** أبو أسيد **
2015-12-16, 20:13
قال ابن القيم –رحمه الله- في كتابه الماتع النافع "طريق الهجرتين وباب السعادتين"(449-456) وهو يصف حال السابقين المقربين الذين نسأل الله أن يبلغنا منازلهم:
«وجملة أمرهم أنهم قوم قد امتلأت قلوبهم من معرفة الله، وعمرت بمحبته، وخشيته، وإجلاله، ومراقبته،
فسرت المحبة في أجزائهم، فلم يبق فيها عرق، ولا مفصل إلا وقد دخله الحب، قد أنساهم حبه ذكر غيره،
وأوحشهم أنسهم به ممن سواه، قد فنوا بحبه عن حب من سواه، وبذكره عن ذكر من سواه، وبخوفه، ورجائه،
والرغبة إليه، والرهبة منه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والسكون إليه، والتذلل والانكسار بين يديه، عن تعلق
ذلك منهم بغيره.
فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إلهه ومولاه، واجتمع همه عليه، متذكرا صفاته العلى
وأسماءه الحسنى، مشاهدا له في أسمائه وصفاته، قد تجلت على قلبه أنوارها، فانصبغ قلبه بمعرفته ومبته،
فبات جسمه في فراشه يتجافى عن مضجعه، وقلبه قد أوى إلى مولاه وحبيبه، فآواه إليه، وأسجده بين يديه،
خاضعا، خاشعا، ذليلا، منكسرا من كل جهة من جهاته، فيا لها من سجدة ما أشرفها، لا يرفع رأسه منها إلى
يوم اللقاء.
وقيل لبعض العارفين: أيسجد القلب بين يدي ربه؟ فقال: «إي والله، سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم
القيامة».
فشتان بين قلب يبيت عند ربه، قد قطع في سفره إليه بيداء الأكوان، وخرق حجب الطبيعة، ولم يقف عند
رسم، ولا سكن إلى علم، حتى دخل على ربه في داره، فشاهد عز سلطانه، وعظمة جلاله، وعلو شأنه،
وبهاء كماله، وهو مستو على عرشه يدبر أمر عباده، وتصعد إليه شؤون العبادـ، وتعرض عليه حوائجهم
وأعمالهم، فيأمر فيها بما يشاء، فينزل الأمر من عنده نافذا كما أمر. فيشاهد الملِك الحق قيوما بنفسه،
مقيما لكل ما سواه، غنيا عن كل من سواه، وكل من سواه فقير إليه. ﴿يَسْأَلُهُ مَنِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرِضِ كُلَّ
يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويفك عانيا، وينصر ضعيفا، ويجبر كسيرا، ويغني فقيرا، ويميت
ويحيي، ويسعد ويشقي، ويضل ويهدي، وينعم على قوم، ويسلب نعمته على آخرين، ويعز أقواما ويذل آخرين،
ويرفع أقواما ويضع آخرين.
ويشهده كما أخبر عنه أعلم الخلق به وأصدقهم في خبره، حيث يقول في الحديث الصحيح: «يمين الله
ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق الخلق فإنه لم يغض ما في يمينه، وبيده
الأخرى الميزان يخفض ويرفع». فيشاهده كذلك يقسم الأرزاق، ويجزل العطايا، ويمن بفضله على من يشاء
من عباده بيمينه. وباليد الأخرى الميزان يخفض به من يشاء، ويرفع به من يشاء، عدلا منه وحكمة، لا إله إلا
هو العزيز الحكيم.
فيشهده وحده القيوم بأمر السماوات والأرض ومن فيهن، ليس له بواب فيستأذن، ولا حاجب فيدخل عليه
به، ولا وزير فيؤتى، ولا ظهير فيستعان به، ولا ولي من دونه فيتشفع به إليه، ولا نائب عنه فيعرفه حوائج
عباده، ولا معين له فيعاونه على قضائها، بل وقد أحاط سبحانه بها علما، ووسعها قدرة ورحمة، فلا تزيده
كثرة الحاجات إلا جودا وكرما، فلا يشغله منها شأن عن شأن، ولا تغلطه كثرة المسائل، ولا يتبرم بإلحاح
الملحين.
لو اجتمع أول خلقه وآخرهم، وإنسهم وجنهم، وقاموا في صعيد واحد ثم سألوه، فأعكى كلا منهم مسألته،
ما نقص ذلك مما عنده ذرة واحدة إلا كما ينقص المخيط البحر إذا غمس فيه، ولو أن أولهم وآخرهم،
وإنسهم وجنهم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئا، ولو أن أولهم وآخرهم،
وإنسهم وجنهم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منهم ما نقص ذلك من ملكه شيئا، ذلك بأنه الغني الجواد
الماجد، فعطاؤه كلام، وعذابه كلام، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.
ويشهده كما أخبر عنه أيضا الصادق المصدوق حيث يقول: «إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض
القسط، ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت
سبحات وجهه ما أدركه بصره من قلبه».
وبالجملة فيشهده في كلامه، فقد تجلى سبحانه وتعالى لعباده في كلامه، وتراءى لهم فيه، وتعرف إليهم فيه،
فبعدا وتبا للجاحدين والظالمين ﴿أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
فإذا صارت صفات ربه وأسماؤه مشهدا لقلبه وأنسته ذكر غيره، وشغلته عن حب سواه، وجذبت دواعي قلبه
إلى حبه تعالى بكل جزء من أجزاء قلبه وروحه وجسمه، فحينئذ يكون الرب تعالى سمعه الذي يسمع به،
وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبه يسمع، وبه يبصر، وبه يبطش، وبه
يمشي، كما أخبر عن نفسه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن غلظ حجابة، وكثف طبعه، وصلب عوده، فهو عن فهم هذا بمعزل، بل لعله أن يفهم منه ما لا يليق به
تعالى من حلول أو اتحاد، أو يفهم منه غير المراد، فيحرف معناه ولفظه ﴿ومن لم يجعل الله له نورا فما له من
نور﴾ وقد ذكرت معنى الحديث، والرد على من حرفه، وغلط فيه في كتاب "التحفة المكية".
وبالجملة فيبقى قلب العبد الذي هذا شأنه عرشا للمثل الأعلى، أي عرشا لمعرفة محبوبه ومحبته وعظمته
وجلاله وكبريائه، وناهيك بقلب هذا شأنه!فيا له من قلب، من ربه ما أدناه، ومن قربه ما أحظاه! فهو ينزه قلبه
أن يساكن سواه، أو يطمئن بغيره، فهؤلاء قلوبهم قد قطعت الأكوان، وسجدت تحت العرش، وأبدانهم في
فرشهم...فإذا استيقظ هذا القلب من منامه صعد إلى الله بهمه وحبه وأشواقه مشتاقا إليه، طالبا له، محبا له،
عاكفا عليه، فحاله كحال المحب الذي غاب عن محبوبه الذي لا غنى له عنه، ولا بد له منه، وضرورته إليه
أعظم من ضرورته إلى التنفس والطعام والشراب، فإذا نام غاب عنه، فإذا استيقظ عاد إلى الحنين إليه، وإلى
الشوق الشديد، والحب المقلق، فحبيبه آخر خطراته عند منامه، وأولها عند استيقاظه، كما قال بعض
المحبين لمحبوبته:
آخر شيء أنت في كل هجعة//وأول شيء أنت عند هبوبي
فقد أفصح هذا المحب عن حقيقة المحبة وشروطها، فإذا كان هذا في محبة مخلوق، فما الظن بمحبة
المحبوب الأعلى؟ فأف لقلب لا يصلح لهذا ولا يصدق به، لقد صرف عنه خير الدنيا والآخرة».اهـ.
«وجملة أمرهم أنهم قوم قد امتلأت قلوبهم من معرفة الله، وعمرت بمحبته، وخشيته، وإجلاله، ومراقبته،
فسرت المحبة في أجزائهم، فلم يبق فيها عرق، ولا مفصل إلا وقد دخله الحب، قد أنساهم حبه ذكر غيره،
وأوحشهم أنسهم به ممن سواه، قد فنوا بحبه عن حب من سواه، وبذكره عن ذكر من سواه، وبخوفه، ورجائه،
والرغبة إليه، والرهبة منه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والسكون إليه، والتذلل والانكسار بين يديه، عن تعلق
ذلك منهم بغيره.
فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إلهه ومولاه، واجتمع همه عليه، متذكرا صفاته العلى
وأسماءه الحسنى، مشاهدا له في أسمائه وصفاته، قد تجلت على قلبه أنوارها، فانصبغ قلبه بمعرفته ومبته،
فبات جسمه في فراشه يتجافى عن مضجعه، وقلبه قد أوى إلى مولاه وحبيبه، فآواه إليه، وأسجده بين يديه،
خاضعا، خاشعا، ذليلا، منكسرا من كل جهة من جهاته، فيا لها من سجدة ما أشرفها، لا يرفع رأسه منها إلى
يوم اللقاء.
وقيل لبعض العارفين: أيسجد القلب بين يدي ربه؟ فقال: «إي والله، سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم
القيامة».
فشتان بين قلب يبيت عند ربه، قد قطع في سفره إليه بيداء الأكوان، وخرق حجب الطبيعة، ولم يقف عند
رسم، ولا سكن إلى علم، حتى دخل على ربه في داره، فشاهد عز سلطانه، وعظمة جلاله، وعلو شأنه،
وبهاء كماله، وهو مستو على عرشه يدبر أمر عباده، وتصعد إليه شؤون العبادـ، وتعرض عليه حوائجهم
وأعمالهم، فيأمر فيها بما يشاء، فينزل الأمر من عنده نافذا كما أمر. فيشاهد الملِك الحق قيوما بنفسه،
مقيما لكل ما سواه، غنيا عن كل من سواه، وكل من سواه فقير إليه. ﴿يَسْأَلُهُ مَنِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرِضِ كُلَّ
يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويفك عانيا، وينصر ضعيفا، ويجبر كسيرا، ويغني فقيرا، ويميت
ويحيي، ويسعد ويشقي، ويضل ويهدي، وينعم على قوم، ويسلب نعمته على آخرين، ويعز أقواما ويذل آخرين،
ويرفع أقواما ويضع آخرين.
ويشهده كما أخبر عنه أعلم الخلق به وأصدقهم في خبره، حيث يقول في الحديث الصحيح: «يمين الله
ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق الخلق فإنه لم يغض ما في يمينه، وبيده
الأخرى الميزان يخفض ويرفع». فيشاهده كذلك يقسم الأرزاق، ويجزل العطايا، ويمن بفضله على من يشاء
من عباده بيمينه. وباليد الأخرى الميزان يخفض به من يشاء، ويرفع به من يشاء، عدلا منه وحكمة، لا إله إلا
هو العزيز الحكيم.
فيشهده وحده القيوم بأمر السماوات والأرض ومن فيهن، ليس له بواب فيستأذن، ولا حاجب فيدخل عليه
به، ولا وزير فيؤتى، ولا ظهير فيستعان به، ولا ولي من دونه فيتشفع به إليه، ولا نائب عنه فيعرفه حوائج
عباده، ولا معين له فيعاونه على قضائها، بل وقد أحاط سبحانه بها علما، ووسعها قدرة ورحمة، فلا تزيده
كثرة الحاجات إلا جودا وكرما، فلا يشغله منها شأن عن شأن، ولا تغلطه كثرة المسائل، ولا يتبرم بإلحاح
الملحين.
لو اجتمع أول خلقه وآخرهم، وإنسهم وجنهم، وقاموا في صعيد واحد ثم سألوه، فأعكى كلا منهم مسألته،
ما نقص ذلك مما عنده ذرة واحدة إلا كما ينقص المخيط البحر إذا غمس فيه، ولو أن أولهم وآخرهم،
وإنسهم وجنهم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئا، ولو أن أولهم وآخرهم،
وإنسهم وجنهم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منهم ما نقص ذلك من ملكه شيئا، ذلك بأنه الغني الجواد
الماجد، فعطاؤه كلام، وعذابه كلام، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.
ويشهده كما أخبر عنه أيضا الصادق المصدوق حيث يقول: «إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض
القسط، ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت
سبحات وجهه ما أدركه بصره من قلبه».
وبالجملة فيشهده في كلامه، فقد تجلى سبحانه وتعالى لعباده في كلامه، وتراءى لهم فيه، وتعرف إليهم فيه،
فبعدا وتبا للجاحدين والظالمين ﴿أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
فإذا صارت صفات ربه وأسماؤه مشهدا لقلبه وأنسته ذكر غيره، وشغلته عن حب سواه، وجذبت دواعي قلبه
إلى حبه تعالى بكل جزء من أجزاء قلبه وروحه وجسمه، فحينئذ يكون الرب تعالى سمعه الذي يسمع به،
وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبه يسمع، وبه يبصر، وبه يبطش، وبه
يمشي، كما أخبر عن نفسه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن غلظ حجابة، وكثف طبعه، وصلب عوده، فهو عن فهم هذا بمعزل، بل لعله أن يفهم منه ما لا يليق به
تعالى من حلول أو اتحاد، أو يفهم منه غير المراد، فيحرف معناه ولفظه ﴿ومن لم يجعل الله له نورا فما له من
نور﴾ وقد ذكرت معنى الحديث، والرد على من حرفه، وغلط فيه في كتاب "التحفة المكية".
وبالجملة فيبقى قلب العبد الذي هذا شأنه عرشا للمثل الأعلى، أي عرشا لمعرفة محبوبه ومحبته وعظمته
وجلاله وكبريائه، وناهيك بقلب هذا شأنه!فيا له من قلب، من ربه ما أدناه، ومن قربه ما أحظاه! فهو ينزه قلبه
أن يساكن سواه، أو يطمئن بغيره، فهؤلاء قلوبهم قد قطعت الأكوان، وسجدت تحت العرش، وأبدانهم في
فرشهم...فإذا استيقظ هذا القلب من منامه صعد إلى الله بهمه وحبه وأشواقه مشتاقا إليه، طالبا له، محبا له،
عاكفا عليه، فحاله كحال المحب الذي غاب عن محبوبه الذي لا غنى له عنه، ولا بد له منه، وضرورته إليه
أعظم من ضرورته إلى التنفس والطعام والشراب، فإذا نام غاب عنه، فإذا استيقظ عاد إلى الحنين إليه، وإلى
الشوق الشديد، والحب المقلق، فحبيبه آخر خطراته عند منامه، وأولها عند استيقاظه، كما قال بعض
المحبين لمحبوبته:
آخر شيء أنت في كل هجعة//وأول شيء أنت عند هبوبي
فقد أفصح هذا المحب عن حقيقة المحبة وشروطها، فإذا كان هذا في محبة مخلوق، فما الظن بمحبة
المحبوب الأعلى؟ فأف لقلب لا يصلح لهذا ولا يصدق به، لقد صرف عنه خير الدنيا والآخرة».اهـ.