المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العاشقة الخرساء


علي قسورة الإبراهيمي
2012-10-22, 08:43
بسم الله الرحمن الرحيم
أين نقطن؟!
وما ذلك الضوء الذي اشرأبت له الأعناق؟
وماذا يقالُ إذا السائلُ أفحمه البرهان؟ وأبكَمه حسن البيان؟
أمّا الكلام فلم يسنح بعدُ سهلهُ، وما انقادَ وعره .
إنها قصةٌ، فالعيشُ فيها ألذُّ من السلوى، وقراءتها أطيبُ من زوال البلوى.
ورغم الأشجان فهي سائغة الزلال، وفيها من السحر الحلال.
ومع إعادة السؤال، على ذلك المنوال.
أين نقطن؟!
أَ تُرانا نقطنُ في بروجٍ مشيّدة بأعمدة صنعتها تلك العاشقة الخرساء
وفوق أعمدة الإبداع سقف لشعورٍ عاطفيٍّ يعلوه بوح الهمس، وقد سكت الكلام، ولم يرجعه صدى .
فتدلّى زبرجد الحبرِ، الذي صنعته ذكريات الأشواق، وهي تنبعث من الأعماق، تصنع بالفصيح معجزة لقصة قال فيها القدر كلمته.
وماذا عسى للمرءِ سوى انتظار البيان يتساقط ودقًا يرنو، ثم يعانق ذلك الإنصات.
يحثّ النفسَ على نهم القراءة مرارًا وتكرارا..
فأيُّ سماءٍ لتلك النجمة المتألقة؟ وأيُّ عبورٍ يكون بين دهاليز السطور؟.. إذا تفاقمَ بنا الصمت؟ وقد دُثرنا برداءٍ يُلبسنا استحالة الخروج، بل يحثّنا بالتقوقع في محرابِ الحرف والبيان .
إنها قصة " فاطمة" الخرساء.
فكونوا مع الموعد لقراءة القصة.. فالسرد ـــ بإذن الله ـــ سوف يطول.
تحياتي.

علي قسورة الإبراهيمي
2012-10-23, 09:24
سجى الليل، واطبق الغسق على الكون، وقد اغطش الظلام.
مرّ الهزيع الثاني منَ الليل، وأحاطتِ العائلة بسرير فاطمة إحاطة القلادة بالمعصم.
حيث انتابهم الخوف والقلق، وأصابهم الأرق.. بعد أنِ انطلقتِ الزفرات، وترقرقتِ العَبرات ..
وقد أسرجَ الحزن خيولَه، ليتربَّع فوقَ عرشِ الأفئدة المكلومة المرصَّعة بدُرَرِ الهمومِ، وهواجس الآلام.
وفاطمة تصارع الردى في هدوءٍ. ينبعث الموت من كلّ أرجاء الغرفة. وهو يقصف جسدها ببردٍ وثقلٍ في وزِنه أكثر من الصخورِ الثقال.
ومع صلابة المقاومة بالعلاج الذي كان يقدّمه كلاًّ من ولدها الدكتور " رابح " و كنّتها الدكتورة " عائشة " أمام انهمار سيول المرض يُنذر بلحظات ثم سوف تكون القاضية.
إنّه الموت ! إنه الفراق و يلتفّ الساقُ بالساق! إنه الرحيل الأبدي.
ومع ذلك فالعائلة تتمسك بضربٍ من الحياة من أجله تصادم وتقاوم أن تبقى فاطمة.. لأنها كانت لهم الجدة والأم.
إنها نبع العطاء.
وبين لحظة وأخرى ينبعث من الغرفة بكاء. ثم ينخفض بسرعة خشية إفاقتها .. وتمتلئ الأعين بالدموع ..
ومع هول المنظر، وخوف المخطر.. تفتح فاطمة عينيها وتحدق في الوجوه مبتسمةً ، كأنها
تقول:
أن لا خوف عليّ.
فترى العائلة تُسارع إلى فرحٍ تعلوه الأشجان.
ومرت فاطمة المسكينة ليلتها تلك وكم تنهَّدت متألمة زفيرًا متحشرجًا بصدرها وتأوهت.
قاسمها أفراد العائلة السهاد وهجران النوم.. لكنهم بقوا متماسكين تظاهرًا يهدئون من روعها، ويخففون ما تحسه من خوالج و سكرات الموت التي تضطرب بين جوانحها، حتى بزغ الفجر مبشرًا بقرب زوال الديجور من الكون، وطلع الصبح يطارد جحافل الظلام، وأشرقت الشمس ترسل أشعتها الفضية من خلال زجاج النافذة تتسلل بدفئها إلى النفوس الساهرة الحائرة.
ففتحت فاطمة عينيها مرّة أخرى وهي ترنو في الوجوه مشيرةً أنها تريد تقبيل أفراد العائلة واحدًا واحدا..
كأنها تعود بذاكرتها إلى الأيام الخوالي، من رحلةِ الإغتراب، عن أرضِ الأحباب، ومراتعِ الصّبا والشباب.
انتظروني.

صَمْـتْــــ~
2015-07-24, 15:51
وكأن بكل واحدٍ من أفراد العائلة يعود بذاكرته إلى الوراء، ليسترجع قصة فاطمة الخرساء.
ولا يمحو تلك الذكرى تعاقب الأيام والأعوام، بل أصبحت تلك القصة منقوشة في ذاكرة العائلة نقشًا وكيانًا لا يُنسى.
تجد فاطمة ذات الخمسة عشر عامًا نفسها قد رمت بها الأقدارُ في بلدٍ غير البلد الذي فيه درجت، ومنه خرجت، مقطع سُرّتها، ومجمع أُسرتها.
بلدٌ أنشأتها تربته، وغذاها هواؤه ورباها نسيمه، وحلّت عنها التمائم فيه...
بعد أن حاق بها ظلم الزمان، إذ أخذ منها كل أفراد عائلتها يدعون إلى الموت دعًّا
فلم يبق من العائلة إلاّ حسين ابن عمّها الذي يكبرها بعشر سنواتٍ، فتجدُ فيه النصير المنقذ .
حيث أصبحت لا سند لها، ولامعين من بعد الله إلا هو.
فإذا هي في بلدٍ غريبٍ مع ابن عمها..
بلدٌ لا ترى فيه إلا زمهريرَ شتاءٍ، مع سيلٍ عرمٍ يُمزن ويُمطر في كل الفصول .
يتخلّل جوّهُ هول رعدٍ وبرقٍ، وصيِّبٍ من السماء ينهمر ويدمِّر،
يتحوَّل في لمحٍ مِنَ البصر إلى بردٍ قارسٍ في شكلٍ تركيبةٍ عجيبةٍ من الصقيع.
ثمّ تبحث فاطمة مع حسينٍ عن مكانٍ مأوى لهما.
وبعد عناءٍ وجهدٍ جهيدٍ يجدانٍ منزلاً مهجورًا يكاد أن ينقض. فيتخذاه سكنًا لهما.
وهكذا أيامٌ تكرّ، وليالٍ تمرُّ، ومع ذلك فلا شمسٌ تشرق، ولا قمر يضيء.
وفاطمة مع تقلباتٍ عجاب، رحيلٌ ونزول، ولا إشراقٌ يلوح في الأفق ولكنه أفول..
وترى فاطمة الدنيا ما هي سوى نارٌ واحتراق، وقربٌ وافتراق، ودمعٌ رقراق، ونبضٌ مشتاق، وقلبٌ خفاق.
وحول الموقد تتطلع إلى وجهِ حسين، وما حاق به من ظلم الزمن إذ أخذ القدر عائلته هو الآخر، حيث ماتت زوجته وولديه أمام ناظريه نتيجة ذلك الوباء اللعين.
وكأنه تعرض لغدرٍ أو خديعةٍ، فما ذنبه؟!
مسكينٌ هو .. فهي تدركُ ما يعانه في دواخله.. ولكنها لا تستطيع أن تخفّفَ عنه تبرمه ولا أحزانه، ولا هي تقدر أن تتحدث إليهِ وذلك لعاهتها. ولكنها ترى فيه تجهمًا فلا هو يؤنس ما حوله، مع أنّه لا يريد أن يريها أحزانه، ولكنه يعلوه الصمت الكئيب.
وتعيد الكرّةَ بالنظرِ إليه، فينقلب النظر إليها خاسئًا، فيترأى لها من بعيد هياكل الأموات التي عاشتها في بلدها الأصلي.
ويسير الزمن بطيئاً كدقات ساعة خشبية رتيبة ومملة..
يقوم حسين في الصباح الباكر بعد أن وجد عملاً ليعودَ في المساء.
وهكذا ذاوليك.. ومع ذلك فقد مرت ثلاثة أعوام
فإذا بفاطمة الطفلة الخرساء صارت فتاةً ذات الثمانية عشر ربيعًا.
تفيضُ أنوثةً وجمالا.
لتبدأَ رحلةً أخرى من العذاب الشقاء.
كونوا بالانتظار.

صَمْـتْــــ~
2015-07-24, 16:00
فاطمةُ..
وإن حرمها الله من نعمةِ النطق والكلام حتى لا تبوح لأحدٍ سيل الذكريات الماضية، وأنهار الأحزان الجارية ، ومشاعر الفؤاد الخافية. كان ذلك الصمت الأبدي. ولكن عوّضها بجمالٍ ساحرٍ، و حسنٍ باهر. يقف الناظرُ إليها منبهرًا مشدوهًا. فقد أخذت من الورد نضارتهُ، ومن البياض ملاحتهُ ونصاعتهُ، ومن السماء زرقة عينيها.
ولن أخطئَ إن قلت:
هي الجمال و قد بدأ في التفتّح.
أُتيت من الجمال ما تُغبط عليه حسدًا، وتتأوّه النفوس حرقةً وهياما.
وما من محدّقٍ إليها إلاّ ويراها ساحرة، وبجمالها باهرة . ولا يقع نظره منها على خلق قبيح أو بشعٍ صريح .. حسبها أنها جمال الجمال الذي لا نظير له ولا مثيل.
وأُتيت منَ الحسن كأنها لوحة إبداعٍ وحيدة، وآية للجمال فريدة. أبدعتها قدرة الخلاّق، تستنطق الألسن بالإعجاب.. فتبارك الله أحسن الخالقين.
ولكنّ المقتربَ منها كالمولع بالسراب، أو الماسك بأضغاث أحلام.
إذ كانت لا تتظاهر لمن حولها بالودّ، ولا بالصفاء. حتى لا يطمع الذي في قلبه بعض الزيغ .
تصد الخطر حينما تتوجس خيفة من هذا أو ذاك بقلبٍ كسير. ولكنّها تصبر وتتصابر في الموجهة ولا تنهزم. يكتنفها نُهىً لا يعرف عبارات الإعجاب ولا المجاملة، لأنها لا تعيها نظرًا لعاهتها، ولا تفقهها لِما أصابها من أهوال.
وتدرك بالحدس المصائد وتحاذر كل من يقترب منها بعقيدة غامضة كالخرافة، ولكنها راسخة في النفس تقيها وتحميها عند كل مبادهة أو مخاطرة، فتثور وتستنفر، وتصارع دون توانٍ أو وجلٍ، أو خور.
وهكذا كان دأبها وديدنها.
ورغم مرور الأيام و بعض الأعوام مع تقادم العهد لم يُر على محياها ابتسامة. لأن الجرح لا يزال غائرًا و لم يلتئم بعدُ. ولم تخرج من أحزانها لأنها تتذكر بل تعيش ما حاق بها.
فقد كانت تحيا في بيتٍ كان ميسورًا يتراوح بين الغنى والثراء، والسؤدد والجاه. ينعم أفراده بالهناءة ورغدالعيش والرضا مع الأمن والسكينة.
لكن الدهرَ كان بالمرصاد. وما هي إلا هنيهة وذهب كل شيء، وأصبح كل ذلك أثرًا بعد عين.
وها هو القدر قد رمى بها في بلدٍ غريبٍ مع خلائق لم تألف سحنتهم، ولم تتعوّد طبائعهم.
وتلك الأيام وتداولها. فانقلبت الأمور من غنىً يُثير حسد الخانقين، إلى العيش في منزل ٍمهجورٍ مع فقرٍ يشفي صدور الناقمين.
وواهًا ! من ذلٍّ بعد عزٍّ.
ومع ذلك فالعزاء أن هناك حسين الذي يخفف عنها ما رافقها من الأرزاء.
ومن هنا تبدأ الحكاية.