المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ما الذي بدل هذا الجيل؟ (2)


المخ طار
2015-07-27, 19:23
ما الذي بدل هذا الجيل؟ (2)

كيف ولماذا خرج هذا الجيل عن السيطرة؟
خرج بسبب أخطاء وأسباب كان يُمكِن التحكُّم بها - لكن المربين استسلموا لها - مما أدى إلى تمرُّد الأبناء، وإليك أسباب خروج الجيل عن السيطرة:
أولاًً- سوء التربية:
الآباء اليوم بحاجة إلى تربية (قبل الأبناء!)، فقد اختلطت المفاهيم لديهم، ونسوا القِيَم والمبادئ، وغيَّرتهم العولمة، وأخذوا بالنظريات التربوية التي لا تُناسِب بيئاتنا، وكل ذلك أسهم في تراجع التربية وفساد الجيل، ومنه:
1- تعليم الولد الخطأ وتكريس الصفات السيئة، والآباء يَنصُرون أبناءهم ظالمين ومظلومين، ويَدعمونهم في كلا الحالين، ولا يأخذون على أيديهم، بل يوجِّه الطفل للعدوانية: "لا تَسكُت له، ليس هو أفضل منك"، ويُعلِّم الولد على ردِّ الصاع صاعين، وتعتبر بعض المخالفات "شطارة"، فمن راوغ وتحايل وأخذ دور غيره أثناء الانتظار في الدوائر الرسمية أو على موقف الباص كان شاطرًا ذكيًّا.

ويربى الابن على قيم خاطئة "الرجال لا يجلسون في البيت مثل النساء"، فيتسكع الابن في الشوارع بلا هدف، و"الرجل لا يُغيِّر كلامه" فيتعنَّت ولو بدا له الحق أبلجَ.

2- تقليل المربي من شأن نفسه أمام أولاده، كل ابن آدم خطَّاء، وأنت لست معصومة، فإن أخطأت اعترفي واعتذري، على ألا تُقلِّلي من شأن نفسك، اعترفي بخطئك، ولكن لا تقولي: بأنك غبية، أو لا تُحسنين التصرف دائمًا، أو تَنقُصك الحكمة، ولا تدَعي زوجك يُقلِّل من شأنك أمام أبنائك والعكس؛ إذ كل ذلك سيُقلِّل من هيبتك، وسيَنسِف احترامك.

أنت كل شيء في حياة وليدك (الملاذ والأمان والمَثَل الأعلى)، فابقَي كذلك، وحافظي على مكانتك عنده، وعزِّيزيها كلما كَبِر، على أنه وأثناء المراهقة سيراجع نفسه، فإن ثبتِّ على هيبتك ثبتَ هو على احترامك وحبك، وبقيتْ ثقته فيك على حالها، وأنت بحاجة ماسة لهذه الثقة أثناء المراهقة لتتمكَّني من توجيهه.

الأبناء يحبون تقمُّص شخصية الآباء، وحين يحتفظ المربي بهيبته يُسهِّل على نفسه وعلى ابنه، أما على نفسه فيكون قدوة في حركاته وسكناته مما يوفِّر عليه التوجيه المباشر، وأما على ابنه فالابن سيجد مرجعًا يَستشهِد به إذا استشكلت عليه الأمور، وسيجد نموذجًا يمشي عليه فلا يحتار ولا يتعب في أمور الحياة.

3- الهروب من أسئلة الصغار والمراوغة في الإجابة عما يَشغَلهم، وبعض الآباء يَكذِب ويستخِف بعقول الصغار، فيبحثون عن المعرفة لدى النت وعند الأصدقاء، ويحصلون على أجوبة خاطئة ويَرضون بها، ولا يرجعون إليك ولا يسألونك مجددًا، ولا تعرفين ما الذي يَشغَلهم ولا حدَّ عِلمهم، وما الذي ملأ عقولهم، ويخرجون عن زِمام سيطرتك.

وأنصح الأمهات بالإجابة عن كل سؤال بقدر إدراك الطفل وعمره؛ الصغير يسألك ببراءة وأنت ترتعدين وتستحين ومشاعر طفلك لم تتفتَّح بعد ولا يُدرِك ما تخشينه، فاسأليه ماذا يتوقَّع الجواب؟ تعرَّفي مقدار عِلمه، واستوحي من قوله جوابًا مناسبًا لعمره وإدراكه، أو أجيبيه عن أي سؤال بحقائقَ علميَّة مجردة عن الغرائز، وبأقل شرح ممكن، وسيتقبَّل الجواب.

4- ننفِّر الأبناء من الانصياع بقسوة التوجيه، وإذا زادت القسوة أدَّت إلى التمرد، وأضرب مثلاً بالصلاة، بعض الناس يَظُن أنه متى بلغ الولد السابعة وجب عليه أن يصلي فورًا جميع الفروض! ويوقِظونه من النوم ليؤدي الفجر، ولا يرضون منه إلا بالوضوء الكامل مع سننه، ويُلزِمونه بسنن الصلاة، والحديث: ((مُرُوهم لسبع، واضربوهم لعشر))، يُفيد التدرج، والصبر ثلاث سنين.

والمربون يتكلَّمون بلهجة قاسية حين يأمرون بالصلاة، وهذا من أسباب إعراض الصغار عن الصلاة، وقد يأتون لابن السابعة وهو يُشاهِد برنامجه المفضل أو وهو مُندمِج في لعبة مفيدة، فيأمرونه بقطعها والذَّهاب فورًا إلى الصلاة، وهذا مُنفِّر للصغير، ولكل فرض متَّسع من الوقت، فإذا أذِّن أعلمي ابنك باقتراب وقت الفروض ليستعد لأدائها.

ونحن نصلي إرضاء لربنا ونزولاً عند أوامره، إلا أنه لا ضير أن نحدِّث أولادنا عن فوائد الصلاة الأخرى، من أنها: تُزيل الاكتئاب، وتُنشِّط الجسم، وتُحرِّك بعض العضلات مهما دقت وصغرت، ولعل الشرح العلمي يُساعِد في تقوية الالتزام.

الإسلام رفع القلم عن الصغير حتى يَحتلِم، ولا يؤاخذه الله قبل البلوغ، فلا تعجَلي عليه بالعبادات، ومهِّدي له بالكلام عن حلاوة الجنة وعظمة الله وحبِّبيه في الخالق وعرِّفيه نعمه، وادعي إلى سبيل ربك بالحكمة، واختيار الأسلوب الأمثل لتعزيز العبادات من واجب المربين، ونسأل الله أن يُعيننا على أداء تلك المهمة، وأن يجنِّبنا العجز عنها، أو تنفير الأبناء منها.

ثانيًا- انعدام المربي في بعض البيوت:
مسؤولية التربية لا تُقدَّر بقدرها في أكثر البيوت، وتُقابَل بلا مبالاة، ربما لعدم إدراك طبيعتها، فيُهيَّأ للأولاد الطعام واللباس والسكن، فهذا كل المطلوب بزعمهم "طعام ومسكن ومصروف!" وها قد تَحقَّق، ثم يترك الأبناء بلا رقيب ولا حسيب، لا يَسألون ولا يُسألون عما يفعلون، وينتظر الآباء بعدها أبناء جيدين، وكأن التربية عملية تلقائية طبيعية تتم وحدها بلا جُهْد.

وينشأ الأبناء بلا قدوة ولا مستشار ولا ناصح ولا موجِّه، فيتكونون كما يَنبُت النبات "البعل"! إذا لم يُمطَر ما أنبت، وإذا أمطر نبت بشكل عشوائي، وقد تغزوه الآفات، وقد يُصفِّره حرُّ الشمس، وقد تَقطَعه أيدي العابثين، أبناء ليس لهم مَن يُصلِح عيوبهم ولا من يوعيهم، ولا من يُحاوِرهم، فينشؤون بلا دين صحيح، ولا قدوة حسنة، ولا أخلاق حميدة.

وإليك أسباب الإهمال:
1- أنانية المربين إذ لم يَعُد الأطفال يَعنون الكثير لأهاليهم، بل الطموح للمعالي وإثبات الذات بات أكثر جاذبية، كما أن اللقاءات وتَضييع الأوقات على التلفزيون والنت والسياحة سمة أخرى تستهوي بعض المربين، والضحية هم الأبناء المساكين.

فالآباء والأمهات في شُغُل فاكهون، وليت الآباء مشغولون بشيء مهم، وإنما بالأصدقاء والناس والحياة الاجتماعية، والموضة وعالم الجمال، والعمل والصفقات التجارية، وتحقيق الذات وجمْع الأموال، مشغولون بكل شيء يَخُصهم إلا الأبناء، فالأبناء ليسوا من خاصَّتهم!

والتفكك الأسري يقود لنفس النتائج، وكم من أم وأب استغرقتهما الخلافات، وانشغل كل منهما بنفسه وهمومه عن الأبناء، ومن لهؤلاء المساكين؟!

وتبقى المسؤولية الكبرى على عاتِق الأمهات، واجب الأم مُضاعَف حين تفتقد التفاهم مع زوجها، فالحضانة للأم، وأكثر الأمهات يرتَبِطن بأبنائهن بينما يُفرِّط الآباء، ولكن أمثال هؤلاء الأمهات يكنَّ جاهلات محطَّمات محبَطات، فكيف سيربين الأبناء؟

2- استحقار عملية التربية والنظر إليها بدونيَّة، وأصبح الجلوس في البيت وتربية الأبناء عارًا، ولا يليق بالمرأة المثقَّفة المحترمة، وصارت "الأم المربية" و"ربة المنزل" مِهنًا وضيعة تعافها النفوس، وتأنَف من مزاولتها، في حين العمل خارج البيت - مهما كان - أجل وأكرم، ولو كان "ممرضة" أو "مضيفة" فتعمل المرأة خادمة للآخرين وترفض خدمة أبنائها!

3- اليأس من انصياع هذا الجيل الفظيع! وما زلت أسمع الأمهات يُردِّدن: "هذا الجيل فظيع"، "خرج عن السيطرة"، "جيل ذكي وقوي وعنيد"، "لا يُمكِن ضبطه"، كلمات زادت الوضع سوءًا، وجعلت أبناءنا آباء لنا! وها هم يتحكَّمون بنا ويسيِّروننا لنرضيهم.

أيتها الأم، هذه الأقوال ليست صحيحة، وهي علة للتقاعس، فلا تستجيبي لها، وكل أم - مهما كانت ضعيفة - تبقى أقوى وأذكى من الطفل الصغير، وكل طفل يستمتع في بعض الأحيان بالمشاكسة والتمرد؛ ليتسلَّى أو ليُقلِّد الكِبار أو ليَختبِرك، وحين تقول الأمهات ما تقول، تبدو وكأنها تؤكِّد ما يلي: "أنا ضعيفة وعاجزة، بإمكانك التمرد ولتفعل ما تشاء، لم أَعُد أستطيع السيطرة عليك، أنت الأقوى ولا يمكن توجيهك فضلاً عن قيادتك، ليست لي أي سلطة عليك".

وإذا تركتِ ابنك بلا تربية من سيهتم ويربِّيه عوضًا عنك؟
سيربيه رفقاء السوء وأولاد الشوارع، فهل ترضين بهؤلاء قدوة؟ ألا تحبين ابنك؟ ألا تتمنَّيْنَ له الخير؟ أترضين بخسارته؟ إذًا لا تتركيه ليتمادى، أعينيه على البرِّ والطاعة ليعيش سعادة الدارين.

وإنك لقوية وقوية جدًّا، وقادرة على التغيير ومسك زمام الأمور، القرآن شهد لك بالقوة، والرسول قال: ((ما رأيت أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن))، أنت ذكية ولديك القدرة على المكر، وإذا عجزت الآن عن توجيه طفل صغير، فكيف ستنجحين معه حين يَصِل إلى المراهقة؟ وكيف سيكون حال المجتمع بعد سنوات حين يحكمه أبناؤنا المتمردون المشاكسون الخارجون عن السيطرة؟ سيكون راعبًا ولا شك!

فلا تستسلمي ولا تتنحي، وإلا فسد الجيل فسادًا حقيقيًّا، الجيل يُمكِن ضبطه، وتحتاجين فقط لبعض الفقه والاحتراف في التعامل معه، وهذا الكتاب سيساعدك بإذن الله لتحصلي على نتائج مثمرة.

ثالثًا- انعدام السلطة:
إذ تخلَّى بعض الآباء والأمهات - وعن طيب نفس - عن مسؤوليتهم في ضبط الأبناء، وجعلوا أبناءهم أصحاب الرأي والقرار، وإليك الأسباب:
1- تمجيد الحرية الشخصية للصغار! فالنظريات العصرية رفعت شعارات حديثة: "للولد شخصيته، وله حريَّته، لا تعتدوا على حقه"! عبارات باتت تُكرَّر، والمرددون يتكاثرون والمدافعون يحتدون ويُناقِشون، وتخيَّلوا معي: صغار ضعفاء البنية جاهلون يُطالِبون بالحرية! وماذا يعرف أطفالنا عن الدنيا ليخرجوا عن طوعنا؟ إنا لو تركناهم لتخطَّفتهم المغريات ولهلَكوا في هذا الزمن الفاسد.

وإني لأتساءل: إلى أي حدٍّ الصغيرُ حر؟ وهل هو حر في سلوكه؟ وفي أعماله؟ وفي علاقاته؟ وهل يستطيع فعل ما يشاء؟! وإذا نادينا بالحرية الشخصية البحتة فأين قيمة التضحية؟ أين الإيثار؟ أين المحبة؟ أين أحِبَّ لأخيك ما تحب لنفسك؟ وكيف يكون الصغير حرًّا، والعلاقات الاجتماعية يشترك فيها طرفان، فلا يَحِق لأي من الطرفين الاستبداد بها، وكل فرد تنتهي حريته حين تبدأ حرية غيره؟

ومن في الدنيا يتمتَّع بالحريَّة الكاملة؟ جميعنا مقيَّدون بالدين والقيم والأخلاق والذوق، "الأوامر الإلهية" ليست فيها حريَّة، والقيم ليست فيها حرية، وهنا مَكمَن الخطورة، فبعض الأبناء لا يريدون التقيد بالدين ولا بالقيم، إنهم يَنسِفون كل شيء.

والحر يتحمَّل تَبِعات أخطائه فيُصلِح ما انكسر ويدفع ثمن ما أتلف، وأهمه يتحمل الألم النفسي وعقدة الذنب، فهل الصغير قادر على ذلك؟! الأهل هم الذين يتحملون التبعات إذا أخطأ الصغير، ويُلامون هم، ويتحملون الخسائر، ويتألمون نفسيًّا لما يَرونه من انحراف ابنهم، أفليس من حقهم إذًا إبداء رأيهم فضلاً عن منعه؟!

"الحرية للصغير" فكرة خطأ، فلا تفرحوا بهذه العبارة ولا تُردِّدوها، وكل أم هي المسؤولة عن توجيه طفلها ولا يُترك الجاهل حرًّا، والصغير لا يُسأل عن نفسه، ولا يُحاسَب قبل البلوغ، والأم هي المسؤولة عن سلوكه، وهي المؤاخذة أمام الله والناس، وعليها ضبطه وتعليمه وعليه الانصياع، الله جعلنا الأوصياء والمربين والحاضنين لأولادنا، لا خيار لنا ولا خيار لهم.

وانظري حين تركناهم ماذا فعلوا؟ صارت اهتمامات أبنائنا تافهة وسخيفة وتدور في عالم الجمال والماركات، وطالت شعور الشباب وتراجع حجاب البنات، وكثرت الصداقات بين الجنسين، وازدادت نسبة الطلاق، وتفشَّى الكذب والغش والتحايل، وفُقِدت الأمانة والوفاء، وأصبح الأولاد مذبذبين وهوائيين، فيومًا يَحلِقون لحاهم ويومًا يُطلِقونها، ويومًا يلبسون البناطيل المشقوقة، وكل يوم هم في شأن.

فكان من حق طفلك عليك إحسان تربيته وكبْح جماحه وإيقافه عن التمادي والعصيان، و"توجيه الصغير وتربيته" أمر "إلهي" وأمر "نبوي" وأمر "قانوني" وأمر مُتَّفَق عليه "عرفًا"، ولاحظي كيف اتفقت أربعة مصادر على الشيء نفسه، وكل مصدر ذو قوة رهيبة بذاته، وكافٍ وحده، فكيف وقد اجتمعت كلها معًا؟ وأي قوة في الدنيا أكبر من هذه القوى الأربعة؟

وإني لأعجب حين يعترِض الولد على أمه إذا منعتْه من الذَّهاب لرحلة المدرسة ويعتبرها تعدِّيًا على حريته، أليست المدرسة نفسها تُرسِل ورقة للأهل تستأذنهم فيها باصطحاب ابنهم وتطلب موافقتهم؟ إذًا (الدنيا ليست سائبة)، والولد ليس حرًّا، وللأهل الحق الكامل في السماح أو الرفض، والمدرسة لا تَطلُب من الأهل إبداء الأسباب، وتتقبَّل قرارهم كما هو، فمن قال للأبناء إن الآباء مجبَرون على الانصياع لأهوائهم والمشي وَفْق رغباتهم.

ثم هل تجدين من المنطق: "أن يعيش طفلك في بيتك ويأكل وينام ويأخذ مصروفًا من جيبك، ثم يصفق الباب ويمشي متعللاً بالحرية الشخصية؟!"، هل البيت فندق؟ وأنت النادلة فيه؟! يستهلك ويمضي؟ يأخذ ولا يعطي؟ هل هذا من المروءة؟

ستقولين: ما الضير؟ هو "ذكر" والشباب يُعاملون هكذا.

ولكن هذا الكلام لا مُستنَد يَدعَمه، فالشباب لهم قوانين تحكمهم في المدرسة وفي الجامعة وفي النادي، وإذا تأخَّر الطالب عن محاضرته سُئل وعوقب، وإذا غاب نقصت علاماته، وقد يُحرَم من الامتحان، وابنك - الذي يتمرَّد عليك - يخضع وينصاع صاغرًا لهؤلاء ولا يعترض إلا على قوانينك!

هذا المفهوم الخاطئ يَهدِم حاجزًا من أكبر الحواجز، وهو "البر والإحسان"، ولنفترض جدلاً "ألا وصاية لنا على أولادنا"؛ لأنهم كَبِروا وعقلوا، فسترجع لنا الوصاية من باب: "إذا كنتم ثلاثة فأمِّروا أحدكم"، والبيت لا بد له من أمير وسلطة وقوانين، فمن نرشِّح الابن أم أبويه؟! وسترجع لنا أيضًا الوصاية من باب: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، فالكبير ستكون له النسبة الأكبر من الأمر؛ لأنه يعرف أكثر، وقدرته على إدراك الخطأ وتصويبه أعمق، وإن لم ترجع الوصاية لنا من هذين البابين فسترجع من باب: "وجوب الاستشارة"، انظري إلى الملوك، كلهم لهم مستشارون، انظري إلى الشركات كيف لها مجلس إدارة يدرس المشروعات ويفنِّد القضايا، الحياة لا تمشي بلا استشارة، والنصح يحتاجه الرجل الكبير الناضج، والرسول (الذي يوحى إليه) استشار أم سلمة، واستشار صحابته واتَّبع قولهم، فكيف يستطيع الصغير الانفراد بالرأي واتخاذ القرار؟ وكيف يخرج عن طوع والديه وهو غِرٌّ جاهل.

الصغير ليس له رأي، ويحتاج للتوجيه والإرشاد إلى أن يَبلُغ، والإسلام يشترط البلوغ لكل أمر ذي بالٍ، ولا يقيم للصغار وزنًا في القرارات ولا التعاملات، وسن البلوغ لا يقل عن 13 سنة، ولا يكفي البلوغ (للاستقلال بالرأي والشخصية)؛ إذ يشترط معه "العقل" و"الرشد" والقدرة على التصرف، وإلا مُنِع الفرد من ممارسة حقه في الشهادة وإمضاء العقود، والقوانين الوضعيَّة تشترط سنَّ الثامنة عشر للأهلية الكاملة، والسفيه لا تَصِح معاملاته، بل يُحجَر عليه، فكيف نُعطي الحرية لصغار لم يبلغوا ولم يَرشُدوا؟ أو بلغوا ولم يرشدوا؟

قد تقولين: "ألا يكفي ما يتلقاه أبناؤنا من كبْتِ المدرسة ومن قسوة الحياة، فلماذا أكبته أنا أيضًا في البيت وأضيق عليه"، وسأقول لك: "ليس القصد قهر الأبناء وكبتهم، بل الهدف احترام السنن الطبيعية، ولا تقلقي فلأطفالنا الصغار نصيب جيد من الحرية، (لا في اتخاذ القرارات المهمة ولا في التمرد علينا)، وإنما رغباتهم محترمة ومجابة في حدود عالمهم الصغير، ولهم شخصيَّة مستقلة"، وإليك بعض الجوانب:
• يختارون ألعابهم حسب ميولهم، ونترك لهم أوقاتًا ليُمارِسوا هواياتهم، وليلعبوا ويشاهدوا برامجهم المفضَّلة.

• يشترون حاجاتهم حسب ذوقهم، ونترك لهم الخيار في آخر الأسبوع لانتقاء أماكن يحبون زيارتها، وأطعمة يُفضِّلون تناولها.

• نسمح لهم بالإدلاء برأيهم (بأدب)، ونسمع نقدَهم واعتراضاتهم (ولا نُلزَم بتنفيذها كلها).

وسيبقى لكل طفل شخصيته الأصيلة وطِباع جُبِل عليها، وهذه منتهى الحرية! فهذا قوي وذاك ضعيف، هذا هادئ وذاك صخَّاب، هذا واضح وذاك غامض، هذا جدي وذاك يحب المرح، هذا ميوله أدبية والآخر علمية، وتضطر الأم دائمًا لتقبل شخصية ابنها والتعايش معها كما هي، وفي هذا "الحرية" التي يَحرِص الابن عليها، وهذا يُعطيه الشخصية المتفردة والمستقلة التي يبحث عنها.

2- المبالغة في احترام عقول الصغار، فنسأل الولد عن رأيه في كل شيء، ونحفِّزه ليبدي وجهةَ نظره، وأكثر الصغار جهال يحبون التعالم، فيتفلسفون ويُدلِون بأي كلام فارغ، ويتعودون على الاشتراك مع الكِبار في اتخاذ القرارات، وتُعجِبهم السيطرة.

المبالغة في احترام عقول الصغار جعل من أولادنا إمعة، وانعدام السلطة أفرز أولادًا بلا هُويَّة، وبدعوى: "المحافظة على شخصية الأبناء" أنتجنا أبناء "بلا شخصية"! فكل طفل في الدنيا بحاجة إلى مُعلِّم يُرشِده إلى الخير، وكل فرد في الدنيا يحتاج لمَثَلٍ أعلى يسير عليه ولجماعة ينتمي إليها، وحين نحَّيْنا أنفسنا عن قيادة الأبناء وتركناهم لعقولهم تعلَّقوا بالبديل؛ (أي: بأصدقائهم).

لقد خشينا أن يكون أبناؤنا امتدادًا لنا، وشخصياتهم نسخة مطابِقة لنا، فتركناهم ليكونوا متفرِّدين، وأدى تنحينا إلى علو شأن المؤثرات الخارجية، وأهمها الأصدقاء، فخضعوا لأصدقائهم وساروا خلفهم، وربطت العولمة أبناءنا بعادات غريبة، وحَمَّلَتهم قِيمًا دخيلة، وأفسدت فطرتَهم، وأصبح كل ناعق قدوتهم، وكل مُنحرِف أمثولتهم، يُقلِّدونهم ويمشون خلفهم ولا يُجادِلون ولا يُناقِشون، وقد يُخالِفون الشرع والعُرف ولا يُبالون، لقد أضحى أولادنا جبناء يخافون الخروج على أصدقائهم؛ لكيلا يُنتقدوا أو يُنبَذوا، أصدقاؤهم أشد رهبة في قلوبهم من الله!

ابنك يحتاج إلى توجيه وقدوة مهما عانَد وأنكر، فليكن توجيهك أقوى وشخصيتك أعظم تأثيرًا من تأثير ثُلَّة من أصدقائه غير الناضجين، وقد يَميل المراهق إلى الاستقلال ويُظهر المشاكسة، على أنه يتقبَّل الخضوع لأهله، ويسعد بالانتماء إلى عائلة تحوطه بالعناية والمحبة، وتُساعِده في إدارة شؤونه.

3- اقتناع الآباء بأن الزمن تغيَّر ولا يمكنهم مواكبته، وهذه هي حجة الأبناء في التمرد على والديهم، وهذه الحجة أقنعت الآباء وأسكتتهم وأعدمت سلطتهم.

إنهم يقولون: "زمانكم غير زماننا"، "جيلنا غير جيلكم"، "عالَمكم غير عالمنا"، "الدنيا تغيَّرت"، "نحن في قرن الواحد والعشرين"، "أنت تتكلَّمون من عالم آخر"، معانٍ فارغة يُردِّدها الأبناء؛ لظنِّهم أن أهلهم لا يَفهمونهم ولا يُقدِّرون مشاعرهم، ولا يُدرِكون مشاكلهم؛ لتقدمهما بالعمر وبُعدِهما عن عالم الصغار.

وبسبب هذه المعطيات يعتدُّ الصغير برأيه وحكمته، ويرى قصورًا في حُنكة والديه، ويحسب أنه أضحى قادرًا على مواجهة الحياة وحده بلا مساعدة، وكلما كَبِر واقترب من المراهقة صار وأقرانه لا يسمعون توجيهات الوالدين، ولا تعجبهم كلماتهما، ولا يلقون بالاً لنصحهما.

والمراهق - ابن الثالثة عشر ربيعًا - لا يستشير والديه، ولا يسألهما النصح والمعونة، بل يتصرَّف من تلقاء نفسه، وحسب ما يُمليه عليه عقله وأصدقاؤه، بحجة أنه يعلم عن حاله خفايا غائبة عن أهله، وتفاصيل نفسيَّته أوضح في ذهنه، ويحتك بأقرانه ويسمع ويرى أمثاله، فيبدو أقدر على حل مشكلاته وتحمُّل مسؤولية نفسه، لكن ذلك - على أهميته - لا يكفي للحكم على الأمور، ولا يُبرِّر له التصرف الفردي بعيدًا عن ملاحظة الأهل؛ لأن الصغير ومثله المراهق تصعُب عليه الرؤية الشاملة، ويرى الحقائق بشكلٍ جزئي، ويرى الثمرات المعجَّلة وتفوته المؤجَّلة.

مَثَله وأهله كراكب يُراقِب البلدة من شباك الطائرة قبيل هبوطها بدقائق، فهو يرى كل شيء بوضوح، ويستطيع أن يُحدِّد أين البحر، وأين المطار، وأين الشارع الرئيسي، فهو يُشرِف على البلد من عُلْوٍ، ويرى بشمول وسَعة؛ فهذا هو الأهل، والمراهق مثله كشخص يسير في شارع من شوارع تلك البلدة، فهو يعرف تفاصيله، ويواجِه الحانات والبيوت، ويرى المعروضات، ويستطيع أن يُحدِّد طول الشارع وعرضه ولون حيطانه، ويقرأ اسمه، ولكنه لا يدري ماذا في الشارع المقابل أو في الحارة الموازية؛ ولذلك يُقدِّر الوالدين العواقب أكثر من الأبناء، ويُدرِكان أبعاد الأمور، ويستطيعان قراءة ما بين السطور، وقد تكونين غير متعلمة، وزوجك غير مثقَّف، وأبناؤك أكثر اطلاعًا وعلى درجة علمية عالية، لكن ذلك لا يعني علو أبنائنا علينا، بل يبقى الوالدان هما الأعقل والأبعد نظرًا، إلا في حالات قليلة، والسبب الرئيس في ذلك هو فرق العمر، وبالتالي فرق التجرِبة، فللحياة الاجتماعية علِمها وفنُّها وآدابها والتعاملُ مع الناس والخبرةُ في الحياة كنز لا يُستهان به، والحياة تُعلِّم - أحيانًا - أكثر من المدارس، فتصقل الشخصية وتُهذِّب النَّفْس، وتعطي الحكمة وبُعْد النظر، فليس العلم دائمًا ضد الجهل، وقد تكون أمٌّ ما تجاوزت دراستُها المرحلةَ الإعدادية - أكثرَ علمًا بالناس وقدرة على إدارة الحياة من خِرِّيج جامعة، والأم الناضجة لا تقع أصلاً بالمشكلات التي يتعرَّض لها الابن بسبب قلة تجرِبته، كما أنها أقدر على حلِّ المعضلات التي يتعرَّض لها؛ لأنها قد مرَّت بما يُشبِهها أو سمعت من الناس عن مثلها، فلا يجوز الاستهانة بخبرة جيل كامل لمجرد أن الدنيا تغيَّرت.

ولي كلمة أخرى:
أيها الأبناء، وأيها الآباء، الزمن يتغيَّر، والناس تتبدَّل، والعادات والتقاليد تتحور، والتطور عَرَض طبيعي، ولا يدوم على حال إلا مُغيِّر الأحوال، ولكن هل يتغيَّر كل شيء فعلاً؟ لو فكرنا قليلاً لوجدنا أشياء ثابتة لا تتغيَّر؛ فالإنسان خلال ذلك بقي إنسانًا بمشاعره: فهو يحب ويكره، وبإحساسه: فهو يَسعَد ويتألَّم، وبسلوكه: فهو يعمل ويقعد طلبًا للراحة، وبحاجاته: فهو يتزوَّج ويأكل وينام.

الإنسان إذًا - ومهما تطوَّر وتبدَّل - يُحافِظ دائمًا على أمور هي جوهره، وتتغيَّر خلال ذلك فيه أشياء هي مظهره، وهذا ما يفوت الصغار والمراهقين، فيتمردون على كل شيء دفعة واحدة دون تمحيص ودراسة، والحقيقة أن ثمة أشياء لا تتغيَّر أبدًا مهما اختلف الزمان وتغيَّرت الأجيال وتطوَّرت الدنيا، ومهما تعلَّم الإنسان وكثرت المخترعات، وتنوَّعت الاكتشافات، فإن الدين والقيم والمبادئ والأخلاق والمُثُل العليا لا تتغيَّر أبدًا، ولا تتبدَّل بحال من الأحوال، فمنذ نزل الوحي وأركان الإيمان واحدة لم تتغيَّر، وعدد ركعات الصلاة وكيفيَّتها ثابتة لم تتحوَّل، والأخلاق الحسنة محمودة محبوبة مرغوبة.

وإذا توسَّعنا أكثر وجدنا أن النظام العالمي واحد - وإن اختلف قليلاً في التفاصيل - في أنحاء الكرة الأرضية: فكل الشعوب تعتمد رئيسًا واحدًا لها، وكل دولة تَسُن القوانين التي تراها نافعة وتُلزِم الناس بها، وكل القوانين مهما اختلفت تُشجِّع المُحسِن وتُعاقِب المُفسِد، والناس يميلون إلى الطيبين ويبتعدون عن الخبيثين، فلا ينبغي أن ينبِذ الابن كلَّ شيء وراء ظهره؛ لأن الدنيا تغيَّرت، وهذا ما يُثبِت أنه غِرٌّ، ولا يجوز مسايرته والركون إليه، وعليه التروي والتفكير.

أولادنا يرون أفكارنا رجعيَّة، ويعتبرونها عقبةً أمام التقدم الذي تشهده البشرية هذه الأيام (والذي نتمنَّى نحن وأولادنا أن نعيشه بقوة)، في حين أن هذه القِيم والمبادئ والقوانين، تُنظِّم حياتَنا، وتُسهِم في سعادتنا ورخائنا.

ويجب أن يعي الأبناء والآباء هذا الكلام وعيًا حقيقيًّا.

وإذا كان الزمان تغيَّر حقًّا، فأهم تغيُّراته: انعدام الأمن (خطْف وسرقة)، وكثرة الانحراف الديني والفِكري والعقوق، وتأخُّر سِن النضج، وعدم تَحمُّل المسؤولية، وتفشِّي الأنانية، وهذا يقتضي الشد على الأبناء والحرص عليهم أكثر من ذي قبل، فكيف تنحَّى الآباء وألغوا سلطتهم!

يتبع 2/3

faiçal07
2015-07-27, 22:47
ما خفي أدهى و أمر

naimradio
2015-07-27, 22:48
ما خفي أدهى و أمر

مريم #
2015-07-27, 23:05
موضع قمة ، و تحليل منطقي جدا، ملاظة جانب اطول فقط ، لو قسم على اربع اجزاء افضل ،