أبو عاصم مصطفى السُّلمي
2015-11-01, 17:37
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل الكلام دليلا على المعاني ، و شرّف لغة العرب بحسن المباني ،
فأنزل أعظم كتبه بلسان عربي مبين ، و أرسل أفضل رسله من العرب الأميين .
أغنى لغة و أثراها ، ذات مخيضٍ و زبد ، و غيرُها حمّالة الحطب في جيدها حبل من مسد .
اللّغة العربية
لها سحرٌ كسحر الكهان ، و نور كنور الكوكب ذي اللّمعان .
لكنها كقاضٍ مرتشٍ ، و سكران مُنتشٍ .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من البيان لسحرا "
و إن من اكتسب البلاغة و البيان ، كان كفارس الميدان ، يضرب بالصّارم و السّنان ،تهاب لقاءه الشّجعان ، و تفرّ من صولاته الأقران .
إن كان في صف الحقّ فنعم المُضارب ، و إن كان في صف الباطل فبئس المُجانب .
قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان حين كان يهجو قريشا: (( اهج قريشاً فإنه أشد عليهم من رشق النبل ))
فهذا حين يكون صاحب البلاغة و البيان نصيرا للحق .
و حين يكون ظهيرا للباطل فلا حول و لا قوة إلا بالله .
قال صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أخوف ما أخاف على أمتي كلّ منافق عليم اللسان))
و إن من سحر البيان و صف الشيء الواحد بالحسن تارة و بالقبيح تارة ، و لا يكون في الحالتين إلا حقا .
كقول الشاعر :
ففي زخرف القول تزيين لبــــــــــــــاطله .............. و الحق قد يعتريه سوء تعـــــــــــــــبير
تقول هذا مجاج النحل تمــــــــــــــــــدحه .............. و إن تشأ قلـــــــــــــــــــت ذا قيء الزنابير
فمدحا و ذما وما جاوزت و صفهما ........... سحر البيان يُري الظلماء كالنور
و قيل أن ملكا رأى رؤيا فأفزعته ، فعبّرها معبّر فقال له : يموت أهلك و جميع أولادك و تبقى بعدهم ، فقتله .
و عبرها له آخر فقال له : إنك أطول أهلك عمرا ، فأحسن إليه .
فالتعبير واحد لكن حسن البيان و منتهى الأدب غيّر الصورة .
و من لطيف ما يروى أنه :
وفد عامر بن مالك ملاعب الأسنة وكان يكنى: أبا البراء، في رهط من بني جعفر، ومعه لبيد بن ربيعة، ومالك بن جعفر وعامر بن مالك عم لبيد على النعمان، فوجودا عنده الربيع بن زياد العبسي وأمّه فاطمة بنت الخرشب، وكان الربيع نديماً للنعمان مع رجل من تجار الشام يقال له: زرجون بن توفيل، وكان حريفاً للنعمان يبايعه، وكان أديباً حسن الحديث والندام، فاستخفّه النعمان، وكان إذا أراد أن يخلو على شرابه بعث إليه وإلى النطاسي: متطبّب كان له، وإلى الربيع بن زياد فخلا بهم، فلما قدم الجعفريون كانوا يحضرون النعمان لحاجتهم فإذا خرجوا من عنده خلا به الربيع فطعن فيهم وذكر معايبهم، وكانت بنو جعفر له أعداءً، فلم يزل بالنعمان حتى صدّه عنهم، فدخلوا عليه يوماً فرأوا منه جفاءً وقد كان يكرمهم ويقربّهم، فخرجوا غضاباً ولبيد متخلّف في رحالهم يحفظ متاعهم ويغدو بإبلهم كل صباح يرعاها.
فأتاهم ذات ليلة وهم يتذاكرون أمر الربيع، فسألهم عنه، فكتموه، فقال: والله لا حفظت لكم متاعاً، ولا سرّحت لكم بعيراً أو تخبروني فيم أنتم؟
وكانت أم لبيد يتيمة في حجر الربيع، فقالوا: خالك قد غلبنا على الملك وصدّ عنا وجهه.
فقال لبيد: هل تقدرون على أن تجمعوا بيني وبينه فأزجره عنكم بقول محضّ لا يلتفت إليه النعمان أبداً؟ فقالوا: وهل عندك شيء؟ قال: نعم. قالوا: فإنا نبلوك.
قال: وما ذاك؟ قالوا: تشتم هذه البقلة ؟ لبقلة قدامهم دقيقة القضبان قليلة الورق لاصقة فروعها بالأرض، تدعى التربة - فقال: هذه التربة التي لا تذكى ناراً، ولا تؤهل داراً، ولا تسر جاراً، عودها ضئيل، وفرعها كليل، وخيرها قليل، بلدها شاسع، ونبتها خاشع، وآكلها جائع، والمقيم عليها ضائع، أقصر البقول فرعاً، وأخبثها مرعى، وأشدها قلعاً، فتعساً لها وجدعاً، ألقوا بي أخا بني عبس، أرجعه عنكم بتعس ونكس، وأتركه من أمره في لبس.
قالوا: نصبح ونرى فيك رأينا.
فقال عامر: انظرو إلى غلامكم هذه –يريد لبيداً- فإن رأيتموه نائماً فليس أمره شيء، إنما هو يتكلم بما جاء على لسانه، وإن رأيتموه ساهراً، فهو صاحبه.
فرمقوه فوجدوه وقد ركب رحلاً، وهو يكرم وسطه حتى أصبح، فقالوا: أنت والله صاحبه.
فعمدوا إليه فحلقوا رأسه وتركوا ذؤابته، وألبسوه حلّة ثم إذا معهم وأدخلوه على النعمان، فوجوده يتغذّى ومعه الربيع بن زياد، وهما يأكلان لا ثالث لهما والدار والمجالس مملوءة من الوفود، فلما فرغ من الغداء أذِن للجعفريين فدخلوا عليه، وقد كان أمرهم تقارب، فذكروا الذي قدموا له من حاجتهم، فاعترض الربيع بن زياد في كلامهم، فقال لبيد في ذلك:
أكلّ يوم هامتي مقزّعه..............................يا ربّ هيجا هي خير مِنْ دعه
نحن بني أم البنين الأربعه.............................سيوف حَزّ وجفان مترعه
نحن خيار عامر بن صعصعه...........الضاربون الهام تحت الخيضعه
والمطعمون الجفنة المدعدعه.................مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه
إن استه من برص ملمعّه.................................وإنه يدخل فيه إصبعه
يدخلها حتى يواري أشجعه...............................كأنه يطلب شيئاً ضيّعه
فرفع النعمان يده من الطعام، وقال: خَبَّثت والله عليّ طعامي يا غلام، وما رأيت كاليوم.
فأقبل الربيع على النعمان، فقال: كذب والله ابن الفاعلة، ولقد فعلت بأمّه كذا وكذا.
فقال له لبيد: مثلك فعل ذلك بربيبة أهله والقريبة من أهله، وإن أمي من نساء لم يكنّ فواعل ما ذكرت.
وقضى النعمان حوائج الجعفريين، ومضى من وقته وصرفهم، ومضى الربيع بن زياد إلى منزله من وقته، فبعث إليه النعمان بضعف ما كان يحبوه، وأمره بالانصراف إلى أهله فكتب إليه الربيع: إني قد عرفت أنه قد وقع في صدرك ما قال لبيد، وإني لست بارحاً حتى تبعث إلىّ من يجرّدني فيعلم من حَضَرك من الناس أنني لست كما قال لبيد. فأرسل إليه: إنك لست صانعاً بانتفائك مما قال لبيد شيئاً ولا قادراً على ردّ ما زلّت به الألسن، فالحق بأهلك ..
فمن حباه الله بهذه النعمة الجليلة و المنحة الجزيلة . فليكن ركنا من أركان الحق . و لا يكن مِعول هدم يشتغل في جسد هذه الأمّة .
فالله الله في الكلمة فإنها سهم مُصوّب ، و القوس بيدك فاختر من تُصيب .
فإما رمية في سبيل الرحمن و إما رمية في سبيل الشيطان .
و إن الحفظة منها لبمكان ، و الله المستعان
بقلم : المهاجر إلى الله
السُّلمي
الحمد لله الذي جعل الكلام دليلا على المعاني ، و شرّف لغة العرب بحسن المباني ،
فأنزل أعظم كتبه بلسان عربي مبين ، و أرسل أفضل رسله من العرب الأميين .
أغنى لغة و أثراها ، ذات مخيضٍ و زبد ، و غيرُها حمّالة الحطب في جيدها حبل من مسد .
اللّغة العربية
لها سحرٌ كسحر الكهان ، و نور كنور الكوكب ذي اللّمعان .
لكنها كقاضٍ مرتشٍ ، و سكران مُنتشٍ .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من البيان لسحرا "
و إن من اكتسب البلاغة و البيان ، كان كفارس الميدان ، يضرب بالصّارم و السّنان ،تهاب لقاءه الشّجعان ، و تفرّ من صولاته الأقران .
إن كان في صف الحقّ فنعم المُضارب ، و إن كان في صف الباطل فبئس المُجانب .
قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان حين كان يهجو قريشا: (( اهج قريشاً فإنه أشد عليهم من رشق النبل ))
فهذا حين يكون صاحب البلاغة و البيان نصيرا للحق .
و حين يكون ظهيرا للباطل فلا حول و لا قوة إلا بالله .
قال صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أخوف ما أخاف على أمتي كلّ منافق عليم اللسان))
و إن من سحر البيان و صف الشيء الواحد بالحسن تارة و بالقبيح تارة ، و لا يكون في الحالتين إلا حقا .
كقول الشاعر :
ففي زخرف القول تزيين لبــــــــــــــاطله .............. و الحق قد يعتريه سوء تعـــــــــــــــبير
تقول هذا مجاج النحل تمــــــــــــــــــدحه .............. و إن تشأ قلـــــــــــــــــــت ذا قيء الزنابير
فمدحا و ذما وما جاوزت و صفهما ........... سحر البيان يُري الظلماء كالنور
و قيل أن ملكا رأى رؤيا فأفزعته ، فعبّرها معبّر فقال له : يموت أهلك و جميع أولادك و تبقى بعدهم ، فقتله .
و عبرها له آخر فقال له : إنك أطول أهلك عمرا ، فأحسن إليه .
فالتعبير واحد لكن حسن البيان و منتهى الأدب غيّر الصورة .
و من لطيف ما يروى أنه :
وفد عامر بن مالك ملاعب الأسنة وكان يكنى: أبا البراء، في رهط من بني جعفر، ومعه لبيد بن ربيعة، ومالك بن جعفر وعامر بن مالك عم لبيد على النعمان، فوجودا عنده الربيع بن زياد العبسي وأمّه فاطمة بنت الخرشب، وكان الربيع نديماً للنعمان مع رجل من تجار الشام يقال له: زرجون بن توفيل، وكان حريفاً للنعمان يبايعه، وكان أديباً حسن الحديث والندام، فاستخفّه النعمان، وكان إذا أراد أن يخلو على شرابه بعث إليه وإلى النطاسي: متطبّب كان له، وإلى الربيع بن زياد فخلا بهم، فلما قدم الجعفريون كانوا يحضرون النعمان لحاجتهم فإذا خرجوا من عنده خلا به الربيع فطعن فيهم وذكر معايبهم، وكانت بنو جعفر له أعداءً، فلم يزل بالنعمان حتى صدّه عنهم، فدخلوا عليه يوماً فرأوا منه جفاءً وقد كان يكرمهم ويقربّهم، فخرجوا غضاباً ولبيد متخلّف في رحالهم يحفظ متاعهم ويغدو بإبلهم كل صباح يرعاها.
فأتاهم ذات ليلة وهم يتذاكرون أمر الربيع، فسألهم عنه، فكتموه، فقال: والله لا حفظت لكم متاعاً، ولا سرّحت لكم بعيراً أو تخبروني فيم أنتم؟
وكانت أم لبيد يتيمة في حجر الربيع، فقالوا: خالك قد غلبنا على الملك وصدّ عنا وجهه.
فقال لبيد: هل تقدرون على أن تجمعوا بيني وبينه فأزجره عنكم بقول محضّ لا يلتفت إليه النعمان أبداً؟ فقالوا: وهل عندك شيء؟ قال: نعم. قالوا: فإنا نبلوك.
قال: وما ذاك؟ قالوا: تشتم هذه البقلة ؟ لبقلة قدامهم دقيقة القضبان قليلة الورق لاصقة فروعها بالأرض، تدعى التربة - فقال: هذه التربة التي لا تذكى ناراً، ولا تؤهل داراً، ولا تسر جاراً، عودها ضئيل، وفرعها كليل، وخيرها قليل، بلدها شاسع، ونبتها خاشع، وآكلها جائع، والمقيم عليها ضائع، أقصر البقول فرعاً، وأخبثها مرعى، وأشدها قلعاً، فتعساً لها وجدعاً، ألقوا بي أخا بني عبس، أرجعه عنكم بتعس ونكس، وأتركه من أمره في لبس.
قالوا: نصبح ونرى فيك رأينا.
فقال عامر: انظرو إلى غلامكم هذه –يريد لبيداً- فإن رأيتموه نائماً فليس أمره شيء، إنما هو يتكلم بما جاء على لسانه، وإن رأيتموه ساهراً، فهو صاحبه.
فرمقوه فوجدوه وقد ركب رحلاً، وهو يكرم وسطه حتى أصبح، فقالوا: أنت والله صاحبه.
فعمدوا إليه فحلقوا رأسه وتركوا ذؤابته، وألبسوه حلّة ثم إذا معهم وأدخلوه على النعمان، فوجوده يتغذّى ومعه الربيع بن زياد، وهما يأكلان لا ثالث لهما والدار والمجالس مملوءة من الوفود، فلما فرغ من الغداء أذِن للجعفريين فدخلوا عليه، وقد كان أمرهم تقارب، فذكروا الذي قدموا له من حاجتهم، فاعترض الربيع بن زياد في كلامهم، فقال لبيد في ذلك:
أكلّ يوم هامتي مقزّعه..............................يا ربّ هيجا هي خير مِنْ دعه
نحن بني أم البنين الأربعه.............................سيوف حَزّ وجفان مترعه
نحن خيار عامر بن صعصعه...........الضاربون الهام تحت الخيضعه
والمطعمون الجفنة المدعدعه.................مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه
إن استه من برص ملمعّه.................................وإنه يدخل فيه إصبعه
يدخلها حتى يواري أشجعه...............................كأنه يطلب شيئاً ضيّعه
فرفع النعمان يده من الطعام، وقال: خَبَّثت والله عليّ طعامي يا غلام، وما رأيت كاليوم.
فأقبل الربيع على النعمان، فقال: كذب والله ابن الفاعلة، ولقد فعلت بأمّه كذا وكذا.
فقال له لبيد: مثلك فعل ذلك بربيبة أهله والقريبة من أهله، وإن أمي من نساء لم يكنّ فواعل ما ذكرت.
وقضى النعمان حوائج الجعفريين، ومضى من وقته وصرفهم، ومضى الربيع بن زياد إلى منزله من وقته، فبعث إليه النعمان بضعف ما كان يحبوه، وأمره بالانصراف إلى أهله فكتب إليه الربيع: إني قد عرفت أنه قد وقع في صدرك ما قال لبيد، وإني لست بارحاً حتى تبعث إلىّ من يجرّدني فيعلم من حَضَرك من الناس أنني لست كما قال لبيد. فأرسل إليه: إنك لست صانعاً بانتفائك مما قال لبيد شيئاً ولا قادراً على ردّ ما زلّت به الألسن، فالحق بأهلك ..
فمن حباه الله بهذه النعمة الجليلة و المنحة الجزيلة . فليكن ركنا من أركان الحق . و لا يكن مِعول هدم يشتغل في جسد هذه الأمّة .
فالله الله في الكلمة فإنها سهم مُصوّب ، و القوس بيدك فاختر من تُصيب .
فإما رمية في سبيل الرحمن و إما رمية في سبيل الشيطان .
و إن الحفظة منها لبمكان ، و الله المستعان
بقلم : المهاجر إلى الله
السُّلمي