعُ
بِهِ، وَلَا شُرِعَ لِلْمُسْلِمِينَ تَخْصِيصُ اللَّيْلَةِ الَّتِي يُظَنُّ أَنَّهَا لَيْلَةُ
الْإِسْرَاءِ بِقِيَامٍ وَلَا غَيْرِهِ .اهـ
وقال ابنُ رجب في لطائف المعارف 130 : وقد روي أنَّه في
شهر رجب حوادثُ عظيمة و لم يصحَّ شيءٌ من ذلك فروي : أن
النبي صلى الله عليه و سلم ولد في أول ليلة منه و أنه بعث في
السابع و العشرين منه و قيل : في الخامس و العشرين و لا يصح
شيء من ذلك .
ورُويَ بإسناد لا يصح عن القاسم بن محمد: أن الإسراء بالنبي
صلى الله عليه وسلم كان فيسابع وعشرين من رجب وأنكر ذلك
إبراهيمُ الحربي وغيره . اهـ
و ذكر هذا الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه ( تبين
العجب فيما ورد في فضل رجب ) وقال :ناقلاً عن بعضهم
وذكر بعضُ القصَّاص أن الإسراء كان في رجب. قال: وذلك
كذب .
وكان يذكر الوالد الشيخ مقبل ـ رحمه الله تعالى ـ أن
الاحتفال بليلة الإسراء ، والاحتفال بأول يوم من شهر محرم
لايثبت، فهو بدعة؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ
يقول: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ، فَهُوَ رَدٌّ» متفق
عليه . اهـ
ولم يختلفِ العلماء أن الإسراءَ كانَ بعدَ البِعْثَة قال ابنُ القيم رحمه
الله في زادِ المَعاد (1/ 97) :وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْمَبْعَثِ بِالِاتِّفَاقِ .اهـ
أما ما جاء عند البخاري (7517)في رواية شريك بن عبدالله ابن
أبي نمرعن أنس بن مَالِكٍ يَقُولُ: " لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَسْجِدِ الكَعْبَةِ، أَنَّهُ جَاءَهُ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى
إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ ..
فقال ابنُ القيم في زادِ المعاد (1/ 97) :وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ
شريك، أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ فَهَذَا مِمَّا عُدَّ مِنْ أَغْلَاطِ
شريك الثَّمَانِيَةِ وَسُوءِ حِفْظِهِ، لِحَدِيثِ الْإِسْرَاءِ.
(وأُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بجسدِه على الصحيح
من قولَي الصحابة والعلماء.) .
أُسري بالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قبلَ الهجرة
بِصُحْبَةِ جبريل عليه السلام من المسجد الحرام ليلًا، كما قال
سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى
الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ}[الإسراء:1] .
وفي المسألة ثلاثة أقوال في الإسراء برسول الله صلى اللهُ عليه
وعلى آله وسلم :
أحدها: أنه أسري بروحه وجسده .
القول الثاني: أنه أُسريَ برُوحِه فقط .
القول الثالث: أن هذا كان رُؤيا منامية، وقد عُدَّ هذا من أغلاط
شريك بن عبدالله بن أبي نمر.
قال الحافظ ابنُ حجر في فتحالباري رقم (7517) في سياق ذكر
الأخطاء التي أخطأ فيها شريكٌ هذا .
قال : الثالث : كونُها مناماً . اهـ
و القول الأول القولُ الصحيح، كما يقول الحافظ ابن كثير ـ رحمه
الله تعالى ـ هنا؛ لأن الله عز وجل يقول: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى
بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} .
قال الحافظُ ابنُ كثير في تفسيره ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ: هَلْ كَانَ
الْإِسْرَاءُ بِبَدَنِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَرُوحِهِ، أَوْ بِرُوحِهِ فَقَطْ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ،
فَالْأَكْثَرُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ أُسْرِيَ بِبَدَنِهِ وَرُوحِهِ يَقَظَةً لا
مناما، ولا ينكرون أَنْ يَكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى
قَبْلَ ذَلِكَ مَنَامًا ثُمَّ رَآهُ بعد يقظة، لأنه كان عليه السلام لَا يَرَى
رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصبح .
والدليل على هذا قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ
الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ فالتسبيح
إنما يكون عند الأمور العظام .
فلو كَانَ مَنَامًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَبِيرُ شَيْءٍ، وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَعْظَمًا .
وَلَمَا بَادَرَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ إلى تكذيبه، ولما ارتدت جَمَاعَةٌ مِمَّنْ
كَانَ قَدْ أَسْلَمَ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد، وقال تعالى
أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا وقال تَعَالَى:{ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا
فِتْنَةً لِلنَّاسِ }[الإسراء: 60] قال ابن عباس: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيهَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةُ أسري به، والشجرة الملعونة
هي شَجَرَةُ الزَّقُّومِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
.
وَقَالَ تَعَالَى: {مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى }[النَّجْمِ: 17] .
وَالْبَصَرُ مِنْ آلَاتِ الذَّاتِ لَا الرُّوحِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ حُمِلَ عَلَى الْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ بَيْضَاءُ بَرَّاقَةٌ لَهَا لَمَعَانٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا لِلْبَدَنِ لَا لِلرُّوحِ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ فِي حَرَكَتِهَا إِلَى مَرْكَبٍ تَرْكَبُ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . اهـ
وهكذا من قال :كان بروحه فقط خلاف ظاهر الأدلة المُتقدِّمة .
(من المسجدِ الحرامِ إلى بيت المقدس.)
وهي القبلة الأولى للمسلمين، ثم نُسِخَت بالاستقبال إلى الكعبة،
ومن استقبل بيتَ المقدس متعمِّدًافي صلاته فإنه يكون كافرًا، لأن
هذا نُسِخَ .
(راكباً البُراق في صُحبةِ جبريلَ عليه السلام، فنزلَ ثَمَّ )
في صحيح مسلم برقم (162) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ
فَوْقَ الْحِمَارِ، وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ»
سبحانَ الله آية من آيات الله أرسله اللهُ ليحمل هذا النبي الكريم
وجبريل عليه الصلاة والسلام.
(يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ) (الْحَافِر) من الدَّوَابّ مَا يُقَابل
الْقدَم من الْإِنْسَان كما في المُعجَمِ الوسيط .
يضعُ حافرَه وهي الخطوة ، موضع أقصى طرْفِه ، أي مدَّ
بصره ،موضِع منتَهى بصرِه .
الطرْف : البصر .
وهذا في غايةِ السُرْعَة .
سخَّره له ربُّ العالمين يركبُ عليه ، ويربطه بحلقة المسجد .
قَالَ: «فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ»، قَالَ: «فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ
الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ»، قَالَ " ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّيْتُ فِيهِ
رَكْعَتَيْنِ) .
ثم دخل النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فصلى ركعتين
في بيت المقدس ثم خرج من بيت المقدس وجاءه جبريل كما في
صحيح مسلم (162) عن أنس الحديث وفيه : قَالَ " ثُمَّ دَخَلْتُ
الْمَسْجِدَ، فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ ،
فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ الحديث .
وقد نفى حُذيفةُ بن اليمان رضي اللهُ عنه صلاةَ النبي صلى الله
عليه وعلى آله وسلم في بيتِ المقدس
.
كما أخرج الترمذيُّ في سننه (3147)من طريق عَاصِمِ بْنِ أَبِي
النَّجُودِ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ: قُلْتُ لِحُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ: أَصَلَّى
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ المَقْدِسِ؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ:
بَلَى، قَالَ: أَنْتَ تَقُولُ ذَاكَ يَا أَصْلَعُ، بِمَ تَقُولُ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: بِالقُرْآنِ.
بَيْنِي وَبَيْنَكَ القُرْآنُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: مَنْ احْتَجَّ بِالقُرْآنِ فَقَدْ أَفْلَحَ. فَقَالَ:
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ
الْأَقْصَى} [الإسراء: 1] قَالَ: أَفَتُرَاهُ صَلَّى فِيهِ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: «لَوْ
صَلَّى فِيهِ لَكُتِبَ عَلَيْكُمُ فِيهِ الصَّلَاةُ كَمَا كُتِبَتِ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ» قَالَ حُذَيْفَةُ: «قَدْ أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِدَابَّةٍ طَوِيلَةِ الظَّهْرِ، مَمْدُودَةٍ. هَكَذَا خَطْوُهُ مَدُّ بَصَرِهِ، فَمَا زَايَلَا
ظَهْرَ البُرَاقِ حَتَّى رَأَيَا الجَنَّةَ وَالنَّارَ وَوَعْدَ الآخِرَةِ أَجْمَعَ، ثُمَّ رَجَعَا
عَوْدَهُمَا عَلَى بَدْئِهِمَا» . قَالَ: وَيَتَحَدَّثُونَ أَنَّه رَبَطَهُ، لِمَ؟ لِيَفِرَّ مِنْهُ
وَإِنَّمَا سَخَّرَهُ لَهُ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ .
وهذا حديث حسن من أجل عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ فهو صدق يهِم .
وقد حسَّنه الوالدُ رحمه الله في الصحيح المسند مما ليس في
الصحيحين رقم (301) .
قال الحافظ ابنُ كثيرٍ رحمه الله في تفسيره :وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ
حُذَيْفَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، نَفْيٌ، وَمَا أَثْبَتَهُ غَيْرُهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَبْطِ الدَّابَّةِ بِالْحَلْقَةِ وَمِنَ الصلاة بالبيت
الْمَقْدِسِ، مِمَّا سَبَقَ وَمَا سَيَأْتِي مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْلِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِالصَّوَابِ.
وقوله (فَمَا زَايَلَا ظَهْرَ البُرَاقِ )أَيْ مَا فَارَقَ النَّبِيُّ وَجِبْرِيلُ ظَهْرَهُ
كما في تحفة الأحوذي .
**********************
فنزلَ ثَمَّ وأَمَّ بالأنبياءِ ببيت المقدس فصلَّى بهم .
.
ثم عُرج به تلك الليلة مِن هناك إلى السماءِ الدُّنيا، ثم للتِي تليها،
ثم الثالثة، ثم إلى التي تليها،ثم الخامسة، ثم التي تليها، ثم السابعة .
ورأى عندها جبريلَ على الصُّورةِ التي خلقه اللهُ عليها، وفرَض
اللهُ عليه الصلواتِ تلكَ الليلةَ .
*****************
وقوله :فنزلَ ثَمَّ وأَمَّ بالأنبياءِ ببيت المقدس فصلَّى بهم .) ثَمَّ أي
هناك .
وهذا خلاف ما ذكره رحمه الله في تفسير سورة الإسراء قال :
وَالْحَقُّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُسْرِيَ بِهِ يَقَظَةً لَا مَنَامًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ
الْمَقْدِسِ رَاكِبًا الْبُرَاقَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، رَبَطَ الدَّابَّةَ
عِنْدَ الْبَابِ وَدَخَلَهُ، فَصَلَّى فِي قبلته تحية المسجد ركعتين، ثم أتى
بالمعراج وَهُوَ كَالسُّلَّمِ ذُو دَرَجٍ يُرْقَى فِيهَا، فَصَعِدَ فِيهِ إِلَى السَّمَاءِ
الدُّنْيَا ثم أشار إلى حديث الإسراء ثم قال : فرض الله عَلَيْهِ هُنَالِكَ
الصَّلَوَاتِ خَمْسِينَ ثُمَّ خَفَّفَهَا إِلَى خَمْسٍ رَحْمَةً مِنْهُ وَلُطْفًا بِعِبَادِهِ،
وَفِي هَذَا اعْتِنَاءٌ عَظِيمٌ بِشَرَفِ الصَّلَاةِ وَعَظَمَتِهَا.
ثُمَّ هَبَطَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهَبَطَ مَعَهُ الْأَنْبِيَاءُ فَصَلَّى بِهِمْ فِيهِ لَمَّا
حَانَتِ الصَّلَاةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا الصُّبْحُ مِنْ يَوْمِئِذٍ .
قال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَمَّهُمْ فِي السَّمَاءِ، وَالَّذِي تَظَاهَرَتْ
بِهِ الروايات أنه ببيت الْمَقْدِسِ، وَلَكِنْ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ
دُخُولِهِ إِلَيْهِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمَّا مَرَّ بِهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ جَعَلَ
يَسْأَلُ عَنْهُمْ جِبْرِيلَ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَهُوَ يُخْبِرُهُ بِهِمْ، وَهَذَا هُوَ
اللَّائِقُ، لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا مَطْلُوبًا إِلَى الْجَنَابِ الْعُلْوِيِّ لِيَفْرِضَ عَلَيْهِ
وَعَلَى أُمَّتِهِ مَا يَشَاءُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ لَمَّا فرغ من الذي أريد به،
اجتمع هو وإخوانه من النبيين ثُمَّ أَظْهَرَ شَرَفَهَ وَفَضْلَهُ عَلَيْهِمْ
بِتَقْدِيمِهِ فِي الْإِمَامَةِ، وَذَلِكَ عَنْ إِشَارَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُ فِي
ذَلِكَ .
ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَرَكِبَ الْبُرَاقَ وَعَادَ إِلَى مَكَّةَ بِغَلَسٍ،
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. اهـ
استظهر في تفسيره رحمه الله أنه أمَّ بالأنبياء في بيت المقدس بعد
المعراج به .
ثُمَّ عُرِج بالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إلى السماء
بصُحبة جبريل عليه السلام .
(ثم عرج به تلك الليلة من هناك) من هناك: أي من بيت المقدس.
(إلى السماء الدنيا)
سميت بذلك لأنها تلي الدنيا .
وكان في السماء الدنيا أبونا آدم - عليه الصلاة والسلام - فرحَّب
بالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وقال مرحبًا بالابن
الصالح، والنبي الصالح وهكذا سائر الأنبياء الذين مر بهم النبي ـ
صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في السماء يستبشرون به
ويرحِّبون به ويشهدون له بالنبوة.
(ثم للتي تليها) وهي السماء الثانية قال النبي ـ صلى الله عليه
وعلى آله وسلم: ( ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقِيلَ: مَنَ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ:
مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا
بِابْنَيْ الْخَالَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ، صَلَوَاتُ اللهِ
عَلَيْهِمَا، فَرَحَّبَا وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ) .
(ثم الثالثة) وكان في الثالثة نبي الله يوسف .
(ثم التي تليها) وهي السماء الرابعة وفيها نبي الله إدريس .
(ثم الخامسة) وفيها نبي الله هارون .
(ثم التي تليها) وهي السماء السادسة وفيها نبي الله موسى .
(ثم السابعة) وفيها نبي الله إبراهيم - عليهم الصلاة والسلام -.
(و رأى عندها جبريل على الصورة التي خلقه الله عليها)
النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ رأى جبريل - عليه
الصلاة والسلام - في صورته التي خُلق عليها مرتين كما في
صحيح مسلم (177) عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: كُنْتُ مُتَّكِئًا عِنْدَ عَائِشَةَ،
فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَائِشَةَ، ثَلَاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى
اللهِ الْفِرْيَةَ، قُلْتُ: مَا هُنَّ؟ قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ، قَالَ: وَكُنْتُ مُتَّكِئًا
فَجَلَسْتُ، فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْظِرِينِي، وَلَا تُعْجِلِينِي، أَلَمْ يَقُلِ
اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير: 23]، {وَلَقَدْ رَآهُ
نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13]؟ فَقَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ، لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ، رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ...» الحديث.
وما عدا ذلك كان النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يرى
جبريلَ - عليه الصلاة والسلام - على صورة رجل، وفي كثير
من الأحيان كان يأتي جبريلُ - عليه الصلاة والسلام - على
صورة الصحابي الجليل دحية بن خليفة الكلبي ـ رضي الله عنه ـ
.
أخرج البُخاري (3634 ) ومسلم (2451)عن أُسامة بنِ زيد
أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَهُ أُمُّ
سَلَمَةَ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُ ثُمَّ قَامَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ
سَلَمَةَ: «مَنْ هَذَا؟» أَوْ كَمَا قَالَ، قَالَ: قَالَتْ: هَذَا دِحْيَةُ، قَالَتْ أُمُّ
سَلَمَةَ: ايْمُ اللَّهِ مَا حَسِبْتُهُ إِلَّا إِيَّاهُ، حَتَّى سَمِعْتُ خُطْبَةَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ جِبْرِيلَ .
و في صحيح مسلم عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: «عُرِضَ عَلَيَّ الْأَنْبِيَاءُ، فَإِذَا مُوسَى ضَرْبٌ مِنَ
الرِّجَالِ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَرَأَيْتُ
إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا صَاحِبُكُمْ -
يَعْنِي نَفْسَهُ -، وَرَأَيْتُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ
شَبَهًا دَحْيَةُ» .
دحية : قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم تحت رقم
(168) : (دَحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ) هُوبِفَتْحِ الدَّالِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ .
وقال رحمه الله في شرح حديث أم سلمة المُتقدِّم : وَكَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَى جِبْرِيلَ عَلَى صُورَةِ دِحْيَةَ غَالِبًا وَرَآهُ
مَرَّتَيْنِ عَلَى صُورَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ .اهـ
إتيان جبريل - عليه الصلاة والسلام - في صورة رجل فيه شُبْهَةٌ
للإخوان المسلمين، ومن كان على شاكلتهم في إباحة التمثيل وهذا
غلطٌ ومنكر ، فجبريل - عليه الصلاة والسلام - الله سبحانه
وتعالى هو الذي يجعله على صورة رجل من أجل مؤانسة النبي ـ
صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وقد وردت الأدلةُ في تحريم التمثيل، ومن ذلك ما جاء في مُسند
أحمد عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَجُلٌ قَتَلَهُ نَبِيٌّ،
أَوْ قَتَلَ نَبِيًّا، وَإِمَامُ ضَلَالَةٍ، وَمُمَثِّلٌ مِنَ الْمُمَثِّلِينَ» . الحديث حسن،
وهو يدل على أن التمثيل كبيرة من كبائر الذنوب.
وفي سنن أبي داود عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: وَحَكَيْتُ لَهُ: أي حكت له
فعلًا. فالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أنكر و قال: (مَا
أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَانًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا) .
قال صاحِبُ عونِ المعبود : (وَحَكَيْتُ لَهُ) لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (إِنْسَانًا) أَيْ فَعَلْتُ مِثْلَ فِعْلِهِ تَحْقِيرًا لَهُ يُقَالُ حَكَاهُ وَحَاكَاهُ
وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْقَبِيحِ الْمُحَاكَاةُ (فَقَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَانًا) أَيْ مَا يَسُرُّنِي أَنْ أَتَحَدَّثَ
بِعَيْبِهِ أَوْ مَا يَسُرُّنِي أَنْ أُحَاكِيَهُ بِأَنْ أَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ أَوْ أَقُولَ مِثْلَ
قَوْلِهِ عَلَى وَجْهِ التَّنْقِيصِ . اهـ
هذه المسألة مما يعتبرها الإخوانُ المسلمون من وسائل الدعوة
وهي محرمة .
ويشتمل على محرمات كالكذب، وتشبه الرجال بالنساء والعكس .
فالتمثيل لايجوز مثلًا: يمثِّل الصحابة، أو يمثل غزوة من
الغزوات، أو يمثل في تمثيله الشيطانكيف يغوي العباد؟ .
لانحتاج إلى هذا. الدعوة لاتُنصر بالمعصية، فالمعصية إنما هي
من أسباب الخذلان في السيرـ
والعياذ بالله ـ قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ
يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد:7]. أي تنصروا دين الله كما شرع .
(و فَرَض الله عليه الصلوات تلك الليلة)
أي الصلوات الخمس - وإلا قد كانت الصلاة مفروضة من قبل
الصلوات الخمس - فرضت عليه ليلة الإسراء.
هذا ودليل المعراج من جملة الأدلة على إثبات علو الله عز وجل .
فإن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ عُرِج به إلى السماء
ولما بلغ سدرة المنتهى كلمهُ ربه وتردد نبينا محمد ـ صلى الله
عليه وعلى آله وسلم ـ على ربه ليسأله التخفيف في الصلاة، ففي
حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وفيه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ (فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى
مُوسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟
قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ
أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ "،
قَالَ: " فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ، خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي، فَحَطَّ
عَنِّي خَمْسًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا، قَالَ: إِنَّ
أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ "، قَالَ: "
فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَبَيْنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
حَتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ
صَلَاةٍ عَشْرٌ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلَاةً، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا
كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ
يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً "، قَالَ: "
فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرْتُهُ،
فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ "، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ " .
وكان مما رأى ليلة عُرِج به عُقوبة أصحاب الغِيبة التي يستَلِذُّها
بعضُ الناس كما روى أبوداود في سننه (4878)عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمَّا عُرِجَ بِي
مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ،
فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ، قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ " .
و بعد هذه الكرامات رجع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ
إلى مكة وأخبرَ بأنه أُسريَ به .
جاء في مسند الامام أحمد (2819) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ أُسْرِيَ بِي،
وَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ، فَظِعْتُ بِأَمْرِي، وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ» فَقَعَدَ
مُعْتَزِلًا حَزِينًا، قَالَ: فَمَرَّ بِهِ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلٍ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ
إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ: هَلْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ» قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: «إِنَّهُ أُسْرِيَ بِي
اللَّيْلَةَ» قَالَ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: «إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟» قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحْتَ
بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: فَلَمْ يُرِ أَنَّهُ يُكَذِّبُهُ، مَخَافَةَ أَنْ
يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ إِنْ دَعَا قَوْمَهُ إِلَيْهِ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ قَوْمَكَ
تُحَدِّثُهُمْ مَا حَدَّثْتَنِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ» .
فَقَالَ: هَيَّا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ حَتَّى قَالَ: فَانْتَفَضَتْ إِلَيْهِ
الْمَجَالِسُ، وَجَاءُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا، قَالَ: حَدِّثْ قَوْمَكَ بِمَا
حَدَّثْتَنِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي أُسْرِيَ بِي
اللَّيْلَةَ، قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالُوا: ثُمَّ أَصْبَحْتَ
بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ " قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ، وَمِنْ بَيْنِ
وَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، مُتَعَجِّبًا لِلكَذِبِ زَعَمَ قَالُوا: وَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ
تَنْعَتَ لَنَا الْمَسْجِدَ؟ وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ سَافَرَ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَرَأَى
الْمَسْجِدَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَذَهَبْتُ أَنْعَتُ فَمَا
زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ» ، قَالَ: «فَجِيءَ
بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عِقَالٍ أَوْ عُقَيْلٍ فَنَعَتُّهُ،
وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ» ، قَالَ: «وَكَانَ مَعَ هَذَا نَعْتٌ لَمْ أَحْفَظْهُ» قَالَ: "
فَقَالَ الْقَوْمُ: أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَ " .
وهذه كرامة ومعجزة عظيمة لهذا الرسولِ الكريم لمَّا عجز عن
الوصف قُرِّب له بيتُ المقدس فجعل ينظرُ ويصف .
ومع ذلك ازداد بعضهم ـ والعياذ بالله ـ تكذيبًا للنبي ـ صلى الله
عليه وعلى آله وسلم ـ كما قال تعالى: { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ
السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (15) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا
بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ}[الحجر:15،14]، فالأمر قد تُعرفُ
حقيقته وصدْقه و لا يُنتفَعُ به وهذا من الخُذْلان .
.
وقالوا إنهم لا يصِلُون بيت المقدس إلا بزمن والنبي صلى الله
عليه وسلم ذهب في الليل وفي الصبح وهو في مكة .
تنبيهٌ
يفيد الوالد الشيخ مقبل ـ رحمه الله تعالى ـ أن هناك رسالةً في
الإسراء والمعراج تنسب إلى عبدالله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ
وأن هذا لم يثبت عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.
******************************
و اختلف العلماءُ: هل رأى ربَّه عز وجل أوْلا ؟ .
على قولين: فصح "عن ابن عباس أنه قال: رأى ربَّه .
و جاء في رواية عنه: رآه بفؤاده".
و في الصحيحين "عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها أنكرت
ذلك على قائله، و قالت هي و ابن مسعود: إنما رأى جبريل ".
وروى مسلم في صحيحه من "حديث قتادة عن عبد الله بن شقيق
عن أبي ذرٍ أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم هل
رأيت ربَّك؟ قال: [ نورٌ ، أنَّى أَراه ! ؟ ] و في رواية [ رأيتُ
نوراً ]. فهذا الحديث كافٍ في هذه المسألة.
******************************
وهذه مسألة هل رأى النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ربه
عز وجل في ليلة الإسراء؟.
ذكر الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ أن في المسألة قولين
وأنه أنكر ذلك عائشة وابن مسعود - رضي الله عنهما – .
أمَّا حديث عائشة رضي اللهُ عنها متفق عليه تقول لمسروق (مَنْ
زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ
الْفِرْيَةَ ) .
وحديث ابن مسعودٍ أخرجه البخاري (3232 ) ومسلم (174)
من طريق أبي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ عَنْ
قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا
أَوْحَى} [النجم: 10] قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ «رَأَى جِبْرِيلَ،
لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ» .
ثم ذكر الحافظُ ابنُ كثير حديث أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قَالَ:
«نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ»، وفي رواية «رأيت نورًا» .
ثم قال: (فهذا الحديث كافٍ في هذه المسألة) أي: أن النبي ـ
صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لم يرَ ربه.
******************************
و لما أصبح رسولُ الله صلى الله عليه و سلم في قومِه أخبرَهم
بِما أَراه اللهُ من آياته الكُبرى،
فاشتدَّ تكذيبُهم له و أذاهم و استجراؤهم عليه.
و جعلَ رسولُ الله صلى الله عليه و سلم يعرض نفسَه على القبائل
أيامَ الموسِمِ و يقول: "مَن رجل يحمِلُني إلى قومه فيمنعُني حَتَّى
أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي!؟ فإن قريشاً قد منَعُوني أن أبلِّغَ رسالةَ ربي".
هذا وعمُّه أبو لهبٍ ـ لعنه الله ـ وراءَه يقول للنَّاس: لا تسمعُوا منه
فإنه كذاب .
فكان أحياءُ العرب يتحامونَه لِما يسمعون من قُريش عنه: إنَّه
كذَّاب، إنه ساحِرٌ، إنه كاهِنٌ، إنه شاعرٌ، أكاذيبُ يقذفونَه بها من
تلقاءِ أنفسِهم، فيُصْغِي إليهم من لا تمييزَ له من الأحياء.
وأما الألِبَّاء إذا سمِعُوا كلامَه و تفهَّمُوه شهِدوا بأنَّ ما يقولُه حقٌّ و
أنهم مفترُون عليه، فيسْلِمُون .
******************************
هذه المسألة الثانية في هذا الفصل أن النبي ـ صلى الله عليه
وعلى آله وسلم ـ بعد ما أُسري به، واشتد تكذيبُ كفارِ قريش له
جعل رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يعرِضُ نفسه
على القبائل والوفُود من يؤويه وينصره حتى يبلغ رسالةَ ربه
سبحانه.
(أيام الموسم )
الموسم: هُوَ الوَقْت الَّذِي يَجْتَمِع فِيهِ الحاجُّ كلَّ سَنَة، كَأَنَّهُ وُسِمَ
بِذَلِكَ الْوَسْم كما في النهاية.
(هذا وعمه أبو لهب ـ لعنه الله ـ وراءهُ يقول للنَّاس: لا تسمعُوا
منه فإنه كذَّاب).
هذا ثابت رواه الإمام أحمد (16023) عن ربيعةَ بن عباد وهو
في الصحيح المسند للوالد الشيخ مقبل ـ رحمه الله تعالى ـ عَنْ
رَبِيعَةَ بْنِ عِبَادٍ الدِّيلِيِّ، وَكَانَ جَاهِلِيًّا أَسْلَمَ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَصَرَ عَيْنِي بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ، يَقُولُ: " يَا
أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، تُفْلِحُوا " وَيَدْخُلُ فِي فِجَاجِهَا
وَالنَّاسُ مُتَقَصِّفُونَ عَلَيْهِ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا يَقُولُ شَيْئًا، وَهُوَ لَا
يَسْكُتُ، يَقُولُ: " أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تُفْلِحُوا " إِلَّا أَنَّ
وَرَاءَهُ رَجُلًا أَحْوَلَ وَضِيءَ الْوَجْهِ، ذَا غَدِيرَتَيْنِ يَقُولُ: إِنَّهُ صَابِئٌ،
كَاذِبٌ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَهُوَ يَذْكُرُ النُّبُوَّةَ،
قُلْتُ: مَنْ هَذَا الَّذِي يُكَذِّبُهُ؟ قَالُوا: عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ، قُلْتُ: إِنَّكَ كُنْتَ
يَوْمَئِذٍ صَغِيرًا، قَالَ: لَا وَاللهِ إِنِّي يَوْمَئِذٍ لَأَعْقِلُ) .
(ذَا غَدِيرَتَيْنِ) أي: ظفيرتين. (وَرَاءَهُ رَجُلًا أَحْوَلَ ...) والذي
يتبعه أبو لهب وكان أبو لهب شديد العداوة والأذى للنبي ـ صلى
الله عليه وعلى آله وسلم ـ ، كان يتبع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ويرميه بالحجارة حتى يدمِي عرقوبيه .
وبنحو حديث ربيعة بن عباد ـ رضي الله عنه ـ جاء عن طارق
بن عبدالله المحاربي وكلاهمافي الصحيح المسند مما ليس في
الصحيحين للوالد الشيخ مقبل ـ رحمه الله تعالى ـ.
(فكان أحياءُ العرب يتحامونه لِما يسمعون من قريش عنه: إنه
كذاب، إنه ساحر، إنه كاهن، إنه شاعر، أكاذيب يقذفونه بها من
تلقاء أنفسهم، فيصغي إليهم من لا تمييز له من الأحياء).
(يتحامونه ) أي: يتجنبونه، لِما يسمعون من قريش عنه إنه
كذَّاب، إنه ساحِر، إنه كاهِن،إنه شاعر ، هذا من أذى كفار قريش
وسبهم للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وقد ذكر الله ذلك
عنهم في القرآن .
وفي صحيح مسلم(868) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، " أَنَّ ضِمَادًا، قَدِمَ مَكَّةَ
وَكَانَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ، وَكَانَ يَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ، فَسَمِعَ سُفَهَاءَ
مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ، فَقَالَ: لَوْ أَنِّي رَأَيْتُ هَذَا
الرَّجُلَ لَعَلَّ اللهَ يَشْفِيهِ عَلَى يَدَيَّ، قَالَ فَلَقِيَهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي
أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ، وَإِنَّ اللهَ يَشْفِي عَلَى يَدِي مَنْ شَاءَ، فَهَلْ لَكَ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ
وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ،
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ» قَالَ: فَقَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ، فَأَعَادَهُنَّ
عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ: فَقَالَ: لَقَدْ
سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ، وَقَوْلَ السَّحَرَةِ، وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ، فَمَا سَمِعْتُ
مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ، وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ، قَالَ: فَقَالَ: هَاتِ
يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَبَايَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَعَلَى قَوْمِكَ»، قَالَ: وَعَلَى قَوْمِي) الحديث .
(وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ) يقصد ضماد بن ثعلبة ـ رضي الله عنه
ـ أنه سمع قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء، وكان كلام
النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أبلغ من كلامهم وأفصح
وأبلغ تأثيرًا.
ضماد بن ثعلبة ـ رضي الله عنه ـ كان يسمع من هذه الدعايات،
وهذا التنفير عن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وهكذا
كلُّ من يقدم من الوفود إلى مكة يسمع الشتم والسباب والتنفير.
(وأما الألبَّاء إذا سمعوا كلامَه و تفهَّموه شهِدوا بأن ما يقوُلُه حق
و أنهم مفترُون عليه، فيُسلِمون).
(الألبَّاء) أصحاب العقول السليمة .
(فيسلِمون) يدخلون في الإسلام. قد يسمع الإنسان تنفيرًا،
وأكاذيب ويكون هذا سبباً لهدايته .
فأسباب الهداية كثيرة يقول: آتي وأسمع وأنظرالحقيقة بنفسي، فإذا
سمع دعوة الحق والدعوةالصحيحة يؤثر فيه ويسلم ويهتدي للحق
.
حتى إن الوالد الشيخ مقبل ـ رحمه الله تعالى ـ كان يقول: ( الكَلَامُ
فِينَا دَعوَةٌ إِلَى دَعوَتِنَا).
انتهينا من هذا الفصل في الإسراء والمعراج وعرض النبي ـ
صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ
نفسه على القبائل لما رجع من الإسراء والمعراج .
******************************
فصل ـ حديثُ سويدِ بن الصامت و إسلام إياس بن معاذ
و كانَ ممَّا صنعَ اللهُ لأنصارِه من الأَوسِ و الخزرجِ أنهم كانُوا
يسمعُون من حُلفائِهم من يهودِ المدينةِ أنَّ نبياً مبعوثٌ في هذا
الزَّمن، و يتوعَّدُونهم به إذا حاربُوهم، و يقولون: إنا سنقتُلُكم معه
قَتْلَ عَادٍ وِإرَم ، و كان الأنصارُ يحجُّون البيتَ، كما كانتِ
العرب تحُجُّه و أما اليهودُ فلا. فلما رأى الأنصارُ رسولَ الله
صلى الله عليه و سلم يدعو الناس إلى الله تعالى، و رَأوا أماراتِ
الصدق عليه قالوا: والله هذا الذي توعَّدكم يهودُ به فلا يسبِقُنَّكم
إليه.
******************************
في هذا الفصل بيان أنَّ الأنصار آووا النبي ـ صلى الله عليه
وعلى آله وسلم ـ ونصروه حتى يقوم بتبليغ الرسالة، وهذا مما
جعله الله عز وجل ذُخرًا للأنصار، فقد كان النبي ـ صلى الله عليه
وعلى آله وسلم ـ يعرض نفسَه على القبائلِ ويَرُدُّونَه، واستجابتْ
لهذا الأنصارُ - رضي الله عنهم .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ كما في سيرةِ ابنِ هشام (1/ 195) : وَحَدَّثَنِي
عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ، قَالُوا: إنَّ مِمَّا
دَعَانَا إلَى الإِسلام، مَعَ رحمة الله تعالى وهُداه، لمَّا كنا نسمع من
رجال يهود، كُنا أهلَ شِرْكٍ أَصْحَابَ أَوَثَانٍ، وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ،
عِنْدَهُمْ عِلْمٌ لَيْسَ لَنَا، وَكَانَتْ لَا تَزَالُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ شُرُورٌ، فَإِذَا نِلْنا
مِنْهُمْ بعض ما يكرهون، قالوا لنا: إنه تَقَارَبَ زَمَانُ نَبِيٍّ يُبعث
الْآنَ نَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وِإرَم، فَكُنَّا كَثِيرًا مَا نَسْمَعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ .
فَلَمَّا بَعَثَ اللهُ رسولَه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَجَبْنَاهُ، حِينَ دَعَانَا
إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَرَفْنَا مَا كَانُوا يَتَوَعَّدُونَنَا بِهِ فَبَادَرْنَاهُمْ إلَيْهِ، فَآمَنَّا
بِهِ، وَكَفَرُوا بِهِ، فَفِينَا وَفِيهِمْ نَزَلَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتُ مِنْ الْبَقَرَةِ: {وَلَمَّا
جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ
يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ
اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] .
والحديث حسن .
وهو في الصحيح المسند من أسباب النزول للوالِد رحمه اللهُ .
الأنصار:هم الأوس والخزرج، وإيواؤهم للنبي ـ صلى الله عليه
وعلى آله وسلم ـ معدود في أعظم مناقبهم، وفضائلهم - رضي
الله عنهم -
والأنصار الله عز وجل سمَّاهم بهذا كما في صحيح البخاري
(3776) عن غَيْلاَنِ بْنِ جَرِيرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: أَرَأَيْتَ اسْمَ
الأَنْصَارِ، كُنْتُمْ تُسَمَّوْنَ بِهِ، أَمْ سَمَّاكُمُ اللَّهُ؟ قَالَ: «بَلْ سَمَّانَا اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ»، كُنَّا نَدْخُلُ عَلَى أَنَسٍ، فَيُحَدِّثُنَا بِمَنَاقِبِ الأَنْصَارِ،
وَمَشَاهِدِهِمْ، وَيُقْبِلُ عَلَيَّ، أَوْ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَزْدِ، فَيَقُولُ: «فَعَلَ
قَوْمُكَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا» .
(بَلْ سَمَّانَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ): يشير إلى الآيات التي فيها ذكر
الأنصار كقوله تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ
وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة:100] .
وقال الله عز وجل في فضلهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر:9].
{تَبَوَّءُوا} أي الأنصار { الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} الدَّار، وهي المدينة .
من أوصافهم الحميدة التي أثنى الله عز وجل عليهم بها محبة
المهاجرين إليهم {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا}
لايدخل في نفوسهم شيء إذا أُوثر المهاجرون عليهم بالعطاء،
{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} هذا من أوصافهم الحميدة صفة الإيثار.
وفي صحيح البخاري (3801) وصحيح مسلم (2510) عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ
الْأَنْصَارَ كَرِشِي وَعَيْبَتِي، وَإِنَّ النَّاسَ سَيَكْثُرُونَ وَيَقِلُّونَ، فَاقْبَلُوا
مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَاعْفُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ».
وفي صحيح البخاري (7244) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلاَ الهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ،
وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ وَادِيًا - أَوْ شِعْبًا - لَسَلَكْتُ
وَادِيَ الأَنْصَارِ، - أَوْ شِعْبَ الأَنْصَارِ» .
وفي البخاري (17)، ومسلم (74) عن أنس بن مالك عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «آيَةُالإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ».
رضي اللهُ عنهم وأرضاهم .
(حلفائهم) التَّحالُف: التعاقد على النصرة والمعونة .
(أنهم كانوا يسمعون من حلفائهم من يهود المدينة أن نبياً مبعوث
في هذا الزمن، و يتوعدونهم به إذا حاربوهم، و يقولون: إنا
سنقتلكم معه قتل عاد وإرم) .
لأن اليهود أهل كتاب، والكتب السابقة جاءت بإثبات نبوة هذا
النبي الكريم ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قال سبحانه
وتعالى: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}[آل عمران:81] .
وكانت اليهود تتوعد الأنصار أنه سيخرج فينا نبي وسنحاربكم
معه.
(و يقولون : إنا سنقتلكم معه قتل عاد وإرَم): أي نستأصلكم .
فلما بعث الله عز وجل النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ
حسدت اليهود العرب ؛ وهذا من أشد صفاتهم الذميمة الحسد،
وكفرت بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأنه مابُعث منهم .
(و كان الأنصارُ يحُجُّون البيت، كما كانت العرب تحجُّه و أما
اليهودُ فلا) .
اليهود ما كانوا يحجون
.
******************************
و كان سويدُ بنُ الصَّامت أخو بني عمرو بن عوف بنِ الأوس قد
قدِمَ مكَّةَ فدعاه رسولُ الله صلى الله عليه و سلم فلم يبْعُدْ ولم يُجِب
ثم انصرفَ إلى المدينة، فقُتل في بعض حروبهم .
و كان سويد هذا ابن خالة عبد المطلب .
ثم قدِم مكةَ أبو الحيسر أنسُ بن رافع في فِتْيَةٍ من قومه من بني
عبد الأشهل، يطلبونَ الحِلْفَ، فدعاهم رسولُ الله صلى الله عليه و
سلم إلى الإسلامِ ، فقال إياسُ بن معاذ منهم ـ و كان شاباً حدَثاً ـ:
يا قومِ، هذا و الله خير مما جِئنا له، فضربَه أبو الحيسر و انتهرَه،
فسكت، ثم لم يَتِمَّ لهم الحِلْف، فانصرفوا إلى بلادِهم إلى المدينة،
فيقال إن إياس بن معاذ مات مسلماً .
******************************
هؤلاء من الوفود إلى مكة .
و قد تكلَّم أهلُ العلم على حالِ سويد بن الصامت
قال ابنُ أبي حاتمٍ في الجرح والتعديل(4/ 233) سويد بن
الصامت رأى النبي صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز
وذلك قبل بعاث فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام
فكان قومه يرون أنه مات مسلما، شيخا كبيرا .
سمعت أبي يقول ذلك.
وقال ابنُ عبدالبر في الاستيعاب ترجمة سُوَيد :بعد أن ذكر أنه لم
يُظهِر إسلامَه لما لقي النبيَّ صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم .
قال :أنا شاكٌّ في إسلام سويد بن الصامت كما شك فيه غيري ممن ألف في هذا الشأن قبلي. والله أعلم.
وذكر الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - في الإصابة اثنين
يقالُ لكل منهما سويد بن الصامت .
أحدهما :سويد بن الصامت بن حارثة بن عدي الخزرجي وقال :
(قال ابن سعد والطّبريّ: شَهِدَ أحدًا) .
الثاني : سويد بن الصامت بن خالد :
بن عقبة الأوسيّ. ذكره ابن شاهين، وقال:
شُكَّ في إسلامه. وقال أبو عمر –أي ابن عبدالبر- : أنا أشك فيه
كما شكَّ غيري.
ذكره بعضهم معتمِدا على ما روى ابن إسحاق عن عاصم بن
عمرو، عن أشياخ من قومه، قالوا: قدم سويد بن الصامت
معتمرا، فدعاه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم إلى الإسلام فلم
يبعد، وقال: إن هذا القول حسن، ثم انصرف فقتل، فكان رجال
من قومه يقولون: إنا لنراه مسلما .
قلت: فإن صحّ ما قالوا لم يعدّ في الصحابة، لأنه لم يلق النبي
صلّى اللَّه عليه وسلم مؤمنا.
ويُنظرُ فتحُ الباري رقم 40 في آخر شرح الحديث .
وإسناد ابن إسحاق ضعيف ، فيه عنعنة ابنِ إسحاق وهو مدلس .
(و كان سويد هذا ابن خالة عبد المطلب)
عبد المطلب بن هاشم جد النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ
.
قال ابنُ كثير في البداية والنهاية (3/ 147) ترجمة سويد : وَأُمُّهُ
لَيْلَى بِنْتُ عَمْرٍو النَّجَّارِيَّةُ أُخْتُ سَلْمَى بِنْتِ عَمْرٍو أُمِّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
بْنِ هَاشِمٍ . فَسُوَيْدٌ هَذَا ابْنُ خَالَةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ جَدِّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وقد جاء أبوالحيسر وهو أنس بنُ رافع ومعه فِتْيَةٌ من قومه
ومنهم إياس بنُ معاذ وطلبوا مِن قريش محالفتهم على قتالِ
الخزرج ولم يتمَّ لهم جاء أنه قالت قريش:
بعُدت داركم مِنَّا مَتَى يجيب داعينا صريخَكم ومتى يجيب داعيكم
صريخَنا! كما في الطبقات لابنِ سعدٍ .
وإياس بن معاذ الأنصاري، أيضاً مختلف فيه قال ابنُ أبي حاتم
في الجرح والتعديل : يقال: له صحبة، سمعت أبي وأبا زرعة
يقولان ذلك .
وقال أبونعيم في معرفة الصحابة (1/ 293 ) :إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ
الْأَشْهَلِيُّ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فَعَرَضَ عَلَيْهِ
الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ، فَتُوُفِّيَ قَبْلَ مَقْدِمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ
.اهـ
وقال ابن السَّكن، وابن حِبَّان: له صحبة كما في الإصابة.
والشاهِدُ أنَّ النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ كان يدعو
الوفودَ إلى مكة يدعوهم إلى اللهعز وجل دعا سويدَ بنَ الصامت
، ودعا أبا الحيسر والفِتْيَة الذين معه ومنهم الشابُّ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ
الْأَشْهَلِيُّ .
وهذه طريقة وسُنن الأنبياء والمرسلين الدعوة إلى اللهِ عزوجل .
انتهينا ولله الحمد .
أم سمية الأثرية
2016-01-09, 21:58
الدَّرْسُ الثَّامِنُ من / الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم 18 من شهر ربيع الأَوَّل 1437 .
فصلٌ ـ بيعةُ العقبةِ الأولَى والثانية
ثم إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لقيَ عندِ العقبةِ في الموسِمِ نفراً من الأنصارِ
كُلَّهم من الخزْرج، وهم: أبو أمامةَ أسعدُ بن زُرارة بن عُدَس، وعوفُ بنُ الحارث بنِ رِفاعة
وهو ابنُ عفْراء ، ورافعُ بن مالك بن العَجْلان، وقُطبةُ بن عامر بن حَديدة، وعقبةُ بن عامر بن نابِي، وجابر
بن عبد الله بن رِئاب، فدعاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فأسلموا مبادرةً إلى الخير، ثم
رجعُوا إلى المدينة فدعوا إلى الإسلام، ففشا الإسلامُ فيها، حتَّى لم تبقَ دارٌ إلا وقد دخلَها الإسلامُ .
#################
قولهُ (لقي عندِ العقبةِ)قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم شرح حديث كعبٍ
الطويل في غزوة تبوك : الْعَقَبَةُ الَّتِي فِي طَرَفِ مِنًى التى يُضَافُ إِلَيْهَا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ .اهـ
(في الموسِمِ)أي موسمِ الحج بمنى .
(أبو أمامةَ أسعدُ بن زُرارة بن عُدَس)
عُدَس قال الصفَدي في( الوافي بالوفيات ) ترجمة أسعد : (عُدَس على وزن قُثَم) .
وصفَهُ الذهبي رحمه الله في ترجمته من سير أعلامِ النبلاء وقال : السَّيِّدُ، نَقِيْبُ بَنِي النَّجَّارِ، أَبُو أُمَامَةَ
الأَنْصَارِيُّ، الخَزْرَجِيُّ، مِنْ كُبَرَاءِ الصَّحَابَةِ .
وقال الحافظ في الإصابة : قديم الإسلام، شهد العقبتين، وكان نقيباً على قبيلته، ولم يكن في النُّقباء أصغر سنّا
منه. ويقال: إنه أول من بايع ليلة العقبة .
(عوفُ بنُ الحارث )هو أخو معاذ ومعوذ أولاد عفراء.
ذكرهم أهل المصطلح فيمن يُنسبُونَ إلى أُمهاتِهم .
وأبوهم الحارث بْنُ رفاعة بن الحارث .
(ورافع بن مالك بن العجلان) قال ابنُ عبدالبر في الاستيعاب في ترجمته :رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو
بن عامر بن زريق .
الزرقي الأنصاري الخزرجي، يكنى أبا مالك .
وقيل: يكنى أبا رفاعة، نقيب بدري عَقَبي، شهد العقبة الأولى والثانية، وشهد بدرا فيما ذكره موسى بن عقبة
عن ابن شهاب، ولم يذكره ابن إسحاق في البدريين.
(وقطبةُ بن عامر بن حَديدة)قال ابنُ عبدالبر في الاستيعاب : يكنى أبا زيد قَالَ ابْنُ إِسْحَاق: هُوَ قطبة بْن
عَامِر بْن حديدة بْن عَمْرو بن سواد بن غنْم بن كعب بن سَلَمَة الخزرجي، شهد العقبة الأولى والثانية، ولم
يختلفوا فِي ذَلِكَ، وشهد بدرا وأحدا والمشاهد كلّها مع رسول الله صلى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت معه راية بني سَلَمَة
يَوْم الْفَتْح، وجرح يَوْم أحد تسع جراحات.
(عقبةُ بن عامر بن نابِي) نابي بنون وموحدة وزن قاضي كما في الإصابة .
(جابر بن عبد الله بن رئاب) هذا جدُّهُ رِئاب فليس بالصحابي المشهور وهو جابر بن عبدالله بن عمرو بن
حرام هؤلاء الستة من الأنصار وكلُّهم من الخزرج ، أرَادَ اللهُ بهم خيراً ،شهِدُوا العقبةَ الأولى ولقيهم النبي
صلى الله عليه وعلى آله وسلم في موسم الحج بمنى عند جمرة العقبة ودعاهم إلى الله سبحانه وتعالى
فاستجابُوا وأسلموا مبادرةً إلى الخير، ثم رجعوا إلى المدينة دُعَاةً إلى الإسلام فانتشر الإسلامُ
( حتى لم تبقَ دارٌ إلا وقد دخلها الإسلام)
فليس يوجد دارٌ من دُورِ الأنصارِ إلَّا وفيها مَن أسلم من الرجالِ والنساء.
#################
فلما كان العامُ المقبلُ، جاء منهم اثنا عشرَ رجلاً: الستةُ الأوائِل خلا جابرَ بن عبد الله بن رئاب .
ومعهم: معاذُ بن الحارث بن رفاعة، أخو عوفٍ المتقدِّم، وذكوان بن عبد قيس بن خلدة ـ وقد أقام ذكوانُ هذا
بمكةَ حتى هاجرَ إلى المدينة فيُقال: إنه مهاجري أنصاري ـ وعبادةُ بن صامت بن قيس، وأبو عبد الرحمن
يزيد بن ثعلبة، فهؤلاء عشرةٌ من الخزرج .
واثنان من الأَوْس وهما: أبو الهيثم مالك بن التَّيِّهان، وعُويم بن ساعدة ، فبايعوا رسولَ الله صلى الله عليه
وسلم كبيعة النساء، ولم يكن أُمِر بالقتالِ بعدُ .
فلما انصرفُوا إلى المدينة، بعث معهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عمرو بنَ أُمِّ مَكتوم، ومصعب بن عمير
يُعلِّمان من أسلم منهم القرآنَ، ويدعُوان إلى الله عز وجل، فنزلا على أبي أمامة أسعدَ بنَ زُرارة، وكان مصعبُ
بن عمير يَؤمُّهُم وقد جمَّع بهم يوماً بالأربعين نفساً، فأسلم على يديهما بشرٌ كثيرٌ منهم: أسيدُ بن حضير
وسعدُ بن معاذ، وأسلمَ بإسلامِهما يومئذ جميعُ بني عبد الأشهل، الرجال والنساء، إلا الأُصيرمَ، وهو عمرو بن
ثابت بن وَقَش، فإنه تأخَّر إسلامُه إلى يومِ أُحُد، فأسلم يومئذ، وقاتل فقُتل قبل أن يسجدَ لله سجْدَةً، فأُخبر عنه
النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: "عمِل قليلاً وأُجر كثيراً". وكثُر الإسلامُ بالمدينةِ وظَهَرَ .
#################
(فلما كان العامُ المقبلُ، جاء منهم اثنا عشر رجلاً: الستةُ الأوائلُ خلا جابرَ بن عبد الله بن رئاب...)
يذكر الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ أنه في العام المقبل جاء من الأنصار اثنا عشر رجلًا : وهم
الخمسةُ الأوائل ، وآخرُون من الأنصار، عشرةٌ من الخزْرج، واثنان من الأوس .
فبايعوا رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ على السمع والطاعة وأن يمنعوا منه كما
يمنعون من أنفسهم، وأبنائهم، ونسائهم ومن فعل ذلك فله الجنَّة، وهذه البيعة يقال لها بيعةُ العقبة
الأولى، وأما اللقاءُ الأوَّل للأنصار فليس فيه مبايعتهم للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ .
ويقول ـ رحمه الله تعالى ـ هنا: (كبيعة النساء)
أي: على وفق ما في بيعة النساء التي نزلتْ بعدُ في سورة الممتحنة ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ
يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ
أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الممتحنة:12] .
وكانت بيعةً بدون الأمر بالقتال .
وهذه البيعة هي بيعَةُ"العقبة الأولى" .
وبعد هذه البيعة رجعُوا إلى المدينة، وبعثَ النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ من يعلمهم، ويعلم أبناءَهم
القرآن، والإسلام .
وهنا يذكر ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ أن الذي بعثه رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ معهم
عمرو بن أم مكتوم، ومصعب بن عُمَير .
وهذا في صحيح البخاري لكنه ليس فيه أن النبي صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم أرسلهما .
أخرج البُخاري في صحيحه (3925)عن البراء بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ
بْنُ عُمَيْرٍ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَكَانَا يُقْرِئَانِ النَّاسَ، فَقَدِمَ بِلاَلٌ وَسَعْدٌ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، ثُمَّ قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ فِي
عِشْرِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ " قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ المَدِينَةِ
فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى جَعَلَ الإِمَاءُ يَقُلْنَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَمَا قَدِمَ حَتَّى قَرَأْتُ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى فِي سُوَرٍ مِنَ المُفَصَّلِ " .
(وكان مصعب بن عمير يؤمُّهُم وقد جمَّع بهم يَوماً بالأربعينَ نفساً)
(جمَّع بهم ) قال الجوهري في الصحاح :جَمَّعَ القومُ تَجْميعاً، أي شهدوا الجُمْعَةَ وقَضَوا الصلاة
فيها.
وقال الفَيُّوْمِي في المصباحِ المنير : جَمَّعَ النَّاسُ بِالتَّشْدِيدِ إذَا شَهِدُوا الْجُمُعَةَ كَمَا يُقَالَ عَيَّدُوا إذَا شَهِدُوا الْعِيدَ .
وهذه اوَّلُ جمعة أقيمت في الإسلام في المدينة قبل الهجرة . وأخرجَ أبوداود في سننه (1069) عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَكَانَ قَائِدَ أَبِيهِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ بَصَرُهُ، عَنْ أَبِيهِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَرَحَّمَ لِأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِذَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ تَرَحَّمْتَ لِأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، قَالَ: " لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ
جَمَّعَ بِنَا فِي هَزْمِ النَّبِيتِ مِنْ حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ فِي نَقِيعٍ، يُقَالُ لَهُ: نَقِيعُ الْخَضَمَاتِ "، قُلْتُ: كَمْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ، قَالَ:
«أَرْبَعُونَ» .
وفيه عنعنةُ ابن إسحاق لكنه قد صرَّح بالتحديث عند البيهقي في سننه (3/ 251) فالحديثُ
حسَنٌ. والله أعلم .
وقد اختُلِف أول من صلى الجمعة بالمدينة فمنهم من قال : هو أسعد بنُ زُرارة على ظاهر الرواية .
ومنهم من جَمَعَ بينهُما بأنَّه نُسِبَ إلى أسعدَ بن زُرارة لأنه جمَع الناسَ ودعاهم ، ومصعبُ بنُ عمير هو
مقرئُهم ومعلمهم وكان يصلي بهم .
وقد استدل بعضُ الفقهاء مِن ذِكْرِ عددِ الأربعينَ مسألةً فقهيةً : أن صلاة الجمعة تنعقد بأربعين رجلًا، وليس
فيه دلالة لذلك؛ لأن هذه واقعة عيْن لا عمُومَ لها ، وقعتِ اتفاقًا، وقد ثبت في الصحيحين من حديث جَابِرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «أَقْبَلَتْ عِيرٌ وَنَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجُمُعَةَ، فَانْفَضَّ النَّاسُ إِلَّا اثْنَيْ عَشَرَ
رَجُلًا»، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا، وَتَرَكُوكَ قَائِمًا﴾ [الجمعة: 11] .
وفي المسألة خلاف طويل، والصحيح أن صلاة الجمعة تنعقد بما تنعقد به صلاة الجماعة.
بوَّب الإمام البخاري في صحيحه (بابٌ: اثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ) ثُمَّ ذكر
حديْثَ مَالِكِ بْنِ الحُوَيْرِثِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ، فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا، ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمَا
أَكْبَرُكُمَا» .
فصلاةُ الجمعة تنعقد باثنين بخطيب ومستمع، وقد ذهب إلى هذا جماعة من العلماء، ذهب إليه إبراهيمُ بنُ يزيد
النخعي، وعُزِيَ إلى الظاهرية، ورجَّحه الشوكاني في (نيل الأوطار)، وهو قول الوالدِ الشيخِ مقبل ـ رحمهم
الله تعالى ـ .
فالتحديد بالأربعين لا يصح، والصحيح أنَّ صلاةَ الجمعة تنعقد باثنين فأكثرَ .
(وأسلمَ بإسلامِهما يومئذ جميعُ بني عبد الأشهل) أي أسلم بإسلامِ أُسيد بن حضير وسعد بن
معاذ جميعُ بني عبد الأشْهل فإنهما كبيران في قومهما ،وسعد بن معاذ رئيس قبيلة الأوس وهذا
قَبْلَ الهجرةِ كما هو معلوم .
(إلا الأُصيرمَ، وهو عمرو بن ثابت بن وَقَش، فإنه تأخَّر إسلامُه إلى يومِ أُحُد، فأسلم يومئذٍ، وقاتل فقُتل قبلَ أن
يسجدَ لله سجدةً ، فأخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (عمِل قليلاً وأُجِر كثيراً) .
قال السُّهيلي في الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام(6/12) وَقْش، وَيُقَالُ فِيهِوَقَشٌ بِتَحْرِيكِ
الْقَافِ. اهـ
وقال الحافظ في فتح الباري تحت رقم(2808) وَقَشٍ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْقَافِ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ .اهـ
ويقال :أُقيش .
والحديث الذي ذكره ابنُ كثير أخرجه الإمامُ البخاري في صحيحه ـ رحمه الله تعالى ـ وبوَّب عليه
(بَابٌ: عَمَلٌ صَالِحٌ قَبْلَ القِتَالِ) ثُمَّ ذكر حديثَ البَرَاء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ
مُقَنَّعٌ بِالحَدِيدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُ أَوْ أُسْلِمُ؟ قَالَ: «أَسْلِمْ، ثُمَّ قَاتِلْ»، فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَاتَلَ، فَقُتِلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا».
(ثُمَّ قَاتَلَ، فَقُتِلَ) ولم يسجد لله سجدة لأنه أسلم ثم قاتل .
وأخرج أبو داود في سننه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، " أَنْ عَمْرَو بْنَ أُقَيْشٍ، كَانَ لَهُ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَرِهَ أَنْ يُسْلِمَ حَتَّى
يَأْخُذَهُ، فَجَاءَ يَوْمُ أُحُدٍ، فَقَالَ: أَيْنَ بَنُو عَمِّي؟ قَالُوا بِأُحُدٍ، قَالَ: أَيْنَ فُلَانٌ؟ قَالُوا بِأُحُدٍ، قَالَ: فَأَيْنَ فُلَانٌ؟ قَالُوا:
بِأُحُدٍ، فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ وَرَكِبَ فَرَسَهُ، ثُمَّ تَوَجَّهَ قِبَلَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ، قَالُوا: إِلَيْكَ عَنَّا يَا عَمْرُو، قَالَ: إِنِّي قَدْ
آمَنْتُ، فَقَاتَلَ حَتَّى جُرِحَ، فَحُمِلَ إِلَى أَهْلِهِ جَرِيحًا، فَجَاءَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ لِأُخْتِهِ: سَلِيهِ حَمِيَّةً لِقَوْمِكَ، أَوْ
غَضَبًا لَهُمْ أَمْ غَضَبًا لِلَّهِ؟ فَقَالَ: بَلْ غَضَبًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَمَاتَ فَدَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَا صَلَّى لِلَّهِ صَلَاةً " .
وهو حديث حسن . وهو في الصحيح المسند لوالدي رحمه الله (1/رقم 1393) .
وفي سيرة ابنِ إسحاق كَانَ يَقُولُ أبوهريرة : حَدِّثُونِي عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ لَمْ يُصَلِّ قَطُّ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفْهُ النَّاسُ
سَأَلُوهُ: مَنْ هُوَ؟ فَيَقُولُ:
أُصَيْرِمٌ، بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، عَمْرُو بْنُ ثَابِتِ بْنِ وَقْشٍ الخ .
وهذا من علامات حُسْنِ الخاتمة ختمُ العمر بعملٍ صالح ،يُجاهد ثم يموت ،أو يفطر من صومه ثم يموت ، أو
ينتهي من حجه ثم يموت ، أو من صلاة الجماعة ، أو من حِفظِ القرآن ، أو يتوبويكون خاتِمَةَ عمره ، إلى
غير ذلك .
أخرج الإمامُ أحمد في مسنده عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَمِقِ الْخُزَاعِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِذَا
أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ " قِيلَ: وَمَا اسْتَعْمَلَهُ؟ قَالَ: " يُفْتَحُ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِهِ حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ
مَنْ حَوْلَهُ " .
والحديث حسن . وهو في الصحيح المسند لوالدي رحمه الله (1004) .
الأعمال بالخواتيم ـ نسأل الله حسن الخاتمة ـ يقولُ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ
بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى لاَ يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ،
وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ
الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا ") رواه البخاري ومسلم من حديث عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ
قال ابنُ القيم رحمه الله في الجواب الكافي 92: وَلَقَدْ قَطَعَ خَوْفُ الْخَاتِمَةِ ظُهُورَ الْمُتَّقِينَ وَكَأَنَّ
الْمُسِيئِينَ الظَّالِمِينَ قَدْ أَخَذُوا تَوْقِيعًا بِالْأَمَانِ {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ
لَمَا تَحْكُمُونَ - سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [سُورَةُ الْقَلَمِ: 39 - 40] .اهـ
فينبغي أن يكون الإنسان خائفًا متيقظًا لا يرتكب معصية فتحبِط عملَه ، فالمعصية قد تُحبِطُ
الحسنة ، ولا يرتكب معصية فما يدري بعد ذلك أن يكونَ في جملة الزائغين، فإن الله يقول: ﴿فَلَمَّا
زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الصف:5]. وهذا من أضرار المعصية
أنها من أسباب الزيغ، وعدم الثبات، ونستفيد أن الإنسان لا يغتر مهما كان عنده من الأعمال
الصالحة، فإنه لا يدري بأي شيء يُختم له . والله المستعان.
#################
ثم رجع مصعبُ إلى مكة، ووافَى الموسمَ ذلك العامَ خلقٌ كثيرٌ من الأنصار من المسلمين
والمشركين، وزعيمُ القومِ البراءُ بنُ معرُور رضي الله عنه فلما كانت ليلة العقبة ـ الثلث الأول
منها ـ تسلَّل إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثلاثةٌ وسبعون رجلاً وامرأتان، فبايعوا رسولَ
الله صلى الله عليه وسلم خُفْية من قومهم ومن كفارِ مكة، على أن يمنعُوه مما يمنعون منه
نساءَهم وأبناءَهم وأزُرَهم .
وكان أوَّل من بايعه ليلتَئِذٍ البراء بن معرور، وكانت له اليد البيضاء، إذ أكَّد العقدَ وبادر إليه.
وحضر العباسُ عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم موَثِّقاً مؤكِّداً للبيعة مع أنه كان بعدُ على دين قومه .
واختارَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منهم تلك الليلة اثني عشر نَقيباً وهم: أسعدُ بنُ زرارة بن عُدَس
،وسعد بن ربيع بن عمرو، وعبدُ الله بنُ رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس، ورافعُ بن مالك بن العجلان،
والبراء بن معرور بن صخر بن خنساء، وعبد الله بن عمرو بن حرام،- وهو والد جابر، وكان قد أسلم تلك
الليلة رضي الله عنه-، وسعد بن عبادة بن دُليم، والمنذرُ بنُ عمرو بن خُنيس، وعبادةُ بن الصامت. فهؤلاء
تسعةٌ من الخزرج .
ومن الأوس ثلاثةٌ وهم: أسيدُ بن الحضير بن سماك، وسعدُ بن خيثمة بن الحارث، ورفاعةُ بن عبد المنذر بن
زبير، وقيل: بل أبوالهيثم بن التَّيِّهان مكانَه ، ثم الناسُ بعدهم .
والمرأتان هما: أم عمارةَ نسيبة بنت كعب بن عمرو، التي قتل مسيلمةُ ابنَها حبيب بن زيد بن
عاصم بن كعب ، وأسماء بنت عمرو بن عدي بن نابِي .
#################
هذه بيعة العَقبَةُ الثانية ،بينها وبين الأولى ،عامٌ واحد ،فإن الأنصارَ رضي الله عنهم تأَلَّمُوا وحزِنُوا مما يرونَ
ويسمعون من أذى الكفار للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعدمِ إيواء أحدٍ من القبائلِ له فتشاوروا أن
يقوموا هم بإيواء هذا النبي الكريم .
وهذا من توفيقِ الله لهم ،ورِزْقٌ ساقه الله إليهم ،والله يؤتي فضله ما يَشاء ،والله ذوالفضلِ
العظيم .
ونسوقُ هنا ما يدل على هذا المعنى من حديث جابر .
أخرج الإمامُ أحمد في مسنده (23/22)عن جابر بن عبدالله رضي اللهُ عنه الحديث وفيه ثُمَّ بَعَثَنَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ،
فَأْتَمَرْنَا، وَاجْتَمَعْنَا سَبْعُونَ رَجُلًا مِنَّا، فَقُلْنَا: حَتَّى مَتَى نَذَرُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطْرَدُ فِي جِبَالِ مَكَّةَ،
وَيَخَافُ، فَرَحَلْنَا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَيْهِ فِي الْمَوْسِمِ، فَوَاعَدْنَاهُ شِعْبَ الْعَقَبَةِ، فَقَالَ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنِّي لَا
أَدْرِي مَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الَّذِينَ جَاءُوكَ؟ إِنِّي ذُو مَعْرِفَةٍ بِأَهْلِ يَثْرِبَ، فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَهُ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ، فَلَمَّا نَظَرَ
الْعَبَّاسُ فِي وُجُوهِنَا، قَالَ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا أَعْرِفُهُمْ، هَؤُلَاءِ أَحْدَاثٌ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، عَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: "
تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ،
وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللهِ لَا تَأْخُذُكُمْ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ يَثْرِبَ،
فَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ وَلَكُمُ الْجَنَّةُ "، فَقُمْنَا نُبَايِعُهُ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ
وَهُوَ أَصْغَرُ السَّبْعِينَ، فَقَالَ: رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ، إِنَّا لَمْ نَضْرِبْ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْمَطِيِّ إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، إِنَّ
إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً، وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ، وَأَنْ تَعَضَّكُمُ السُّيُوفُ، فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَى السُّيُوفِ
إِذَا مَسَّتْكُمْ، وَعَلَى قَتْلِ خِيَارِكُمْ، وَعَلَى مُفَارَقَةِ الْعَرَبِ كَافَّةً، فَخُذُوهُ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللهِ، وَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَخَافُونَ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ خِيفَةً فَذَرُوهُ، فَهُوَ أَعْذَرُ عِنْدَ اللهِ،قَالَوا: يَا أَسْعَدُ بْنَ زُرَارَةَ أَمِطْ عَنَّا يَدَكَ، فَوَاللهِ لَا نَذَرُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ، وَلَا
نَسْتَقِيلُهَا، فَقُمْنَا إِلَيْهِ رَجُلًا رَجُلًا يَأْخُذُ عَلَيْنَا بِشُرْطَةِ الْعَبَّاسِ،، وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ .
والحديث حسن .
ويُنظر الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين لوالدي رحمه الله (215) .
(وزَعِيمُ القوم البراء بن معرور ـ رضي الله عنه ـ) قال الحافظ في فتح الباري تحت رقم (3890) الْبَرَاءُ
بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَمَعْرُورٌ بِمُهْمَلَاتٍ يُقَالُ إِنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْأَنْصَارِ وَأَوَّلَ مَنْ بَايَعَ فِي الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ
وَمَاتَ قَبْلَ قُدُومِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ بِشَهْرٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ فِي قِصَّةٍ
ذكرهَا ابن إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ .
(فلما كانت ليلة العقبة ـ الثلث الأول منها)
لما مضى الثلث الأول من ليلةِ العقبة تسلَّل - أي ذهب بخُفية - ثلاثة وسبعون رجلًا وامرأتان ذهبوا
سرًا من قومهم ومن كفار مكة فبايعوا النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ.
(على أن يمنعُوه مما يمنعون منه نساءَهم وأبناءَهم وأُزُرَهم).
أُزُرهم: هو جمع إزار، قال ابن الأثير في النهاية: (فِي حَدِيثِ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ «لَنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرُنَا» أَيْ
نِسَاءَنَا وَأَهْلَنَا، كَنَّى عَنْهُنَّ بالأزرِ.
وَقِيلَ أَرَادَ أَنْفُسَنَا. وَقَدْ يُكنى عَنِ النفْس بِالْإِزَارِ) .
وفي (بهجة المحافل وبغية الأماثل) ليحيى بن أبى بكر العامري (1/138) : بضمِّ الهمزة
والزاي وفتح ما بعدهما واحده إزار يذكَّرُ ويؤنث أي نساءنا وأهلنا .اهـ
(وكان أول من بايعه ليلتئذ البراء بن معرور، وكانت له اليد البيضاء، إذ أكَّد العقد وبادر إليه).
(ليلتئذ) أي: ليلة بيعة العقبة الثانية.
(وكانت له اليد البيضاء)
لسابقيته في المبادرة لمبايعة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ.
(وحضر العباسُ عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم )
حضر بيعة العقبة الثانية العباس عم رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ
(موثِّقاً مؤكداً للبيعة مع أنه كان بعدُ على دين قومه) .
موثِّقاً أي آخذاً عليهم العهد والميثاق ، وما كان قد أسلم فإنه لم يسلم إلا بعد غزوة بدر لكنه جاء هنا
حَمِية ،وغَضَبَاً ، وعصبية للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ.
وفي مسند أحمد(23/22) بسند حسن عن جابر بن عبدالله في سياق حديث بيع العقبة
وفيه حضور العبَّاس بيعة العقبة الثانية وأنه قال رضي الله عنه : يَا ابْنَ أَخِي، إِنِّي لَا أَدْرِي مَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ
الَّذِينَ جَاءُوكَ؟ إِنِّي ذُو مَعْرِفَةٍ بِأَهْلِ يَثْرِبَ، فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَهُ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ، فَلَمَّا نَظَرَ الْعَبَّاسُ فِي وُجُوهِنَا،
قَالَ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا أَعْرِفُهُمْ، هَؤُلَاءِ أَحْدَاثٌ .
وفيه: فَقُمْنَا إِلَيْهِ رَجُلًا رَجُلًا يَأْخُذُ عَلَيْنَا بِشُرْطَةِ الْعَبَّاسِ،، وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ ).
أي ميثاق وعهد العباس على الأنصار الوفاء لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وهذا من مناصرة العباس لابنِ أخيه ومحبته له رضي اللهُ عنه .
(واختار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منهم تلك الليلة اثنَي عشر نقيباً)
أي أمرَالأنصار أن يختاروا منهم اثنَي عشر نقيباً ففي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
أمر أنْ يُخرِجوا منهم اثني عشر نقيباً .
قال السُّهيلي رحمه الله في الروض الأنف (4/74) : وَإِنّمَا جَعَلَهُمْ عَلَيْهِ السّلَامُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا اقْتِدَاءً بِقَوْلِهِ
تَعَالَى فِي قَوْمِ مُوسَى: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} [الْمَائِدَةَ: 12] .اهـ
قال ابنُ الأثير في النهاية : النُّقَبَاءُ: جَمْع نَقِيب، وَهُوَ كالعَريف عَلَى الْقَوْمِ المُقَدَّم عَلَيْهِمْ، الَّذِي يَتَعَرَّف أخبارَهم،
ويُنَقِّبُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ: أَيْ يُفَتِّش. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَعَل ليلةَ العَقَبة كُلَّ واحدٍ مِنَ الجَماعة
الَّذِينَ بَايَعُوهُ بِهَا نَقِيبا عَلَى قومِه وجَماعتِه، ليأخُذوا عَلَيْهِمُ الإسْلام، ويُعَرِّفوهم شَرَائِطَهُ ، وَكَانُوا اثْنَيْ عشَر
نَقِيبًا كلُّهم مِنَ الْأَنْصَارِ. اهـ
ثم ذكر ابنُ كثيرٍ رحمه الله النُّقباءَ الاثني عشر .
وفي الصحيحين أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ
العَقَبَةِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وذكر حديث البيعة .
وفي الصحيحين عن عائشة الحديث في نزول آية التيمم وفيه فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ: - وَهُوَ أَحَدُ
النُّقَبَاءِ - «مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ» فَقَالَتْ عَائِشَةُ: «فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ
فَوَجَدْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ» .
(والمرأتان هما: أم عمارة نسيبة بنت كعب بن عمرو، التي قتل مسيلمة ابنها حبيب بن زيد بن عاصم بن كعب).
المرأتان يبينُ رحمه الله ما تقدم أنه ( تسلَّل إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثلاثةٌ وسبعون
رجلاً وامرأتان) .
فكان في هذه البيعة، بيعة العقبة الثانية أم عمارة نسيبة بنت كعب ، ويذكرون أن مسيلمة كان
يقول لابنها حبيب فَجَعَلَ يَقُولُ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. ثُمَّ يَقُولُ: أَتَشْهَدُ أَنِّي
رَسُولُ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ: لَا أَسْمَعُ. فَيَقُولُ لَهُ مُسَيْلِمَةُ: أَتَسْمَعُ هَذَا وَلَا تَسْمَعُ ذَاكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَجَعَلَ
يُقَطِّعه عُضْوًا عُضْوًا . والله أعلم.
والمرأة الثانية : أسماء بنت عمرو بن عدي وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يبايع
النساء بالكلام من دون مسِّ اليد كما ثبت بذلك الأدلة .
وممن شهد هذه البيعة كعبُ بن مالك رضي الله عنه كما في الصحيحين (وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ العَقَبَةِ، حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الإِسْلاَمِ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ، أَذْكَرَ فِي
النَّاسِ مِنْهَا) .
#################
فلما تمتْ هذه البيعةُ استأذنوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يميلُوا على أهلِ العقبةِ فلم
يأذنْ لهم في ذلك، بل أذِن للمسلمين بعدها من أهلِ مكة في الهِجرةِ إلى المدينة، فبادر الناس
إلى ذلك، فكان أول من خرجَ إلى المدينة من أهل مكةَ أبو سلمةَ بنُ عبد الأسد، هو وامرأتُه أمُّ
سلمة فاحتُبِستْ دُونَه ومُنِعت سنةً من اللِّحاقِ به، وحِيل بينَها وبينَ ولدِها، ثم خرجتْ بعدَ
السنة بولدِها إلى المدينة، و شيَّعها عثمانُ بن طلحة، ويقال: إنَّ أبا سلمةَ هاجرَ قبْل العَقَبةِ
الأخيرة، فالله أعلم.
ثم خرجَ الناسُ أرْسالاً يتبعُ بعضُهُم بعضاً .
#################
لما تمَّت البيعةُ استأذنوا النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في قتال الكفار بمنى
وهذا من شدة محبتهم للإسلام وللنبي فلم يأذنِ النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في ذلك،
ولكنه أَذن بالهجرة إلى المدينة؛ فإِن الأنصارَ قد استعدُّوا لنصرة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله
وسلم ـ والدفاع عنه واتَّسعت صدورُهم للوفود والمهاجرين إلى دارِ الهجرة رضي الله عنهم
فبادر المسلمون إلى الهجرة إلى مدينة رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ.
(فكان أول من خرج إلى المدينة من أهل مكة أبو سلمة بن عبد الأسد، هو وامرأته أم سلمة)
مَن أول من هاجر من أهل مكة إلى المدينة ؟ .
يذكر الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ هنا أول من خرج إلى المدينة من أهل مكة أبو سلمة
وزوجته وقيل غير ذلك .
قال الحافظ ابنُ حجر عند شرح حديث البراء بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا
مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ... قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ-أي في الشرح له - أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَدِمَ
الْمَدِينَةَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ
عَبْدِ الْأَسَدِ وَامْرَأَتُهُ أُمُّ سَلَمَةَ وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَمَّاسُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ الشَّرِيدِ وَعَبْدُ
اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بِحَمْلِ الْأَوَّلِيَّةِ فِي أَحَدِهِمَا عَلَى صِفَةٍ خَاصَّةٍ فقد جزم
ابن عُقْبَةَ بِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مُطْلَقًا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ وَكَانَ رَجَعَ مِنَ
الْحَبَشَةِ إِلَى مَكَّةَ فَأُوذِيَ بِمَكَّةَ فَبَلَغَهُ مَا وَقَعَ لِلِاثْنَيْ عَشَرَ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي الْعَقَبَةِ الْأُولَى فَتَوَجَّهَ إِلَى
الْمَدِينَةِ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ فَيُجْمَعُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ مَا وَقَعَ هُنَا بِأَنَّ أَبَا سَلَمَةَ خَرَجَ لَا لِقَصْدِ الْإِقَامَةِ
بِالْمَدِينَةِ بَلْ فِرَارًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِخِلَافِ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ فَإِنَّهُ خَرَجَ إِلَيْهَا لِلْإِقَامَةِ بِهَا وَتَعْلِيمِ مَنْ
أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِهَا بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُعَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِكُلٍّ أَوَّلِيَّةٌ مِنْ جِهَةٍ .اهـ
(فاحتُبست دونَه ومُنعت سنة من اللِّحاق به، وحيل بينها وبين ولدها)
تكلم الحافظ في فتحِ الباري (3925) على أوِّلِ مُهاجرة من النساء وقال : لَيْلَى بِنْتُ أَبِي
حَثْمَةَ امرأةً عَامِر بْن رَبِيعَةَ هِيَ أَوَّلُ مُهَاجِرَةٍ .
وَقِيلَ بَلْ أَوَّلُ مُهَاجِرَةٍ أُمُّ سَلَمَةَ لِقَوْلِهَا لَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ وَيُجْمَعُ بِأَنَّ أَوَّلِيَّةَ أُمِّ سَلَمَةَ بِقَيْدِ الْبَيْتِ
وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ إِطْلَاقِهَا .اهـ
والقصة التي أشار إليها ابن كثير في قصة أبي سلمة وأنه مُنع أن يأخذ معه أم سلمة وأنه حيل بين أم سلمة
وولدها أي سلمة .
هي ضعيفَةُ السند قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ كما في سيرةِ ابنِ هشام (1/ 469) : فَحَدَّثَنِي أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ
سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ابْن أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ سَلَمَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ:
لَمَّا أَجْمَعَ أَبُو سَلَمَةَ الْخُرُوجَ إلَى الْمَدِينَةِ رَحَلَ لِي بَعِيرَهُ ثُمَّ حَمَلَنِي عَلَيْهِ، وَحَمَلَ مَعِي ابْنِي سَلَمَةَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ
فِي حِجْرِي، ثُمَّ خَرَجَ بِي يَقُودُ بِي بَعِيرَهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ رِجَالُ بَنِي الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ قَامُوا إلَيْهِ
القصة بطولها .
وهذا إسنادٌ ضعيف سلمة بن عبدالله بن عمر مقبولٌ كما في تقريب التهذيب .
فهو مجهول حال .
أمَّا إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ فهو ثقة .
قوله (وشيَّعها طلحة بن عثمان ) كان طلحة بن عثمان بعدَ بيعة العقبة كافرًا لم يسلم وقد منَّ الله
عليه بالإسلام بعد ذلك .
قال الحافظ في الإصابة في تمييز الصحابة .. أسلم عثمانُ بن طلحة في هُدنة الحديبيّة، وهاجر مع خالد بن
الوليد، وشهد الفتح مع النبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم، فأعطاه مفتاح الكعبة.
وفي «الصّحيحين» من حديث ابن عمر، قال: دخل النبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم الكعبة، ودخل معه بلال وعثمان بن طلحة، وأسامة بن زيد ... الحديث . اهـ المراد
(ثم خرج الناس أرسَالاً يتبع بعضُهم بعضاً).
أي جماعات يتبع بعضُهم بعضًا، ولم يبق في مكة من المسلمين إلا رسول الله ـ صلىالله عليه وعلى آله وسلم-
وأبو بكر الصديق ومَن حبسه المشركون مثل سلمة بن هشام ،وعياش ابن أبي ربيعة ، وعدد يسير .
وقد كان أبو بكر رضي الله عنه يريد الخروجَ مع المهاجرين ففي صحيح البخاري عن عائشة
الحديث وفيه وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى رِسْلِكَ
فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي» ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ؟ قَالَ: «نَعَمْ» .
انتهينا من هذا الفصل وخُلاصةُ ما استفدنا :
w فضلُ الأنصار - رضي الله عنهم - فهم الذين آووا رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ
بعدما كانت القبائل كلُّها ترد قوله، ولا تستجيب له، وهذا مما فاز به الأنصار ﴿...ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [المائدة:54] .
w ذكرُ ثلاث مراحل لهم في ثلاثة مواسم متتابعة ومسابقتهم إلى هذه المنقبة العظيمة .
w العامُ الأوَّل : لقي النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم نفراً منهم عند العقبة فدعاهم
إلى الإسلام فأسلموا ثم رجعوا دُعاة إلى هذا الدين الحنيف وكان في ذلك نصرٌ عظيم.
w العامُ الثاني جاء اثناعشر رجلا وبايعوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وهذه بيعة العقبةُ الأُولى وليس فيها الأمرُ بالقتال .
w العام الثالث :جاء خلق كثير وبايعه الأنصارُ على أن يمنعوا منه كما يمنعون منه
نساءَهم وأولادهم وأنفسهم .
وتسمَّى بيعة العقبة الثانية ، وبيعة العقبة الكُبرى .
واستفدنا خيرَاً كبيراً في السيرة ومن هذه المسائل :
· ذكوان بن عبد قيس بن خلدة الأنصاري الخزرجي أقام بمكة حتى هاجر إلى المدينة فيقال: إنه
مهاجري أنصاري .
· اختلافهم في أوِّل المهاجرين إلى المدينة .
w بيان أول جمعة كانت في المدينة .
w عمرو بن ثابت بن وقش الأصيرم صحابي أسلم ثم قاتل وقتل شهيدًا «عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا» ولم
يكن قد صلَّى للهِ صلاة .
w نصُّ ابنِ كثير أَنَّ أوَّل من بايع ليلة العقبة الثانية البراءُ بن معرور .
w تعرَّفْنَا على عددٍ من الأنصار والسابقين منهم ومن هُم النقباء - رضي الله عنهم -.
w أنَّ عمرو بن حرام والد جابر بن عبدالله أسلم ليلة العقبة الثانية وصارَ من النُّقَباء .
w إذنُ النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بعد بيعتي العقبة لأصحابه في الهجرة
والله أعلم .
أم سمية الأثرية
2016-01-09, 22:00
الدَّرْسُ التَّاسِعُ من / كِتَاب الفُصُولِ من سيرَةِ الرسُولِ صلى اللهُ عليه وسلَّم 26/ من شهر ربيع الأوَّل 1437
فصل ـ هجرةُ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم
ولم يبقَ بمكةَ من المسلمينَ إلا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأبو بكرٍ، وعلي
رضي الله تعالى عنهما أقامَا بأمره لهما، وخَلا منِ اعتقَلَه المشركونَ كَرْهاً، وقد أعدَّ
أبو بكرٍ رضي الله عنه جَهازَه وجَهازَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، منتظِراً حتَّى
يأذنَ اللهُ عزَّ وجل لرسولِه صلى الله عليه وسلم في الخروجِ .
فلمَّا كانت ليلةً هَمَّ المشركون بالفَتْكِ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وأرصَدُوا علَى
البابِ أقوامَاً، إذا خرجَ عليهم قتلُوه، فلمَّا خرجَ عليهم لم يرَهُ منهم أحدٌ .
***************************
هذا الفصلُ في هجرةِ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مكةَ إلى
المدينة .
وبينَ هجرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والعقبة الكبرى وهي العقبة الأخيرةُ أكثرُ من شهرين لأن العقبةَ الكُبرى في ذي الحجة أيام التشريق وهجرته في ربيع الأول في نفس العام .
وقد تكلَّم الحافظُ ابنُ حجر على هذه المسألة في فتح الباري تحت رقم (3904) وقال : وَذَكَرَالْحَاكِمُ أَنَّ خُرُوجَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ مَكَّةَ كَانَ
بَعْدَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ أَو قَرِيبا مِنْهَا .
قال : وَجزم ابنُ إِسْحَاقَ بِأَنَّهُ خَرَجَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ
بَعْدَ الْبَيْعَةِ بِشَهْرَيْنِوَبِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَكَذَا جَزَمَ بِهِ الْأُمَوِيُّ فِي الْمَغَازِي عَن
ابن إِسْحَاقَ فَقَالَ كَانَ مَخْرَجُهُ مِنْمَكَّةَ بَعْدَ الْعَقَبَةِ بِشَهْرَيْنِ وَلَيَالٍ قَالَ وَخَرَجَ لِهِلَالِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ
مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قُلْتُ وَعَلَى هَذَا خَرَجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ .اهـ
وقال رحمه اللهُ (3908)معلِّقا على أثر ابنِ شهاب( كَانَ بَيْنَ لَيْلَةِ الْعَقَبَةِ يَعْنِي الْأَخِيرَةَ وَبَيْنَمُهَاجِرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهَا ) .
قال الحافظ : قُلْتُ هِيَ ذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَصَفَرُ لَكِنْ كَانَ مَضَى مِنْ ذِي الْحِجَّةِ عَشْرَةُ أَيَّامٍوَدَخَلَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ أَنِ اسْتَهَلَّ رَبِيعٌ الْأَوَّلُ فَمَهْمَا كَانَ الْوَاقِعُ أَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ مِنَ الشَّهْرِيُعْرَفُ مِنْهُ الْقَدْرُ عَلَى التَّحْرِيرِ فَقَدْ يَكُونُ ثَلَاثَةُ سَوَاءً وَقَدْ يَنْقُصُ وَقَدْ يَزِيدُ لِأَنَّ أَقَلَّ مَا قِيلَ إِنَّهُدَخَلَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْهُ وَأَكْثَرَ مَا قِيلَ إِنَّهُ دَخَلَ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْهُ . اهـ
فبعد ما اشتدَّ أذى المشركينَ للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولصحابتِه أذِن لهم بالهجرةولم يكُن قد جاء الإِذنُ للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولهذا في صحيح البخاري عنعائشة رضي الله عنها وفيه:
(وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ قِبَلَ المَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى رِسْلِكَ، فَإِنِّي أَرْجُوأَنْ يُؤْذَنَ لِي» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ؟ قَالَ: «نَعَمْ» .
فلهذا بقي هو وأبو بكر وعلي ابن أبي طالب وأيضاً يقول ابنُ كثير (وخَلا من اعتقَلَهالمشركون كَرْهاً) خلا من أدوات الاستثناء أي واستثناء من احتبسهُ المشركون وهذا كما تقدَّم
كسلمة بن هشام وعياش ابن أبي ربيعة .
وقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأى في منامه دارَ الهجرة فأخبَرَ الصحابةَ بذلِكَ ،
وهذا ثابت في الصحيحين -البخاري في مواضع منها (7035،3622) ومسلم (2272) -عَنْأَبِي مُوسَى، ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ فِي المَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍبِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا اليَمَامَةُ، أَوْ هَجَرُ، فَإِذَا هِيَ المَدِينَةُ يَثْرِبُ...» .
وعند البُخاري شكٌ يقول (عن أَبِي مُوسَى أُرَاهُ) قال الحافظ في فتح الباري تحت رقم (4082)
كَذَا فِي الْأُصُولِ أُرَى وَهُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ بِمَعْنَى أَظُنُّ وَالْقَائِلُ ذَلِكَ هُوَ الْبُخَارِيُّ كَأَنَّهُ شَكَّ
هَلْ سَمِعَمِنْ شَيْخِهِ صِيغَةَ الرَّفْعِ أَمْ لَا وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي عَلَامَاتِ
النُّبُوَّةِ وَفِيالتَّعْبِيرِ وَغَيْرِهِمَا وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو يَعْلَى عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فَلَمْ يَتَرَدَّدَا فِيهِ . اهـ
وقد مكث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمكة ثلاثة عشر عامًا من البعثة النبوية،
حتَّى أُذِنَ له ربُّه سبحانه بالخروج صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فانطلق نصف
النهار إلىأبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه وقد ساق البُخاريُّ رحمه الله حديثَ الهجْرَة في صحيحه (3905) عن عائشة رضي الله عنها ونسُوْقُ طرَفَاً منه للفائدة
تقولُ أمُّ المؤمنين عائشة : ... فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ
الظَّهِيرَةِ، قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَقَنِّعًا، فِي سَاعَةٍ لَمْ
يَكُنْ يَأْتِينَافِيهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ، قَالَتْ: فَجَاءَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَ، فَأُذِنَ لَهُ فَدَخَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ: «أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ». فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَإِنِّي قَدْأُذِنَ لِي فِي الخُرُوجِ» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصَّحَابَةُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُعَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَخُذْ - بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ - إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ، قَالَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِالثَّمَنِ». قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الجِهَازِ، وَصَنَعْنَا لَهُمَاسُفْرَةً فِي جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا، فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الجِرَابِ،
فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ ...) .
(متقنِّع ) أي: مغطٍ رأسَه .
(فقال أبو بكر: الصحابة) وفي روايةٍ للبخاري (2138) (الصُّحْبَة ) .قال الحافظ في فتح الباري
: الصَّحَابَةَ بِالنَّصْبِ أَيْ أُرِيدُ الْمُصَاحَبَةَ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ . اهـ
(سُفْرَةً فِي جِرَابٍ ) السُّفرة هي الطعام .
فذهبا إلى غارِ ثور وأَمِنَ أبو بكر عبدَ الله بن أُرَيقِط على المجيء بالراحلتين بعد ثلاثة
أيام إلى غار ثور، وكان هو الدليل للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولأبي بكر؛ لأنه كانخبيرًا بطريق المدينة، فكان عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنه في هذه الثلاثة الأيام يتسمع الأخبار من قريش ثم يذهب إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبو بكر فيخبرهما بمايكيد به قريش.
وكان عامر بن فُهَيرَة ـ مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما كما مر معنا ـ يخدم النبي صلىالله عليه وعلى آله وسلم وأبا بكر فيُرِيح عليهما بالشِّيَاه للحليب - الرَّوَاح: آخرُ النهار، قالتعالى: ﴿غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾[سبأ:12] - فكان الذين تعاونوا مع النبي صلى الله عليهوعلى آله وسلم وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه في أيام الغار، عبد الله بن أبي بكر، وأسماءبنت أبي بكر كانت تأتي لهما بالزاد، وعامر بن فهيرة يُريح عليهما بالغنم .
وأما أبو بكر الصديق فإنه صاحب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورفيقه في الغارِ، وهذهمن أَجلِّ وأعظم مناقب أبي بكر الصديق رضي الله عنه لم يشركه أحد من الصحابة، وقد سمَّىالله عز وجل في كتابه الكريم أبا بكر صاحباً للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال تعالى:
﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ
لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة:40].
وأبو بكر الصديق رضي الله عنه مَنَّ الله عليه بنِعَمٍ عظيمةٍ ، وأولاده كلهم صحابة، وأبوه صحابي (أبو قحافة)،وأمه سلمى صحابية رضي الله عنهم أجمعين، وعلى رغم أنوف الرافضةالذين يسبون أبا بكر الصديق رضي الله عنه .
قال الحافظ في فتحِ الباري (3653)نَسَبُ أبي بكر : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَامِرِ بْنِ
عَمْرِو بْنِكَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ يَجْتَمِعُ مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَفِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ وَعَدَدُ آبَائِهِمَا إِلَى مُرَّةَ سَوَاءٌ .
قال : وأُمُّ أَبِي بَكْرٍ : سَلْمَى وَتُكَنَّى أُمَّ الْخَيْرِ بِنْتَ صَخْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَمْرٍو
الْمَذْكُورِ
أَسْلَمَتْ وَهَاجَرَتْ وَذَلِكَ مَعْدُودٌ مِنْ مَنَاقِبِهِ لِأَنَّهُ انْتَظَمَ إِسْلَامُ أَبَوَيْهِ وَجَمِيعِ أَوْلَادِهِ .اهـ
وقوله (وَعَدَدُ آبَائِهِمَا إِلَى مُرَّةَ سَوَاءٌ) أي سِتَّةٌ إلى مُرَّة أما نسبُ أبي بكرٍ فذكرهُ الحافِظ
ابنُحجر هنا .
وأما نسبُ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فتقدَّم .
وهو محمد بن عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبدمناف بن قُصَي بن كِلَابٍ بن
مُرَّة
وهؤلاءِ سِتَّةٌ من عبدالله إلى مُرَّة الذي يجتمِعُ أبو بكر فيه نسبُه مع النبي صلى اللهُ عليه
وعلى آلِهوسلم .
هجرةُ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مكة إلى المدينة، قال بعض المفسرين
في قوله عز وجل: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْلَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا﴾ [الإسراء:80] خُرُوجُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، وَدُخُولُهُ الْمَدِينَةَ.
قال ابنُ القيم رحمه الله تعالى في مدارِجِ السالكين (2/ 260)وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ. فَإِنَّ هَذَا الْمُدْخَلَ وَالْمُخْرَجَ مِنْ أَجَلِّ مَدَاخِلِهِ وَمَخَارِجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِلَّا فَمَدَاخِلُهُ كُلُّهَا مَدَاخِلُ صِدْقٍ، وَمَخَارِجُهُ مَخَارِجُ صِدْقٍ. إِذْ هِيَ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ وَبِأَمْرِهِ، وَلِابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ .
وَمَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ بَيْتِهِ وَدَخَلَ سُوقَهُ - أَوْ مُدْخَلًا آخَرَ - إِلَّا بِصِدْقٍ أَوْ بِكَذِبٍ، فَمُخْرَجُ كُلِّ وَاحِدٍ وَمُدْخَلُهُ: لَا يَعْدُو الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ . اهـ
فالآية عامة في جميع أنواع الصدق، الصدق في العقيدة، الصدق في الاستقامة، الصدق
في الثبات، الصدق في السَّيْر، الصدق في حسن النية.
﴿وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾ وأخرجني من كيد الكائدين ومن الشر والمصائب .
فالآية عامة وهذا التفسير إنما هو بالمثال فهجرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
من مكةَودُخُولُهُ المدينة داخلٌ في الآية الكريمة .
وهذا من أعظم الأدعية التي يغفل عنها بعض الناس، وممكن يقال أحيانًا عند الخروج،
وعندالسفر ولكن لا يخصص بوقْتٍ مُعيَّن .
بعض الناس إذا أراد أن يقدم على شيء يخصِّص هذا الدعاء، إذا أراد أن يسافر، أو
يبني بيتًا،أو أراد أن يخرج، أو يختبِر يخصِّص ذلك .
والتَّخْصِيْصُ ممنُوعٌ لأنَّ العباداتِ توقيفية .
وهذا منَ الأدعيةِ الجامعة .
وقد كان المشركون يُدبِّرون كيداً شديداً للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكنَّ الله
حفظَه، قال سبحانه: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ
وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال:30]. كانوا يتشاورون ويتآمرون في هذه الثلاثةِ الأمور
الحبس، أو القتل، أو الإخراج، واختار الله عز وجل له الخروج .
وبهذه المناسبة أذكرُ هنا ما سمعنا من والدي رحمه الله في حثِّه للطالب على الرحلة من
بلده لطلبِ العِلْم .
يقولُ : الغُرْبَةُ تُخْرِجُ رِجالا ،النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم تغرَّب ، وأصحابُه
تغرَّبُوا .
فالغُربَةُ تُخْرِجُ رِجالًا ، وقد قيلَ : العِلْمُ غريب .اهـ
وقوله (أعدَّ أبو بكرٍ رضي الله عنه جَهازَه وجَهازَ رسولِ الله )
الجَهازُ: بفتحِ الجيم ،وقد تُكْسَرُ ، ومنهم من أنكر الكسر ،وهو ما يُحتاجُ إليه في السفر
(فتح الباري ) .
******************************
وقد جاء في حديثٍ أنهُ ذَرَّ على رأسِ كلِّ واحدٍ منهُم تُرابَاً ثمَّ خَلَصَ إلى بيتِ أبي بكرٍ رضي اللهُ
عنه، فخرجَا من خَوخَة في دارِ أبي بكرٍ ليْلاً، وقد استأجرَا عبدَ الله بنَ أُرَيقِطٍ ، وكانَ
هاديَاً خِرِّيْتَاً، ماهِرَاً بالدَّلالة إلى أرضِ المدينةِ، وأمِنَاهُ على ذلكَ معَ أنَّهُ كانَ على دينِ قومِه،
وسَلَّمَا إليه راحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعدَاهُ غَارَ ثَورٍ بعدَ ثَلاثٍ، فلمَّا حَصَلا في الغارِ عَمَّى اللهُ على قُريشٍ
خبرَهُما، فلم يدرُوا أينَ ذَهَبَا .
******************************
قوله (وقد جاء في حديثٍ أنه ذَرَّ على رأسِ كلِّ واحد منهُم تُراباً ثم خلَص إلى بيتِ أبي بكرٍرضي الله عنه)
أي ذَرَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على رأسِ كلِّ واحدٍ منهم تُرابا لما خرج
من بيته وهذه القصًّةُ عند ابنِ إسحاقَ كما في سيرة ابنِ هشام (1/ 483)قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي يَزِيدُبْنُ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ القصة .
وهذا إسنادٌ مرسَلٌ محمد بن كعبٍ القُرَظِي من التابعين .
وأما يزيد بْن زياد : بن أَبي زياد المدني كما في ترجمة شيخه القُرَظي من تهذيب
الكمال .
وهو مولى بني مخزوم مدني ثقة .
(فخرجا من خَوخة في دار أبي بكر ليلاً)
الخوخة قال ابنُ الأثير في النهاية : الخَوْخَةُ: بابٌ صغِيرٌ كالنَّافِذَة الكَبِيرَة، وتكُون بَيْن بَيْتَيْن
يُنْصَبُ عَلَيْهَا بابٌ . اهـ
ويُطْلَقُ على النافِذَةِ نفسِها وهي التي يدْخُلُ منها الضَّوْءُ إلى البيت .
يُراجعُ : لسانُ العرب .
(وقد استأجرا عبدَ الله بن أريقط، وكان هادياً خريتاً، ماهِراً بالدلالة إلى أرض المدينة)
(خريتًا) أي: ماهرًا حاذقًا، وهذا هو دليل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأبي
بكرالصديق في هجرتهما إلى المدينة .
( وواعداه غارَ ثور بعد ثلاث، فلما حصلا في الغار عمَّى اللهُ على قريش خبرَهما، فلم يدروا أين ذهبا)
عبد الله بن أُريقط ما فيه ما يدل على إسلامه وصحبته وقد ذكرهُ الحافظ ابن حجر
رحمه الله في الإصابة وقال : ولم أر منْ ذكره في الصحابة إلا الذهبيَّ في التجريد، وقد جزمعبد الغني المقدسي في السيرة له بأنه لم يعرِف له إسلاما، وتبعه النّووي في تهذيبالأسماء.اهـ
ولكن كان عنده صفة الأمانة، والوفاء فقد وعد أبا بكر أن يأتي بالرَّاحِلتين بعد ثلاث
إلى غارثور، فجاء بهما وما أخبرَ أحدًا .
وهكذا سراقة بن مالك رضي الله عنه في قصته ما يدل على أمانته، وصدقه لما قال:
وأعاهدكما أن لا أخبر أحدًا، فلما رجع قال لقريش: قد كُفِيتُم .
والمسلم أحق بهذه الصفات الحميدة، وبمكارم الأخلاق لأنه هو الذي ينتسب إلى الإسلام
حتى إن من الكفار من ينفُرُ من الإسلام بسبب الأوصاف الذميمة في كثيرٍ من المسلمين
من السرقة والكذب والخيانة.
وكان الوالد الشيخ مقبل رحمه الله ينبه على هذا ويقول: (الإسلام بريء من هذا، وأنتم
انظروا إلى الإسلام، ولا تنظروا إلى أفعال المسلمين).
ومن أدب الطالب بالأخص أن يتميز بالأخلاق الفاضلة.
ومن ذلك الرفق، واللين، والكلمة الطيبة. فإن بعض الناس لا يكون عنده أخلاق - نسأل الله منواسع فضله - مع أنه يحمل شيئًا من العلم، فإذا وُجد شيءٌ من الأخلاق السيئة عند بعض الناسفهذا ليس على حسابِ السُنة، ولا يجوز التنكُّر للسنة بسبب ما قد يحصل من سوء خلق بعضالناس .
علينا أن نقرأ في الآداب التي تُعيننا على مكارم الأخلاق، وأن نتعاهَد هذا؛
لأننا ننسى.واللهالمستعان.
فنحُث أنفسَنا وأخواتنا على الأخلاق الطيبة ولزوم التواضع والصدق ، واجتناب الظلم،
والفحشوالغلظة، والتَّخلُّق بخلُق الرحمة، والرفق، واللين، والبُعْدُ عن الغِلْظة والقسوة
خارج البيت وداخله .
وقد يكون بعضُ الناس ذا خُلُق بين أصحابه، وأما في بيته فذو خلُق سيء . والنبي
صلى اللهعليه وعلى آله وسلم يقول: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي" رواه
الترمذي (3895)،
والأهل يطلق على الأقارب كما يطلق على الزوجة، والله المستعان .
******************************
وكانَ عامرُ بن فُهيرة، يُرِيح عليهِما غنماً لأبي بكر، وكانت أسماءُ بنت أبي بكر تحمِل
لهماالزادَ إلى الغارِ، وكان عبدُ الله بن أبي بكر يتسمَّع ما يقالُ بمكةَ ثم يذهبُ إليهما
بذلك فيحترِزانِمنه.
وجاء المشركون في طلبِهما إلى ثَور، وما هناكَ من الأماكنِ، حتى إنَّهم مرُّوا على بابِ
الغار، وحاذَتْ أقدامُهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وصاحبَه، وعمَّى الله عليهم
بابَ الغار،ويقال ـ والله أعلم ـ إنَّ العنكبوتَ سدَّت على بابِ الغار، وإن حَمامَتين
عشَّشَتَا على بابه، وذلكتأويلُ قوله تعالى { إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ
كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِيالْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ
سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَاوَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ
الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
وذلِكَ أنَّ أبا بكرٍ رضي اللهُ تعالى عنه لشدَّةِ حرصِه بكى حين مرَّ المشركون، وقال: يا
رسولالله، لو أنَّ أحدَهم نظرَ موضعَ قدميه لرآنا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
"يا أبا بكر، ماظنُّك باثنين الله ثالثُهما؟".
ولما كان بعد الثلاث أتى ابنُ أريقِط بالرَّاحلَتين فركباهما، وأردف أبو بكر عامرَ بنَ
فُهيرة وسار الدليلُ أمامَهما على راحلته .
******************************
اشتدَّ طلب المشركين للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولأبي بكر لما علموا
بخروجهما فخرجوا، ومروا بغار ثور، فخَشِيَ أبو بكر الصديق على النبي صلى الله
عليهوعلى آله وسلم وحزِنَ لذلك فبيَّن له النبيُّ صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم أنَّ اللهَ
ثالثهماكما في البخاري ومسلم عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَنَا فِي الغَارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ: «مَا
ظَنُّكَ يَاأَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» .
بشَّره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن الله معهما بنصرِهِ ولُطْفه وحفظه .
قال ابنُ القيم رحمه الله في زاد المعاد (3/ 49 ) :وَعَيْنُ اللَّهِ تَكْلَؤُهُمَا، وَتَأْيِيدُهُ
يَصْحَبُهُمَا،وَإِسْعَادُهُ يُرَحِّلُهُمَا وَيُنْزِلُهُمَا . اهـ
وقد مرَّ المشركون بالغار وأعمى الله وأغشى أبصارَهم وما أبصروا ولو نظروا تحت
أقدامهملرأوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبا بكر الصديق رضي الله عنه .
وأُنبِّه على ما جاء عند أبي يعلى في مسنده (46) عن أبي بكر الصديق قَالَ: جَاءَ
رَجُلٌ مِنَالْمُشْرِكِينَ حَتَّى اسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَوْرَتِهِ يَبُولُ. قُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ،أَلَيْسَ الرَّجُلُ يَرَانَا؟ قَالَ: «لَوْ رَآنَا لَمْ يَسْتَقْبِلْنَا بِعَوْرَتِهِ» ، يَعْنِي وَهُمَا فِي
الْغَارِ .
وهذه القصة إسنادها ضعيفٌ جداً .
وجاء من رواية الواقدي كما في فتح الباري آخر شرح حديث رقم (4653) والواقدي
متروك .
(ويقال ـ والله أعلم ـ إن العنكبوت سدَّت على بابِ الغار، وإنَّ حمامتين عشَّشَتا على بابه)
عش الحمام: معروف قال الجوهري في صحاحه : عِشُّ الطائر: موضعُه الذي يجمعه
مندقاق العيدان وغيرها . اهـ
وهذه القصةُ لا يثبت إسنادُها جاء عند أحمد (5/301) عن ابن عباس في نسجِ العنكبوت في بابالغار، وفيه عثمان الجزري، ويقال له عثمان المشاهد .
وجاء من طريق أخرى عند ابن سعدٍ (1/ 177) في نسج العنكبوت وذكر الحمامتين وفي إسناده من لا يعرف .
ويردُّ هذه القصة قول أبو بكر الصديق: (لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا) فإن
هذا يُفيدُأَنَّه مكشوف ليس بمسدود .
وبعد الثلاثةِ الأيام التي بقيها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبه أبو بكر في الغار جاءهما الدليل وخرجوا إلى المدينة وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة رضي الله عنهما وكان الدليل أمامهم .
ولمْ يُرافقِ النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هجرته من الصحابة إلا أبوبكر وعامرُ بنُفُهيرة رضي اللهُ عنهما .
و في الطريق كان بعضهم يسألُ أبابكر عن الذي معه فيُوَرِّي رضي الله عنه في كلامه بمايُعَمِّيْ عليهم في صحيح البخاري (3911) عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَقْبَلَ نَبِيُّاللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المَدِينَةِ وَهُوَ مُرْدِفٌ أَبَا بَكْرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ شَيْخٌ يُعْرَفُ، وَنَبِيُّ اللَّهِ صَلَّىاللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَابٌّ لاَ يُعْرَفُ، قَالَ: فَيَلْقَى الرَّجُلُ أَبَا بَكْرٍ فَيَقُولُ يَا أَبَا بَكْرٍ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِيبَيْنَ يَدَيْكَ؟ فَيَقُولُ: هَذَا الرَّجُلُ يَهْدِينِي السَّبِيلَ، قَالَ: فَيَحْسِبُ الحَاسِبُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي الطَّرِيقَ، وَإِنَّمَايَعْنِي سَبِيلَ الخَيْرِ..." الحديث.
وبقاؤهم في الغار ثلاثة أيام ليخفَّ وطءُ طلب كفار قريش فإنهم كانوا قد اشتد طلبهم .
وفي ذهاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى غار ثور مع أنه يريد المدينة تعمية للأمر، لأن كفار قريش كانوا يترقَّبون طريق المدينة المعروفة فذهب النبي صلى الله عليه وعلى آلهوسلم من جهَةٍ أخرى .
******************************
وجعلت قريشٌ لمن جاء بواحدٍ من محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه مائةً
من الإبل، فلما مرُّوا بحيْ مُدْلِجٍ، بصُر بهم سراقةُ بنُ مالك بن جُعشم، سيدُ مُدْلِج، فركبَ جوادَه
و سارَ في طلبِهم، فلما قرُب منهم سمع قراءةَ النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر رضي الله
عنه يكثرُ الالتفاتَ حذَرَاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم لا
يلتفتُ، فقال أبو بكر: يا رسولَ الله هذا سراقةُ بن مالك قد رهِقَنا .
فدعا عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فساخَتْ يدا فرسِه في الأرض فقال: رُمِيت، إن الذي
أصابَني بدعائِكما، فادعُوا الله لِي، ولكُما عليَّ أن أرُدَّ الناسَ عنكُما، فدعا له رسولُ الله صلى
الله عليه وسلم فأُطلِق، وسأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يكتبَ له كتاباً، فكتبَ له أبو
بكر في أَدَم، ورجع يقول للنَّاس: قد كُفِيتُم ما هَهُنا. وقد جاء مُسْلِماً عامَ حجة الوداع ودفع إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتابَ الذي كتبه له، فوفَّى له رسول الله صلى الله عليه وسلم
بما وعدَه وهُو لذلكَ أهُلٌ .
ومرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في مسيرِه ذلك بخيمةِ أمِّ معبد فقالَ عندَها، ورأتْ من
آياتِ نبوَّته في الشاة وحلبِها لبناً كثيراً في سنةٍ مُجْدبة ما بَهَرَ العقولَ، صلى الله عليه وسلم.
******************************
لمَّا يئِستْ قريش من الطَّلَب حرَّضوا الناسَ وشجَّعوهم بالمالِ وجعلت دية رجُلين لِمن
أدركَ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأبا بكر فأسَرَ أو قَتَل، فلم يدركهم أحدٌ بحفظ الله
وكلاءَته، سوى سراقة بن مالك فإنه بصُرَ بِهم فلحقَهم فلما رآه أبو بكر الصديق رضي الله عنه
وكان يلتفت كثيرًا حِراسةً للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: يا رسول الله أدركنا القوم
هذا سراقة فساخت فرسُ سراقة فاستقسم بالأزلام وكان أهل الجاهلية يستقسمون بالأزلام فإذا
خرج افعل مضى وإذا خرج غُفل أعاد وإذا خرج ما يكره ترك وكان إذا استقسمَ سُراقةُ يخرجُ
ما يكره .
يقول الوالد الشيخ مقبل رحمه الله : جاءَ الإسلامُ بصلاة الاستخارة بدلَ الاستقسامِ بالأَزلام
وأبطلها .
وسياقُ القصة في صحيح البخاري (3906) عن سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ يَقُولُ: جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ
قُرَيْشٍ، يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، مَنْ قَتَلَهُ أَوْ
أَسَرَهُ، فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ، أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا
وَنَحْنُ جُلُوسٌ، فَقَالَ يَا سُرَاقَةُ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ، أُرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، قَالَ
سُرَاقَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ، وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلاَنًا وَفُلاَنًا، انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا، ثُمَّ
لَبِثْتُ فِي المَجْلِسِ سَاعَةً، ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي، وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ
أَكَمَةٍ، فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ، وَأَخَذْتُ رُمْحِي، فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ البَيْتِ، فَحَطَطْتُ بِزُجِّهِ الأَرْضَ،
وَخَفَضْتُ عَالِيَهُ، حَتَّى أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا، فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي، حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ، فَعَثَرَتْ بِي
فَرَسِي، فَخَرَرْتُ عَنْهَا، فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ يَدِي إِلَى كِنَانَتِي، فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الأَزْلاَمَ فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا:
أَضُرُّهُمْ أَمْ لاَ، فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ، فَرَكِبْتُ فَرَسِي، وَعَصَيْتُ الأَزْلاَمَ، تُقَرِّبُ بِي حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ
قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ لاَ يَلْتَفِتُ، وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ، سَاخَتْ يَدَا فَرَسِي
فِي الأَرْضِ، حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ، فَخَرَرْتُ عَنْهَا، ثُمَّ زَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ، فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا، فَلَمَّا
اسْتَوَتْ قَائِمَةً، إِذَا لِأَثَرِ يَدَيْهَا عُثَانٌ سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَانِ، فَاسْتَقْسَمْتُ بِالأَزْلاَمِ، فَخَرَجَ
الَّذِي أَكْرَهُ، فَنَادَيْتُهُمْ بِالأَمَانِ فَوَقَفُوا، فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا
لَقِيتُ مِنَ الحَبْسِ عَنْهُمْ، أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ
جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ، وَأَخْبَرْتُهُمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمُ الزَّادَ وَالمَتَاعَ، فَلَمْ
يَرْزَآنِي وَلَمْ يَسْأَلاَنِي، إِلَّا أَنْ قَالَ: «أَخْفِ عَنَّا». فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمْنٍ، فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ
فُهَيْرَةَ فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدِيمٍ، ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وبنحو هذه القصة في صحيح البُخاري (3652)من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه .
(رهقنا) أي: غشينا، (رُميت) أي: أُصبت، (الأدَم): الجلد.
والكتاب الذي طلبه سُراقة أن يكتبه له رسولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أي ليكون
علامة بينه وبين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهذا كالوثيقة في الأمان لسُراقة فإنه قد
لاحَ له أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سيظهر لِمَا رَأى من المعجزاتِ من حبسِه من
إدراك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبي بكر، ونجاتِه لما دعا له .
قال ابنُ الجوزي رحمه الله في كشف المُشكل (4/ 383)أَي إِن ظَهرتَ كنتُ آمنا .
وسبحان الله مقلب الأحوال ذهب سراقةُ إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبي بكر
مناصرًا لقريش، ثم رجع حارسًا، ومناصرًا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبي بكر
الصديق رضي الله عنه .
قال ابنُ القيم في زاد المعاد (3/ 50)كَانَ أَوَّلَ النَّهَارِ جَاهِدًا عَلَيْهِمَا، وَآخِرَهُ حَارِسًا لَهُمَا .
وكان سُراقة قد فرح بالمال الذي وعدت به قريش فجدَّ طالباً في الأمر .
قال ابنُ القيم رحمه الله في زاد المعاد المجلد الثالث :فَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ الظَّفَرُ لَهُ خَاصَّةً وَقَدْ سَبَقَ
لَهُ مِنَ الظَّفَرِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِ .اهـ
سبق له الفوزُ ما لم يكن في حسابه ، أسلَمَ ،وفازَ بصحبة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله
وسلم ، والدَّار الآخرة .
(وقد جاء مسلماً عامَ حجةِ الوداع ودفع إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الكتابَ الذي كتبه
له)
ظاهره أنَّ إسلام سراقة بن مالك رضي الله عنه في حجة الوداع .
وحجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة النبوية .
ولكن الذي وجدته في كتب التراجم والسير أنَّ إسلامَهُ في السنة الثامنة من الهجرة .
أخرج موسى بن عقبة كما في ( أحاديث منتخبة من مغازي موسى بن عقبة ) ص 64.
قصة سُراقة التي بين أيدينا وفيها :حَتَّى إِذَا فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ وَفَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ أَهْلِ حُنَيْنٍ؛ خَرَجْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَنْ أَلْقَاهُ ومعي الكتاب الذي كتب
لي، فبينا أَنَا عَامِدٌ لَهُ؛ دَخَلْتُ بَيْنَ ظَهْرَيْ كَتِيبَةٍ مِنْ كَتَائِبِ الأَنْصَارِ، قَالَ: فَطَفِقُوا يَقْرَعُونِي
بِالرِّمَاحِ، ويقولون: إليك إليك، حتى دنوت إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو على
ناقته، أَنْظُرُ إِلَى سَاقِهِ فِي غَرْزَهِ كَأَنَّهَا جُمَّارَةٌ فَرَفَعْتُ يَدِي بِالْكِتَابِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا
كِتَابُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: يَوْمُ وَفَاءٍ وَبِرٍّ، ادْنُهْ، قَالَ: فَأَسْلَمْتُ الخ .
وفي البداية والنهاية (3/185)وَذَكَرَ أَنَّهُ جَاءَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
بِالْجِعْرَانَةِ مَرْجِعَهُ مِنَ الطَّائِفِ، فَقَالَ لَهُ «يَوْمُ وَفَاءٍ وَبِرٍّ، ادْنُهْ» فَدَنَوْتُ مِنْهُ وَأَسْلَمْتُ .
وفي البداية والنهاية أيضا للحافظ ابن كثير (7/151)ثُمَّ قُدِمَ بِهِ- أي بالكتاب - بَعْدَ غَزْوَةِ الطَّائِفِ
فَأَسْلَمَ وَأَكْرَمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . اهـ
وغزوة الطائف بعد حنين سنة ثمانٍ .
قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (4/374)فَصْلٌ فِيمَا كَانَ مِنَ الْحَوَادِثِ الْمَشْهُورَةِ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَالْوَفَيَاتِ
فَكَانَ فِي جُمَادَى مِنْهَا وَقْعَةُ مُؤْتَةَ، وَفِي رَمَضَانَ غَزْوَةُ فَتْحِ مَكَّةَ، وبعدها في شوال غزوة هوازن بحنين، وبعده كَانَ حِصَارُ الطَّائِفِ، ثُمَّ كَانَتْ عُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي بَقِيَّةِ السَّنَةِ.
وقال الحافظ في صدر ترجمة سُراقة من الإصابة : أسلم يوم الفتح .
وبهذا يتعيَّن أن سُراقةَ بن مالك رضي الله عنه أسلم سنة ثمان وأنَّ قوله في (وقد جاء مسلماً
عامَ حجةِ الوداع) وهمٌ أو تصحيف .
وهو الذي سأل بسؤالٍ عن التمتع في الحج .
وهذا في صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه وفيه « فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، وفيه فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِأَبَدٍ؟ فَشَبَّكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً فِي الْأُخْرَى، وَقَالَ: «دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ» مَرَّتَيْنِ «لَا بَلْ لِأَبَدِ أَبَدٍ» .
(فوفَّى له رسول الله صلى الله عليه وسلم بما وعده وهو لذلك أهلٌ)
أي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أهلٌ للوفاء.
وما أحسن ما قاله حسان بن ثابت رضي الله عنه كما في صحيح مسلم (2489) .
هَجَوْتَ مُحَمَّدًا بَرًّا حَنِيفًا ... رَسُولَ اللهِ شِيمَتُهُ الْوَفَاءُ
(ومرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره ذلك بخيمة أم معبد فقال عندها، ورأت من آيات نبوته في الشاة وحلبها لبناً كثيراً في سنة مجدبة ما بهر العقول، صلى الله عليه وسلم).
ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله قصةَ مرور النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على خيمة أم
معبد.
أم معبد :هي عاتكة بنت خالد ذكرها الحافظ ابن حجر رحمه الله في الإصابة وهي مختلف في
صحبتها، وبعضهم عدها من المبايعات للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
(فقال عندها) من القيلولة، (في سنة مجدبة) الجدب: القحط.
والقصة جاءت من عدة طرق وأسانيدها ضعيفة إلا أن بعضهم يرى تقوية القصة بمجموع طرقها.
وهذا أحدُ الأمور التي كانت في أثناءِ الطريق في سَفرة هجرة النبي صلى الله عليه وعلى آله
وسلم وصاحبه أبي بكرٍ إلى المدينة إن صحت القصَّةُ .
وتقدَّم قصةُ سُراقة وما فيها من العِبَر ، وتأييد الله لنبيه .
ومنها : مرورُهما براعي غنم أخرج البخاري رحمه الله في صحيحه (3908) عن البراء بن
عازبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " لَمَّا أَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المَدِينَةِ تَبِعَهُ سُرَاقَةُ بْنُ
مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، فَدَعَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَاخَتْ بِهِ فَرَسُهُ قَالَ: ادْعُ اللَّهَ لِي وَلاَ
أَضُرُّكَ، فَدَعَا لَهُ، قَالَ: فَعَطِشَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَّ بِرَاعٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَخَذْتُ
قَدَحًا فَحَلَبْتُ فِيهِ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ، فَأَتَيْتُهُ فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ " .
انتهينا من هذا الفصل في هجرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ونكون قد مررنا –ولله
الحمد -على جُملة من سيرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من ولادتِه، إلى بعثتِه، إلى
هجرتِه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مكة إلى المدينة .
فائدة :أسفارُ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم تدورُ على أربعة أسفار
سفره لهجرته ، سفره لحجته ، سفره لعمرته ، سفرهُ لقتال أعدائه .
وقد ذكر ذلك ابنُ القيم رحمه الله في زاد المعاد .
******************************
فصل ـ دخوله عليه الصلاة والسلام المدينة
وقد كانَ بلغَ الأنصارَ مخرجُه من مكةَ وقصدُه إياهم، فكانوا كلَّ يوم يخرُجون إلى الحرَّة
ينتظرونه، فلما كان يومُ الاثنين الثاني عشر من ربيع الأوَّل على رأسِ ثلاثَ عشرةَ سنةً من
نبوتِه صلى الله عليه وسلم وافاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين اشتدَّ الضحى، وكان قد
خرج الأنصارُ يومئذ، فلما طال عليهم رجعوا إلى بيوتِهم، وكان أول من بصُر به رجلٌ من
اليهود ـ وكان على سطح أُطُمِه ـ فنادى بأعلى صوته: يا بني قَيلة هذا جدُّكم الذي تنتظرون!
فخرج الأنصارُ في سلاحهم وحيُّوه بتحيَّة النبوة. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقُباء
على كلثوم بن الهِدْم، وقيل: بل على سعدِ بن خيثمة، وجاء المسلمون يسلِّمون على رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وأكثرُهم لم يره بعد، وكان بعضُهم أو أكثرُهم يظنه أبا بكر لكثرةِ شيبه،
فلما اشتدَّ الحرُّ قام أبو بكر بثوبٍ يظلِّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحقَّق الناسُ
حينئذٍ رسولَ الله عليه الصلاة والسلام .
******************************
هذا الفصل في دخول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المدينة فبعد أن قطع الطريق، وقطع
المسافة من مكة إلى المدينة دخل المدينة يوم الاثنين .
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وُلد يوم الاثنين، وبُعث يوم الاثنين، وتقدم ذلك من حديث
أبي قتادة عند مسلم ، وهاجر وخرج من مكة يوم الاثنين ، ودخل المدينة يوم الاثنين، كما في
صحيح البُخاري (3906) (فَتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِظَهْرِ الحَرَّةِ، فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ
اليَمِينِ، حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ)
والحديث وإن كان ظاهره عند البخاري الإرسال أنه من مراسيل عروة .
فقد قال الحافظ : وَصُورَتُهُ مُرْسَلٌ لَكِنَّهُ وَصَلَهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ
أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّهُ سَمِعَ الزُّبَيْرَ بِهِ . اهـ
وتوفي يوم الاثنين وحديث وفاته يوم الاثنين في الصحيحين البخاري (680)، مسلم (419) عن
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصَارِيُّ - وَكَانَ تَبِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَدَمَهُ وَصَحِبَهُ - أَنَّ أَبَا بَكْرٍ
كَانَ يُصَلِّي لَهُمْ فِي وَجَعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ
وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلاَةِ، فَكَشَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتْرَ الحُجْرَةِ يَنْظُرُ إِلَيْنَا وَهُوَ قَائِمٌ
كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ، ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ، فَهَمَمْنَا أَنْ نَفْتَتِنَ مِنَ الفَرَحِ بِرُؤْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ، وَظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَارِجٌ
إِلَى الصَّلاَةِ «فَأَشَارَ إِلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَتِمُّوا صَلاَتَكُمْ وَأَرْخَى السِّتْرَ فَتُوُفِّيَ مِنْ
يَوْمِهِ» .
وقد كان الأنصار ينتظرون قدومَ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند الحرَّة في المدينة
فكان إذا اشتد الحر وقتَ الظهيرة يرجعون. فوافاهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين
اشتد الضحى، و كان الأنصار قد رجعوا. فكان أول من بصُر به رجل من اليهود فنادى بأعلى
صوته : يا بني قَيلَة هذا جدُّكم الذي تنتظرون!
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري تحت رقم (3906): قَيْلَةَ وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ
وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ وَهِيَ الْجَدَّةُ الْكُبْرَى لِلْأَنْصَارِ وَالِدَةِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَهِيَ قَيْلَةُ بِنْتُ كَاهِلِ بْنِ
عُذْرَةَ. اهـ.
(هذا جدُّكم الذي تنتظرون) قال الحافظ :هَذَا جَدُّكُمْ بِفَتْحِ الْجِيمِ أَيْ حَظُّكُمْ وَصَاحِبُ دَوْلَتِكُمُ الَّذِي
تَتَوَقَّعُونَهُ وَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ هَذَا صَاحِبُكُمْ .اهـ
ونسب اليهودي الأنصار مستهزئًا ساخرًا.
فخرج الأنصار واستقبلوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى إنَّه خرج الخدمُ، والصبيان،
والنساء فرحًا بقدوم النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، مهاجرًا إلى بلد المدينة
، وكانوا يقولون : جاء محمد رسول الله وكانوا يكبرون، الله أكبر، جاء محمد .
يقول البراءُ بن عازب ثُمَّ " قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ المَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى جَعَلَ الإِمَاءُ يَقُلْنَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا قَدِمَ حَتَّى قَرَأْتُ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى فِي سُوَرٍ مِنَ المُفَصَّلِ " أخرجه البخاري (3925) .
وفي مستدرك الحاكم (3/ 14 )عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَخَرَجَ النَّاسُ حَتَّى دَخَلْنَا فِي الطَّرِيقِ، وَصَاحَ النِّسَاءُ وَالْخُدَّامُ وَالْغِلْمَانُ، جَاءَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ اللَّهُ أَكْبَرُ، جَاءَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ انْطَلَقَ فَنَزَلَ حَيْثُ أُمِرَ» .
ورجاله عند الحاكم ثقات .وأصله في البخاري (3652) .
وفي مسند أحمد (21/ 40 )عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: إِنِّي لَأَسْعَى فِي الْغِلْمَانِ يَقُولُونَ: جَاءَ مُحَمَّدٌ، فَأَسْعَى فَلَا أَرَى شَيْئًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: جَاءَ مُحَمَّدٌ، فَأَسْعَى فَلَا أَرَى شَيْئًا، قَالَ: حَتَّى جَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَاحِبُهُ أَبُو بَكْرٍ ..والحديث صحيح .
وفي سنن الدارمي (89)عَنْ أَنَسٍ وَذَكَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «شَهِدْتُهُ يَوْمَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا قَطُّ، كَانَ أَحْسَنَ وَلَا أَضْوَأَ مِنْ يَوْمٍ دَخَلَ عَلَيْنَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَشَهِدْتُهُ يَوْمَ مَوْتِهِ، فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا كَانَ أَقْبَحَ، وَلَا أَظْلَمَ مِنْ يَوْمٍ مَاتَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
والحديث في الصحيح المسند لوالدي رحمه الله رقم (122) .
وقد أخذ بعضهم من هذا الحديث تسمية المدينة بالمدينة المنورة .
وانتُقِدَ هذا فإن هذا لم يرد به دليل.
ويقول الوالد الشيخ مقبل رحمه الله قد جاء عن أنس رضي الله عنه: (وَشَهِدْتُهُ يَوْمَ مَوْتِهِ، فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا كَانَ أَقْبَحَ، وَلَا أَظْلَمَ مِنْ يَوْمٍ مَاتَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .) .
فيكون هذا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المدينة المظلمة
هذا معنى ما ذكره الوالد رحمه الله.
وهناك أبيات مشهورة في كتب السيرة أن الصبيان استقبلوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأبيات :
طلع البدرُ علينا
من ثنيَّات الوداع
وجبَ الشكرُ علينا
ما دعا لله داع
وقد أورده الحافظ ابنُ حجر رحمه الله في فتح الباري (3925) من طريق عبيدالله بن عائشة
قال :وَهُوَ سَنَدٌ مُعْضَلٌ .اهـ
وقال الشيخ الألباني في «الضعيفة» (598): هذا الإسناد ضعيف رجاله ثقات، لكنه معضل سقط من إسناده ثلاثة رواة أو أكثر؛
فإن ابن عائشة هذا من شيوخ أحمد وقد أرسله.
وبذلك أعله الحافظ العراقي في «تخريج الإحياء» (2/244). اهـ
وكان الوالد رحمه الله يذكر أنها لا تثبتُ .
والإخوان المسلمون يُحفِّظون أولادهم هذه الأبيات، وهذا من عاداتهم شغل الطلاب بالأناشيد
حتى إِنَّ الوالد الشيخ مقبل رحمه الله يقول: كم من حافظٍ للقرآن يسحبُهُ الإخوان المسلمون
ويضيِّعُونه بالأناشيد .
(وكان على سطح أُطْمِه)هِيَ الْحُصُونُ الَّتِي تُبْنَى بِالْحِجَارَةِ وَقِيلَ هُوَ كُلُّ بَيْتٍ مُرَبَّعٍ مُسَطَّحٍ كما
في فتح الباري (1878) .
وقال رحمه الله تحت رقم (3908)أُطُم بضمِّ أوَّلِه وثانيه .
(فخرج الأنصار في سلاحهم وحيَّوه بتحية النبوة) أي: تحية الإسلام .
(ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء على كلثوم بن الهِدْم، وقيل: بل على سعد بن خيثمة)
(كلثوم بن الهدم)
بكسر الهاء وسكون الدال، كما في الإصابة.
أول ما نزل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقباء، لكن اختلفوا على من نزل على قولين .
(سعد بن خيثمة) أحد النقباء. وهو وكلثوم بن الهدم أَوْسِيَّان .
(وجاء المسلمون يسلِّمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثرُهم لم يره بعد)
يراجعُ : صحيح البخاري (3911) عن أنس بن مالك رضي الله عنه .
(وكان بعضُهم أو أكثرُهم يظنُّه أبا بكر لكثرةِ شيبه، فلما اشتدَّ الحر قام أبو بكر بثوب يظلِّل
على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحقق الناسُ حينئذ رسول الله عليه الصلاة والسلام).
كان البياض في شعر أبي بكر أكثر من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع أن أبا بكر
أصغرُ من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقد توفي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
عن ثلاث وستين عامًا، وتوفي أبو بكر عن ثلاث وستين عامًا.
وأخذ أبو بكر الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سنتين وبعض الأشهر.
أبو بكر : هو عبد الله بن عثمان أبي قحافة .
أَخيراً
كان الوالد رحمه الله من أسئلته : عائشة بنت عبد الله بن عثمان من هي؟
وهذا في الدرس العام ، هي أم المؤمنين رضي الله عنها ، وربما يغلط بعضُهُم .
وكان الوالد رُبَّما قال :عندي سؤالٌ مثل ذا ويُشيرُ بيده إلى أنه سُؤالٌ كبير فيتهيَّبون
ويخافون .
وكان رحمه الله أحياناً إذا سأل ولم يجبه أحد يقول: عندكَ يا جدار. وهذا في الدرس الخاص .
هذا ونتواصى بالصبر على طلب العلم فإنَّ الجنة ليستْ ممهَّدَةً بالورود والزُّهور، بل هي
محفوفة بالمكاره كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حُفت الحنة بالمكاره وحفت
النار بالشهوات ، وقد كان الوالد رحمه الله يقول: (دارِ نفسَك ولو بحبَّة حلوى) .
العلم شاق، ولكن نداري أنفسنا ، ونشجِّعُها ، ونروِّضُها حتى تَجِدَ حلاوته فلا تجد بعد ذلك أُنْسَا
ولا راحةً إلا في طلبِ العلم ،والجزاء الجنة، ولا حياةَ إلا بالعلم، ومن فضائلِ العلم
أنه يشغل الوقت ، فمن كانت طالبةَ علم فإنها لا تجدُ وقتاً للكلام والفُضُول .
والوقت إذا لم يُشغل بالحق والخير شغل بالباطل والأمور التافهة .
ونسأل الله التوفيق .
hanamohamed
2016-01-10, 20:39
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}.
بارك الله فيك لطرحك هذا الموضوع لخير البشر سيدنا محمد صل الله عليه وسلم وعلى اله وصحبه وسلم
أم سمية الأثرية
2016-01-10, 22:03
وفيكم بارك الله
جزاكم الله خيرا
أم سمية الأثرية
2016-01-17, 19:30
اختصارٌ لدرْسِنَا الأُسْبُوعِي من( الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم )مع ما تيسر من الشرح .
فعلنَاه لينتفعَ به أبناؤُنا إن شاء الله ومن يرغَبُ في الاختصار .
نسألُ اللهَ أن ينفع به وأن يجعله خالِصاً لوجهه الكريم .
وقد فاتَ وضعُ دروسٍ سابقة لكن لعلنا نتلافاه فيما بعدُ إن شاء الله .
استقرار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المدينة .
1-أول ما قدم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المدينة نزل بقباء على بني عمرو بن عوف، وبقي عندهم أربعة عشر يومًا كما في صحيح البخاري .
وكان نزوله على كلْثُوم بن الهِدْم على المشهور .
والمشهور أيضا عند أهل السير أنه بقي أربعة أيام يوم الإثنين الذي وصلَ فيه، ويوم الثلاثاء، والأربعاء، والخميس ثم سار وأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف وعلى هذا يكون أول جمعة صلاها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في بني سالم بن عوف.
2-ومن الأشياء التي وقعت في أيام قباء:ـ بناء مسجد قباء وهو أول مسجد أُسِّس على التقوى بعد النبوة، و كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يزوره كل سبت راكبًا وماشيًا، وفضل الصَلَاةِ فِيه كَعُمْرَةٍ .
ـ مجيء سلمان الفارسي رضي الله عنه . ومن مناقب هذا الصحابي ما جاء في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كَانَ الدِّينُ عِنْدَ الثُّرَيَّا، لَذَهَبَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ فَارِسَ - أَوْ قَالَ - مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ حَتَّى يَتَنَاوَلَهُ» .وقصة إسلامه مذكورة في كتب الحديث والسير وفيها فوائد عظيمة، ويستفيد منه الطالب أهمية الصدق، فمن صدق في طلبه الحق يصل إليه (إِنْ تَصْدُقْ اللَّهَ يَصْدُقْكَ)..
3-مرور النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم على دور الأنصار وبيوتهم.
وقد تنازع الأنصارُ ، كلٌ منهم يريد أن ينزل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عليه، ومازالت ناقته سائرة به حتى وصلت موضع مسجد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم اليوم فبركت فاختار اللهُ عز وجل دار بني النجار أخوال عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأن والده هاشمٌ تزوَّج بامرأة من بني النجار وهي سلمى بنت عمرو . ونزول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عندهم يُعَدُّ من مناقبهم وفي صحيح مسلم( أَنْزِلُ عَلَى بَنِي النَّجَّارِ، أَخْوَالِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أُكْرِمُهُمْ بِذَلِكَ (الحديث .وقد ثبت في الصحيحين البخاري عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ خَيْرَ دُورِ الأَنْصَارِ دَارُ بَنِي النَّجَّارِ..." .
4-فلما وصل دارَ بني النجار وبركت ناقته، أخذ أبو أيوب رضي الله عنه متاع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأدخله في منزله، وكان أقرب الدور إلى المسجد النبوي. فمكث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مدة جاء أنها سبعة أشهر حتى بُنِيَ للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مسجدُه .
5-ولما استقر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في دار أبي أيوب أرسل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأهله، وجاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعياله ومعهم عائشة رضي الله عنها، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما دخل بها إلا في شوال من السنة الأولى من الهجرة. وجاءت سودة رضي الله عنها، وبعض بنات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأم أيمن، وأسامة بن زيد رضي الله عنهم .
6-شراء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم موضع مسجده، وتعاون النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحابته في بناء المسجد النبوي باللبِن، وسقفه من جريد النخل، وعمده الخشب. وبُني لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم حجراً إلى جانب المسجد النبوي.
7- بقاء علي بن أبي طالب بمكة وعدم هجرته مع المهاجرين والسبب هو أنه كانت هناك ودائع عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فبقي علي رضي الله عنه من أجل أن يردها لأصحابها ثم هاجر رضي الله عنه .
8-انقسامُ الكفار لما قدم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المدينة إلى ثلاثة أقسام:
ـ منهم من وادعوه وهؤلاء هم ثلاث طوائف من اليهود: بنو قينقاع، وبنو قريظة، وبنو النضير. وقد نقضوا العهد بعد ذلك. وكانت الموادعة على الأمن، الأمن على النفس والمال والأولاد.
ـ ومنهم من حاربوه ونصبوا له العداوة.
ـ ومنهم من توقف فلم يكونوا مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولم يحاربوه.
9-إسلام عبد الله بن سلام حبر اليهود، ومجيئه إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في دار أبي أيوب، وكفر عامَّة اليهود.
10-مؤاخاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار وكان يرث المهاجري من الأنصاري دون رَحِمِه دون أقربائه ودون أبيه وولده وهذا من مناقب الأنصار، ومن محبتهم للمهاجرين. وكانت المؤاخاة في أول الأمر ثم بعد ذلك نسخ المؤاخاة بآي المواريث لما حصلت مكاسب للمهاجرين من الغزو .
11-ابتداء المؤاخاة قيل كانت حين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يبني مسجده، وقيل غير ذلك، واستمرت المؤاخاة إلى غزاة بدر.
12-جاء في كتب السير
ـ أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم آخى بين المهاجرين في مكة قبل الهجرة على الحق، والمواساة.
ـ وأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار بالمدينة وهذا ثابت في الصحيحين وفي غيرهما.
ـ وأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم آخى بين المهاجرين في المدينة . والله أعلم.
13-فرضيةُ الزكاة :
ـ جمهور العلماء أنها فرضت في المدينة ابتداء قدوم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مواساةً لفقراء المهاجرين .
ـ ومن أهل العلم من قال فرضت بمكة، ولكن مقاديرُها، وأنصباؤها كان بالمدينة؛ لأن الله عز وجل يقول: (...وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ وسورة فُصلت مكية .
والحمد لله .
أم سمية الأثرية
2016-01-17, 19:33
الدَّرْس العاشِر من / الفُصُوْلُ في سيْرَةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم
5 من شهر ربيع الثاني 1437.
فصل ـ المؤاخاة بين المهاجرين و الأنصار
ووداعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مَن بالمدينة من اليهود، وكتب بذلك كتاباً وأسلم حبرُهم عبدُ الله بن سلام رضي الله عنه، وكفر عامَّتُهم وكانوا ثلاث قبائل: بنو قيقناع، وبنو النضر، وبنو قريظة. وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، فكانوا يتوارثون بهذا الإخاء في ابتداء الإسلام إرْثاً مقدماً على القرابة. وفرض الله سبحانه وتعالى إذ ذاك الزكاة رفْقاً بفقراء المهاجرين، وكذا ذكر ابن حزم في هذا التاريخ، وقد قال بعض الحفاظ من علماء الحديث: إنه أعياه فرض الزكاة متى كان.
******************************
هذا الفصل في الأمور التي وقعت ابتداء قدوم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المدينة.
لما قدم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المدينة انقسم الكفار إلى ثلاثة أقسام:
• منهم من وادعوه وهؤلاء هم ثلاث طوائف من اليهود: بنو قينقاع، وبنو قريظة، وبنو النضير.
• ومنهم من حاربوه ونصبوا له العداوة.
• ومنهم من توقف فلم يكن مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولم يحاربوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما ذكر ذلك ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد.
وسيأتي الكلام على طوائف اليهود الثلاث إن شاء الله حيث يذكره ابن كثير .
وكانت الموادعة على الأمن، الأمن على النفس والمال والأولاد .
(وأسلم حبرهم عبد الله بن سلام رضي الله عنه)
حبرهم أي عالمهم وكان سيداً لهم، عبد الله بن سلام بتخفيف اللام .
هذا فيه تاريخ إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وعبد الله بن سلام من بني قينقاع.
لما استقر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في دار أبي أيوب جاء عبد الله بن سلام وأسلم رضي الله عنه .
وقصة إسلامه في صحيح البخاري (3911) عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وفيه)...فَلَمَّا جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّكَ جِئْتَ بِحَقٍّ، وَقَدْ عَلِمَتْ يَهُودُ أَنِّي سَيِّدُهُمْ وَابْنُ سَيِّدِهِمْ، وَأَعْلَمُهُمْ وَابْنُ أَعْلَمِهِمْ، فَادْعُهُمْ فَاسْأَلْهُمْ عَنِّي قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ، فَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ قَالُوا فِيَّ مَا لَيْسَ فِيَّ. فَأَرْسَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلُوا فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مَعْشَرَ اليَهُودِ، وَيْلَكُمْ، اتَّقُوا اللَّهَ، فَوَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، وَأَنِّي جِئْتُكُمْ بِحَقٍّ، فَأَسْلِمُوا»، قَالُوا: مَا نَعْلَمُهُ، قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهَا ثَلاَثَ مِرَارٍ، قَالَ: «فَأَيُّ رَجُلٍ فِيكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ؟» قَالُوا: ذَاكَ سَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا، وَأَعْلَمُنَا وَابْنُ أَعْلَمِنَا، قَالَ: «أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ؟»، قَالُوا: حَاشَى لِلَّهِ مَا كَانَ لِيُسْلِمَ، قَالَ: «أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ؟» قَالُوا: حَاشَى لِلَّهِ مَا كَانَ لِيُسْلِمَ، قَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ؟، قَالُوا: حَاشَى لِلَّهِ مَا كَانَ لِيُسْلِمَ، قَالَ: يَا ابْنَ سَلاَمٍ اخْرُجْ عَلَيْهِمْ، فَخَرَجَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ اليَهُودِ اتَّقُوا اللَّهَ، فَوَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ جَاءَ بِحَقٍّ، فَقَالُوا: كَذَبْتَ، فَأَخْرَجَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
نستفيد من هذا وقت إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وأنه كان من كبار وعلماء اليهود،
ومنَّ الله عليه وأسلم .
قال الحافظ في فتح الباري(3812) عبدالله بن سلام بتَخْفِيف اللَّام ابن الْحَارِثِ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ وَكَانَ اسْمُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْحُصَيْنُ فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ أخرجه ابن مَاجَة وَكَانَ مِنْ حُلَفَاءِ الْخَزْرَجِ مِنَ الْأَنْصَارِ أَسْلَمَ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ .
(وكفر عامتهم وكانوا ثلاث قبائل: بنو قيقناع، وبنو النضر، وبنو قريظة)
عامة اليهود كفروا بغيًا وحسدًا.
(وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، فكانوا يتوارثون بهذا الإخاء في ابتداء الإسلام إرثاً مقدماً على القرابة)
وهذا كان في أول الأمر آخى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بين المهاجرين والأنصار، فكان المهاجري يرث من الأنصاري دون رَحِمِه ، دون أقربائه دون أبيه دون ولده الخ .
واختلفوا متى كان ابتداء المؤاخاة ؟.
قال الحافظ في فتح الباري (3937)وَاخْتَلَفُوا فِي ابْتِدَائِهَا فَقِيلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ وَقِيلَ بِتِسْعَةٍ وَقِيلَ وَهُوَ يَبْنِي الْمَسْجِدَ وَقِيلَ قَبْلَ بِنَائِهِ وَقِيلَ بِسَنَةٍ وَثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ قَبْلَ بَدْرٍ .
إلى أن قال رحمه الله : وَكَانَ ابْتِدَاءُ الْمُؤَاخَاةِ أَوَائِلَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ وَاسْتَمَرَّ يُجَدِّدُهَا بِحَسَبِ مَنْ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ يَحْضُرُ إِلَى الْمَدِينَةِ .اهـ
واستمرت المؤاخاة إلى غزاة بدر قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد (3/ 56) ..آخَى بَيْنَهُمْ عَلَى الْمُوَاسَاةِ، يَتَوَارَثُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ دُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ إِلَى حِينِ وَقْعَةِ بَدْرٍ . اهـ
وقال ابنُ الجوزي رحمه الله في كشف المشكل(1/ 220) وَلم يكن بعد غزَاة بدر مؤاخاة، لِأَن الْغَنَائِم وَقعت بِالْقِتَالِ، فاستغنى الْمُهَاجِرُونَ بِمَا كسبوا.
وهذا من مناقب الأنصار، ومن محبتهم للمهاجرين، وقد ثبت في الصحيحين من حديث عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَآخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَكَانَ كَثِيرَ المَالِ، فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ عَلِمَتِ الأَنْصَارُ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا، سَأَقْسِمُ مَالِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَطْرَيْنِ، وَلِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَعْجَبَهُمَا إِلَيْكَ فَأُطَلِّقُهَا، حَتَّى إِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ، فَلَمْ يَرْجِعْ يَوْمَئِذٍ حَتَّى أَفْضَلَ شَيْئًا مِنْ سَمْنٍ وَأَقِطٍ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ، وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَهْيَمْ. قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ مَا سُقْتَ إِلَيْهَا؟. قَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ .
وفي هذه القصة منقبة عظيمة لهذين الصحابِيَّين سعد بن الربيع في غاية الإيثار، وعبدالرحمن في غاية العفة رضي الله عنهما.
ثم بعد ذلك نُسِخ المؤاخاة بالميراث وفي ذلك يقول السيوطي:
والحِلْفُ والحَبْسُ للزَّانِي وتَرْكُ أُولِي **** كُفْرٍ وإشْهَادُهُمْ والصَّبْرُ والنَّفَــرُ
أي هذا مما نُسخ، ومنه الحِلْف نسخ هذا بآية المواريث.
آية الحلف بيَّن ذلك السيوطي رحمه الله في الإتقان في علوم القرآن (3/ 74) وقال : قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} . اهـ
وحاصل ما جاء في كتب السير:
أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم آخى بين المهاجرين في مكة قبل الهجرة على الحق، والمواساة.
قال أبو الفرج ابن برهان في السيرة الحلبية (2/ 27 ) :وقبل الهجرة «آخي صلى الله عليه وسلم بين المسلمين» أي المهاجرين على الحق والمواساة ..
وأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار بالمدينة وهذا ثابت في الصحيحين وفي غيرهما.
قال الحافظ في فتح الباري(1968) ذَكَرَ أَصْحَابُ الْمَغَازِي أَنَّ الْمُؤَاخَاةَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَقَعَتْ مَرَّتَيْنِ الْأُولَى قَبْلَ الْهِجْرَةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ خَاصَّةً عَلَى الْمُوَاسَاةِ وَالْمُنَاصَرَةِ فَكَانَ مِنْ ذَلِكَ أُخُوَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ثُمَّ آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ وَذَلِكَ بَعْدَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ . اهـ
وأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم آخى بين المهاجرين في المدينة مرة ثانية .
ويراجع زاد المعاد (3/57) .
و فتح الباري (3937).
)وفرض الله سبحانه وتعالى إذ ذاك الزكاة رفقاً بفقراء المهاجرين، وكذا ذكر ابن حزم في هذا التاريخ، وقد قال بعض الحفاظ من علماء الحديث: إنه أعياه فرض الزكاة متى كان.(
وهذا عليه جمهور العلماء أن الزكاة فرضت في المدينة ابتداء قدوم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ومن أهل العلم من قال الزكاة فرضت بمكة، ولكن مقاديرها، وأنصباؤها كان بالمدينة؛ لأن الله عز وجل يقول: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾فصلت:6-7. وسورة فصلت مكية، وهذا قول الوالد الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله أن الزكاة فرضت في مكة للآية المذكورة وأن أنصباءَها ومقاديرَها كان بالمدينة .والله تعالى أعلم.
هذه عدة أمور في هذا الفصل وقعت في ابتداء قدوم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المدينة ومنها إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه .
وبهذا ننتهي ونسأل اللهَ التوفيق .
أم سمية الأثرية
2016-01-17, 21:01
(1) التَّذْكِيْرُ بسيْرَةِ سيِّدِ البَشَرِ
الكاتب أم عبدالله الوادعية
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وُلد يوم الاثنين، وبُعث يوم الاثنين
كما في صحيح مسلم (1162) عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :سُئِلَ عَنْ صَوْمِ
يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ، قَالَ : ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فيه) .
قال ابن القيم في زاد المعاد (1/76) :وَلَا خِلَافَ أَنَّ مَبْعَثَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ
وهاجر وخرج من مكة يوم الاثنين .
ودخل المدينة يوم الاثنين، كما في صحيح البُخاري (3906) فَتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِظَهْرِ الحَرَّةِ، فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ
اليَمِينِ، حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّل .
والحديث وإن كان ظاهره عند البخاري الإرسال أنه من مراسيل عروة
فقد قال الحافظ : وَصُورَتُهُ مُرْسَلٌ لَكِنَّهُ وَصَلَهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ
أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّهُ سَمِعَ الزُّبَيْرَ بِهِ . اهـ
وتوفي يوم الاثنين وحديث وفاته يوم الاثنين في الصحيحين البخاري (680)، مسلم (419)
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الأَنْصَارِيُّ - وَكَانَ تَبِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَدَمَهُ وَصَحِبَهُ - أَنَّ أَبَا بَكْرٍ
كَانَ يُصَلِّي لَهُمْ فِي وَجَعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ
وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلاَةِ، فَكَشَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتْرَ الحُجْرَةِ يَنْظُرُ إِلَيْنَا وَهُوَ قَائِمٌ
كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ، ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ، فَهَمَمْنَا أَنْ نَفْتَتِنَ مِنَ الفَرَحِ بِرُؤْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ، وَظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَارِجٌ
إِلَى الصَّلاَةِ «فَأَشَارَ إِلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَتِمُّوا صَلاَتَكُمْ وَأَرْخَى السِّتْرَ فَتُوُفِّيَ مِنْ يومه .
أما ما جاء في مسند أحمد (4 304 / عن ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " وُلِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَاسْتُنْبِئَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ ،
وَخَرَجَ مُهَاجِرًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ ، وَتُوُفِّيَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَرَفَعَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ " .
فهذا إسناده ضعيف لأنه من طريق ابنِ لهيعة ، وهو ضعيفٌ .
أم سمية الأثرية
2016-01-17, 21:05
(2)التَّذْكِيْرُ بِسِيْرَةِ سَيِّدِ البَشَر
<<حادثةُ شَقِّ الصَّدْرِ>>
قبلَ الإسراء نزل جبريل عليه السلامُ وشَقَّ صدرَ النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ كما في صحيح البخاري ومسلم وهذا
لفظ مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ، يُحَدِّثُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي وَأَنَا
بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا
فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ...." الحديث.
وفي الصحيحين في رواية أنس عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وفيه :
(فَأُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ، مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَشُقَّ مِنَ النَّحْرِ إِلَى مَرَاقِّ البَطْنِ، ثُمَّ غُسِلَ البَطْنُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا).
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم : (إِلَى مَرَاقِّ البَطْنِ) هُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ وَهُوَ مَا سَفَلَ مِنَ الْبَطْنِ وَرَقَّ مِنْ جِلْدِهِ. اهـ
وهذه مرَّةً أخرى غير المرَّة السابقة وهو صغير كما في صحيح مسلم (162) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ
عَلَقَةً، فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ لَأَمَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ
إِلَى أُمِّهِ يَعْنِي ظِئْرَهُ، فَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ، قَالَ أَنَسٌ: وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي
صَدْرِه".
فهاتان حالتان، الأولى: عندما كان النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ صغيرًا.
والحالة الثانية: بعد البعثة قبل الإسراء بالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ.
فالنَّبيُّ صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم شُقَّ صدرُهُ مرتين .
أم سمية الأثرية
2016-01-20, 19:51
الدرس الحادي عشر من (الفصول في سيْرَةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم) 9 من شهر ربيع الأول 1437 .
فصل ـ فرضُ الجهاد
ولما استقرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالمدينةِ بين أظْهُرِ الأنصارِ وتكفَّلوا بنصره ومنعه من الأسود والأحمر، رمتهم العربُ قاطبةً عن قوسٍ واحدةٍ، وتعرَّضوا لهم من كلِّ جانب، وكان الله سبحانه قد أذِن للمسلمين في الجهاد في سورة الحج وهي مكيَّة في قوله تعالى: "أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير"، ثم لمَّا صاروا في المدينة وصارت لهم شوكةٌ وعضُدٌ كتبَ الله عليهم الجهادَ كما قال الله تعالى في سورة البقرة: "كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبُّوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون".
*************************
تعريفُ الجهاد قال الحافظ في فتح الباري في شرح أول كتاب الجهاد :
الْجهَاد بِكَسْر الْجِيمِ أَصْلُهُ لُغَةً الْمَشَقَّةُ يُقَالُ جَهِدْتُ جِهَادًا بَلَغْتُ الْمَشَقَّةَ .
وَشَرْعًا بَذْلُ الْجُهْدِ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ وَالْفُسَّاقِ .اهـ
وهذا الفصل في فرضية الجهاد و لما استقر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالمدينة كان معلِّمًا، ومربيًا، وداعيًا إلى الله عز وجل، فلما ظهر الإسلام، وقويت شوكتُه فرضَ الله عز وجل الجهاد.
ولم يُفرَضِ الجهادُ في مكة قبل الهجرة؛ لأن المسلمين كانوا مستضعفين قال تعالى { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} .
فلم يُؤمَروا بقتالِ الكفار لأنه ما كان عندهم قُدرة ولا أُمِرُوا بتخريب دُورهم وممتلكاتهم إذ لو فعلوا ذلك لقتلهم الكفار ولأبادُوهم عن آخرهم لأن الوطْاَة وطأتُهم ، بخلافِ الطائشين في أزمنتنا يجنُون على الإسلام والمسلمين الشر والضرر بقتلِ بعض أفراد الكفار وبعضهم يكون معاهَدَاً من الدولة فيزداد الكفار غضبا وحَنَقًاوانتقاما .
ولا أُمروا أيضاً في أوَّل مقدم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المدينة حتى ظهرَ الإسلام وقوِيَتْ شوكتُه وصار له أنصار وأعوان ودَوْلة قويةٌ حينئِذٍ جاء الأمرُ بالقتال .
وقد قال بعض العلماء: إن الله عز وجل أَذن بالجهاد في مكة قبل الهجرة، وهذا ما ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله هنا .
وقد ردَّه ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد (3/63،64)من وجوه وقال رحمه الله :
وَقَدْ قَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ هَذَا الْإِذْنَ كَانَ بِمَكَّةَ، وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَهَذَا غَلَطٌ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْذَنْ بِمَكَّةَ لَهُمْ فِي الْقِتَالِ، وَلَا كَانَ لَهُمْ شَوْكَةٌ يَتَمَكَّنُونَ بِهَا مِنَ الْقِتَالِ بِمَكَّةَ.
الثَّانِي: أَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِذْنَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَإِخْرَاجِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ فَإِنَّهُ قَالَ: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 40] [الْحَجِّ: 40] وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُهَاجِرُونَ.
الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] [الْحَجِّ: 19] نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ تَبَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ قَدْ خَاطَبَهُمْ فِي آخِرِهَا بِقَوْلِهِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 77] وَالْخِطَابُ بِذَلِكَ كُلِّهِ مَدَنِيٌّ، فَأَمَّا الْخِطَابُ {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21] فَمُشْتَرَكٌ.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ أَمَرَ فِيهَا بِالْجِهَادِ الَّذِي يَعُمُّ الْجِهَادَ بِالْيَدِ وَغَيْرِهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْجِهَادِ الْمُطْلَقِ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، فَأَمَّا جِهَادُ الْحُجَّةِ فَأَمَرَ بِهِ فِي مَكَّةَ بِقَوْلِهِ: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} [الفرقان: 52] أَيْ: بِالْقُرْآنِ {جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52] [الْفُرْقَانِ: 52] فَهَذِهِ سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ، وَالْجِهَادُ فِيهَا هُوَ التَّبْلِيغُ، وَجِهَادُ الْحُجَّةِ، وَأَمَّا الْجِهَادُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي (سُورَةِ الْحَجِّ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْجِهَادُ بِالسَّيْفِ.
السَّادِسُ: أَنَّ الحاكم رَوَى فِي " مُسْتَدْرَكِهِ " مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ مسلم البطين، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ قَالَ أبو بكر: أَخْرَجُوا نَبِيَّهُمْ، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، لَيَهْلِكُنَّ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] [الْحَجِّ: 39] وَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ. وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ " الصَّحِيحَيْنِ " وَسِيَاقُ السُّورَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهَا الْمَكِّيَّ وَالْمَدَنِيَّ، فَإِنَّ قِصَّةَ إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ فِي أُمْنِيِّةِ الرَّسُولِ مَكِّيَّةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ". اهـ
والجهاد له مراحِل في السيرة النَّبَويَّة
وقد ذكر هذه المراحل ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد.(3/64) وقال:
"ثُمَّ فَرَضَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لِمَنْ قَاتَلَهُمْ دُونَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْهُمْ فَقَالَ: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] [الْبَقَرَةِ: 190] .
ثُمَّ فَرَضَ عَلَيْهِمْ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً .
وَكَانَ مُحَرَّمًا، ثُمَّ مَأْذُونًا بِهِ، ثُمَّ مَأْمُورًا بِهِ لِمَنْ بَدَأَهُمْ بِالْقِتَالِ، ثُمَّ مَأْمُورًا بِهِ لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ" .اهـ
وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجاهدُ الكفارَ بمكة بالحُجَج وبالقرآن، قال سبحانه: ﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان:52].
والجهاد على أربع مراتب:
قال ابنُ القيم رحمه الله في زاد المعاد(3/9):" الْجِهَادُ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ: جِهَادُ النَّفْسِ، وَجِهَادُ الشَّيْطَانِ، وَجِهَادُ الْكُفَّارِ، وَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ" ثم شرحها رحمه الله .
وشرحها الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري بشرحٍ مختصَر وقال :
فَأَمَّا مُجَاهَدَةُ النَّفْسِ فَعَلَى تَعَلُّمِ أُمُورِ الدِّينِ ثُمَّ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا ثُمَّ عَلَى تَعْلِيمِهَا .
وَأَمَّا مُجَاهَدَةُ الشَّيْطَانِ فَعَلَى دَفْعِ مَا يَأْتِي بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَمَا يُزَيِّنُهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ .
وَأَمَّا مُجَاهَدَةُ الْكُفَّارِ فَتَقَعُ بِالْيَدِ وَالْمَالِ وَاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ .
وَأَمَّا مُجَاهَدَةُ الْفُسَّاقِ فَبِالْيَدِ ثُمَّ اللِّسَانِ ثُمَّ الْقَلْبِ . اهـ
أبواب الجهاد والمغازي فيها علم غزير في سيرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم،وصفاته الخلْقِيَّة والخُلُقِيَّة ،وفي معجزاته، وسبب نزول القرآن وغير ذلك.
قال ابنُ كثير في البداية والنهاية (2/241) وَهَذَا الْفَنُّ مِمَّا يَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِهِ وَالِاعْتِبَارُ بِأَمْرِهِ وَالتَّهَيُّؤُ لَهُ .وذكر بعض الاثار لكنها من طريق الواقدي وهو متروك .
وقد أُلِّفت المؤلفات في الجهاد، والمغازي، ومن أهل العلم من يجعلها ضمن مؤلفاتهم فيعقدون لها كتبًا .
الجهاد لا يكون إلا بمشورة العلماء الراسخين؛ لأن ربنا عز وجل يقول: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء:83]، ويقول: ﴿لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [المائدة:63].
ولما أعرض كثير من الناس –إلا من رحم الله-عن الرجوع إلى العلماء الراسخين تخبَّطوا، وفتحوا بابَ الجهاد على مِصْرَاعيه بمجرد الهوى والرأي المحض ومن غير ضوابِطٍ ولا قيودٍ ووقعوا في عقيدة الخوارجِ والمعتزلة من قتال الأمراء والوُلاة، والخروج على الحكام الظلمة ، والسعي بالفساد .
ومن الأُمورِ المنكرة التفجيرات يُفَجِّر نفسَه مع مجموعة وهذا حرامٌ وكبيرةٌ من الكبائر يشمله ما رواه البخاري (5778) ومسلم (109) عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :«مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا».
والله عزوجل يقول { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} .
وقد كانَ والدي رحمه الله يُفتي بتحريم ذلك للآية وللحديث المذكور وما في معناه ولأنه يجر إلى مفاسد عظيمة.
وقال الشيخ ابنُ عثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين في شرح حديث الغلام الذي قال للملك (إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: ما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع، ثم خذ سهما من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: بسم الله رب الغلام، ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع ثم أخذ سهما من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: بسم رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه فمات. فقال الناس: آمنا برب الغلام)والحديث عند مسلم يقول رحمه الله :
فأمَّا ما يفعله بعضُ الناس من الانتحار، بحيث يحمل آلات متفجِّرة ويتقدم بها إلي الكفار ثم يفجرها إذا كان بينهم، فإن هذا من قتل النفس والعياذ بالله .
ومن قتل نفسه فهو خالد مخلد في نار جهنم أبد الآبدين، كما جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
لأن هذا قتل نفسه لا في مصلحة الإسلام، لأنه إذا قتل نفسه وقتل عشرة أو مائة أو مائتين، لم ينتفع الإسلام بذلك، فلم يسلم الناس، بخلاف قصة الغلام، فإن فيها إسلام كثير من الناس، فكل من حضر في الصعيد أسلموا، أما أن يموت عشرة أو عشرون أو مائة أو مائتان من العدو، فهذا لا يقتضي أن يسلم، بل ربما يتعنت العدو أكثر ويوغر صدره هذا العمل حتى يفتك بالمسلمين أشد فتك، كما يوجد من صنع اليهود مع أهل فلسطين، فإن أهل فلسطين إذا مات الواحد منهم بهذه المتفجرات وقتل ستة أو سبعة أخذوا من جراء ذلك ستين نفرا أو أكثر، فلم يحصل في ذلك نفع للمسلمين، ولا انتفاع للذين فجرت هذه المتفجرات في صفوفهم.
ولهذا نرى أن ما يفعله بعضُ الناس من هذا الانتحار، نرى أنه قتل للنفس بغير حق، وأنه موجب لدخول النار والعياذ بالله، وأن صحابه ليس بشهيد. لكن إذا فعل الإنسان هذا متأوِّلا ظانا أنه جائز، فإننا نرجو أن يسلم من الإثم، وأما أن تكتب له الشهادة فلا؛ لأنه لم يسلك طريقة الشهادة، لكنه يسلم من الإثم لأنه متأول، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر.اهـ
وللشيخ الفوزان حفظه الله في (أسئلة المناهج الجديدة ) 125كلام يُفيد هذا ومما قال :فلا يجوز للإنسان أن يقتل نفسه بل يحافظ على نفسه غاية المحافظة ...
فأمرُ الجهادِ أخطأَ في فهمه كثيرٌ من الناس بسبب رجوعهم إلى أئمةِ الضَّلال .
وهذا طرَفٌ .
طرفٌ آخرُ يتنكَّر للجهاد من أصله وهم الكفار، ومن كان متأثرًا بهم بحجة الإنسانية،وسماحة الدِّين والمواساة، وأرادوا أن يُلْغوا الجهاد في سبيل الله .
والجهاد في سبيل الله هو من جملة البراء من أعداء الله عز وجل الذي أمر الشرعُ به .
(وتكفَّلوا بنصره ومنعه من الأسود والأحمر، رمتهم العرب قاطبةً عن قوسٍ واحدةٍ، وتعرَّضوا لهم من كل جانب) .
(ومنعه من الأسود والأحمر) الأحمر فُسِّر بالأبيض لكن قال ابن الأثير في النهاية :فِي هَذَا الْقَوْلِ نَظَر .
وذكر رحمه الله حديث «بُعِثْتُ إِلَى الأَحْمِرِ والأسْود» وقال :أَيِ العَجم والعَرب؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى ألْوان العَجم الْحُمْرَةُ وَالْبَيَاضُ، وَعَلَى أَلْوَانِ الْعَرَبِ الْأُدْمَةُ وَالسُّمْرَةُ . اهـ
وقد نبَّه أسعدُ بن زُرارة رضي الله عنه الأنصار على هذا أنهم إذا آووا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تكالب عليهم الناس جميعًا، ففي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه في مسند أحمد (23/22) في قصة بيعة العقبة الثانية قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللهِ لَا تَأْخُذُكُمْ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ يَثْرِبَ، فَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ وَلَكُمُ الْجَنَّةُ ".
قال جابرٌ فَقُمْنَا نُبَايِعُهُ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَهُوَ أَصْغَرُ السَّبْعِينَ، فَقَالَ: رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ، إِنَّا لَمْ نَضْرِبْ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْمَطِيِّ إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، إِنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً، وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ، وَأَنْ تَعَضَّكُمُ السُّيُوفُ، فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَى السُّيُوفِ إِذَا مَسَّتْكُمْ، وَعَلَى قَتْلِ خِيَارِكُمْ، وَعَلَى مُفَارَقَةِ الْعَرَبِ كَافَّةً، فَخُذُوهُ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللهِ، وَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خِيفَةً فَذَرُوهُ، فَهُوَ أَعْذَرُ عِنْدَ اللهِ، قَالَوا: يَا أَسْعَدُ بْنَ زُرَارَةَ أَمِطْ عَنَّا يَدَكَ، فَوَاللهِ لَا نَذَرُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ، وَلَا نَسْتَقِيلُهَا، فَقُمْنَا إِلَيْهِ رَجُلًا رَجُلًا يَأْخُذُ عَلَيْنَا بِشُرْطَةِ الْعَبَّاسِ،، وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ.
والحديث حسن. ويُنظر الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين لوالدي رحمه الله (215).
فالأنصار رضي الله عنهم لما آووا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ونصروه عادتهم
العرب حتى أعزَّ الله دينه، وأعلى كلمته { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}. والله أعلم.
*************************
فصل ـ أول المغازي والبعوث ـ غزوةُ الأبواء
وكانت أول غزاة غزاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غزوةَ الأبواء، وكانت في صفر سنة اثنتين من الهجرة، خرج بنفسه صلى الله عليه وسلم حتى بلغ ودَّان، فوادع بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة مع سيدِّهم مخشي بن عمرو، ثم كر راجعاً إلى المدينة ولم يلقَ حرْباً، وكان استخلفَ عليها سعدَ بن عبادة رضي الله عنه .
*************************
هذا الفصل في أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وأول غزوات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم غزوة الأبواء ـ الموضع الذي ماتت فيه أمه آمنة بنت وهب ـ ويقال لهذه الغزوة غزوة ودَّان، وهما واحدة وأُطلِق عليها ذلك لأن المكانين متقاربان .
قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تاريخ الأمم والملوك (2/ 14 ) :فغزا رسول الله صلى الله عليه و سلم في قول جميع أهل السير فيها في ربيع الأول بنفسه غزوة الأبواء ويقال ودَّان وبينهما ستة أميال هي بحذائها . اهـ
(وكانت في صفر سنة اثنتين من الهجرة، خرج بنفسه صلى الله عليه وسلم حتى بلغ ودَّان)
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما قدم المدينة بقي بقية ربيع الأول، وربيع الثاني، وجمادَين، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوال، وذا القعدة، وذا الحجة، وشهر الله المحرم. وفي شهر صفر بدأ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالقتال يقول الحافظ ابنُ كثير رحمه الله : (سنة اثنين من الهجرة ...) وخرج إلى الأبواء ليعترضَ عِيرًا لقريش .
(فوادعَ بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة مع سيدِّهم مخشي بن عمرو، ثم كرَّ راجعاً إلى المدينة ولم يلق حرباً) .
وفي بعض النسخ مجديَّ بن عمرو بدل مخشي بن عمرو.
ووادعَ في هذه الغزوة بني ضمرة بن عبد مناة مع سيدهم مجديِّ بن عمرو وكانت المواعَةُ على ألا يغزوهم، ولا يُغزوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا يكثِّروا عليه جمْعًا، ولا يعينوا عليه عدوًا.
وهذا من الحكمة موادعة القبائل ليسلَمَ من شرهم وأذاهم .
ثم رجع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى المدينة ولم يلق حربًا، فكانت هذه الغزوة بدون
قتال ولكن أرْعَب ذلكَ قريشا فإن خروجه لتلقيهم يدُلُّ أنه صار للمسلمين قوَّةٌ .
وأول غزوة كان فيها قتال هي غزوة بدر.
(ولم يلق حرباً)
وفي بعض كتب السِّيَر (ولم يلق كيدًا) أي: حربًا.
(وكان استخلف عليها سعد بن عبادة رضي الله عنه).
(عليها) أي: استخلف على المدينة سعد بنَ عبادة لما خرج إلى غزوة الأبواء.
*************************
بعثُ حمزةَ بنِ عبد المطلب
ثم بعث عمه سيف البحر فالتقى بأبي جهل بن هشام، وركب معه زُهاء ثلاثمائة، فحال بينهم مجديُّ بن عمرو الجهني، لأنه كان موادعاً للفريقين.
*************************
هذا في بعث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه للتَّعَرُّضِ لعير قريش كانت قد أقبلت من الشام ، وهذه أول بعوثات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
والغزوة يكون فيها خروجُ الأميرِ نفسِه مع المقاتلين .
والبعوث : جيش يبعثه الإمامُ للغزو، ويجعل عليهم أميرًا من غير أن يُشارِك معهم القتال .
هذا يقال له بعْث .
هذا ما يتعلق في الفرق بين البعوث والغزوات.
وبعضهم يُطْلِقُ على البعث غزوة .
قال الحافظ في فتح الباري شرح أول كتاب المغازي : الْمُرَادُ بِالْمَغَازِي هُنَا مَا وَقَعَ مِنْ قَصْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكُفَّارَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِجَيْشٍ مِنْ قِبَلِهِ .
وهناك السَّرِيَّة
قال ابن الأثير في النهاية : وَهِيَ طائفةٌ مِنَ الجَيش يبلغُ أَقْصَاهَا أربَعمائة تُبْعث إِلَى العَدوّ، وجمعُها السَّرَايَا، سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يكونُون خُلاصةَ العسْكر وخيارَهم، مِنَ الشَّيء السَّرِيِّ النَّفِيس. وَقِيلَ سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ ينْفذُون سِرًّا وخُفْية، وَلَيْسَ بالوجْه، لِأَنَّ لامَ السِّرِّ رَاءٌ، وَهَذِهِ ياءٌ.اهـ
أي اختلفوا لأي شيء قيل لها سرِيَّة فقيل لأنها مختارة نفيسة ، وقيل لأنها تسري بخفية .
وقال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم شرح حديث بريدة رضي الله عنه : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا ..)السَّرِيَّةُ : قِطْعَةٌ مِنَ الْجَيْشِ تَخْرُجُ مِنْهُ تُغِيرُ وَتَرْجِعُ إِلَيْهِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ هِيَ الْخَيْلُ تَبْلُغُ أَرْبَعَمِائَةٍ وَنَحْوَهَا قَالُوا سُمِّيَتْ سَرِيَّةً لِأَنَّهَا تَسْرِي فِي اللَّيْلِ وَيَخْفَى ذَهَابُهَا وَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ يُقَالُ سَرَى وَأَسْرَى إِذَا ذَهَبَ لَيْلًا .
وقال رحمه الله في تحرير ألفاظ التنبيه 315 :السّريَّة الَّتِي يبعثها الإِمَام من الْجَيْش قبل دُخُوله إِلَى دَار الْحَرْب مُقَدّمَة لَهُ .
وفي فتح الباري تحت رقم (4338) السرية :هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ الْجَيْشِ تَخْرُجُ مِنْهُ وَتَعُودُ إِلَيْهِ وَهِيَ مِنْ مِائَةٍ إِلَى خَمْسِمِائَةٍ .
(ثم بعث عمَّه حمزة رضي الله عنه في ثلاثين راكباً من المهاجرين ليس فيهم أنصاري إلى سيفِ البحر) .
(ليس فيهم أنصاري)
قال ابن سعدٍ في الطبقات (2/ 4)وَلَمْ يَبْعَثْ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحدًا مِنَ الأَنْصَارِ مَبْعَثًا حَتَّى غَزَا بِهِمْ بَدْرًا. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ شَرَطُوا لَهُ أَنَّهُمْ يَمْنَعُونَهُ فِي دَارِهِمْ .
(سيف البحر) قال ابن الأثير في النهاية(2/434): أَيْ ساحِلَه .
(فالتقى بأبي جهل بن هشام، وركب معه زهاءَ ثلاثمائة)
أبو جهل : عمرو بن هشام .
(فحال بينهم مجدي بن عمرو الجهني، لأنه كان موادعاً للفريقين).
موادعًا أي: مصالحًا للفريقين للمسلمين ولكفار قريش ، ولما اصطفُّوا للقتال دخل بينهم وحجزهم عن القتال ، فأطاعوه وانصرفوا ولم يتمَّ القتال وقد كان مجدي بن عمرو موادِعًا، ولابد من الوفاء بالعهد ﴿وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا﴾ [الأنعام:152] فلا يجوز قتلُه ولا الاعتداء عليه . والله أعلم .
*************************
بعثُ عُبيدةَ بنِ الحارث بنِ المطلب
وبعث عبيدة بن الحارث بن المطلب في ربيع الآخر في ستين أو ثمانين راكباً من المهاجرين أيضاً إلى ماء بالحجاز بأسفل ثنية المَرَة، فلقوا جمعاً عظيماً من قريش عليهم عكرمة بن أبي جهل، وقيل: بل كان عليهم مكرز بن حفص، فلم يكن بينهم قتال، إلا أن سعد بن أبي وقاص رشَق المشركين يومئذ بسهم، فكان أول سهم رمي به في سبيل الله، وفرَّ يومئذ من الكفار إلى المسلمين المقدادُ بن عمرو الكندي، وعتبةُ بن غزوان رضي الله عنهما. فكان هذان البعثان أوَّل راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن اختلف في أيهما كان أول .
وقيل: إنهما كانا في السنة الأولى من الهجرة. وهو قول ابن جرير الطبري، والله تعالى أعلم.
*************************
بعثُ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعُبَيدة بن الحارث بن المطلب في السنة الثانية من الهجرة.
ولما التقوا بالمشركين هُزِمَ المشركون فلم يكن بينهم قتال إلا أنهم تراموا بالسهام وكان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أوَّل من رمى بسهم إلى المشركين .
وقد كان رضي الله عنه يَقُولُ: "إِنِّي لَأَوَّلُ العَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الشَّجَرِ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا يَضَعُ البَعِيرُ أَوِ الشَّاةُ، مَا لَهُ خِلْطٌ ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِي عَلَى الإِسْلاَمِ، لَقَدْ خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ عَمَلِي، وَكَانُوا وَشَوْا بِهِ إِلَى عُمَرَ، قَالُوا: لاَ يُحْسِنُ يُصَلِّي" رواه البخاري (3728)، مسلم (2966) يتحدث عن مناقبه رضي الله عنه.
(وفرَّ يومئذ من الكفار إلى المسلمين المقداد بن عمرو الكندي، وعتبة بن غزوان رضي الله عنهما).
وقد كانا مسلِمَين، فخرجا مع المشركين ولحِقَا رضي الله عنهما بالمسلمين .
وفي دلائل النبوة للبيهقي (3/ 10) وَهُوَ أَوَّلُ يَوْمٍ الْتَقَى فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ فِي قِتَالٍ، وَفَرَّ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ يَوْمَئِذٍ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَا فِي حَبْسِ قُرَيْشٍ قَدْ أَسْلَمَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَتَوَصَّلَا بِالْمُشْرِكِينَ حَتَّى خَرَجَا إِلَى عُبَيْدَةَ وَأَصْحَابِهِ . وهو مرسل من مراسيل ابن شهاب .
(فكان هذان البعثان أول رايةٍ عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن اختُلِف في أيِّهِما كان أول، وقيل: إنَّهما كانَا في السَّنَةِ الأُولَى من الهجرة. وهو قول ابن جرير الطبري، والله تعالى أعلم) .
بعثُ حمزةَ وبعثُ عُبيدة رضي الله عنهما أوَّلَ رايةٍ عقدها رسولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
(ولكن اختُلِف في أيِّهِما كان أول) اختلفوا هل بعثُ حمزة قبل بعث عُبيدةَ أو بَعْثُ عُبيدة قبل بعثِ حمزة رضي الله عنهما .
(وقيل: إنَّهما كانَا في السَّنَةِ الأُولَى من الهجرة.) أي بعث حمزة وعُبيدَة قبل غزوة الأبواء في السنة الأولى من الهجرة .
وهذه أيضا طريقة ابنِ حبان في أوائل كتابه الثقات (1/ 142) .
وعندنا في هذا الدرس أول غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم غزوة الأبواء.
أول بعوث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث حمزة بن عبد المطلب وقيل بعث عبيدة
بن الحارث مختلف.
أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأصحابه لحمزة بن عبد المطلب وقيل لعبيدة بن الحارث.
وتقدم معنا مسائل تتعلق بالأوائل نحصرُها هنا لجمع ما تفرَّقَ منها لربط المعلومات إن شاء الله وما توفيقُنا إلا بالله .
1. أجدادُ النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إلى عدنان عشرون أوَّلُهم وأدناهم عبدالمطلب .
2. أول نبي بعد أبينا آدم نوح على الصحيح .
وقال أبوعمرابنُ عبدالبر رحمه الله في الإنباه على قبائل الرواة (20) في الكلامِ على نبي الله إدريس قال :
وَكَانَ أول نَبِي أُعطي النبوةِ بعد آدم وشيث .اهـ
وقد نبَّه الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله تعالى ـ على هذه المسألة في شرح الأربعين النووية 45وقال: واعلم بأنك ستجد في بعض كتب التاريخ أن إدريس عليه الصلاة والسلام كان قبل نوح عليه السلام، وأن هناك بعضاً آخرين مثل شيث، كل هذا كذبٌ وليس بصحيح.
فإدريس بعد نوح قطعاً، وقد قال بعض العلماء: إن إدريس من الرسل في بني إسرائيل، لأنه دائماً يذكر في سياق قصصهم، لكن نعلم علم اليقين أنه ليس قبل نوح، والدليل قول الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنبيينَ مِنْ بَعْدِهِ) (النساء: الآية163) وقال الله عزّ وجل: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ) (الحديد: الآية26) فأرسلهم الله وهم القمة، وجعل في ذريتهما النبوة والكتاب، فمن زعم أن إدريس قبل نوح فقد كذب القرآن وعليه أن يتوب إلى الله من هذا الاعتقاد اهـ.
3. أول من خط بالقلم جاء أنه نبي الله إدريس عليه الصلاة والسلام، وهذا جاء في حديث ضعيف لا يثبت أن أول من خطَّ بالقلم إدريس ـ عليه السلام ـ رواه الحكيم الترمذي في كتابه نوادر الأُصول .
وضعَّفه الشيخ الألباني ـ رحمه الله تعالى ـ في ضعيف الجامع (2127).
والحكيم الترمذي استفدنا من الوالد الشيخ مقبل ـ رحمه الله تعالى ـ أنه صوفي لا يعتمد عليه.
فنقولُ : الله أعلم مَن أوَّل من خطَّ بالقلمِ .
4. أول شهر نزل على النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فيه الوحي شهر رمضان، يوم الاثنين قال ابنُ كثيرٍ رحمه الله في (الفصول في سيرة الرسول )ص59 : ففَجِأه الحقُّ وهو بغار حراء في رمضان، وله من العمر أربعون سنة .اهـ
5. أول من أسلم مطلقاً أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها .
الدليل جاء أن أول من أسلم خديجة رضي الله عنها فإن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لما جاءه الملَك وأُنزل عليه القرآن رجع يرجفُ فؤادُه فأخبرها الخبر، فآمنت ، وثبَّتَت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهي أول مَن آمَن مطلقاً.
وقد نصَّ على ذلك ابن كثير رحمه الله في( الفُصُول في سيرة الرسول)حيث قال (فهي أول صِدِّيق له رضي الله تعالى عنها وأكرمها).
وقال رحمه الله في مختَصر علوم الحديث: وادعى الثعلبي المفسر على ذلك الإجماع قال: وإنما الخلاف فيمن أسلم بعدها اهـ.
6. أول من أسلم من النساء بعد خديجة فاطمة بنت الخطاب .
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى – تحت رقم (763) عن أُمِّ الْفَضْلِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ أَنَّ اسْمَهَا لُبَابَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةِ وَيُقَالُ إِنَّهَا أَوَّلُ امْرَأَةٍ أَسْلَمَتْ بَعْدَ خَدِيجَةَ .قال : وَالصَّحِيحُ أُخْتُ عُمَرَ زَوْجُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ لِمَا سَيَأْتِي فِي الْمَنَاقِبِ مِنْ حَدِيثِهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَعُمَرَ مُوثِقِي وَأُخْتَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَاسْمُهَا فَاطِمَةُ .اهـ
7. أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكرالصديق على المشهور.
ولكن أول من آمن مِن الرجال ورقة بن نوفل لأنه جاءت خديجة رضي الله عنها بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إليه وقالت: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ) فأخبره فآمن بالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وقال: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ قَالَ نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا) .
وهذا دليل أن ورقة بن نوفل أقرَّ برسالة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وهذا يدل على صحبته.
8. أول من أسلم من الصبيان علي بن أبي طالب.
9. أول من أسلم من الموالي زيد بن حارثة.
10. أول من أسلم من الأرِقَّاء بلال بن رباح.
11. أول ما نزل من القرآن على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الخمس الآيات الأولى من سورة العلق. عائشة رضي الله عنها تقول: أول ما نزل {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)}[العلق] الخمس الآيات الأولى من سورة العلق. وفي حديث جابر بن عبدالله ـ رضي الله عنهما ـ أنه الخمس الآيات الأُولى من سورة المدثر، ويُجمع بينهما أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ نُبّيء بسورة العلق و أرسل بالمدثر.
12. أول ما ظهر النفاقٌ –أعاذنا اللهُ منه - بعد غزوة بدر.
وقد فصَّل ابنُ كثير في تفسيره .
قال في تفسير قوله تعالى { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ..} إِنَّمَا نَزَلَتْ صِفَاتُ الْمُنَافِقِينَ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ لِأَنَّ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نِفَاقٌ بَلْ كَانَ خِلَافُهُ، مِنَ النَّاسِ مَنْ كَانَ يُظْهِرُ الْكُفْرَ مُسْتَكْرَهًا وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ مُؤْمِنٌ". إلى أن قال: "... فلما كانت وقعة بدر وأظهر الله كلمته وأعز الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِيِّ بْنِ سَلُولَ وَكَانَ رَأْسًا فِي الْمَدِينَةِ وَهُوَ مِنَ الْخَزْرَجِ وَكَانَ سَيِّدَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى أَنْ يُمَلِّكُوهُ عَلَيْهِمْ فَجَاءَهُمُ الْخَيْرُ وَأَسْلَمُوا وَاشْتَغَلُوا عَنْهُ فَبَقِيَ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ بدر قال: هذا أمر الله قَدْ تَوَجَّهَ فَأَظْهَرَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ وَدَخَلَ مَعَهُ طَوَائِفُ مِمَّنْ هُوَ عَلَى طَرِيقَتِهِ وَنِحْلَتِهِ وَآخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.قال : فَمِنْ ثَمَّ وُجِدَ النِّفَاقُ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْأَعْرَابِ .اهـ
13. أوَّل من أظهر الإسلامَ بمكة سبعةٌ ،أخرج ابنُ ماجة في سننه (150 )عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: " كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ سَبْعَةٌ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَمَّارٌ، وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَالْمِقْدَادُ، فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ، وَصَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ، فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وَاتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا، إِلَّا بِلَالًا، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، فَأَخَذُوهُ فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ، فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّةَ، وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ "
والحديث حسن من أجل عاصم ابنِ أبي النجود، وقد حسَّنه والدي رحمه الله في الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين رقم 847.
14. أول شهيدة في الإسلام سُمية والدة عمار، يذكر أهلُ السير أنه مرَّ بها أبو جهل فطعنها في قُبُلِها فماتت رضي الله عنها.
15. أول من خرج فاراً بدينه إلى الحبشة في الهجرة الأولى عثمان بن عفان رضي الله عنه، و معه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم. وقيل: أبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ودٍّ بن نصر بن مالك .
فهومختلف في أول من خرج مهاجراً إلى الحبشة.
16. أول من هاجر بأهله بعد لوط عليه الصلاة والسلام جاء أنه عثمان ولا يصح الحديث.
أخرج ابنُ أبي عاصم في السنة (1311)عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: خَرَجَ عُثْمَانُ مُهَاجِرًا إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَمَعَهُ ابْنَةُ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا احْتَبَسَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرُهُمْ، فَكَانَ يَخْرُجُ فَيَتَوَكَّفُ عَنْهُمُ الْخَبَرَ. فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَأَخْبَرَتْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَحِبَهُمَا اللَّهُ، إِنَّ عُثْمَانَ أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ إِلَى اللَّهِ بِأَهْلِهِ بَعْدَ لُوطٍ».
لكن الحديث ضعيف. ذكرناه لمعرفة حاله، فيه بشار بن موسى الخفَّاف، قال عنه الإمام البخاري: منكر الحديث.وذكره الشيخ الألباني ـ رحمه الله تعالى ـ في السلسلة الضعيفة (3181) .
17. أول حادثة شق الصدر عندما كان النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ صغيرا عند مرضعته حليمة السعدية في صحيح مسلم (162) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً ، فَقَالَ : هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ ، ثُمَّ لَأَمَهُ ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ ، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ يَعْنِي ظِئْرَهُ ، فَقَالُوا : إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ ، فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ ، قَالَ أَنَسٌ : وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِه. ".
والحالة الثانية: بعد البعثة قبل الإسراء بالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ .فالنَّبيُّ صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم شُقَّ صدرُهُ مرتين أوَّلُهما في صِغَرِهِ .
18. أول من لقى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عندِ العقبةِ من الأنصارِ في اللقاء الأول ستة : أبو أمامةَ أسعدُ بن زُرارة، وعوفُ بنُ الحارث ، ورافعُ بن مالك ، وقُطبةُ بن عامر، وعقبةُ بن عامر، وجابر بن عبد الله بن رِئاب، فدعاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فأسلموا.
وكُلَّهم من الخزْرج رضي الله عنهم .
19. أول بيعةٍ بيعةُ العقبة الأولى بايع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الأنصار عندها.
20-أول من بايع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليلة العقبة الأولى البراء بن معرور رضي الله عنه.
قال الحافظ في فتح الباري تحت رقم (3890) الْبَرَاءُ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَمَعْرُورٌ بِمُهْمَلَاتٍ يُقَالُ إِنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْأَنْصَارِ وَأَوَّلَ مَنْ بَايَعَ فِي الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ وَمَاتَ قَبْلَ قُدُومِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ بِشَهْرٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ فِي قِصَّةٍ ذكرهَا ابن إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ .
21-أول من هاجرمن الرجال قيل أبو سلمة وقيل مصعب بن عمير وقيل عامر زوج ليلى بنت أبي حثمة.
قال الحافظ ابنُ حجر عند شرح حديث البراء بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ... قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ-أي في الشرح له - أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ وَامْرَأَتُهُ أُمُّ سَلَمَةَ وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَمَّاسُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ الشَّرِيدِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بِحَمْلِ الْأَوَّلِيَّةِ فِي أَحَدِهِمَا عَلَى صِفَةٍ خَاصَّةٍ فقد جزم ابن عُقْبَةَ بِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مُطْلَقًا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ وَكَانَ رَجَعَ مِنَ الْحَبَشَةِ إِلَى مَكَّةَ فَأُوذِيَ بِمَكَّةَ فَبَلَغَهُ مَا وَقَعَ لِلِاثْنَيْ عَشَرَ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي الْعَقَبَةِ الْأُولَى فَتَوَجَّهَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ فَيُجْمَعُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ مَا وَقَعَ هُنَا بِأَنَّ أَبَا سَلَمَةَ خَرَجَ لَا لِقَصْدِ الْإِقَامَةِ بِالْمَدِينَةِ بَلْ فِرَارًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِخِلَافِ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ فَإِنَّهُ خَرَجَ إِلَيْهَا لِلْإِقَامَةِ بِهَا وَتَعْلِيمِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِهَا بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِكُلٍّ أَوَّلِيَّةٌ مِنْ جِهَةٍ .اهـ
21-أول مهاجرة من النساء تكلم الحافظ في فتحِ الباري (3925) على أوِّلِ مُهاجرة من النساء وقال : لَيْلَى بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ امرأةً عَامِر بْن رَبِيعَةَ هِيَ أَوَّلُ مُهَاجِرَةٍ .
وَقِيلَ بَلْ أَوَّلُ مُهَاجِرَةٍ أُمُّ سَلَمَةَ لِقَوْلِهَا لَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ وَيُجْمَعُ بِأَنَّ أَوَّلِيَّةَ أُمِّ سَلَمَةَ بِقَيْدِ الْبَيْتِ وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ إِطْلَاقِهَا .اهـ
22-أول جمعة صُلِّيت في المدينة قبل الهجرة أقامها مصعب بن عمير وقيل أسعد بن زرارة.
وأخرجَ أبوداود في سننه (1069) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَكَانَ قَائِدَ أَبِيهِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ بَصَرُهُ، عَنْ أَبِيهِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَرَحَّمَ لِأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِذَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ تَرَحَّمْتَ لِأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، قَالَ: " لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ جَمَّعَ بِنَا فِي هَزْمِ النَّبِيتِ مِنْ حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ فِي نَقِيعٍ، يُقَالُ لَهُ: نَقِيعُ الْخَضَمَاتِ "، قُلْتُ: كَمْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: «أَرْبَعُونَ» .
وفيه عنعنةُ ابن إسحاق لكنه قد صرَّح بالتحديث عند البيهقي في سننه (3/ 251) فالحديثُ حسَنٌ. والله أعلم.
ومنهم من جَمَعَ بينهُما بأنَّه نُسِبَ إلى أسعدَ بن زُرارة لأنه جمَع الناسَ ودعاهم ، ومصعبُ بنُ عمير هو مقرئُهم ومعلمهم وكان يصلي بهم .
23- أول ما قدم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نزل بقباء على بني عمرو بن عوف والأشهر أنه نزل على كلثوم بن الهدم، وقيل بل على سعد بن خيثمة.
24-أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة مسجد قباء.قال ابن كثير رحمه الله في البداية (3/209): " فَكَانَ هَذَا الْمَسْجِدُ أَوَّلَ مَسْجِدٍ بُنِيَ فِي الْإِسْلَامِ بِالْمَدِينَةِ، بَلْ أَوَّلَ مَسْجِدٍ جُعِلَ لِعُمُومِ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ. وَاحْتَرَزْنَا بِهَذَا عَنِ الْمَسْجِدِ الَّذِي بَنَاهُ الصِّدِّيقُ بِمَكَّةَ عِنْدَ بَابِ دَارِهِ يَتَعَبَّدُ فِيهِ وَيُصَلِّي لِأَنَّ ذَاكَ كَانَ لِخَاصَّةِ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ عَامَّةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
25-أول جمعة صلاها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالمدينة على قولٍ في بني سالم بن عوف .
26-أول ما قدم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المدينة نزل على بني النجار أخوال جده عبد المطلب في دار أبي أيوب الأنصاري .
27-أول غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الأبواء، وكانت في صفر سنة اثنتين من الهجرة ولكنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم رجع إلى المدينة ولم يلق حربًا، فكانت هذه الغزوة بدون قتال.
28-أَوَّلُ سِنِيِّ التَّارِيخِ عَامَ الْهِجْرَةِ باتفاق الصحابة.
29-أول شهور العرب شهر الله المحرم.
وقد بيَّن الحافظ ابنُ كثير السبب في جعل التاريخ من شهر الله المحرم وقال: وَجَعَلُوا أَوَّلَهَا الْمُحَرَّمَ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ النِّظَامُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وقال الحافظ ابنُ حجر رحمه الله في فتح الباري (3934) :وَإِنَّمَا أَخَّرُوهُ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ إِلَى الْمُحَرَّمِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْعَزْمِ عَلَى الْهِجْرَةِ كَانَ فِي الْمُحَرَّمِ إِذِ الْبَيْعَةُ وَقَعَتْ فِي أَثْنَاءِ ذِي الْحِجَّةِ وَهِيَ مُقَدِّمَةُ الْهِجْرَةِ فَكَانَ أَوَّلُ هِلَالٍ اسْتَهَلَّ بَعْدَ الْبَيْعَةِ وَالْعَزْمِ عَلَى الْهِجْرَةِ هِلَالُ الْمُحَرَّمِ فَنَاسَبَ أَنْ يُجْعَلَ مُبْتَدَأً وَهَذَا أَقْوَى مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ مُنَاسَبَةِ الِابْتِدَاءِ بِالْمُحَرَّمِ . اهـ
30-أول غزوة كان فيها قتال غزوة بدر.
31-أول بعوثات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث حمزة بن عبد المطلب وقيل بعث عبيدة بن الحارث مختلف فيهما .
32-أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأصحابه لحمزة بن عبد المطلب وقيل لعبيدة بن الحارث.
33-أول سهم رُمي به في سبيل الله رماه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وقد كان رضي الله عنه يَقُولُ: "إِنِّي لَأَوَّلُ العَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ..." متفق عليه .
والحمد لله .
أم سمية الأثرية
2016-01-24, 19:00
(4) (التَّذْكِيْرُ بِسِيْرَةِ سَيِّدِ البَشَرِ)
اختصارُ درسِ الحادي عشرَ من (الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم)
1. تعريف الجهاد: قال الحافظ في فتح الباري:الجهادُ لُغَةً: الْمَشَقَّةُ يُقَالُ جَهِدْتُ جِهَادًا بَلَغْتُ الْمَشَقَّةَ. وَشَرْعًا: بَذْلُ الْجُهْدِ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ، وَالشَّيْطَانِ، وَالْفُسَّاقِ.
2. فرضيَّةُ الجهاد: ولما استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة كان معلِّمًا، ومربيًا، وداعيًا إلى الله عز وجل، فلما ظهر الإسلام وقويت شوكتُه وصار له أنصاروأعوان ودَوْلة قويةٌ حينئِذٍ جاء الأمرُ بالقتال. ولم يُفرَضِ الجهادُ في مكة قبل الهجرة؛ ولا أوَّل ما قدِمَ المدينة ، لأن المسلمين كانوا مستضعَفين.
وقيل: أَذن الله عز وجل بالجهاد في مكة قبل الهجرة وقد ردَّ هذا القول ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد من عدَّة أوجُهٍ.
3. مراحِلُ فرضية الجهاد في السيرة النَّبَوِيَّةِ: كان محرَّمًا على المسلمين القتال، ثم مأذونًا به، ثم مأمورًا به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأمورًا به لجميع المشركين .كما في زاد المعاد . وأما جهادهم بالحجة فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجاهدُ الكفارَ بمكة بالحُجَج وبالقرآن.
4. مراتب الجهاد: الْجِهَادُ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ: جِهَادُ النَّفْسِ، وَجِهَادُ الشَّيْطَانِ، وَجِهَادُ الْكُفَّارِ، وَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ" كما ذكرها ابن القيم رحمه الله وغيره .
5. الجهاد لا يكون إلا بمشورة العلماء الراسخين،؛ لأن ربنا عز وجل يقول: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ...﴾[النساء:83]. ولمَّا أعرض كثير من الناس – إلا من رحم الله - عن الرجوع إلى العلماء الراسخين تخبَّطوا وفتحوا بابَ الجهاد على مِصْرَاعيه بمجرد الهوى والرأي المحض ومن غير ضوابِطٍ ولا قيودٍ ووقعوا في عقيدة الخوارجِ والمعتزلة من قتال الأمراء والوُلاة، والخروج على الحكام الظلمة، والسعي بالفساد. ، وهذا طرَفٌ. طرفٌ آخرُ يتنكَّر للجهاد من أصله وهم الكفار، ومن كان متأثرًا بهم بحجة الإنسانية، والسماحة والمواساة، وأرادوا أن يُلْغوا الجهاد في سبيل الله.والجهاد في سبيل الله هو من جملة البراء من أعداء الله عز وجل الذي أمر الشرعُ به.
6. حكمُ التفجيرات يقوم الإنسان بتفَجير نفسَه مع مجموعة، وهذا حرامٌ وكبيرةٌ من الكبائر يشمله ما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا». والله عزوجل يقول: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾[النساء:29]. وهناك كلام للعلماء في تحريم ذلك كالشيخِ الوالد مقبل والشيخ ابنِ عثيمين .
7. أول غزوات النبي صلى الله عليه وسلم غزوة الأبواء، ويقال لها غزوة ودَّان، وخرج ليعترضَ عِيرًا لقريش، وكانت في صفر سنة اثنتين من الهجرة، واستخلف على المدينة سعد بنَ عُبادة، ولكنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم رجع إلى المدينة ولم يلق حربًا، فكانت هذه الغزوة بدون قتال.
8. أول بعوثات النبي صلى الله عليه وسلم:
- بعث حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه في ثلاثين راكباً من المهاجرين ليس فيهم أنصاري للتَّعَرُّضِ لعير قريش كانت قد أقبلت من الشام، ولما اصطفُّ المسلمون وكفار قريش للقتال دخل بينهم وحجزهم عن القتال مجدي بن عمرو الجهني لأنه كان موادعًاً للفريقين فرجعوا بدون قتال .
- وقيل أول بعثُ النبي صلى الله عليه وسلم بعث عُبَيدة بن الحارث بن المطلب في السنة الثانية من الهجرة. ولما التقوا بالمشركين هُزِمَ المشركون فلم يكن بينهم قتال إلا أنهم تراموا بالسهام، وكان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أوَّل من رمى بسهمٍ إلى المشركين. وَفَرَّ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ يَوْمَئِذٍ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَا فِي حَبْسِ قُرَيْشٍ قَدْ أَسْلَمَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَتَوَصَّلَا بِالْمُشْرِكِينَ حَتَّى خَرَجَا إِلَى عُبَيْدَةَ وَأَصْحَابِهِ .
9. أوَّلُ من عقد له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الرايةَ من أصحابه لحمزةَ . وقيل لعُبيدة بن الحارث رضي الله عنهما. وقيل إنهما كانتا في السنة الأولى من الهجرة.
10. الغزوات و البعوث والسرِيَّات:
- الغزوة يكون فيها خروجُ الأميرِ نفسِه مع المقاتلين.
- البعوث: جيش يبعثه الإمامُ للغزو، ويجعل عليهم أميرًا من غير أن يُشارِك معهم القتال. هذا يقال له بعْث. وبعضهم يُطْلِقُ على البعث غزوة.
- السَّرِيَّة: قال ابن الأثير في النهاية: "وَهِيَ طائفةٌ مِنَ الجَيش يبلغُ أَقْصَاهَا أربَعمائة تُبْعث إِلَى العَدوّ، وجمعُها السَّرَايَا، سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يكونُون خُلاصةَ العسْكر وخيارَهم، مِنَ الشَّيء السَّرِيِّ النَّفِيس. وَقِيلَ سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ ينْفذُون سِرًّا وخُفْية، وَلَيْسَ بالوجْه، لِأَنَّ لامَ السِّرِّ رَاءٌ، وَهَذِهِ ياءٌ. اهـ.
أي اختلفوا لأي شيء قيل لها سَرِيَّة فقيل لأنها مختارة نفيسة، وقيل لأنها تسري بخفية.
وقال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم: "السَّرِيَّةُ: قِطْعَةٌ مِنَ الْجَيْشِ تَخْرُجُ مِنْهُ تُغِيرُ وَتَرْجِعُ إِلَيْهِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ هِيَ الْخَيْلُ تَبْلُغُ أَرْبَعَمِائَةٍ وَنَحْوَهَا قَالُوا سُمِّيَتْ سَرِيَّةً لِأَنَّهَا تَسْرِي فِي اللَّيْلِ وَيَخْفَى ذَهَابُهَا وَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ يُقَالُ سَرَى وَأَسْرَى إِذَا ذَهَبَ لَيْلًا.
وفي فتح الباري تحت رقم (4338) السرية: هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ الْجَيْشِ تَخْرُجُ مِنْهُ وَتَعُودُ إِلَيْهِ وَهِيَ مِنْ مِائَةٍ إِلَى خَمْسِمِائَةٍ.
مسألةٌ تتعلَّقُ بالأوائِلِ
1. أول شهر نزل على النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فيه الوحي شهر رمضان، يوم الاثنين قال ابنُ كثيرٍ رحمه الله في (الفصول في سيرة الرسول )ص59 : ففَجِأه الحقُّ وهو بغار حراء في رمضان، وله من العمر أربعون سنة .اهـ
2-أول ما نزل من القرآن على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الخمس الآيات الأولى من سورة العلق. وهذا المعنى في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها .
3-أول مَن أسلم مطلقاً أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وقصتها في الصحيحين رضي الله عنها .
وقد نصَّ على ذلك ابن كثير رحمه الله في( الفُصُول في سيرة الرسول)حيث قال (فهي أول صِدِّيق له رضي الله تعالى عنها وأكرمها).
4-أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكرالصديق على المشهور.
5-أول من أسلم من الصبيان علي بن أبي طالب.
6-أول من أسلم من الموالي زيد بن حارثة.
7-أول من أسلم من الأرِقَّاء بلال بن رباح.
8--أول من أسلم من النساء بعد خديجة فاطمةُ بنت الخطاب رضي الله عنهما نصَّ عليه الحافظ ابن حجر في فتح الباري تحت رقم (763) .
9-أول ما ظهر النفاقُ –أعاذنا اللهُ منه - بعد غزوة بدر.
يراجع تفسيرابنِ كثير في تفسير قوله تعالى { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ..} .
10- أول شهيدة في الإسلام سُميَّة والدة عمار رضي الله عنهما، يذكر أهلُ السير أنه مرَّ بها أبو جهل فطعنها في قُبُلِها فماتت .
11-أول من خطَّ بالقلم جاء أنه نبي الله إدريس -عليه الصلاة والسلام-، وهذا جاء في حديث ضعيف لا يثبت رواه الحكيم الترمذي في كتابه نوادر الأُصول .
وضعَّفه الشيخ الألباني ـ رحمه الله تعالى ـ في ضعيف الجامع (2127).
والحكيم الترمذي استفدنا من الوالد الشيخ مقبل ـ رحمه الله تعالى ـ أنه صوفي لا يعتمد عليه.
فنقولُ : الله أعلم مَن أوَّل من خطَّ بالقلمِ .
12-أول من هاجر بأهله بعد لوط عليه الصلاة والسلام جاء أنه عثمان رضي الله عنه ولا يصح الحديث.
أول مهاجرة من النساء تكلم الحافظ في فتحِ الباري (3925) على أوِّلِ مُهاجرة من النساء وقال : لَيْلَى بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ امرأةً عَامِر بْن رَبِيعَةَ هِيَ أَوَّلُ مُهَاجِرَةٍ .
وَقِيلَ : بَلْ أَوَّلُ مُهَاجِرَةٍ أُمُّ سَلَمَةَ لِقَوْلِهَا لَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ وَيُجْمَعُ بِأَنَّ أَوَّلِيَّةَ أُمِّ سَلَمَةَ بِقَيْدِ الْبَيْتِ وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ إِطْلَاقِهَا .اهـ
13-أول ما قدم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هجرته نزل بقباء على بني عمرو بن عوف والأشهر أنه نزل على كلثوم بن الهِدْم من بني عمرو بن عوف ، وقيل بل على سعد بن خيثمة.
14-أول مسجد أُسِّسَ على التقوى بعد النبوة مسجد قباء.والمراد أَوَّلَ مَسْجِدٍ جُعِلَ لِعُمُومِ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ .يُراجع البداية والنهاية (3/209) .
15-أول ما قدم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المدينة نزل على بني النجار أخوال جده عبد المطلب في دار أبي أيوب الأنصاري .
16-أول غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الأبواء .
17-أول شهور العرب شهر الله المحرم.
18-أول سهم رُمي به في سبيل الله رماه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وقد كان رضي الله عنه يَقُولُ: "إِنِّي لَأَوَّلُ العَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ..." متفق عليه .
وبالله التوفيق
أم سمية الأثرية
2016-01-26, 08:22
الدرس الثاني عشر من / الفُصُولُ في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم 16/من شهر ربيع الثاني 1437 .
غزوةُ بُواط
ثم غزا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غزوةَ بُواطٍ، فخرج بنفسِه صلى الله عليه وسلم في ربيع الآخرِ من السنةِ الثانيةِ، واستعملَ على المدينةِ السائبَ بنَ عثمانَ بنِ مظعونٍ فسارَ حتى بلغ بواط من ناحيةِ رَضْوَى، ثُمَّ رجع ولم يلقَ حرباً
***********************
(حتى بلغ بواط) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (7/280) شرح أول كتاب المغازي "بَوَاطُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَقَدْ تُضَمُّ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ وَآخِرُهُ مُهْمَلَةٌ جَبَلٌ مِنْ جبال جُهَيْنَة بِقُرب يَنْبُع" ا.هـ
(من ناحية رَضوى)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري:"وَرَضْوَى بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ مَقْصُورٌ جَبَلٌ مَشْهُورٌ عَظِيم بينبع" ا.هـ
هذا الفصل في غزوة بواط، وقد خرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليتلقَّى عِيرًا لقريش، وكان فيهم أميَّةُ بنُ خلَف وقدكان شديدَ العداوةِ لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو من الذين تمالئوا عند الكعبة على وضع سلَى الجَزُور على ظهر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يصلي.
وهذا في البخاري (240) ومسلم (107 ،1794)عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ البَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَيُّكُمْ يَجِيءُ بِسَلَى جَزُورِ بَنِي فُلاَنٍ، فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَى القَوْمِ فَجَاءَ بِهِ، فَنَظَرَ حَتَّى سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ لاَ أُغْنِي شَيْئًا، لَوْ كَانَ لِي مَنَعَةٌ، قَالَ: فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدٌ لاَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حَتَّى جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ، فَطَرَحَتْ عَنْ ظَهْرِهِ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ». ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَا عَلَيْهِمْ، قَالَ: وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الدَّعْوَةَ فِي ذَلِكَ البَلَدِ مُسْتَجَابَةٌ، ثُمَّ سَمَّى: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ، وَعَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ» - وَعَدَّ السَّابِعَ فَلَمْ يَحْفَظْ -، قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرْعَى، فِي القَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ .
قال الحافظ : وَإِنَّمَا اسْتَحَقُّوا الدُّعَاءَ حِينَئِذٍ لِمَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ مِنَ الِاسْتِخْفَافِ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَ عِبَادَةِ رَبِّهِ .
ومن دلائل نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه أخبر بقتل أمية بنَ خلف فوقع كما أخبر .
أخرجَ البخاري (3632) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: انْطَلَقَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مُعْتَمِرًا، قَالَ: فَنَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ أَبِي صَفْوَانَ، وَكَانَ أُمَيَّةُ إِذَا انْطَلَقَ إِلَى الشَّأْمِ، فَمَرَّ بِالْمَدِينَةِ نَزَلَ عَلَى سَعْدٍ، فَقَالَ أُمَيَّةُ، لِسَعْدٍ: انْتَظِرْ حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ، وَغَفَلَ النَّاسُ انْطَلَقْتُ فَطُفْتُ، فَبَيْنَا سَعْدٌ يَطُوفُ إِذَا أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا الَّذِي يَطُوفُ بِالكَعْبَةِ؟ فَقَالَ سَعْدٌ: أَنَا سَعْدٌ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: تَطُوفُ بِالكَعْبَةِ آمِنًا، وَقَدْ آوَيْتُمْ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَتَلاَحَيَا بَيْنَهُمَا، فَقَالَ أُمَيَّةُ لسَعْدٍ: لاَ تَرْفَعْ صَوْتَكَ عَلَى أَبِي الحَكَمِ، فَإِنَّهُ سَيِّدُ أَهْلِ الوَادِي، ثُمَّ قَالَ سَعْدٌ: وَاللَّهِ لَئِنْ مَنَعْتَنِي أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ لَأَقْطَعَنَّ مَتْجَرَكَ بِالشَّامِ، قَالَ: فَجَعَلَ أُمَيَّةُ يَقُولُ لِسَعْدٍ: لاَ تَرْفَعْ صَوْتَكَ، وَجَعَلَ يُمْسِكُهُ، فَغَضِبَ سَعْدٌ فَقَالَ: دَعْنَا عَنْكَ «فَإِنِّي سَمِعْتُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزْعُمُ أَنَّهُ قَاتِلُكَ»، قَالَ: إِيَّايَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ إِذَا حَدَّثَ فَرَجَعَ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: أَمَا تَعْلَمِينَ مَا قَالَ لِي أَخِي اليَثْرِبِيُّ، قَالَتْ: وَمَا قَالَ؟ قَالَ: زَعَمَ أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّهُ قَاتِلِي، قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ، قَالَ: فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى بَدْرٍ، وَجَاءَ الصَّرِيخُ، قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: أَمَا ذَكَرْتَ مَا قَالَ لَكَ أَخُوكَ اليَثْرِبِيُّ، قَالَ: فَأَرَادَ أَنْ لاَ يَخْرُجَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: إِنَّكَ مِنْ أَشْرَافِ الوَادِي فَسِرْ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، فَسَارَ مَعَهُمْ، فَقَتَلَهُ اللَّهُ .
وفي روايةٍ عند البخاري (3950)حَتَّى قَتَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِبَدْرٍ .
وسيأتي إن شاء الله ما يتعلَّق بغزوة بدرٍ في موضعه .
واستخلف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على المدينة السائبَ بن عثمان أي جعله نائبًا عنه على المدينة ثم رجع النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم يلقَ حربا.
***********************
غزوة العُشَيرَة
ثم كانت بعدها غزوةُ العُشيرة، ويقال بالسين المهملة، ويقال العُشيراء. خرج بنفسه صلى الله عليه وسلم في أثناءِ جمادى الأُولى حتى بلغها، وهي مكان ببطن ينبع وأقام هناك بقيةَ الشهر وليالي من جمادَى الآخرة وفي هذه الغزوة صالحَ بني مُدْلِج، ثم رجع ولم يلقَ كيدا، وقد كان استخلف على المدينة أبا سلمةَ بن عبد الأسد.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي إسحاق السبيعي قال: قلت لزيد بن أرقم: كم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: تسع عشرة غزوة أولها الْعُسَيْرُ أَوِ الْعُشَيْرُ .
***********************
(وصالح بني مُدلج)
مُدْلِجٍ هوبِضَمِّ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ وَكَسْرِ اللَّامِ . يراجع شرح صحيح مسلم (10/41) شرح حديث (أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا نَظَرَ آنِفًا) .
وقد جاء في نسخة من نُسَخِ الفصول مكتبة الهدْيُ المحمدي ط الأُولى ( أولها العشيرة أو العشيراء). والذي في صحيح مسلم فَمَا أَوَّلُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا؟ قَالَ: «ذَاتُ الْعُسَيْرِ أَوِ الْعُشَيْرِ».
وقد بيَّنَ الحافظُ ابنُ كثيرٍ رحمه الله في البداية والنهاية (3/ 246) أنه يُقَالُ لَهَا غَزْوَةُ الْعُشَيْرَةِ وَبِالْمُهْمَلَةِ وَالْعُشَيْرُ وَبِالْمُهْمَلَةِ وَالْعُشَيْرَاءُ وَبِالْمُهْمَلَةِ .
والحديث أخرجه البخاري (3949)من طريق أَبِي إِسْحَاقَ، كُنْتُ إِلَى جَنْبِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، فَقِيلَ لَهُ: " كَمْ غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةٍ؟ قَالَ: تِسْعَ عَشْرَةَ " قِيلَ: كَمْ غَزَوْتَ أَنْتَ مَعَهُ؟ قَالَ: سَبْعَ عَشْرَةَ، قُلْتُ: فَأَيُّهُمْ كَانَتْ أَوَّلَ؟ قَالَ: العُسَيْرَةُ أَوِ العُشَيْرُ " .
وسبب خروج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذه الغزوة لتلقِّي عير قريش وفي هذه الغزوة صالح بني مُدلِج ثم رجع صلى الله عليه وعلى آله وسلم بدون قتال، وكان استخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد .
ثم ذكر الحافظ ابنُ كثيررحمه الله حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه في عدد غزوات رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول زيد بن أرقم رضي الله عنه: " أولها العشيرة أو العشيراء " .
أي أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم غزوة العشيرة .
ولم يذكر رضي الله عنه غزوة الأبواء ولا غزوة بواط .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تحت رقم (3949) "وَكَأَنَّ ذَلِكَ خَفِيَ عَلَيْهِ لِصِغَرِهِ وَيُؤَيِّدُ مَا قُلْتُهُ مَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ قُلْتُ مَا أَوَّلُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَالَ ذَاتُ الْعُشَيْرِ أَوِ الْعُشَيْرَةُ اهـ وَالْعُشَيْرَةُ كَمَا تقدم هِيَ الثَّالِثَة وَأما قَول ابن التِّينِ يُحْمَلُ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عَلَى أَنَّ الْعُشَيْرَةَ أَوَّلُ مَا غَزَا هُوَ أَيْ زيد بن أَرقم وَالتَّقْدِير فَقُلْتُ مَا أَوَّلُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا أَيْ وَأَنْتَ مَعَهُ قَالَ الْعُشَيْرُ فَهُوَ مُحْتَمَلٌ أَيْضًا وَيَكُونُ قد خَفِي عَلَيْهِ اثْنَتَانِ مِمَّا بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ عَدَّ الْغَزْوَتَيْنِ وَاحِدَةً" ا.هـ
فهذه ثلاثةُ أمورٍ في سبب كون زيد بنِ أرقم قال أولها (أولها الْعُسَيْرُ أَوِ الْعُشَيْرُ ) ومنها: أن يكون المراد أوَّل غزاةٍ شهدها زيد بن أرقم مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
ومن باب الفائدة أُنبه على ما جاء أنه في غزوة العشيركنَّى النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم علي ابن أبي طالب أبا تُراب .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ رحمه الله كما في سيرة ابن هشام(1/ 599): فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَيْثَمٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَيْثَمٍ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَفِيقَيْنِ فِي غَزْوَةِ الْعُشَيْرَةِ فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَعَلِيٌّ حَتَّى اضْطَجَعْنَا فِي صُورٍمِنْ النَّخْلِ، وَفِي دَقْعَاءَ مِنْ التُّرَاب فنمنا، فو الله مَا أَهَبَّنَا إلَّا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّكُنَا بِرِجْلِهِ. وَقَدْ تَتَرَّبْنَا مِنْ تِلْكَ الدَّقْعَاءِ الَّتِي نِمْنَا فِيهَا، فَيَوْمَئِذٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: مَا لَكَ يَا أَبَا تُرَابٍ ؟لِمَا يَرَى عَلَيْهِ مِنْ التُّرَابِ .
ومن طريق ابن إسحاق أخرجه أحمد في مسنده (30/ 256).
وهذا إسنادٌ منقطع قال الذهبي رحمه الله في ميزان الاعتدال : قال البخاري: لا يعرف سماع يزيد من محمد، ولا محمد من ابن خثيم، ولا ابن خثيم من عمار.
وقد أنكر الحافظ ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد(3/ 150) ذلك وقال : فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ إِنَّمَا كَنَّاهُ أَبَا تُرَابٍ بَعْدَ نِكَاحِهِ فاطمة، وَكَانَ نِكَاحُهَا بَعْدَ بَدْرٍ . ثم ذكر ابنُ القيم ما رواه البخاري (6204) ومسلم (2409) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: إِنْ كَانَتْ أَحَبَّ أَسْمَاءِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَيْهِ لَأَبُو تُرَابٍ، وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ أَنْ يُدْعَى بِهَا، وَمَا سَمَّاهُ أَبُو تُرَابٍ إِلَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَاضَبَ يَوْمًا فَاطِمَةَ فَخَرَجَ، فَاضْطَجَعَ إِلَى الجِدَارِ إِلَى المَسْجِدِ، فَجَاءَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْبَعُهُ، فَقَالَ: هُوَ ذَا مُضْطَجِعٌ فِي الجِدَارِ، فَجَاءَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَامْتَلَأَ ظَهْرُهُ تُرَابًا، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ ظَهْرِهِ وَيَقُولُ: «اجْلِسْ يَا أَبَا تُرَابٍ».
وقال الحافظ في فتح الباري تحت الرقم المذكور: وَغَزْوَةُ الْعُشَيْرَةِ كَانَتْ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلِيٌّ فَاطِمَةَ فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا أَمْكَنَ الْجَمْعُ بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَكَرَّرَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَقِّ عَلِيٍّ وَالله أعلم . اهـ
***********************
غزوةُ بدرٍ الأولى
ثم خرج بعدها بنحو من عشرة أيام إلى بدرٍ الأولى، وذلك أن كُرْزَ بنَ جابرٍ الفِهْري، أغارَ على سرْح المدينة، فطلبه فبلغ وادِياً يقالُ له سَفَوَان في ناحية بدر، ففاته كرز، فرجع وقد كان استخلف على المدينة زيدَ بن حارثة رضي الله عنه.
وبعث سعدَ بن أبي وقاص رضي الله عنه في طلبِ كرز بن جابر فيما قيل .
والله أعلم. وقيل: بل بعثه لغير ذلك.
***********************
هذه غزوة بدرٍ الأولى، في جمادى الأولى سنة اثنتين .
وسببها أن كُرز بن جابر أغار على سرْح المدينة .
قال ابنُ الأثير في النهاية :السَّرْحُ والسَّارِحُ والسَّارِحَةُ سواءٌ:المْاَشية.اهـ
فخرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى بلغ سَفَوان ناحية بدرٍ وفاته كُرز فرجع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وسَفَوَانُ:بفتح أوّله وثانيه، وآخره نون كما في معجم البُلْدان .
وكُرز بن جابر كان من رُؤساءِ المشركين ثم منَّ الله عز وجل عليه وأسلم فهو صحابي وقد قتل رضي الله عنه في فتح مكة وقصته في صحيح البخاري (4280) من طريق عُرْوَةَ، وَأَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ العَبَّاسَ، يَقُولُ لِلزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَا هُنَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَرْكُزَ الرَّايَةَ، قَالَ: " وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ، وَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كُدَا، فَقُتِلَ مِنْ خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ رَجُلاَنِ: حُبَيْشُ بْنُ الأَشْعَرِ، وَكُرْزُ بْنُ جابِرٍ الفِهْرِيُّ.
هذا حاصلُ غزوة بدرٍ الأولى .
ثم ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله هنا أن الذي بعثه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في طلب كُرز أنه سعد بن أبي وقاص فيما قيل، وقيل: بل بعث سعد بن أبي وقاص لغير طلب كُرز. فالله أعلم .
هذا وقد جاء في حديث ضعيف أن الذي بعثه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى العُرَنيين الذين ساقوا ذود النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقتلوا الراعي هو كرز بن جابر .
أخرج الطبراني في الكبير(7/ 6) من طريق مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ التَّيْمِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ الحديث وفيه فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آثَارِهِمْ خَيْلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ , أَمِيرُهُمْ كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْفِهْرِيُّ فَلَحِقَهُمْ، فَجَاءَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ» .
وهذا إسنادٌ ضعيف جدا.مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ منكر الحديث .
وأما والده محمد بن إبراهيم: بن الحارث بن خالد التيمي أبو عبد الله المدني فهو ثقة له أفراد .
وقد ذكر هذه الرواية الحافظُ ابنُ حجر في فتح الباري في كتاب الوضوء (233) ثم قال :وكذا ذكره ابن إِسْحَاقَ وَالْأَكْثَرُونَ .اهـ
أي أنه كرْزبن جابر الفهري .
والحديث ثابت في الصحيحين البخاري(233) ومسلم (9 ،1671)عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَدِمَ أُنَاسٌ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ، فَاجْتَوَوْا المَدِينَةَ «فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِلِقَاحٍ، وَأَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا» فَانْطَلَقُوا، فَلَمَّا صَحُّوا، قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ، فَجَاءَ الخَبَرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ، فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهَارُ جِيءَ بِهِمْ، «فَأَمَرَ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسُمِرَتْ أَعْيُنُهُمْ، وَأُلْقُوا فِي الحَرَّةِ، يَسْتَسْقُونَ فَلاَ يُسْقَوْنَ».
ولكن ليس في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث كرْزًا لقتل العُرَنيين وإثباتُ هذا يحتاج إلى دليلٍ صحيحٍ .فالله أعلم .
***********************
فصل ـ بعث عبد الله بن جحش
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدَ الله بن جحش بن رئاب الأسدي وثمانيةً من المهاجرين، وكتب له كتاباً وأمره ألا ينظر فيه حتى يسيرَ يومين، ثم ينظر فيه، ولا يكره أحداً من أصحابه، ففعل، ولما فتح الكتاب وجد فيه: إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، وترصد بها قريشاً، وتعلم لنا من أخبارهم، فقال: سمعاً وطاعة، وأخبر أصحابه بذلك، وبأنه لا يستكرهم، فمن أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، وأما أنا فناهض، فنهضوا كلهم .
فلما كان في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يعتقبانه فتخلَّفا في طلبه، وتقدم عبد الله بن جحش حتى نزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارة، فيها عمرو بن الحضرمي وعثمان ونوفل ابنا عبد الله بن المغيرة، والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يومٍ من رجب ، الشهرِ الحرامِ، فإن قاتلناهم انتهكنا الشهرَ الحرام، وإن تر كناهم الليلة دخلوا الحرمَ، ثم اتفقوا على ملاقاتهم فرمَى أحدُهم عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان والحكم، وأفلتَ نوفل.
ثم قدموا بالعير والأسيرين قد عَزَلوا من ذلك الخُمُس، فكانت أوَّلَ غنيمةٍ في الإسلام وأولَ خمس في الإسلام، وأولَ قتيل في الإسلام وأولَ أسير في الإسلام، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم ما فعلوه، وقد كانوا رضي الله عنهم مجتهدِين فيما صنعوا.
***********************
هنا بعثُ عبد الله بن جحش رضي الله عنه وقد ساق الحافظ ابنُ كثيرٍهنا قصته .
والحديث علقَّه الإمام البخاري في صحيحه تبويب حديث (64)وقال في أثناء ترجمةٍ له في كتاب العلم : وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الحِجَازِ فِي المُنَاوَلَةِ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ كَتَبَ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ كِتَابًا وَقَالَ: «لاَ تَقْرَأْهُ حَتَّى تَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا» . فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ المَكَانَ قَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ، وَأَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .اهـ
والحديث حسنٌ لغيره أخرجه ابنُ أبي حاتمٍ في تفسيره من طريق الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنِي الْحَضْرَمِيُّ، عَنْ أَبِي السَّوَّارِ، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَن ّرَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَهْطًا وَبَعَثَ عَلَيْهِمْ أبا عبيدة ابن الْجَرَّاحِ أَوْ عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ، فَلَمَّا ذَهَبَ يَنْطَلِقُ بَكَى صُبَابَةً إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَلَسَ. فَبَعَثَ عَلَيْهِمْ مَكَانَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا وَأَمَرَهُ أَلا يَقْرَأَ الْكِتَابَ حَتَّى يَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: لَا تُكْرِهَنَّ أَحَدًا عَلَى السَّيْرِ مَعَكَ مِنْ أَصْحَابِكَ الحديث .
الحضرمي قال الذهبي رحمه الله في ميزان الاعتدال : الحضرمي.
روى عنه سليمان التيمي لا يعرف.وكان يقص بالبصرة.
قال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به.
وبعضهم يجعله حضرمي بن لاحق .
وأما أَبُو السوَّارفهو العدوي البَصْرِيّ مختلف في اسمه ترجمته في تهذيب الكمال بروايته عن جندب بْن عَبد اللَّه وذكر المزي أنه وثقه ابنُ سعد وقال أبوداود: من ثقات الناس .
وأخرجه البزار كما في كشف الأستار(3/41) عن ابن عباس .قال الهيثمي في مجمع الزوائد(6/199) : وَفِيهِ أَبُو سَعِيدٍ الْبَقَّالُ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
كذا أبوسعيد وفي تقريب التهذيب أبوسعد فقد قال في ترجمته : سعيد بن المرزبان العبسي مولاهم أبو سعد البقال الكوفي الأعور ضعيف مدلس .
وجاء مرسلا من مراسيل عروة بن الزبير أخرجه ابنُ جرير في تفسير سورة البقرة عند الآية { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ } والبيهقي في دلائل النبوة (3/17) .
قال الحافظ ابنُ حجر في تغليق التعليق (2/76) :وَهُوَ مُرْسل جيد قوي الْإِسْنَاد وَقد صرح فِيهِ ابْن إِسْحَاق بِالسَّمَاعِ . اهـ
ويوجَدُ بعض المراسيل في هذا الباب عند ابن جريرٍ الطبري .
وقد ذكرالحافظ ابن حجر في فتح الباري (64)مرسل عروة وحديث جندبٍ البجلي وحديث ابن عباس ثم قال : فَبِمَجْمُوعِ هَذِهِ الطُّرُقِ يَكُونُ صَحِيحًا .
قال :وَأَمِيرُ السَّرِيَّةِ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ الْأَسَدِيُّ أَخُو زَيْنَبَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَكَانَ تَأْمِيرُهُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ وَالسَّرِيَّةُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ التَّحْتَانِيَّةِ الْقِطْعَةُ مِنَ الْجَيْشِ وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ .
ثم ذكر الحافظ ابن حجروجه الشاهد منه في المناولة وقال : وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ ظَاهِرَةٌ فَإِنَّهُ نَاوَلَهُ الْكِتَابَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَهُ عَلَى أَصْحَابِهِ لِيَعْمَلُوا بِمَا فِيهِ فَفِيهِ الْمُنَاوَلَةُ وَمَعْنَى الْمُكَاتَبَةِ . اهـ
(فرمى أحدُهم عمرو بن الحضرمي فقتله)
عمرو بن الحضرمي قتل كافرا وهو أول قتيل للمشركين وهو أخو العلاء بن الحضرمي الصحابي .
وينظر الإصابة في تمييز الصحابة (4/445) .
(وأسروا عثمان والحكم)
قال ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام (1/605) :فَأَمَّا الْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ فَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ، وَأَقَامَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ شَهِيدًا. وَأَمَّا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَلَحِقَ بِمَكَّةَ، فَمَاتَ بِهَا كَافِرًا.
وقال الحافظ رحمه الله في الإصابة (2/ 95): الحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة المخزومي، والد أبي جهل أُسر في أول سريّة جهّزها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من المدينة، وأميرها عبد اللَّه بن جحش، فأسر الحكم المذكور فقدموا به على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، والقصة مشهورة في السيرة لابن إسحاق. اهـ
(وأفلت نوفل)
أي هرب من المسلمين.
(ثم قدموا بالعِير والأسيرين)
قال ابنُ الأثير في النهاية : العِيرُ: الإبلُ بأحْمالها، فِعْلٌ مِنْ عَارَ يَعِيرُ إِذَا سَار.
والأسيران :عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان.
(قد عزلوا من ذلك الخمس، فكانت أول غنيمة في الإسلام وأول خمس في الإسلام، وأول قتيل في الإسلام وأول أسير في الإسلام، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم ما فعلوه، وقد كانوا رضي الله عنهم مجتهدين فيما صنعوا).
(الخمس) أي خمس الغنيمة.
(فكانت أول غنيمة في الإسلام وأول خمس في الإسلام، وأول قتيل في الإسلام وأول أسير في الإسلام).
هكذا يذكرون أول غنيمة وأوَّلُ خمُس في الإسلام كان في بعث عبدالله بن جحش ، وأول قتيل من المشركين في الإسلام هوعمرو بن الحضرمي، وأول أسيرَين في الإسلام عثمان بن عبدالله والحكم بن كيسان .
***********************
واشتدَّ تعنتُ قريش وإنكارُهم ذلك، وقالوا: محمد قد أحلَّ الشهر الحرام، فأنزل الله عز وجل في ذلك ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ﴾[البقرة:217]. يقول سبحانه: هذا الذي وقع وإن كان خطأ، لأن القتال في الشهر الحرام كبير عند الله، إلا أنَّ ما أنتم عليه أيها المشركون من الصدِّ عن سبيل الله والكفرِ به وبالمسجدِ الحرام، وإخراج محمد وأصحابه الذين هم أهل المسجدُ الحرام في الحقيقة أكبرُ عند الله من القتال في الشهر الحرام.
ثم إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قبِل الخُمسَ من تلك الغنيمة، وأخذ الفداء من ذَيْنِكَ الأسيرَيْن.
***********************
استفدنا أنَّ سببَ نزولِ الآيةِ الكريمة { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ } الآية قتلُ عبد الله بن جحش وأصحابه عمرو بن الحضرمي المشرك في الشهر الحرام .
والشهر الحرام لا يجوزالبدءُ بالقتال فيه لهذه الآية، فهو كبيرة من الكبائر. وقد أخرج الإمامُ أحمد في مسنده (22/ 438 )من طريق لَيْثٍ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: " لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِلَّا أَنْ يُغْزَى - أَوْ يُغْزَوْا - فَإِذَا حَضَرَ ذَاكَ، أَقَامَ حَتَّى يَنْسَلِخَ " .
والحديث حسن . وأبوالزبير وإن كان مدلسا وقد عنعن إلا أنه إذا كان الراوي عنه الليثُ بن سعد فإنه لا تضر عنعنته . يراجع جامع التحصيل .
ودلَّ حديث جابرٍ على جواز قتال المشركين في الشهر الحرام إذا بدأُوا بقتال المسلمين .
وحرمة القتال في الشهر الحرام ابتداءً مُحْكَم ولم يُنسخ.
أما قول السيوطي رحمه الله :
وحَقُّ تَقْوَاهُ فِيمَا صَحَّ من أَثَـــرٍ *** وفي الحَرامِ قِتَالٌ للأُلَى كَفَـــرُوا
فلم يصح للسيوطي رحمه الله شيءٌ في هذا البيت من النسخ .
(وحَقُّ تَقْوَاهُ فِيمَا صَحَّ من أَثَـــرٍ) يشير إلى قول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران:102]. أي: أنها منسوخة والصحيح أن الآية مطلقة تقيد بالأدلة الأخرى فالمراد اتقوا الله حق تقاته فيما استطعتم، لقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:16]. وقوله: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة:286].
(وفي الحَرامِ قِتَالٌ للأُلَى كَفَـــرُوا) يشير إلى قوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة:217].
والآية محكمة ولم يأتِ ما ينسخها وقد استدلَّ من قال بنسخها بالأدلة التي فيها الأمر بقتال المشركين كقوله سبحانه :إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) [سورة التوبة: 36] . ولكنها عامة مخصوصة بالأشهر الحرم فيقاتَل المشركون في غير الأشهر الحرُمِ التي هي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب مضر.
وهذه المسألة تتعلق بعلم القرآن وتفسيره والسيرة لها علاقة كبيرة بعلم القرآن وتفسيره فهي تعينُ على فهْمِ القرآن .
ثم فسَّر الحافظ ابن كثير رحمه الله هنا الآية: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة:217]. وأن صدَّ المشركين المسلمين عن المسجد الحرام وإخراج أهله منه يعني النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحابته أكبر عند الله، (أعظم عند الله) من القتال في الشهر الحرام هذا أعظم وأشدُّ .
(وأخذ الفداء من ذينك الأسيرَين)
هما عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان.
****************
فصل ـ تحويل القبلة وفرض الصوم
وفي شعبان من هذه السنة حوِّلَت القبلةُ من بيت المقدس إلى الكعبة، وذلك على رأس ستة عشر شهراً من مقدمه المدينة، وقيل سبعة عشر شهراً، وهما في الصحيحين.
وكان أول من صلى إليها أبو سعيد بن المعلى وصاحب له كما رواه النسائي: وذلك أنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس ويتلو عليهم تحويل القبلة، فقلت لصاحبي: تعال نصلي ركعتين فنكون أول من صلى إليها، فتوارينا وصلينا إليها، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس الظهر يومئذ.
وفرض صوم رمضان، وفرضت لأجله زكاة الفطر قبله بيوم.
*******************
في هذه الفصول المتقدمة واللاحقة بعض الوقائع والأمور التي كانت في السنة الثانية من الهجرة النبوية .
وهذه عدة أمور في هذا الفصل كانت في السنة الثانية .
تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وقد ثبت في الصحيحين البخاري (40) ومسلم (525) عَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوَّلَ مَا قَدِمَ المَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَجْدَادِهِ، أَوْ قَالَ أَخْوَالِهِ مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَنَّهُ «صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلاَةٍ صَلَّاهَا صَلاَةَ العَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ» فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ، فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ وَهُمْ رَاكِعُونَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ البَيْتِ، وَكَانَتِ اليَهُودُ قَدْ أَعْجَبَهُمْ إِذْ كَانَ يُصَلِّي قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ، وَأَهْلُ الكِتَابِ، فَلَمَّا وَلَّى وَجْهَهُ قِبَلَ البَيْتِ، أَنْكَرُوا ذَلِكَ. قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ البَرَاءِ فِي حَدِيثِهِ هَذَا: أَنَّهُ مَاتَ عَلَى القِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ رِجَالٌ وَقُتِلُوا، فَلَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [البقرة: 143].
فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلى في المدينة إلى بيت المقدس هذه المدة سنة وأربعة أشهر أو سنة خمسة أشهر على قوله (سبعة عشر شهرًا) .
وقدكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يرغب كثيرا أن يستقبل الكعبة قال تعالى: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾[البقرة:144].
وكان في نسخ القبلة إلى الكعبة اختبارٌ وامتحان قال تعالى﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾[البقرة:143]. فكان فيه اختبارٌ من يتبع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن يعصي .
وفي حديث البراء المذكور(وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلاَةٍ صَلَّاهَا صَلاَةَ العَصْرِ)
دليلٌ أنَّ أول صلاة استقبل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيها الكعبة صلاة العصر .
وثبت في الصحيحين البخاري (4488)و مسلم (526)عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، بَيْنَا النَّاسُ يُصَلُّونَ الصُّبْحَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، إِذْ جَاءَ جَاءٍ فَقَالَ: " أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرْآنًا: أَنْ يَسْتَقْبِلَ الكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، فَتَوَجَّهُوا إِلَى الكَعْبَةِ " .
وهذا فيه قبول خبر الواحد ، واستسلام الصحابة رضوان الله عليهم واستجابتهم للشرع .وهذا معدودٌ في مناقبهم .
وقوله (بَيْنَا النَّاسُ يُصَلُّونَ الصُّبْحَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ)هذا محمول أنه لم يبلغهم النسخ إلا ذلك الوقت والله أعلم.
وتحويل القبلة من أعظم ما يحسدنا عليه اليهود أخرج الإمامُ أحمد (41/ 481) عن عائشة رضي الله عنها الحديث وفيه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : إِنَّهُمْ لَا يَحْسُدُونَا عَلَى شَيْءٍ كَمَا يَحْسُدُونَا عَلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّتِي هَدَانَا اللهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي هَدَانَا اللهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الْإِمَامِ: آمِينَ " .
(وكان أول من صلى إليها)
أي إلى الكعبة
(أبو سعيد بن المعلى وصاحب له كما رواه النسائي: وذلك أنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس ويتلو عليهم تحويل القبلة، فقلت لصاحبي: تعال نصلي ركعتين فنكون أول من صلى إليها، فتوارينا وصلينا إليها، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس الظهر يومئذ)
وهذا في السنن الكبرى للنسائي (10/ 17) من طريق مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن المعلى الأنصاري الزُرقي وهو ضعيف .
(وفرض صوم رمضان)
وفرض صوم رمضان في السنة الثانية من الهجرة، فمات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقد صام تسعَ رمضانات.
(وفرضت لأجله زكاة الفطر قبْلَه بيوم)
(وفرضت لأجله)أي لأجل الصيام .
وهذا فيه إشارة إلى الحكمة من فرضية زكاة الفطر وهذا ثابت في سنن ابن ماجة (1827) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، فَمَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ».
(طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ) أي أنها كفَّارة مطهرة لما قد يحصل من خلل في ينقص الصوم.
وفي هذه السنة فرضت زكاة الفطر مع فرض صيام رمضان.
(قبله بيوم) في نسخة من نسخ الفصول (قبيله بيوم) مصغَّر.
أي قبل عيد الفطر فله أن يقدم زكاة الفطر بيوم، أو يومين أو نحو ذلك، والسُّنَّة أن يخرجها قبل خروجه للصلاة العيد لما في صحيح البخاري (1503) ومسلم (986)عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى العَبْدِ وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ».
والحمد لله .
أم سمية الأثرية
2016-02-01, 09:46
(5) التَّذْكِيْرُ بِسِيْرَةِ سَيِّدِ البَشَرِ
اختصارُ درسِ الثاني عشرَ من (الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم)
1. غزوة بُواط: في ربيع الآخرِ من السنةِ الثانيةِ، خرج بنفسِه صلى الله عليه وسلم ليتلقَّى عِيرًا لقريش،-والعِيرهي القافلة -وكان فيهم أميَّةُ بنُ خلَف من أشدِّ الأعداء للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم واستخلف على المدينة السائبَ بن عثمان أي جعله نائبًا عنه على المدينة ثم سارَ حتى بلغ بواط من ناحيةِ رَضْوَى ثُمَّ رجع صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم يلقَ حربا.
2. غزوةُ العُشيرة: كانت بعد غزوة بواط. خرج صلى الله عليه وسلم في أثناءِ جمادى الأُولى لتلقِّي عيرٍ لقريش وفي هذه الغزوة صالحَ بني مُدْلِج، ثم رجع صلى الله عليه وعلى آله وسلم بدون قتال، وقد كان استخلف على المدينة أبا سلمةَ بن عبد الأسد.
- يُوْجَدُ إشكالٌ فيما رواه الإمام البخاري (3949) من طريق أَبِي إِسْحَاقَ، كُنْتُ إِلَى جَنْبِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، فَقِيلَ لَهُ: " كَمْ غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةٍ؟ قَالَ: تِسْعَ عَشْرَةَ " قِيلَ: كَمْ غَزَوْتَ أَنْتَ مَعَهُ؟ قَالَ: سَبْعَ عَشْرَةَ، قُلْتُ: فَأَيُّهُمْ كَانَتْ أَوَّلَ؟ قَالَ: العُسَيْرَةُ أَوِ العُشَيْرُ " . فظاهره أن أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم غزوة العشيرة. إذ لم يَذكر رضي الله عنه غزوةَ الأبواء ولا غزوة بُواط مع أنهما سابقتان على غزوة العُشير.
وقدذكرالحافظ ابن حجر رحمه الله تحت رقم (3949)ثلاثةَ أجوبة عن ذلك منها :أنه "َكَأَنَّ ذَلِكَ خَفِيَ عَلَيْهِ لِصِغَرِهِ قال :وَيُؤَيِّدُ مَا قُلْتُهُ مَا وَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ قُلْتُ مَا أَوَّلُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَالَ ذَاتُ الْعُشَيْرِ أَوِ الْعُشَيْرَةُ. اهـ
-جاء في سيرة ابن إسحاق أنه في غزوة العُشِيْرَة كنَّى النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم علي ابن أبي طالب أبا تُراب وفي إسناده انقطاع . وأنكر الحافظ ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد(3/ 150) ذلك وقال : فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ إِنَّمَا كَنَّاهُ أَبَا تُرَابٍ بَعْدَ نِكَاحِهِ فاطمة، وَكَانَ نِكَاحُهَا بَعْدَ بَدْرٍ .
3. غزوةُ بدرالأولى: ثم خرج النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم في جمادى الأولى سنة اثنتين إلى بدرٍ. وسببُها أن كُرز بن جابر أغار على سرْح المدينة،والسرح :الماشية .
فخرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى بلغ سَفَوان ناحية بدرٍ وفاته كُرز فرجع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وقد كان استخلف على المدينة زيدَ بن حارثة رضي الله عنه.
- جاء في حديثٍ سنده ضعيف جدًّاعندالطبراني في الكبير(7/ 6)أن الذي بعثه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى العُرَنيين الذين ساقوا ذود النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقتلوا الراعي هو كرز بن جابر. والحديث ثابت في الصحيحين عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَدِمَ أُنَاسٌ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ، فَاجْتَوَوْا المَدِينَةَ «فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِلِقَاحٍ، وَأَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا» فَانْطَلَقُوا، فَلَمَّا صَحُّوا، قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ، فَجَاءَ الخَبَرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ، فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهَارُ جِيءَ بِهِمْ، «فَأَمَرَ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسُمِرَتْ أَعْيُنُهُمْ، وَأُلْقُوا فِي الحَرَّةِ، يَسْتَسْقُونَ فَلاَ يُسْقَوْنَ».ولكن ليس في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث كرْزًا لقتل العُرَنيين وإثباتُ هذا يحتاج إلى دليلٍ صحيحٍ .فالله أعلم .
وكُرز بن جابر كان من رُؤساءِ المشركين ثم منَّ الله عز وجل عليه وأسلم فهو صحابي وقد قتل رضي الله عنه في فتح مكة وقصة قتله في صحيح البخاري (4280) .
4. بعث عبد الله بن جحش: بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ بعد غزوة بدرٍ الاُولى عبدَ الله بن جحش -وهوأَخُو زَيْنَبَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ -وثمانيةً من المهاجرين ،جاء قصة بعثه في حديث علَّقَه الإمام البخاري في صحيحه والحديث حسنٌ لغيره أخرجه ابنُ أبي حاتمٍ في تفسيره.
وأول غنيمة وأوَّل خمُسٍ في الإسلام كان في بعث عبد الله بن جحش ، وأول قتيلٍ من المشركين في الإسلام هو عمرو بن الحضرمي وهو أخو العلاء بن الحضرمي الصحابي، وأول أسيرَيْنِ من المشركين في الإسلام عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان. قال ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام (1/605) :فَأَمَّا الْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ فَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ، وَأَقَامَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ شَهِيدًا. وَأَمَّا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَلَحِقَ بِمَكَّةَ، فَمَاتَ بِهَا كَافِرًا.
5. سببُ نزولِ الآيةِ الكريمة { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ }: قتلُ عبد الله بن جحش وأصحابه عمرو بن الحضرمي المشرك في الشهر الحرام ،والشهر الحرام لا يجوزالبدءُ بالقتال فيه لهذه الآية، فهو كبيرة من الكبائر. ويجوزُ قتال المشركين في الشهر الحرام إذا بدأُوا بقتال المسلمين.وقد كان عبدالله بن جحش وأصحابه مجتهدين رضي الله عنهم .
6. قوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ...﴾ [البقرة:217]. الآية مُحْكَمَةٌ ولم يأتِ ما ينسخها فلا يُلْتفتُ إلى قول من قال بنسخها .
7. الأشهرُ الحرُمُ: هي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب مضر.
8. معنى قوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة:217]. فسَّرالحافظ ابن كثير رحمه الله في الفصول فيما يتعلق بالقتال في الأَشهرِ الحُرُمِ وقال: يقول سبحانه: هذا الذي وقع وإن كان خطأ، لأن القتال في الشهر الحرام كبير عند الله، إلا أنَّ ما أنتم عليه أيها المشركون من الصدِّ عن سبيل الله والكفرِ به وبالمسجدِ الحرام، وإخراج محمد وأصحابه الذين هم أهل المسجدُ الحرام في الحقيقة أكبرُ عند الله من القتال في الشهر الحرام.
9. بعض الوقائع والأمور التي كانت في السنة الثانية من الهجرة النبوية مع ما تقدَّم:
· تحويل القبلة: في شعبان كذا نصَّ ابن كثير. وذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري (40)أنه كَانَ التَّحْوِيلُ فِي نِصْفِ شَهْرِ رَجَبٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الصَّحِيحِ قال:وَبِهِ جَزَمَ الْجُمْهُور . اهـ .ففي السنة الثانيةحوِّلَت القبلةُ من بيت المقدس إلى الكعبة،وقد روى البخاري ومسلم من حديث البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ المَقْدِسِ، سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًاوَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ البَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلاَةٍ صَلَّاهَا صَلاَةَ العَصْرِ الحديث . فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلى في المدينة إلى بيت المقدس هذه المدة سنة وأربعة أشهر أو سنة وخمسة أشهرلوجود التردد في الرواية. وكان في نسخ القبلة إلى الكعبة اختبارٌ وامتحان كما بيَّنه ربنا تعالى في قوله ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾[البقرة:143].
وتحويل القبلة إلى الكعبة من أعظم ما يحسدنا عليه اليهود كما في مسند أحمد .
-أول صلاة استقبل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيها الكعبة صلاة العصركما تقدم في حديث البراء .
وهناك بعض الروايات الأُخرى أنَّ ذلك كان في صلاة الظهر فإن ثبتت فقد جمع بينهما الحافظ ابنُ حجر رحمه الله في فتح الباري تحت رقم (40)وقال :وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا فِي بَنِي سَلِمَةَ لَمَّا مَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ الظُّهْرُ وَأَوَّلُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ الْعَصْر .اهـ .والله أعلم .
- وثبت في الصحيحين عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، بَيْنَا النَّاسُ يُصَلُّونَ الصُّبْحَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، إِذْ جَاءَ جَاءٍ فَقَالَ: " أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرْآنًا: أَنْ يَسْتَقْبِلَ الكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، فَتَوَجَّهُوا إِلَى الكَعْبَةِ ". هذا محمول أنه لم يبلغهم النسخ إلا ذلك الوقت والله أعلم.
- جاء في حديث ضعيفِ السند أنَّ أوَّل من صلى إلى الكعبة أبو سعيد بن المعلى وصاحب له كما رواه النسائي في الكبرى من طريق مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن المعلى الأنصاري الزُرقي وهو ضعيف .
· فرضُ الصوم: وفُرض صوم رمضان في السنة الثانية من الهجرة، فمات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقد صام تسعَ رمضانات.
· فرض زكاة الفطر: فرضت زكاة الفطر مع فرض صيام رمضان.
· والحكمة في فرض صدقة الفطرمبيَّنٌ في سنن ابن ماجة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ" .
- السُّنَّة أن يخرج زكاة الفطر قبل خروجه لصلاة العيد كما في الصحيحين عن ابن عمروفيه (وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ).وله أن يقدِّمَ زكاةَ الفطر بيوم، أو يومين أو نحو ذلك.
أم سمية الأثرية
2016-02-03, 07:31
الدرس الثالث عشر من / الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم 24 من شهر ربيع الثاني 1437.
فصل ـ غزوة بدر الكبرى
نذكرُ فيه ملَخَصَ وقعةِ بدر الثانية، وهي الوقعةُ العظيمةُ التي فرَّق الله فيها بينَ الحق والباطل وأعزَّ الإسلامَ، ودمغ الكفرَ وأهلَه، وذلك أنه لما كان في رمضان من هذه السنة الثانية بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن عيراً مقبلةً من الشام صحبةَ أبي سفيان، صخرِ بنِ حرب، في ثلاثين أو أربعين رجلاً من قريشٍ وهي عيرٌ عظيمة، تحمِلُ أموالاً جزيلةً لقريش، فندب صلى الله عليه وسلم الناس للخروج إليها، وأمر من كان ظهرُه حاضراً بالنهوضِ، ولم يحتفلْ لها احتفالاً كثيراً، إلا أنه خرج في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، لثمان خلون من رمضان، واستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم، فلما كان بالروحاء ردَّ أبا لبابة بن عبد المنذر واستعمله على المدينة.
ولم يكن معه من الخيل سوى فرس الزبير، وفرس المقداد بن الأسود الكندي، ومن الإبل سبعون بعيراً يعتقب الرجلان والثلاثة فأكثر على البعير الواحد، فرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبونَ بعيراً، وزيد بن حارثة وأنسة وأبو كبشة موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمزة يعتقبونَ جملاً، وأبو بكر وعمرُ وعبد الرحمن بن عوف على جمل آخر.. وهلم جرا.
ودفع صلى الله عليه وسلم اللواء إلى مصعب بن عمير، والراية الواحدة إلى علي بن أبي طالب، والراية الأخرى إلى رجل من الأنصار، وكانت راية الأنصار بيد سعد بن معاذ، وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة.
وسار صلى الله عليه وسلم فلما قرب من الصفراء بعث بسبس بن عمرو الجهني، وهو حليف بني ساعدة، وعديَّ بن أبي الزغباء الجهني حليف بني النجار إلى بدر يتحسَّسان أخبار العير.
*****************************
عندنا في هذا الفصل غزوة بدر الكبرى، وغزوات بدر ثلاث: غزوة بدر الأولى، وغزوة بدر الكبرى، وغزوة بدر الأخرى. وقد ذكرابن القيم رحمه الله في زاد المعاد (1/ 125) عدد غزوات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم قال:" وَالْغَزَوَاتُ الْكِبَارُ الْأُمُّهَاتُ سَبْعٌ: بَدْرٌ، وَأُحُدٌ، وَالْخَنْدَقُ، وَخَيْبَرُ، وَالْفَتْحُ، وَحُنَيْنٌ، وَتَبُوكُ". اهـ.
غزوة بدر الكبرى كانت في رمضان وسببها أن أباسفيان قدم بعير فخرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لتلقي قافلة أبي سفيان ولم يخرج لقتال الكفار. وأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصحابه بالخروج، وقال للأنصار: من كان له ظهر فليخرج. ولم يأذنْ لمن كان ظهره بعوالي المدينة أن يأتي به وهذافي صحيح مسلم (1901). عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وفيه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال:«إِنَّ لَنَا طَلِبَةً، فَمَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا فَلْيَرْكَبْ مَعَنَا»، فَجَعَلَ رِجَالٌ يَسْتَأْذِنُونَهُ فِي ظُهْرَانِهِمْ فِي عُلْوِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: «لَا، إِلَّا مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا».
والظَّهْر: الإبلُ الَّتِي يُحمِل عَلَيْهَا وتُرْكب. يُقَالُ: عِنْدَ فُلَانٍ ظَهْرٌ: أَيْ إبلٌ كما في النهاية.
(خرج في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا )وهذافي صحيح مسلم (1763) عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا.
(فرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبونَ بعيراً)
في مسند أحمد وهو في الصحيح المسند للولد رحمهما الله(831) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كُنَّا يَوْمَ بَدْرٍ كُلُّ ثَلَاثَةٍ عَلَى بَعِيرٍ، كَانَ أَبُو لُبَابَةَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، زَمِيلَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَكَانَتْ عُقْبَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَقَالَا نَحْنُ نَمْشِي عَنْكَ، فَقَالَ: " مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّي، وَلَا أَنَا بِأَغْنَى عَنِ الْأَجْرِ مِنْكُمَا " والحديث حسن.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (3/ 319)قُلْتُ: وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ أَبَا لُبَابَةَ مِنَ الرَّوْحَاءِ، ثُمَّ كَانَ زَمِيلَاهُ عَلِيٌّ وَمَرْثَدٌ بَدَلَ أَبِي لُبَابَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثم لما سار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقرب من الصفراء وهو موضعٌ مُجَاورُ بدْر كما في النهاية . بعث بسبس بن عمرو الجهني ـ يقال: بسبس، ويقال: بسبسة بزيادة تاء مربوطةـ وعدي بن أبي الزغباء بعثهما يتحسسان أخبار العير والعير: هي القافلة.
وهذا يستفاد منه جواز التجسس على الكفار للحاجة، أما التجسس على المسلم فهذا لا يجوز يقول تعالى: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾ [الحجرات:12]. ويقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم "... مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ" أخرجه الترمذي في سننه (2032). والحديث في الصحيح المسند للوالد رحمه الله.
وبسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء صحابيان وكلاهما شهد بدرًا.
(وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة)الساقة مؤخرة القوم .
*****************************
وأما أبو سفيان فإنه بلغه مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصده إياه، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة مستصرِخاً لقريش بالنفير إلى عيرهم ليمنعوه من محمد وأصحابه.
وبلغ الصريخُ أهلَ مكة، فنهضوا مسرعين وأوعبوا في الخروج، ولم يتخلف من أشرافهم أحد سوى أبي لهب، فإنه عَوَّض عنه رجلاً كان له عليه دين، وحشدوا ممن حولهم من قبائل العرب، ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إلا بني عدي، فلم يخرج معهم منهم أحد.
وخرجوا من ديارهم كما قال الله عز وجل: ﴿ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنفال:47]. وأقبلوا في تحمل وحنَقٍ عظيمٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابِه لما يريدون من أخذِ عيرهم، وقد أصابوا بالأمس عمرو بن الحضرمي والعير التي كانت معه.
فجمعهم الله على غير ميعاد لما أراد في ذلك من الحكمة كما قال تعالى ﴿وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ [الأنفال:42].
*****************************
لما بلغ أبا سفيان مخرجُ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لتلقي العير بعث ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة مستصرخًا مستنجدًا بقريش فنفر قريش مسرعين لحماية أبي سفيان وقافلته. ولم يتخلف من أشرافهم إلا أبو لهب، وبنوعدي من قريش وخرجوا بطرًا ورئاء الناس، وبعصبية، وحميَّة، وغضب على المسلمين، لِما يريدون من أخذ القافلة وقتل مَن فيها ومع ما قد أصابهم من قتل عمرو بن الحضرمي قبل أيام وأخذ العير التي معه، وجمعهم الله في بدرعلى غير ميعاد.﴿وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ [الأنفال:42]. وفي الصحيحين البخاري (4418) مسلم (2769) عن كَعْب بن مالك قال: "لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهَا، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ، حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ ..." الحديث .
وبينت الآية الحكمة من اتفاقهم في المجيء على غير ميعاد أنه لو كان بينهم ميعاد لاختلفوا وما يتم ما أراد الله سبحانه وتعالى ولله الحكمة البالغة.
*****************************
ولما بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خروجُ قريش استشار أصحابه، فتكلم كثير من المهاجرين فأحسنوا، ثم استشارهم وهو يريد ما يقول الأنصار، فبادر سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله! كأنك تُعرِّض بنا، فو الله يا رسول الله، لو استعرضت بنا البحر لخضناه معك، فسر بنا يا رسول الله على بركة الله. فَسُرَّ صلى الله عليه وسلم بذلك وقال: «سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين» .
*****************************
لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم خروج قريش لحماية ونصرة أبي سفيان وقافلته.
(استشار أصحابه، فتكلم كثير من المهاجرين فأحسنوا، ثم استشارهم وهو يريد ما يقول الأنصار...)
والحديث في صحيح مسلم (1779) عَنْ أَنَسٍ بن مالك رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاوَرَ حِينَ بَلَغَهُ إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ: إِيَّانَا تُرِيدُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبَحْرَ لَأَخَضْنَاهَا، وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَفَعَلْنَا...) الحديث
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :قَالَ الْعُلَمَاءُ إِنَّمَا قَصَدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتِبَارَ الْأَنْصَارِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَايَعَهُمْ عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُ لِلْقِتَالِ وَطَلَبِ الْعَدُوِّ وَإِنَّمَا بَايَعَهُمْ عَلَى أَنْ يَمْنَعُوهُ مِمَّنْ يَقْصِدُهُ فَلَمَّا عَرَضَ الْخُرُوجَ لِعِيرِ أَبِي سُفْيَانَ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُمْ يُوَافِقُونَ عَلَى ذَلِكَ فَأَجَابُوهُ أَحْسَنَ جَوَابٍ بِالْمُوَافَقَةِ التَّامَّةِ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ وَغَيْرِهَا .اهـ.
فالسبب في استشارة الأنصار أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بايع الأنصار على أن يؤووه، ويمنعوا منه كما يمنعون من نسائهم، وأنفسهم، وأموالهم، أي: في ديارهم. فلم يكن في البيعة الخروج من المدينة لغزو الكفار. فتكلم سعد بن معاذ رضي الله عنه بهذا الكلام الجميل أنهم مستعدون أتم الاستعداد للخروج مع الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم فَسُرَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك .
وقوله في رواية مسلم (فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ)الذي في كلام الحافظ ابن كثير(فبادر سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله!)
قال الحافظ ابنُ حجر رحمه الله في فتح الباري تحت رقم (3952)وَوَقَعَ فِي مُسْلِمٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ هُوَ الَّذِي قَالَ ذَلِك وَكَذَا أخرجه بن أَبِي شَيْبَةَ مِنْ مُرْسَلِ عِكْرِمَةَ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا وَإِنْ كَانَ يُعَدُّ فِيهِمْ لِكَوْنِهِ مِمَّنْ ضُرِبَ لَهُ بِسَهْمِهِ كَمَا سَأَذْكُرُهُ فِي آخِرِ الْغَزْوَةِ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَشَارَهُمْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ مَرَّتَيْنِ الْأُولَى وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ أَوَّلَ مَا بَلَغَهُ خَبَرُ الْعِيرِ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَلَفْظُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاوَرَ حِينَ بَلَغَهُ إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ وَالثَّانِيَةُ كَانَتْ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ ذَلِكَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَهَذَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ .اهـ.
وجاء أن المقداد بن الأسود قال للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "لاَ نَقُولُ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ، وَلَكِنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ، وَبَيْنَ يَدَيْكَ وَخَلْفَكَ «فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَقَ وَجْهُهُ وَسَرَّهُ» يَعْنِي: قَوْلَهُ" رواه البخاري (3952).
(وقال: «سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين»)
اشارة إلى قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾ [الأنفال:7].
(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) الطائفتان: العير والنفير. (العير) قافلة أبي سفيان، وكان معه عمرو بن العاص ومجموعة من أصحابه. (والنفير) الذي نفروا من مكة لحماية قافلة أبي سفيان.
(وَتَوَدُّونَ) أي تتمنون. (أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) وهي العير.
الشوكة :قال ابن الأثير في النهاية : شَوْكَةُ الْقِتَالِ شِدّته وحدَّته.اهـ.
والصحابة يميلون إلى العير التجاريَّة قال الحافظ ابن كثيرفيما يأتي (وودوا أن لو كانا لعير أبي سفيان وأنه منهم قريب ليفوزوا به، لأنه أخف مؤونة من قتال النفير من قريش لشدة بأسهم واستعدادهم لذلك) .
*****************************
ثم رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل قريباً من بدر، وركب صلى الله عليه وسلم مع رجل من أصحابه مستخبراً ثم انصرف، فلما أمسى بعث علياً وسعداً والزبير إلى ماء بدر يلتمسون الخبر، فقدموا بعبدين لقريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فسألهما أصحابه لمن أنتما.
؟ فقالا: نحن سقاة لقريش. فكره ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وودوا أن لو كانا لعير أبي سفيان وأنه منهم قريب ليفوزوا به، لأنه أخف مؤونة من قتال النفير من قريش لشدة بأسهم واستعدادهم لذلك. فجعلوا يضربونهما، فإذا آذاهما الضرب قالا: نحن لأبي سفيان. فإذا سكتوا عنهما قالا: نحن لقريش. فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته قال: والذي نفسي بيده إنكم لتضربونهما إذا صدقا وتتركونهما إذا كذبا. ثم قال لهما: أخبراني أين قريش؟ قالا: وراء هذا الكثيب.
قال: كم القوم؟ قالا: لا علم لنا. فقال: كم ينحرون كل يوم؟ فقالا: يوماً عشراً ويوماً تسعاً: فقال صلى الله عليه وسلم: «القوم ما بين التسعمائة إلى الألف».
*****************************
(فكره ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وودوا أن لو كانا لعير أبي سفيان وأنه منهم قريب ليفوزوا به، لأنه أخف مؤونة من قتال النفير من قريش لشدة بأسهم واستعدادهم لذلك)
فكان هذا هو السبب في ميل الصحابة لنيل عير أبي سفيان لأنه أخف مؤونة، ولأنه ليس عندهم استعداد للقتال، والقافلة فيها أموال كثيرة بخلاف الطائفة الأخرى النفير فإنهم جاءوا بعُدَّتِهم وقُوَّتهم وببأس شديد.
(فجعلوا يضربونهما، فإذا آذاهما الضرب قالا: نحن لأبي سفيان...)
هذا في صحيح مسلم (1779) وفيه: "...فَنَدَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى نَزَلُوا بَدْرًا، وَوَرَدَتْ عَلَيْهِمْ رَوَايَا قُرَيْشٍ، وَفِيهِمْ غُلَامٌ أَسْوَدُ لِبَنِي الْحَجَّاجِ، فَأَخَذُوهُ، فَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَصْحَابِهِ، فَيَقُولُ: مَا لِي عِلْمٌ بِأَبِي سُفْيَانَ، وَلَكِنْ هَذَا أَبُو جَهْلٍ، وَعُتْبَةُ، وَشَيْبَةُ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ ضَرَبُوهُ، فَقَالَ: نَعَمْ، أَنَا أُخْبِرُكُمْ، هَذَا أَبُو سُفْيَانَ، فَإِذَا تَرَكُوهُ فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ مَا لِي بِأَبِي سُفْيَانَ عِلْمٌ، وَلَكِنْ هَذَا أَبُو جَهْلٍ، وَعُتْبَةُ، وَشَيْبَةُ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، فِي النَّاسِ، فَإِذَا قَالَ هَذَا أَيْضًا ضَرَبُوهُ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ انْصَرَفَ، قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَضْرِبُوهُ إِذَا صَدَقَكُمْ، وَتَتْرُكُوهُ إِذَا كَذَبَكُمْ»، قَالَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ»، قَالَ: وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ «هَاهُنَا، هَاهُنَا»، قَالَ: فَمَا مَاطَ أَحَدُهُمْ عَنْ مَوْضِعِ يَدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا فيه دليل من دلائل النبوة فقد تحقَّق ما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن هذين العبدين ماعندهما علم بأبي سفيان لأنهما من النفير.
(فقال صلى الله عليه وسلم: القوم ما بين التسعمائة إلى الألف)
القوم: أي كفار قريش. وقد جاء في صحيح مسلم (1763) عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: «اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ»، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}... الحديث.
*****************************
وأما بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء فإنهما وردا ماء بدر فسمعا جارية تقول لصاحبتها: ألا تقضيني ديني؟ فقالت الأخرى: إنما تقدم العير غداً أو بعد غد فأعمل لهم وأقضيك.
فصدقها مجدي بن عمرو. فانطلقا مُقْبِلَيْن لما سمعا، ويَعْقُبهما أبو سفيان، فقال لمجدي بن عمرو: هل أحسسْتَ أحداً من أصحابِ محمد؟ فقال: لا إلا أن راكبين نزلا عند تلك الأكمة. فانطلق أبو سفيان إلى مكانهما وأخذ من بعر بعيرهما ففتَّه فوجد فيه النوى فقال: والله هذه علائفُ يثربَ، فعدل بالعير إلى طريق الساحل، فنجا، وبعث إلى قريش يُعْلِمهم أنه قد نجا هو والعير ويأمرهم أن يرجعوا. وبلغ ذلك قريشاً، فأبى أبو جهل وقال: والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر، ونقيم عليه ثلاثاً، ونشرب الخمر، وتضرب على رؤوسنا القيان، فتهابنا العرب أبداً، فرجع الأخنس بن شريق بقومه بني زهرة قاطبة، وقال: إنما خرجتم لتمنعوا عيركم وقد نجت، ولم يشهد بدراً زهري إلا عَمَّا مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله: والد الزهري، فإنهما شهداها يومئذ وقتلا كافرين.
*****************************
بسبس بن عمرو وعدي بعثهما النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم للاستطلاع على خبر قريش فسمعا جارية تقول لصاحبتها: ألا تقضيني ديني؟ كان عندها دين على صاحبتها. فقالت الأخرى: إنما تقدم العير غداً أو بعد غد فأعمل لهم وأقضيك.فصدَّقها مجدي بن عمرو.، أي قال لها: صدقت أنه سيأتي العير غدًا أو بعد غدًا. وما عرف مجدي الصحابيين، وهذا من حكمة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث من صحابته من ليس بمشهورين عند الناس.
(فانطلقا مقبلين لما سمعا)
انطلقا مقبلين لما سمعا أن القافلة قادمة.
(فانطلق أبو سفيان إلى مكانهما وأخذ من بعر بعيرهما ففتَّه فوجد فيه النوى فقال: والله هذه علائف يثرب)
وهذا من خبرة أبي سفيان، ومعرفته. وقد أسلم رضي الله عنه عام الفتح. وقد تخوَّف أبوسفيان أن يأتي من جهة بدرٍفعدل بالعير إلى طريق أخرى، فنجا بقافلته فأرسل إلى قريش ليعلمهم بالخبر أنه قد نجا وأمرَهم أن يرجعوا، فهمُّوا بالرجوع إلا أن أبا جهل رفض ذلك وأبى إلا القدوم بمن معه إلى قتال المسلمين ببدر زَيَّنَ له الشيطان أنَّه سيكون لهم النصر، وأنه سيكون لهم الهيبة عند العرب.
أما الأخنس بن شريق فلم يقبل رأيَ أبي جهل ورجع بقومه بني زهرة قاطبة. ولما وقعت المعركة وكان فيها حصاد الكافرين والنصرة للمسلمين استعظم بنو زهرة رأي الأخنس بن شريق، ورأوا له مكانته العظيمة.
*****************************
فبادر رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً إلى ماء بدر، ونزل على أدنى ماء هناك، فقال له الحباب بن المنذر بن عمرو: يا رسول الله، هذا المنزل الذي نزلته أمرك الله به؟ أو منزل نزلته للحرب والمكيدِة؟ قال: «بل منزل نزلته للحرب والمكيدة». فقال: ليس هذا بمنزل، فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماء من مياه القوم فننزله، ونُغَوِّرُ ما وراءنا من القُلُب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه، فنشرب ولا يشربون. فاستحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ذلك.
وحال الله بين قريش وبين الماء بمطرٍ عظيم أرسله، وكان نقمةً على الكفار ونعمةً على المسلمين، مهَّد لهم الأرضَ ولبَّدَها، وبُنِيَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشٌ يكون فيه. ومشى صلى الله عليه وسلم في موضع المعركة، وجعل يريهم مصارعَ رؤوسِ القوم واحداً واحداً، ويقول: «هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله، وهذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان». قال عبد الله بن مسعود: فوالذي بعثه بالحق ما أخطأ واحد منهم موضعه الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة يصلي إلى جَذْمِ شجرة هناك، وكانت ليلة الجمعة السابع عشر من رمضان، فلما أصبح وأقبلت قريش في كتائبها، قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم هذه قريش قد أقبلت في فخرها وخيلائها، تحادُّك وتحادُّ رسولك». ورام الحكيم بن حزام وعتبة بن ربيعة أن يرجعا بقريش فلا يكون قتال، فأبى ذلك أبو جهل، وتقاول هو وعتبة، وأمر أبو جهل أخا عمرو بن الحضرمي أن يطلب دم أخيه عمرو، فكشف عن استه وصرخ: واعَمراه! واعَمراه! فحمي القوم ونشبت الحرب.
*****************************
(فقال له الحباب بن المنذر بن عمرو: يا رسول الله، هذا المنزل الذي نزلته أمرك الله به؟ أو منزل نزلته للحرب والمكيدة؟.. فاستحسن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منه ذلك)
هذه القصة في سيرة ابن إسحاق وليس لها سندقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ كما في السيرة لابن هشام (2/192): فحُدثت عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَلمة، أَنَّهُمْ ذَكَرُوا: أَنَّ الحُباب بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ الجَموح ...
(ونُغَوِّرُ ما وراءَنا من القُلُب)في نسخة من الفصول ط مكتبة الهدي المحمدي(ونعور ) بالعين المهملة قال القاري في شرح الشفا (2/ 339) القُلُب : بضمتين جمع قليب وهو البئر ونعور بتشديد الواو المكسورة بعد عين مهملة وقيل معجمة فعلى الأول أي نفسدها عليهم وعلى الثاني نذهبها في الأرض وندفنها لئلا يقروا على الانتفاع بها وفي رواية السهيلي بضم العين المهملة وسكون الواو وهي لغة فيها .اهـ.
(قال عبد الله بن مسعود: فوالذي بعثه بالحق ما أخطأ واحد منهم موضعه الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم)
ما أخطأ: أي تجاوز.
وهذا من معجزات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبر بموضع مصرع صناديد قريش فلم يتجاوز أحد منهم ذلك الموضع فهذا من معجزات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذه الغزوة وتقدم معنا (إنكم لتضربونهما إذا صدقا) أيضًا هذا من دلائل النبوة في هذه الغزوة الدالة على صدق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لوقوع نفس ما في الأمر.
(وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة يصلي إلى جذم شجرة هناك...)
قال الجوهري في الصحاح : الجذم، بالكسر: أصل الشئ، وقد يفتح.
(تلك الليلة) أي: ليلة بدر الليلة التي سيصبح فيها المعركة ولم ينم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الليلة كلها بقي يذكرالله ويدعو حتى أصبح . ثبت في مسند أحمد (1161) عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: «لَقَدْ رَأَيْتُنَا لَيْلَةَ بَدْرٍ، وَمَا مِنَّا إِنْسَانٌ إِلا نَائِمٌ، إِلا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي إِلَى شَجَرَةٍ، وَيَدْعُو حَتَّى أَصْبَحَ» ، وَمَا كَانَ مِنَّا فَارِسٌ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرَ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ. والحديث في الصحيح المسند للوالد رحمه الله.
والذي تقدم معنا في الفصول أنه يوجد فارسان في غزوة بدر الزبير والمقداد .
وقيل ثلاثة أفراس قال الزرقاني المالكي في شرح المواهب اللُّدَنية (2/ 260): وأجيب بحمل النفي على بعض الأحوال دون الباقي، لكن في التقريب للحافظ: لم يثبت أنه شهدها فارس غير المقداد.
وقال أبوالفرج الحلَبي في السيرة الحلبية (2/ 205) أقول: يجوز أن يكون المراد لم يقاتل يوم بدر فارسا إلا المقداد وغيره ممن له فرس قاتل راجِلا ..
ونستفيد من هذا أهمية الدعاء والذكر والتضرع إلى الله في الغزو، قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال:45]. وهذا من أسباب النصر على الأعداء الدعاء، والذكر، وكذلك الصلاة قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة:153]. وكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى. فالصلاة شأنها عظيم في التثبيت في دفع الضر وجلب الخير وهكذا الدعاء.
(ورام الحكيم بن حزام وعتبة بن ربيعة أن يرجعا بقريش فلا يكون قتال)
(ورام) أي: أراد. (أن يرجعا) أي: قبل المعركة تخوُّفًا من القتال فأبى أبو جهل وتقاوَل هو وعتبة أي بالكلام والخصام وأصرَّ على المُضِي وحرَّض أخا عمرو بن الحضرمي أن يطلب الثأرَ لأخيه.
(فكشف عن استه وصرَخ: واعمراه! واعمراه)
أي: كشف عن عورته. وهذا موقف آخر لأبي جهل لأنه من الذين سيُقتلون ببدركما أخبر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتقدم أنه لمَّا مضت قافلة أبي سفيان أمرهم أبو سفيان بالرجوع فأبى أبو جهل إلا القدوم، وهنا ليلة بدر أراد حكيم بن حزام الرجوع هو وعتبة بن ربيعة وأصر أبو جهل على البقاء وحرض أخا عمرو بن الحضرمي على طلب الثأر لأخيه وتفاعل المشركون ونشِبت الحرب .
وحكيم بن حزام كان مشركًا ثم أسلم بعد ذلك، أما عتبة بن ربيعة فمات على الكفر، وقد قتِل في هذه الغزوة .
أم سمية الأثرية
2016-02-03, 07:39
]*****************************
وعدَّل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصفوف، ثم رجع إلى العريش هو وأبو بكر وحده، وقام سعد بن معاذ وقوم من الأنصار على باب العريش يحمُون رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج عتبةُ بن ربيعة، وشيبةُ بن ربيعة، والوليدُ بن عتبة، ثلاثتهم جميعاً يطلبون البراز، فخرج إليهم من المسلمين ثلاثة من الأنصار، وهم: عوف ومعوذ ابنا عفراء، وعبد الله بن رواحة، فقالوا لهم: من أنتم؟ فقالوا: من الأنصار، فقالوا: أكْفَاءٌ كرامٌ وإنما نريد بني عمِنا، فبرز لهم علي وعبيدة بن الحارث وحمزة رضي الله عنهم، فقتل عليٌّ الوليد، وقتل حمزةُ عتبة، وقيل: شيبة، واختلفَ عبيدة وقِرْنُه بضربتين، فأَجهدَ كلٌّ منهما صاحبه، فكرَّ حمزة وعلي فتمَّما عليه واحتملا عبيدةَ وقد قٌطعت رجله، فلم يزل طَمِثاً حتى مات بالصفراء رحمه الله تعالى ورضي عنه.
وفي الصحيح أن علياً رضي الله عنه كان يتأوَّل قوله تعالى: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾ [الحج:19]. في بِرازِهم يوم بدر، ولا شك أن هذه الآية في سورة الحج، وهي مكيةٌ، ووقعة بدر بعد ذلك، إلا أن بِرازَهم من أَوَّلِ ما دخل في معنى الآية.
*****************************
قبلَ القتال عدَّل رسولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم صفوف المسلمين ورتَّبها ووعظهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ورغَّبهم في الغزو.
أخرج مسلم في صحيحه (1901) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وفيه قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ»، قَالَ: - يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ: - يَا رَسُولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: بَخٍ بَخٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ: بَخٍ بَخٍ؟» قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا»، فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ .
وهذا من فضائل عمير بن الحمام، وهذا موقف الصحابة كلهم رضي الله عنهم المسابقة إلى الجنة، ورغبتهم في الآخرة.
(وخرج عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، ثلاثتهم جميعاً يطلبون البِراز، فخرج إليهم من المسلمين ثلاثة من الأنصار، وهم: عوف ومعوذ ابنا عفراء، وعبد الله بن رواحة).
(يطلبون البِراز ) قال الجوهري في الصحاح : البِرازُ: المُبارَزَةُ في الحرب. والبِرازُ أيضاً: كنايةٌ عن ثُفْلِ الغِذاء، وهو الغائِط.اهـ .
هذه هي المبارزة في غزوة بدر، وطلبَ المبارزة هؤلاء الثلاثة: عتبة وشيبة والوليد بن عتبة. فخرج من المسلمين من الأنصار ثلاثة وهم عوف ومعوذ وعبد الله بن رواحة .
(فقالوا: أكفاء كرام وإنما نريد بني عمنا)
يريدون من قريش .
(فبرز لهم علي وعبيدة بن الحارث وحمزة رضي الله عنهم)
من خيار صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(فقتَل عليٌّ الوليد)
الوليد بن عتبة.
(وقتل حمزةُ عتبةَ، وقيل: شيبة)
يعني مختلف في ذلك هل قتل حمزةُ عتبةَ أم قتلَ شيبة .
(واختلف عبيدةُ وقِرْنُه بضر بتين)
القِرْن: قال ابن الأثير رحمه الله في النهاية : القِرْن بِالْكَسْرِ: الكُفْء والنَّظير فِي الشَّجاعة والحَرْب، ويُجْمَع عَلَى: أَقْران.
والأكثر أن شيبةَ برزَ له عبيدةُ بن الحارث رضي الله عنه .
قال الحافظ ابنُ حجر في فتح الباري (3970)أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ تَقَدَّمَ عُتْبَةُ وَتَبِعَهُ ابْنُهُ وَأَخُوهُ فَانْتَدَبَ لَهُ شَبَابٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ لَا حَاجَةَ لَنَا فِيكُمْ إِنَّمَا أَرَدْنَا بَنِي عَمِّنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُمْ يَا حَمْزَةُ قُمْ يَا عَلِيُّ قُمْ يَا عُبَيْدَةُ فَأَقْبَلَ حَمْزَةُ إِلَى عُتْبَةَ وَأَقْبَلْتُ إِلَى شَيْبَةَ وَاخْتُلِفَ بَيْنَ عُبَيْدَةَ وَالْوَلِيدِ ضَرْبَتَانِ فَأَثْخَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ ثُمَّ مِلْنَا عَلَى الْوَلِيدِ فَقَتَلْنَاهُ وَاحْتَمَلْنَا عُبَيْدَةَ .
قلت : وهذ أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ لَكِنَّ الَّذِي فِي السِّيَرِ مِنْ أَنَّ الَّذِي بَارَزَهُ عَلِيٌّ هُوَ الْوَلِيدُ هُوَ الْمَشْهُورُ وَهُوَ اللَّائِقُ بِالْمَقَامِ لِأَنَّ عُبَيْدَةَ وَشَيْبَةَ كَانَا شَيْخَيْنِ كَعُتْبَةَ وَحَمْزَةَ بِخِلَافِ عَلِيٍّ وَالْوَلِيدِ فَكَانَا شَابَّيْنِ وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ أَعَنْتُ أَنَا وَحَمْزَةُ عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ فَلَمْ يَعِبِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ عَلَيْنَا وَهَذَا مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ . اهـ .
فهؤلاء ثلاثة : شيبة وعتبة أخوان ، وولد عتبة وهو الوليد قتلوا في غزوة بدرٍ .
(فكرَّ حمزة وعلي فتمَّما عليه واحتملا عبيدة وقد قُطعت رجله، فلم يزل طمثاً حتى مات بالصفراء رحمه الله تعالى ورضي عنه)
(فتمما عليه) يعني: أجهزا قتله. وعبيدة بن الحارث رضي الله عنه قطعت رجله فلم يزل (طمثاً) أي: فاسدًا . يراجع تاج العروس.
وهذه المبارزة أول مبارزة وقعت في الإسلام كما في فتح الباري (3970).
*****************************
ثم حمي الوطيس، واشتد القتال، ونزل النصر، واجتهد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الدعاء، وابتهل ابتهالاً شديداً، حتى جعل رداؤُه يسقط عن منكبيه، وجعل أبو بكر يصلحه عليه ويقول: يا رسول الله، بعضَ مناشدتك ربك، فإنه منجزٌ لك ما وعدك. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» فذلك قوله تعالى {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} ثم أغفَى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءةً، ثم رفع رأسه وهو يقول: «أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثناياه النقع» .
*****************************
هنا بيان أنه لما اشتد القتال بين المسلمين والمشركين اجتهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الدعاء، وكان مما قال: «اللهم إن تهلِك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» وفي هذا الحديث النبوي دليلٌ على أن الخضر نبي الله قد مات؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: (إن تهلك هذه العصابة) . وهناك قولٌ أن الخضر لم يمت. وهذا الحديث يردُّ ذلك ،مع أيضا عمومات في المسألة .
(أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءةً)
(أغفى) الإغفاء هو النوم الخفيف . يراجع النهاية .
وفي هذه الغزوة ألقى الله عز وجل على المسلمين النعاس رحمةً بهم، فإنه يدل على طمأنينة وراحة نفسية قال سبحانه: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ﴾ [الأنفال:11]. فغشيهم النعاسُ في غزوة بدر ، وأنزل الله عز وجل من السماء ماءً تطهيرًا لهم وشدًّا لقلوبهم وتثبيتًا لأقدامهم.
(أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثناياه النقع)
النقع: وهو الغبار.
*****************************
وكان الشيطان قد تبدَّى لقريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم زعيم مدلِج، فأجارهم، وزيَّن لهم الذهاب إلى ما هم فيه، وذلك أنهم خشُوا بني مدلج أن يخلفوهم في أهاليهم وأموالهم، فذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ﴾ [الأنفال:48]. وذلك أنه رأى الملائكة حين نزلت للقتال، ورأى ما لا قِبَل له به، ففرَّ وقاتلت الملائكة كما أمرها الله، وكان الرجل من المسلمين يطلب قِرْنه، فإذا به قد سقط أمامَه.
*****************************
وهذا من تزيين الشيطان لأهل الباطل جاءهم وظهر لهم على صورة سراقة بن مالك بن جعشم زعيم مدلج أي: سيد مدلج. فإن قريشا خافت على نسائها وأموالها من بني مدلج لخلافٍ كان بينهم، فجاءهم الشيطان في صورة سراقة ليطمئنُّوا، ثم هرب لما اشتد القتال ﴿فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ هرب وتبرأ منهم وهذا من كيد الشيطان، يسعى جادًّا في الحث على الباطل وعلى الوقوع في المحرم وعلى مالا ينبغي ثم يترك من أغواه وشأنه ،كما أنه في الآخرة يتبرَّأُ ممن أطاعه .
وللمقداد بن الأسود رضي الله عنه قصة في وسوسة الشيطان له على شرب نصيب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من اللبن ثم تأنِيبُه على شُرْبِهِ .والحديث في صحيح مسلم (2055) عَنِ الْمِقْدَادِ، وفيه فَأَتَانِي الشَّيْطَانُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَقَدْ شَرِبْتُ نَصِيبِي، فَقَالَ: مُحَمَّدٌ يَأْتِي الْأَنْصَارَ فَيُتْحِفُونَهُ، وَيُصِيبُ عِنْدَهُمْ مَا بِهِ حَاجَةٌ إِلَى هَذِهِ الْجُرْعَةِ، فَأَتَيْتُهَا فَشَرِبْتُهَا، فَلَمَّا أَنْ وَغَلَتْ فِي بَطْنِي، وَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ إِلَيْهَا سَبِيلٌ، قَالَ: نَدَّمَنِي الشَّيْطَانُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ، مَا صَنَعْتَ أَشَرِبْتَ شَرَابَ مُحَمَّدٍ، فَيَجِيءُ فَلَا يَجِدُهُ فَيَدْعُو عَلَيْكَ فَتَهْلِكُ فَتَذْهَبُ دُنْيَاكَ وَآخِرَتُكَ، وَعَلَيَّ شَمْلَةٌ إِذَا وَضَعْتُهَا عَلَى قَدَمَيَّ خَرَجَ رَأْسِي، وَإِذَا وَضَعْتُهَا عَلَى رَأْسِي خَرَجَ قَدَمَايَ، وَجَعَلَ لَا يَجِيئُنِي النَّوْمُ ) الحديث .
فهذه عادة الشيطان الحث على المخالفة، وأن الفعل هو عين الصواب، فإذا وقع فيه ندَّمه وأنَّبَه لماذا فعلت؟ هذا لا يجوز، أو هذا لا يليق ، ليس حبًا في الخير، ولكنه من كيد الشيطان، ومن مكره، وخداعه وخُبثه ، أنه في أول الأمر يحث ويحرِّض وبعد الوقوع فيه يُحَزِّن ويُؤَنِّب على أن الفعل خطاٌ ، ولا مفر ولا عصمة لنا منه إلا بذكر الله عز وجل .
(وقاتلت الملائكة كما أمرها الله، وكان الرجل من المسلمين يطلب قِرْنَه، فإذا به قد سقط أمامَه).
بمَدَدٍ من الله سبحانه لا يطلب المسلمُ واحدًا من المشركين إلا ويسقط قبل أن يصل إليه؛ لأن الملائكة جنود من جنود الرحمن نزلوا في غزوة بدر تأييدًا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ونصرة للدين مع أن المسلمين كانوا قلة لكن هذا من رحمة الله عز وجل قال الله: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)﴾ [آل عمران].
(أَذِلَّةٌ) أي: قلة. (إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ) أي: بشارة لكم. (وما النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ): لا بكثرة عَدَدٍ ولا عُدَدٍ .
وأخرج مسلم في صحيحه (1763) الحديث وفيه: بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ، إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ وَصَوْتَ الْفَارِسِ يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ، فَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ، وَشُقَّ وَجْهُهُ، كَضَرْبَةِ السَّوْطِ فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ، فَجَاءَ الْأَنْصَارِيُّ، فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «صَدَقْتَ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ».
*****************************
منح الله المسلمين أكتاف المشركين، فكان أول من فرَّ منهم خالد بن الأعلم فأُدرك فأُسر، وتبعهم المسلمون في آثارهم، يقتلون ويأسرون، فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين، وأخذوا غنائمهم. فكان من جملة من قُتل من المشركين ممن سمَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم موضعَه بالأمس: أبو جهل، وهو أبو الحكم عمرو بن هشام لعنه الله، قتله معاذ بن عمرو بن الجموح، ومُعَوِّذ بن عفراء، وتمَّم عليه عبد الله مسعود، فاحتزَّ رأسه وأتى به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فسُرَّ بذلك.
وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، فأمر بهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فسُحبوا إلى القليب، ثم وقف عليهم ليلاً، فبكَّتهم وقرَّعهم، وقال: «بئس عشيرةُ النبي كنتم لنبيكم، كذَّبتموني وصدَّقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس ـ وأخرجتموني وآواني الناس» .
*****************************
هذه هزيمة عظيمة للمشركين انهزموا، وفرُّوا، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون.
(فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين، وأخذوا غنائمهم)
هذا عدد قتلى المشركين يوم بدر وعدد أسرى المشركين يوم بدر.
(فكان من جملة من قتل من المشركين ممن سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم موضعه بالأمس)
بعد أن ذكررحمه الله أنه قُتل من المشركين سبعون ذكر هنا عددًا ممن قُتل .
أبو جهل قُتل في موضعه ومصرعه الذي كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد أخبر أنه سيُقتل فيه.
(أبو جهل وهو أبو الحكم عمرو بن هشام لعنه الله، قتله معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعوذ بن عفراء، وتمَّم عليه عبد الله مسعود، فاحتزَّ رأسه وأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسُر بذلك)
(أبو جهل وهو أبو الحكم) كانوا يكنونه أبا الحكم وكناه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أبا جهل.
(احتزَّ) أي: قطع.
وقصةُ قتل أبي جهل في البخاري (3141) ومسلم(1752) عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: " بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، فَإِذَا أَنَا بِغُلاَمَيْنِ مِنَ الأَنْصَارِ - حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا - فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَئِنْ رَأَيْتُهُ لاَ يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّا، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الآخَرُ، فَقَالَ لِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ، قُلْتُ: أَلاَ إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي سَأَلْتُمَانِي، فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا، فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلاَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَاهُ فَقَالَ: «أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟» ، قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ، فَقَالَ: «هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟» ، قَالاَ: لاَ، فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ، فَقَالَ: «كِلاَكُمَا قَتَلَهُ، سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ» ، وَكَانَا مُعَاذَ ابْن عَفْرَاءَ، وَمُعَاذ بْن عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ " .
وهذا دليلٌ أن الذي أثخن قتل أبي جهلٍ هو معاذ بن عمرو بن الجموح لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قضى بالسلَبِ له ،ومعاذ بن عفراء شاركه في قتل أبي جهلٍ .
وظاهرروايةُ الصحيحين يخالف ما ذكره ابنُ كثيرأن الذي قتل أباجهل معاذُ بن عمرو ومعوِّذ ابن عفراء ففيه (وَكَانَا مُعَاذَ ابْن عَفْرَاءَ، وَمُعَاذَ بْن عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ) .
قال الحافظ في فتح الباري (3964) :يُحْتَمَلُ أَنْ يكون معَاذ بن عَفْرَاءَ شَدَّ عَلَيْهِ مَعَ مُعَاذِ بْنِ عَمْرٍو كَمَا فِي الصَّحِيحِ وَضَرَبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مُعَوِّذٌ حَتَّى أثْبته ثمَّ حزَّ رَأسَه ابنُ مَسْعُودٍ فَتُجْمَعُ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا .اهـ.
وفي البخاري(3963) ومسلم (1800) عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: «مَنْ يَنْظُرُ مَا فَعَلَ أَبُو جَهْلٍ» . فَانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَدَ فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، فَقَالَ: أَنْتَ أَبَا جَهْلٍ؟ قَالَ: وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلَهُ قَوْمُهُ أَوْ قَالَ: قَتَلْتُمُوهُ .
في هذه الرواية جعلهما ابنين لعفراء قال الحافظ في فتح الباري (3964) وعفراء والدة معاذ واسم أبيه الحارث وأما ابن عمرو بن الجموح فليس اسم أمه عفراء ثم ذكر أنه إنما أُطلق عليه –أي أُطلِق على معاذ بن عمرو- تغليبا وذكر بعض الاحتمالات الأُخرى .
و لما فرَّ المشركون مهزومِين، وبردت الحرب، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: من ينظر لنا أبو جهل .روى البخاري(3962) ومسلم (1800) عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَنْظُرُ مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ» . فَانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَدَ، قَالَ: أَأَنْتَ أَبُو جَهْلٍ؟ قَالَ: فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، قَالَ: وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ، أَوْ رَجُلٍ قَتَلَهُ قَوْمُهُ .
يقولُ ابن مسعودٍ (أَأَنْتَ أَبُو جَهْلٍ؟)قال الحافظ : وَخَاطَبَهُ بِذَلِكَ مُقَرِّعًا لَهُ وَمُتَشَفِّيًا مِنْهُ لِأَنَّهُ كَانَ يُؤْذِيهِ بِمَكَّةَ أَشَدَّ الْأَذَى .اهـ.
وقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ كما في السيرة لابن هشام(1/ 636) : وَزَعَمَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ:قَالَ لِي: لَقَدْ ارْتَقَيْتَ مُرْتَقًى صَعْبًا يَا رُوَيْعَ الْغَنَمِ قَالَ: ثمَّ احتززت رَأْسَهُ ثُمَّ جِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحديث .
وهذا فيه من لم يُسَمَّ فإسناده ضعيف .
ومن الذين قُتلوا في غزوة بدرٍعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف.
وهؤلاء كلهم من رؤساء كفارقريش وهم الذين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين تمالئوا عليه وكان يصلي فانبعث أشقاهم وهو عقبة بن أبي معيط ووضع السَّلَى على ظهر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يصلي فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقال: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ، وَعَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ» الحديث.
وقد قتلوا في بدر شر قِتْلَة .
و أمية بن خلف، قد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبر أنه سيقتله كما في صحيح البخاري (3632)وفيه دليلٌ من دلائل النبوة أخبر أنه سيقتلُ أميةَ بن خلف فقُتِلَ في غزوة بدرٍ .
ولما رآه بلال بن رباح رضي الله عنه في غزوة بدر قَالَ: «لاَ نَجَوْتُ إِنْ نَجَا أُمَيَّةُ» رواه البخاري (3971).
*****************************
ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرْصة ثلاثاً.
ثم ارتحل بالأُسارى والمغانم، وقد جعل عليها عبد الله بن كعب بن عمرو النجاري. وأنزل الله في غزوة بدر سورة الأنفال، فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفراء قسم المغانم كما أمره الله تعالى، وأمر بالنضر بن الحارث فضُربت عنقه صبْراً، وذلك لكثرة فساده وأذاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرثَتْه أخته، وقيل ابنته قتيلة بقصيدة مشهورة ذكرها ابن هشام، فلما بلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما زعموا: «لو سمعتُها قبل أن أقتله لم أقتله» .
ولما نزل عِرْقَ الظُّبْية أمر بعقبة بن أبي معيط فضربت عنقه أيضاً صبراً.
*****************************
(بالعرْصة ثلاثا) أي: ساحة بدر .
بعد أن انصرف المشركون وبردت الحرب أقام صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ساحة بدر ثلاثة أيام ثم رجع إلى المدينة .
وهذا كان يفعله النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا ظَهَرَ وانتصَرَ على قومٍ .
كما في صحيح البخاري(3065)عَنْ أَبِي طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ كَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالعَرْصَةِ ثَلاَثَ لَيَالٍ».
قال الحافظ ابن حجر : قَالَ الْمُهَلَّبُ حِكْمَةُ الْإِقَامَةِ لِإِرَاحَةِ الظَّهْرِ وَالْأَنْفُسِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّهُ إِذَا كَانَ فِي أَمْنٍ مِنْ عَدُوٍّ وَطَارِقٍ .وَقَالَ ابن الْجَوْزِيِّ إِنَّمَا كَانَ يُقِيمُ لِيُظْهِرَ تَأْثِيرَ الْغَلَبَةِ وَتَنْفِيذَ الْأَحْكَامِ وَقِلَّةَ الِاحْتِفَالِ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ مَنْ كَانَتْ فِيهِ قُوَّةٌ مِنْكُمْ فَلْيَرْجِعْ إِلَيْنَا وَقَالَ ابن الْمُنَيِّرِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنْ تَقَعَ ضِيَافَةُ الْأَرْضِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا الْمَعَاصِي بِإِيقَاعِ الطَّاعَةِ فِيهَا بِذِكْرِ اللَّهِ وَإِظْهَارِ شِعَارِ الْمُسْلِمِينَ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الضِّيَافَةِ نَاسَبَ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهَا ثَلَاثًا لِأَنَّ الضِّيَافَةَ ثَلَاثَةٌ .اهـ .
و قبل الخروج من بدرٍ ألقيَتْ جيفُهم في بئرٍ لئلا يتأذى بنتنهم الناس أخرج الإمامُ مسلم (2874) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عَلَيْهِمْ فَنَادَاهُمْ، فَقَالَ: «يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا» فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ يَسْمَعُوا وَأَنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا؟ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا» ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا، فَأُلْقُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ .
و فيه أنه لم يخرج صلى الله عليه وعلى آله وسلم من بدرٍ حتى وبَّخَ وقرَّع قتلى كفار قريش . وأخرج البخاري(3976) عن أبي طلحة الحديث وفيه : فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ اليَوْمَ الثَّالِثَ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحْلُهَا، ثُمَّ مَشَى وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ، وَقَالُوا: مَا نُرَى يَنْطَلِقُ إِلَّا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ: «يَا فُلاَنُ بْنَ فُلاَنٍ، وَيَا فُلاَنُ بْنَ فُلاَنٍ، أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟» قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لاَ أَرْوَاحَ لَهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ» .
(وأنزل الله في غزوة بدر سورة الأنفال)
وهذه فائدة أن سورة الأنفال نزلت في وقعة بدر وهذا ثابت في صحيح البخاري (4645) عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: سُورَةُ الأَنْفَالِ، قَالَ: «نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ».
وههنا بعضُ الأمور التي كانت في أثناء رجوع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من غزوة بدرٍ .
ولما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالصفراء قسم المغانم كما أمر الله تعالى في قوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنفال:41].
(وأمر بالنضر بن الحارث فضُربت عنقُه صَبراً)
الصبر: قال ابنُ الأثير في النهاية : هُوَ أَنْ يُمسَك شيءٌ من ذوات الرُّوح حيَّا ثم يُرْمى بِشَيْءٍ حَتَّى يَمُوتَ.
وهذا من أشدِّ أنواع التعذيب لأنه قد تتأخر وفاتُه .
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند ارتحاله من بدر إلى المدينة كان النضر بن الحارث وعقبة ابنُ أبي معيط ممن حُمِلَ أَسيرا وفي الطريق أَمر بضرب عنُقِهما أمر بضرب عنق النضر بن الحارث وقدكان شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وللصحابة فأمربه فضربت عنقه صبرًا.
ولما نزل عرق الظُّبية وعِرْقُ الظُّبْيَة بِضَمِّ الظَّاءِ موضعٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أميالِ مِنَ الرَّوحَاء، بِهِ مَسْجدٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في النهاية.
أمربضرب عنق عقبة بن أبي معيط، وعقبة بن أبي معيط كان شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو الذي انبعث ووضع السَّلَى على ظهر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جاء التصريحُ باسمه في صحيح مسلم (1794)عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدٌ وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ، إِذْ جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ بِسَلَا جَزُورٍ، فَقَذَفَهُ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ الحديث .وهو عند البخاري لكن من دون ذكر مَن فعل ذلك .
ومرةً خنقَ رسولَ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم خنقا شديدا وهو يصلي أخرج البخاري في صحيحه (3678،3856،4815) عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، عَنْ أَشَدِّ مَا صَنَعَ المُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: رَأَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ، جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي، " فَوَضَعَ رِدَاءَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ بِهِ خَنْقًا شَدِيدًا، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَفَعَهُ عَنْهُ، فَقَالَ:﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [غافر: 28].
قال الحافظ ابنُ كثير رحمه الله في البداية والنهاية (3/ 306 )قُلْتُ: كَانَ هَذَانِ الرَّجُلَانِ مِنْ شَرِّ عِبَادِ اللَّهِ وَأَكْثَرِهِمْ كُفْرًا وَعِنَادًا وَبَغْيًا وَحَسَدًا وَهِجَاءً لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ لَعَنَهُمَا اللَّهُ وَقَدْ فَعَلَ.اهـ .
*****************************
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه في الأسارى: ماذا يصنع بهم؟ فأشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأن يُقتلوا، وأشار أبو بكر رضي الله عنه بالفِداء، وهوِي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، فحلَّلَ لهم ذلك وعاتب الله في ذلك بعض المعاتبة في قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾الآيات.
وقد روى مسلم في صحيحه «عن ابن عباس رضي الله عنهما حديثاً طويلاً فيه بيان هذا كله، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أربعمائة أربعمائة» .
ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مؤَيَداً مظَفَّراً منصُوراً، قد أعلى الله كلمته، ومكَّن له، وأعزَّ نصره، فأسلم حينئذ بشرٌ كثيرٌ من أهل المدينة .
ومن ثَمَّ دخل عبد الله بن أبي بن سلول وجماعتُه من المنافقين في الدين تقية.
*****************************
وبعد ذلك استشار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصحابه في الأسارى ماذا يفعل بهم، والأسارى سبعون موثقون إلا أنه قد قُتل منهم النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط أثناء الرجوع إلى المدينة. فاستشار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصحابه ماذا يصنع بهم .
روى الإمامُ مسلم في صحيحه (1763) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا أَسَرُوا الْأُسَارَى، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ: «مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى؟» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا نَبِيَّ اللهِ، هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ، أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً فَتَكُونُ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ، فَعَسَى اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟» قُلْتُ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ، وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُمَكِّنَّا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ، فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنِّي مِنْ فُلَانٍ نَسِيبًا لِعُمَرَ، فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا، فَهَوِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جِئْتُ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ؟ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمِ الْفِدَاءَ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ - شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾ [الأنفال: 67] إِلَى قَوْلِهِ ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا﴾ [الأنفال: 69] فَأَحَلَّ اللهُ الْغَنِيمَةَ لَهُمْ .
وكان اختيار الفداء رحمةً ورغبة في الخير فإنهم قد يسلمون وينصرون الإسلام فبعد ذلك أنزل الله عز وجل القرآن عتابًا، فقال سبحانه: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال:67]. وكان الله سبحانه وتعالى يريد إثْخانَ الأعداء بالقتل ولهذا أنزل العتاب .
وفي غزوة أُحُدٍ قال سبحانه { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } مثليها أي في غزوة بدرٍ قُتِل من المشركين سبعون وأُسِر سبعون . وسيأتي إن شاءالله في غزوة أُحُدٍ
وكان من جملة من فدى نفسَه العباس بن عبد المطلب فإنه كان من الأسارى.
وثبت في صحيح البخاري (3048) عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رِجَالًا مِنَ الأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ فَلْنَتْرُكْ لِابْنِ أُخْتِنَا عَبَّاسٍ فِدَاءَهُ، فَقَالَ: «لاَ تَدَعُونَ مِنْهَا دِرْهَمًا» .
ففدى العباسُ نفسَه وفدى عقيلَ ابن أبي طالب وهذا في صحيح البخاري (421) معلقا .لكن قد وصله أبونعيم في مستخرجه والحاكم في مستدركه كما فتح الباري . قال الحافظ وكانَ عقيلٌ أُسِر مع عمه العباس في غزوة بدرٍ .
وجاء جماعةٌ من المشركين يطلبون فداء أُسارى بدرٍ منهم جبير بن مطعم وحديثه في البخاري (3050) .
ولم ينسَ صلى الله عليه وعلى آله وسلم الجميل للمطعم بن عدي والد جبير ثبت في صحيح البخاري (3139)عن جبير بن مطعم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ: «لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلاَءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ».وذلك لأن المطعم بن عدي أجار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أي جعله في جواره لما رجع من الطائف فدخل صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أمان كافر.
وأيضا كان له يدٌ في نقض الصحيفة وقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كريما يكافئ المعروف بالمعروف والجميل بالجميل فأراد لو كان المطعم حيا لأَطلَقَ الأسارى من أجله من غير فداءٍ، وهذا من حفظه للمعروف حتى مع الأعداء .وقد تقدم هذا في أوائل البِعْثةِ النبوية من الفصول .
وقد قيل هذا وقيل هذا قيل : السبب هو الجُوار وقيل : السبب نقض الصحيفة قال الزرقاني رحمه الله في شرحه على المواهب اللُّدنية(2/67) ولا مانع أنه لكليهما .قال :وسماهم نتنى لكفرهم؛ كما في النهاية وغيرها. قال :وهذا من شيمه صلى الله عليه وسلم الكريمة تذكَّر وقت النصر والظفَر للمطعم هذا الجميل .اهـ .
(ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مؤيَّداً مظفَّراً منصُوراً)
غزوة بدر الكبرى فيها نصر الله دينه وأعلى كلمته وأذل الكفر وأهله .
(ومن ثمَّ دخل عبد الله بن أبي بن سلول وجماعته من المنافقين في الدين تقية)
أي: بعد وقعة بدر الكبرى دخل عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه في الدين تقية، أسلموا في الظاهر تقية خوفًا على أنفسهم، وأموالهم، وأولادهم، ونسائهم. وقد تقدم معنا أنه أول ما ظهر النفاق بعد غزوة بدر.
*****************************
فصل ـ عدة أهل بدر
وجملة من حضر بدراً من المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً: من المهاجرين ستة وثمانون رجلا، ومن الأوس أحد وستون رجلاً ومن الخزرج مائة وسبعون رجلاً. وإنما قل عدد رجال الأوس عن عدد الخزرج وإن كانوا أشد منهم وأصبر عند اللقاء، لأن منازلهم كانت في عوالي المدينة فلما ندبوا للخروج تيسر ذلك على الخزرج لقرب منازلهم.
وقد اختلف أئمة المغازي والسير في أهل بدر: في عدتهم، وفي تسمية بعضهم، اختلافاً كثيراً، وقد ذكرهم الزهري، وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحق بن يسار، ومحمد بن عمر الواقدي، وسعيد بن يحيى الأموي في مغازيه، والبخاري، وغير واحد من المتقدمين، وقد سردهم ـ كما ذكرتهم ـ ابن حزم في كتاب السيرة له، وزعم أن ثمانية منهم لم يشهدوا بدراً بأنفسهم وإنما ضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسهمهم، فذكر منهم: عثمان وطلحة وسعيد بن زيد. ومن أجَلِّ من اعتنى بذلك من المتأخرين الشيخ الإمام الحافظ ضياء الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي رحمه الله تعالى، فأفرد لهم جزءاً وضمَّنه في أحكامه أيضاً. وأما المشركون فكانت عدتهم كما قال صلى الله عليه وسلم ما بين التسعمائة إلى الألف. وقُتل من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلاً: ستة من المهاجرين، وستة من الخزرج، واثنان من الأوس. وكان أول قتيل يومئذ مِهْجع مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقيل رجل من الأنصار اسمه حارثة بن سراقة. وقتل من المشركين سبعون، وقيل: أقل، وأسر منهم مثل ذلك أيضاً. وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأن بدرٍ والأسرى في شوال.
*****************************
في هذا الفصل عدد من حضر بدرا من المسلمين والمشركين.
انتهينا من غزوة بدرٍ الكبرى ونسأل الله البركة.
واستفدنا فوائد عظيمة من هذه الغزوة .
منها :
1- بيان أن المآل للمتقين فكم تكبَّر كفارُ قريش وآذوا وفتنوا وكان مآلهم إلى الذلة وإلى القتل والسبي ثم النار أعاذنا الله منها.
2-إثبات عدة معجزات لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
3-أنه ليس الغلبة والنُّصرةُ بالكثرة وقد قال تعالى { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }.فعدد المسلمين في غزوة بدرٍ ثلاثمائة وبضعة عشر وعددالمشركين ألف .
4-أن غزوة بدرٍ كانت على غير ميعاد وإنما خرج رسول الله لتلقي عير قريش فجمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد.
5-الخبرة والسياسة في أمر الحروب واستشارة الإمام أصحاب الرأي من أصحابه ووعظهم وتوعيتهم وترغيبهم قبل البدء في القتال .
6-الابتهال والتضرع وكثرة الذكر والدعاء عند الجهاد .
7-فضيلة للأنصار، سعد بن معاذ يقول للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه .
8-فضيلة لعلي وحمزة وعُبيدة رضي الله عنهم وأن مبارزتهم أول مبارزةٍ وقعت في الإسلام .
9-نزولُ المدد الإلهي للجيش وتعزيزهم بالملائكة فكان مِن المشركين مَن يسقط أمام المسلم قبل أن يقتله وهذا من آيات الله .
إلى غير ذلك مما سنذكره إن شاء الله في المختصَر وما توفيقنا إلا بالله وهو حسبنا ونعم الوكيل .[
ابو محمد العيد
2016-02-03, 11:25
بارك الله فيك
غربي قادة
2016-02-03, 12:26
اللهم صل و سلم و بارك على سيدنا محمد و على اله و صحبه اجمعين
أم سمية الأثرية
2016-02-09, 10:38
بارك الله فيك
اللهم صل و سلم و بارك على سيدنا محمد و على اله و صحبه اجمعين
وفيكم بارك الله
اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم ، وبارك على محمد و على آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم فى العالمين، إنك حميد مجيد
أم سمية الأثرية
2016-02-09, 10:52
الدرس الرابع عشر من / الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه و وسلم 30 من شهر ربيع الثاني 1437.
بسم الله الرحمن الرحيم
فائدة
كان الوالد الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله يقول عن فتح الباري: (إنه مكتبة) ويقول: (إنه خزانة علم).
*******************************
قال الحافظ ابنُ كثيرٍ رحمه الله
فصل ــ [غزوة بني سليم]
ثم نهض بنفسه الكريمة صلى الله عليه وسلم بعد فراغه بسبعة أيام لغزو بني سليم، فمكث ثلاثاً ثم رجع ولم يلق حرباً، وقد كان استعمل على المدينة سباع بن عرفطة وقيل ابن أم مكتوم.
*******************************
ما بين القوسين من العناوين ليس من صنع الحافظ ابن كثير رحمه الله ،الكتاب عبارة عن فصول .
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما رجع من غزوة بدر إلى المدينة مكث سبعة أيام، ثم خرج لغزو بني سُليم فمكث ثلاثًا، ثم رجع صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم يلق حربًا هذا حاصل غزوة بني سُليم.
*******************************
فصل [غزوة السويق]
ولما رجع أبو سفيان إلى مكة وأوقع الله في أصحابه ببدر بأسَه، نذَر أبو سفيان ألا يمس رأسه بماء حتى يغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج في مائتي راكب، فنزل طرف العريض وبات ليلة واحدة في بني النضير عند سلام بن مشكم، فسقاه وبطن له من خبر الناس، ثم أصبح في أصحابه، وأمر فقطع أصواراً من النخل، وقتل رجلاً من الأنصار وحليفاً له ثم كر راجعاً.
ونَذِر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج في طلبه والمسلمون فبلغ قرقرة الكدر، وفاته أبو سفيان والمشركون، وألقوا شيئاً كثيراً من أزوادهم، من السويق، فسميت غزوة السويق، وكانت في ذي الحجة من السنة الثانية للهجرة، ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقد كان استخلف عليها أبا لبابة.
*******************************
هذه الغزوة بعد بدر بشهرين. غزوة بدر في رمضان، وهذه الغزوة في ذي الحجة في السنة الثانية.
وسبب هذه الغزوة أن أبا سفيان خرج في مائتي راكب متحمِّسًا لقتال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ وذلك لما وقع في غزوة بدر من الأسر والقتل في المشركين فخرج أبو سفيان فيمائتي راكب فعلم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وخرج لقتاله والمسلمون.
ولما قدم أبو سفيان بات ليلة واحدة في بني النضير. وبنو النضير إحدى طوائف اليهود الثلاث الذين وادعوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (وهم بنو النضير، وبنو قريظة، وبنو قينقاع) وهم قبائل كبيرة من اليهود
(فنزل طرف العريض وبات ليلة واحدة في بني النضير عند سلام بن مشكم)
استضاف أبا سفيان سلام بن مشكم اليهودي.
(فسقاه وبطن له من خبر الناس)
(فسقاه) أي: سقاه خمرًا. وبطن له من أسرار الناس.
(أصواراً من النخل، وقتل رجلاً من الأنصار وحليفاً له ثم كر راجعاً)
النخل الصغار، ووجد رجلًا من الأنصار من صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وحليفًا له في حرثٍ فقتلهما ثم رجع أبو سفيان.
فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم علم به، قال: (ونَذِر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج في طلبه والمسلمون فبلغ قرقرة الكدر)
(نَذِر به) قال ابن الأثير في النهاية(5/ 39): "ونَذِرْتُ بِهِ، إِذَا علِمت".
فخرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في طلبه، ثم هربوا وكانوا متزودين بالسويق فتركوا ما معهم ليخف حملهم. ومن ثَمَّ سميت هذه الغزوة غزوة السويق.
السويق: الحنطة والشعير يُحمَّص ثم يطحن هذا يقال له: سويق. يُحمَّص: أي يقلى. حمَّصَهُ: أي قلاه.
ثم رجع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى المدينة وكان استخلف عليها أبا لبابة رضي الله عنه .
وغزوة السويق عندنا في (الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم) خاتمة الكلام في وقائع وأمورالسنة الثانية للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم .
ومما كان أيضا في السنة الثانية للهجرة:
1. زواج علي بن أبي طالب بفاطمة كان هذا بعد بدر، والحديث ثابت في الصحيحين .
2. وَتُوفِيَ بَعْدَ وَقْعَةِ بدرٍ بِيَسِيرٍ أَبُو لَهَبٍ عبد العزى بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ .
واستفدنا خيرًا كبيرا، والكتاب مختصر؛ ولكنه اشتمل على خير كبير.
3 ومن هذه الأمور التي استفدناها في وقائع وأمور السنة الثانية من الهجرة غزوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم غزوة الأبواء، والعشير، بواط، بدر الأولى وغزوة بدر العظمى ،مقتل مجموعة من رؤوس الكفر في غزوة بدرٍ العظمى
، وبعض بعوثات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتحويل القبلة، وفرضية صوم رمضان، وفرضية صدقة الفطر، وعلى قولٍ فرض الزكاة على قول الجمهور.
4. وأيضًا مما ذكروا في السنة الثانية من الهجرة أنه زيد في صلاة الحضر وفي صحيح البخاري (3935)وصحيح مسلم(685) عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهَا قَالَتْ: «فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ».
*******************************
فصل [غزوة ذي أمَر]
ثم أقام صلى الله عليه وسلم بقية ذي الحجة ثم غزا نجداً يريد غطَفان، واستعمل على المدينة عثمان بن عفان رضي الله عنه، فأقام بنجد صفَراً من السنة الثانية كلَّه، ثم رجع ولم يلق حرباً
فصل [غزوة بُحران]
ثم خرج صلى الله عليه وسلم في ربيع الآخر يريد قريشاً، واستخلف ابنَ أُمِّ مكتوم فبلغ بُحْران مَعْدِناً في الحجاز، ثم رجع ولم يلقَ حرباً.
*******************************
من غزوة ذي أَمَرّ نبدأ بعون الله ومشيئته -ولن يُدرَكَ خيرٌ إلا بعونه سبحانه وتوفيقه -في السنة الثالثة من الهجرة النبوية .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (4/3):سنة ثلاث من الهجرة
فِي أَوَّلِهَا كَانَتْ غَزْوَةُ نَجْدٍ وَيُقَالُ لَهَا غَزْوَةُ ذِي أَمَرَّ.اهـ.
هذان فصلان . الفصل الأول في غزوة ذي أَمَر. لما رجع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من غزوة السويق أقام بقية ذي الحجة بالمدينة ثم غزا غطفان، واستعمل على المدينة عثمان بن عفان رضي الله عنه أي: جعله نائبًا عنه.
(فأقام بنجد صفراً من السنة الثانية كلَّه)
(كله) تأكيدًا لصفر، أقام شهرًا كاملًا.
ثم رجع ولم يلق حربا .
وغزوة بُحران كانت بعد غزوةِ ذي أمَر وقد كانت غزوة بُحران في ربيع الآخرخرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم رجع ولم يلقَ حربا.
*******************************
فصل [غزوة بني قينُقاع]
ونقض بنو قينقاع ـ أحد طوائف اليهود بالمدينة ـ العهد وكانوا تجَّاراً وصاغة، وكانوا نحو السبعمائة مقاتل، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم لحصارهم، واستخلف على المدينة بشير بن عبد المنذر، فحاصرهم صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة، ونزلوا على حكمه صلى الله عليه وسلم، فشفع فيهم عبد الله بن أبي بن سلول، لأنهم كانوا حلفاء الخزرج، وهو سيد الخزرج، فشفَّعه فيهم بعد ما ألحَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا في طرف المدينة.
*******************************
هذه غزوة بني قينقاع،وقد ذكر الحافظ في فتح الباري أن غزوة بني قينقاع كانت في شوال بعد بدر .اهـ .
وعلى هذا تكون هذه الغزوة في السنة الثانية ،بينما ذكرها ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (4/4)في أوائل السنة الثالثة من الهجرة .
لكن ذكر رحمه الله أنه زعم الواقدي أنها كانت في يوم السبت النصف من شوال سنة ثنتين من الهجرة قال فالله أعلم . اهـ .
وسببُ غزوة بني قريظة نقض بني قينقاع العهد الذي كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وقد جاء أن السبب في نقض العهد اعتداؤهم على امرأةٍ من نساء العرب.
قال ابن هشام في السيرة (2/ 47) وَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ، قَالَ: كَانَ مِنْ أَمْرِ بَنِي قَيْنُقَاعَ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ الْعَرَبِ قَدِمَتْ بِجَلَبٍ لَهَا، فَبَاعَتْهُ بِسُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَجَلَسَتْ إلَى صَائِغٍ بِهَا، فَجَعَلُوا يُرِيدُونَهَا عَلَى كَشْفِ وَجْهِهَا، فَأَبَتْ، فَعَمِدَ الصَّائِغُ إلَى طَرَفِ ثَوْبِهَا فَعَقَدَهُ إلَى ظَهْرِهَا، فَلَمَّا قَامَتْ انْكَشَفَتْ سَوْأَتُهَا، فَضَحِكُوا بِهَا، فَصَاحَتْ. فَوَثَبَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصَّائِغِ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ يَهُودِيًّا، وَشَدَّتْ الْيَهُودُ عَلَى الْمُسْلِمِ فَقَتَلُوهُ، فَاسْتَصْرَخَ أَهْلُ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْيَهُودِ، فَغَضِبَ الْمُسْلِمُونَ، فَوَقَعَ الشَّرُّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي قَيْنُقَاعَ.
وهذا لا يثبت .
أبوعون ذكر المزي رحمه الله في تهذيب الكمال ترجمة عَبد اللَّهِ بن جَعْفَر بن عَبْد الرحمن بن المسور بن مخرمة في سياق شيوخه قال : وأبي عون والد عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبي عَوْنٍ، مولى المسور بْن مخرمة .
وأبوعون نازل لاصحبة له .
وأما عَبدُ اللَّهِ بن جَعْفَر بن عَبْد الرحمن بن المسور فهو ليس به بأس .
ولو صح لكان فيه بيان نوع نقض بني قينقاع للصلح .
وجاء في سنن أبي داود(3001) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا أَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ جَمَعَ الْيَهُودَ فِي سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، أَسْلِمُوا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قُرَيْشًا» ، قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، لَا يَغُرَّنَّكَ مِنْ نَفْسِكَ أَنَّكَ قَتَلْتَ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا أَغْمَارًا، لَا يَعْرِفُونَ الْقِتَالَ، إِنَّكَ لَوْ قَاتَلْتَنَا لَعَرَفْتَ أَنَّا نَحْنُ النَّاسُ، وَأَنَّكَ لَمْ تَلْقَ مِثْلَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} [آل عمران: 12] قَرَأَ مُصَرِّفٌ إِلَى قَوْلِهِ {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران: 13] بِبَدْرٍ {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} [آل عمران: 13].
وهذا إسناده ضعيف ، فيه شيخ ابن إسحاق وهو مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مجهول .
وهذا تهديد من اليهود ولو ثبت لكان فيه تصريحٌ من اليهود بنقض الصلح .
وبنو قينقاع هم أول من نقض العهد من الطوائف الثلاثة .قال الحافظ في فتح الباري (4032)فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ مِنَ الْيَهُودِ بَنُو قَيْنُقَاعَ فَحَارَبَهُمْ فِي شَوَّالٍ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ وَأَرَادَ قَتَلَهُمْ فَاسْتَوْهَبَهُمْ مِنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَكَانُوا حُلَفَاءَهُ فَوَهَبَهُمْ لَهُ وَأَخْرَجَهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى أَذْرِعَاتَ ثُمَّ نَقَضَ الْعَهْدَ بَنُو النَّضِيرِ كَمَا سَيَأْتِي وَكَانَ رَئِيسهُمْ حُيَي بْن أَخَطْبَ ثُمَّ نَقَضَتْ قُرَيْظَةُ كَمَا سَيَأْتِي شَرْحُ حَالِهِمْ بَعْدَ غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ .اهـ .
بنو قينقاع لما قاتلهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كانوا سبعمائة مقاتل. فهزمهم الله وقذف في قلوبهم الرعب، وحاصرهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حصارًا شديدًا خمسة عشر يوما ، فنزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد حكم بأموالهم غنيمةً للمسلمين و كانوا صاغة وتجارا ، ولهم ذراريهم ونسائهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أراد قتلهم فشفَع فيهم عبدُ الله بن أبي بن سلول رئيس المنافقين شفع في بني قينقاع؛ لأنهم كانوا حلفاء الخزرج وابن أبي سلول خزرجي. وأما بنو النضير، وبنو قريظة فكانوا حلفاء الأوس.وجاء أنه قال ابن أُبَي قال : قَدْ مَنَعُونِي مِنَ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ تَحْصُدُهُمْ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ إِنِّي وَاللَّهِ امْرُؤٌ أَخْشَى الدَّوَائِرَ. قَالَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ لَكَ. ثم ترك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قتلهم ، وأجلاهم من المدينة فخرجوا من ديارهم وحصونهم .
ومن بني قينقاع عبدالله بن سلام تقدم ذكرُ إسلامه في وقائع السنة الأُولى من الهجرة .
*******************************
فصل ـ قتل كعب بن الأشرف
وأما كعب بن الأشرف اليهودي، فإنه كان رجلاً من طيء، وكانت أمُّه من بني النضير، وكان يؤذي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ويشبِّب في أشعاره بنساء المؤمنين، وذهب بعد وقعة بدر إلى مكة وألَّب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين، فندب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى قتله، فقال: من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله؟ فانتدب رجالٌ من الأنصار ثم من الأوس وهم محمد بن مسلمة، وعباد بن بشر بن وَقْش، وأبو نائلة، واسمه سِلكان بن سلامة بن وقش، وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة، والحارث بن أوس بن معاذ، وأبو عبس بن جبر، وأذن لهم صلى الله عليه وسلم أن يقولوا ما شاؤوا من كلام يخدعونه به، وليس عليهم فيه جناح، فذهبوا إليه واستنزلوه من أُطُمه ليلاً، وتقدَّموا إليه بكلامٍ موهمٍ للتعريض برسول الله صلى الله عليه وسلم، فاطمأنَّ إليهم، فلما استمكنوا منه قتلوه لعنه الله وجاؤوا في آخر الليل، وكانت ليلة مقمرةً، فانتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي، فلما انصرف دعا لهم، وكان الحارث بن أوس قد جُرح ببعض سيوف أصحابه، فتفل عليه الصلاة والسلام على جرحه فبرئ من وقته، ثم أصبح اليهود يتكلمون في قتله، فأذِن صلى الله عليه وسلم في قتل اليهود.
*******************************
هذا الفصل في قتل كعب الأشرف اليهودي، وكعب بن الأشرف أبوه من نبهان بطن من طيء وأمه من بني النضير الطائفة المعروفة من قبائل اليهود الكبار.
وبعد إجلاء بني قينقاع بقي بنوالنضيروبنو قريظة .
وكان كعب بن الأشرف شديد الأذى لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وبعد وقعة بدر ذهب إلى مكة وكان يُرثي قتلى قريش تحريضًا لقريش على مقاتلة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وكان من أذى كعب بن الأشرف أنه كان يُشَبِّب في أشعاره نساء الصحابة أي: يتغزل قال النووي رحمه الله (16/ 46): "أَمَّا قَوْلُهُ يُشَبِّبُ فَمَعْنَاهُ يَتَغَزَّلُ" .
وقصة قتله في صحيح البخاري (4037) قال: (بَابُ قَتْلِ كَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ) حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ»، فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: فَأْذَنْ لِي أَنْ أَقُولَ شَيْئًا، قَالَ: «قُلْ»، فَأَتَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ سَأَلَنَا صَدَقَةً، وَإِنَّهُ قَدْ عَنَّانَا وَإِنِّي قَدْ أَتَيْتُكَ أَسْتَسْلِفُكَ، قَالَ: وَأَيْضًا وَاللَّهِ لَتَمَلُّنَّهُ، قَالَ: إِنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاهُ، فَلاَ نُحِبُّ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ يَصِيرُ شَأْنُهُ، وَقَدْ أَرَدْنَا أَنْ تُسْلِفَنَا وَسْقًا أَوْ وَسْقَيْنِ - وحَدَّثَنَا عَمْرٌو غَيْرَ مَرَّةٍ فَلَمْ يَذْكُرْ وَسْقًا أَوْ وَسْقَيْنِ أَوْ: فَقُلْتُ لَهُ: فِيهِ وَسْقًا أَوْ وَسْقَيْنِ؟ فَقَالَ: أُرَى فِيهِ وَسْقًا أَوْ وَسْقَيْنِ - فَقَالَ: نَعَمِ، ارْهَنُونِي، قَالُوا: أَيَّ شَيْءٍ تُرِيدُ؟ قَالَ: ارْهَنُونِي نِسَاءَكُمْ، قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا وَأَنْتَ أَجْمَلُ العَرَبِ، قَالَ: فَارْهَنُونِي أَبْنَاءَكُمْ، قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ أَبْنَاءَنَا، فَيُسَبُّ أَحَدُهُمْ، فَيُقَالُ: رُهِنَ بِوَسْقٍ أَوْ وَسْقَيْنِ، هَذَا عَارٌ عَلَيْنَا، وَلَكِنَّا نَرْهَنُكَ اللَّأْمَةَ - قَالَ سُفْيَانُ: يَعْنِي السِّلاَحَ - فَوَاعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ، فَجَاءَهُ لَيْلًا وَمَعَهُ أَبُو نَائِلَةَ، وَهُوَ أَخُو كَعْبٍ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الحِصْنِ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: أَيْنَ تَخْرُجُ هَذِهِ السَّاعَةَ؟ فَقَالَ إِنَّمَا هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَأَخِي أَبُو نَائِلَةَ، وَقَالَ غَيْرُ عَمْرٍو، قَالَتْ: أَسْمَعُ صَوْتًا كَأَنَّهُ يَقْطُرُ مِنْهُ الدَّمُ، قَالَ: إِنَّمَا هُوَ أَخِي مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَرَضِيعِي أَبُو نَائِلَةَ إِنَّ الكَرِيمَ لَوْ دُعِيَ إِلَى طَعْنَةٍ بِلَيْلٍ لَأَجَابَ، قَالَ: وَيُدْخِلُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ مَعَهُ رَجُلَيْنِ - قِيلَ لِسُفْيَانَ: سَمَّاهُمْ عَمْرٌو؟ قَالَ: سَمَّى بَعْضَهُمْ - قَالَ عَمْرٌو: جَاءَ مَعَهُ بِرَجُلَيْنِ، وَقَالَ: غَيْرُ عَمْرٍو: أَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ، وَالحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ، وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَ عَمْرٌو: جَاءَ مَعَهُ بِرَجُلَيْنِ، فَقَالَ: إِذَا مَا جَاءَ فَإِنِّي قَائِلٌ بِشَعَرِهِ فَأَشَمُّهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمُونِي اسْتَمْكَنْتُ مِنْ رَأْسِهِ، فَدُونَكُمْ فَاضْرِبُوهُ، وَقَالَ مَرَّةً: ثُمَّ أُشِمُّكُمْ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ مُتَوَشِّحًا وَهُوَ يَنْفَحُ مِنْهُ رِيحُ الطِّيبِ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَاليَوْمِ رِيحًا، أَيْ أَطْيَبَ، وَقَالَ غَيْرُ عَمْرٍو: قَالَ: عِنْدِي أَعْطَرُ نِسَاءِ العَرَبِ وَأَكْمَلُ العَرَبِ، قَالَ عَمْرٌو: فَقَالَ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَشُمَّ رَأْسَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَشَمَّهُ ثُمَّ أَشَمَّ أَصْحَابَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَتَأْذَنُ لِي؟ قَالَ: نعَمْ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنَ مِنْهُ، قَالَ: دُونَكُمْ، فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ.
وأخرجه مسلم (1801) .
وهذه القصة فيها جواز اغتيال أئمة الكفر ولكن بشرط أمن الفتنة، فلا يفتح باب الثورات والفتن ، و يكون بأمر الأمير .
أم سمية الأثرية
2016-02-12, 20:51
(6) (التَّذْكِيْرُ بِسِيْرَةِ سَيِّدِ البَشَرِ)
اختصارُ درسِ الثالث عشر من (الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم)
* الْغَزَوَاتُ الْكِبَارُ الْأُمُّهَاتُ سَبْعٌ: بَدْرٌ، وَأُحُدٌ، وَالْخَنْدَقُ، وَخَيْبَرُ، وَالْفَتْحُ، وَحُنَيْنٌ، وَتَبُوكُ ذكره ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد.
* غزواتُ بدرٍ ثلاث: غزوة بدر الأولى، وغزوة بدر الكبرى، وغزوة بدر الأخرى.
* غزوة بدرٍ الكبرى: وهي الوقعةُ العظيمةُ التي فرَّق الله فيها بينَ الحق والباطل وأعزَّ الإسلامَ، ودمغ الكفرَ وأهلَه، وكانت في رمضان من السنة الثانية.
* سبب الغزوة: بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن عيراً عظيمة تحمِلُ أموالاً جزيلةً لقريش مقبلةً من الشام صحبةَ أبي سفيان، في ثلاثين أو أربعين رجلاً، ولم يخرج صلى الله عليه وعلى آله وسلم لقتال الكفار.
* عدد المسلمين يوم بدر والمشركين: ندب صلى الله عليه وسلم الناس للخروج إليها، وأمر من كان ظهرُه حاضراً بالنهوضِ، ولم يحتفلْ لها احتفالاً كثيراً، إلا أنه خرج في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ففي صحيح مسلم عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا.. الحديث . ولم يكن معه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الخيل سوى فرس الزبير، وفرس المقداد بن الأسود الكندي كذا يذكر أهل السير ، ولكنه جاء في مسند أحمد عَنْ عَلِيٍّ ابن أبي طالب رضي الله عنه : "...وَمَا كَانَ مِنَّا فَارِسٌ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرَ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ" والحديث في الصحيح المسند لوالدي رحمه الله . وقد جزم الحافظ في التقريب في المسألة وقال: لم يثبت أنه شهدها فارس غير المقداد.
وكان من الإبل سبعون بعيراً يعتقب الرجلان والثلاثة فأكثر على البعير الواحد.
حتى إنه ثبت في مسند أحمدعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كُنَّا يَوْمَ بَدْرٍ كُلُّ ثَلَاثَةٍ عَلَى بَعِيرٍ، كَانَ أَبُو لُبَابَةَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، زَمِيلَيْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَكَانَتْ عُقْبَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَقَالَا نَحْنُ نَمْشِي عَنْكَ، فَقَالَ: " مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّي، وَلَا أَنَا بِأَغْنَى عَنِ الْأَجْرِ مِنْكُمَا " .
* استخلاف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على المدينة: ابن أم مكتوم، ولما كان بالروحاء ردَّ أبا لبابة بن عبد المنذر.
* بعثُ ضمضمِ بن عمرو الغفاري إلى مكةَ مستصرخًا مستنجدًا بقريش: لما بلغ أبا سفيان مخرجُ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لتلقي العير بعث ضمضما فنفرَ قريش مسرعين لحماية أبي سفيان وقافلته. ولم يتخلف من أشرافهم إلا أبو لهب، وبنو عدي من قريش فوردوا ماء بدر وجمع الله بين المسلمين والمشركين على غير ميعاد، ولو كان بينهم ميعاد لاختلفوا وما يتم ما أراد الله سبحانه وتعالى ولله الحكمة البالغة، كما قال عز وجل: ﴿وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ [الأنفال:42]. وفي الصحيحين عن كَعْب بن مالك قال: "...حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ ..." الحديث.
* استشارة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصحابه لما بلغه خروج قريش: فتكلم كثير من المهاجرين فأحسنوا، ثم استشارهم وهو يريد ما يقول الأنصار. فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ كما في صحيح مسلم عَنْ أَنَسٍ بن مالك: "...فَقَالَ: إِيَّانَا تُرِيدُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبَحْرَ لَأَخَضْنَاهَا، وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَفَعَلْنَا...) الحديث.
وفي ذكر سعد بن عبادة في رواية مسلم إشكالٌ لأن سعدبن عبادة لم يشهد بدرا والمعروف أنه سعد بن معاذ .وقد قال الحافظ في فتح الباري (3952): وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَشَارَهُمْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ مَرَّتَيْنِ الْأُولَى وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ أَوَّلَ مَا بَلَغَهُ خَبَرُ الْعِيرِ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَلَفْظُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاوَرَ حِينَ بَلَغَهُ إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ وَالثَّانِيَةُ كَانَتْ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ وَوَقَعَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ ذَلِكَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَهَذَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ .اهـ.وهذا معدود في فضائل الأنصار وجاء أن المقداد بن الأسود قال للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "لاَ نَقُولُ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ، وَلَكِنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ، وَبَيْنَ يَدَيْكَ وَخَلْفَكَ «فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَقَ وَجْهُهُ وَسَرَّهُ» يَعْنِي: قَوْلَهُ" رواه البخاري .
* السبب في استشارة الأنصار: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بايع الأنصار على أن يؤووه، ويمنعوا منه كما يمنعون من نسائهم، وأنفسهم، وأموالهم، أي: في ديارهم. فلم يكن في البيعة الخروج من المدينة لغزو الكفار.
* قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ...﴾ [الأنفال:7].
(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) الطائفتان: العير والنفير. (العير) قافلة أبي سفيان، وكان معه عمرو بن العاص ومجموعة من أصحابه. (والنفير) الذي نفروا من مكة لحماية قافلة أبي سفيان.(فالرسول صلى عليه وعلى آله وسلم لما بلغه خروج النفير أوحى الله إليه يعده إحدى الطائفتين :إما العير وإما النفيركما في تفسير ابن كثير).
(وَتَوَدُّونَ) أي تتمنون. (أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) غير ذات الشوكةهي العير.
* السبب في ميل الصحابة لعير أبي سفيان: قال الحافظ ابن كثير في الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم (لأنه أخف مؤونة من قتال النفير من قريش لشدة بأسهم واستعدادهم لذلك)وقال ابن كثير في تفسير سورة الأنفال : لأنه كسبٌ بلا قتال.
* من دلائل النبوة في هذه الغزوة: تحقق ما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن العبدين اللذين مسكهما الصحابة ما عندهما علم بأبي سفيان لأنهما من النفير.
ومن المعجزات أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبر بمواضع مصرع صناديد قريش فلم يتجاوز أحد منهم ذلك الموضع.
* بعث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بسبس بن عمرو وعدي للاستطلاع على خبر قريش: فانطلق أبو سفيان إلى مكانهما وأخذ من بعر بعيرهما ففتَّه فوجد فيه النوى، فقال: والله هذه علائفُ يثربَ، فعدل بالعير إلى طريق الساحل، فنجا بقافلته وهذه من خبرة أبي سفيان. فأرسل إلى قريش ليعلمهم بالخبر وأمرَهم أن يرجعوا، فهمُّوا بالرجوع إلا أن أبا جهل رفض ذلك.
*رجوع الأخنس بن شريق: رجع بقومه بني زُهرة قاطبة ولم يشهد بدراً زهري إلا عَمَّا مسلم بن شهاب فإنهما شهداها يومئذ وقتلا كافرين.
* الحكمة من نزول المطر والنعاس في غزوة بدر: لقد غشي المسلمين النعاس وفي هذا حكمة عظيمة قال الحافظ ابن كثير في تفسير سورة الأنفال : وَكَأَنَّ ذلك كان سجية لِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ شِدَّةِ الْبَأْسِ لِتَكُونَ قُلُوبُهُمْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً بِنَصْرِ اللَّهِ. وَهَذَا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ وَنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ .اهـ.وأنزل الله من السماء ماءًعلى المسلمين تطهيرًا لباطنهم وظاهرهم وشدًّا لقلوبهم وتثبيتًا لأقدامهم ورحمةً بهم، قال سبحانه: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ﴾ [الأنفال:11].
* الابتهال والتضرع وكثرة الذكر والدعاء عند الجهاد: ولم ينمِ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليلة بدر كلَّها بقي يذكر الله ويدعو حتى أصبح. ثبت في مسند أحمد عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: «لَقَدْ رَأَيْتُنَا لَيْلَةَ بَدْرٍ، وَمَا مِنَّا إِنْسَانٌ إِلا نَائِمٌ، إِلا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي إِلَى شَجَرَةٍ، وَيَدْعُو حَتَّى أَصْبَحَ»، والحديث في الصحيح المسند للوالد رحمه الله.
* إصرار أبي جهل على عدم الرجوع: وفي ليلة بدر أراد حكيم بن حزام الرجوع هو وعتبة بن ربيعة فأصر أبو جهل وحرض أخا عمرو بن الحضرمي على طلب الثأر لأخيه وتفاعل المشركون ونشِبت الحرب.
* أول مبارزة وقعت في الإسلام: كانت في غزوة بدر كما في فتح الباري، وطلبَ المبارزة عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة. فبرز لهم علي وعبيدة بن الحارث وحمزة رضي الله عنهم.
* اشتداد القتال بين المسلمين والمشركين: ولما اشتد القتال اجتهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الدعاء، ثم أغفَى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءةً، ثم رفع رأسه وهو يقول: «أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثناياه النقع».
* ظهور الشيطان لقريش على صورة سراقة بن مالك ليطمئنُّوا: فإن قريشا خافت على نسائها وأموالها من بني مدلج لخلافٍ كان بينهم، ثم هرب لما اشتد القتال ﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ [الأنفال:48]. وذلك أنه رأى الملائكة حين نزلت للقتال ، جند من جنود الرحمن نزلوا في غزوة بدر تأييدًا ونصرة للدين وأهله.
*هزيمة المشركين وفرارهم: فتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون. فكان أول من فرَّ من كفار قريش خالد بن الأعلم فأُدرك فأُسر.
* عدد قتلى المشركين: قتل المسلمون منهم سبعين وأسروا سبعين، وأخذوا غنائمهم فكان من جملة من قُتل من المشركين ممن سمَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم موضعَه: أبو جهل لعنه الله قتله معاذ بن عمرو بن الجموح؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قضى بالسلَبِ له، وشارك في قتله مُعَوِّذ ومعاذ ابنا عفراء، وتمَّم عليه عبد الله مسعود، فاحتزَّ رأسه، وممن قتل أيضًا عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف.
* إقامته صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ساحة بدر ثلاثة أيام بعد أن انصرف المشركون وبردت الحرب: وألقيَتْ جيفُ قتلى المشركين في بئرٍ لئلا يتأذى بنتنهم الناس، ولم يخرج صلى الله عليه وعلى آله وسلم من بدرٍ حتى وبَّخَ وقرَّع قتلى كفار قريش أخرج الإمامُ مسلم (2874) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عَلَيْهِمْ فَنَادَاهُمْ، فَقَالَ: «يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا» الحديث.
* نزول سورة الأنفال في وقعة بدر: ثبت في صحيح البخاري عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: سُورَةُ الأَنْفَالِ، قَالَ: «نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ».
* بعضُ الأمور التي كانت في أثناء رجوع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من غزوة بدرٍ:
ـ ولما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالصفراء قسم المغانم كما أمر الله عز وجل.
ـ أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالنضر بن الحارث وعقبة ابنُ أبي معيط فضُربت عنقهما صَبراً.
* عدد مَن قُتِل من المسلمين: أربعة عشر رجلاً، ستة من المهاجرين، وستة من الخزرج، واثنان من الأوس. وكان أول قتيل يومئذ مِهْجع مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقيل رجل من الأنصار اسمه حارثة بن سراقة.
* استشارةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في الأسارى ماذا يصنع بهم؟ فأشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأن يُقتلوا، وأشار أبو بكر رضي الله عنه بالفِداء، وهوِي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر رحمةً ورغبةً في الخير فإنهم قد يسلمون وينصرون الإسلام فبعد ذلك أنزل الله عز وجل القرآن عتابًا، قال سبحانه: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال:67]. وكان الله سبحانه وتعالى يريد إثْخانَ الأعداء بالقتل ولهذا أنزلَ العتاب.
* دخول عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه في الدين تَقِيَّة: بعد وقعة بدر الكبرى، خوفًا على أنفسهم، وأموالهم، وأولادهم، ونسائهم ومِن حينها ظهر النفاق .
وقد أطلنا في هذا المختصرلطول الكلام عليها من أصله ،ولأنها جديرةٌ بالاهتمام لما فيها من الآيات والعلوم والعبَر .
أم سمية الأثرية
2016-02-16, 08:58
(7) (التَّذْكِيْرُ بِسِيْرَةِ سَيِّدِ البَشَرِ)
اختصارُ درسِ الرابع عشر من (الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم)
1. غزوةُ بني سليم: لما رجع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من غزوة بدر إلى المدينة مكث سبعة أيام، ثم خرج لغزو بني سُليم فمكث ثلاثًا، ثم رجع ولم يلق حربًا. واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة وقيل ابن أم مكتوم.
2. غزوة السويق: هذه الغزوة كانت في ذي الحجة في السنة الثانية. وسبب هذه الغزوة أن أبا سفيان خرج في مائتي راكب متحمِّسًا لقتال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ وذلك لِمَا وقع في غزوة بدر من الأسر والقتل فيهم . ولما قدم أبو سفيان بات ليلةً واحدة في بني النضير عند سلام بن مِشكم اليهودي. ثم أصبح في أصحابه، وأمر فقطع أصواراً من النخل –وهي صغار النخل -ووجد رجلًا من الأنصار من صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وحليفًا له في حرثٍ فقتلهما. فخرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في طلبه، ثم هربوا وكانوا متزودين بالسويق فتركوا ما معهم ليخف حملهم. ومن ثَمَّ سميت هذه الغزوة غزوة السويق. ثم رجع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى المدينة، وكان استخلف عليها أبا لبابة رضي الله عنه.
3. من وقائع وأمور السنة الثانية للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم:
- زواج علي بن أبي طالب بفاطمة كان هذا بعد بدر، والحديث ثابت في الصحيحين.
- وَتُوفِيَ بَعْدَ وَقْعَةِ بدرٍ بِيَسِيرٍ أَبُو لَهَبٍ عبد العزى بنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
- خلاصة مامر معنا من الوقائع والأمورفي السنة الثانية غزوة الأبواء، والعشير، بواط، بدر الأولى، وغزوة بدر العظمى، مقتل مجموعة كبيرة من رؤوس الكفر في غزوة بدرٍ العظمى، وبعض بعوثات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وفرضية صوم رمضان، وفرضية صدقة الفطر.
- غزوة بني سليم وغزوة السويق عندنا في (الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم) تعتبر خاتمة الكلام في وقائع وأمور السنة الثانية للهجرة.
- ومما ذكرأهل السير في السنة الثانية من الهجرة أنه زِيد في صلاة الحضر.
4. غزوة ذي أمَر: في أوائل السنة الثالثة من الهجرة النبوية قال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (4/3): "سنة ثلاث من الهجرة فِي أَوَّلِهَا كَانَتْ غَزْوَةُ نَجْدٍ وَيُقَالُ لَهَا غَزْوَةُ ذِي أَمَرَّ".اهـ.
لما رجع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من غزوة السويق أقام بقية ذي الحجة بالمدينة، ثم غزا غطفان وهي التي يقال لها غزوة ذي أمر، فأقام بنجد شهر صفر كاملًا، ثم رجع ولم يلق حرباً. واستعمل على المدينة عثمان بن عفان رضي الله عنه أي: جعله نائبًا عنه.
5. غزوة بُحران: كانت بعد غزوةِ ذي أمَر وقد كانت غزوة بُحران في ربيع الآخر خرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم رجع ولم يلقَ حربا. واستخلف ابنَ أُمِّ مكتوم.
6. غزوة بني قينُقاع: كانت في أوائل السنة الثالثة من الهجرة كما ذكرها ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية. وذكر رحمه الله أنه زعم الواقدي أنها كانت في يوم السبت النصف من شوال سنة اثنتين من الهجرة قال: فالله أعلم. اهـ. وجزم بذلك الحافظ في فتح الباري: "أن غزوة بني قينقاع كانت في شوال بعد بدر". اهـ.
- وسببُ غزوة بني قينقاع نقضهم العهد الذي كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
- وقد جاء أن السبب في نقض العهد اعتداؤهم على امرأةٍ من نساء العرب. وهذا لا يثبت ولو صح لكان فيه بيان سبب نقض بني قينقاع للصلح.
- وجاء أن اليهود قامت بتهديد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولكن لا يثبت سنده ولو ثبت لكان فيه تصريحٌ من اليهود بنقض الصلح.
- والحاصل أن سببه أذاهم للنبي صلى عليه وعلى آله وسلم .
وبنو قينقاع هم أول من نقض العهد من طوائف اليهود الثلاث الذين وادعوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم (وهم بنو النضير، وبنو قريظة، وبنو قينقاع). كانوا سبعمائة مقاتل. فهزمهم الله وقذف في قلوبهم الرعب، وحاصرهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حصارًا شديدًا خمسة عشر يوما، فنزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد حكم بأموالهم غنيمةً للمسلمين وكانوا صاغة وتجارا، ولهم ذراريهم ونساؤهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أراد قتلهم فشفَع فيهم عبدُ الله بن أبي بن سلول. فأجلاهم من المدينة.
وبعد إجلاء بني قينقاع بقي بنو النضير وبنو قريظة من طوائف اليهودالذين عاهدوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
7. قتل كعب بن الأشرف: كعب بن الأشرف اليهودي أبوه من نبهان بطن من طيء وأمه من بني النضير الطائفة المعروفة من قبائل اليهود الكبار. وكان كعب بن الأشرف شديد الأذى لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكان يُشَبِّب في أشعاره نساء الصحابة أي: يتغزل. وبعد وقعة بدر ذهب إلى مكة وكان يُرثي قتلى قريش تحريضًا لقريش على مقاتلة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ثم ندب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى قتله وقصة قتله جاءت في الصحيحين وفيها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله . وفي قصة قتله جواز اغتيال أئمة الكفر، ولكن بشرط أمن الفتنة، فلا يفتح باب الثورات والفتن، و يكون بأمر الأمير.
والله أعلم .
أم سمية الأثرية
2016-02-25, 06:07
الدرس الخامس عشر من /الفصول من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم 16/من شهرجمادى الأولى 1437.
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الخامس عشر
فصل ـ غزوة أحد
يشتمل على غزوة أُحد مختصَرة
وهي وقعة امتحن الله عز وجل فيها عباده المؤمنين واختبرهم، وميَّز فيها بين المؤمنين والمنافقين، وذلك أن قريشاً حين قتل اللهُ سراتَهم ببدرٍ، وأصيبُوا بمصيبةٍ لم تكن لهم في حساب، ورَأَس فيهم أبو سفيان بنُ حرب لعدم وجودِ أكابرِهم، وجاء كما ذكرنا إلى أطراف المدينة في غزوة السَّويقِ، ولم ينل ما في نفسه: شرع يجمع قريشاً ويؤلِّب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، فجمَع قريباً من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش، وجاؤوا بنسائِهم لئَلا يفرُّوا، ثم أقبل بهم نحو المدينة، فنزل قريباً من جبلِ أُحد بمكان يقال له: عَينين، وذلك في شوَّال من السنة الثالثة.
******************************
بين يدينا غزوةُ أحد، وكانت هذه المعركة من المعارك العظيمة. وكانت في السنة الثالثة في شوال فبينها وبين غزوة بدرٍ سنةٌ وأقل من شهر، غزوة بدر كانت في رمضان في السنة الثانية. وغزوةُ أُحد في السنة الثالثة في شوال ,قال ابن كثير في البداية والنهاية (4/11) قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ لِلنِّصْفِ من شوال ،وقال قتادة يوم السبت الحادي عَشَرَ مِنْهُ.اهـ.
وقيل غير ذلك . يراجع فتح الباري شرح تبويب حديث (4041) .
وقد ذكر البخاري رحمه الله قبل غزوة أحد خبر بني النضير (7/4028)وقد نبَّه على هذا الحافظ ابن كثير في البداية (4/10)وقال: ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ وَالْبُخَارِيُّ قَبْلَهُ خَبَرَ بَنِي النَّضِيرِ قُبَلَ وَقْعَةِ أُحُدٍ وَالصَّوَابُ إِيرَادُهَا بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَغَازِي، وَبُرْهَانُهُ أَنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ لَيَالِيَ حِصَارِ بَنِي النَّضِيرِ وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ اصْطَبَحَ الْخَمْرَ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ إِذْ ذَاكَ حَلَالًا وَإِنَّمَا حُرِّمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَتَبَيَّنَ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ قِصَّةَ بَنِي النَّضِيرِ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وفي مطلع كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله في الفصول يقول (وهي وقعة امتحن الله عز وجل فيها عباده المؤمنين واختبرهم، وميَّز فيها بين المؤمنين والمنافقين) وهذا من الحِكَم التي كانت في غزوة أحد امتحان للمؤمنين وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد(3/ 198)وجوهًا من حِكَمِ ابتلاء وامتحان المؤمنين مِنْهَا:
اسْتِخْرَاجُ عُبُودِيَّةِ أَوْلِيَائِهِ وَحِزْبِهِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَفِيمَا يُحِبُّونَ وَمَا يَكْرَهُونَ، وَفِي حَالِ ظَفَرِهِمْ وَظَفَرِ أَعْدَائِهِمْ بِهِمْ، فَإِذَا ثَبَتُوا عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ فِيمَا يُحِبُّونَ وَمَا يَكْرَهُونَ فَهُمْ عَبِيدُهُ حَقًّا، وَلَيْسُوا كَمَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنَ السَّرَّاءِ وَالنِّعْمَةِ وَالْعَافِيَةِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَوْ نَصَرَهُمْ دَائِمًا، وَأَظْفَرَهُمْ بِعَدُوِّهِمْ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ، وَجَعَلَ لَهُمُ التَّمْكِينَ وَالْقَهْرَ لِأَعْدَائِهِمْ أَبَدًا لَطَغَتْ نُفُوسُهُمْ، وَشَمَخَتْ وَارْتَفَعَتْ، فَلَوْ بَسَطَ لَهُمُ النَّصْرَ وَالظَّفَرَ لَكَانُوا فِي الْحَالِ الَّتِي يَكُونُونَ فِيهَا لَوْ بَسَطَ لَهُمُ الرِّزْقَ، فَلَا يُصْلِحُ عِبَادَهُ إلَّا السَّرَّاءُ وَالضَّرَّاءُ، وَالشِّدَّةُ وَالرَّخَاءُ، وَالْقَبْضُ وَالْبَسْطُ، فَهُوَ الْمُدَبِّرُ لِأَمْرِ عِبَادِهِ كَمَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ، إنَّهُ بِهِمْ خَبِيرٌ بَصِيرٌ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ إذَا امْتَحَنَهُمْ بِالْغَلَبَةِ وَالْكَسْرَةِ وَالْهَزِيمَةِ ذَلُّوا وَانْكَسَرُوا وَخَضَعُوا، فَاسْتَوْجَبُوا مِنْهُ الْعِزَّ وَالنَّصْرَ، فَإِنَّ خُلْعَةَ النَّصْرِ إنَّمَا تَكُونُ مَعَ وِلَايَةِ الذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123] . وَقَالَ: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التَّوْبَةِ: 25] فَهُوَ - سُبْحَانَهُ - إذَا أَرَادَ أَنْ يُعِزَّ عَبْدَهُ وَيَجْبُرَهُ وَيَنْصُرَهُ كَسَرَهُ أَوَّلًا، وَيَكُونُ جَبْرُهُ لَهُ وَنَصْرُهُ عَلَى مِقْدَارِ ذُلِّهِ وَانْكِسَارِهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هَيَّأَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مَنَازِلَ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ لَمْ تَبْلُغْهَا أَعْمَالُهُمْ، وَلَمْ يَكُونُوا بَالِغِيهَا إلَّا بِالْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ، فَقَيَّضَ لَهُمُ الْأَسْبَابَ الَّتِي تُوصِلُهُمْ إِلَيْهَا مِنَ ابْتِلَائِهِ وَامْتِحَانِهِ، كَمَا وَفَّقَهُمْ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ وُصُولِهِمْ إِلَيْهَا.
وَمِنْهَا: أَنَّ النُّفُوسَ تَكْتَسِبُ مِنَ الْعَافِيَةِ الدَّائِمَةِ وَالنَّصْرِ وَالْغِنَى طُغْيَانًا وَرُكُونًا إِلَى الْعَاجِلَةِ، وَذَلِكَ مَرَضٌ يَعُوقُهَا عَنْ جِدِّهَا فِي سَيْرِهَا إِلَى اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، فَإِذَا أَرَادَ بِهَا رَبُّهَا وَمَالِكُهَا وَرَاحِمُهَا كَرَامَتَهُ قَيَّضَ لَهَا مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ مَا يَكُونُ دَوَاءً لِذَلِكَ الْمَرَضِ الْعَائِقِ عَنِ السَّيْرِ الْحَثِيثِ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْبَلَاءُ وَالْمِحْنَةُ بِمَنْزِلَةِ الطَّبِيبِ يَسْقِي الْعَلِيلَ الدَّوَاءَ الْكَرِيهَ، وَيَقْطَعُ مِنْهُ الْعُرُوقَ الْمُؤْلِمَةَ لِاسْتِخْرَاجِ الْأَدْوَاءِ مِنْهُ، وَلَوْ تَرَكَهُ لَغَلَبَتْهُ الْأَدْوَاءُ حَتَّى يَكُونَ فِيهَا هَلَاكُهُ.اهـ المراد.
يقول الحافظ ابن كثير (وميَّز فيها بين المؤمنين والمنافقين)
وهذا من جملة الحِكَم ليتميز المنافقون من المؤمنين . قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)﴾ [آل عمران] [آل عمران:140].
(وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي: علم رؤية وعِيَان فالله سبحانه لا يعزب عنه شيء، ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾[سبأ:3]. فالمراد ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي: علم رؤية وعِيَان .
قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد (3/200)في سياق الحِكَم التي كانت في غزوة أُحُدٍ قال: ثُمّ ذَكَرَ حِكْمَةً أُخْرَى، وَهِيَ أَنْ يَتَمَيَّزَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَيَعْلَمُهُمْ عِلْمَ رُؤْيَةٍ وَمُشَاهَدَةٍ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مَعْلُومِينَ فِي غَيْبِهِ، وَذَلِكَ الْعِلْمُ الْغَيْبِيُّ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ، وَإِنَّمَا يَتَرَتَّبُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى الْمَعْلُومِ إذَا صَارَ مُشَاهَدًا وَاقِعًا فِي الْحِسِّ.اهـ.
فكانت هذه الوقعة امتحان للمؤمنين في إيمانهم وصبرهم ومجاهدتهم وليتميز به المنافقون، وقال سبحانه: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)﴾ [آل عمران:166]. وقد تميز المنافقون وظهر أمرُهم فقد انخزَل عبدُ الله بن أُبي بن سلول في أثناء الطريق بثلاثمائة ورجعوا.
وقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آلِ عِمْرَانَ: 179] .
قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد (3/ 197):أَيْ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْتِبَاسِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُنَافِقِينَ حَتَّى يَمِيِّزَ أَهْلَ الْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ كَمَا مَيَّزَهُمْ بِالْمِحْنَةِ يَوْمَ أُحُدٍ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران: 179] الَّذِي يَمِيزُ بِهِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُمْ مُتَمَيِّزُونَ فِي غَيْبِهِ وَعِلْمِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ أَنْ يَمِيزَهُمْ تَمْيِيزًا مَشْهُودًا فَيَقَعُ مَعْلُومُهُ الَّذِي هُوَ غَيْبٌ شَهَادَةً. وَقَوْلُهُ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 179] اسْتِدْرَاكٌ لِمَا نَفَاهُ مِنَ اطِّلَاعِ خَلْقِهِ عَلَى الْغَيْبِ سِوَى الرُّسُلِ، فَإِنَّهُ يُطْلِعُهُمْ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ غَيْبِهِ كَمَا قَالَ: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26] [الْجِنِّ: 27] فَحَظُّكُمْ أَنْتُمْ وَسَعَادَتُكُمْ فِي الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ الَّذِي يُطْلِعُ عَلَيْهِ رُسُلَهُ فَإِنْ آمَنْتُمْ بِهِ وَأَيْقَنْتُمْ فَلَكُمْ أَعْظَمُ الْأَجْرِ وَالْكَرَامَةِ.اهـ.
ثم ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله سبب هذه الغزوة أن قريشًا كانوا متألِّمِين ممَّا حصل لهم من قتل سراتهم ببدر أي: قتل أشرافهم، وما حصل لأبي سفيان في غزوة السويق من رجوعه هاربًا منهزمًا فجمَّع قريشًا ليغزو النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما يزعم .
(فجمع قريباً من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش)
(الحلفاء) حلفاء قريش: وهم الذين تعاقدوا على التناصر والتعاون فيما بينهم.
(والأحابيش) قال الجوهري في الصحاح (3/1000): "وحبشي: جبل بأسفل مكة، يقال منه سمى أحابيش قريش. وذلك أن بني المصطلق وبني الهون بن خزيمة اجتمعوا عنده فحالفوا قريشا وتحالفوا بالله: " إنا ليد على غيرنا، ما سجا ليل، ووضح نهار، وما أرسى حبشي مكانه " فسموا أحابيش قريش باسم الجبل". اهـ.
استفدنا أن الأحابيش: هم بنو المصطلق وبنو الهون بن خزيمة.
(وما أرسى) أي: ثبتَ، أي: ما بقي مكانه.
(وأصيبوا بمصيبة لم تكن لهم في حساب) أي: يوم بدر كان في اعتقادهم أنهم منصورون زين لهم الشيطان أعمالهم، أبو جهل لما قيل له: نرجع، قال نقيم ببدر ثلاثًا ونشرب الخمر وتضرب علينا القيان ويكون لنا هيبة عند العرب.
(ورَأس فيهم أبو سفيان بن حرب)
كان رئيسُ المشركين يوم أحد أبا سفيان.
(لعدم وجود أكابرهم)
كان السبب في رئاسة أبي سفيان لقريش في هذه الغزوة أن أكابرهم قد قُتلوا في غزوة بدر.
(وجاؤوا بنسائهم لئلا يفرُّوا، ثم أقبل بهم نحوَ المدينة)
جاء قريش بنسائهم لئلا يفروا ليكون تثبيتًا لهم بعدم الفرار وذكرذلك أيضا الحافظ في فتح الباري بما نصُّهُ: (أَنَّ قُرَيْشًا خَرَجُوا مَعَهُمْ بِالنِّسَاءِ لأجل الحفيظة والثبات).
( فنزل قريباً من جبل أُحد بمكان يقال له: عينين، وذلك في شوال من السنة الثالثة) .
وسميت هذه الوقعة بغزوة أحد؛ لأنها كانت جَنْبَ أُحد. وأُحد جبل جاء في فضله بعض الأحاديث . قال الإمام البخاري رحمه الله بَابٌ: أُحُدٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ ثم ذكرحديثَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَعَ لَهُ أُحُدٌ فَقَالَ: «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي حَرَّمْتُ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا». وهذا على ظاهره . وقد قال بعضهم: المراد أهل جبل أحد، وهذا صرف لظاهر الحديث لغير دليل والله على كل شيء قدير.
******************************
واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه: أيخرج إليهم أم يمكث في المدينة؟ فبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروجُ يوم بدر إلى الإشارة بالخروج إليهم، وألحُّوا عليه صلى الله عليه وسلم في ذلك، وأشارَ عبدُ الله بن أُبَي بن سلول بالمقام بالمدينة، وتابعه على ذلك بعضُ الصحابة، فألحَّ أولئك على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فنهض ودخل بيتَه ولبِس لأْمَتَه وخرج عليهم، وقد انثنَى عزمُ أولئك فقالوا: يا رسول الله، إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل.
فقال: «ما ينبغي لنبي إذا لبس لأْمَتَه أن يضعها حتى يقاتل» وأُتي عليه الصلاة والسلام برجلٍ من بني النجار فصلى عليه، وذلك يوم الجمعة، واستخلفَ على المدينة ابنَ أمِّ مكتوم. وخرج إلى أُحد في ألفٍ، فلما كان ببعض الطريق انخزلَ عبدُ الله بن أُبي في نحوٍ من الثلاثمائة إلى المدينة، فاتَّبَعَهُم عبدُ الله بن عمرو بن حرام والد جابر رضي الله عنهما يوبِّخهم ويحضهم على الرجوع، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع. فلما أبوا عليه رجع عنهم وسبَّهم.
******************************
(واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه: أيخرج إليهم أم يمكث في المدينة؟)
لما علم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقدوم قريش لغزو المسلمين استشار أصحابه هل يبقى في المدينة أم يخرج إليهم؟
وذكر الحافظ ابن كثيرٍ هنا أنهم انقسموا في المشورة إلى قسمين فبادر بعض الصحابة ممن لم يشهد بدرا وقالوا: نخرج إليهم، وألحوا على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالخروج، وأشار عبد الله بن أبي بن سلول وبعض الصحابة بالمقام بالمدينة ،فإن قدموا إلى المدينة قاتلناهم .
واستنبط من هذا ابنُ القيم رحمه الله في زاد المعاد (3/ 189)فائدة :وذكر أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِذَا طَرَقَهُمْ عَدُوُّهُمْ فِي دِيَارِهِمُ الْخُرُوجُ إِلَيْهِ، بَلْ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَلْزَمُوا دِيَارَهُمْ، وَيُقَاتِلُوهُمْ فِيهَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَنْصَرَ لَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، كَمَا أَشَارَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ يَوْمَ أُحُدٍ.اهـ.
ودخل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بيته ولبس لأْمته ـ واللأْمة: السلاح ـ ثم خرج عليهم وقد انثنى عزمُ بعض أولئك ـ أي: ضعُف ـ وقالوا: لعلنا استكرهنا رسولَ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإن أحببتَ أن تمكث في المدينة فافعل فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: « إِنَّهُ لَيْسَ لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ ».وهذا الحديث في مسند أحمد (23/99) من طريق أبي الزبير عن جابر بن عبد الله وأبو الزبير مدلس وقد عنعن ولكن له من الشواهد ما يقويه.
وقد استنبط من هذا ابن القيم في زاد المعاد(3/ 189) حُكْما وأفاد: أَنَّ الْجِهَادَ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ لَبِسَ لَأْمَتَهُ وَشَرَعَ فِي أَسْبَابِهِ، وَتَأَهَّبَ لِلْخُرُوجِ، لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنِ الْخُرُوجِ حَتَّى يُقَاتِلَ عَدُوَّهُ.
(وأُتي عليه الصلاة والسلام برجل من بني النجار فصلى عليه)
أي: أُتِيَ بجنازة فصلى عليه صلاة الجنازة وذلك يوم الجمعة، فخرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم الجمعة من المدينة إلى أُحد في ألف مقاتل.
(فلما كان ببعض الطريق انخزل عبد الله بن أُبي في نحوٍ من الثلاثمائة إلى المدينة فاتَّبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر رضي الله عنهما يوبِّخُهم ويحضُّهم على الرجوع، فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع- أي إلى المدينة -. فلما أبوا عليه رجع عنهم وسبَّهم) .
(انخزل) أي: انفرد كما في النهاية(2/ 29) .
فرجعوا إلى المدينة. رجع عبد الله بن أبي بن سلول بثلاثمائة إلى المدينة فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا سبعمائة، فاتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر رضي الله عنهما وحثهم على الرجوع فاحتجوا وقالوا: لو نعلم قتالًا لاتبعناكم أي لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع كما قال الله عنهم: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ [آل عمران:167]. كذَّبهم الله عز وجل في قولهم: ﴿لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ لأن أمر القتال في هذا الحال ظاهر بين، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (5/350)عقب هذه الآية قُلْتُ: يَعْنِي، أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ. وَذَلِكَ لِأَنَّ وُقُوعَ الْقِتَالِ أَمْرُهُ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ وَاضِحٌ، لَا خَفَاءَ وَلَا شَكَّ فِيهِ .اهـ.
وأيضًا مما كان السبب في رجوع عبد الله بن أُبي بن سَلول رئيس المنافقين أنه غضب، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما أخذ بمشورته.
ورجوعُهم في الأصل هو بسبب ذنوبهم وهذا من شؤمِ الذنب قال تعالى {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } .
******************************
واستقلَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمن بقي معه حتى نزلَ شعبَ أُحد في عُدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهرَه إلى أُحد، ونهى الناسَ عن القتال حتى يأمرَهم، فلما أصبح تعبَّأ عليه الصلاةُ والسلام للقتال في أصحابه، وكان فيهم خمسون فارساً، واستعمل على الرُّماة ـ وكانوا خمسين ـ عبدَ الله بن جبير الأوسي، وأمره وأصحابَه أن لا يتغيَّروا من مكانهم، وأن يحفظوا ظهورَ المسلمين أن يؤتَوا من قبَلِهم.
وظاهرَ صلى الله عليه وسلم يومئذٍ بين درعين. وأعطى اللواءَ مصعبَ بن عمير، أخا بني عبد الدار، وجعل على إحدى المجنَّبَتين الزبير بن العوام، وعلى المجنَّبَة الأخرى المنذر بن عمرو المُعْنِق لِيَمُوتَ.
واستعرض الشبابَ يومئذ، فأجاز بعضَهم وردَّ آخرين، فكان ممن أجاز سمرةَ بن جندب، ورافع بن خديج، ولهما خمس عشرة سنة.
وكان ممن ردَّ يومئذ أسامةَ بن زيد بن حارثة، وأسيد بن ظُهير، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وعَرابة بن أوس، وعمرو بن حزم. ثم أجازهم يوم الخندق.
******************************
(واستقلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن بقي معه حتى نزل شعب أحد في عُدوة الوادي إلى الجبل)
ثم مضى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمن بقي معه حتى نزل شعب أحد في عدوة الوادي أي :جانبه كما في مجمل اللغة لابن فارس (ص 653) .
فرتَّب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصحابه ورتَّب أمورَ الغزوة.
قال: (ونهى الناس عن القتال حتى يأمرَهم)
قال: لا تقاتلوا حتى آمركم .
(فلما أصبح تعبَّأ عليه الصلاة والسلام للقتال في أصحابه)
تعبأ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم للقتال أي: استعد.
(وكان فيهم خمسون فارساً، واستعمل على الرماة ـ وكانوا خمسين ـ عبد الله بن جبير الأوسي، وأمَرَه وأصحابَه أن لا يتغيروا من مكانهم، وأن يحفظوا ظهور المسلمين أن يؤتوا من قبلهم)
تعقب الحافظ ابن حجر رحمه الله تحت رقم (4043) هذا القول في عدد الفُرْسان فقال: "قَوْلُهُ الرُّمَاةُ فِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ وَكَانُوا خَمْسِينَ رَجُلًا وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَوَقَعَ فِي الْهَدْيِ أَنَّ الْخَمْسِينَ عَدَدُ الْفَرَسَانِ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ غَلَطٌ بَيِّنٌ وَقَدْ جَزَمَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فِي أُحُدٍ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْلِ وَوَقَعَ عِنْدَ الْوَاقِدِيِّ كَانَ مَعَهُمْ فَرَسٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَرَسٌ لِأَبِي بُرْدَةَ" هذا ما ذكره الحافظ في الفتح.
الواقدي: محمد بن عمر متروك.
وقد كان عدد الرماة خمسين رجلًا وأمَّر عليهم عبد الله بن جبيرالأوسي رضي الله عنه واستشهد في غزوة أحد.
(وأمره وأصحابه أن لا يتغيَّروا من مكانهم، وأن يحفظوا ظهور المسلمين أن يؤتوا من قِبَلِهِم)
أي: من ورائهم.
وهذا في صحيح البخاري (4043) عَنِ البَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَقِينَا المُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ، وَأَجْلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشًا مِنَ الرُّمَاةِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ، وَقَالَ: «لاَ تَبْرَحُوا، إِنْ رَأَيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فَلاَ تَبْرَحُوا، وَإِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فَلاَ تُعِينُونَا» فَلَمَّا لَقِينَا هَرَبُوا حَتَّى رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ فِي الجَبَلِ، رَفَعْنَ عَنْ سُوقِهِنَّ، قَدْ بَدَتْ خَلاَخِلُهُنَّ، فَأَخَذُوا يَقُولُونَ: الغَنِيمَةَ الغَنِيمَةَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: عَهِدَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لاَ تَبْرَحُوا، فَأَبَوْا، فَلَمَّا أَبَوْا صُرِفَ وُجُوهُهُمْ، فَأُصِيبَ سَبْعُونَ قَتِيلًا، وَأَشْرَفَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: أَفِي القَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ فَقَالَ: «لاَ تُجِيبُوهُ» فَقَالَ: أَفِي القَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ قَالَ: «لاَ تُجِيبُوهُ» فَقَالَ: أَفِي القَوْمِ ابْنُ الخَطَّابِ؟ فَقَالَ: إِنَّ هَؤُلاَءِ قُتِلُوا، فَلَوْ كَانُوا أَحْيَاءً لَأَجَابُوا، فَلَمْ يَمْلِكْ عُمَرُ نَفْسَهُ، فَقَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، أَبْقَى اللَّهُ عَلَيْكَ مَا يُخْزِيكَ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: اعْلُ هُبَلُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَجِيبُوهُ» قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: " قُولُوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ " قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَنَا العُزَّى وَلاَ عُزَّى لَكُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَجِيبُوهُ» قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: «قُولُوا اللَّهُ مَوْلاَنَا، وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ» قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالحَرْبُ سِجَالٌ، وَتَجِدُونَ مُثْلَةً، لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي) .
(إِنْ رَأَيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فَلاَ تَبْرَحُوا، وَإِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فَلاَ تُعِينُونَا) أي: أمرهم بالبقاء في مكانهم على أيِّ حال. (يَشْتَدِدْنَ فِي الجَبَلِ) أي: صعودًا.
انهزم المشركون في أول الأمر وكان نساء كفار قريش يشتددن في الجبل ـ يعني صعودًا ـ ويرفعن عن سُوقهن حتى بدت خلاخِلُهن فقال الصحابة لما رأوا المشركون انهزموا، الغنيمةَ ، الغنيمةَ ، وانفضوا إلى الغنيمة. فوجد المشركون خلَّة ـ أي: فرجة ـ وقد كان عبد الله بن جبير يقول لهم: لا تفعلوا. وصرخ الشيطان بعد ذلك : (أي عباد الله أخراكم ) .
وقول أبي سفيان ( وَالحَرْبُ سِجَالٌ) كان هذا في اعتقاد أبي سفيان .
وثبت في البخاري (2804) ومسلم (1773)عن عبداللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ كَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟، فَزَعَمْتَ «أَنَّ الحَرْبَ سِجَالٌ وَدُوَلٌ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ العَاقِبَةُ».
وقد أقر الله عز وجل ذلك وقال: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران:140].
أبو سفيان يقول: (يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالحَرْبُ سِجَالٌ، وَتَجِدُونَ مُثْلَةً، لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي) يقول أبوسفيان: هذا اليوم بيوم بدر، غزوة أحد مقابل يوم بدر لأن المسلمين في غزوة بدرٍ قتلوا سبعين من المشركين وأسروا سبعين .
(وظاهر صلى الله عليه وسلم يومئذٍ بين درعين)
(وظاهر) قال ابن الأثير في النهاية(3/166): (أَيْ: جَمَعَ ولَبِسَ إِحْدَاهُمَا فوقَ الأخْرَى. وكأنَّه مِنَ التَّظَاهُر: التَّعَاوُنِ والتَّساعُد) أي: لبس درعًا على درع.
(وأعطى اللواء مصعب بن عمير، أخا بني عبد الدار)
مصعب بن عمير من السابقين الأولين، واستُشهد في غزوة أحد، ولم يجدوا له الكفن التام. أخرج البخاري (4082) و مسلم (940) عَنْ خَبَّابٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ، فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَضَى، أَوْ ذَهَبَ، لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، كَانَ مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ يَتْرُكْ إِلَّا نَمِرَةً، كُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلاَهُ، وَإِذَا غُطِّيَ بِهَا رِجْلاَهُ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «غَطُّوا بِهَا رَأْسَهُ، وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ الإِذْخِرَ» أَوْ قَالَ: «أَلْقُوا عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الإِذْخِرِ» وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا .
(وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام)
المجنبتان: الميمنة والميسرة.
وهذا من سياسة الحرب.
والزبير بن العوام من العشرة المبشرين بالجنة .
والعشرة المبشرون بالجنة مجموعون في قول الشاعر
للمصطفى خيرُ صحْبٍ نصَّ أنهمُ
في جنةِ الخلدِ نصًا زادهم شرفًا
هم طلحة وابن عوفٍ والزبير مع
أبي عبيدة والسعدين والخُلفا
الزبيرحواري رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في البخاري (2997، 7261)، مسلم (2415)عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ: نَدَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ يَوْمَ الخَنْدَقِ، فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ نَدَبَهُمْ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ نَدَبَهُمْ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ» .قَالَ سُفْيَانُ: الحَوَارِيُّ: النَّاصِرُ .
وأخرج الإمامُ أحمد في مسنده(2/99)من طريق زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ: اسْتَأْذَنَ ابْنُ جُرْمُوزٍ عَلَى عَلِيٍّ وَأَنَا عِنْدَهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: بَشِّرْ قَاتِلَ ابْنِ صَفِيَّةَ بِالنَّارِ، ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا، وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ ".
وصفية هي بنت عبدالمطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وتقدم ذكرعمات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أول الفصول وأن صفية أسلمت رضي الله عنها .
وابن جرموز قاتل الزبير بن العوام : هوعمرو بن جرموز.
قتله وقد كان راجعًا يوم الجمل تاركا لقتال علي أخرج ابن سعد في الطبقات (3/81)عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَتَى الزُّبَيْرَ فَقَالَ: أَيْنَ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حَيْثُ تُقَاتِلُ بِسَيْفِكِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ قَالَ فَرَجَعَ الزُّبَيْرُ فَلَقِيَهُ ابْنُ جُرْمُوزٍ فَقَتَلَهُ. فَأَتَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَلِيًّا فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ قَاتَلُ ابْنِ صَفِيَّةَ؟ قَالَ عَلِيٌّ: إِلَى النَّارِ.
وإسناده حسن من أجل هلال بن خباب أحد رواة إسناده فإنه صدوق .
وهذا دليلٌ على اعتراف أميرالمؤمنين علي ابن أبي طالب بفضل الزبير رضي الله عنهما.
وقد أخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق ترجمة الزبير واللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (8/ 1493) والبيهقي في الاعتقاد (374)من طريق شُعْبَةُ , عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ الشَّعْبِيَّ، يَقُولُ: أَدْرَكْتُ خَمْسَمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَكْثَرَ كُلُّهُمْ يَقُولُ: عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ فِي الْجَنَّةِ.
وهذا أثرٌ حسن . مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: الغداني بضم المعجمة البصري الأشل صدوق يهم .
علَّق الذهبي رحمه الله على الأثر وقال قُلْتُ: لأَنَّهُم مِنَ العَشْرَةِ المَشْهُوْدِ لَهُم بِالجَنَّةِ، وَمِنَ البَدْرِيِّيْنَ، وَمِنْ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، وَمِنَ السَّابِقِيْنَ الأَوَّلِيْنَ الَّذِيْنَ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ رَضِيَ عَنْهُم وَرَضُوْا عَنْهُ، وَلأَنَّ الأَرْبَعَةَ قُتِلُوا وَرُزِقُوا الشَّهَادَةَ، فَنَحْنُ مُحِبُّوْنَ لَهُم، بَاغِضُوْنَ لِلأَرْبَعَةِ الَّذِيْنَ قَتَلُوا الأَرْبَعَةَ.(سير أعلام النبلاء 1/ 62) .
وقد جاء أنه ندم ابن جرموزعلى قتله لحواري رسول الله .
قال الذهبي رحمه الله في السير (1/ 64)قُلْتُ: أَكَلَ المُعَثَّرُ يَدَيْهِ نَدَماً عَلَى قَتْلِهِ، وَاسْتَغْفَرَ لاَ كَقَاتِلِ طَلْحَةَ، وَقَاتِلِ عُثْمَانَ، وَقَاتِلِ عَلِيٍّ اهـ.
(وعلى المجنبة الأخرى المنذر بن عمرو المُعْنِق لِيَموت)
المنذر بن عمرو المُعْنِق لِيَموت :هو الساعدي قال الحافظ في الإصابة : قال ابن أبي خيثمة: سمعت سعد بن عبد الحميد بن جعفر يقول: المنذر بن عمرو عَقَبِي بدْري نقِيب. استُشهد يوم بئر معونة، وكذا قال ابن إسحاق، وثبت أنه استشهد يوم بئر معونة في صحيح البخاريّ.اهـ .
أي أنه شهد العقبة وبدراوكان أحدالنقباء .
وهوممن أبلى بلاءً حسنًا في هذه الغزوة.
(المعنِق ليموتَ) لقب للمنذر بن عمرو أي: المسرع إلى الشهادة.
(واستعرض الشباب يومئذ، فأجاز بعضهم ورد آخرين)
أي: طلب عرض الشباب لينظر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الذي يناسب دخوله الغزو ، وقد قبل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعضًا منهم ورد آخرين. وممن ردَّ في هذه الغزوة عبد الله بن عمر وحديثه متفق عليه البخاري (2664)، مسلم (1868). عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمْ يُجِزْنِي ثُمَّ عَرَضَنِي يَوْمَ الخَنْدَقِ، وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَجَازَنِي»، قَالَ نَافِعٌ فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ وَهُوَ خَلِيفَةٌ، فَحَدَّثْتُهُ هَذَا الحَدِيثَ فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا لَحَدٌّ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَفْرِضُوا لِمَنْ بَلَغَ خَمْسَ عَشْرَةَ» .
وقوله (وعرابة بن أوس )في بعض نسخ الفصول (وغَرابة ) بالغين المعجمة والصواب عرابة كما في الإصابة .
أم سمية الأثرية
2016-02-25, 06:15
******************************
وتعبَّأت قريش أيضاً وهم في ثلاثة آلاف كما ذكرنا، فيهم مائتا فارس، فجعلوا على ميمنتِهم خالدَ بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمةَ بن أبي جهل.
وكان أول من برز من المشركين يومئذ أبو عامر الراهب، واسمه عبد عمرو بن صيفي.
وكان رأسَ الأوس في الجاهلية، وكان مترهِّباً، فلما جاء الإسلام خُذِل فلم يدخل فيه، وجاهرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة، فدعا عليه صلى الله عليه وسلم، فخرج من المدينة، وذهب إلى قريش يؤلِّبُهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحضهم على قتاله مع ما هم منطَوون على رسولِ الله وأصحابه من الحَنَق، ووعدَ المشركين أنه يستميل لهم قومه من الأوس يوم اللقاء حتى يرجعوا إليه فلما أقبل في عُبدان أهل مكة والأحابيش تعرَّف إلى قومه فقالوا له: لا أنعم الله لك عيناً يا فاسق.
فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر، ثم قاتل المسلمين قتالاً شديداً.
******************************
(وتعبأت قريش أيضاً وهم في ثلاثة آلاف كما ذكرنا، فيهم مائتا فارس)
يذكر ابن كثير رحمه الله استعداد قريش لمقاتلة المسلمين، وترتيبهم لأمور الغزوة.
(فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد)
خالد بن الوليد رضي الله عنه شارك في قتال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الغزوات حتى أسلم رضي الله عنه،قال الحافظ في الإصابة (2/215): " ثم أسلم في سنة سبع بعد خيبر، وقيل قبلها، ووهم من زعم أنه أسلم سنة خمس". اهـ.
وقد لقَّبه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأنه سيف من سيوف الله، وهذا ثابت في صحيح البخاري (4262) عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى زَيْدًا، وَجَعْفَرًا، وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ، فَقَالَ: «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ» وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ: «حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ، حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ».
(وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل)
عكرمة بن أبي جهل "كان كأبيه من أشدّ الناس على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم، ثم أسلم عكرمة عام الفتح " كما في الإصابة (4/ 443).
(وكان أول من برز من المشركين يومئذ)
(برز) وفي نسخة ( بدَرَ) .
(أبو عامر الراهب، واسمه عبد عمرو بن صيفي)
أبو عامر الراهب من أعداء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(وكان رأْسَ الأوس في الجاهلية، وكان مترهباً، فلما جاء الإسلام خُذل فلم يدخل فيه، وجاهر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة)
كان كبيرًا في الأوس ومتعبدًا فلما جاء الإسلام خُذل حسدًا، وعنادًا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قال الحافظ في الإصابة في ترجمة ولده حنظلة : كان أبوه في الجاهليّة يعرف بالراهب، واسمه عمرو، ويقال عبد عمرو، وكان يذكر البعث ودين الحنيفية، فلما بعث النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم عانده وحسده.، وخرج عن المدينة وشهد مع قريش وقعة أحد، ثم رجع قريش إلى مكة، ثم خرج إلى الروم فمات بها سنة تسع، ويقال سنة عشر، وأعطى هرقل ميراثه لكنانة بن عبد ياليل الثقفيّ. وأسلم ابنه حنظلة فحسن إسلامه، واستشهد بأحد، لا يختلف أصحاب المغازي في ذلك.اهـ .
وذكر هُنا في الفصول الحافظ ابن كثير رحمه الله سيرة سيئة له في عداوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وكان أبو عامر وعد المشركين أن يستميل قومه الأوس في مساعدة قريش لقتال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلما جاء إليهم ردوا عليه.
(فقالوا له: لا أنعم الله لك عيناً يا فاسق. فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر، ثم قاتل المسلمين قتالاً شديداً).
يقول : (لقد أصاب قومي بعدي شر) لأنهم ما قبلوا كلامه. ثم دخل في المعركة، وقاتل قتالًا شديدًا، ونجا وما قُتل؛ لأنه كما تقدم ذهب إلى الروم ومات هناك.
وله ولدٌ مشهورٌ بغسيل الملائكة وهو حنظلة الغسيل بن أبي عامر، قاتل في غزوة أحد،وأبلى بلاءً حسنًا، واستشهد فيها رضي الله عنه. وجاء في بعض الأحاديث أنه غسلته الملائكة وأنه كان جُنبًا وله بعض الطرق يراجع أحكام الجنائز للشيخ الألباني رحمه الله 56 .ومن ثَمَّ قيل له حنظلة الغسيل.
******************************
وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ (أمِت أمِت) وأبلى يومئذ أبو دجانة سماك بن خرشة، وحمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسد الله وأسد رسوله رضي الله عنه وأرضاه وكذا علي بن أبي طالب، وجماعة من الأنصار منهم: النضر بن أنس، وسعد بن الربيع رضي الله عنهم أجمعين.
وكانت الدولة أول النهار للمسلمين على الكفار، فانهزموا راجعين حتى وصلوا إلى نسائهم. فلما رأى ذلك أصحابُ عبد الله بن جبير قالوا: يا قوم، الغنيمة الغنيمة.
فذكَّرهم عبدُ الله بن جبير تقديمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم في ذلك، فظنوا أن ليس للمشركين رجعة، وأنهم لا تقوم لهم قائمة بعد ذلك، فذهبوا في طلب الغنيمة، وكرَّ الفُرسان من المشركين فوجدوا تلك الفُرْجة قد خلت من الرماة فجازوها وتمكنوا، وأقبل آخرهم، فكان ما أراد الله تعالى كونه، فاستُشهِد من أكرم الله بالشهادة من المؤمنين، فقُتِل جماعةٌ من أفاضل الصحابة، وتولَّى أكثرُهم.
******************************
(وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ (أمت أمت)
يعني في الغزوة. والشعار: العلامة ليعرف بعضهم بعضًا ببعض الكلمات ليتميز لهم أصحابهم من أعدائهم، وهذا من سياسة الحروب أن يجعلوا لهم شعارات يميزون بها فيكف بها بعضهم عن بعض.
(وأبلى يومئذ أبو دجانة سماك بن خرشة، وحمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسد الله وأسد رسوله رضي الله عنه وأرضاه وكذا علي بن أبي طالب، وجماعة من الأنصار منهم: النضر بن أنس، وسعد بن الربيع رضي الله عنهم أجمعين).
هؤلاء الذين ذكرهم ابن كثير رحمه الله ممن أَبْلوا بلاء حسنًا في هذه الغزوة ،وأبو دجانة رضي الله عنه قصته في صحيح مسلم (2770) عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ سَيْفًا يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: «مَنْ يَأْخُذُ مِنِّي هَذَا؟» فَبَسَطُوا أَيْدِيَهُمْ، كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ يَقُولُ: أَنَا، أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ؟» قَالَ فَأَحْجَمَ الْقَوْمُ. فَقَالَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ أَبُو دُجَانَةَ: أَنَا آخُذُهُ بِحَقِّهِ. قَالَ: فَأَخَذَهُ فَفَلَقَ بِهِ هَامَ الْمُشْرِكِينَ" أي: شق به رؤوس المشركين.
(وحمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسد الله وأسد رسوله رضي الله عنه وأرضاه)
هذا لقب حمزة وهوسيد الشهداء ،خالد بن الوليد سيف من سيوف الله ، المنذر بن عمرو لقبه المعنق ليموت ، حنظلة ابنُ أبي عامر لقبه حنظلة الغسيل . عثمان بن عثمان، وهو شماس بن عثمان المخزومي، سُمِّي بشمَّاس لحُسْنِ وجهه .
(وكانت الدولة أول النهار للمسلمين على الكفار)
كان النصر في أول النهار للمسلمين، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾[آل عمران:152]. ﴿وَعْدَهُ﴾ أي: ما وعد به من نصره لأوليائه، فصدق الله وعده، في أول النهار، ولكن لما حصل من بعض الصحابة المخالفة لأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان من أمر الله ما كان ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ﴾[آل عمران:152]. ﴿إِذْ تَحُسُّونَهُمْ﴾ أي: تستأصلونهم بالقتل. ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ﴾.
الفشَل والفَشَلُ: ضعف مع جبن كما في مفردات القرآن،الخلاف، المعاصي هذه الثلاثة الأمور شؤم ،ومن أسباب الهزيمة.
(فانهزموا راجعين حتى وصلوا إلى نسائهم)
أي:انهزم المشركون.
(فلما رأى ذلك أصحابُ عبد الله بن جبير قالوا: يا قوم، الغنيمة الغنيمة)
تقدم ذكرُالحديث الوارد فيه.
(وكرَّ الفرسان من المشركين فوجدوا تلك الفرجة قد خلت من الرماة فجاوزوها وتمكنوا وأقبل آخرهم، فكان ما أراد الله تعالى كونَه)
(كر) أي: رجع، رجعوا بعد ذلك. رأوا لهم فرجة لأنه خلا المكان من الرماة الذي قد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جعلهم فيه ليحرسوا المسلمين وتمكَّن المشركون بعد أن كانوا قد هُزِموا أخرج البخاري(3290)عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: " لَمَّا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ هُزِمَ المُشْرِكُونَ، فَصَاحَ إِبْلِيسُ: أَيْ عِبَادَ اللَّهِ أُخْرَاكُمْ، فَرَجَعَتْ أُولاَهُمْ فَاجْتَلَدَتْ هِيَ وَأُخْرَاهُمْ، فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ اليَمَانِ، فَقَالَ: أَيْ عِبَادَ اللَّهِ أَبِي أَبِي، فَوَاللَّهِ مَا احْتَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوهُ، فَقَالَ: حُذَيْفَةُ غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ، قَالَ عُرْوَةُ فَمَا زَالَتْ فِي حُذَيْفَةَ مِنْهُ بَقِيَّةُ خَيْرٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ " .
قال الحافظ في فتح الباري(4065) : (أُخْرَاكُمْ)أَيِ احْتَرِزُوا مِنْ جِهَةِ أُخْرَاكُمْ وَهِيَ كَلِمَةٌ تُقَالُ لِمَنْ يَخْشَى أَنْ يُؤْتَى عِنْدَ الْقِتَالِ مِنْ وَرَائِهِ وَكَانَ ذَلِكَ لَمَّا تَرَكَ الرُّمَاةُ مَكَانَهُمْ وَدَخَلُوا يَنْتَهِبُونَ عَسْكَرَ الْمُشْرِكِينَ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ .
قال : قَوْلُهُ (فَرَجَعَتْ أُولَاهُمْ فَاجْتَلَدَتْ هِيَ وَأُخْرَاهُمْ) أَيْ: وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مِنَ الْعَدو وَقد تقدم بَيَان ذَلِك من حَدِيث ابن عَبَّاسٍ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَأَنَّهُمْ لَمَّا رَجَعُوا اخْتَلَطُوا بِالْمُشْرِكِينَ وَالْتَبَسَ الْعَسْكَرَانِ فَلَمْ يَتَمَيَّزُوا فَوَقَعَ الْقَتْلُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ .اهـ.
(فاستشهد من أكرم الله بالشهادة من المؤمنين، فقتل جماعة من أفاضل الصحابة، وتولى أكثرهم)
الشهادة كرامة قال سبحانه وتعالى: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾[آل عمران:140]
(وتولى أكثرهم) ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري(4064) شرح حديث أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو طَلْحَةَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُجَوِّبٌ عَلَيْهِ بِحَجَفَةٍ لَهُ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ رَجُلًا رَامِيًا شَدِيدَ النَّزْعِ، كَسَرَ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا الحديث .
قال قوله (انْهَزَمَ النَّاسُ )أَيْ بَعْضُهُمْ أَوْ أَطْلَقَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ تَفَرُّقِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
قال :وَالْوَاقِعُ أَنَّهُمْ صَارُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ :
فِرْقَةٌ اسْتَمَرُّوا فِي الْهَزِيمَةِ إِلَى قُرْبِ الْمَدِينَةِ فَمَا رَجَعُوا حَتَّى انْفَضَّ الْقِتَالُ وَهُمْ قَلِيلٌ وَهُمُ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ. وَفِرْقَةٌ صَارُوا حَيَارَى لَمَّا سَمِعُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُتِلَ فَصَارَ غَايَةُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ أَنْ يَذُبَّ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ يَسْتَمِرَّ عَلَى بَصِيرَتِهِ فِي الْقِتَالِ إِلَى أَنْ يُقْتَلَ وَهُمْ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ .
وَفِرْقَةٌ ثَبَتَتْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
ثُمَّ تَرَاجَعَ إِلَيْهِ الْقِسْمُ الثَّانِي شَيْئًا فَشَيْئًا لَمَّا عَرَفُوا أَنَّهُ حَيٌّ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي الْحَدِيثِ السَّابِعِ .
قال :وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُخْتَلَفِ الْأَخْبَارِ فِي عِدَّةِ مَنْ بَقِيَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
******************************
وخلَصَ المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجُرح في وجهه الكريم وكُسرت رَباعيته اليمنى السفلى بحجر، وهُشِمت البيضة على رأسه المقدَّس، ورَشَقَه المشركون بالحجارة حتى وقع لشقِّه، وسقط في حفرة من الحُفَر التي كان أبو عامرٍ الفاسق حفرها يكيد بها المسلمين، فأخذ عليٌّ بيده، واحتضنه طلحةُ بن عبيد الله. وكان الذي تولى أذى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن قمِئة وعتبة بن أبي وقاص، وقيل: إن عبد الله بن شهاب الزهري أبا جد محمد بن مسلم بن شهاب هو الذي شجَّه صلى الله عليه وسلم.
******************************
قوله (وخلص المشركون) قال ابن الأثير في النهاية (2/ 61): " يُقَالُ خَلَصَ فُلان إِلَى فُلان: أَيْ وَصَلَ إليه". اهـ.
وقد ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله هاهنا بعض ما حصل للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الأذى.
(فجرح في وجهه الكريم وكسرت رَباعيته اليمنى السفلى بحجر)
الرباعية: السن الذي يلي الثنية ،وهو بين الثنية والناب.
(وهُشِمت البيضة)قال في النهاية: الْهَشْمُ: الكَسْر. والْهَشِيمُ مِنَ النباتِ: اليابِسُ المُتَكَسِّر. والبَيْضَة: الخُوذَة.
وقال ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (6/ 97): "(الْبَيْضَةِ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَهِيَ مَا يُلْبَسُ فِي الرَّأْسِ مِنْ آلَاتِ السِّلَاحِ" .
وقد بوَّب الإمام البخاري بَابُ مَا أَصَابَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الجِرَاحِ يَوْمَ أُحُدٍ
ثم ذكر (4073)حديث أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ فَعَلُوا بِنَبِيِّهِ، يُشِيرُ إِلَى رَبَاعِيَتِهِ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».
وبعده (4074) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ دَمَّوْا وَجْهَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
وحديث سهل بن سَعْدٍ، وَهُوَ يُسْأَلُ عَنْ جُرْحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْرِفُ مَنْ كَانَ يَغْسِلُ جُرْحَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ كَانَ يَسْكُبُ المَاءَ، وَبِمَا دُووِيَ، قَالَ: كَانَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلاَمُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَغْسِلُهُ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَسْكُبُ المَاءَ بِالْمِجَنِّ، فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ أَنَّ المَاءَ لاَ يَزِيدُ الدَّمَ إِلَّا كَثْرَةً، أَخَذَتْ قِطْعَةً مِنْ حَصِيرٍ، فَأَحْرَقَتْهَا وَأَلْصَقَتْهَا، فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَئِذٍ، وَجُرِحَ وَجْهُهُ، وَكُسِرَتِ البَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ ".
وفي صحيح مسلم (1791) عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَشُجَّ فِي رَأْسِهِ، فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدَّمَ عَنْهُ، وَيَقُولُ: «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ؟» ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] .
قال الحافظ ابنُ حجر في فتح الباري(4073)وَمَجْمُوعُ مَا ذُكِرَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّهُ شُجَّ وَجْهُهُ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَجُرِحَتْ وَجْنَتُهُ وَشَفَتُهُ السُّفْلَى من بَاطِنهَا ووهَى منكبُه من ضَرْبَة ابن قَمِئَةَ وَجُحِشَتْ رُكْبَتُهُ .
(وسقط في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق حفرها يكيد بها المسلمين)
أي سقط صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(فأخذ علي بيده، واحتضنه طلحة بن عبيد الله)
أي علي بن أبي طالب. وعلي وطلحة كلاهما من العشرة المبشرين بالجنة .وممن أبلى بلاءً حسنًا في غزوة أُحُد رضي الله عنهما.
******************************
وقتل مصعب بن عمير رضي الله عنه بين يديه، فدفع صلى الله عليه وسلم اللواء إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ونشبت حلقتان من حلق المغفر في وجهه صلى الله عليه وسلم، فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وعضَّ عليهما حتى سقطت ثنيتاه، فكان الهتم يزيِّنه، وامتصَّ مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدمَ من جرحه صلى الله عليه وسلم.
وأدرك المشركون النبيَّ صلى الله عليه وسلم فحال دونه نفر من المسلمين نحوٌ من عشرة فقُتلوا، ثم جالدهم طلحة حتى أجْهَضَهم عنه صلى الله عليه وسلم، وترَّس أبو دجانة سماك بن خرشة عليه صلى الله عليه وسلم بظهره، والنبلُ يقع فيه، وهو لا يتحرك رضي الله عنه، ورمى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يومئذ رمياً مسدداً منكيًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارم فداك أبي وأمي). وأصيبت يومئذٍ عينُ قتادة بن النعمان الظفري، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فردها عليه الصلاة والسلام بيده الكريمة، فكانت أصحَّ عينيه وأحسنَهما.
وصرخ الشيطان ـ لعنه الله ـ بأعلى صوته: إن محمداً قد قُتل، ووقع ذلك في قلوب كثير من المسلمين، وتولى أكثرُهم، وكان أمرُ الله.
******************************
(سقطت ثنيتاه) الثنيَّة من الأسنان في مقدمة الفم ،التي تلي الرَّباعية .
(فكان الهتم يزينه)قال الجوهري في الصحاح : الهَتْمُ: كسرُ الثنايا من أصلها. يقال: ضربَهُ فهَتَمَ فاهُ، إذا ألقى مقدَّم أسنانه.
كان الهتم -وهو سقوطُ ثناياه -يزيِّنه؛ لأنه من آثار غزوة أحد، ومن آثار الدفاع عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من جرحه صلى الله عليه وسلم)
وهذا يدل على أنه حضر غزوة أحد مالك بن سنان رضي الله عنه.
(وأدرك المشركون النبي صلى الله عليه وسلم فحال دونه نفر من المسلمين نحوٌ من عشرة فقتلوا)
أي: وصلوا إليه؛ لأن المسلمين قلة، وحمى النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم من المشركين نحوعشرة من أصحابه.
وقتلوا كلهم رضي الله عنهم.
(ثم جالدهم طلحة حتى أجهضهم عنه صلى الله عليه وسلم)
أجهضهم أي: أبعدهم.وطلحة بن عبيد الله من الذين لم يفرُّوا وشُلَّت يده في غزوة أحد ،ففي صحيح البخاري (4063) عَنْ قَيْسٍ وهو ابن أبي حازم، قَالَ: «رَأَيْتُ يَدَ طَلْحَةَ شَلَّاءَ وَقَى بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ».
(فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارم فداك أبي وأمي))
وهذا متفق عليه البخاري(4059) ومسلم (2411) عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ أَبَوَيْهِ لِأَحَدٍ إِلَّا لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ أُحُدٍ: «يَا سَعْدُ ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي».
وسعد بن أبي وقاص من الذين ثبتوا ولم يفروا .
وما جمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأحد أبويه في تلك الغزوة إلا لسعد بن أبي وقاص. قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم شرح حديث علي : فِيهِ جَوَازُ التَّفْدِيَةِ بِالْأَبَوَيْنِ وَبِهِ قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ.
وَكَرِهَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ فِي التَّفْدِيَةِ بِالْمُسْلِمِ مِنْ أَبَوَيْهِ وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقِيقَةُ فِدَاءٍ .وَإِنَّمَا هُوَ كَلَامٌ وَأَلْطَافٌ وَإِعْلَامٌ بِمَحَبَّتِهِ لَهُ وَمَنْزِلَتِهِ وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِالتَّفْدِيَةِ مُطْلَقًا. اهـ.
( وتولى أكثرُهم)
وتقدم ما ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أنهم كانوا على ثلاثِ فرق وَأن أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ صاروا حيارى لَمَّا سمعوا أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قُتِل . ثم بعد ذلك تراجع هذا القسم إليه شيئا فشيئًا لمَّا عرفوا أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حي . والله المستعان.
******************************
ومر أنس بن النضر بقوم من المسلمين قد ألقوا بأيديهم، فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا قُتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما تصنعون في الحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه، ثم استقبل الناس، ولقي سعد بن معاذ فقال: يا سعد، والله إني لأجد ريح الجنة من قِبل أحد، فقاتل حتى قتل رضي الله عنه، ووجدت به سبعون ضربة.
وجرح يومئذ عبد الرحمن بن عوف نحوا من عشرين جراحةً، بعضها في رجله، فعرج منها حتى مات رضي الله عنه.
******************************
(ومر أنس بن النضر بقوم من المسلمين قد ألقوا بأيديهم، فقال: ما تنتظرون؟)
هذا تثبيت من أنس بن النضرلمن كان متوقفا عن القتال، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد قُتِل فثبَّتهم. وفي المواقف الشديدة يُحتاج إلى التثبيت والتصبير فحثَّهم على القدوم إلى القتال، وقد أبلى بلاءً حسنًا رضي الله عنه . ثبت في صحيح البخاري (2805) عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ المُشْرِكِينَ، لَئِنِ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ المُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ»، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، وَانْكَشَفَ المُسْلِمُونَ، قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ - يَعْنِي أَصْحَابَهُ - وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ، - يَعْنِي المُشْرِكِينَ - ثُمَّ تَقَدَّمَ»، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: «يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ، الجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ»، قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ، قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ المُشْرِكُونَ، فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ قَالَ أَنَسٌ: " كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] إِلَى آخِرِ الآيَةِ " .
لم يعرفه أحد إلا أخته عرفته ببنانه لكثرةِ جراحاته والضرب فيه رضي الله عنه.
وقد كان المشركون حين غَلبُوا بعد أن كانوا قدهُزموا -ولله الأمر من قبل ومن بعد -كانوا يجدِّعون القتلى من المسلمين يقطعون آذانهم وأنوفهم، حتى مِن نساء المشركين مَن كانت تفعل ذلك ، وقد قال أبو سفيان كما تقدم: " وَتَجِدُونَ مُثْلَةً، لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي" .والله المستعان.
******************************
وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو المسلمين، فكان أول من عرفه تحت المغفر كعب بن مالك رضي الله عنه، فصاح بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأشار إليه صلى الله عليه وسلم أن اسكت، واجتمع إليه المسلمون، ونهضوا معه إلى الشعب الذي نزل فيه، فيهم أبو بكر وعمر وعلي والحارث بن الصمة الأنصاري وغيرهم.
فلما أسندوا في الجبل، أدركه أُبَيُّ بن خلف على جواد، يقال له العود، زعم الخبيث أنه يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما اقترب تناول رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الحربةَ من يد الحارث بن الصمة فطعنه بها، فجاءت في ترقوته، ويكرُّ عدوُّ الله منهزماً فقال له المشركون: والله ما بك من بأس، فقال: والله لو كان ما بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون، إنه قال لي: إنه قاتلي، ولم يزل به ذلك حتى مات بسرف مرجعه إلى مكة لعنه الله. وجاء علي رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء ليغسل عنه الدم، فوجده آجِناً، فردَّه.
******************************
(فكان أول من عرفه تحت المغفر كعب بن مالك رضي الله عنه، فصاح بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أبشروا)
كعب بن مالك رأى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فبشر الصحابة فرحًا، وقال هذا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأنه حي ما قتل.
(فأشار إليه صلى الله عليه وسلم أن اسكت)
من أجل لا يعلم المشركون بمكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(فلما أسندوا في الجبل، أدركه أُبي بن خلف على جواد، يقال له العود، زعم الخبيث أنه يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما اقترب تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من يد الحارث بن الصمة فطعنه بها)
أبي بن خلف هوأخو أمية بن خلف ،أمية بن خلف قتل ببدرٍ كافرا ،وأخوه أبي بن خلف مات من آثار طعنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم له في غزوة أُحد مرجعه إلى مكة . وفي الحديث (اشتد غضب الله على رجلٍ قتل نبيا أو قتله نبي ).
(فقال: والله لو كان ما بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون)
أي: أن المصيبة شديدة، ومات بسرف عند رجوعهم من غزوة أحد إلى مكة.
(وجاء علي رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء ليغسل عنه الدم، فوجده آجناً، فرده)
(آجنًا) أي: متغيرًا، (فرده) أي: رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهذا بنحوه في صحيح ابن حبان.
******************************
وأراد صلى الله عليه وسلم أن يعلو صخرة هناك، فلم يستطع لِما به صلى الله عليه وسلم، ولأنه ظاهرَ يومئذ بين درعين، فجلس طلحة تحته حتى صعد، وحانت الصلاة، فصلى جالساً، ثم مال المشركون إلى رحالهم، ثم استقبلوا طريق مكة منصرفين إليها، وكان هذا كله يوم السبت.
واستشهد يومئذ من المسلمين نحو السبعين.
منهم حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتله وحشي مولى بني نوفل وأُعتِق لذلك، وقد أسلم بعد ذلك، وكان أحدَ قَتَلَةِ مسيلمة الكذاب لعنه الله، وعبد الله بن جحش حليف بني أمية، ومصعب بن عمير، وعثمان بن عثمان، وهو شماس بن عثمان المخزومي، سُمِّي بشمَّاس لحُسْنِ وجهه.
فهؤلاء أربعة من المهاجرين، والباقون من الأنصار رضي الله عنْ جميعهم، فدفنهم في دمائهم وكُلُومهم، ولم يصلِّ عليهم يومئذ.
******************************
(وأراد صلى الله عليه وسلم أن يعلو صخرة هناك، فلم يستطع لِما به صلى الله عليه وسلم)
من الجروح والآلام ،ولأنه ظاهر يومئذ بين درعين.
(وحانت الصلاة، فصلى جالساً)
فيه المحافظة على صلاة الجماعة حتى في الغزو.
(واستُشهد يومئذ من المسلمين نحو السبعين)
هؤلاء جملةٌ نصَّ الحافظ ابن كثير رحمه الله أنهم استشهدوا في غزوة أحد.
(منهم حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتله وحشي مولى بني نوفل وأُعتِق لذلك)
وحشي بن حرب حكى قصة قتله لحمزة رضي الله عنه وهذا في صحيح البخاري (4072) من طريق جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الخِيَارِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا حِمْصَ، قَالَ لِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيٍّ: هَلْ لَكَ فِي وَحْشِيٍّ، نَسْأَلُهُ عَنْ قَتْلِ حَمْزَةَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَكَانَ وَحْشِيٌّ يَسْكُنُ حِمْصَ، فَسَأَلْنَا عَنْهُ، فَقِيلَ لَنَا: هُوَ ذَاكَ فِي ظِلِّ قَصْرِهِ، كَأَنَّهُ حَمِيتٌ، قَالَ: فَجِئْنَا حَتَّى وَقَفْنَا عَلَيْهِ بِيَسِيرٍ، فَسَلَّمْنَا فَرَدَّ السَّلاَمَ، قَالَ: وَعُبَيْدُ اللَّهِ مُعْتَجِرٌ بِعِمَامَتِهِ، مَا يَرَى وَحْشِيٌّ إِلَّا عَيْنَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: يَا وَحْشِيُّ أَتَعْرِفُنِي؟ قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: لاَ وَاللَّهِ، إِلَّا أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ عَدِيَّ بْنَ الخِيَارِ تَزَوَّجَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ قِتَالٍ بِنْتُ أَبِي العِيصِ، فَوَلَدَتْ لَهُ غُلاَمًا بِمَكَّةَ، فَكُنْتُ أَسْتَرْضِعُ لَهُ، فَحَمَلْتُ ذَلِكَ الغُلاَمَ مَعَ أُمِّهِ فَنَاوَلْتُهَا إِيَّاهُ، فَلَكَأَنِّي نَظَرْتُ إِلَى قَدَمَيْكَ، قَالَ: فَكَشَفَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: أَلاَ تُخْبِرُنَا بِقَتْلِ حَمْزَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّ حَمْزَةَ قَتَلَ طُعَيْمَةَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الخِيَارِ بِبَدْرٍ، فَقَالَ لِي مَوْلاَيَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: إِنْ قَتَلْتَ حَمْزَةَ بِعَمِّي فَأَنْتَ حُرٌّ، قَالَ: فَلَمَّا أَنْ خَرَجَ النَّاسُ عَامَ عَيْنَيْنِ، وَعَيْنَيْنِ جَبَلٌ بِحِيَالِ أُحُدٍ، بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَادٍ، خَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ إِلَى القِتَالِ، فَلَمَّا أَنِ اصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ، خَرَجَ سِبَاعٌ فَقَالَ: هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ؟ قَالَ: فَخَرَجَ إِلَيْهِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَقَالَ: يَا سِبَاعُ، يَا ابْنَ أُمِّ أَنْمَارٍ مُقَطِّعَةِ البُظُورِ، أَتُحَادُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: ثُمَّ شَدَّ عَلَيْهِ، فَكَانَ كَأَمْسِ الذَّاهِبِ، قَالَ: وَكَمَنْتُ لِحَمْزَةَ تَحْتَ صَخْرَةٍ، فَلَمَّا دَنَا مِنِّي رَمَيْتُهُ بِحَرْبَتِي، فَأَضَعُهَا فِي ثُنَّتِهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ وَرِكَيْهِ، قَالَ: فَكَانَ ذَاكَ العَهْدَ بِهِ، فَلَمَّا رَجَعَ النَّاسُ رَجَعْتُ مَعَهُمْ، فَأَقَمْتُ بِمَكَّةَ حَتَّى فَشَا فِيهَا الإِسْلاَمُ، ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى الطَّائِفِ، فَأَرْسَلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا، فَقِيلَ لِي: إِنَّهُ لاَ يَهِيجُ الرُّسُلَ، قَالَ: فَخَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: «آنْتَ وَحْشِيٌّ» قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «أَنْتَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ» قُلْتُ: قَدْ كَانَ مِنَ الأَمْرِ مَا بَلَغَكَ، قَالَ: «فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُغَيِّبَ وَجْهَكَ عَنِّي» قَالَ: فَخَرَجْتُ فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ مُسَيْلِمَةُ الكَذَّابُ، قُلْتُ: لَأَخْرُجَنَّ إِلَى مُسَيْلِمَةَ، لَعَلِّي أَقْتُلُهُ فَأُكَافِئَ بِهِ حَمْزَةَ، قَالَ: فَخَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ، قَالَ: فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي ثَلْمَةِ جِدَارٍ، كَأَنَّهُ جَمَلٌ أَوْرَقُ ثَائِرُ الرَّأْسِ، قَالَ: فَرَمَيْتُهُ بِحَرْبَتِي، فَأَضَعُهَا بَيْنَ ثَدْيَيْهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ، قَالَ: وَوَثَبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى هَامَتِهِ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الفَضْلِ: فَأَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: " فَقَالَتْ جَارِيَةٌ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ: وَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، قَتَلَهُ العَبْدُ الأَسْوَدُ " .
(وأُعتق لذلك)
كما تقدم في البخاري ، وعم جبيرهو طُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الخِيَارِكما في صحيح البخاري (قَالَ –أي وحشي-: نَعَمْ، إِنَّ حَمْزَةَ قَتَلَ طُعَيْمَةَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الخِيَارِ بِبَدْرٍ، فَقَالَ لِي مَوْلاَيَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: إِنْ قَتَلْتَ حَمْزَةَ بِعَمِّي فَأَنْتَ حُرٌّ). فأُعتق من أجل قتله لحمزة عم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مجازاة له، ومكافأة له.
(فهؤلاء أربعة من المهاجرين، والباقون من الأنصار رضي الله عنهم جميعهم)
يعني الذين قُتلوا في غزوة أحد من الأنصار إلا القليل من المهاجرين، وقد ذكر هنا الحافظ ابن كثير رحمه الله أنهم أربعة.
(فدفنهم في دمائهم وكُلومهم، ولم يصل عليهم يومئذ)
(كلومهم) أي: جروحهم، ولم يصل عليهم؛ لأنهم شهداء وهذا في صحيح البخاري (1343) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: «أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ»، فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ، وَقَالَ: «أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاَءِ يَوْمَ القِيَامَةِ»، وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ.
قال ابن كثير في البداية (4/43ط دار الكتب العلمية):كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ بَلْ فِي الْكَفَنِ الْوَاحِدِ .وَإِنَّمَا أَرْخَصَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لِمَا بِالْمُسْلِمِينَ مِنَ الْجِرَاحِ الَّتِي يشق معها أن يحفروا لكل واحد،وَيُقَدِّمَ فِي اللَّحْدِ أَكْثَرَهُمَا أَخْذًا لِلْقُرْآنِ .اهـ.
(واستُشهِد يومئذ من المسلمين نحو السبعين)
كان عدد الذين استشهدوا في غزوة أُحُد نحو السبعين قال تعالى:﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[آل عمران:165] ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ﴾أي: في غزوة أحد، ﴿أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾ أي: في غزوة بدر، فإن الصحابة قتلوا سبعين من المشركين وأسروا سبعين.
وقال الإمام البخاري في صحيحه (بَابُ مَنْ قُتِلَ مِنَ المُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ مِنْهُمْ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَاليَمَانُ، وَأَنَسُ بْنُ النَّضْرِ، وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ .
ثم ذكر رحمه الله (4078) بإسناده من طريق قَتَادَةَ، قَالَ: مَا نَعْلَمُ حَيًّا مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ أَكْثَرَ شَهِيدًا أَعَزَّ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ قَتَادَةُ: وَحَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ " قُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ، وَيَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ سَبْعُونَ، وَيَوْمَ اليَمَامَةِ سَبْعُونَ، قَالَ: «وَكَانَ بِئْرُ مَعُونَةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَوْمُ اليَمَامَةِ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ، يَوْمَ مُسَيْلِمَةَ الكَذَّابِ».
******************************
وفرَّ يومئذٍ من المسلمين جماعةٌ من الأعيان، منهم عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد نص الله سبحانه على العفو عنهم، فقال عز وجل: :﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾[آل عمران: 155].
وقتل يومئذ من المشركين اثنان وعشرون.
وقد ذكر سبحانه هذه الوقعة في سورة آل عمران حيث يقول: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران:121].
******************************
(وفر يومئذ من المسلمين جماعة من الأعيان، منهم عثمان بن عفان رضي الله عنه)
عثمان بن عفان أحد المبشرين بالجنة، والخليفة الثالث بعد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وقد جاء رجل إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فطرح عليه ثلاثة أسئلة ، فأجابه وخصمه عبد الله بن عمر رضي الله عنه .
وهذا في صحيح البخاري (3698) من طريق عُثْمَانَ هُوَ ابْنُ مَوْهَبٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ حَجَّ البَيْتَ، فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا، فَقَالَ: مَنْ هَؤُلاَءِ القَوْمُ؟ فَقَالُوا هَؤُلاَءِ قُرَيْشٌ، قَالَ: فَمَنِ الشَّيْخُ فِيهِمْ؟ قَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ، إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ شَيْءٍ فَحَدِّثْنِي، هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَدْرٍ وَلَمْ يَشْهَدْ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَمْ يَشْهَدْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، قَالَ: ابْنُ عُمَرَ: تَعَالَ أُبَيِّنْ لَكَ، أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ، وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَدْرٍ فَإِنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، وَسَهْمَهُ» وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، فَلَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزَّ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ لَبَعَثَهُ مَكَانَهُ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُثْمَانَ وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ اليُمْنَى: «هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ». فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ، فَقَالَ: «هَذِهِ لِعُثْمَانَ» فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ اذْهَبْ بِهَا الآنَ مَعَكَ".
ولا يجوز بحالٍ تنقص الصحابة ،أوالكلام فيهم بما يحطُّ من شأنهم رضي الله عنهم أجمعين ،اختارهم الله صحابةً لنبيه الكريم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ،ووعدهم كلهم بالحُسنى .
(وقُتل يومئذ من المشركين اثنان وعشرون)
هؤلاء عدد قتلى المشركين في غزوة أحد.
(وقد ذكر سبحانه هذه الوقعة في سورة آل عمران حيث يقول: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران:121])
﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ...﴾ إلى ستين آية وبدايتها هذه الآية في سياق غزوة أحد .وقد نص على ذلك ابنُ القيم في زاد المعاد(3/ 189) وقال : فَكَانَ مِمَّا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي يَوْمِ أُحُدٍ سِتُّونَ آيَةً مِنْ آلِ عِمْرَانَ، أَوَّلُهَا: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آلِ عِمْرَانَ: 121] إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ..
وممن حضر هذه الوقعة من النساء عائشة أم المؤمنين، وفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأم سليم، وأم سَليط والدة أبي سعيد الخدري رضي الله عنهن حضرن الغزو لا للغزو ولكن لخدمة المجاهدين، فكن يداوين الجرحى، ويسقين المرضى إلى غير ذلك.
أخرج البخاري (4064) عن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو طَلْحَةَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُجَوِّبٌ عَلَيْهِ بِحَجَفَةٍ لَهُ ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ رَجُلًا رَامِيًا شَدِيدَ النَّزْعِ، كَسَرَ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، وَكَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ مَعَهُ بِجَعْبَةٍ مِنَ النَّبْلِ، فَيَقُولُ: «انْثُرْهَا لِأَبِي طَلْحَةَ» قَالَ: وَيُشْرِفُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَى القَوْمِ، فَيَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، لاَ تُشْرِفْ، يُصِيبُكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ القَوْمِ، نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ، وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ، أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا تُنْقِزَانِ القِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ القَوْمِ، ثُمَّ تَرْجِعَانِ فَتَمْلَآَنِهَا، ثُمَّ تَجِيئَانِ فَتُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ القَوْمِ، وَلَقَدْ وَقَعَ السَّيْفُ مِنْ يَدَيْ أَبِي طَلْحَةَ إِمَّا مَرَّتَيْنِ وَإِمَّا ثَلاَثًا .
وبوب البخاري في صحيحه على هذا الحديث في كتاب الجهاد (باب غَزْوِ النِّسَاءِ وَقِتَالِهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ ) .
قال الحافظ في فتح الباري (2880):وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ التَّصْرِيحَ بِأَنَّهُنَّ قَاتَلْنَ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَالَ ابن الْمُنيرِ :بَوَّبَ عَلَى قِتَالِهِنَّ وَلَيْسَ هُوَ فِي الْحَدِيثِ .
فَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّ إِعَانَتَهُنَّ لِلْغُزَاةِ غَزْوٌ، وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُنَّ مَا ثَبَتْنَ لِسَقْيِ الْجَرْحَى وَنَحْوِ ذَلِكَ إلَّا وَهُنَّ بِصَدَدِ أَنْ يُدَافِعْنَ عَنْ أَنْفُسِهِنَّ وَهُوَ الْغَالِبُ اهـ.
فكان من النساء من يحضر الغزوة لخدمة المجاهدين ،أخرج الإمام مسلم (1812) عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الْأَنْصَارِيَّةِ، قَالَتْ: «غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ، أَخْلُفُهُمْ فِي رِحَالِهِمْ، فَأَصْنَعُ لَهُمُ الطَّعَامَ، وَأُدَاوِي الْجَرْحَى، وَأَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى» .
وقصة فاطمة رضي الله عنها تقدمت،وأنها داوت جرح النبي صلى الله عليه وسلم .
وأخرج البخاري(2881) من طريق ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ: أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَسَمَ مُرُوطًا بَيْنَ نِسَاءٍ مِنْ نِسَاءِ المَدِينَةِ، فَبَقِيَ مِرْطٌ جَيِّدٌ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ عِنْدَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، أَعْطِ هَذَا ابْنَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي عِنْدَكَ، يُرِيدُونَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيٍّ، فَقَالَ عُمَرُ: «أُمُّ سَلِيطٍ أَحَقُّ، وَأُمُّ سَلِيطٍ مِنْ نِسَاءِ الأَنْصَارِ، مِمَّنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، قَالَ عُمَرُ: «فَإِنَّهَا كَانَتْ تَزْفِرُ لَنَا القِرَبَ يَوْمَ أُحُدٍ».
وقد ترجم لأم سليط الحافظ في الإصابة وقال : قال أبو عمر-أي ابن عبدالبر-: من المبايعات، حضرت مع النّبيّ صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم يوم أحد، قال عمر بن الخطاب: كانت ممن يزفر لنا القرب يوم أحد.
قلت: ثبت ذكرها في صحيح البخاريّ، عن عمر، كناها عمر بابنها سليط بن أبي سليط بن أبي حارثة، وهي أم قيس بنت عبيد. ذكر ذلك ابن سعد ، ثم ذكر غيره أنها تزوّجت بعد أبي سليط مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدريّ، فولدت أبا سعيد، فهو أخو سليط بن أبي سليط لأمّه.اهـ.
وهناك من الأمور كانت في غزوة أحد مشابهة لغزوة بدر منها:
النعاس: قال عز وجل في غزوة أحد:{ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } .وقال سبحانه في غزوة بدر ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ﴾[الأنفال:11].
ومنها :الدعاء، أخرج الإمام مسلم (1743) عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ يَوْمَ أُحُدٍ: «اللهُمَّ، إِنَّكَ إِنْ تَشَأْ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ».
وسبق في غزوة بدر أنه قال نحو ذلك.
أمرٌثالث :أخرج البخاري (4046) ومسلم (1899) من طريق عَمْرٍو وهو ابن دينار، سَمِعَ جَابِرًا، يَقُولُ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ: أَيْنَ أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ قُتِلْتُ؟ قَالَ: «فِي الْجَنَّةِ»، فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ كُنَّ فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تحت الرقم المذكور: لم أقف على اسمه .
وتقدم معنا في غزوة بدر قصة لعمير بن الحمام رضي الله عنه مشابهة لهذه ،رضي الله عنهما .
وقد ذكر هذه المسألة الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (4/29).
انتهينا من غزوة أحد،واستفدنا فوائد عظيمة ودروسًا وعِبَر، وما كان من الابتلاءات للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحابته رضي الله عنهم في هذه الوقعة ،وفي ذلك حِكَمٌ عظيمة تقدم بعضها ،وقد كان في أول الأمر الدولة للمسلمين ثم كان من أمر الله ما كان ،ونلاحظ من الأدب مع الصحابة أن الحافظَ ابنَ كثير لا يقول :هُزِمَ الصحابة ،ولكنه يقول (فكان ما أراد الله تعالى كونَه) ،ثم كان العاقبة والنصر للمسلمين فقد أنزل الله عليهم الطمأنينة وغشيهم النعاس قال الحافظ ابن كثير في البداية (4/29) وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى طُمَأْنِينَةِ الْقُلُوبِ بنصر الله وتأييده وتمام توكلها على خلقها وَبَارِئِهَا.اهـ.
ونزل جبريل وميكائيل عليهما الصلاة والسلام للنصر والمَدد والمعونة أخرج البخاري(4054)ومسلم (2306) عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَمَعَهُ رَجُلاَنِ يُقَاتِلاَنِ عَنْهُ، عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ، كَأَشَدِّ القِتَالِ مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلاَ بَعْدُ»وعند مسلم يَعْنِي جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.وهذا من الكرامات التي وقعت في هذه الغزوة .
ومما استفدنا شؤم الذنب والتنازع لأن ما حصل للصحابة في هذه الغزوة هو بسبب مخالفة بعضهم فالمخالفة لأمرالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيها ضررٌ عظيمٌ، ولكن العاقبة للمتقين،حكمة الله أن الحرب سجال بين المسلمين وأعدائهم قال ابن القيم في زاد المعاد (3/ 196): فَإِنَّهُمْ لَوِ انْتَصَرُوا دَائِمًا دَخَلَ مَعَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَغَيْرُهُمْ، وَلَمْ يَتَمَيَّزِ الصَّادِقُ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَوِ انْتُصِرَ عَلَيْهِمْ دَائِمًا لَمْ يَحْصُلِ الْمَقْصُودُ مِنَ الْبَعْثَةِ وَالرِّسَالَةِ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ أَنْ جَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ لِيَتَمَيَّزَ مَنْ يَتَّبِعُهُمْ وَيُطِيعُهُمْ لِلْحَقَّ، وَمَا جَاءُوا بِهِ مِمّنْ يَتَّبِعُهُمْ عَلَى الظُّهُورِ وَالْغَلَبَةِ خَاصَّةً.اهـ.
معرفة بعض الصحابة الذين شَهدِوا الغزوة وما هم عليه من شدة المسابقة إلى الجنة ،وشدة محبتهم للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبوطلحة يقول يا رسول الله نحري دون نحرك ،وبيان بعض من استُشهد في هذه الغزوة وأن شهادتهم كرامة من الله لهم ،وهذامما يزيد المؤمن محبةً للصحابة وتوقيرًا لهم،كرامة لأنس بن النضر لوجده ريح الجنة دون أحُدٍ رضي الله عنه ،
وأنه في هذه الغزوة تميَّز كثيرٌ من المنافقين حيث انخزل عبدالله ابن أُبَي بثلاثمائة، ورجعوا من الطريق ،حضور الشيطان المعركة–نعوذ بالله منه- وما قام به من الكيد للمسلمين فقد صرخ وقال: أي عباد الله أُخراكم ،وتثبيط الصحابة بقوله إن محمدا قد قُتل حتى ظهرللصحابة بعد شِدَّةٍ ومحنة عظيمة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يمتْ ،نزول آيات في سورة آل عمران ما يقارب ستين آية في شأن غزوة أحد .
ردُّ الصبيان وعدم قبولهم في المعركة ،أن شهيد المعركة لا يغسَّل ولا يُصلَّى عليه، جواز دفنِ الرجلين والثلاثة في قبرٍ واحد عند وجود المشقة من تفريقهم لكثرتهم،فضل أهل القرآن لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُقدِّم في اللحد من هو أكثر قرآنًا،خروج النساء في الغزو لإعانة المجاهدين وخدمتهم .
هذا وقد ذكر ابنُ القيم في زاد المعاد فوائد واستنباطات كثيرة من وقعة أُحد فمن أرادَ المزيدَ فليَرجِعْ إليه .والله أَعلم .
أم سمية الأثرية
2016-03-03, 09:23
الدرس السادس عشر من / الفصول من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم 22من جمادى الأولى 1437.
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس السادس عشر
فصل ـ غزوة حمراء الأسد
ولما أصبح يوم الأَحد، ندب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى النُّهوضِ في طلب العدو، إرهاباً لهم، وهذه غزوة حمراء الأسد، وأمر ألا يخرجَ معه إلا من حضر أُحُداً، فلم يخرج إلا من شهد أُحداً، سوى جابر بن عبد الله، فإنه كان أبوه استخلَفه في بناتِه، فقتل أبوه يوم أحد، فاستأذن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في الخروجِ إلى حمراءِ الأسد، فأذِن له.
فنهضَ المسلمون كما أمرهم صلى الله عليه وسلم، وهم مثقلُون بالجراح، حتى بلغ حمراءَ الأسد وهي على ثمانية أميالٍ من المدينة، فذلك قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران:172]. ومر معبد بن أبي معبد الخُزاعي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأجازه حتى بلغ أبا سفيان والمشركين بالروحاء، فأخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد خرجوا في طلبهم، ففت ذلك في أعداد قريش، وكانوا أرادوا الرجوع إلى المدينة فثناها ذلك واستمروا راجعين إلى مكة.
وظفر عليه الصلاة والسلام بمعاوية بن المغيرة بن أبي العاص فأمر بضرب عنقه صبراً، وهو والد عائشة أم عبد الملك بن مران، فلم يُقتل فيها سواه.
********************************
هذا الفصل في غزوة حمراء الأسد،وقد كانت في السنة الثالثة عقب غزوةِ أُحُد ،وقعةُ أُحُد في يوم السبت ،وغزوة حمراء الأسد في يوم الأَحَد .
وسببها أن قريشًا بعد انتهاء معركة أُحد يوم السبت انصرفوا راجعين إلى مكة، فلما كانوا في الطريق تلاوم بعضهم على بعض، وقالوا: قاتلتم محمدًا وأصحابه وكسرتم شوكتهم ولكن بقي فيهم رؤوس سيجمعون لكم، ثم يقاتلونكم فهمُّوا بالرجوع إلى المدينة، وعلم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك فندب أصحابه وأمرهم بالخروج إلى كفار قريش إلا من لم يشهد وقعة أحد ،وكانوا في غزوة أُحُد سبعمائة وقُتِلَ منهم سبعون واستأذنه جابر بن عبدالله وذكر له أنه تخلف عن غزوة أُحد لأمر أبيه عبدالله بن عمرو له أن يبقى في رعاية أخواته أي بنات عبدالله بن عمرو فأذن له ولم يأذن لغيره ممن لم يشهد غزوةَ أحد قال الزرقاني في شرحه على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (2/ 465) لعل حكمة ذلك وإن كان خروج المتخلفين فيه زيادة في إرهاب الأعداء وتقوية المسلمين، أنه أراد إظهار الشدة للعدو, فيعلمون من خروجهم مع كثرة جرحاتهم أنَّهم على غاية من القوة والرسوخ في الإيمان وحب الرسول, والزيادة في تعظيم من شهد أُحد، أو أنه خاف اختلاط المنافقين بهم فيَمُنُّون عليه بعد بخروجهم معهم وهم مسلمون ظاهرًا، فلا يرد أنه كان يمنعهم دون المسلمين.اهـ.
واستجاب الصحابة لأمر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهم منهكون بالجروح،فخرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه بجراحاتهم وقد مدحهم الله بقوله: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران:172]. (الْقَرْحُ): الجروح.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: (إرهاباً لهم) وأن المسلمين لم يوهِنْهِم الحرب، وفي صحيح البخاري (4077)عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172]، قَالَتْ لِعُرْوَةَ: يَا ابْنَ أُخْتِي، كَانَ أَبَوَاكَ مِنْهُمْ: الزُّبَيْرُ، وَأَبُو بَكْرٍ، لَمَّا أَصَابَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَصَابَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَانْصَرَفَ عَنْهُ المُشْرِكُونَ، خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا، قَالَ: «مَنْ يَذْهَبُ فِي إِثْرِهِمْ» فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا، قَالَ: كَانَ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ، وَالزُّبَيْرُ ».
وهذا فيه أيضًا خوف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يرجع كفارُ قريش .
قال الحافظ ابنُ كثير في البداية والنهاية (4/52) وَهَذَا السِّيَاقُ غَرِيبٌ جِدًّا، فَإِنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَ أَصْحَابِ الْمَغَازِي أَنَّ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ كُلُّ مَنْ شَهِدَ أُحُدًا، وَكَانُوا سَبْعَمِائَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ وَبَقِيَ الْبَاقُونَ.اهـ.
قال محمد بن يوسف الصالحي في سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (4/314) : الظاهر والله أعلم أنه لا تخالف بين قول عائشة وما ذكره أصحاب المغازي، لأنّ معنى قولها: «فانتدب منهم سبعون» أنهم سبقوا غيرهم، ثم تلاحق الباقون، ولم ينبّه على ذلك الحافظ في الفتح.اهـ.
فلما بلغ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حمراء الأسد. يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: (وهي على ثمانية أميال من المدينة).
ومر معبد بن أبي معبد الخزاعي وكان كافرًا، وذكر ابن القيم رحمه الله أنه أسلم ففي زاد المعاد (3/ 216، 217): وَأَقْبَلَ معبد بن أبي معبد الخزاعي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْلَمَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ بأبي سفيان، فَيُخَذِّلُهُ، فَلَحِقَهُ بِالرَّوْحَاءِ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِإِسْلَامِهِ، فَقَالَ مَا وَرَاءَكَ يَا معبد؟ فَقَالَ: مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ قَدْ تَحَرَّقُوا عَلَيْكُمْ، وَخَرَجُوا فِي جَمْعٍ لَمْ يَخْرُجُوا فِي مِثْلِهِ، وَقَدْ نَدِمَ مَنْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِمْ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ؟ فَقَالَ: مَا أَرَى أَنْ تَرْتَحِلَ حَتَّى يَطْلُعَ أَوَّلُ الْجَيْشِ مِنْ وَرَاءِ هَذِهِ الْأَكَمَةِ. القصة.
كذا ذكر ابنُ القيم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو الذي أمر معبدالخزاعي أن يثبط كفار قريش فمر معبد بأبي سفيان وجماعته بالروحاءفثبطهم وكسر شوكتهم. بينما في سيرة ابن إسحاق(2/ 102)وغيرها ما نصه: وَكَانَتْ خُزَاعَةُ، مُسْلِمُهُمْ وَمُشْرِكُهُمْ عَيْبَةَ نُصْحٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِتِهَامَةَ، صَفْقَتُهُمْ مَعَهُ، لَا يُخْفُونَ عَنْهُ شَيْئًا كَانَ بِهَا، وَمَعْبَدٌ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَمَا وَاَللَّهِ لَقَدْ عَزَّ عَلَيْنَا مَا أَصَابَكَ، وَلَوَدِدْنَا أَنَّ اللَّهَ عَافَاكَ فِيهِمْ، ثُمَّ خَرَجَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ، حَتَّى لَقِيَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَمَنْ مَعَهُ بِالرَّوْحَاءِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا الرَّجْعَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، وَقَالُوا: أَصَبْنَا حَدَّ أَصْحَابِهِ وَأَشْرَافَهُمْ وَقَادَتَهُمْ، ثُمَّ نَرْجِعُ قَبْلَ أَنْ نَسْتَأْصِلَهُمْ! لَنَكُرَنَّ عَلَى بَقِيَّتِهِمْ، فَلَنَفْرُغَنَّ مِنْهُمْ. فَلَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ مَعْبَدًا، قَالَ: مَا وَرَاءَكَ يَا مَعْبَدُ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ قَدْ خَرَجَ فِي أَصْحَابِهِ يَطْلُبُكُمْ فِي جَمْعٍ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ، يَتَحَرَّقُونَ عَلَيْكُمْ تَحَرُّقًا، قَدْ اجْتَمَعَ مَعَهُ مَنْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُ فِي يَوْمِكُمْ، وَنَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا ، فِيهِمْ مِنْ الْحَنَقِ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ، قَالَ: وَيْحكَ! مَا تَقُولُ؟ قَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَرَى أَنْ تَرْتَحِلَ حَتَّى أَرَى نَوَاصِيَ الْخَيل، قَالَ: فو الله لَقَدْ أَجْمَعْنَا الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ، لِنَسْتَأْصِلَ بَقِيَّتَهُمْ: قَالَ: فَإِنِّي أَنْهَاكَ عَنْ ذَلِكَ .
وهذا ظاهره أن معبدًا الخزاعي كان يحترم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأنه قام بتثبيط أبي سفيان وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو الذي أمره بذلك .
ثم الإسناد غير متصل .
وجاء أن المشركين رأوا واحدا ذاهبًا إلى المدينة. فقالوا: قل لمحمد إننا نجمع له فبلغ النبي وصحابته فزادهم إيمانًا وقوة، كما قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران:173]. إنما هذا تخويف الشيطان للمسلمين مِن أوليائه وقد قال تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:175]. (يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) أي: يخوفكم أولياءَه.
فازداد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحابته إيمانًا، ﴿وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾.
وهذه الكلمة كلمة عظيمة بالغةُ الأثر .وقد ثبت صحيح البخاري (4563) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، «قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» حِينَ قَالُوا: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا، وَقَالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ﴾ [آل عمران: 173].
(حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم حين ألقي في النار فكانت عليه بردًا وسلاما .وقالها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فجعل كيد عدوه هباءًمنثورًا.
معنى (حسبنا الله ونعم الوكيل)، حسبنا الله: أي: كافينا الله، الحسب الكافي. ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر:36]. ونعم الوكيل: نعم الحفيظ و الموكول إليه الأمور. قال البغوي رحمه الله في تفسيره (2/ 138): " {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} أَيْ: كَافِينَا اللَّهُ، {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} أَيِ: الْمَوْكُولُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ".
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في منهاج السنة (7/ 204)أَي: اللَّهُ وَحْدَهُ كَافِينَا كُلَّنَا. وقال القرطبي في تفسير هذه الآية :أَيْ كَافِينَا اللَّهُ. وَحَسْبُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِحْسَابِ، وَهُوَ الْكِفَايَةُ.
وقال الإمام السعدي رحمه الله في تفسيره : "(وقالوا حسبنا الله) أي: كافينا كل ما أهمَّنا (ونعم الوكيل) المفوض إليه تدبير عباده، والقائم بمصالحهم".وبنحوه يقول الشيخ ابنُ عثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين .
هذا ما ذكره أهل العلم عن هذه الكلمة، وهي كلمةٌ معناها الاستعانة بالله والالتجاء إلى الله والتوكل عليه، وليس معناها الدعاء. وإذا نوى قد تكون له نيته ،ولكن الأصل ليست دعاء.
هذه الكلمة تقال عند الشدائد، عند الأذى، عند الكُربة، عند الحزن، عند الشدة،الظلم ،المرض، تقال أيضًا في جلب الخيروالنِّعَم، قال سبحانه: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ﴾ [التوبة:59]. وقد تقولها الأم لأولادها وتقصد الاستعانة بالله على صلاح الأولاد واللطف من عنده تعالى.
ويجوز للمظلوم أن يدعو على من ظلمه . والأَولى أن يقتصر على (حسبنا الله ونعم الوكيل) أو (الله المستعان). قال يعقوب عليه السلام: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف:18]. ومثل: (إنا لله وإنا إليه راجعون) فهذا هو الأولى .وأما الجواز فيجوز أن يدعو المظلوم على ظالمه، كما قال تعالى: ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ [النساء:148]. ويدخل فيه الدعاء.
ومن ذلك قصة سعد بن أبي وقاص كما في صحيح البخاري (755) عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: شَكَا أَهْلُ الكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَعَزَلَهُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا، فَشَكَوْا حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لاَ يُحْسِنُ يُصَلِّي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ إِنَّ هَؤُلاَءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لاَ تُحْسِنُ تُصَلِّي، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَمَّا أَنَا وَاللَّهِ «فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلاَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَخْرِمُ عَنْهَا، أُصَلِّي صَلاَةَ العِشَاءِ، فَأَرْكُدُ فِي الأُولَيَيْنِ وَأُخِفُّ فِي الأُخْرَيَيْنِ»، قَالَ: ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلًا أَوْ رِجَالًا إِلَى الكُوفَةِ، فَسَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الكُوفَةِ وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلَّا سَأَلَ عَنْهُ، وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا، حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ قَالَ: أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لاَ يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ، وَلاَ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلاَ يَعْدِلُ فِي القَضِيَّةِ، قَالَ سَعْدٌ: أَمَا وَاللَّهِ لَأَدْعُوَنَّ بِثَلاَثٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ بِالفِتَنِ، وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ، قَالَ عَبْدُ المَلِكِ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ، قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الكِبَرِ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ .
( لا يسير بالسرية) أي: لا يسير مع الجيش ،وصفه بالجبن.
قصة سعيد بن زيد أحد المبشرين بالجنة في صحيح مسلم (1610) عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، أَنَّ أَرْوَى خَاصَمَتْهُ فِي بَعْضِ دَارِهِ، فَقَالَ: دَعُوهَا وَإِيَّاهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ، طُوِّقَهُ فِي سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، اللهُمَّ، إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَأَعْمِ بَصَرَهَا، وَاجْعَلْ قَبْرَهَا فِي دَارِهَا، قَالَ: " فَرَأَيْتُهَا عَمْيَاءَ تَلْتَمِسُ الْجُدُرَ تَقُولُ: أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، فَبَيْنَمَا هِيَ تَمْشِي فِي الدَّارِ مَرَّتْ عَلَى بِئْرٍ فِي الدَّارِ، فَوَقَعَتْ فِيهَا، فَكَانَتْ قَبْرَهَا " .
«اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ» الحذر من الظلم. ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾ [طه:111]. ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنعام:21].
وثبت عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: غَلَا السِّعْرُ بِالْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، غَلَا السِّعْرُ، سَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ، الْبَاسِطُ الرَّزَّاقُ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ، وَلَا مَالٍ» .أخرجه أحمد في مسنده(14057) .
(فِي دَمٍ) قتل النفس التي حرم الله. (وَلَا مَالٍ) أخذ أموال الناس بالباطل.
من نجا من الشرك، ومَن نجا مِنْ ظُلم المسلمين في أعراضهم وأموالهم ودمائهم فهو على خير. لا تلصُّص ولا سرقة ولا اختلاس أموال الناس مثل الضرائب والجمارك ،والرشاوى.
الرشوة: ما أعطي لإحقاق باطل أوإبطال حق. هذا ما أخذناه من الوالد رحمه الله، وذكر لنا رحمه الله لما أخرجت كتبه من المدينة احتُجزت قالوا :كتبٌ وهابية وظن مَن جاء بها أنه لو أعطاهم مالًا يكون رشوة وما عرف أن الرشوة : ما أعطي لإحقاق باطل أولإبطال حق .
الرشوة هنا لا تنطبق على المعطِي تنطبق على المُعْطَى .ثم سُلِّمتْ له رحمه الله بعد عناء وتعبٍ ومضَضٍ.
عرفنا شؤم الظلم ومضارَّه ، فالابتعاد عن الظلم نعمةٌ عظيمة ،لا لصغيرولا كبير، ومن كانت لها كلمة وقوة لا تظلم من تحتها ،لا تظلم يتيمةً، لا تظلم زوجة ولد، حتى أزواج الأولاد بعضهن يظلمن، ولكن﴿لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة:279] .ومن الأدعية عندالخروج ما أخرج أبوداود في سننه (5094) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: مَا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْتِي قَطُّ إِلَّا رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ، أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ، أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ، أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ، أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ». (أَوْ أَظْلِمَ، أَوْ أُظْلَمَ)
أن نظلم غيرنا أو نُظْلم في أنفسنا.فقد يفتن الإنسان إذا ظُلِم، وبعض الناس يدعو على نفسه ( اللهم اجعلنا من المظلومين) هذا خطأ لا يدعو على نفسه بالفتنة.
وقوله (فَفَتَّ في أعضاد قريش) قال الصالحي في سبل الهدى والرشاد(4/316):أي كسر.
(وظفر عليه الصلاة والسلام بمعاوية بن المغيرة بن أبي العاص فأمر بضرب عنقه صبراً، وهو والد عائشة أم عبد الملك بن مران).
قتل الصبر قال ابنُ الأثير في النهاية : هُوَ أَنْ يُمسَك شيءٌ من ذوات الرُّوح حيَّا ثم يُرْمى بِشَيْءٍ حَتَّى يَمُوتَ.
(فلم يقتل فيها سواه) أي: لم يقتل سوى معاوية بن المغيرة في غزوة حمراء الأسد.
********************************
فصل ـ بعث الرَّجيع
ثم بعث صلى الله عليه وسلم بعدَ أُحد بعثَ الرجيع، وذلك في صفر من السنة الرابعة، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى عَضَلٍ والقَارَةِ بسؤالهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ذلك حين قدموا عليه وذكروا أن فيهم إسلاماً، فبعث ستةَ نفر في قول ابن إسحاق، وقال البخاري في صحيحه كانوا عشرة. وقال أبو القاسم السهيلي: وهذا هو الصحيح.
وأمَّر عليهم مرثد بن أبي مرثدالغنوي رضي الله عنهم. ومنهم خبيب بن عدي، فذهبوا معهم، فلما كانوا بالرجيع، وهو ماءٌ لهذيل بناحية الحجاز بالهدْأَة غدروا بهم، واستصرَخوا عليهم هُذَيلاً، فجاؤوا فأحاطوا بهم فقتلوا عامَّتهم،وكانَ في شأنهم آياتٌ رضي الله عن جميعهم ، واسْتُأْسِر منهم خبيب بن عدي ورجل آخر وهو زيد بن الدَّثِنة فذهبوا بهما فباعوهما بمكة، وذلك بسبب ما كانا قتلا من كفار قريش من يوم بدر. فأما خبيب رضي الله عنه فمكث عندهم مسجوناً ثم أجمعوا لقتله فخرجوا به إلى التنعيم ليصلُبوه فاستأذنهم أن يصلي ركعتين فأذنوا له: فصلاهما ثم قال: والله لولا أن تقولوا أن ما بي جزعٌ لزدت، ثم قال:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً ... على أي جنب كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
ثم وكلوا به من يحرسه، فجاء عمرو بن أمية فاحتمله بخدعة ليلاً فذهب به فدفنه.
وأما زيد بن الدَّثنة رضي الله عنه فابتاعَه صفوان بن أمية فقتله بأبيه. وقد قال له أبو سفيان: أيسرك أن محمداً عندنا تُضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ فقال: والله ما يسرني أني في أهلي وأن محمداً في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكةٌ تؤذيه.
********************************
عندنا هنا بعث الرجيع قال الحافظ في فتح الباري :الرَّجِيعُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ هُوَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلرَّوْثِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاسْتِحَالَتِهِ .وَالْمُرَادُ هُنَا اسْمُ مَوْضِعٍ مِنْ بِلَادِ هُذَيْلٍ كَانَتِ الْوَقْعَةُ بِقُرْبٍ مِنْهُ فَسُمِّيَتْ بِهِ .اهـ.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: (وذلك في صفر من السنة الرابعة) وبعضهم ذكرها في سنة ثلاث كابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام (2/169).وقد نقل ذلك الحافظ في فتح الباري عن ابن إسحاق أنه ذكر غزوة الرجيع في أواخرسنة ثلاث .اهـ.
وسبب غزوة الرجيع أن عضل والقارة وهما قبيلتان قال الحافظ في فتح الباري(3905)عن القارة:وَهِيَ قَبِيلَةٌ مَشْهُورَة من بني الْهون بِالضَّمِّ وَالتَّخْفِيف بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ وَكَانُوا حُلَفَاءَ بَنِي زُهْرَةَ مِنْ قُرَيْشٍ وَكَانُوا يُضْرَبُ بِهِمُ الْمَثَلَ فِي قُوَّةِ الرَّمْيِ قَالَ الشَّاعِرُ قَدْ أَنْصَفَ الْقَارَةَ مَنْ رَامَاهَا .اهـ.
وقال ابن حجر رحمه الله في المواهب اللُّدنية بالمنح المحمدية (1/259):عضَل والقارة- بفتح الضاد المعجمة بعدها لام- بطن من بنى الهون بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، ينسبون إلى عضل بن الديش.
وأما القارة، فبالقاف وتخفيف الراء، بطن من الهون ينسبون إلى الديش المذكور، قال ابن دريد: القارة: أكمة سوداء فيها حجارة، كأنهم نزلوا عندها فسموا بها.اهـ.
سألوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يبعث من يعلمهم ويقرؤهم القرآن فأرسل إليهم مجموعة من أصحابه في صحيح البخاري أنهم عشرة.
وقوله (وأمَّر عليهم مرثد بن أبي مرثدالغنوي)وفي صحيح البخاري (3045)وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ قال الحافظ في فتح الباري : قَوْلُهُ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ كَذَا فِي الصَّحِيحِ وَفِي السِّيرَةِ أَنَّ الْأَمِيرَ عَلَيْهِمْ كَانَ مَرْثَدَ بْنَ أَبِي مَرْثَدٍ وَمَا فِي الصَّحِيحِ أَصَحُّ .اهـ.
و في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث هؤلاء العشرة عينًا أي جواسيس لبعض الأمور.فالروايات مختلفة .والله أعلم.وللاستفادة نسوق الحديث بلفظه من البخاري (4086) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً عَيْنًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ» وَهُوَ جَدُّ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ ذُكِرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو لَحْيَانَ، فَتَبِعُوهُمْ بِقَرِيبٍ مِنْ مِائَةِ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ حَتَّى أَتَوْا مَنْزِلًا نَزَلُوهُ، فَوَجَدُوا فِيهِ نَوَى تَمْرٍ تَزَوَّدُوهُ مِنَ المَدِينَةِ، فَقَالُوا: هَذَا تَمْرُ يَثْرِبَ، فَتَبِعُوا آثَارَهُمْ حَتَّى لَحِقُوهُمْ، فَلَمَّا انْتَهَى عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَئُوا إِلَى فَدْفَدٍ، وَجَاءَ القَوْمُ فَأَحَاطُوا بِهِمْ، فَقَالُوا: لَكُمُ العَهْدُ وَالمِيثَاقُ إِنْ نَزَلْتُمْ إِلَيْنَا، أَنْ لاَ نَقْتُلَ مِنْكُمْ رَجُلًا، فَقَالَ عَاصِمٌ: أَمَّا أَنَا فَلاَ أَنْزِلُ فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ، اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ، فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى قَتَلُوا عَاصِمًا فِي سَبْعَةِ نَفَرٍ بِالنَّبْلِ، وَبَقِيَ خُبَيْبٌ وَزَيْدٌ وَرَجُلٌ آخَرُ، فَأَعْطَوْهُمُ العَهْدَ وَالمِيثَاقَ، فَلَمَّا أَعْطَوْهُمُ العَهْدَ وَالمِيثَاقَ نَزَلُوا إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ حَلُّوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ، فَرَبَطُوهُمْ بِهَا، فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ الَّذِي مَعَهُمَا: هَذَا أَوَّلُ الغَدْرِ، فَأَبَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ فَجَرَّرُوهُ وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ فَلَمْ يَفْعَلْ فَقَتَلُوهُ، وَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ، وَزَيْدٍ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ، فَاشْتَرَى خُبَيْبًا بَنُو الحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الحَارِثَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَمَكَثَ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا، حَتَّى إِذَا أَجْمَعُوا قَتْلَهُ، اسْتَعَارَ مُوسًى مِنْ بَعْضِ بَنَاتِ الحَارِثِ لِيَسْتَحِدَّ بِهَا فَأَعَارَتْهُ، قَالَتْ: فَغَفَلْتُ عَنْ صَبِيٍّ لِي، فَدَرَجَ إِلَيْهِ حَتَّى أَتَاهُ فَوَضَعَهُ عَلَى فَخِذِهِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ فَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَ ذَاكَ مِنِّي وَفِي يَدِهِ المُوسَى، فَقَالَ: أَتَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ ذَاكِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَكَانَتْ تَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، لَقَدْ رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ مِنْ قِطْفِ عِنَبٍ وَمَا بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ ثَمَرَةٌ، وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ فِي الحَدِيدِ، وَمَا كَانَ إِلَّا رِزْقٌ رَزَقَهُ اللَّهُ، فَخَرَجُوا بِهِ مِنَ الحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَ: دَعُونِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: لَوْلاَ أَنْ تَرَوْا أَنَّ مَا بِي جَزَعٌ مِنَ المَوْتِ لَزِدْتُ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ القَتْلِ هُوَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا، ثُمَّ قَالَ: [البحر الطويل]
مَا أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًــــــا *** عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي،
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ *** يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ عُقبَةُ بْنُ الحَارِثِ فَقَتَلَهُ، وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ إِلَى عَاصِمٍ لِيُؤْتَوْا بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ يَعْرِفُونَهُ، وَكَانَ عَاصِمٌ قَتَلَ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِثْلَ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ، فَحَمَتْهُ مِنْ رُسُلِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ".
(وأمَّر عليهم مرثد بن أبي مرثدالغنوي رضي الله عنهم)
وهذا فيه الإمارة في السفر أما الإمارة في الحضر هذا ما عليه دليل.
وهذا ما استفدناه من والدي الشيخ مقبل رحمه الله أن الإمارةَ في الحضر غير مشروعة لا تجوز وأن الإمارة في الحضر تشتت شمل المسلمين قال:وعندما نزلنا مصر رُبَّ ثلاثة ولهم أمير، إلا إذا كان منصوبا من قبل الرئيس .
قال أما الإمارة في السفر فهي مشروعة فقد روى أبوداود (2608)عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ».هذا ما أفاده الوالد رحمه الله وكان يكررُ في دروسه إنكاره على الحزبيين .
قلت :وفي فتاوى اللجنة الدائمة(23/402):هل تجوز إمارة الحضر؟ أي: معلوم أنه يكون من السنة إذا كان ثلاثة في سفر أن يكون أحدهم عليهم أميرا، فهل يجوز أن يكون هناك أمير على مجموعة في بلدهم، وليسوا بمسافرين بل هم مقيمون؟
ج: صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا خرج ثلاثة في سفرفليؤمروا أحدهم » رواه أبو داود بإسناد حسن.
وهذا كما هو ظاهر الحديث في السفر، أما الحضر فإن الإمارة تكون لمن ولي أمر البلد بولاية شرعية وكل أمير بحسبه.اهـ.
فلما وصلوا إلى الرجيع غدروا بهم وقتل عامتهم واستأسروا خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة فذهبوا بهما وباعوهما في مكة.
(وذلك بسبب ما كانا قتلا من كفار قريش من يوم بدر)
مجازاة لهما لأن خبيبًا وزيد بن الدثنة كانا من الأبطال في غزوة بدر. فمكث عندهم خبيب مسجونًا. وكان له من الكرامات مافي صحيح البخاري: (4086) " لَقَدْ رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ مِنْ قِطْفِ عِنَبٍ وَمَا بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ ثَمَرَةٌ، وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ فِي الحَدِيدِ، وَمَا كَانَ إِلَّا رِزْقٌ رَزَقَهُ اللَّهُ" .
القطف :العنقود من العنب.
ثم أجمعوا على قتله فخرجوا به إلى التنعيم. وهذا يستفاد منه أن كفار قريش يعتقدون حرمة مكة ولهذا خرجوا إلى التنعيم إلى الحل، فاستأذن أن يصلي ركعتين فأذنوا له فصلاهما وفي صحيح البخاري "فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ القَتْلِ" فيستحب لمن يقام عليه القصاص أن يركع ركعتين.
(ثم قال: والله لولا أن تقولوا أن ما بي جزع لزدت)
أي: زدت على هذين الركعتين، وهذا دليل على شجاعته. ودعا عليهم بدعوات (قَالَ: اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا، وَاقْتُلْهُمْ بَدَدًا، وَلاَ تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا) كما في صحيح البخاري (3989) فاستجاب الله دعوته في كثير منهم قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري(4086):وَفِي رِوَايَةِ بُرَيْدَةَ بْنِ سُفْيَانَ فَقَالَ خُبَيْبٌ اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أَجِدُ مَنْ يُبَلِّغُ رَسُولَكَ مِنِّي السَّلَامَ فَبَلِّغْهُ وَفِيهِ فَلَمَّا رُفِعَ عَلَى الْخَشَبَةِ اسْتَقْبَلَ الدُّعَاءَ قَالَ فَلَبَدَ رَجُلٌ بِالْأَرْضِ خَوْفًا مِنْ دُعَائِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا وَاقْتُلْهُمْ بَدَدًا قَالَ فَلَمْ يَحُلِ الْحَوْلُ وَمِنْهُمْ أَحَدٌ حَيٌّ غَيْرَ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي لبد بِالْأَرْضِ.اهـ.
ثم أنشد رضي الله عنه هذين البيتين
مَا أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًــــــا *** عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي،
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ *** يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (7/384): "قَوْلُهُ (أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ) الْأَوْصَالُ: جَمْعُ وَصْلٍ وَهُوَ الْعُضْوُ، وَالشِّلْوُ: بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ الْجَسَدُ وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْعُضْوِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُنَا الْجَسَدُ، وَالْمُمَزَّعُ: بِالزَّايِ ثُمَّ الْمُهْمَلَةِ الْمُقَطَّعُ وَمَعْنَى الْكَلَامِ أَعْضَاءُ جَسَدٍ يُقَطَّعُ". اهـ.
(ثم وكلوا به من يحرسه، فجاء عمرو بن أمية فاحتمله بخدعة ليلاً فذهب به فدفنه)
قتلوه ووكلوا بحراسة جُثَّته ثم جاء متسللا عمرو بن أمية وهو عمرو بن أمية الضمري كان شجاعًا بطلًا فجاءه فأخذه ثم ذهب به ودفنه.
وقد جاءفي مسند الإمام أحمد(28/ 489)من طريق جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، " أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ وَحْدَهُ عَيْنًا إِلَى قُرَيْشٍ "، قَالَ: جِئْتُ إِلَى خَشَبَةِ خُبَيْبٍ وَأَنَا أَتَخَوَّفُ الْعُيُونَ، فَرَقِيتُ فِيهَا، فَحَلَلْتُ خُبَيْبًا، فَوَقَعَ إِلَى الْأَرْضِ، فَانْتَبَذْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ الْتَفَتُّ، فَلَمْ أَرَ خُبَيْبًا، وَلَكَأَنَّمَا ابْتَلَعَتْهُ الْأَرْضُ، فَلَمْ يُرَ لِخُبَيْبٍ أَثَرٌ حَتَّى السَّاعَةِ .وسنده ضعيف .
ودفن المؤمن يعتبر كرامة من الله فهذه كرامة لخبيب ستر جثته بالتراب فقد قال الله: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ (25) كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)﴾ [المرسلات]. وقال سبحانه: ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴾ [عبس:21]. ويعتبر القبر دارًا لصاحبه، كما في صحيح مسلم (974) عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّمَا كَانَ لَيْلَتُهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِلَى الْبَقِيعِ، فَيَقُولُ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ غَدًا، مُؤَجَّلُونَ، وَإِنَّا، إِنْ شَاءَ اللهُ، بِكُمْ لَاحِقُونَ، اللهُمَّ، اغْفِرْ لِأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ».
(وأما زيد بن الدثنة رضي الله عنه فابتاعه صفوان بن أمية فقتله بأبيه)
(فابتاعه) أي: اشتراه صفوان بن أمية بن خلف فقتله بأبيه؛ لأن أباه قتل في غزوة بدر. هذا حاصل بعث الرجيع.
وقد استنبط الحافظ ابن حجر فوائد من قصة خبيب وأصحابه وذكر منها : وَفِيهِ الْوَفَاءُ لِلْمُشْرِكِينَ بِالْعَهْدِ وَالتَّوَرُّعُ عَنْ قَتْلِ أَوْلَادِهِمْ وَالتَّلَطُّفُ بِمَنْ أُرِيدَ قَتْلُهُ ،وَإِثْبَاتُ كَرَامَةِ الْأَوْلِيَاءِ ،وَالدُّعَاءُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِالتَّعْمِيمِ ،وَالصَّلَاةُ عِنْدَ الْقَتْلِ ،وَفِيهِ إِنْشَاءُ الشِّعْرِ وَإِنْشَادُهُ عِنْدَ الْقَتْلِ ،وَدَلَالَةٌ على قُوَّةِ يَقِينِ خُبَيْبٍ وَشِدَّتِهِ فِي دِينِهِ ،وَفِيهِ أَنَّ اللَّهَ يَبْتَلِي عَبْدَهُ الْمُسْلِمَ بِمَا شَاءَ كَمَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ لِيُثِيبَهُ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ، وَفِيهِ اسْتِجَابَةُ دُعَاءِ الْمُسْلِمِ وَإِكْرَامُهُ حَيًّا وَمَيِّتًا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ مِمَّا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ ،وَإِنَّمَا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ فِي حِمَايَةِ لَحْمِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ قَتْلِهِ لِمَا أَرَادَ مِنْ إِكْرَامِهِ بِالشَّهَادَةِ ،وَمِنْ كَرَامَتِهِ حِمَايَتُهُ مِنْ هَتْكِ حُرْمَتِهِ بِقَطْعِ لَحْمِهِ، وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ مِنْ تَعْظِيمِ الْحَرَمِ وَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ .اهـ.
أم سمية الأثرية
2016-03-06, 08:21
(8) التَّذْكِيْرُ بِسِيْرَةِ سَيِّدِ البَشَرِ
الكاتب أم عبدالله الوادعية
بسم الله الرحمن الرحيم
(8) (التَّذْكِيْرُ بِسِيْرَةِ سَيِّدِ البَشَرِ)
اختصارُ درسِ الخامس عشر من (الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم)
*غزوةُ أحد: كانت في السنة الثالثة في شوال .وكانت هذه المعركة من المعارك العظيمة. وفيها امتحان للمؤمنين في إيمانهم وصبرهم ومجاهدتهم ،وليتميزالمنافقون من المؤمنين، قال سبحانه: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)﴾ [آل عمران:166].وقوله{ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا}الله عزوجل لا يعزب عن علمه مثقالُ ذرَّةٍ في السماوات ولا في الأرض. وقد وضَّح المرادَ ابنُ القيم رحمه الله في زاد المعاد (3/200)في سياق الحِكَم التي كانت في غزوة أُحُدٍ قال: ثُمّ ذَكَرَ حِكْمَةً أُخْرَى، وَهِيَ أَنْ يَتَمَيَّزَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فَيَعْلَمُهُمْ عِلْمَ رُؤْيَةٍ وَمُشَاهَدَةٍ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مَعْلُومِينَ فِي غَيْبِهِ، وَذَلِكَ الْعِلْمُ الْغَيْبِيُّ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ، وَإِنَّمَا يَتَرَتَّبُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى الْمَعْلُومِ إذَا صَارَ مُشَاهَدًا وَاقِعًا فِي الْحِسِّ.اهـ.
*سبب الغزوة: أن قريشًا كانوا متألِّمِين ممَّا حصل لهم من قتل أشرافهم وكبارهم يوم بدرٍ فقد قُتِلَ منهم سبعون ، وما حصل لأبي سفيان في غزوة السويق من رجوعه هاربًا منهزمًا فجمَّع قريشًا ليغزو النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما يزعم.
*عدد المشركين: كانوا قريباً من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش وكان رئيسُ المشركين يوم أحد أبا سفيان.والسبب في كون أبي سفيان رئيسًا عليهم أن أكابر قريش قد قُتلوا في غزوة بدر. فجعلوا على ميمنتِهم خالدَ بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمةَ بن أبي جهل. وكان أول من برز من المشركين يومئذ أبو عامر الراهب، واسمه عبد عمرو بن صيفي دخل في المعركة، وقاتل قتالًا شديدًا، ونجا وما قُتل؛ وقد ذهب إلى الروم فيما بعد ذلك ومات هناك. وله ولدٌ مشهورٌ بغسيل الملائكة وهو حنظلة الغسيل بن أبي عامر، قاتل في غزوة أحد، وأبلى بلاءً حسنًا، واستشهد فيها رضي الله عنه. وجاء قريش بنسائهم لئلا يفروا ليكون تثبيتًا لهم في عدم الفرار.وقد قتل يومئذ من المشركين اثنان وعشرون.
*سبب تسمية هذه الوقعة بغزوة أحد: لأنها كانت جَنْبَ أُحد. وأُحد جبل جاء في فضله بعض الأحاديث. قال الإمام البخاري رحمه الله: (بَابٌ: أُحُدٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ) ثم ذكر حديثَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَعَ لَهُ أُحُدٌ فَقَالَ: «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي حَرَّمْتُ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا». وهذا على ظاهره. وقد قال بعضهم: المراد أهل جبل أحد، وهذا صرف لظاهر الحديث لغير دليل .والله على كل شيء قدير.
*استشار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في الخروج أو البقاء لمَّا علم بقدوم قريش لغزو المسلمين، وذكر الحافظ ابن كثيرٍ هنا-أعني في الفصول- أنهم انقسموا في المشورة إلى قسمين: فبادر بعض الصحابة ممن لم يشهد بدرا إلى الخروج، وألحُّوا على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأشار عبد الله بن أُبَي بن سلول وبعض الصحابة بالمقام بالمدينة، فإن قدموا إلى المدينة قاتلناهم.وفي هذا دليلٌ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِذَا طَرَقَهُمْ عَدُوُّهُمْ فِي دِيَارِهِمُ الْخُرُوجُ إِلَيْهِ، بَلْ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَلْزَمُوا دِيَارَهُمْ، وَيُقَاتِلُوهُمْ فِيهَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَنْصَرَ لَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْكما قال ابن القيم في زاد المعاد(3/ 189). فدخل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بيته ولبس لأْمته ثم خرج عليهم وقد انثنى عزمُ بعض أولئك وقالوا: لعلنا استكرهنا رسولَ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإن أحببتَ أن تمكث في المدينة فافعل فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إِنَّهُ لَيْسَ لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ». وهذا الحديث في مسند أحمد (23/99) من طريق أبي الزبير عن جابر بن عبد الله وأبو الزبير مدلس وقد عنعن ولكن له من الشواهد ما يقويه. وفيه دليل أَنَّ الْجِهَادَ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ لَبِسَ لَأْمَتَهُ وَشَرَعَ فِي أَسْبَابِهِ، وَتَأَهَّبَ لِلْخُرُوجِ، لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنِ الْخُرُوجِ حَتَّى يُقَاتِلَ عَدُوَّهُ كما في زاد المعاد.
*فخرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم الجمعة من المدينة إلى أُحد في ألف مقاتل. ثم انخزَل- أي انفرد-عبدُ الله بن أُبي بن سلول في أثناء الطريق بثلاثمائة ورجعوا. فلم يبقَ مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا سبعمائة، فاتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنه وحثهم على الرجوع فلما أبوا عليه رجع عنهم وسبَّهم. ثم مضى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمن بقي معه حتى نزل شعبَ أُحد فرتَّب النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أصحابه ورتَّب أمورَ الغزوة. وأعطى اللواءَ مصعب بن عمير وجعل على إحدى المجنَّبَتين الزبير بن العوام، وعلى الأخرى المنذر بن عمرو. واستعرض الشبابَ يومئذ، لينظر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الذي يناسب دخوله الغزو، وقد قبل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعضًا منهم ورد آخرين. وكان ممن ردَّ عبدالله بن عمررضي الله عنهم لأنه لم يكن من البالغين.
واستعمل على الرماة ـ وكانوا خمسين ـ عبد الله بن جبير، وأمَرَه وأصحابَه أن لا يتغيروا من مكانهم، وأن يحفظوا ظُهور المسلمين أن يؤتَوا من قِبَلهم .
* النصر كان في أول النهار للمسلمين وانهزم المشركون، وكان نساء كفار قريش يشتددن في الجبل ـ يعني صعودًا ـ ويرفعن عن سُوقهن حتى بدت خلاخِلُهن فقال الصحابة لما رأوا المشركون انهزموا: الغنيمةَ، الغنيمةَ، وانفضوا إلى الغنيمة. فوجد المشركون فُرجة لأنه خلا المكان من الرماة الذي قد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جعلهم فيه ليحرسوا المسلمين ، وقد كان عبد الله بن جبير يقول لهم: لا تفعلوا. والقصة بهذا المعنى في صحيح البخاري (4043). ولما حصل من بعض الصحابة المخالفة لأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان ما أراد الله تعالى كونَه .
وقد قال أبو سفيان: (يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالحَرْبُ سِجَالٌ، وَتَجِدُونَ مُثْلَةً، لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي)رواه البخاري . يريد أنَّ غزوة أحد مقابل يوم بدر لأن المسلمين في غزوة بدرٍ قَتلوا سبعين من المشركين وأسروا سبعين. فاستُشهِد من أكرم الله بالشهادة من أفاضل الصحابة في غزوة أُحُدٍ وكانوا نحو السبعين منهم حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن جحش، ومصعب بن عمير، وعثمان بن عثمان فهؤلاء أربعة من المهاجرين، والباقون من الأنصار رضي الله عنْ جميعهم،والشهادة تعتبر كرامة {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} .فدفنهم في دمائهم وجروحهم، ولم يصلِّ عليهم؛ لأنهم شهداء و،وشهيد المعركة لا يُغَسَّل ولا يُصلَّى عليه.
والمشركون حين غَلبُوا بعد أن كانوا قد هُزموا - ولله الأمر من قبل ومن بعد - كانوا يجدِّعون القتلى من المسلمين ، يقطعون آذانهم وأنوفهم، حتى مِن نسائهم من كانت تفعل ذلك . والله المستعان.
* لقب حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسدالله وأسد رسوله وهو سيد الشهداء ،وقد قُتِلَ شهيدًا في هذه المعركة قتله وحشي بن حرب، والمنذر بن عمرو لقبه المُعْنِق ليموت،أي أنه مسرع إلى الشهادة، وحنظلة ابنُ أبي عامر لقبه حنظلة الغسيل. عثمان بن عثمان، وهو شمَّاس بن عثمان المخزومي، سُمِّي بشمَّاس لحُسْنِ وجهه،الزبير بن العوام لقبه حواري رسول الله .
*انقسام الصحابة في غزوة أحد: قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري: وَالْوَاقِعُ أَنَّهُمْ صَارُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ اسْتَمَرُّوا فِي الْهَزِيمَةِ إِلَى قُرْبِ الْمَدِينَةِ فَمَا رَجَعُوا حَتَّى انْفَضَّ الْقِتَالُ وَهُمْ قَلِيلٌ وَهُمُ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}. وَفِرْقَةٌ صَارُوا حَيَارَى لَمَّا سَمِعُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُتِلَ فَصَارَ غَايَةُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ أَنْ يَذُبَّ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ يَسْتَمِرَّ عَلَى بَصِيرَتِهِ فِي الْقِتَالِ إِلَى أَنْ يُقْتَلَ وَهُمْ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ. وَفِرْقَةٌ ثَبَتَتْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ تَرَاجَعَ إِلَيْهِ الْقِسْمُ الثَّانِي شَيْئًا فَشَيْئًا لَمَّا عَرَفُوا أَنَّهُ حَيٌّ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي الْحَدِيثِ السَّابِعِ. قال: وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُخْتَلَفِ الْأَخْبَارِ فِي عِدَّةِ مَنْ بَقِيَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
وممن فرَّ عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد نص الله سبحانه على العفو عنهم، فقال عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 155].
* وقدجُرِح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لما خلَصَ المشركون إليه أي وصلوا إليه. قال الحافظ ابنُ حجر في فتح الباري (4073) وَمَجْمُوعُ مَا ذُكِرَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّهُ شُجَّ وَجْهُهُ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَجُرِحَتْ وَجْنَتُهُ وَشَفَتُهُ السُّفْلَى من بَاطِنهَا ووهَى منكبُه من ضَرْبَة ابن قَمِئَةَ وَجُحِشَتْ رُكْبَتُهُ.اهـ. وأدرك المشركون النبيَّ صلى الله عليه وسلم لأن المسلمين قلة، وحمى النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم من المشركين نحو عشرة من أصحابه. وقتلوا كلهم رضي الله عنهم.
* حضور الشيطان المعركة – نعوذ بالله منه - وما قام به من الكيد للمسلمين فقد صرخ وقال: أي عباد الله أُخراكم ، وتثبيط الصحابة بقوله: إن محمدا قد قُتل .
* تثبيت أنس بن النضررضي الله عنه لمن كان متوقفا عن القتال، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد قُتِل فقال: ما تصنعون في الحياة بعده؟ فثبَّتهم. وقد أبلى بلاءً حسنًا رضي الله عنه.
*وممن كان من الشجعان في هذه الغزوة أبوبكرٍ الصديق ،وعمر بن الخطاب ،علي ابن أبي طالب ،وطلحة بن عبيدالله وقد شلَّت يده في غزوة أحد لأنه وَقَى بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ كما في صحيح البخاري ، سعد ابن أبي وقاص وقدجمع رسولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم له أبويه في تلك الغزوة روى البخاري(4059) ومسلم (2411) عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ أَبَوَيْهِ لِأَحَدٍ إِلَّا لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ أُحُدٍ: «يَا سَعْدُ ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي»وسعد بن الربيع ،وأنس بن النضروقد قال :إني لأجد ريح الجنة دون أحدفقاتل حتى قُتِل فما عرفه أحد إلا أخته عرفته ببنانه لكثرة جراحاته والضرب فيه ،وحمزة ،أبوطلحة وكان يقول يارسول الله نحري دون نحرك كما في البخاري . سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ أَبُو دُجَانَةَ قال يارسول الله أَنَا آخُذُهُ –أي السيف- بِحَقِّهِ فَأَخَذَهُ فَفَلَقَ بِهِ هَامَ الْمُشْرِكِينَ" والحديث في مسلم .أي: شق به رؤوس المشركين.وغيرهم كثير.
*ولما حانت الصلاة، صلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأصحابه جالساً، ثم مال المشركون إلى رحالهم وكان هذا كله يوم السبت.
*وقد ذكر سبحانه هذه الوقعة في سورة آل عمران قال ابنُ القيم في زاد المعاد (3/189): فَكَانَ مِمَّا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي يَوْمِ أُحُدٍ سِتُّونَ آيَةً مِنْ آلِ عِمْرَانَ، أَوَّلُهَا: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 121] إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ..
*وممن حضر هذه الوقعة من النساء عائشة أم المؤمنين، وفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأم سليم، وأم سَليط والدة أبي سعيد الخدري رضي الله عنهن حضرن الغزوَ لا للغزوِ ولكن لخدمة المجاهدين، فكن يداوين الجرحى، ويسقين المرضى إلى غير ذلك.
*وهناك من الأمور كانت في غزوة أحد مشابهة لغزوة بدرٍ منها:
النعاس: قال عز وجل في غزوة أحد: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ [آل عمران:154]. وقال سبحانه في غزوة بدر: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ﴾ [الأنفال:11].
ومنها: الدعاء، أخرج الإمام مسلم (1743) عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ يَوْمَ أُحُدٍ: «اللهُمَّ، إِنَّكَ إِنْ تَشَأْ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ».
وسبق في غزوة بدر أنه قال نحو ذلك.
أمرٌ ثالث: أخرج البخاري (4046) ومسلم (1899) من طريق عَمْرٍو وهو ابن دينار، سَمِعَ جَابِرًا، يَقُولُ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ: أَيْنَ أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ إِنْ قُتِلْتُ؟ قَالَ: «فِي الْجَنَّةِ»، فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ كُنَّ فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تحت الرقم المذكور: لم أقف على اسمه. وتقدم معنا في غزوة بدر قصة لعمير بن الحمام رضي الله عنه مشابهة لهذه، رضي الله عنهما.
* من الأدب مع الصحابة أن الحافظَ ابنَ كثير لا يقول: هُزِمَ الصحابة، ولكنه يقول: (فكان ما أراد الله تعالى كونَه)، ثم كان العاقبة والنصر للمسلمين فقد أنزل الله عليهم الطمأنينة وغشيهم النعاس قال الحافظ ابن كثير في البداية (4/29) وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى طُمَأْنِينَةِ الْقُلُوبِ بنصر الله وتأييده وتمام توكلها على خلقها وَبَارِئِهَا. اهـ. ولا يجوز بحالٍ تنقص الصحابة ،أوالكلام فيهم بما يحطُّ من شأنهم رضي الله عنهم أجمعين ،اختارهم الله صحابةً لنبيه الكريم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ،ووعدهم كلهم بالحُسنى .
*ونزل جبريل وميكائيل عليهما الصلاة والسلام للنصر والمَدد والمعونة. وهذا من الكرامات التي وقعت في هذه الغزوة.
والله المستعان .
samia 21
2016-03-06, 21:00
جزاك الله خيرا
ماهر السامري
2016-03-06, 21:55
جزاك الله خيرا اخي
أم سمية الأثرية
2016-03-09, 07:20
و اياكم جزى الله خيرا وزيادة
أم سمية الأثرية
2016-03-09, 07:23
(9) (التَّذْكِيْرُ بِسِيْرَةِ سَيِّدِ البَشَرِ)
الكاتب أم عبدالله الوادعية
بسم الله الرحمن الرحيم
(9) (التَّذْكِيْرُ بِسِيْرَةِ سَيِّدِ البَشَرِ)
اختصارُ درسِ السادس عشر من (الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم)
* فصل غزوة حمراء الأسد: وقد كانت في السنة الثالثة في شوال عقب غزوةِ أُحُد، وقعةُ أُحُد يوم السبت، وغزوة حمراء الأسد يوم الأَحَد.
* سبب الغزوة: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خاف من رجوع قريش كما في صحيح البخاري (4077)عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172]، قَالَتْ لِعُرْوَةَ: يَا ابْنَ أُخْتِي، كَانَ أَبَوَاكَ مِنْهُمْ: الزُّبَيْرُ، وَأَبُو بَكْرٍ، لَمَّا أَصَابَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَصَابَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَانْصَرَفَ عَنْهُ المُشْرِكُونَ، خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا، قَالَ: «مَنْ يَذْهَبُ فِي إِثْرِهِمْ» فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا، قَالَ: كَانَ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ، وَالزُّبَيْرُ ». وأيضًا إرهابًا للعدو لأنه خرج بجيشه بجراحاتهم رضي الله عنهم ،وهذا دليلٌ أنه لا يزالُ عندهم قوة .
وقد جاء أن قريشًا بعد انتهاء معركة أُحد انصرفوا راجعين إلى مكة، فلما كانوا في الطريق تلاوم بعضُهم على بعض، وقالوا: قاتلتم محمدًا وأصحابه وكسرتم شوكتهم ولكن بقي فيهم رؤوس سيجمعون لكم، ثم يقاتلونكم فهمُّوا بالرجوع إلى المدينة، وعلم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك فندب أصحابَه وأمرهم بالخروج إلى كفار قريش إلا من لم يشهد وقعة أحد، وكانوا في غزوة أُحُد سبعمائة وقُتِلَ منهم سبعون واستأذنه جابر بن عبدالله وذكر له أنه تخلَّف عن غزوة أُحد لأمر أبيه عبدالله بن عمرو له أن يبقى في رعاية أخواته فأذن له ولم يأذن لغيره ممن لم يشهد غزوةَ أحد. واستجاب الصحابة لأمر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فخرجوا وهم منهكُون بالجروح.
* الحكمة في عدم إذن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالخروج معه إلا لمن شهد وقعة أُحد : قال الزرقاني في شرحه على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (2/ 465): لعل حكمة ذلك وإن كان خروج المتخلفين فيه زيادة في إرهاب الأعداء وتقوية المسلمين، أنه أراد إظهار الشدة للعدو, فيعلمون من خروجهم مع كثرة جراحاتهم أنَّهم على غاية من القوة والرسوخ في الإيمان وحب الرسول, والزيادة في تعظيم من شهد أُحد، أو أنه خاف اختلاط المنافقين بهم فيَمُنُّون عليه بعدُ بخروجهم معهم.اهـ المراد.
* مر معبد بن أبي معبد الخزاعي وكان كافرًا، وذكر ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد أنه أسلم. فأمره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يثبِّط كفار قريش فمر معبد بأبي سفيان وجماعته بالروحاء فأخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد خرجوا في طلبهم وثبطهم وكسر شوكتهم فاستمروا راجعين إلى مكة .
* جاء أن المشركين رأوا واحدا ذاهبًا إلى المدينة. فقالوا: قل لمحمد إننا نجمع له فبلغ النبي وصحابته فزادهم إيمانًا وقوة، كما قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران:173]. وإنما هذا تخويف الشيطان للمسلمين مِن أوليائه وقد قال تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:175]. (يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) أي: يخوفكم أولياءَه.
* قتلُ النبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم معاوية بن المغيرة بن أبي العاص: وظفر عليه الصلاة والسلام به فأمر بضرب عنقه صبراً، وهو والد عائشة أم عبد الملك بن مران، فلم يقتل أحد سواه في غزوة حمراء الأسد.
* قتلُ الصبر قال ابنُ الأثير في النهاية :هُوَ أَنْ يُمسَك شيءٌ من ذوات الرُّوح حيَّا ثم يُرْمى بِشَيْءٍ حَتَّى يَمُوتَ. هذا مختصر الكلام على غزوة حمراء الأسد .
* بعث الرَّجيع: ثم بعث صلى الله عليه وسلم بعدَ أُحد بعثَ الرجيع، وذلك في صفر من السنة الرابعة، وبعضهم ذكرها في سنة ثلاث كابن إسحاق، وقد نقل ذلك الحافظ في فتح الباري عن ابن إسحاق أنه ذكر غزوة الرجيع في أواخرسنة ثلاث. اهـ.
* سبب الغزوة: أن عضَلَ والقارة وهما قبيلتان سألوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين قدموا عليه أن يبعث من يعلمهم ويقرؤهم القرآن وذكروا له أن فيهم إسلاماً، فأرسل إليهم مجموعة من أصحابه. وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث هؤلاء العشرة عينًا أي جواسيس لبعض الأمور. فالروايات مختلفة في سبب بعثهم . والله أعلم.
* عدد بعث الرجيع: فبعث ستةَ نفر في قول ابن إسحاق، وقال البخاري في صحيحه كانوا عشرة. وقال أبو القاسم السهيلي: وهذا هو الصحيح.
* جاء أنه أمَّرالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عليهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنهم، وفي صحيح البخاري وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ قال الحافظ في فتح الباري: قَوْلُهُ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ كَذَا فِي الصَّحِيحِ وَفِي السِّيرَةِ أَنَّ الْأَمِيرَ عَلَيْهِمْ كَانَ مَرْثَدَ بْنَ أَبِي مَرْثَدٍ وَمَا فِي الصَّحِيحِ أَصَحُّ .اهـ.
* حكم الإمارة في السفر والحضر: أما الإمارة في السفر فهي مشروعة، فقد روى أبو داود عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ». وأما الإمارةَ في الحضر فغير مشروعة وما عليها دليل ،إلا إذا كان منصوبًا من قِبَلِ الأمير. هذا ما أفاده الوالد رحمه الله وكان يكررُ في دروسه إنكاره على الحزبيين الإمارة في الحضر، وكذا في فتاوى اللجنة الدائمة نحو ذلك.
* فلما وصلوا إلى الرجيع غدروا بهم وقتل عامتهم واستأسروا خبيب بن عدي وزيد بن الدَّثِنة فذهبوا بهما وباعوهما في مكة. وذلك بسبب ما كانا قتلا من كفار قريش من يوم بدر لأن خبيبًا وزيد بن الدثنة كانا من الأبطال في غزوة بدر.
*فأما خبيب رضي الله عنه فمكث عندهم مسجوناً وكان له من الكرامات مافي صحيح البخاري: " لَقَدْ رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ مِنْ قِطْفِ عِنَبٍ وَمَا بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ ثَمَرَةٌ، وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ فِي الحَدِيدِ، وَمَا كَانَ إِلَّا رِزْقٌ رَزَقَهُ اللَّهُ". ثم أجمعوا على قتله فخرجوا به إلى التنعيم ليقتلوه وذلك لأن كفار قريش كانوا يعتقدون حرمة مكة. فاستأذنهم أن يصلي ركعتين فأذنوا له: فصلاهما "فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ القَتْلِ" كما في صحيح البخاري .فيستحب لمن سيقام عليه القصاص أن يركع ركعتين. ثم قال: والله لولا أن تقولوا أن ما بي جزعٌ لزدت، وهذا دليل على شجاعته، ودعا عليهم بدعوات (قَالَ: اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا، وَاقْتُلْهُمْ بَدَدًا، وَلاَ تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا) كما في صحيح البخاري فاستجاب الله دعوته في كثير منهم ثم قال:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً ... على أي جنب كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
قتلوه ووكلوا بحراسة جُثَّته ثم جاء متسللا عمرو بن أمية الضمري كان شجاعًا بطلًا فجاءه فأخذه ثم ذهب به ودفنه.
*وأما زيد بن الدَّثِنة رضي الله عنه فاشتراه صفوان بن أمية بن خلف فقتله بأبيه؛ لأن أباه قتل في غزوة بدر.
وقد أسلم بعد ذلك صفوان بن اُمية ،وأبوه أمية بن خلف قُتِل يوم بدرٍ كافرًا .والله أعلم .
أم سمية الأثرية
2016-03-09, 07:29
الدرس السابع عشر من /الفصول من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم 28من شهر جمادى الأولى 1437.
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس السابع عشر
فصل ـ بعث بئر معونة
وفي صفرَ هذا بعثَ إلى بئرِ معونة أيضاً، وذلك أن أبا براء عامر بن مالك المدْعو مُلاعب الأسنَّة، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ فدعاه إلى الإسلام فلم يُسْلِم ولم يبعِد. فقال: يا رسول الله لو بعثتَ أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى دينك لرجوتُ أن يجيبوهم، فقال: إني أخاف عليهم أهل نجد، فقال أبو براء: أنا جارٌ لهم. فبعث صلى الله عليه وسلم فيما قاله ابنُ إسحاق أربعين رجلاً من الصحابة، وفي الصحيحين سبعين رجلاً، وهذا هو الصحيح. وأَمَّر عليهم المنذرَ بنَ عمرو أحدَ بني ساعدة، ولقبه المُعْنِق لِيموتَ رضي الله عنهم أجمعين، وكانوا من فضلاء المسلمين وساداتهم وقرَّائهم، فنهضُوا فنزلوا بئر معونة، وهي بين أرض بني عامر وحرَّة بني سليم، ثم بعثُوا منها حرامَ بن ملحان أخا أم سليم بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامرِ بن الطفيل، فلم ينظر فيه، وأمر به فقتله ،ضربهُ رجلٌ بحربة، فلما خرج الدمُ قال: فزتُ ورب الكعبة. واستنفر عدو الله عامر: بني عامر إلى قتال الباقين، فلم يجيبوه، لأجل جوارِ أبي براء، فاستنفر بني سليم فأجابته عصية ورعل وذكوان، فأحاطوا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتلوا حتى قُتلوا عن آخرهم رضي الله عنهم، إلا كعب بن زيد من بني النجار فإنه ارتُثَّ من بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق. وكان عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن محمد بن عقبة في سرح المسلمين، فرأيا الطيرَ تحومُ على موضع الوقعة، فنزل المنذر بن محمد هذا فقاتل المشركين حتى قتل مع أصحابه، وأُسر عمرو بن أمية، فلما أَخبر أنه من مضر جزَّ عامرٌ ناصيته وأعتقه فيما زعم عن رقبةٍ كانت على أمه. ورجع عمرو بن أمية، فلما كان بالقرقرةِ من صدر قناة نزل في ظل، ويجيء رجلان من بني كلاب، وقيل من بني سليم فنزلا معه فيه، فلما ناما فتك بهما عمرو وهو يرى أنه قد أصاب ثأراً من أصحابه، وإذا معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر به، فلما قدم أخبر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بما فعل، قال: لقد قتلتَ قتيلَين لأدينَّهما . فكان هذا سبب غزوةِ بني النضير كما ورد هذا في الصحيح .
وزعمَ الزُّهريُّ أنَّ غزوةَ بني النضير بعد بدرٍ بستةِ أشهر ،وليس ذلك كما قال ،بل التي كانت بعد بدرٍ بستةِ أشهرٍ هيَ غزوةُ بني قينقاع ،وأما بنوالنضير فبعد أُحُد ،كما أنَّ قُريظة بعد الخندق ،وخيبربعدَ الحُدَيبية، وغزوةُ الروم عامَ تبوك بعد فتحِ مكة .
وأمر عليه السلام عند موته بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب .
********************************
هذا الفصل في وقعة بئر معونة، وكانت هذه الوقعة (في صفرهذا)، أي: السابق الذي وقع فيه بعث الرجيع ،فقد كانا في شهرٍ واحدٍ في السنة الرابعة. ثم ذكر الحافظُ ابن كثير رحمه الله سبب هذه الوقعة وقال:
(وذلك أن أبا براء عامر بن مالك المدعو مُلاعب الأسنَّة، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فدعاه إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد. فقال: يا رسول الله لو بعثت أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى دينك لرجوت أن يجيبوهم)
أبوبراء عامر بن مالك ملاعب الأسنة .ويقال ملاعب الرماح لشجاعته. قال السهيلي رحمه الله في الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام(6/ 147): سُمّيَ مُلَاعِبَ الْأَسِنّةِ فِي يَوْمِ سُوبَانَ وَهُوَ يَوْمٌ كَانَتْ فِيهِ وَقِيعَةٌ فِي أَيّامِ جَبَلَةَ، وَهِيَ أَيّامُ حَرْبٍ كَانَتْ بَيْنَ قَيْسٍ وَتَمِيمٍ .وَجَبَلَةُ اسْمٌ لِهَضْبَةِ عَالِيَةٍ .وَكَانَ سَبَبُ تَسْمِيَتِهِ فِي يَوْمِ سُوبَانَ مُلَاعِبَ الْأَسِنّةِ أَنّ أَخَاهُ الّذِي يُقَالُ لَهُ فَارِسُ قُرْزل، وَهُوَ طُفَيْلُ بْنُ مَالِكٍ ،كَانَ أَسْلَمَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَفَرّ فَقَالَ شَاعِرٌ
فَرَرْت وَأَسْلَمْت ابْنَ أُمّك عَامِرًا ... يُلَاعِبُ أَطْرَافَ الْوَشِيجِ الْمُزَعْزَعِ
فَسُمّيَ مُلَاعِبَ الْأَسِنّةِ وَمُلَاعِبُ الرّمَاحِ.اهـ.
وقد جاء أبو براء إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ودعاه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد، ما أسلم ولا أظهر عنادًا ومخالفةً، ثم عرض على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يبعث أصحابه إلى نجد لدعوتهم وتعليمهم، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إني أخاف عليهم أهل نجد. فقال أبو براء: أنا جارٌ لهم، وقد كانوا إذا أجار كبيرهم وسيدهم وشريفهم أحدًا كانوا يلتزمون بذلك ولا يخفرون ذمته. وتقدم معنا شيء من هذا في دروس متفرقة، ومن ذلك أن المطعم بن عدى أجار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما رجع من الطائف فدخل مكة في جوار كافر، وحفظ النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذا المعروف له .روى البخاري (3139) عَنْ جبير بن مطعم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ: «لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلاَءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ».
وأجار ابن الدَّغِنة أبا بكر كما في صحيح البخاري (3905) عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: وفيه :خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ الحَبَشَةِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ، وَهُوَ سَيِّدُ القَارَةِ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي، فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الأَرْضِ، فَأَعْبُدَ رَبِّي، قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: إِنَّ مِثْلَكَ لاَ يَخْرُجُ وَلاَ يُخْرَجُ، فَإِنَّكَ تَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، وَأَنَا لَكَ جَارٌ، فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبِلاَدِكَ، فَارْتَحَلَ ابْنُ الدَّغِنَةِ، فَرَجَعَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَطَافَ فِي أَشْرَافِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يُكْسِبُ المَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةِ، وَآمَنُوا أَبَا بَكْرٍ، وَقَالُوا لِابْنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ، فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَلْيُصَلِّ، وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ، وَلاَ يُؤْذِينَا بِذَلِكَ، وَلاَ يَسْتَعْلِنْ بِهِ، فَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، قَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لِأَبِي بَكْرٍ، فَطَفِقَ أَبُو بَكْرٍ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَلاَ يَسْتَعْلِنُ بِالصَّلاَةِ، وَلاَ القِرَاءَةِ فِي غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَبَرَزَ، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَقْرَأُ القُرْآنَ، فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ المُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ، يَعْجَبُونَ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً، لاَ يَمْلِكُ دَمْعَهُ حِينَ يَقْرَأُ القُرْآنَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَإِنَّهُ جَاوَزَ ذَلِكَ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَأَعْلَنَ الصَّلاَةَ وَالقِرَاءَةَ، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، فَأْتِهِ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ، فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ، فَإِنَّا كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ، وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ الِاسْتِعْلاَنَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّ إِلَيَّ ذِمَّتِي، فَإِنِّي لاَ أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ العَرَبُ، أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ، وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ...".
يقول ابن الدغنة لأبي بكررضي الله عنه (فَإِنَّكَ تَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ) . وهذه الصفات المذكورة في أبي بكر هي التي ذكرتها خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها في النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قال الحافظ في الإصابة ترجمة أبي بكر الصديق : ومن أعظم مناقب أبي بكر أن ابن الدّغنّة سيد القارة لما ردّ إليه جواره بمكة وصفه بنظير ما وصفت به خديجة النبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم لما بعث، فتواردا فيهما على نعتٍ واحد من غير أن يتواطئا على ذلك، وهذا غاية في مدحه، لأن صفات النبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم منذ نشأ كانت أكمل الصفات.اهـ.
عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أسلم مرَّ به العاص بن وائل وكان خائفًا فأجاره .أخرج البخاري (3864) عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ فِي الدَّارِ خَائِفًا، إِذْ جَاءَهُ العَاصُ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ أَبُو عَمْرٍو، عَلَيْهِ حُلَّةُ حِبَرَةٍ وَقَمِيصٌ مَكْفُوفٌ بِحَرِيرٍ، وَهُوَ مِنْ بَنِي سَهْمٍ، وَهُمْ حُلَفَاؤُنَا فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ لَهُ: مَا بَالُكَ؟ قَالَ: «زَعَمَ قَوْمُكَ أَنَّهُمْ سَيَقْتُلُونِي أَنْ أَسْلَمْتُ، قَالَ: لاَ سَبِيلَ إِلَيْكَ، بَعْدَ أَنْ قَالَهَا أَمِنْتُ، فَخَرَجَ العَاصِ فَلَقِيَ النَّاسَ قَدْ سَالَ بِهِمُ الوَادِي، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُونَ؟ فَقَالُوا: نُرِيدُ هَذَا ابْنَ الخَطَّابِ الَّذِي صَبَا، قَالَ: لاَ سَبِيلَ إِلَيْهِ فَكَرَّ النَّاسُ».
الشاهد أنهم كانوا يلتزمون بالجوار، وأن المسلم قد يحتاج إلى جوار الكافر إذا كان هناك ضعف في المسلمين.
وهنا لما قال أبو براء: أنا جار لهم. بعث النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم سبعين رجلًا وأمَّر عليهم المنذرَ بن عمرو أحد بني ساعدة ولقبُه المعنِق لِيموت وهو ممن أبلى بلاءً حسنًا في غزوة أحد رضي الله عنه .
(وكانوا من فضلاء المسلمين وساداتهم وقرَّائهم)
هذه من أوصاف السبعين الذين بعثهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فكانوا يسمَّون بالقُراء ،وكانوا من خيار الصحابة ، أخرج البخاري (2801)ومسلم (677)واللفظ لمسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: جَاءَ نَاسٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: أَنِ ابْعَثْ مَعَنَا رِجَالًا يُعَلِّمُونَا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، يُقَالُ لَهُمْ: الْقُرَّاءُ، فِيهِمْ خَالِي حَرَامٌ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَدَارَسُونَ بِاللَّيْلِ يَتَعَلَّمُونَ، وَكَانُوا بِالنَّهَارِ يَجِيئُونَ بِالْمَاءِ فَيَضَعُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَحْتَطِبُونَ فَيَبِيعُونَهُ، وَيَشْتَرُونَ بِهِ الطَّعَامَ لِأَهْلِ الصُّفَّةِ وَلِلْفُقَرَاءِ، فَبَعَثَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، فَعَرَضُوا لَهُمْ، فَقَتَلُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا الْمَكَانَ، فَقَالُوا: اللهُمَّ، بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِينَا عَنْكَ، وَرَضِيتَ عَنَّا، قَالَ: وَأَتَى رَجُلٌ حَرَامًا، خَالَ أَنَسٍ مِنْ خَلْفِهِ، فَطَعَنَهُ بِرُمْحٍ حَتَّى أَنْفَذَهُ، فَقَالَ حَرَامٌ: فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: " إِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ قُتِلُوا، وَإِنَّهُمْ قَالُوا: اللهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِينَا عَنْكَ، وَرَضِيتَ عَنَّا " .
فكان هؤلاءِ السبعون الذين قُتِلوا رضي الله عنهم -مع كونهم من القرَّاء والعُبَّاد- قوةً ونُصرةً للمسلمين وفي خدمة إخوانهم أهل الصُفَّة وغيرهم .
(فنزلوا بئر معونة، وهي بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، ثم بعثوا منها حرام بن ملحان أخا أم سليم بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل)
(ثم بعثوا منها) أي : من بئر معونة.
(فلم ينظر فيه) لم ينظر عامر بن الطفيل في الكتاب.
(وأمر به فقتله ضربه رجل بحربة، فلما خرج الدمُ قال: فزتُ ورب الكعبة) يقول حرام بن ملحان لما طُعن بالحربة: فزت ورب الكعبة ،وتقدم هذا قبل أسطر من حديث أنس في الصحيحين.
(واستنفر عدو الله عامر: بني عامر إلى قتال الباقين، فلم يجيبوه، لأجل جوار أبي براء)
بعد قتل حرام استنفر عامر بن الطفيل عدو الله يصفه ابن كثير بأنه عدوالله بأقبح وصفٍ ، ولعداوته خيَّر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بين ثلاثة أُمور . أخرج البخاري (4091) عن أنس بن مالك، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَعَثَ خَالَهُ، أَخٌ لِأُمِّ سُلَيْمٍ، فِي سَبْعِينَ رَاكِبًا» وَكَانَ رَئِيسَ المُشْرِكِينَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ، خَيَّرَ بَيْنَ ثَلاَثِ خِصَالٍ، فَقَالَ: يَكُونُ لَكَ أَهْلُ السَّهْلِ وَلِي أَهْلُ المَدَرِ، أَوْ أَكُونُ خَلِيفَتَكَ، أَوْ أَغْزُوكَ بِأَهْلِ غَطَفَانَ بِأَلْفٍ وَأَلْفٍ؟ فَطُعِنَ عَامِرٌ فِي بَيْتِ أُمِّ فُلاَنٍ، فَقَالَ: غُدَّةٌ كَغُدَّةِ البَكْرِ، فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ آلِ فُلاَنٍ، ائْتُونِي بِفَرَسِي، فَمَاتَ عَلَى ظَهْرِ فَرَسِهِ... الحديث.
قال ابنُ الأثيرفي النهاية: المَدَر:أهلَ القُرَى وَالْأَمْصَارِ، وَاحِدَتُهَا: مَدَرَة.اهـ.
وقوله فطعن أي: أصيب بمرض الطاعون ،ثم هلك على ظهر فرسه كافرًا.
(إلى قتال الباقين، فلم يجيبوه، لأجل جوار أبي براء)
أي: إلى قتال الباقين من السبعين الذين بعثهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلم يجيبوه لأجل جوار أبي براء وقالوا: لانخفر جوار أبي براء.
(إلا كعب بن زيد من بني النجار فإنه ارتُثَّ من بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق)
(ارتث) أي: حُمِل جريحًا. وبعد أن قُتلوا رضي الله عنهم أنزل الله فيهم قرآنًا كما تقدم قبل قليل فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: " إِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ قُتِلُوا، وَإِنَّهُمْ قَالُوا: اللهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِينَا عَنْكَ، وَرَضِيتَ عَنَّا " .وكان هذا من المنسوخ تلاوته.
وفي صحيح البخاري (4091) عن أَنَس ثُمَّ كَانَ مِنَ المَنْسُوخِ: إِنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا «فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلاَثِينَ صَبَاحًا، عَلَى رِعْلٍ، وَذَكْوَانَ، وَبَنِي لَحْيَانَ، وَعُصَيَّةَ، الَّذِينَ عَصَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
وقد كان الصحابة لما اعترض لهم هذا العدو قالوا: لم نأتِ لقتالكم وإنما نحن مجتازون لحاجة أمرنا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بها ثم أحاطوا بهم وقتلوهم رضي الله عنهم . أخرج البخاري(4088) عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعِينَ رَجُلًا لِحَاجَةٍ، يُقَالُ لَهُمْ القُرَّاءُ، فَعَرَضَ لَهُمْ حَيَّانِ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، رِعْلٌ، وَذَكْوَانُ، عِنْدَ بِئْرٍ يُقَالُ لَهَا بِئْرُ مَعُونَةَ، فَقَالَ القَوْمُ: وَاللَّهِ مَا إِيَّاكُمْ أَرَدْنَا، إِنَّمَا نَحْنُ مُجْتَازُونَ فِي حَاجَةٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَتَلُوهُمْ «فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ شَهْرًا فِي صَلاَةِ الغَدَاةِ، وَذَلِكَ بَدْءُ القُنُوتِ، وَمَا كُنَّا نَقْنُتُ».
قَتلوا السبعين عن آخرهم رضي الله عنهم .وأخرج البخاري (4078) عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: مَا نَعْلَمُ حَيًّا مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ أَكْثَرَ شَهِيدًا أَعَزَّ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ قَتَادَةُ: وَحَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ «قُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ، وَيَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ سَبْعُونَ، وَيَوْمَ اليَمَامَةِ سَبْعُونَ»، قَالَ: «وَكَانَ بِئْرُ مَعُونَةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَوْمُ اليَمَامَةِ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ، يَوْمَ مُسَيْلِمَةَ الكَذَّابِ».
ولما علم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقتلهم قنت شهرًا يدعو على رعل وذكوان وعصية ثم تركه. أي: بعد شهر.
(كان عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن محمد بن عقبة في سرح المسلمين)
تقدم معنا في بعث الرجيع أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث عمرو بن أمية لأخذ جثة خُبيب بن عدي وكان من الشجعان الأبطال.
(فرأيا الطير تحوم على موضع الوقعة، فنزل المنذر بن محمد هذا فقاتل المشركين حتى قتل مع أصحابه)
تحوم أَي تَطُوفُ وتتردد وحوم الطير كان قرينة على وجود دماء فنزل المنذر بن محمد هذا أي: ابن عقبة المعروف.
(وأُسر عمرو بن أمية، فلما أخبر أنه من مضر جزَّ عامر ناصيته وأعتقه فيما زعم عن رقبة كانت على أمه)
(جزَّ عامر ناصيته) أي :عامر بن الطفيل، والناصية: مقدمة شعر الرأس. (وأعتقه فيما زعم) مع أنه أُسر عمرو بن أمية ظلما وبغيًا واعتداء ولكن فيما زعم أنه أعتقه .
(ورجع عمرو بن أمية، فلما كان بالقرقرة من صدر قناة نزل في ظل، ويجيء رجلان من بني كلاب، وقيل من بني سليم فنزلا معه فيه، فلما ناما فتك بهما عمرو وهو يرى أنه قد أصاب ثأراً من أصحابه، وإذا معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر به، فلما قدم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعل)
القرقرة موضع ولما نزل به فَتك على غرَّة برجلين بجواره، وكان هذان الرجلان معهما عهد من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لايعلم به عمرو بن أمية، فلما قدم عمرو بن أمية أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(قال: لقد قتلتَ قتيلين لأدينهما)
وهذا فيه دية المعاهَد، وقد ثبت في سنن أبي داوود (4583) عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «دِيَةُ الْمُعَاهِدِ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ». ولا يجوز تعمد الأذى ولا القتل لمن كان معاهدًا ففي صحيح البخاري (3166) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا». هذا دليل على أنه من الكبائر.
(وكان هذا سبب غزوة بني النضير كما ورد هذا في الصحيح)
كان قتلُ عمرو بن أُمية للمعَاهَدَينِ سببًا لغزوة بني النضير وسيأتي إن شاءالله .
(وزعمَ الزُّهري أنَّ غزوةَ بني النضير بعد بدرٍ بستةِ أشهر ،وليس ذلك كما قال ،بل التي كانت بعد بدرٍ بستةِ أشهرٍ هيَ غزوةُ بني قينقاع ،وأما بنوالنضير فبعد أُحُد ،كما أنَّ قُريظة بعد الخندق ،وخيبربعدَ الحُدَيبية،وغزوةُ الروم عامَ تبوك بعد فتحِ مكة ،وأمر عليه السلام عند موته بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب).
هذا القدر ليس موجودًا في بعض نُسَخِ الفصول ،وقد ذكرهنا الحافظ ابنُ كثير بعض الغزوات .ورجح أن الصواب في غزوة بني النضيرأنها كانت بعد غزوة أحد .
غزوة بني قينقاع :وهذا أيضًا قول بعض أهل السير أنها بعد بدرٍ بستةِ أشهرٍ. ومنهم من جعل غزوة بني قينقاع في السنة الثالثة .وقد تقدم.
غزوة بني قريظة كانت بعد الخندق مباشرة ،وغزوة الخندق في السنة الرابعة وبعضهم يقول في السنة الخامسة.
وقعة الحديبية سنة ست.
غزوة تبوك سنة تسع .وكل هذا سيأتي معنا إن شاء الله .
(وأمر عليه السلام عند موته بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب)
أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بإجلاء بني قينقاع من المدينة -وهي من جزيرة العرب- كما تقدم في غزوة بني قينقاع ،وأمر بإجلاء بني النضير .وسيأتي ما حصل لبني قريظة إن شاء الله.
وأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعد ذلك بإجلاء اليهود والنصارى عمومًا من جزيرة العرب .وهذا مما اختُص به جزيرةُ العرب ومن مِيزاتِها ، أخرج مسلم (1767) عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ، وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لَا أَدَعَ إِلَّا مُسْلِمًا».
وإذا كان هذا في اليهود والنصارى فإخراجُ الكفار ممن ليس عندهم كتاب من باب أولى إخراجهم من جزيرة العرب .
وقال البخاري: بَابُ إِخْرَاجِ اليَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ (3168)ثم أخرج بإسناده عن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ: يَوْمُ الخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الخَمِيسِ، ثُمَّ بَكَى حَتَّى بَلَّ دَمْعُهُ الحَصَى، قُلْتُ يَا أَبَا عَبَّاسٍ: مَا يَوْمُ الخَمِيسِ؟ قَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ، فَقَالَ: «ائْتُونِي بِكَتِفٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لاَ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا»، فَتَنَازَعُوا، وَلاَ يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ، فَقَالُوا: مَا لَهُ أَهَجَرَ اسْتَفْهِمُوهُ؟ فَقَالَ: «ذَرُونِي، فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ»، فَأَمَرَهُمْ بِثَلاَثٍ، قَالَ: «أَخْرِجُوا المُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ، وَأَجِيزُوا الوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ».
وقد تكلم العلماء على حدود جزيرة العرب وصفاتها، ومن جزيرة العرب مكة والمدينة واليمن دون الشام .
وقدسئل شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى(28/ 630): هَلْ الْمَدِينَةُ مِنْ الشَّامِ؟
فَأَجَابَ:
مَدِينَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْحِجَازِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا غَيْرِهِمْ أَنَّ الْمَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ مِنْ الشَّامِ وَإِنَّمَا يَقُولُ هَذَا جَاهِلٌ بِحَدِّ الشَّامِ وَالْحِجَازِ جَاهِلٌ بِمَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ وَأَهْلُ اللُّغَةِ وَغَيْرُهُمْ. وَلَكِنْ يُقَالُ الْمَدِينَةُ شَامِيَّةٌ وَمَكَّةُ يَمَانِيَةٌ: أَيْ الْمَدِينَةُ أَقْرَبُ إلَى الشَّامِ وَمَكَّةُ أَقْرَبُ إلَى الْيَمَنِ وَلَيْسَتْ مَكَّةُ مِنْ الْيَمَنِ وَلَا الْمَدِينَةُ مِنْ الشَّامِ. وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: أَنْ تَخْرُجَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ - وَهِيَ الْحِجَازُ - فَأَخْرَجَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الْمَدِينَةِ وَخَيْبَرَ وَيَنْبُعَ وَالْيَمَامَةِ وَمَخَالِيفِ هَذِهِ الْبِلَادِ؛ وَلَمْ يُخْرِجْهُمْ مِنْ الشَّامِ؛ بَلْ لَمَّا فَتَحَ الشَّامَ أَقَرَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالْأُرْدُنِّ وَفِلَسْطِينَ وَغَيْرِهِمَا كَمَا أَقَرَّهُمْ بِدِمَشْقَ وَغَيْرِهَا وَأَمَّا الْعُلَى وَتَبُوكَ وَنَحْوُهُمَا: فَهُوَ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .اهـ.
استفدنا من كلام شيخ الإسلام أن الْمَدِينَةَ وَخَيْبَرَ وَيَنْبُعَ وَالْيَمَامَةَ وَمَخَالِيفِ هَذِهِ الْبِلَادِ والْعُلَى وَتَبُوكَ وَنَحْوَهُمَا من أرض جزيرة العرب .وأن الشام لا تدخل في جزيرة العرب .
وقال رحمه الله في اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 454 )في حدِّ جزيرة العرب :جزيرة العرب، التي هي من بحر القلزم إلى بحر البصرة ومن أقصى حَجَر باليمن، إلى أوائل الشام، بحيث كانت تدخل اليمن في دارهم، ولا تدخل فيها الشام، وفي هذه الأرض كانت العرب، حين المبعث وقبله.
وهذا فيه إدخال اليمن في جزيرة العرب .
وأخرج البخاري في صحيحه معلقًا تحت رقم (3053)عن الْمُغيرَة بن عبدالرحمن :مَكَّة وَالْمَدينَة واليمامة واليمن .اهـ.
وأخرج البيهقي في سننه (9/ 352) عن مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ،: جَزِيرَةُ الْعَرَبِ الْمَدِينَةُ وَمَكَّةُ وَالْيَمَنُ , فَأَمَّا مِصْرُ فَمِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ , وَالشَّامُ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ , وَالْعِرَاقُ مِنْ بِلَادْ فَارِسَ .اهـ.
وقال الأصمعي : جزيرة العرب : من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول ، وأما العرض : فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام .يراجع/ أحكام أهل الذمة لابن القيم .
سبب تسميتها بجزيرة العرب
قال القاضي عياض في مشارق الأنوار: (جزيرة العرب ) بلادها سميت بذلك لإحاطة البحار بها والأنهار.
وفي فتح الباري وَسُمِّيَتْ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ لِإِحَاطَةِ الْبِحَارِ بِهَا يَعْنِي بَحْرَ الْهِنْدِ وَبَحْرَ الْقُلْزُمِ وَبَحْرَ فَارِسَ وَبَحْرَ الْحَبَشَةِ.
وسبب إضافة الجزيرة إلى العرب :قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم تحت رقم (1637) وَأُضِيفَتْ إِلَى الْعَرَبِ لِأَنَّهَا الْأَرْضُ الَّتِي كَانَتْ بِأَيْدِيهِمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَدِيَارُهمُ الَّتِي هِيَ أَوْطَانُهُمْ وَأَوْطَانُ أَسْلَافِهِمْ .اهـ.
وقال الحافظ في فتح الباري (3053): وَأُضِيفَتْ إِلَى الْعَرَبِ لِأَنَّهَا كَانَتْ بِأَيْدِيهِمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبِهَا أَوْطَانُهُمْ وَمَنَازِلُهُمْ .اهـ.
ثم قال النووي رحمه الله :وَأَخَذَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْعُلَمَاءِ فَأَوْجَبُوا إِخْرَاجَ الْكُفَّارِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَقَالُوا لَا يَجُوزُ تَمْكِينُهُمْ مِنْ سُكْنَاهَا .وَلَكِنَّ الشَّافِعِيَّ خَصَّ هَذَا الْحُكْمَ بِبَعْضِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَهُوَ الْحِجَازُ وَهُوَ عِنْدَهُ مَكَّةُ والمدينة واليمامة وَأَعْمَالُهَا دُونَ الْيَمَنِ وَغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ بِدَلِيلٍ آخَرَ مَشْهُورٍ فِي كُتُبِهِ وَكُتُبِ أَصْحَابِهِ .اهـ.
وقال الحافظ رحمه الله : لَكِنَّ الَّذِي يُمْنَعُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ سُكْنَاهُ مِنْهَا الْحِجَازُ خَاصَّةً وَهُوَ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ واليمامة وَمَا وَالَاهَا لَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْيَمَنَ لَا يُمْنَعُونَ مِنْهَا مَعَ أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ .هَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ. وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ مُطْلَقًا إِلَّا الْمَسْجِدَ وَعَنْ مَالِكٍ يَجُوزُ دُخُولُهُمُ الْحَرَمَ لِلتِّجَارَةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَدْخُلُونَ الْحَرَمَ أَصْلًا إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ لمصْلحَة الْمُسلمين خَاصَّة .اهـ.
وقد عمَّمَ بعضهم إخراج اليهود من جميع بلاد المسلمين . قال شيخ الإسلام رحمه الله كما في مجموع الفتاوى (19/23) قِيلَ: هَذَا الْحُكْمُ مَخْصُوصٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ . وَقِيلَ: بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا اسْتَغْنَى الْمُسْلِمُونَ عَنْهُمْ أَجْلَوْهُمْ مِنْ دِيَارِ الْإِسْلَامِ؛ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ.اهـ.
فإذا كان عند المسلمين قوة وجبَ عليهم إخراج الكفار وعدم تمكينهم من الإقامة في جزيرة العرب ،ومن المنكر جلب العُمَّال من الكفار والخدم من الرجال والنساء إلى جزيرة العرب .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين(2/ 440): الحذر الحذر من استجلاب اليهود النصارى والوثنيين من البوذيين وغيرهم إلى هذه الجزيرة؛ لأنها جزيرة إسلام ، منها بدأ وإليها يعود ، فكيف نجعل هؤلاء الخَبَث بين أظهرنا وفي أولادنا ، وفي أهلنا ، وفي مجتمعنا . هذا مؤذنٌ بالهلاك ولابد.اهـ.
ومن ميز جزيرة العرب يأسُ الشيطان من الشرك فيها لما وجد انتشار الإسلام والتوحيد أخرج مسلم في صحيحه (2812) عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ» .
هذا مرورٌ سريع على ما يتعلق بجزيرةِ العرب أحببنا الاطلاع عليه وعلى معرفة فضيلة أرض جزيرة العرب فقد جرتْ حكمةُ الله تفضيلَ بعض البقاع على بعض وتفضيل بعض الأزمان على بعض .
نكون انتهينا بحمد الله من وقعة بئر معونة وعرفنا ما حصل من الظلم للسبعين القراء الذين بعثهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأنهم قُتلوا في الطريق قبل أن يصلوا إلى المكان الذي خرجوا من أجله .
وكان من الذين قتلوا في بئر معونة المنذر بن عمرو المعْنِق ليموت ،وعامر بن فُهيرة جاء في صحيح البخاري (4093) عن عائشة في سياق حديث الهجرة وفيه :فَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ غُلاَمًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الطُّفَيْلِ بْنِ سَخْبَرَةَ، أَخُو عَائِشَةَ لِأُمِّهَا، وَكَانَتْ لِأَبِي بَكْرٍ مِنْحَةٌ، فَكَانَ يَرُوحُ بِهَا وَيَغْدُو عَلَيْهِمْ وَيُصْبِحُ، فَيَدَّلِجُ إِلَيْهِمَا ثُمَّ يَسْرَحُ، فَلاَ يَفْطُنُ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الرِّعَاءِ، فَلَمَّا خَرَجَ خَرَجَ مَعَهُمَا يُعْقِبَانِهِ حَتَّى قَدِمَا المَدِينَةَ، فَقُتِلَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ .
ثم ذكر البخاري في آخره من طريق هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، فَأَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: لَمَّا قُتِلَ الَّذِينَ بِبِئْرِ مَعُونَةَ، وَأُسِرَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، قَالَ: لَهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ مَنْ هَذَا؟ فَأَشَارَ إِلَى قَتِيلٍ، فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ: هَذَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدَ مَا قُتِلَ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ، حَتَّى إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأَرْضِ، ثُمَّ وُضِعَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرُهُمْ فَنَعَاهُمْ، فَقَالَ: «إِنَّ أَصْحَابَكُمْ قَدْ أُصِيبُوا، وَإِنَّهُمْ قَدْ سَأَلُوا رَبَّهُمْ، فَقَالُوا: رَبَّنَا أَخْبِرْ عَنَّا إِخْوَانَنَا بِمَا رَضِينَا عَنْكَ، وَرَضِيتَ عَنَّا، فَأَخْبَرَهُمْ عَنْهُمْ» وَأُصِيبَ يَوْمَئِذٍ فِيهِمْ عُرْوَةُ بْنُ أَسْماءَ بْنِ الصَّلْتِ، فَسُمِّيَ عُرْوَةُ، بِهِ وَمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، سُمِّيَ بِهِ مُنْذِرًا .وهذا مرسل من مراسيل عروة .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري: وَفِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ الْمَذْكُورَةِ وَكَانَ الَّذِي قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِلَابٍ جَبَّارُ بْنُ سَلْمَى ذَكَرَ أَنَّهُ لَمَّا طَعَنَهُ قَالَ فُزْتُ وَاللَّهِ قَالَ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي مَا قَوْلُهُ فُزْتُ فَأَتَيْتُ الضَّحَّاكَ بْنَ سُفْيَانَ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ بِالْجَنَّةِ قَالَ فَأَسْلَمْتُ وَدَعَانِي إِلَى ذَلِكَ مَا رَأَيْتُ مِنْ عَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ .قال : وَوَقَعَ فِي تَرْجَمَةِ عَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ فِي الِاسْتِيعَابِ أَنَّ عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ قَتَلَهُ وَكَأَنَّ نِسْبَتَهُ لَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّزِ لِكَوْنِهِ كَانَ رَأْسَ الْقَوْمِ.اهـ.
عرفنا مما ذكره الحافظ أن قاتلَ عامرِ بن فهيرة رضي الله عنه جبارُ بن سلمى، بضم السين وقيل بفتحها كما في الإصابة .
وحرام بن ملحان وهو أول من قُتِل منهم .
وعروة بن أسماء بن الصلت.رضي الله عنهم أجمعين .
**************************
فصل ـ غزوة بني النضير
ونهض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة إلى بني النضير ليستعينَ على ذينك القتيليَن لما بينه وبينهم من الحِلْف، فقالوا: نعم.
وجلس صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر وعمر وعلي وطائفةٌ من أصحابه رضي الله عنهم تحت جدار لهم، فاجتمعوا فيما بينهم وقالوا: من رجل يلقي بهذه الرحا على محمد فيقتله؟ فانتُدِب لذلك عمرو بن جحاش لعنه الله وأعلم الله رسولَه بما همُّوا به، فنهض صلى الله عليه وسلم من وقته من بين أصحابه، فلم يتناهَ دون المدينة، وجاء مَن أخبر أنه رآه صلى الله عليه وسلم داخلاً في حيطان المدينة، فقام أبو بكر ومن معه فاتبعوه، فأخبرهم بما أعلمه الله من أمر يهود، فندبَ الناس إلى قتالهم، فخرج واستعمل على المدينة ابنَ أم مكتوم وذلك في ربيع الأول فحاصرهم ستَ ليال منه وحينئذٍ حرمت الخمر، كذا ذكره ابن حزم، ولم أره لغيره.
ودسَّ عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابُه من المنافقين إلى بنى النضير: أنَّا معكم نقاتل معكم، وإن أُخرجتم خرجنا معكم.
فاغترَّ أولئك بهذا، فتحصَّنوا في آطامهم، فأمر صلى الله عليه وسلم بقطع نخيلهم وإحراقها، فسألوا رسول الله أن يجليَهم ويحقنَ دماءهم على أن لهم ما حملت إبلُهم غير السلاح فأجابهم إلى ذلك، فتحمل أكابرهم كحُيي بنِ أخطب، وسلام بن أبي الحقيق بأهليهم وأموالهم إلى خيبر فدانت لهم، وذهبت طائفةٌ منهم إلى الشام ولم يُسلم منهم إلا رجلان، وهما أبو سعد بن وهب، ويامين بن عمير بن كعب، وكان قد جَعل لمن قَتل ابنَ عمه عمرو بن جحاش جُعْلاً، لِمَا كان قد همَّ به من الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحرزا أموالهما، وقسم رسول الله أموال الباقين بين المهاجرين الأولين خاصة، إلا أنه أعطى أبا دجانة وسهل بن حنيف الأنصارِيَّين لفقرِهما، وقد كانت أموالهم مما أفاء الله على رسوله، فلم يوجفِ المسلمون بخيل ولا ركاب.
وفي هذه الغزوةِ أنزل اللهُ سبحانه سورة الحشر، وقد كان عبدُ الله بن عباس رضي الله عنهما يسميها سورةَ بني النضير.
**************************
عندنا في هذا الفصل غزوةُ بن النضير ، وسبب هذه الغزوة قتل عمرو بن أمية ذينك الرجلين اللذين كان معهما عهدٌ مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يعلم عمرو به ، فخرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بنفسه الكريمة إلى بني النضير ليستعين بهم في دفع الدية، فقالوا: نعم نعينك ثم همُّوا أن يلقوا صخرة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وانتُدب لذلك عمرو بن جحاش، وجاء الوحي إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فانصرف إلى المدينة. ثم بعد ذلك ندب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لقتال بني النضير لأنهم نقضوا العهد .وكان هذا في ربيع الأول في السنة الرابعة، وحاصرهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حصونهم.
(وذلك في ربيع الأول فحاصرهم ست ليال منه) ست ليال منه أي: من ربيع الأول.
(ودسَّ عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه من المنافقين إلى بنى النضير: أنَّا معكم نقاتل معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم)
وكان قد دسَّ إليهم أي: أرسل عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه من يبلغ بني النضير بخُفية ، وقالوا لبني النضير: إذا قاتلكم فنحن ننصركم، وهذا وعد منافقين لما قاتلهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خذلوهم وأخلوهم وشأنهم وكانوا منتظرين لنصرهم وهم في حصونهم، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ أي: بني النضير، ﴿لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾[الحشر:11]. فهي مواعيد نفاق، ﴿لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13)﴾ [الحشر] أي: محمد وأصحابه أشد رهبة من الله في صدورهم أي: يخافونكم أشد، ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [الحشر:14] من داخل حصونهم وهنا يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: (فتحصنوا في آطامهم) .وهذا شأن الجبناء .روى مسلم في صحيحه (116) عَنْ جَابِرٍ أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ، أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ لَكَ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنْعَةٍ؟ - قَالَ: حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ - فَأَبَى ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي ذَخَرَ اللهُ لِلْأَنْصَارِ الحديث .قال ابن الجوزي رحمه الله في كشف المشكل(3/ 104): أما امْتنَاعُ رَسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْحصن فَإِن التحصن بالجدران فعل الجبان، وَإِنَّمَا التحصن بِالسُّيُوفِ والمبارزة فعل الشجاع. وَسمي الْحصن حصنا من الامتناع. والمنعة: مَا تمنع.اهـ.
﴿ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ﴾ عبارة عن مدافعة، ﴿بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ﴾ بينهم فرقة شديدة، ﴿كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الحشر:15] حالهم كحال الذين من قبلهم أي من بني قينقاع.
﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الحشر:16] شبَّه الله حال بني النضير بحال من وسوس له الشيطان بالكفر، فبنو النضير وَعدَهم المنافقون بالنصر ثم تخلوا عنهم كما زيَّن الشيطان لذلك الإنسان الكفر فلما كفر تبرَّأ منه .
سورة الحشر بتمامها في شأن بني النضير، كما أن سورة الأنفال في وقعة بدر ،ونحو الستين الآية في سورة آل عمران في غزوة أحد.
وما كان يخطر ببالهم أن مصيرهم إلى الحصار والإهانة والإخراج يقول الله تعالى: { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} .
وحاصرهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ستة أيام وقذف الله في قلوبهم الرعب، كانوا مرعوبين من قتال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحابته .كيف وقد أيَّده ربُّه بإرعاب عدوه مسيرة شهر .روى البخاري (335،438) ومسلم (521)عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي المَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً " .قال الحافظ ابنُ كثير في البداية والنهاية (4/78): ومع هذا-أي ما أصابهم من الرعب - فأسَرهم بالمحاصرة بجنوده ونفسه الشريفة ست ليال فذهب بهم الرُّعب كلَّ مذهب حتى صانعوا وصالحوا على حقن دمائهم وأن يأخذوا من أموالهم ما استقلت به رِكابُهم على أنهم لا يصحبون شيئا من السلاح إهانة لهم واحتقارا فجعلوا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولى الابصار. ثم ذكر تعالى أنه لو لم يصبهم الجلاء وهو التسيير والنفي من جوار الرسول من المدينة لأصابهم ما هو أشد منه من العذاب الدنيوي وهو القتل مع ما ادخر لهم في الآخرة من العذاب الأليم المقدر لهم.اهـ.
فمن شدة الرعب والضيق طلبوا الجلاء وأن يخرجوا مع كل بعير بحمولة من الأمتعة فقبِل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم منهم ذلك فجعلوا﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر:2] . يخربون بيوتهم بأيديهم ليأخذوا الأشياء المستحسَنة من الأبواب والخشب وغيرها و { وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ } يخربون ظاهرها .
﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ كيف مآل المعاندين ومصيرهم إلى الخزي والنكال.
ثم قال سبحانه: ﴿وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ﴾ [الحشر:3] .
(الْجَلَاءَ) أي: الخروج من ديارهم (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا) بالسبي والقتل، والإخراج من الديارفي حق المؤمن ابتلاء وهو في حق الكفار يعد من أنواع العذاب .ولكن هذا أخف بالنسبة للسبي والقتل، أن تسبى نساؤهم وذراريهم وتقتل مقاتلتُهم.
وفي أثناء الست الليالي قطع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نخلهم إذلالًا لهم ومهانة وهذا في الصحيحين البخاري (4031) ومسلم (1746) واللفظ له. عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ، وَحَرَّقَ»، وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ:
وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ ... حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ
وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا ﴾ [الحشر: 5] الْآيَةَ.
قال الحافظ ابن كثير في البداية (4/78): ثم ذكر تعالى حكمة ما وقع من تحريق نخلهم وترك ما بقي لهم وأن ذلك كلَّه سائغ فقال ما قطعتم من لينة وَهُوَ جَيِّدُ التَّمْرِ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أصولها فبإذن الله .إِنَّ الْجَمِيعَ قَدْ أُذِنَ فِيهِ شَرْعًا وَقَدَرًا فَلَا حَرَجَ عَلَيْكُمْ فِيهِ وَلَنِعْمَ مَا رَأَيْتُمْ مِنْ ذَلِكَ ،وَلَيْسَ هُوَ بِفَسَادٍ كَمَا قَالَهُ شِرَارُ الْعِبَادِ إِنَّمَا هُوَ إِظْهَارٌ لِلْقُوَّةِ وَإِخْزَاءٌ لِلْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ.اهـ.
وقال النووي في شرح صحيح مسلم (12/ 50)في شرح الحديث : قَوْلُهُ (حَرَّقَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَطَّعَ وَهِيَ الْبُوَيْرَةُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ) .قوله حرق بتشديد الراء والبويرة بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَهِيَ مَوْضِعُ نَخْلِ بَنِي النضير. واللينة الْمَذْكُورَةُ فِي الْقُرْآنِ هِيَ أَنْوَاعُ الثَّمَرِ كُلُّهَا إِلَّا الْعَجْوَةَ وَقِيلَ كِرَامُ النَّخْلِ وَقِيلَ كُلُّ النَّخْلِ وَقِيلَ كُلُّ الْأَشْجَارِ لِلِينِهَا وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا أَنَّ أَنْوَاعَ نَخْلِ الْمَدِينَةِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ نَوْعًا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ قَطْعِ شَجَرِ الْكُفَّارِ وَإِحْرَاقِهِ وَبِهِ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن القاسم ونافع مولى بن عُمَرَ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالْجُمْهُورُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عنه فِي رِوَايَةٍ عَنْهُمْ لَا يَجُوزُ.اهـ.
(وقد كانت أموالهم مما أفاء الله على رسوله، فلم يوجفِ المسلمون بخيل ولا ركاب).
كانت أموال بني النضير فيئًا. والفيء: ما أخذ من أموال الكفار بغير قتال.
﴿وَلَا رِكَابٍ﴾ الركاب الإبل.
وقول الحافظ ابن كثير (وحينئذٍ حرمت الخمر، كذا ذكره ابن حزم، ولم أره لغير)
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (34/ 187)..فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنُّقُولِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ الْخَمْرَ لَمَّا حُرِّمَتْ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ وَكَانَ تَحْرِيمُهَا بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ فِي السُّنَّةِ الثَّالِثَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ .
وقال رحمه الله في هذا المرجع نفسه(14/ 117):فَإِنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ سَنَةَ ثَلَاثٍ بَعْدَ أُحُدٍ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ .اهـ.
فهذا ما أفاده شيخ الإسلام أن الخمر حُرِّمت سنة ثلاثٍ بعد أحد باتفاق الناس .والله أعلم .
انتهينا من غزوة بني النضير وما حصل لبني النضير-إحدى طوائف اليهود الكبار الذين عاهدهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم غدروا - من الإهانة والخزي والإذلال وأجلاهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من ديارهم وتركوا بيوتَهم وأموالهم فيئًا ، وما يحمل أحد معه من الأمتعة إلا حمل بعير. فاعتبروا يا أولي الأبصار .
فصلٌ
وقنت رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شهرًا يدعو على الذينَ قتلوا القرَّاء أصحابَ بئرِ معونة .
كان اللائق وضع هذا الفصل عقب وقعة بئر معونة لأنه يتعلق بها .
وهذا فيه القنوت في النوازل ولم يكن يقنت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غير النوازل. وأما ما جاء مسند أحمد (12657) من طريق أَبي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «مَا زَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا». فهو حديث ضعيف .أبو جعفر الرازي ضعيف .والله أعلم .
adeldzcom
2016-03-10, 22:27
بارك الله فيك اخي
أم سمية الأثرية
2016-05-04, 08:40
الدرس الثامن عشر من /الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم 7/ من شهر جمادى الثاني 1437.
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثامن عشر
مذاكرة:
* ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر:9].
في هذه الآية الثناءُ على الأنصار وأن من صفاتهم الحميدة محبة من هاجرَ إليهم ,وكان الوالد رحمه الله يذكِّر هذه الآية أهلَ البلاد أنهم يحبون الطلاب ويحسنون إليهم ولا يتعرضون لهم بالأذى.
* ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر:10].
الإمام مالك رحمه الله يستنبط من هذه الآية أن الرافضة ليس لهم حق في الفيء؛ لأنهم يسبون صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .وفي صحيح مسلم (3022) عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَتْ لِي عَائِشَةُ: يَا ابْنَ أُخْتِي «أُمِرُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَبُّوهُمْ».يراجع تفسير ابن كثير سورة الحشر.
* ينبغي لنا أن يكون درسُنا عونًا لنا على الهمة العالية ،وعلينا بكثرة الاستغفار والدعاء لتصلح قلوبُنا ،ولينبعث فيها حبُّ العلم والخير.
****************************
فصل [غزوة ذات الرقاع]
وقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو على الذين قَتلوا القُرَّاء أصحاب بئر معونة.
ثم غزا صلى الله عليه وسلم غزوة ذات الرقاع، وهي غزوة نجد فخرج في جُمادى الأولى من هذه السنة الرابعة يريد محارب وبني ثعلبة بن سعد بن غطفان، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري.
فسار حتى بلغ نخلاً، فلقي جمعاً من غطفان فتوقفوا، ولم يكن بينهم قتال، إلا أنه صلى يومئذ صلاة الخوف فيما ذكره ابن إسحاق وغيرُه من أهل السير، وقد استُشكل لأنه قد جاء في رواية الشافعي وأحمد والنسائي عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم حبسه المشركون يوم الخندق عن الظهر والعصر والمغرب والعشاء فصلاهن جميعاً، وذلك قبل نزول صلاة الخوف، قالوا وإنما نزلت صلاة الخوف بعُسْفان كما رواه أبو عياش الزرقي قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان فصلى بنا الظهر، وعلى المشركين يومئذ خالد بن الوليد.
فقالوا: لقد أصبنا منهم غفلة، ثم قالوا: إن لهم صلاة بعد هذه هي أحب إليهم من أموالهم وأبنائهم فنزلت ـ يعني صلاة الخوف ـ بين الظهر والعصر.
فصلى بنا العصر ففرَّقَنا فريقين.. وذكر الحديث. أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نازلاً بين ضَجْنَان وعُسفان، محاصراً المشركين، فقال المشركون: إن لهؤلاء صلاةً هي أحب إليهم من أبنائهم وأَبكارهم، أجمعوا أمركم ثم ميلوا عليهم ميلة واحدة. فجاء جبريل عليه السلام فأمره أن يقسم أصحابه نصفين ... وذكر الحديث. رواه النسائي والترمذي وقال: حسن صحيح.
وقد عُلم بلا خلاف أن غزوةَ عُسفان كانت بعد الخندق، فاقتضَى هذا أن ذاتِ الرقاع بعدها، بل بعد خبير، ويؤيِّد ذلك أن أبا موسى الأشعري وأبا هريرة رضي الله عنهما شهدها، أما أبو موسى الأشعري ففي الصحيحين عنه أنه شهد غزوة ذات الرقاع، وأنهم كانوا يلفون على أرجلهم الخرق لَمَّا نقبت، فسميت بذلك، فأما أبوهريرة فعن مروان بن الحكم أنه سأل أبا هريرة: هل صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ قال: نعم. قال: متى؟ قال: عام غزوة نجد وذكر صفة من صفات صلاة الخوف، أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي.
وقد قال بعض أهل التاريخ: إن غزوة ذات الرقاع أكثر من مرة واحدة كانت قبل الخندق وأخرى بعدها، قلت: إلا أنه لا يتجه أنه صلى في الأولى صلاة الخوف إن صح حديث أنها إنما فرضت في عُسفان.
****************************
هذه الفصل في غزوة ذات الرقاع ويقال لها (غزوة نجد)ويقال لها غزوة محارب قال الحافظ في فتح الباري شرح تبويب حديث (4125):جُمْهُورُ أَهْلِ الْمَغَازِي عَلَى أَنَّ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ هِيَ غَزْوَةُ مُحَارِبٍ كَمَا جزم بِهِ ابن إِسْحَاق .وَعند الْوَاقِدِيّ أَنَّهُمَا اثْنَتَانِ وَتَبِعَهُ الْقُطْبُ الْحَلَبِيُّ فِي شَرْحِ السِّيرَةِ .وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .اهـ. وقداختلف أهلُ العلم متى كانت غزوة ذات الرقاع؟ فمنهم من قال: كانت في السنة الرابعة .وجزم به هنا الحافظ ابن كثير في أول مطلع كلامه على غزوة ذات الرقاع فقال (فخرج في جُمادى الأولى من هذه السنة الرابعة)، وجزم به أيضًا الحافظ في فتح الباري(2718)وقال.. لِأَنَّ ذَاتَ الرِّقَاعِ كَانَتْ بَعْدَ أُحُدٍ بِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ . ومنهم من قال: كانت بعد خيبر .وهذا قول الإمام البخاري واستدل لذلك الإمام البخاري بأن أبا موسى وأباهريرة قدما أيام خيبر، أي وقد شهدا غزوة ذات الرقاع ، فقال رحمه الله في صحيحه(4125): بَابُ غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ وَهِيَ غَزْوَةُ مُحَارِبِ خَصَفَةَ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ مِنْ غَطَفَانَ، فَنَزَلَ نَخْلًا، وَهِيَ بَعْدَ خَيْبَرَ، لِأَنَّ أَبَا مُوسَى جَاءَ بَعْدَ خَيْبَرَ.
وقال البخاري تحت رقم (4137)وَإِنَّمَا جَاءَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامَ خَيْبَرَ .
قال الحافظ في فتح الباري: يُرِيدُ بِذَلِكَ تَأْكِيدَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ كَانَتْ بَعْدَ خَيْبَرَ .
ونصره ابن القيم . ولأجل هذا الخلاف اختلف العلماء متى شرعت صلاة الخوف؟
فمنهم من يرى أنها شرعت في غزوة ذات الرقاع السنة الرابعة قبل وقعة الخندق، ووضعُ الحافظ ابن كثير لها هنا على طريقة من قال :غزوة ذات الرقاع قبل الخندق ولكن يردُّ هذا القول أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غزوة الخندق ما صلى العصر حتى غربت الشمس مما يدلُّ أنَّ صلاة الخوف لم تكن قد شُرِعت إذ لو كانت قد شُرِعت لصلَّوها ،وقد ثبت في الصحيحين البخاري (6396) واللفظ له ومسلم (627) عن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الخَنْدَقِ، فَقَالَ: «مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا، كَمَا شَغَلُونَا عَنْ صَلاَةِ الوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ» وَهِيَ صَلاَةُ العَصْر». وفي روايةٍ لمسلم في صحيحه «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، صَلَاةِ الْعَصْرِ.. ».
فعلمنا أن من قال :شُرِعت صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع قبل الخندق غير صواب إذ لو كانت مشروعة لصليت صلاة الخوف في الخندق .
وتقدم استدلال البخاري على أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد خيبر. وقصة أبي هريرة أنه شهد غزوة ذات الرقاع وهو ما قدم المدينة إلا أيام خيبرهي عند أبي داود في سننه (1240)وأحمد (14/ 12)من طريق أَبِي الْأَسْوَدِ، أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، يُحَدِّثُ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ، هَلْ صَلَّيْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: نَعَمْ، قَالَ مَرْوَانُ: مَتَى؟ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «عَامَ غَزْوَةِ نَجْدٍ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَقَامَتْ مَعَهُ طَائِفَةٌ، وَطَائِفَةٌ أُخْرَى مُقَابِلَ الْعَدُوِّالحديث .
وفي رواية أبي داود ما يدل أن عروة بن الزبير قد سمعه من أبي هريرة فقد أخرجه (1241)من طريق مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى نَجْدٍ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِذَاتِ الرِّقَاعِ مِنْ نَخْلٍ .الحديث .وقد صرَّح ابنُ إسحاق بالتحديث عند ابن خزيمة في صحيحه (1362).
ومما يدل على تأخر غزوة ذات الرقاع عن وقعة الخندق حديثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا في البخاري (2664) ومسلم (1868) «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمْ يُجِزْنِي ثُمَّ عَرَضَنِي يَوْمَ الخَنْدَقِ، وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَجَازَنِي». ودل هذا الحديث أن أول مشاهد عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وقعةُ الخندق.
وقد شهد عبدالله بن عمر ذات الرقاع فدلَّ على تأخر ذات الرقاع عن غزوة الخندق ثبت في صحيح البخاري (4132) عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،قَالَ: «غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ نَجْدٍ، فَوَازَيْنَا العَدُوَّ، فَصَافَفْنَا لَهُمْ».
فهذه بعض الأدلة في تأخر غزوة ذات الرقاع عن وقعة الخندق .
ومما يدل على أن صلاة الخوف شرعت بعد الخندق ما رواه أبو داود في سننه (1236)عن أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيِّ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُسْفَانَ، وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَصَلَّيْنَا الظُّهْرَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: لَقَدْ أَصَبْنَا غِرَّةً، لَقَدْ أَصَبْنَا غَفْلَةً، لَوْ كُنَّا حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْقَصْرِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَلَمَّا حَضَرَتِ الْعَصْرُ، قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَالْمُشْرِكُونَ أَمَامَهُ، فَصَفَّ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صَفٌّ، وَصَفَّ بَعْدَ ذَلِكَ الصَّفِّ صَفٌّ آخَرُ، فَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَكَعُوا جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ، وَسَجَدَ الصَّفُّ الَّذِينَ يَلُونَهُ، وَقَامَ الْآخَرُونَ يَحْرُسُونَهُمْ، فَلَمَّا صَلَّى هَؤُلَاءِ السَّجْدَتَيْنِ وَقَامُوا، سَجَدَ الْآخَرُونَ الَّذِينَ كَانُوا خَلْفَهُمْ، ثُمَّ تَأَخَّرَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ إِلَى مَقَامِ الْآخَرِينَ، وَتَقَدَّمَ الصَّفُّ الْأَخِيرُ إِلَى مَقَامِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَكَعُوا جَمِيعًا، ثُمَّ سَجَدَ وَسَجَدَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ وَقَامَ الْآخَرُونَ يَحْرُسُونَهُمْ، فَلَمَّا جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، سَجَدَ الْآخَرُونَ، ثُمَّ جَلَسُوا جَمِيعًا فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، فَصَلَّاهَا بِعُسْفَانَ، وَصَلَّاهَا يَوْمَ بَنِي سُلَيْمٍ
وهو في الصحيح المسند للوادعي (1243) .
وعُسْفان كانت بعد الخندق. قال ابنُ الأثير في النهاية: عسفان وَهِيَ قريةٌ جامعةٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. وفي معجم البلدان(4/ 121): عُسْفَانُ:
بضم أوله، وسكون ثانيه ثم فاء، وآخره نون، فعلان من عسفت المفازة وهو يعسفها وهو قطعها بلا هداية ولا قصد، وكذلك كل أمر يركب بغير روية، قال: سميت عسفان لتعسف السيل فيها كما سميت الأبواء لتبوّء السيل بها، قال أبو منصور:عسفان منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة ومكة...".
أما على القول أن غزوةَ ذات الرقاع كانت قبل الخندق فيقول
الحافظ ابن كثير رحمه الله هنا: (وقد استشكل..) هذا مشكل أن تكون غزوة ذات الرقاع متقدمة على الخندق سنة أربع لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما صلى صلاة الخوف في الخندق ولو كانت مشروعة لصلَّاها . ، ثم ذكر حديث أبي سعيد في حبس المشركين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الصلاة يوم الخندق مما يدل على أن صلاة الخوف لم تكن شرعت.
ووقعة الخندق المشهور عند أهل السير أنها كانت سنة خمس، وقال بعضهم: كانت سنة أربع.
وحديث أبي سعيد صحيح .والذي في الصحيحين تأخير صلاة العصر وحدها كما تقدم في الشرح من حديث علي ابن أبي طالب . وهنا حديث أبي سعيدفيه أنها أربع صلوات وقد أجاب عن ذلك الإمام النووي في شرح صحيح مسلم (5/130) وقال : وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ هُنَا وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ الصَّلَاةَ الْفَائِتَةَ كَانَتْ صَلَاةَ الْعَصْرِ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَفُتْ غَيْرُهَا وَفِي الْمُوَطَّأِ أَنَّهَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَفِي غَيْرِهِ أَنَّهُ أَخَّرَ أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ حَتَّى ذَهَبَ هَوِيٌ مِنَ اللَّيْلِ وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ وَقْعَةَ الْخَنْدَقِ بَقِيَتْ أَيَّامًا فَكَانَ هَذَا فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ وَهَذَا فِي بَعْضِهَا .اهـ.
عرفنا أن صلاة الخوف شُرعت بعسفان لحديث أبي عياش الزرقي وعسفان بعد الخندق، وغزوة ذات الرقاع متأخرة بعد خيبر، ووقعة خيبر في السنة السابعة ومن قدَّم غزوة ذات الرقاع على خيبر فالصحيح خلافه وقد بين ذلك ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد.
ومن الأجوبة التي أجيب بها عن تاريخ غزوة ذات الرقاع تعدد الوقعة يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله هنا في الفصول: (وقد قال بعض أهل التاريخ: إن غزوة ذات الرقاع أكثر من مرة واحدة كانت قبل الخندق وأخرى بعدها) وهذا رده الحافظ ابن كثيرٍهنا بقوله: (قلت: إلا أنه لا يتجه أنه صلى في الأولى صلاة الخوف إن صح حديث أنها إنما فرضت في عسفان) في الأولى أي: غزوة ذات الرقاع ،لا يتجه لأنه جاء النص أنه نزل صلاة الخوف بعسفان.
وقال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد (3/226)بعد أن ذكر شهود أبي موسى وأبي هريرة غزوة ذات الرقاع قال: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ بَعْدَ خَيْبَرَ، وَأَنَّ مَنْ جَعَلَهَا قَبْلَ الْخَنْدَقِ فَقَدْ وَهِمَ وَهْمًا ظَاهِرًا، وَلَمَّا لَمْ يَفْطُنْ بَعْضُهُمْ لِهَذَا ادَّعَى أَنَّ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ كَانَتْ مَرَّتَيْنِ، فَمَرَّةً قَبْلَ الْخَنْدَقِ، وَمَرَّةً بَعْدَهَا عَلَى عَادَتِهِمْ فِي تَعْدِيدِ الْوَقَائِعِ إذَا اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهَا أَوْ تَارِيخُهَا، وَلَوْ صَحَّ لِهَذَا الْقَائِلِ مَا ذَكَرَهُ، وَلَا يَصِحُّ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ صَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قِصَّةِ عُسْفَانَ، وَكَوْنِهَا بَعْدَ الْخَنْدَقِ، وَلَهُمْ أَنْ يُجِيبُوا عَنْ هَذَا بِأَنَّ تَأْخِيرَ يَوْمِ الْخَنْدَقِ جَائِزٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، وَأَنَّ فِي حَالِ الْمُسَايَفَةِ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ إِلَى أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ فِعْلِهَا، وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَغَيْرِهِ، لَكِنْ لَا حِيلَةَ لَهُمْ فِي قِصَّةِ عُسْفَانَ أَنَّ أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا لِلْخَوْفِ بِهَا، وَأَنَّهَا بَعْدَ الْخَنْدَقِ. فَالصَّوَابُ تَحْوِيلُ غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَى مَا بَعْدَ الْخَنْدَقِ بَلْ بَعْدَ خَيْبَرَ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهَا هَاهُنَا تَقْلِيدًا لِأَهْلِ الْمَغَازِي وَالسِّيَرِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَنَا وَهْمُهُمْ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.اهـ.
هذه المسألة لها علاقة بالسيرة،ولها علاقة بالتفسير في آيات الخوف، ولها علاقة بالفقه في كتاب صلاة الخوف، فهذه الفنون يُذكَرُ فيها هذه المسألة متى شُرع صلاة الخوف؟ . والعلمُ يخدمُ بعضه بعضًا ،فقد تمرُّ المسألة في أكثر من كتاب ،وإذا هُضِمَتِ وفُهِمت المسألةُ هذه أو غيرها ،إذا مرَّتْ مرَّة أخرى يكون عبارة عن مذاكرة وتثبيت ،ونسأل الله من واسع فضله العظيم.
سبب تسمية غزوة ذات الرقاع بهذا الاسم جاء في صحيح البخاري (4128) وصحيح مسلم (1816) عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ وَنَحْنُ سِتَّةُ نَفَرٍ، بَيْنَنَا بَعِيرٌ نَعْتَقِبُهُ، فَنَقِبَتْ أَقْدَامُنَا، وَنَقِبَتْ قَدَمَايَ، وَسَقَطَتْ أَظْفَارِي، وَكُنَّا نَلُفُّ عَلَى أَرْجُلِنَا الخِرَقَ، فَسُمِّيَتْ غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ، لِمَا كُنَّا نَعْصِبُ مِنَ الخِرَقِ عَلَى أَرْجُلِنَا»، وَحَدَّثَ أَبُو مُوسَى بِهَذَا ثُمَّ كَرِهَ ذَاكَ، قَالَ: مَا كُنْتُ أَصْنَعُ بِأَنْ أَذْكُرَهُ، كَأَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ عَمَلِهِ أَفْشَاهُ .
كان أبو موسى رضي الله عنه يحدث بهذا الحديث ثم ترك التحديث به لأنه خشي من تزكية النفس وخشى على عمله.
معنى (نَعْتَقِبُهُ) قال النووي في شرح صحيح مسلم (12/197): نَعْتَقِبُهُ) أَيْ يَرْكَبُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا نَوْبَةً فِيهِ جَوَازُ مِثْلِ هَذَا إِذَا لَمْ يَضُرَّ بِالْمَرْكُوبِ . وقال الحافظ في فتح الباري (7/421): أَيْ نَرْكَبُهُ عُقْبَةً عُقْبَةً وَهُوَ أَنْ يَرْكَبَ هَذَا قَلِيلًا ثُمَّ يَنْزِلُ فَيَرْكَبَ الْآخَرُ بِالنَّوْبَةِ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى سَائِرِهِمْ . اهـ. بخلاف الإرداف، فإنه يُرْدف صاحبه خلفه.
****************************
وقد ذكروا أنه كانت من الحوادث في هذه الغزوة قصة جمل جابر وبيعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك نظر، لأنه جاء أن ذلك كان في غزوة تبوك، إلا أن هذا أنسب لِمَا أنه كان قد قتل أبوه في أُحد، وترك الأخوات، فاحتاج أن يتزوَّج سريعاً من يكفلُهن له.
ومنها: حديث جابر أيضاً في الرجل الذي سَبَوا امرأته فحلف ليهريقن دماً في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فجاء ليلاً ـ وقد أرصد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رجلين ربيئةً للمسلمين من العدو، وهما عباد بن بشر وعمار بن ياسر رضي الله عنهما ـ فضرب عباداً بن بشر بسهم وهو قائم يصلي، فنزعه ولم يبطِل صلاتَه، حتى رشقه بثلاثة أسهم، فلم ينصرف منها حتى سلَّم، وأنبَه صاحبَه، فقال: سبحان الله هلا أنبَهتني؟ ! فقال: إني كنت في سورة فكرهت أن أقطعها. ومنها حديث غورث بن الحارث الذي هم برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائل تحت الشجرة، فاستلَّ سيفه وأراد ضربه، فصدَّه الله عنه، وحُبست يده، واستيقظ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من نومه، فدعا أصحابه فاجتمعوا إليه، فأخبرهم عنه وما همَّ به غورث من قتله، ومع هذا كلِّه أطلقه وعفا عنه صلى الله عليه وسلم.
وهذا كان في غزوة ذات الرقاع، إلا أنها التي بعد الخندق كما أخرجاه في الصحيحين، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع، قال: كنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة، فأخذ السيف، فاخترطه، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتخافني؟ قال: لا، قال فمن يمنعك مني؟ قال: الله. قال: فتهدَّده أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأغمد السيفَ وعلَّقه، قال: فنودي بالصلاة، فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، وكانت لرسول الله أربع ركعات، وللقوم ركعتان. واللفظ لمسلم.
****************************
هذه بعض الأمور التي وقعت في غزوة ذات الرقاع .أحدها: قصة جمل جابر، وجاء في بعض الروايات أنه في غزوة تبوك .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: (وفي ذلك نظر) .وهذا في رواية معلَّقة عند البخاري تحت رقم(2718) وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ جَابِرٍ: اشْتَرَاهُ بِطَرِيقِ تَبُوكَ، أَحْسِبُهُ قَالَ: بِأَرْبَعِ أَوَاقٍ .
وله طريقٌ أخرى إلى جابرفي مسند أبي يعلى (1793) من طريق عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ فَتَخَلَّفَ الْبَعِيرُ الحديث.وعلي بن زيد :ابن جُدْعان ضعيف.
وقد أخرجه البخاري (2861)من وجهٍ آخر من طريق أَبِي عَقِيلٍ، حَدَّثَنَا أَبُو المُتَوَكِّلِ النَّاجِيُّ، قَالَ: أَتَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ، فَقُلْتُ لَهُ: حَدِّثْنِي بِمَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: سَافَرْتُ مَعَهُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ - قَالَ أَبُو عَقِيلٍ: لاَ أَدْرِي غَزْوَةً أَوْ عُمْرَةً الحديث.وهذا يضعِّف رواية ابن جدعان .
وقد ردَّ هذه الرواية-أنه كان في غزوة تبوك- الحافظ ابن كثيرهُنا بقوله (وفي ذلك نظر)وبقوله (إلا أن هذا أنسب لِمَا أنه كان قد قتل أبوه في أُحد، وترك الأخوات، فاحتاج أن يتزوَّج سريعاً من يكفلُهن له).
هذا أنسب أن يكون شراءُ جابر للجمل متقدمًا على غزوة تبوك؛ لأنه جابرًا توفي أبوه في غزوة أُحد فبادر وتزوج امرأة لتقوم برعاية أخواته. قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد(3/ 227): وَلَكِنْ فِي إخْبَارِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثَيِّبًا تَقُومُ عَلَى أَخَوَاتِهِ، وَتَكْفُلُهُنَّ إشْعَارٌ بِأَنَّهُ بَادَرَ إِلَى ذَلِكَ بَعْدَ مَقْتَلِ أَبِيهِ، وَلَمْ يُؤَخَّرْ إِلَى عَامِ تبوك، واللَّهُ أَعْلَمُ.اهـ. فكان أنسب أن يكون في غزوة ذات الرقاع ،وهذا على القول أن غزوة ذات الرقاع في السنة الرابعة ،وقد صرَّح بذلك الحافظ ابن حجرٍ في فتح الباري (2861)وقال في سياق بيع جابر لجمله في أي غزوةٍ كان: لَكِنْ جزم ابن إِسْحَاقَ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ فِي رِوَايَتِهِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا قَبْلُ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ مِنْ نَخْلٍ وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْوَاقِدِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَطِيَّةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ عَنْ جَابِرٍ وَهِيَ الرَّاجِحَةُ فِي نَظَرِي لِأَنَّ أَهْلَ الْمَغَازِي أَضْبَطُ لِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَأَيْضًا فَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ أَن ذَلِكَ وَقَعَ فِي رُجُوعِهِمْ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَيْسَتْ طَرِيقُ تَبُوكَ مُلَاقِيَةً لِطَرِيقِ مَكَّةَ بِخِلَافِ طَرِيقِ غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ .وَأَيْضًا فَإِنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْ طُرُقِهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ هَلْ تَزَوَّجْتَ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَتَزَوَّجْتَ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا الْحَدِيثَ. وَفِيهِ اعْتِذَارُهُ بِتَزَوُّجِهِ الثَّيِّبَ بِأَنَّ أَبَاهُ اسْتُشْهِدَ بِأُحُدٍ وَتَرَكَ أَخَوَاتِهِ فَتَزَوَّجَ ثَيِّبًا لِتُمَشِّطُهُنَّ وَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ فَأَشْعَرَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِالْقُرْبِ مِنْ وَفَاةِ أَبِيهِ فَيَكُونُ وُقُوعُ الْقِصَّةِ فِي ذَاتِ الرِّقَاعِ أَظْهَرَ مِنْ وُقُوعِهَا فِي تَبُوكَ لِأَنَّ ذَاتَ الرِّقَاعِ كَانَتْ بَعْدَ أُحُدٍ بِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ وَتَبُوكُ كَانَتْ بَعْدَهَا بِسَبْعِ سِنِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لَا جَرَمَ جزم الْبَيْهَقِيّ فِي الدَّلَائِل بِمَا قَالَ ابن إِسْحَاقَ.اهـ.
والحاصل : أن بيع جابررضي الله عنه للجمل كان قريبًا من وفاة أبيه لاحتياجه إلى من يكفل أخواته ويقوم برعايتهن .
(ومنها حديث جابر أيضاً في الرجل الذي سبوا امرأته فحلف ليهريقن دماً في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم...)
وهذا إسناده ضعيف فيه عقيل بن جابر وهو مجهول عين.
قال ابن أبي حاتمٍ في الجرح والتعديل(6/ 218): سمعت أبى يقول عقيل بن جابر لا أعرفه.
وفي ميزان الاعتدال (3/ 88): عقيل بن جابر بن عبد الله الأنصاري. عن أبيه. فيه جهالة. ما روى عنه غير صدقة بن يسار.
(ومنها حديث غورث بن الحارث الذي هم برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائل تحت الشجرة، فاستلَّ سيفه وأراد ضربه، فصدَّه الله عنه، وحُبست يده، )
هذا فيه اسم الرجل الذي همَّ بقتل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه غورث وقد جاء في صحيح البخاري (4136) :وَقَالَ مُسَدَّدٌ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ،
اسْمُ الرَّجُلِ غَوْرَثُ بْنُ الحَارِثِ ..
(ومع هذا كلِّه أطلقه وعفا عنه صلى الله عليه وسلم)
وهذا من تمام حِلْمه وعفوه ، وقد وُصِف بذلك في الكتب المتقدمة كما في صحيح البخاري (4838) عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ الَّتِي فِي القُرْآنِ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ [الأحزاب: 45]، قَالَ فِي التَّوْرَاةِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ، وَلاَ سَخَّابٍ بِالأَسْوَاقِ، وَلاَ يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَيَفْتَحَ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا». وهذه طريق أنبياء الله ورسله العفو والصفح، ومن أمثلة ذلك قصة يوسف عليه الصلاة والسلام لما كان في السجن وعبَّر الرؤيا للرجلين اللذين سجنا معه، وقال للناجي: إذا خرجت من السجن اذكر أمري عند ربك. فخرج الناجي ونسي ﴿...فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ [يوسف:42]، وهذا من عداوة الشيطان كاد ليوسف فأنسى الناجي أن يذكرأمر يوسف أنه في السجن، فلما رأى الملك الرؤيا وأرعبته وأقلقته تذكَّر الناجي أن يوسف في السجن فاستأذن في الإرسال ﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)﴾ [يوسف]. بعد ذلك عبَّر يوسف وقال له ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ﴾ [يوسف:47]. هذا من عفو يوسف، وصفحه ما عاتبه وقال: أنت نسيتني،وبعض الناس يقول :فلان ما يذكرنا إلا وقتَ الحاجة ، وما اشترط لا أعبر لكم الرؤيا إلا بشرط إخراجي من السجن عبَّرلهم الرؤيا مباشرة ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ﴾ [يوسف:47]. وفي آخر سورة يوسف أيضًا بعد أن جمع الله بينه وبين إخوته، قال يوسف: ﴿قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [يوسف:92]. أي: لا لوم ولا عتاب. وهذا خُلُق عزيز من مكارم الأخلاق ،وهو من أسباب نيل العزة في الدارين.وفي صحيح مسلم (2588) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ، إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ».
وحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الآتي في الفصول هومن أدلة العفو والصفح.وقد قال تعالى فاصفح الصفح الجميل .
(قال فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة، فأخذ السيف، فاخترطه فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتخافني؟ قال: لا)
وفي مستدرك الحاكم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَارِبَ خَصَفَةَ بِنَخْلٍ، فَرَأَوْا مِنَ الْمُسْلِمِينَ غُرَّةً، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ حَتَّى قَامَ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: «اللَّهُ» قَالَ: فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: «مَنْ يَمْنَعُكَ؟» قَالَ: كُنْ خَيْرَ آخِذٍ، قَالَ: «تَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟» قَالَ: أُعَاهِدُكَ عَلَى أَنْ لَا أُقَاتِلَكَ، وَلَا أَكُونُ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ، قَالَ: فَخَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبِيلَهُ فَجَاءَ إِلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ الحديث .
(وهذا كان في غزوة ذات الرقاع، إلا أنها التي بعد الخندق)
أي أن هذا الذي حصل كان في غزوة ذات الرقاع التي بعد الخندق .
وقد تقدم انتقاد ابن القيم لقول من قال غزوة ذات الرقاع كانت مرتين مرة قبل الخندق ومرة بعدها .
****************************
فصل [غزوة بدر الصغرى]
وقد كان أبو سفيان يوم أحد عند منصرفه نادى: موعدكم وإيانا بدر العام المقبل، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه أن يجيبه بنعم، فلما كان شعبان في هذه السنة نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى بدراً للموعد، واستخلف على المدينة عبد الله بن عبد الله بن أبي، فأقام هناك ثماني ليال، ثم رجع ولم يلق كيداً، وذلك أن أبا سفيان خرج بقريش، فلما كان ببعض الطريق بدا لهم الرجوع لأجل جدب سنتهم فرجعوا، وهذه الغزوة تسمى بدراً الثالثة وبدر الموعد.
****************************
هذه غزوة بدر الثالثة في السنة الرابعة ، وقد تقدم لنا غزوة بدر ثلاث:
الأولى: وسببها إغارة كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة فخرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في طلبه ولم يلق كيدا.
غزوة بدر الثانية: وهي غزوة بدر العظمى وكان سببها خروج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لتعرض قافلة أبي سفيان.
وهنا غزوة بدر الثالثة: ويقال لها غزوة بدر الموعد؛ لأن أبا سفيان عند رجوعهم من غزوة أحد، قال: موعدنا وإياكم بدر في العام المقبل، ثم خرج لملاقاتهم إمضاءً للوعد. ويقال لها غزوة جيش السويق لأن أبا سفيان وأصحابه لما خرجوا من مكة مشوا قليلًا ثم عرض عليهم أبو سفيان، فقال لهم: نحن في زمن جدب فننتظر إلى عام خصب، فأكلوا السويق ثم رجعوا إلى مكة.
وهنا يذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خرج إلى بدر لملاقاة قريش وأقام ثمانية ليالٍ، ثم رجع صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
****************************
فصل [غزوة دُومة الجندل]
وخرج صلى الله عليه وسلم إلى دُومة الجندل في ربيع الأول من سنة خمس، ثم رجع في أثناء الطريق ولم يلق حرباً، وكان استعمل على المدينة سباع بن عرفطة.
****************************
غزوة دُومة الجندل في السنة الخامسة .وسببها أنه بلغ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن جمعًا من الكفار يتجمعون لقتال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفي أثناء الطريق بلغه أنهم قد هربوا وتفرَّقوا فرجع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم يلق حربًا.
أم سمية الأثرية
2016-05-04, 08:49
(10) التَّذْكِيْرُ بِسِيْرَةِ سَيِّدِ البَشَرِ
الكاتب أم عبدالله الوادعية
بسم الله الرحمن الرحيم
(10) (التَّذْكِيْرُ بِسِيْرَةِ سَيِّدِ البَشَرِ)
اختصارُ درسِ السابع عشر من (الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم)
* بعث بئر معونة: كانت هذه الوقعة في صفر الذي وقع فيه بعث الرجيع، فقد كانا في شهرٍ واحدٍ في السنة الرابعة.
*سبب هذه الوقعة: وذلك أن أبا براء عامر بن مالك المدْعو مُلاعِب الأسنَّة، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ فدعاه إلى الإسلام فما أسلم ولا أظهر عنادًا ومخالفةً، ثم عرض على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يبعث أصحابه إلى نجد لدعوتهم وتعليمهم، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إني أخاف عليهم أهل نجد. فقال أبو براء: أنا جارٌ لهم.
* عدد بعث بئر معونة: بعث النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم سبعين رجلًا كما في الصحيحين ، وقد قيل :بعث أربعين رجلًا كما في قول ابن اسحاق.وما في الصحيحين هو الصحيح . وأمَّر عليهم المنذرَ بن عمرو ولقبُه المعنِق لِيموت.
*وصف بعث بئر معونة: كانوا من فضلاء المسلمين وساداتهم وقرَّائهم ، أخرج البخاري (2801) ومسلم (677) واللفظ لمسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: جَاءَ نَاسٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: «أَنِ ابْعَثْ مَعَنَا رِجَالًا يُعَلِّمُونَا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، يُقَالُ لَهُمْ: الْقُرَّاءُ، فِيهِمْ خَالِي حَرَامٌ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَدَارَسُونَ بِاللَّيْلِ يَتَعَلَّمُونَ، وَكَانُوا بِالنَّهَارِ يَجِيئُونَ بِالْمَاءِ فَيَضَعُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَحْتَطِبُونَ فَيَبِيعُونَهُ، وَيَشْتَرُونَ بِهِ الطَّعَامَ لِأَهْلِ الصُّفَّةِ وَلِلْفُقَرَاءِ، فَبَعَثَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، فَعَرَضُوا لَهُمْ، فَقَتَلُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا الْمَكَانَ، فَقَالُوا: اللهُمَّ، بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِينَا عَنْكَ، وَرَضِيتَ عَنَّا، قَالَ: وَأَتَى رَجُلٌ حَرَامًا، خَالَ أَنَسٍ مِنْ خَلْفِهِ، فَطَعَنَهُ بِرُمْحٍ حَتَّى أَنْفَذَهُ، فَقَالَ حَرَامٌ: فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ قُتِلُوا، وَإِنَّهُمْ قَالُوا: اللهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِينَا عَنْكَ، وَرَضِيتَ عَنَّا». ودلَّ هذا الحديث أن هؤلاء الصحابة السبعين من خيار الصحابة وكانوا يسمون بالقراء،وأصحاب عبادةٍ وخدمة لأهل الُّصُّفة والمحاويج رضي الله عنهم .
* قصةُ قتلهم: نهضُوا فنزلوا بئر معونة، ثم بعثُوا منها حرامَ بن ملحان أخا أم سليم بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدوِّ الله عامرِ بن الطفيل، فلم ينظر عامر في الكتاب. وأمر به فقتله، يقول حرام بن ملحان لما طُعن بالحربة: فزت ورب الكعبة.أي فاز بالشهادة والجنة .
واستنفر عدو الله عامر: بني عامر إلى قتال الباقين من السبعين الذين بعثهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلم يجيبوه لأجل جوار أبي براء.
واستنفر بني سليم فأجابته عُصَيَّة ورِعل وذكوان، فأحاطوا بهم فقاتلوا حتى قُتلوا عن آخرهم رضي الله عنهم، إلا كعب بن زيد فإنه حُمِل جريحًا من بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق. وكان عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن محمد بن عقبة في سرح المسلمين، فرأيا الطيرَ تحومُ –أي تتردد وتطوف-على موضع الوقعة، فنزلا فقاتلا المشركين حتى قتل المنذر بن محمد وأُسر عمرو بن أمية، ثم أعتقه عامر فيما زعم عن رقبةٍ كانت على أمه عندما أَخبر أنه من مضر.
* ثم رجع عمرو بن أمية ونزل بالقرقرةِ وفَتك على غرَّة برجلين بجواره، وكان هذان الرجلان معهما عهد من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا يعلم به عمرو بن أمية، وهو يرى أنه قد أصاب ثأراً من أصحابه، فلما قدم أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: لقد قتلتَ قتيلَين لأدينَّهما. وهذا فيه دية المعاهَد، وقد ثبت في سنن أبي داوود (4583) عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «دِيَةُ الْمُعَاهِدِ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ». ولا يجوز تعمد الأذى ولا القتل لمن كان معاهدًا ففي صحيح البخاري (3166) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا». هذا دليل على أنه من الكبائر.
* أنزل الله فيهم بعد أن قُتلوا رضي الله عنهم قرآنًا وكان من المنسوخ تلاوته: ففي صحيح البخاري (4091) عن أَنَس ثُمَّ كَانَ مِنَ المَنْسُوخِ: إِنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا «فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلاَثِينَ صَبَاحًا، عَلَى رِعْلٍ، وَذَكْوَانَ، وَبَنِي لَحْيَانَ، وَعُصَيَّةَ، الَّذِينَ عَصَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
* من الذين قتلوا في بئر معونة: المنذر بن عمرو المعْنِق ليموت، وعامر بن فُهيرة قتله جبارُ بن سلمى، وحرام بن ملحان وهو أول من قُتِل منهم. وعروة بن أسماء بن الصلت. رضي الله عنهم أجمعين.
* قنوت رسولِ الله صلى الله عليه وسلم شهرًا يدعو على الذينَ قتلوا القرَّاء: وهذا فيه القنوت في النوازل ولم يقنت صلى الله عليه وسلم في غير النوازل. وأما ما جاء في مسند أحمد (12657) من طريق أَبي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «مَا زَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا». فهو حديث ضعيف. أبو جعفر الرازي ضعيف. والله أعلم.
*الأمر بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب: أمر صلى الله عليه وسلم عند موته بإجلائهم عمومًا. وهذا مما اختُص به جزيرةُ العرب ومن مِيزاتِها، أخرج مسلم (1767) عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ، وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لَا أَدَعَ إِلَّا مُسْلِمًا».
ـ وإذا كان هذا في اليهود والنصارى فإخراجُ الكفار ممن ليس عندهم كتاب من باب أولى، وقال البخاري: بَابُ إِخْرَاجِ اليَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ (3168) ثم أخرج بإسناده عن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ: يَوْمُ الخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الخَمِيسِ، ثُمَّ بَكَى حَتَّى بَلَّ دَمْعُهُ الحَصَى، قُلْتُ يَا أَبَا عَبَّاسٍ: مَا يَوْمُ الخَمِيسِ؟ قَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ، فَقَالَ: «ائْتُونِي بِكَتِفٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لاَ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا»، فَتَنَازَعُوا، وَلاَ يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ، فَقَالُوا: مَا لَهُ أَهَجَرَ اسْتَفْهِمُوهُ؟ فَقَالَ: «ذَرُونِي، فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ»، فَأَمَرَهُمْ بِثَلاَثٍ، قَالَ: «أَخْرِجُوا المُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ، وَأَجِيزُوا الوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ».
ـ فإذا كان عند المسلمين قوة وجبَ عليهم إخراج الكفار وعدم تمكينهم من الإقامة في جزيرة العرب، ومن المنكر جلب العُمَّال من الكفار والخدم من الرجال والنساء إلى جزيرة العرب.
ـ وقد تكلم العلماء على حدود جزيرة العرب وصفاتها، ومن جزيرة العرب مكة والمدينة واليمن دون الشام.كما في مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام.
* سبب تسميتها بجزيرة العرب: في فتح الباري: وَسُمِّيَتْ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ لِإِحَاطَةِ الْبِحَارِ بِهَا يَعْنِي بَحْرَ الْهِنْدِ وَبَحْرَ الْقُلْزُمِ وَبَحْرَ فَارِسَ وَبَحْرَ الْحَبَشَةِ.
* سبب إضافة الجزيرة إلى العرب: قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم تحت رقم (1637): وَأُضِيفَتْ إِلَى الْعَرَبِ لِأَنَّهَا الْأَرْضُ الَّتِي كَانَتْ بِأَيْدِيهِمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَدِيَارُهمُ الَّتِي هِيَ أَوْطَانُهُمْ وَأَوْطَانُ أَسْلَافِهِمْ. اهـ.
* من ميز جزيرة العرب يأسُ الشيطان من الشرك فيها لما وجد انتشار الإسلام والتوحيد أخرج مسلم في صحيحه (2812) عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ».
* غزوة بني النضير: خرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بنفسه الكريمة إلى بني النضير ليستعين بهم في دفع دية ذَينِك الرجلين اللذّيْنِ قتلهما عمرو بن أمية ، فقالوا: نعم نعينك ثم همُّوا أن يُلقوا صخرة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وانتُدب لذلك عمرو بن جحاش، وجاء الوحي إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فانصرف إلى المدينة. ثم بعد ذلك ندب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لقتال بني النضير لأنهم نقضوا العهد. واستعمل على المدينة ابنَ أم مكتوم.
وكانت غزوة بني النضير في ربيع الأول في السنة الرابعة، وحاصرهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حصونهم ستَ ليال وقطع نخلهم إذلالًا لهم ومهانة. وقذف الله في قلوبهم الرعب،حتى بلغ منهم كلَّ مبلغ . ثم تمَّ إجلاؤهم وأن لهم ما حملت إبلهم من الأمتعة فجعلوا يخربون بيوتهم بأيديهم ليأخذوا الأشياء المستحسَنة من الأبواب والخشب وغيرها ولم يُسلم من بني النضير أحد إلا رجلان، وهما أبو سعد بن وهب، ويامين بن عمير بن كعب.
* أرسل عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه من يبلغ بني النضير بخُفية، وقالوا لبني النضير: إذا قاتلكم فنحن ننصركم، وهذا وعد منافقين لما قاتلهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خذلوهم وكانوا منتظرين لنصرهم وهم في حصونهم.
* قسم رسول الله الأموال بين المهاجرين الأولين خاصة، إلا أنه أعطى أبا دجانة وسهل بن حنيف الأنصارِيَّين لفقرِهما، وكانت أموال بني النضير فيئًا. والفيء: ما أخذ من أموال الكفار بغير قتال.
* وفي هذه الغزوةِ أنزل اللهُ سبحانه سورة الحشر بتمامها في شأن بني النضير، وقد كان عبدُ الله بن عباس رضي الله عنهما يسميها سورةَ بني النضيركما في البخاري ،وكم فيها من العبر وبيان إذلال أهل الكفروإهانتهم وسوء عاقبتهم .ولهذا ربنا يقول في شأنهم {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}.
* تحريم الخمر: وقال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (14/ 117): فَإِنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ سَنَةَ ثَلَاثٍ بَعْدَ أُحُدٍ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ. اهـ. وقال ابن حزم حرمت في غزوة بني النضير، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ولم أره لغير.
واللهُ أعلم .
vBulletin® v3.8.10 Release Candidate 2, Copyright ©2000-2025, TranZ by Almuhajir