ام مصعب111
2015-08-07, 18:27
الثبات على السنَّة
لشيخنا العلاَّمة ربيع السنَّة :
أبي محمد ربيع بن هادي عمير المدخلي
- حفظه الله تعالى -
افتتح بها دورة الإمام عبد العزيز بن باز -رحمه الله- العلمية
بمسجد الملك فهد- رحمه الله - بمدينة الطائف
بتاريخ 22/06/1426 هـ
- قام بتفريغ المادة ومراجعتها على الشيخ :
أخوكم الضعيف أبو إسحاق السطائفي - ثبته الله على السنَّة -
الحمد لله رب العالمين وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، منْ يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ?، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
إنَّ الثبات على السنَّة معناه الثبات على الإسلام بكليته : أصوله وفروعه عقائده ومناهجه نثبت عليه ونتمسَّك به حتى نلقى الله تبارك وتعالى .
والآيات الحاثَّة على الإتباع والالتزام والاعتصام والاستقامة كثيرة. والأحاديث كذلك ترمي كلُّها إلى غاية واحدة وهي ثبات المسلمين على الإسلام .
وإذا قلنا الثبات على السنَّة ليس المراد فقط ما يفهمه كثير من الناس من لفظ السنَّة فإنَّ السنَّة هنا تعني العقيدة والمنهج .تعني الإسلام . تعني الثبات على الإسلام .
هذا الثبات بتوفيق من الله سبحانه وتعالى .
التوفيق بيده سبحانه وتعالى والهداية بيده والإضلال بيده سبحانه وتعالى .
( يهدي من يشاء ويضل من يشاء )
ويُثبِّت من بشاء ويُزيغ قلب من يشاء . ولهذا علَّمنا الله تبارك وتعالى أن ندعوَهُ بأن لا يُزيغ قلوبنا ( رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (آل عمران:8)
قال الصحابة –رضوان الله عليهم - : واللهِ لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلَّينا
يعني أنَّهم معترفون بأنَّ الهداية من الله تعالى منٌّ وفضلٌ منه سبحانه وتعالى ورحمة منه لمن شاء من عباده ( يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (آل عمران:74)
يمتن على من يشاء ويتفضّل على من يشاء بالهداية ويُسدِّدهم ويُوفِّقهم سبحانه وتعالى وتحفُّهم عنايته تبارك وتعالى من الزيغ والضلال والانحراف .
( ويُضِلُّ من يشاء ) : إمَّا بالضلال الكامل كالكفر والخروج من الإسلام –عياذا بالله تعالى - .
وإمَّا الضلال الجزئي : ضلال من يدخل في الإسلام فيضِلُّ في عقيدته وفي منهجه -عياذا بالله تعالى- .
فهذا الضلال حصل بمشيئة الله تعالى .والهداية التي نالها وإن كانت ضئيلة من الله سبحانه وتعالى فالأمر كلُّه له والحكم له سبحانه وتعالى ونواصي العباد بيده وقلوب الناس بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء سبحانه وتعالى .
ولهذا علَّمنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن ندعوا :( يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك )
الإنسان لا يُوكل إلى نفسه ( ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ) لو وُكِل الناس إلى أنفسهم لهلكوا في دينهم ودنياهم ,ولكنَّ الله سبحانه وتعالى هو الذي بيده كلُّ شيءٍ , والأمور كلُّها بيده ونواصي العباد بيده ,وقلوب الناس جميعا بين إصبعين من أصابعه .
تعالى وتقدَّس سبحانه وتعالى .
فإذا ثبَّت الله الإنسان على دينه الحقِّ وعلى منهج الله الحقِّ وعلى العقائد الصحيحة فهذه نعمة من الله فلا يغترَّ بنفسه ,ويتباهى ويتطاول ,وإنَّما يتواضع لله ربِّ العالمين .ويشكره على ذلك ويضرع إليه أن يحفظ له دينه ,وأن يُجنِّبه المزالق والزيغ سبحانه وتعالى . ولا يفتر ( ولا يأمن مكر الله إلاَّ القوم الخاسرون )
فنسأله في كلِّ لحظةٍ من لحظاتنا أن يُثبِّت قلوبنا .
هذا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وكان يُكثر من قوله :( يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك ) فقالت عائشة : ( فقلت يا رسول الله إنك تكثر تدعو بهذا الدعاء فقال : إنَّ قلب الآدمي بين إصبعين من أصابع الله عز وجل فإذا شاء أزاغه وإذا شاء أقامه )
والثبات مطلوبٌ من المؤمن ,ويجب أن يسأل ربَّه أن يُثبِّته في كلِّ موقف : في الجهاد ,عند الموت يدعو الله تبارك وتعالى ويضرع إليه أن يُثبِّته ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (الأنفال:45)
إذا لم يُوجد ثباتٌ ما وُجد جهادٌ ,ولا قيمة للجهاد إلاَّ بالثبات حتى ينزل النَّصر من الله سبحانه وتعالى .
فإذا ثبت المؤمنون على العقائد الصحيحة والمناهج الصحيحة وثبتوا في القتال أمام أعداء الله عزَّ وجلَّ وقاتلوا لإعلاء كلمة الله لا بُدَّ أن ينصرهم الله تبارك وتعالى بهذا الثبات على الدِّين ,وبهذا الجهاد لإعلائه ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله )
والمطلوب منه إذا كان في ساحة الجهاد أن يثبُت ,ولا يفِرُّ ؛ والفرار من الزَّحف إحدى الكبائر المُهلكة - والعياذ بالله- كما سنذكر ذلك في حديث الكبائر إذا اتَّسع له الوقت .
فنسأل الله أن يُثبِّتنا وإيَّاكم على دينه .
وكما قلنا : إنَّ الله يأمر بالاعتصام بحبله بعد هذه الآية التي تلوناها :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )
(آل عمران:102-103)
الاعتصام معناه الثبات ,أُثـبُتوا واستمسكوا ,يُساعدكم على هذا الثبات على الإسلام الذي أوصانا الله أن نحتفظ به ونُحافظ عليه إلى الممات .
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )
( اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ) (لأعراف:3)
( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ) (فصلت:30-32)
هذا ثناء من الله تبارك وتعالى على الذين استقاموا على دينه .والاستقامة هي الثبات على ما جاء به محمد صلَّى الله عليه وسلَّم ,بل على ما جاء جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من عقيدة ومنهج ,فلهم منزلة عند الله تبارك وتعالى بثباتهم على هذا الدِّين الحقِّ .
قالوا :( ربنا الله ) : آمنوا بالله سبحانه وتعالى حقَّ الإيمان بأسمائه وصفاته وربوبيته وأنَّه هو المعبود الحقُّ فلا يعبدون سواه .
- يُثبتون لله الربوبية : وأنَّه هو خالق هذا الكون ومدبَِّره ومنظِّمه وهو الخالق الراَّزق المُحيِي المميت إلى آخر صفات الربوبية .
- وأسمائه الحسنى : اللائقة بجلاله وعظمته وربوبيته سبحانه وتعالى التي وردت في القرآن وفي السنَّة ,نُؤمن بها كما جاءت ,.وهي داخلة في هذه الاستقامة .
- والإيمان بأنَّه لا إله إلا هو : لا معبود بحقٍّ إلاَّ هو سبحانه وتعالى ,فلا نعبد إلاَّ إيَّاه نُخلص له الدِّين سبحانه وتعالى ,نحبُّه غاية الحبِّ ,ونخافه ونخشاه غاية الخوف والخشية , ونرجوه ونطمع فيما عنده في الدنيا والآخرة سبحانه وتعالى ,ونصلي له ونسجد ونَحْفِد ونزكي ونصوم ونذكر ونقرأُ القرآن ... كلُّ ذلك تقرُّباً إليه سبحانه وتعالى .
وهذه كلُّها من أسباب الاستقامة . ومن دلائل الاستقامة إذا نحن حافظنا على هذه الشعائر وهذه الشرائع . وهذه من الدلائل أنَّ الله قد وفّقك -إن شاء الله- وأنَّك من المستقيمين الذين يستحقُّون من الله سبحانه وتعالى هذا الثناء ,وبستحقون من الله هذا الوعد وهذه العناية الربَّانية : ( تتنزَّل عليهم الملائكة ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا ) متى يكون هذا التنـزُّل ؟ عندما يحتضر العبد ,عندما يُوشك على مفارقة هذه الدنيا وتوديعها ,والرحلة إلى الدار الآخرة يُنزِّلُ الله الملائكة يُبشِّرونهم ويُثبِّتونهم ويُسدِّدونهم ,ويُذهبون عنهم المخاوف ( ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا ) :
- لا تخافوا من المستقبل : مما أمامكم ؛فما أمامكم إلاَّ الجنَّة ورضوان الله عزَّ وجلَّ .
- ولا تحزنوا على ما خلَّفتم من المال والولد وغير ذلك .
هذه بشائر تأتي الثابتين على دين الله الحقِّ في هذا الظرف العصيب ,فهذه مرحلة خطيرة جداً ,فبعضهم قد تسوء خاتمته –والعياذ بالله- نسأل الله أن يُثبِّتنا وإيَّاكم .
كما جاء في الحديث ( إنَّ الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة .وإنَّ الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار ) متفق عليه .
هذا الحديث الذي نخاف منه الخوف الشديد من نهاية المطاف وخاتمة الحياة .
فلا بُدَّ للعبد أن يضرع إلى الله سبحانه وتعالى دائماً أن يُثبِّته على دينه ,وأن يتوفَّانا وهو راضٍ عنَّا .
وفي الحديث الآخر : ( من أحبَّ لقاء الله أحبَّ الله لقاءَه ,ومن كَرِه لقاء الله كَرِه الله لقاءه )
حدَّث بهذا الحديث أبو هريرة وحدَّثت به عائشة -رضي الله عنهما- قالوا : ( يا رسول الله كلنا يكره الموت . فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : قال ليس ذاك ( أي ليس ذلكم ما تفهمون ) ,ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه . وإن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه ) متفق عليه .
فنسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا ممن يشتاق إلى لقائه ويُحبُّ لقاء الله تبارك وتعالى ,وأن يُكرمنا في هذه الظروف العصيبة بحسن الخاتمة ,وأن يُتحفنا بالبشائر الطيِّبة ,وهذا ثمرة للثبات على دين الله والاستقامة التي يرجع الفضل فيها إلى الله سبحانه وتعالى ,لا إلى قلبك ولا عضلاتك ولا إلى شيء من هذا .وإنَّما يرجع إلى رحمة الله وفضله ولطفه .
فنسأله أن يلطُف بنا وأن يُثبِّت قلوبنا على الحقِّ .
( وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) (فصلت:30)
الجنَّة وعدها الله الذين آمنوا واستقاموا في آيات كثيرة في السور المكية والمدنية :
قال تعالى : ( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً * وَكَأْساً دِهَاقاً * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً ) (النبأ: 31-35) .
وقال سبحانه وتعالى : ( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (آل عمران:133-134)
فالوعد بالجنَّة مذكور في كثير وكثير من السور والآيات .
الجنَّة التي كنتَ تُوعد بها في القرآن وعلى لسان محمد صلَّى الله عليه وسلَّم بسبب الثبات على الإسلام بسبب الاستقامة عليه أبشر بها .
فنسأل الله أن يُثبِّتنا وإيَّاكم على الهدى وأن يرزقنا وإيَّاكم الاستقامة .
والله سبحانه وتعالى قال :( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (هود:1121)
أمرٌ بالاستقامة .
وقال سبحانه وتعالى :( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ) (هود:113)
هذا أمرٌ من الله سبحانه وتعالى لرسوله صلَّى الله عليه وسلَّم وأتباعه المؤمنين الذين تابوا إلى الله وأنابوا إليه والتزموا صراطه المستقيم وثبتوا على دينه : أمرهم بالاستقامة عليه .والاستقامة هي الثبات كما أمركَ الله : تلتزم بالعقيدة التي أمرك الله بالتزامها ,تلتزم بالأوامر كلِّها التي أمرك الله بها وتجتنب النَّواهي التي نهاك الله عنها وحرَّمها عليك .
فالقرآن فيه جوامع : الكلمة الواحدة تحتها معانٍ ,وهذه الآية منها وتلك الآيات منها .
فهذا توجيه لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وللمؤمنين إلى يوم القيامة أن يستقيموا على دين الله الذي أمرهم به ؛فلا يحيدون عنه يمنة ولا يسرة ولا يزيغون عن هذا الأمر الشامل لكل التشريعات والعقائد والأحكام .
( ولا تطغَوْا ) : الطغيان هو مجاوزة الحدِّ .
ولا تطغَوْا : لا بغلوٍّ في الدِّين ولا في غيره ,ولا بظلمٍ ؛ففيه محاربة كلِّ صنوف الطغيان من الظلم والتَّعدِّي .
والتَّعدِّي لحدود الله من أفضع أنواع الظلم ,فشرائع الله محدَّدة والعقائد محدَّدة والأوامر محدَّدة مضبوطة ,وكلُّ شيءٍ مضبوطٌ ,ويأتي أحدهم يزيد من عنده ؟!! فهذا طغيان .
لا تزد إلاَّ في حدود ما شرع الله لك من النوافل .
وحتى النوافل نفسها لا تزيد فيها : الصلاة خمس لا تزيد سادسة .
الظهر أربعاً لا تزد خامسة لا تزد سادسة ولا تزد سجدة ولا أي شيء .
لا تزد في العبادات فقد حدَّدها الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم .
كان صلَّى الله عليه وسلَّم يقوم وينام ,ويصوم ويُفطر ,فلمَّا اشتدَّت رغبة بعض الصحابة -رضي الله عنهم- في الزيادة في العبادة سألوا أزواج النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن عمله فقالوا إنَّه يقوم وينام ويصوم ويفطر ويتزوج النساء , فقال أحدهم :(أما أنا فأقوم ولا أنام وقال الثاني وأنا أصوم ولا أفطر وقال الآخر وأنا لا أتزوج النساء) فأغضب ذلك النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فقال :( ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس منِّي ) متفق عليه .
فالذي يقوم الليل ويصوم النهار يضيع حقوقا كثيرة ثمَّ في النهار يفشل ويستحسر ويضعف وقد ينتكس نتيجة لغلوِّه ,الصحابة الذين كانت لديهم هذه الرغبة تراجعوا .
ما أسرعهم للاستجابة !
ولكن كثيرا من الناس إذا وقع في خطأ ,وقع في غلو ,وقع في شيء فلا يرجع -عياذا بالله- وهذا بلاء مهلك نسأل الله العافية .
( ولا تطغوا ) لا تطغى على الناس لا تعتدِ عليهم في أعراضهم ولا في أموالهم ولا في أرواحهم ولا في شيء ممَّا حرم الله تبارك وتعالى ولا تُخِلَّ بحقوق الأقربين ولا الأبعدين هذا تحذير من الله سبحانه وتعالى .
( إنَّه بما تعملون بصير ) رقابة دقيقة من الله سبحانه وتعالى , يحصي مثاقيل الذر من الأعمال الصالحة والطالحة ( فمن يعمل مثقال ذرَّة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرَّة شرًّا يره ) فالمؤمن يكون دائما حذرا مراقبا لله تبارك وتعالى يؤدي الأعمال الصالحة وهو مراقب لله , يخاف أن يكون فيها رياء فيها حب السمعة فيها أشياء فيهلك والعياذ بالله و يخاف من المعاصي ويخاف من البدع لأنَّ الله يراقبه ( والله على كلِّ شيء شهيد )
( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (المجادلة:7)
تبارك وتعالى على كلِّ شيء شهيد , على كلِّ شيء رقيب بما نعمل بصير سبحانه وتعالى , فالمؤمن يجب أن يستحضر هذا الأمر مراقبة الله وأنَّ الله بكلِّ شيء بصير وسميع وأنَّ الله محيط بكلِّ شيء ويعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصُّدور فلا تخفى عليه خافية , ومن وفقه الله ورزقه مثل هذه الحال الطيبة فإنَّ هذا من علامات ثباته -إن شاء الله- وعلامة استقامته ,هذا من العلامات و البشائر أنَّ المؤمن على ثبات واستقامة -إن شاء الله- ولكن لا يكلُّ ولا يملُّ من اللجوء والضراعة إلى الله سبحانه وتعالى ,كيف ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يسأل هذا السؤال ويكثر منه ( يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك ) كيف نأمن أن ينحرف الإنسان ويزيغ قلبه ؟!
والله ما يأمنه إلاَّ منافق ولا يخافه إلاَّ مؤمن , فينبغي أن نخاف الله سبحانه وتعالى ولكن لا يطغى هذا الخوف فيكون خوف ورجاء متوازيان متوازنان حتى يحضر الموت فحينئذٍ يُغَلِّب المؤمن الرجاء وحسن الظنِّ بالله سبحانه وتعالى .
( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ) (هود:113)
الميل إلى أهل الظلم الذين يظلمون النَّاس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم . أو يظلمونهم في دينهم بالبدع والضلالات وبثِّ الدعايات الخطيرة ضد الإسلام وما شاكل ذلك .
يتبع
لشيخنا العلاَّمة ربيع السنَّة :
أبي محمد ربيع بن هادي عمير المدخلي
- حفظه الله تعالى -
افتتح بها دورة الإمام عبد العزيز بن باز -رحمه الله- العلمية
بمسجد الملك فهد- رحمه الله - بمدينة الطائف
بتاريخ 22/06/1426 هـ
- قام بتفريغ المادة ومراجعتها على الشيخ :
أخوكم الضعيف أبو إسحاق السطائفي - ثبته الله على السنَّة -
الحمد لله رب العالمين وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، منْ يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ?، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
إنَّ الثبات على السنَّة معناه الثبات على الإسلام بكليته : أصوله وفروعه عقائده ومناهجه نثبت عليه ونتمسَّك به حتى نلقى الله تبارك وتعالى .
والآيات الحاثَّة على الإتباع والالتزام والاعتصام والاستقامة كثيرة. والأحاديث كذلك ترمي كلُّها إلى غاية واحدة وهي ثبات المسلمين على الإسلام .
وإذا قلنا الثبات على السنَّة ليس المراد فقط ما يفهمه كثير من الناس من لفظ السنَّة فإنَّ السنَّة هنا تعني العقيدة والمنهج .تعني الإسلام . تعني الثبات على الإسلام .
هذا الثبات بتوفيق من الله سبحانه وتعالى .
التوفيق بيده سبحانه وتعالى والهداية بيده والإضلال بيده سبحانه وتعالى .
( يهدي من يشاء ويضل من يشاء )
ويُثبِّت من بشاء ويُزيغ قلب من يشاء . ولهذا علَّمنا الله تبارك وتعالى أن ندعوَهُ بأن لا يُزيغ قلوبنا ( رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (آل عمران:8)
قال الصحابة –رضوان الله عليهم - : واللهِ لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلَّينا
يعني أنَّهم معترفون بأنَّ الهداية من الله تعالى منٌّ وفضلٌ منه سبحانه وتعالى ورحمة منه لمن شاء من عباده ( يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (آل عمران:74)
يمتن على من يشاء ويتفضّل على من يشاء بالهداية ويُسدِّدهم ويُوفِّقهم سبحانه وتعالى وتحفُّهم عنايته تبارك وتعالى من الزيغ والضلال والانحراف .
( ويُضِلُّ من يشاء ) : إمَّا بالضلال الكامل كالكفر والخروج من الإسلام –عياذا بالله تعالى - .
وإمَّا الضلال الجزئي : ضلال من يدخل في الإسلام فيضِلُّ في عقيدته وفي منهجه -عياذا بالله تعالى- .
فهذا الضلال حصل بمشيئة الله تعالى .والهداية التي نالها وإن كانت ضئيلة من الله سبحانه وتعالى فالأمر كلُّه له والحكم له سبحانه وتعالى ونواصي العباد بيده وقلوب الناس بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء سبحانه وتعالى .
ولهذا علَّمنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن ندعوا :( يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك )
الإنسان لا يُوكل إلى نفسه ( ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ) لو وُكِل الناس إلى أنفسهم لهلكوا في دينهم ودنياهم ,ولكنَّ الله سبحانه وتعالى هو الذي بيده كلُّ شيءٍ , والأمور كلُّها بيده ونواصي العباد بيده ,وقلوب الناس جميعا بين إصبعين من أصابعه .
تعالى وتقدَّس سبحانه وتعالى .
فإذا ثبَّت الله الإنسان على دينه الحقِّ وعلى منهج الله الحقِّ وعلى العقائد الصحيحة فهذه نعمة من الله فلا يغترَّ بنفسه ,ويتباهى ويتطاول ,وإنَّما يتواضع لله ربِّ العالمين .ويشكره على ذلك ويضرع إليه أن يحفظ له دينه ,وأن يُجنِّبه المزالق والزيغ سبحانه وتعالى . ولا يفتر ( ولا يأمن مكر الله إلاَّ القوم الخاسرون )
فنسأله في كلِّ لحظةٍ من لحظاتنا أن يُثبِّت قلوبنا .
هذا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وكان يُكثر من قوله :( يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك ) فقالت عائشة : ( فقلت يا رسول الله إنك تكثر تدعو بهذا الدعاء فقال : إنَّ قلب الآدمي بين إصبعين من أصابع الله عز وجل فإذا شاء أزاغه وإذا شاء أقامه )
والثبات مطلوبٌ من المؤمن ,ويجب أن يسأل ربَّه أن يُثبِّته في كلِّ موقف : في الجهاد ,عند الموت يدعو الله تبارك وتعالى ويضرع إليه أن يُثبِّته ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (الأنفال:45)
إذا لم يُوجد ثباتٌ ما وُجد جهادٌ ,ولا قيمة للجهاد إلاَّ بالثبات حتى ينزل النَّصر من الله سبحانه وتعالى .
فإذا ثبت المؤمنون على العقائد الصحيحة والمناهج الصحيحة وثبتوا في القتال أمام أعداء الله عزَّ وجلَّ وقاتلوا لإعلاء كلمة الله لا بُدَّ أن ينصرهم الله تبارك وتعالى بهذا الثبات على الدِّين ,وبهذا الجهاد لإعلائه ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله )
والمطلوب منه إذا كان في ساحة الجهاد أن يثبُت ,ولا يفِرُّ ؛ والفرار من الزَّحف إحدى الكبائر المُهلكة - والعياذ بالله- كما سنذكر ذلك في حديث الكبائر إذا اتَّسع له الوقت .
فنسأل الله أن يُثبِّتنا وإيَّاكم على دينه .
وكما قلنا : إنَّ الله يأمر بالاعتصام بحبله بعد هذه الآية التي تلوناها :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )
(آل عمران:102-103)
الاعتصام معناه الثبات ,أُثـبُتوا واستمسكوا ,يُساعدكم على هذا الثبات على الإسلام الذي أوصانا الله أن نحتفظ به ونُحافظ عليه إلى الممات .
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )
( اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ) (لأعراف:3)
( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ) (فصلت:30-32)
هذا ثناء من الله تبارك وتعالى على الذين استقاموا على دينه .والاستقامة هي الثبات على ما جاء به محمد صلَّى الله عليه وسلَّم ,بل على ما جاء جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من عقيدة ومنهج ,فلهم منزلة عند الله تبارك وتعالى بثباتهم على هذا الدِّين الحقِّ .
قالوا :( ربنا الله ) : آمنوا بالله سبحانه وتعالى حقَّ الإيمان بأسمائه وصفاته وربوبيته وأنَّه هو المعبود الحقُّ فلا يعبدون سواه .
- يُثبتون لله الربوبية : وأنَّه هو خالق هذا الكون ومدبَِّره ومنظِّمه وهو الخالق الراَّزق المُحيِي المميت إلى آخر صفات الربوبية .
- وأسمائه الحسنى : اللائقة بجلاله وعظمته وربوبيته سبحانه وتعالى التي وردت في القرآن وفي السنَّة ,نُؤمن بها كما جاءت ,.وهي داخلة في هذه الاستقامة .
- والإيمان بأنَّه لا إله إلا هو : لا معبود بحقٍّ إلاَّ هو سبحانه وتعالى ,فلا نعبد إلاَّ إيَّاه نُخلص له الدِّين سبحانه وتعالى ,نحبُّه غاية الحبِّ ,ونخافه ونخشاه غاية الخوف والخشية , ونرجوه ونطمع فيما عنده في الدنيا والآخرة سبحانه وتعالى ,ونصلي له ونسجد ونَحْفِد ونزكي ونصوم ونذكر ونقرأُ القرآن ... كلُّ ذلك تقرُّباً إليه سبحانه وتعالى .
وهذه كلُّها من أسباب الاستقامة . ومن دلائل الاستقامة إذا نحن حافظنا على هذه الشعائر وهذه الشرائع . وهذه من الدلائل أنَّ الله قد وفّقك -إن شاء الله- وأنَّك من المستقيمين الذين يستحقُّون من الله سبحانه وتعالى هذا الثناء ,وبستحقون من الله هذا الوعد وهذه العناية الربَّانية : ( تتنزَّل عليهم الملائكة ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا ) متى يكون هذا التنـزُّل ؟ عندما يحتضر العبد ,عندما يُوشك على مفارقة هذه الدنيا وتوديعها ,والرحلة إلى الدار الآخرة يُنزِّلُ الله الملائكة يُبشِّرونهم ويُثبِّتونهم ويُسدِّدونهم ,ويُذهبون عنهم المخاوف ( ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا ) :
- لا تخافوا من المستقبل : مما أمامكم ؛فما أمامكم إلاَّ الجنَّة ورضوان الله عزَّ وجلَّ .
- ولا تحزنوا على ما خلَّفتم من المال والولد وغير ذلك .
هذه بشائر تأتي الثابتين على دين الله الحقِّ في هذا الظرف العصيب ,فهذه مرحلة خطيرة جداً ,فبعضهم قد تسوء خاتمته –والعياذ بالله- نسأل الله أن يُثبِّتنا وإيَّاكم .
كما جاء في الحديث ( إنَّ الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة .وإنَّ الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار ) متفق عليه .
هذا الحديث الذي نخاف منه الخوف الشديد من نهاية المطاف وخاتمة الحياة .
فلا بُدَّ للعبد أن يضرع إلى الله سبحانه وتعالى دائماً أن يُثبِّته على دينه ,وأن يتوفَّانا وهو راضٍ عنَّا .
وفي الحديث الآخر : ( من أحبَّ لقاء الله أحبَّ الله لقاءَه ,ومن كَرِه لقاء الله كَرِه الله لقاءه )
حدَّث بهذا الحديث أبو هريرة وحدَّثت به عائشة -رضي الله عنهما- قالوا : ( يا رسول الله كلنا يكره الموت . فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : قال ليس ذاك ( أي ليس ذلكم ما تفهمون ) ,ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه . وإن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه ) متفق عليه .
فنسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا ممن يشتاق إلى لقائه ويُحبُّ لقاء الله تبارك وتعالى ,وأن يُكرمنا في هذه الظروف العصيبة بحسن الخاتمة ,وأن يُتحفنا بالبشائر الطيِّبة ,وهذا ثمرة للثبات على دين الله والاستقامة التي يرجع الفضل فيها إلى الله سبحانه وتعالى ,لا إلى قلبك ولا عضلاتك ولا إلى شيء من هذا .وإنَّما يرجع إلى رحمة الله وفضله ولطفه .
فنسأله أن يلطُف بنا وأن يُثبِّت قلوبنا على الحقِّ .
( وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) (فصلت:30)
الجنَّة وعدها الله الذين آمنوا واستقاموا في آيات كثيرة في السور المكية والمدنية :
قال تعالى : ( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً * وَكَأْساً دِهَاقاً * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً ) (النبأ: 31-35) .
وقال سبحانه وتعالى : ( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (آل عمران:133-134)
فالوعد بالجنَّة مذكور في كثير وكثير من السور والآيات .
الجنَّة التي كنتَ تُوعد بها في القرآن وعلى لسان محمد صلَّى الله عليه وسلَّم بسبب الثبات على الإسلام بسبب الاستقامة عليه أبشر بها .
فنسأل الله أن يُثبِّتنا وإيَّاكم على الهدى وأن يرزقنا وإيَّاكم الاستقامة .
والله سبحانه وتعالى قال :( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (هود:1121)
أمرٌ بالاستقامة .
وقال سبحانه وتعالى :( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ) (هود:113)
هذا أمرٌ من الله سبحانه وتعالى لرسوله صلَّى الله عليه وسلَّم وأتباعه المؤمنين الذين تابوا إلى الله وأنابوا إليه والتزموا صراطه المستقيم وثبتوا على دينه : أمرهم بالاستقامة عليه .والاستقامة هي الثبات كما أمركَ الله : تلتزم بالعقيدة التي أمرك الله بالتزامها ,تلتزم بالأوامر كلِّها التي أمرك الله بها وتجتنب النَّواهي التي نهاك الله عنها وحرَّمها عليك .
فالقرآن فيه جوامع : الكلمة الواحدة تحتها معانٍ ,وهذه الآية منها وتلك الآيات منها .
فهذا توجيه لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وللمؤمنين إلى يوم القيامة أن يستقيموا على دين الله الذي أمرهم به ؛فلا يحيدون عنه يمنة ولا يسرة ولا يزيغون عن هذا الأمر الشامل لكل التشريعات والعقائد والأحكام .
( ولا تطغَوْا ) : الطغيان هو مجاوزة الحدِّ .
ولا تطغَوْا : لا بغلوٍّ في الدِّين ولا في غيره ,ولا بظلمٍ ؛ففيه محاربة كلِّ صنوف الطغيان من الظلم والتَّعدِّي .
والتَّعدِّي لحدود الله من أفضع أنواع الظلم ,فشرائع الله محدَّدة والعقائد محدَّدة والأوامر محدَّدة مضبوطة ,وكلُّ شيءٍ مضبوطٌ ,ويأتي أحدهم يزيد من عنده ؟!! فهذا طغيان .
لا تزد إلاَّ في حدود ما شرع الله لك من النوافل .
وحتى النوافل نفسها لا تزيد فيها : الصلاة خمس لا تزيد سادسة .
الظهر أربعاً لا تزد خامسة لا تزد سادسة ولا تزد سجدة ولا أي شيء .
لا تزد في العبادات فقد حدَّدها الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم .
كان صلَّى الله عليه وسلَّم يقوم وينام ,ويصوم ويُفطر ,فلمَّا اشتدَّت رغبة بعض الصحابة -رضي الله عنهم- في الزيادة في العبادة سألوا أزواج النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن عمله فقالوا إنَّه يقوم وينام ويصوم ويفطر ويتزوج النساء , فقال أحدهم :(أما أنا فأقوم ولا أنام وقال الثاني وأنا أصوم ولا أفطر وقال الآخر وأنا لا أتزوج النساء) فأغضب ذلك النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فقال :( ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس منِّي ) متفق عليه .
فالذي يقوم الليل ويصوم النهار يضيع حقوقا كثيرة ثمَّ في النهار يفشل ويستحسر ويضعف وقد ينتكس نتيجة لغلوِّه ,الصحابة الذين كانت لديهم هذه الرغبة تراجعوا .
ما أسرعهم للاستجابة !
ولكن كثيرا من الناس إذا وقع في خطأ ,وقع في غلو ,وقع في شيء فلا يرجع -عياذا بالله- وهذا بلاء مهلك نسأل الله العافية .
( ولا تطغوا ) لا تطغى على الناس لا تعتدِ عليهم في أعراضهم ولا في أموالهم ولا في أرواحهم ولا في شيء ممَّا حرم الله تبارك وتعالى ولا تُخِلَّ بحقوق الأقربين ولا الأبعدين هذا تحذير من الله سبحانه وتعالى .
( إنَّه بما تعملون بصير ) رقابة دقيقة من الله سبحانه وتعالى , يحصي مثاقيل الذر من الأعمال الصالحة والطالحة ( فمن يعمل مثقال ذرَّة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرَّة شرًّا يره ) فالمؤمن يكون دائما حذرا مراقبا لله تبارك وتعالى يؤدي الأعمال الصالحة وهو مراقب لله , يخاف أن يكون فيها رياء فيها حب السمعة فيها أشياء فيهلك والعياذ بالله و يخاف من المعاصي ويخاف من البدع لأنَّ الله يراقبه ( والله على كلِّ شيء شهيد )
( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (المجادلة:7)
تبارك وتعالى على كلِّ شيء شهيد , على كلِّ شيء رقيب بما نعمل بصير سبحانه وتعالى , فالمؤمن يجب أن يستحضر هذا الأمر مراقبة الله وأنَّ الله بكلِّ شيء بصير وسميع وأنَّ الله محيط بكلِّ شيء ويعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصُّدور فلا تخفى عليه خافية , ومن وفقه الله ورزقه مثل هذه الحال الطيبة فإنَّ هذا من علامات ثباته -إن شاء الله- وعلامة استقامته ,هذا من العلامات و البشائر أنَّ المؤمن على ثبات واستقامة -إن شاء الله- ولكن لا يكلُّ ولا يملُّ من اللجوء والضراعة إلى الله سبحانه وتعالى ,كيف ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يسأل هذا السؤال ويكثر منه ( يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك ) كيف نأمن أن ينحرف الإنسان ويزيغ قلبه ؟!
والله ما يأمنه إلاَّ منافق ولا يخافه إلاَّ مؤمن , فينبغي أن نخاف الله سبحانه وتعالى ولكن لا يطغى هذا الخوف فيكون خوف ورجاء متوازيان متوازنان حتى يحضر الموت فحينئذٍ يُغَلِّب المؤمن الرجاء وحسن الظنِّ بالله سبحانه وتعالى .
( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ) (هود:113)
الميل إلى أهل الظلم الذين يظلمون النَّاس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم . أو يظلمونهم في دينهم بالبدع والضلالات وبثِّ الدعايات الخطيرة ضد الإسلام وما شاكل ذلك .
يتبع