تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الإنتظار الممل


زيتوني محرز
2009-09-23, 21:38
الانتظــــــــار المُمّـــــلُ

الصـورة الأولى :
الآلام تغرز أسنانها المنشارية في الأجساد التي اكتظ بها المستوصف ، أنين المرضى يختلط بحكـايات العجائز اللامتناهية في القدم ، تسمرت الأعين مبحلقة في الباب الخارجي ، خطوات الطبيب و الممرضين يعرفونها كما يعرفون أبناءهم ، دقات الساعة تشير إلى العاشرة ، تمر الثواني و الدقائق و لا جديد ، الوقت يمر بسرعة ينهب الأعمار نهبا ..
عواصف الألم تقتلع الأضلع ، تمزق الأحشاء ، تتلوى الأجساد من شدة الألم ، الأنفاس تعتصر عصرا ، ينقطع أمل البعض في قدوم الطبيب فيعودون إلى منازلهم بخفي حنين صاح أحد المرضى متهكما :- اصبر كصبر أيوب - ، حكايات العجائز لم يعد لها دورا يذكر .
ارتفع الأنين ، تعالت اللعنات ، تذكر البعض أيام الثورة عندما كانت تصلهم الإسعافات وهم في المغارات و الكهوف أو في مواجهة العدو ، تأسفوا على الأيام زمان .
خطوات آدمية تعلن قدوم الممرضة ، نظرت في الحشد مليّا ، تبادرت إلى أنفها رائحة البثور ، أحست بالقرف ، التقت الأعين على محياها ، النظرات ترجوها أن تنظر إلى أجسادهم ، إلى جراحهم الغائرة . إلى الألم الذي يكبل سماء حياتهم ، تأملت الوجوه وجها وجها ، لا داعي للإحراج فلتتركهم ساعة أخرى في انتظار الطبيب ، دفعت الباب بعقبيها و دلفت في الداخل ، ارتمت على كرسي و استسلمت لشريط ذكريات صباها ....


الصــورة الثـانية:
تراصت الأجساد ، تدافعت، التقت الشحنات السالبة بالموجبة ، تزاوجت ، وقفت الحافلة أخيرا تنفث عنها غبار الطريق ، أخذت نفسا كبيرا استعادت به حيوية الشباب و نشاطه ، تدافعت الأجساد تريد الصعود ، نزل السائق تبعه المحصل :- مازال الوقت – توالت اللعنات من كل جانب ، - أيّها الوقت عزيز أنت علينا و لكنك تضيع هكذا هباء منثورا - ، عاد الحشد إلى وضع الراحة ، رمى غضبه في نفخات هوائية عميقة ، تمر الثواني ثم الدقائق و الحافلة جاثمة تنتظر السائق – العريس - ، سيارات الأجرة تظهر فجأة للعيان ، يصيح سائقوها : - هيا ،، هيا.. توصلوا في دقيقة ...- تتحرك الأجساد مرغمة ، الوقت يمر و لابد من الركوب و لو في سيارة أجرة ، تتحسس الأيادي القطع النقدية المستقرة في الجيوب فلا تظفر إلا بثمن ركوب الحافلة ، يعود الجمع إلى المربض البشري ، يزداد تعداد أفراده لحظة تلو أخرى ،،
يأتي – العريس – أخيرا، يتبعه المحصل ، تهتز الحافلة – العروس – لمقدم زوجها ، تعاتبه على تأخره يعلن لها فرط ندمه يعدها بعدم تكرار ذلك ، الأجساد تتلاحم ، رائحة العرق تغزو الأنوف ، تمتد الأيادي في كل اتجاه ، لا فرق بين شيخ و امرأة و شاب ، أعلنها القابض مرة صريحة مدوية :- اللي عنده الصحة يفوت - ، أحست العروس بالمخاض ، وكزها السائق وكزة دفعتها للأمام ، بكت على الرحمة التي ذهبت مع الثورة عندما كان المجاهد يحافظ على بندقيته ليورثها لأبنائه و أحفاده و لم يفكر مرة واحدة في رميها ،، أخرجت لسانها لاهثة من شدة ألم المخاض ،لا أحد يرحمها ، لماذا لا يراعوا حالتها و قد كانت منذ أسبوعين في مصلحة التصليح ، يزداد الضجيج ، تتحرك الأجساد جماعات ، حلقات الشباب تحيط بالفتيات ، تغزو أجسامهن تفتق الحجب و تصل إلى مكامن أنوثتهن ، الكل ذئاب مفترسة تنتظر لقمة سائغة ، تقف – العروس- رامية ثقلها أرضا و يتم إجهاضها باسم الرحمة و المسؤولية .


الصــورة الثـالثــة :
دفع الباب الخارجي بقوة ، ريح بارد دلف إلى أضلعه ، جمع السترة إلى صدره ، عدل رباط العنق ، أخرج سيجارة ، أشعلها ، أخذ نفسا كبيرا ، نفث الدخان من أعماقه تكاثفت ذرات الدخان ، اجتمعت ثم تفرقت على شكل خيوط شفافة ،، / لابد أن أقضي مهمتي هذا اليوم - /، اندفع بحماس إلى باب داخلي كتب على واجهته : - مكتب المدير- ، أوقفه الحاجب ، طلب بطاقة التعريف ، أدخل يده في جيوب السترة ، بحث جيدا :- لا بد أن تكون هنا – نظر إليه الحاجب في خيلاء وزهو ، - لا يمكن أن أنساها و قد طردت البارحة بسببها - ، استعد الحاجب ليقول كلمته العادية :- ممنوع الدخول دون بطاقة التعريف – فاجأه بالبطاقة التي وجدها أخيرا مندسة مع زمرة أوراق أخرى ، أنزل الحاجب عينيه إلى الأرض في انكسار ، لم يبق أمامه إلاّ أن يدخل على حضرة المدير ليعلن قدوم صـاحبنا .
دلف الحاجب إلى الداخل ، نظر من عقب الباب ، المدير يتربع على عرشه في زهو و خيلاء ، الجرائد مكدسة أمامه ، فنجان القهوة يخرج الدخان من فوهته بقوة ، رفع عينيه إلى الجدار ، لوحات عديدة تزينّه :
- المسؤولية أمانة - ، - الوظيفة تكليف و ليست تشريف - ، يكلمه الحاجب في حياء ظاهر، رفع المدير نظره عن الجريدة بغضب ، صاح مزمجرا :
- دائما ، واحد جاء ، واحد جاء ، روح أنت و هذا الواحد إلى جهنم ......
خرج الحاجب منكسا رأسه ، نظر في عيني صاحبنا ، أحس بقوته تعود تدريجيا ، عليه أن يفرض نفسه الآن أمام هذا – المسكين - ، صاح هو الآخر بصوت جهوري :
"المدير مشغول ،،عنده اجتماع"..نظر صاحبنا إلى يديه و هي تهتز من فرط الانفعال ،
ابتسم رغما عنه ، ترك المؤسسة مسرعا لئلا يفلت منه زمام نفسه فيرتكب جريمة يعاقب عليها بتهمة تحديه قوانين المؤسسة ، البطاقة مازالت في يده ، رسم العرق على غلافها أخاديد متعرجة ، فتحها ، تأمل صورته عندما كان يافعا ، تمنى لو كان شابا ليثبت لهؤلاء و أمثالهم أن المسؤولية أمانة فعلا .