عبد الله الغريب
2009-09-09, 20:59
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ،وأسهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما .. أما بعد :.
فلقد استمعت منذ فترة إلى شريط مسجل بعنوان ( التحذير من فتنة التكفير) وهو عبارة عن خطبة للشيخ عبد العظيم بدوي وفقه الله ثم فرغت في رسالة صغيرة باسم : ( القول الفصل المبين في حكم من لم يحكم بما أنزل الله رب العالمين) .
ولي على ما تفضل به الشيخ في هذا الشريط بعض الوقفات والملاحظات التي أرى أن من واجب البلاغ والنصح للشيخ ولإخواني أن أذكرها وأنبه عليها وأسأل الله أن ينفع بها وان يخلص نياتنا وأقوالنا وأعمالنا لوجهه الكريم .
وقبل أن أسجل هذه الوقفات أنبه بداية إلى سبب كتابتها وما دفعني إلى ذلك رغم ما يمكن أن يقال أن هذا الكلام قد تكرر من آخرين غير الشيخ ونبه عليه أهل العلم فأقول :
- السبب الأول : أهمية ما ذكر في هذا الشريط من مسائل عقدية حري بكل مسلم أن يقف عليها اعتقادا وتطبيقا .
- ثانيا : طريقة عرض هذه المسائل حيث اتبع فيها الشيخ وفقه الله منهج التهميش للمخالفين حتى يخيل للمستمع أن الناس فيها على قول واحد ،وأن المخالف فيها خارج عن أهل ألسنة .
وإن من الإنصاف والأمانة أن من يتعرض لهذه المسائل أن يذكر ما فيها خلاف بين أهل العلم وأن يذكر من هم أهل العلم الذين خالفوا فيها ، ليراجع طالب العلم ويحقق المسائل ويحفظ للمخالفين ولأهل العلم حرمتهم وأقدارهم.
- ومما أثر عن السلف في ذلك قولهم : ( إن أهل السنة يذكرون ما لهم وما عليهم،وإن أهل البدع يذكرون ما لهم فقط ) والشيخ لم يلتزم ذلك فيما ذكره في هذا الشريط .
وقد قال مالك رحمه الله : ( ليس في زماننا هذا أقل من الإنصاف ) فإذا كان هذا في زمان مالك رحمه الله فما بالك به في هذا الزمان .
وقال ابن عبد البر في آداب طالب العلم : (من بركة العلم الإنصاف فمن لم ينصف لم يفهم ولم يتفهم .)
ثالثا : الشيخ في هذا الشريط وغيره يحاول أن يؤكد أنه لم يخرج عما قرره أهل العلم لاسيما علماء المملكة السعودية وعلماء اللجنة الدائمة على وجه الخصوص لما لهم من وزن علمي وقبول بين أطياف العاملين في العالم الإسلامي ولما هو معلوم عنهم من إتباعهم للسنة والقيام عليها علما وتعليما ودعوة ...
لذا فقد ركزت في هذه الوقفات على إبراز أمر لعله لم يخطر ببال وهو أن ما من مسالة تكلم فيها الشيخ وفقه الله وأوهم انه موافق فيها لعلماء اللجنة الدائمة إلا واللجنة قد بدعت هذا القول الذي اختاره ،وأفتت بتحريم نشره ووجوب التوبة على من قاله !
- وقد يقول قائل : إن علماء اللجنة الدائمة بشر يصيبون ويخطئون والشيخ عالم معتبر ويوافقه فيما ذهب إليه علماء آخرون غير اللجنة ...
والجواب عن ذلك : أن هذا حق لا إشكال فيه وهو ما نعتقده وندين الله سبحانه وتعالى به فهم كغيرهم بشر يصيبون ويخطئون ولكن المأخذ ليس في ذلك إنما المأخذ على الشيخ في أن يوهم أنه موافق لعلماء اللجنة الدائمة فيما ذكره من مسائل وهم في الحقيقة يخالفونه ويبدعوا كلامه ،وأيضا في إيهامه أن المسألة لا خلاف فيها أو أن الخلاف فيها واقع بين أهل السنة وأهل التكفير ثم يتبين بعد ذلك أن المخالفين له هم من يحتج بأقوالهم !
لهذه الأسباب وغيرها سجلت هذه الوقفات والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
الوقفة الأولى : التكفير ليس فتنه !
الشيخ وفقه يحذر من التكفير ويطلق القول كما في عنوان محاضرته " التحذير من فتنة التكفير" وكان الأليق بالشيخ أن يحذر من فتنة ( الغلو) في التكفير لان التكفير في ذاته ليس فتنة وليس بدعة بل هو حكم شرعي كغيره من الأحكام التي إذا أقيمت على وفق ما جاءت به الشريعة فليس بفتنة وإنما الفتنة في تجاوز حدود الله سبحانه وتعالى وذلك في كل أمر ونهي حيث قال سبحانه : ( وليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب عظيم ) الآية ، فالمخالفة عن أمر الله سبحانه وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ومنهجه وطريقته هو الفتنة وهو سبب الفتنة وذلك يكون بالغلو في تطبيقه ومجاوزة الحد أو القصور عن تطبيقه ، أما التزام ما جاءت به الشريعة فليس بفتنة ولا يكون سببا فيها ...
ولا شك أن الغلو في التكفير والتكفير بغير موجب خطأ عظيم وجرم كبير و التحذير من ذلك واجب متحتم على أهل العلم وطلابه لما في ذلك من تعدي لحدود الله واعتداء على دين المسلمين وأعراضهم ودمائهم وهذا واضح أمر لا إشكال فيه ولكن الإشكال أن يجعل نفس التكفير للكافرين الذي هو حكم الشريعة الفتنة أو البدعة ، أو أن تقابل بدعة الغلو في التكفير ببدعة التفريط والإرجاء ! فتقابل الفتنة بفتنة والبدعة ببدعة ، حتى يصل الأمر إلى التحذير من التكفير عموما بما يلزم من ذلك من تعطل أحكام الشريعة وغلق أبواب الردة باسم التحذير من فتنة التكفير !
وإن مما يجب على المسلم الغيور على دينه ، قبل أن يحذر من فتنة ( الغلو ) في التكفير ، أن يحذر أولا من فتنة الكفر والشرك الذي تطاير شراره وثار قتامه في كثير من بلاد المسلمين ، أما أن يكون للخائنين خصيما ، وللمنافقين ردءا وظهيرا ، ثم يتسلط على إخوانه الذين حركتهم الغيرة لتغيير مظاهر الكفر التي قد انتشرت في بلاد المسلمين كالنار في الهشيم - وإن أخطئوا - فهذا أبعد ما يكون عن الإنصاف ، وإلا فلو أنكر الكفر وحذر منه ، ثم حذر من الغلو في التكفير ، لكان خيرا له وأقوم .
- وفي زماننا قد وجد كثير ممن يحذرون من فتنة التكفير بل من التكفير رأسا، وألفت في ذلك الكثير من المؤلفات التي زعم أصحابها أنهم يحذرون من هذه الفتنة ثم تبين بعد ذلك أن الداء منهم والبلية فيهم وأن ثمة خلل في منهجهم واعتقادهم أدى بهم إلى رفع هذا الشعار وتقرير هذا المنهج وهو اعتقادهم في أن المسلم لا يكفر ولا يخرج من الملة وإن فعل من الكفر والشرك ما فعل ما لم يرد بذلك الخروج من الإسلام !
وهي عقيدة الإرجاء توارثها أهلها خلف عن سلف ،واستحكمت من عقول الكثير ممن ينتسب إلى العلم والدعوة خاصة في زماننا هذا ،حتى سرت إلى العامة فتشربتها قلوبهم الخاوية فشب عليها الصغير وشاب عليها الكبير فصارت فتنة بحق !
غيبت بسببها معالم الحق وضيعت حقائق الدين ،واشتبه على الناس حال الموحدين
والمشركين وذهبت عقيدة الولاء والبراء وتسلط بسببها الزنادقة والعلمانيون في رقاب المؤمنين حتى غدا للكافرين على المؤمنين كل سبيل . فإنا لله وإنا إليه راجعون .
- فلا يمكن عند هؤلاء أن يكفر من انتسب للإسلام بحال وإن ارتكب النواقض والموبقات طالما قد انتسب لهذا الدين وتسمي بأسماء المسلمين فهو مع قيامه على الشرك والكفر ومظاهرة أعداء الله موحد مخلص صادق متيقن منقاد قد حقق جميع شروط لا إله إلا الله التي جعلها العلماء شروطا لقبولها وكونها نافعة !
فهؤلاء وإن تشعبت أقوالهم فقد اتفقوا على جعل الإسلام ارق من ثوب سابري - مجرد انتساب - لهذا الدين لا يمكن أن يخرج منه صاحبه إلا أن يقرر هو الخروج فيقول أنا كافر أو أنا نصراني أو غير ذلك مهما فعل وقال من صنوف الشرك وأنواع الكفر ...
وقد حصر أغلبهم الكفر في الجحود والاستحلال صراحة ومنهم من اجتهد في وضع القيود الثقال بما يؤول به إلى ذلك .
ثم ادعوا بعد ذلك أن من يخالف ذلك فقد انتهج نهج الخوارج في التكفير وهو بذلك يستحق التحذير....
و من هذه الكتب التي ابتلينا بها كتاب ( إحكام التقرير في أحكام التكفير ) لصاحبه الشيخ مراد شكري وكتاب (التحذير من فتنة التكفير ) للشيخ علي بن حسن الحلبي وغيرهم ، ولقد حذر من هذه الكتب وغيرها أهل العلم وخاصة علماء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله ،فقد حذروا منها ومن أصحابها وصدرت الفتاوى تحذر من قراءتها وطباعتها ونشرها وأكدت على وجوب توبة أصحابها من بدعة الإرجاء ولم يمنعهم من ذلك أن أصحاب هذه الكتب ينتسبون إلى العلم والحديث والسنة ويرفعون لواءها .
- ومما جاء في فتوى اللجنة الدائمة بخصوص كتاب إحكام التقرير قولهم :
( بعد الإطلاع على الكتاب المذكور وُجد أنه متضمن لما ذُكر من تقرير مذهب المرجئة ونشره . من أنه لا كفر إلا كفر الجحود والتكذيب ، وإظهار هذا المذهب المُردي باسم السنة.....
فإن هذا الكتاب لا يجوز نشره وطبعه ، ولا نسبة ما فيه من الباطل إلى الدليل من الكتاب والسنة ،ولا أنه مذهب أهل السنة والجماعة ، وعلى كاتبه وناشره إعلان التوبة إلى الله فإن التوبة تغفر الحوبة . )
- ومما جاء من كلام اللجنة بخصوص كتابي ( صيحة نذير والتحذير من فتنة التكفير) للشيخ علي الحلبي قولها : (وبعد دراسة اللجنة للكتابين المذكورين والاطلاع عليهما تبين للجنة أن كتاب (التـحذير من فتنة التكفير) جمع : علي حسن الحلبي فيما أضافه إلى كلام العلماء في مقدمته وحواشيه يـحتوي على ما يأتي :
( بناه مؤلفه على مذهب المرجئة البدعي الباطل ، الذين يـحصرون الكفر بكفر الجحود والتكذيب والاستـحلال القلبي كما في (ص6) حاشية 2 و(ص22) وهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة من أن الكفر يكون بالاعتقاد وبالقول وبالفعل وبالشك.....
- تقوله على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ، في (ص17/18) إذ نسب إليه جامع الكتاب المذكور : أن الحكم المبدل لا يكون عند شيخ الإسلام كفراً إلا إذا كان عن معرفة واعتقاد واستـحلال ! وهذا محض تقول على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى!! فهو ناشر مذهب السلف أهل السنة والجماعة ، ومذهبهم كما تقدم، وهذا إنما هو مذهب المرجئة . ..........
- تـحريفه لمراد سماحة العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى في رسالته : ( تـحكيم القوانين الوضعية ) إذ زعم جامع الكتاب المذكور أن الشيخ يشترط الاستـحلال القلبي ، مع أن كلام الشيخ واضح وضوح الشمس في رسالته المذكورة على جادة أهل السنة والجماعة ....
- لهذا فإن اللجنة الدائمة ترى أن هذين الكتابين لا يـجوز طبعهما ولا نشرهما ولا تداولهما ؛ لما فيهما من الباطل والتـحريف، وننصح كاتبهما أن يتقي الله في نفسه وفي المسلمين )
- ومما جاء أيضا في هذا الصدد تعليق الشيخ صالح الفوزان عضو اللجنة الدائمة على كتاب هزيمة الفكر التكفير لصاحبه الشيخ خالد العنبري حيث قال :
( وقد وصل إليَّ كتاب بعنوان ( هزيمة الفكر التكفيري ) تأليف خالد العنبري ، قال فيه :
(فما زال الفكر التكفيري يمضي بقوة في أوساط شباب الأمة منذ أن اختلقته الخوارج الحرورية )
وأقول : التكفير للمرتدين ليس من تشريع الخوارج ولا غيرهم ، وليس هو فكرًا كما تقول ، وإنما هو حكم شرعي ، حَكمَ به الله ورسوله على من يستـحقه ، بارتكاب ناقض من نواقض الإسلام القولية أو الاعتقادية أو الفعلية ، والتي بينها العلماء في باب أحكام المرتد ، وهي مأخوذة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فالله قد حكم بالكفر على أناس بعد إيمانهم ، بارتكابهم ناقضًا من نواقض الإيمان ، قال تعالى ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) ﴾ سورة التوبة ، وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ ﴾ [ التوبة : 74 ] .
وقال عليه الصلاة والسلام : ( بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة ) ، وقال (( فمن تركها فقد كفر )) ، وأخبر تعالى أن تعلم السحر كفر ، فقال عن الملكين اللذين يعلمان السحر ﴿ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نـحنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ﴾ [ البقرة : 102 ] ، وقال تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ أمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ أمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً﴾ النساء 137.
وفرق بين من كفره الله ورسوله وكفره أهل السنة والجماعة إتباعا لكتاب الله وسنة رسوله ، وبين من كفرته الخوارج والمعتزلة ومن تبعهم بغير حق ، وهذا التكفير الذي هو بغير حق هو الذي يسبب القلاقل والبلايا من الاغتيالات والتفجيرات ، أما التكفير الذي يُبنى على حكم شرعي ، فلا يترتب عليه إلا الخير ونصرة الحق على مدار الزمان ، وبلادنا بحمد الله على مذهب أهل السنة والجماعة في قضية التكفير ، وليست على مذهب الخوارج .
ثم قال العنبري:{ فالواجب في الكفر البواح وهو الكفر المجمع عليه التكفير ، والتوقف عنه إرجاء خطير} .
أقول : الكفر البواح هو كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم : ما عليه برهان من الكتاب والسنة والإجماع يأتي به بعد الاستدلال بالكتاب والسنة ، نعم إذا كان الدليل محتملاً فهذا لا يـجزم بأحد الاحتمالات من غير مرجح ، أما إذا كان الدليل نصًا فهذا هو البرهان الذي لا يُعدَل عن القول بموجبه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( عندكم فيه برهان ).
والعلماء المعتبرون مجمعون على تكفير من كفره الله ورسوله ، ولا يقولون بخلاف ذلك ولا عبرة بمن خالفهم .... ) ا.هـ
مما سبق يتبين أنه ليس بالضرورة أن يكون كل من رفع لواء التحذير محقا في نفس الأمر ، بل قد يكون هذا الشعار عنوان خلل في منهجه واعتقاده ، وستارا يواري خلفه إرجاءه وتجهمه كما هو حال أولئك الذين حذر منهم أهل العلم وحرموا طباعة كتبهم ونشرها مع أن موضوع هذه الكتب وشعارها كان التحذير من فتنة التكفير !
الوقفة الثانية :
الشيخ وفقه الله افتتح خطبته بتقرير معنى قوله تعالى : (ولا يشرك في حكمه أحدا ) تقريرا جيدا ثم ذكر بعد ذلك ثلاثة مسائل جعلها كمقدمة للكلام في مسألة الحكم بما أنزل الله .
الأولى : وهي خطورة القول على الله بغير علم وهذا حق لا إشكال فيه لأن القول على الله بغير علم من أعظم المحرمات بل قرنها الله سبحانه بالشرك به في قوله تعالى ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) مما يدل على عظم هذا الجرم وإثم مرتكبه .
ولكن المتأمل يجد أن البعض قد اتخذ من هذا الكلام وسيلة يصد بها كل من يتكلم في هذه المسائل بحجة أنه لا يتكلم فيها إلا العالم ، ترسيخا منهم لمبدأ التقليد الأعمى والانقياد المطلق لما يقول ، حتى صار الحديث عن هذه المسائل التي هي من أصول الدين ودعائمه ومسلماته وثوابته كأنه جريمة وخروج عن المنهج الحق ،فلا تجد متكلما في مسائل الإيمان والكفر والتوحيد والشرك والولاء والبراء وغيرها من هذه المسائل العظيمة إلا متهما فينظر إليه بريبة وتوضع حوله علامات استفهام ؟؟؟ كيف يتكلم في هذه المسائل وهو ليس بعالم ؟
فهو إما تكفيري أو عنده غلو أو تأثر بكتابات أهل البدع !
لذا يكاد لا يوجد تحرير وافي لهذه المسائل عند هؤلاء أو عند طلابهم ، بل غاية ما يذكر في هذه المسائل هو هذا الشريط أو الكتيب الصغير الذي فرغ فيه ، وإذا تعرض إليها عرضا في شروحه فيتناولها تناولا لا يتناسب مع مقامها في الشريعة .
الوقفة الثالثة :
بعد أن انتهى الشيخ من الكلام عن مسالة القول على الله بغير علم انتقل إلى مسالة التكفير ، والكلام في مسالة ( العذر بالجهل ) والملاحظ أن ما يورده الشيخ في هذه المسالة وغيرها يقتصر فيه على ذكر ما يراه في المسالة وذكر من يوافقه من أهل العلم دون الإشارة إلى الخلاف الحاصل فيها ، فيقرر المسالة وكأنها مسالة إجماعية لم يخالف فيها أحد من أهل العلم أو أن الخلاف فيها واقع بين أهل السنة وأهل البدعة والتكفير، وهذا التناول فيه من ترك الإنصاف والإخلال بالأمانة ما فيه ،وكان أحرى به وهو الداعية السلفي أن يذكر من يخالفه
لاسيما إذا كانوا أئمة كبارا لا ينكر الشيخ فضلهم وعلمهم بل ويحتج بأقوالهم ،ولكن ما نراه من الشيخ للأسف على العكس من ذلك فمع تعميته عليهم بعدم ذكرهم وذكر حججهم وأقوالهم فقد جمعهم في سلة واحدة ورماهم عن قوس واحدة وسماهم أهل تكفير...
- ومن ذلك ما ذكره في مسالة العذر بالجهل فإنه قد صور في خطبته هذه أن الذين يخالفونه في إطلاق القول بالعذر بالجهل تكفيريون لا محالة ، بل هم من هواة التكفير ولديهم كروت حمراء يوزعونها على الناس كافر كافر ...!
وهذا الكلام أبعد ما يكون عن التحقيق العلمي لهذه المسائل وأبعد ما يكون عن الواقع .
- ولكن الشيخ ومن يطلقون القول بالعذر بالجهل يشنعون دائما على مخالفيهم بما يوحي بأنهم متسرعون في إصدار الأحكام ، يكفرون من غير تحقيق ولا روية ولا حكمة ، بل بمجرد أن يروا أحدا يقع في الشرك يسارعون في تكفيره ، ويستحلون دمه وماله ! فهل يلحق هذا التصوير والتشنيع كل مخالف للشيخ حتى ولو كان المخالف هم علماء اللجنة الدائمة كما سيأتي ؟!
- يقول ابن القيم رحمه الله في مثل ذلك : ( وكل أهل نحلة ومقالة يكسون نحلتهم ومقالتهم أحسن ما يقدرون عليه من الألفاظ ومقالة مخالفيهم أقبح ما يقدرون عليه من الألفاظ ومن رزقه الله بصيرة فهو يكشف به حقيقة ما تحت تلك الألفاظ من الحق والباطل ولا تغتر باللفظ كما قيل في هذا المعنى
تقول هذا جنى النحل تمدحه ... وان نشأ قلت ذا قيء الزنابير
مدحا وذما وما جاوزت وصفهما ... والحق قد يعتريه سوء تعبير
فإذا أردت الاطلاع على كنه المعنى هل هو حق أو باطل فجرده من لباس العبارة وجرد قلبك عن النفرة والميل ثم أعط النظر حقه ناظرا بعين الإنصاف ولا تكن ممن ينظر في مقالة أصحابه ومن يحسن ظنه نظرا تاما بكل قلبه ثم ينظر في مقالة خصومه وممن يسيء ظنه به كنظر الشزر والملاحظة فالناظر بعين العداوة يرى المحاسن مساوئ والناظر بعين المحبة عكسه وما سلم من هذا إلا من أراد الله كرامته وارتضاه لقبول الحق وقد قيل :
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... كما إن عين السخط تبدي المساويا وقال آخر
نظروا بعين عداوة لو أنها ... عين الرضا لاستحسنوا ما استقبحوا.) ا.هـ مفتاح دار السعادة
- ومما لا خلاف فيه أن الواجب على من يرى أحدا يفعل شيئا من هذه المكفرات أن يبين له ويدعوه بالحكمة والموعظة الحسنة وما يناسب هذا الموقف من اللين والرحمة ، ولعل من الحكمة أحيانا أن لا يذكر له ما يشعره بأنه قد كفر وخرج من الإسلام ويكتفى بأن يقول له هذا العمل حرام وشرك ومخالف لما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام واضع في اعتباره عموم الجهل بهذه الأمور وانتشارها بين الناس انتشار النار في الهشيم فهذا مما عمت به البلوى وعظم فيه الخطب مع قلة المنكرين لها إلى غير ذلك مما هو معلوم .
- وبعيدا عن مسالة التسرع والتكفير فإن البحث ينحصر البحث في هذه المسالة في حكم من يفعل الشرك من المسلمين ، وهذه تنظر ابتداء كمسالة علمية بحتة ، ويبحث فيها دلالة النصوص على هذا المعنى .
- ومن أصول أهل السنة في مسالة التكفير والتي تتميز بها عن الخوارج :
- أولا : أن يكون التكفير بما دل عليه الدليل الشرعي أنه كفر أكبر مخرج من الإسلام كالشرك بالله والاستهزاء بدينه خلافا للخوارج الذين يكفرون بالكبائر دون الكفر .
- وثانيا : أن يعمل بضوابط التكفير في حق من يفعل هذه المكفرات من توفر الشروط وانتفاء الموانع كالعقل والبلوغ والقصد والاختيار والإرادة كذلك الموانع كالإكراه والنسيان والخطأ والتأويل والجهل فيما ورد اعتباره فيه.
- فإذا اتفق الفريقان على ما سبق من أصول وضوابط واختلفوا فقط في التفصيل حول مانع الجهل ، فلو اقتصر الأمر على الخلاف حول دلالة النصوص لما كان يسوغ لأي من الفريقين أن يتهم الآخر بمخالفة المنهج الحق سواء بالخروج والتكفير ،أو التجهم والإرجاء ، ولما كان لمثل هذه المسالة أن تأخذ هذا الحجم الذي نراه اليوم ولكن الأمر قد عظم واستفحل بسبب ما أقحم في هذه المسالة من أصول خارجة عن مجرد دلالات النصوص في سبيل إثباتها وتأصيلها .
-فإن الخلاف في هذه المسالة وغيرها قد يكون وجيها ومقبولا إذا ما اقتصر فيه على دلالات النصوص التي وردت في شانها فتكون هي المنطلق لتحرير المسالة والمرجع في إثباتها أو نفيها ، ولكن لما تعدى البحث ذلك واتخذت أقوال وأصول أخرى أنتقل الخلاف حول هذه الأصول تحت مظلة الخلاف في العذر بالجهل .
ومن تلك الأصول :
1- قول البعض أن الكفر لا يكون إلا بالاعتقاد ، ولا يكون بالعمل .
2 - ومنها قولهم أن المسلم لا يكفر إلا بجحود ما أدخله فيه .
3- ومنها ما ذكره بعض الفضلاء من قولهم أن المسلم الذي ينطق بالشهادتين يكون لديه إيمان مجمل بالتوحيد وبراءة مجملة من الشرك لا تتنافى مع جميع مفردات الشرك إذا تاها وأقام عليها منذ أن اسلم إلى أن يموت فهو مسلم بما لديه من الإيمان المجمل والبراءة المجملة من الشرك .
4- ومنها قولهم أن المسلم لا يخرج من الإسلام إلا بقصد الخروج منه ،فلابد من قصد الكفر وإرادته وانشراح الصدر به.
5- ومنها قولهم أن المسلم لا يكفر وإن فعل الكفر والشرك لأنه قد يجتمع فيه الكفر والإيمان.
إلى غير ذلك من أقوال جعلت الخلاف يعظم ويستفحل وإن كان شدة الخلاف عند التحقيق حول هذه الأقوال ليس في أصل المسالة (العذر بالجهل).
- فالقول الأول مخالف لما هو معلوم من أصول أهل السنة من أن الإيمان قول وعمل واعتقاد والكفر يقابل ذلك فيكون بالقول أو العمل أو الاعتقاد ، فقصره الكفر على الاعتقاد أو تقرير ما يلزم منه ذلك يخالف هذا الأصل .
- والقول الثاني الذي يحصر الكفر في الجحود، والجحود نوع من أنواع الكفر ليس جميعها بل يكون الكفر بالجحود ويكون بالإباء والاستكبار ويكون بالإعراض والجهل والتولي ويكون بالسب والاستهزاء ويكون بالنفاق ويكون بالشرك وعبادة غير الله إلى غير ذلك مما يذكره العلماء في أبواب الردة.
- والقول الثالث مجرد إدعاء لا يختلف في حقيقته عند التأمل عن قول من يقول بأن المسلم لا يكفر ولا يخرج من الإسلام وإن فعل ما فعل !
فهي صياغة جديدة لهذا القول بطريقة سلفية ! حيث أن من يقرر ذلك لم يفسر وجود هذا الإيمان المجمل وهذه البراءة المجملة إلا بمجرد الانتساب للإسلام ولم يشترط لذلك إلا النطق بالشهادتين، وهذه يقولها كل مسلم ، فكل مسلم ينطق بالشهادتين وينتسب للإسلام يكون لديه هذا الإيمان وهذه البراءة ، فإذا حالت هذه البراءة دون تكفير من فعل المكفرات فقد امتنع تكفير أحد من المسلمين مطلقا !
وإلا فليقولوا لنا ماذا يشترط للبراءة المجملة من الشرك غير الانتساب والنطق بالشهادتين ؟!
فإن كان لا يشترط لها إلا ذلك فكلامنا ملزم لهم ضرورة وإن كان يشترط غير ذلك فليذكروه لنا ، ومن يتناقض ويكفر بأي صورة من صور الكفر كالسب مثلا حاججناه نحن بما قرره هو من وجود البراءة المجملة فكل مسلم لديه تعظيم مجمل لا يتنافى مع السب والاستهزاء ، ولديه انقياد مجمل لا يتنافى مع رد الشريعة وهكذا إيمان مجمل عام وبراءة مجملة عامة !
فإنه إذا كان مقتضى النطق بالشهادتين أن يكون لدى المسلم إيمان مجمل بالتوحيد وبراءة مجملة من الشرك فإنه أيضا لا يمتنع أن يقال بأنه لديه براءة مجملة عامة من جميع أنواع الكفر ، فلماذا تقصر البراءة من الشرك فقط ؟
وعليه فلا يكفر مسلم قط لأنه مهما فعل من صور الكفر فإنه لا يتنافي مع الإيمان المجمل والبراءة المجملة التي لديه وهذا أصل باطل يغلق باب الردة بالكلية ويعارض نصوصه جميعها .
- أما القول الرابع فهو حصر الكفر في كفر الجحود العناد وهذا معارض بالطبع لما في الكتاب والسنة من كفر أهل الضلال والجهل من الذين كفروا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا والذين كفروا ويحسبون أنهم مهتدون ، بل مخالف لما هو معلوم من أن أكثر الكفار هم من الجهال الضلال والأتباع المقلدين وسيأتي كلام أهل العلم في مسالة إرادة الكفر وقصده .
- أما القول الخامس فهو فهم مغلوط لقول أهل السنة في أن الإيمان أصل ذو شعب ، وأن والكفر أصل ذو شعب وأنه قد تجتمع شعبة من شعب الكفر مع أصل الإيمان فلا تبطله ولا يكفر من يرتكبها وهذا أمر متقرر لكن الفهم المغلوط والجهل المركب أن يقال بأنه قد يجتمع أصل الإيمان مع أصل الكفر! فقائل هذا ومسوده كيف يحل له أن يتكلم في هذه المسائل ؟!
- فهذه الأقوال المخالفة لهذه الأصول قد اضطرت هؤلاء إلى تفسير الإسلام وحقيقة الدين بما تستوعب جميع صور الشرك والكفر لذا قالوا يجتمع في المرء كفر وإيمان وشرك وتوحيد ! فلم يعد للإسلام حقيقة من فاتها فقد فات الإسلام ولكن الإسلام عنده يتسع دائما ليستوعب آخر ما يصل إليه هذا المشرك في شركه !
- ولعمر الله إن جهلا يعصم صاحبه من الشرك والكفر والخلود في النار لهو خير له من حمر النعم !
- ولعمر الله إن دعوة تتسبب في تكفير هؤلاء لهي عليهم أعظم جناية ووبال !
- وأيضا فلا يمكن أن يستقيم قول من يطلق القول بالعذر بالجهل مطلقا بل لا يكون عالما بالشريعة قط من يطلق القول بالعذر أو عدمه دون تفريق بين المسائل الظاهرة والمسائل الخفية الدقيقة ولا بين المتمكن من العلم المعرض عنه والعاجز عنه الذي لم يبلغه منه شيئا مع طلبه له وبذله فيه ، ولا بين ما يشترط من العلم لتحقيق أصل الدين وما لا يشترط له ذلك ثم وضع الضوابط الصحيحة لهذه الفوارق بعد تقريرها ...
- فإطلاق القول بالعذر من غير مراعاة هذه الضوابط لا يستقيم مع قواعد الشريعة مطلقا بل لا يقول به عالم قط ...
-فإذا كان من يشرك بربه جهلا مسلم في الدنيا ناج في الآخرة وأنه يحتمل إذا علَم ونبه عاند وكفر فلبقائه على الجهل حينئذ أولي من تعليمه !
-وصدق الشافعي رحمه الله حيث قال : ( لو عُذِرَ الجاهل ؛ لأجل جهله لكان الجهل خيراً من العلم إذ كان يحط عن العبد أعباء التكليف و يريح قلبه من ضروب التعنيف... )
-وأيضا فإن إطلاق القول بالعذر بالجهل لا يستقيم معه استثناء الكثير من صور الكفر بغير دليل ، فساب الدين والهازل به وساب الرسول والمستهزئ به صلى الله عليه وسلم يكفر وإن جهل ! ومن يقول إن الله ثالث ثلاثة يكفر وإن جهل ، ومن يقول بأن الله هو المسيح ابن مريم يكفر وإن جهل ! ومن يسجد للصنم يكفر وإن جهل ومن يسجد للشمس والقمر يكفر عند بعضهم وإن جهل وهكذا كلما استعظموا صورة من صور الكفر أخرجوها بلا دليل !
- فإن قيل أنتم تجزمون أن ما أتيتم به من أدلة يقطع بعموم العذر بالجهل .فهلا ذكرتم الدليل على إخراج هذه الصور ؟ أجابوا بأن هذه الصور لا يتأتى فيها الجهل ! والواقع يكذب هذه الدعوى والفرض في أنهم جهلة ليس ممتنعا . ولقد أثبت أحد الأكابر الجهل بمثل هذه الصور وقرر عذرهم فيها بسوء التربية ! ثم يقال أيضا أين ذهبت البراءة المجملة والإيمان المجمل الذي عند هؤلاء ؟ ولماذا لم تمنع البراءة المجملة من تكفيرهم كما منعت من تكفير غيرهم ممن أشرك مع اشتراكهم في الجهل ؟!
- إني أتمنى من علمائنا الأفاضل أن يراجعوا أقوالهم مرة أخرى ويعيدوا قراءة المسألة من جديد وان يراجعهم طلابهم ومحبوهم لعل الله أن يفتح عليهم ويرجعوا لأصول أهل السنة في هذا الأقوال حتى وإن بقي الخلاف حول مسالة العذر بالجهل كما هو ولكن دون التزام هذه الأقوال والله المستعان .
-أما ما يقال في هذه المسالة وما يتعلق بها من أصول فهو باختصار شديد :
- إن حقيقة الإسلام التي أرسل الله بها الرسل وأنزل بها الكتب منذ خلق الله الخلق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها هي أن يعبد الله سبحانه بلا شريك وأن يعبد بما شرع على ألسنة رسله، فمن لم يأت بهذا فلس بمسلم سواء كان جاهلا أو عالما وسواء قلنا بعذره أو لم نقل بذلك فالجهة منفكة ، فلا يجتمع مع التوحيد شرك إلا أفسده ولا مع الإيمان كفر إلا أحبطه ، فأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، وأن من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار ،وأنه من يشرك بالله فقد حرم عليه الجنة ومأواه النار ، ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ، فهذه حقيقة دين الإسلام وهذه إطلاقاته التي لم تقيد وعموماته التي لم تخصص وأصوله التي قام عليها .
- فالإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له والإيمان بالله ورسوله فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم فإن لم يكن كافر معاندا فهو كافر جاهل .ومن يقل إن هذا الإسلام خاص بالكافر الأصلي فلا يستحق أن يوجه إليه الخطاب ابتداء !
-والإيمان والكفر متقابلان لا يجتمعان ولا يزولان عند أي إنسان ، والكفر يثبت بترك الإيمان أو بفعل ما يناقضه فهذا هو المنطلق الأصيل في هذه المسالة .
- ومما ينبغي التنبيه عليه أن الجهل كمانع يختلف عن غيره من الموانع الأخرى كالخطأ والنسيان والإكراه لان الجاهل إذا فعل الكفر والشرك فهو يفعل ذلك مختارا قاصدا لهذا الفعل ولذا فإن جهله لا يمنع من وصف فعله بالكفر ولا يمنع أن تقوم بصاحبه حقائق الكفر ، وليس ذلك في المكره والناسي والمخطئ فلا يطلق على قولهم الكفر ولم تقم في أنفسهم حقائقه حيث انتفت لديهم الإرادة والاختيار التي تعتبر بها الأعمال وتتنزل عليها الأحكام ، تماما كأفعال الجمادات والعجماوات ليس لها توصيف شرعي ، فالمكره لم يرتكب كفرا أصلا والناسي والمخطئ كذلك بخلاف الجاهل الذي قصد فعله وأراده ،ولكنه جهل حكمه ، فيلزمه بذلك اسمه ووصفه ثم ينظر بعد ذلك في عذره .
- ومع ذلك فإن الإسلام يثبت للمرء بالنطق بالشهادتين أو بالولادة لأبوين مسلمين أو أحدهما أو بتبعية الدار أو بفعل ما يختص به المسلمين من شعائر .
وهذا إسلام حكمي يثبت لكل من جاء به ويثبت للمؤمن والمنافق والصغير والمجنون .
- وما يذكره بعض الأفاضل من أدلة في مسالة العذر بالجهل لا يفيد العموم مطلقا بما يتضمن نقض حقيقة الإسلام من التوحيد ونبذ الشرك فليس ثمة نص في المسالة يفيد هذا العموم وهذا هو المنطلق الثاني في تقرير هذه المسالة .
- وما ذكروه من أدلة يمكن جعله على أقسام :
- قسم يختص بمسائل العذاب وان الله سبحانه لا يعذب إلا من قامت عليه الحجة بالرسول ، وهذا حق نقول به ونعتقده فإن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدا إلا من قامت عليه الحجة بالرسول لقوله جل شانه ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) ولكنا مع ذلك نثبت انفكاكا بين استحقاق العذاب وبين الوصف الشرعي لمرتكب الكفر والفسق وغير ذلك حيث لا تلازم بينهما ، فالمنافق مثلا يحكم له بالإسلام في الدنيا ومع ذلك فهو من أشد الناس عذابا في الآخرة ، وأطفال الكفار ومجانينهم كفار في الدنيا ومع ذلك فالخلاف في تعذيبهم في الآخرة حاصل بين أهل السنة ، ومن نحكم عليه بالفسق والبدعة في الدنيا قد يحول دون عذابه في الآخرة حسناته العظيمة أو شفاعة شافع أو عفو من الله سبحانه وتعالى ..وهكذا
فإذا ثبت الانفكاك وعدم التلازم فلا يصح الاستدلال بهذه الأدلة على رفع الوصف الشرعي الثابت للمكلف والمنوط بفعله أو قوله .
وهذا الكلام قد ذكر مرارا ولكن الإخوان لا يملون من تكرار الاستدلال بهذا النوع من النصوص !
- أما القسم الثاني من الأدلة فبعضه حق لدلالته على العذر بالجهل ولا ينكر ذلك إلا مكابر، ولكنا نقول كما سبق بأنه ليس شيئا من هذه الأدلة يصح في الشرك بالله وعبادة غيره ونقض حقيقة الإسلام ومجموع الأدلة لا تفيد العموم الذي يتضمن ذلك .
فنقول حيث جاءت هذه النصوص تطبق فيما جاءت فيه وفيما هو من نظيره فهذا هو الصحيح فيها إن شاء الله .
- وغالب ما يذكر من هذه النصوص يمكن أن يقال بأن صاحبها في حال مظنة جهل لعدم البلوغ أو التمكن من العلم كحديث عهد بالإسلام أو من في مكان لا يصله العلم أو في المسائل الخفية كحديث الذي أمر أهله أن يحرقوه إذا مات ، وحديث عائشة رضي الله عنها وسؤالها النبي عليه الصلاة والسلام : مهما يكتم الناس الله يعلمه ؟ – إن صحت الرواية بذلك – فهذا جهل بكمال القدرة وكمال العلم مع إثبات أصلهما وإلا فإن كان ينفي القدرة ابتداء فلم يأمر أهله أن يحرقوه أصلا ؟ وممن يخاف ؟ أما صفة العلم فقد كان المشركون يثبتونها قبل البعثة (خلقهن العزيز العليم ) فهل تجهل عائشة أم المؤمنين هذه الصفة؟
والحق أن هذه النصوص وما شاكلها إنما يصلح للاحتجاج به في المسائل الخفية والمسائل الدقيقة سواء في مسائل الأصول أو مسائل الفروع والتي يخفى دليلها في نفسها ولا تشتهر عند أكثر الناس وهذه لا إشكال في عذر من يخالف فيها لمظنة الجهل بها ، ولكن يحتج بهذه النصوص على ما جاءت فيه وما هو من نظيره ولذا فإن شيخ الإسلام رحمه الله وفي قرابة ثلاثة عشر موضعا من كتبه يحتج بهذا الحديث على عدم تكفير أصحاب المقالات من أهل البدع من المعتزلة وغيرهم ممن تكلموا في مسائل الصفات والقدر وغيرها فإنها من خفي المسائل ودقائقها حتى قال ابن الوزير رحمه الله : إن هذا الحديث أرجى حديث لأهل الخطأ في التأويل .
فهذه الأدلة وما في معناها حق لا إشكال فيها نقول بها ونصدق بدلالتها على ما جاءت فيه وليس منها شيء في الشرك الأكبر ولا في ما ينقض حقيقة الإسلام ، ومن ذلك ما ذكر من قصة ذات أنواط فنفس القول الذي صدر من الصحابة ليس بكفر وإن كان يشبه بوجه قول الكفار وهم قالوا ولم يقيموا على قولهم بل رجعوا في الحال لتحذير النبي وغضبه من هذا القول الذي شبهه بقول بني إسرائيل اجعل لنا إلها ، وهو نفس الغضب الذي انتابه عليه الصلاة والسلام لما قال له الرجل ما شاء الله وشئت فقال أجعلتني لله ندا فمثَل هذه الكلمة بجعله لله ندا .ولا شك أن من جعل لله ندا فهو كافر، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام كان بأقواله وأفعاله يقطع كل علائق الشرك وذرائعه وما يؤدي إليه خفيا كان أم جليا أصغر كان أو أكبر .
- أما سجود معاذ فهو سجود تحية وإكرام وليس سجود عبادة وهو في شريعتنا كبيرة من الكبائر وقد حرم في حديث معاذ فلا يسجد لغير الله مطلقا تعظيما أو إكراما أو تحية أو عبادة ومن سجد تحية وإكراما لغير الله فهو مرتكب كبيرة وليس مرتكب كفر ولا شرك وعلى هذا نص العلماء ومثله الطواف فقد أختلف فيه هل هو عبادة مجردة يكفر من يفعلها بمجرد فعله أم هو عبادة بقصد التعظيم فهذه صور وغيرها فيها تفصيل لا تصلح للاستدلال على ما نحن بصدده وهكذا بقية الأدلة ...
- والبعض الأخر من الأدلة ليس فيه دلالة أصلا على ما جاء فيه فهو مردود.
ومنه ما يزعم أنه إجماع ، كما ينقل البعض عن ابن حزم رحمه الله ما ذكره فيمن يخطئ في التلاوة فيزيد كلمة أو ينقص كلمة جهلا منه فيأتي البعض فيقول هذا الإجماع على العذر بالجهل ! ومثل هذا الكلام كثير وهو عند التأمل يدل على أن من يستدل به لم يحرر محل النزاع أو لم يتأمل فيما ينقل .
- ومع ما سبق فإنه قد يعذر المشرك بالجهل بمعنى عدم العذاب في الدنيا أو الآخرة إلا بعد العلم ، لكن لا يسمى مسلما موحدا مع شركه وكفره بحال حيث أثبتنا الانفكاك بين العذاب والوصف المستحق بمجرد الفعل أو القول ولأنه لا تجتمع حقيقة الإيمان والكفر في قلب إنسان فهما متقابلان لا يجتمعان ولا يزولان فإذا زال أحدهما خلفه الآخر .
- وفي استحقاق العذاب فإنه يفرق بين الجاهل العاجز عن رفع الجهل عن نفسه مع اجتهاده في ذلك وسعيه فهذا يعذر، وبين الجاهل المعرض المتمكن من العلم فهذا لا يعذر ، أما مسائل العذاب في الآخرة وقيام الحجة على العبد فمرجعها إلى الله سبحانه فهو أعلم بمن قامت عليه الحجة ممن لم تقم عليه ، وليس لنا إلا حكمه في الدنيا فمن ارتكب ناقضا من نواقض الإسلام فهو كافر يستناب فإن تاب وإلا قتل . وفي ذلك ما لا يحصر من كلام العلماء من السلف والخلف والله أعلم .
- ومن يدعي أن من لم يعذر بالجهل في التوحيد والشرك فإنه لا يعتبر بهذه النصوص ولا يعمل بها فهو مخطئ أتي من سوء فهمه ، بل نقول بها جميعا ونعملها فيما جاءت فيه ،وليس منها شيء في الشرك الأكبر ،ولا يفيد مجموعها العموم بما يتضمن الشرك الأكبر ونقض حقيقة الإسلام .
ولا يلزم من تقرير ذلك القول بتكفير الناس بالعموم بل لا يلزم منه تكفيرهم أصلا وإن ارتكبوا هذه المكفرات ، ومن يزعم أن من لا يعذر بالجهل فهو يكفر الناس بالعموم أو أنه يمتهن تكفيرهم فهو مخطئ أتي من سوء فهمه وسوء ظنه بإخوانه أو حكم على الجميع بما قد رآه من أحوال بعض الجهلة ، وهذا أبعد ما يكون عن الإنصاف والتحقيق !
- بل نحن نقرر عقائد الإسلام وحقائق التوحيد والإيمان فنحول دون تغيير هذه الحقائق أو الإخلال بهذه الثوابت - بقصد أو بدون قصد - وهذا حقيقة الصراع بيننا وبين من يخالفنا في هذه المسائل .
- ومع ذلك فنحن أرحم الناس بالناس ندعوهم ونعلمهم ونبين لهم ونشفق عليهم ونبذل لهم من أنفسنا وأموالنا وأعراضنا في سبيل دعوتهم وبيان الحق لهم والأخذ بأيدهم للخروج من هذه الظلمات والجهالات متحملين في ذلك ألوان الابتلاءات من الطواغيت الذين سلطوا على رقاب المسلمين وعملوا على نشر الكفر والشرك وحرسوه ودعموه وحالوا دون وصول أهل الحق إلى هؤلاء تارة بسجنهم وقتلهم وتارة بالتشنيع عليهم وتشويه صورهم ، مع ما يقوم به البعض ممن ينتسب إلى العلم والدعوة من التشنيع علينا بسوء فهمه وضيق عطنه وعدم تأمله فيصفنا تارة بالتوقف وتارة بالتكفيريين وتارة بالخوارج إلى غير ذلك من أنواع التشنيعات التي لا تزيدنا في الحق إلا صلابة بفضل الله .
- وإن مما نعتقده ونربي عليه أنفسنا وإخواننا بل وندعو إليه أيضا أن الواقع الذي نعيش فيه واقع قد التبست فيه معالم الحق وعم فيه الجهل بمسلمات الشريعة حتى التبست على أكثر الناس حقائق الإيمان والكفر والتوحيد والشرك بل التبست عليهم حقيقة الدين الذي جاء به الرسول ونزل به الكتاب ،وإذا كان النبي في وقته قد ترك تكفير من علم كفره بنص الكتاب لئلا يقول الناس إن محمدا يقتل أصحابه فيصد عن قبول الحق أقوام ، فلنا في ذلك أسوة ودليل في ترك التكفير والتشهير وإتباع منهج الدعوة والبيان ،فنحن في واقع دعوة لا واقع إصدار أحكام لاسيما وإن هذه الأحكام من أخفى ما يكون على الناس ، بل على خاصة الناس من بعض الدعاة وطلاب العلم ! فلا مصلحة شرعية من تكفيرهم ثم تركهم على ما هم عليه من الشرك ، أو تكفيرهم ثم دعوتهم بعد ذلك حيث أن النفس تأبى ذلك اشد الإباء .فإن التكفير أشد ما ينفر منه الناس ، حتى إن الكافر الأصلي لا يقبل أن يوصف بالكفر ويروى أنه ما اشتد أذى المشركين للمسلمين إلا بعد ما نزلت قل يا أيها الكافرون ، فإذا كان هذا في الكافر الذي لم يؤمن بالإسلام فكيف بمن ينتسب إليه ويولد فيه ويطبق بعض أحكامه ؟
وكيف إذا كان التكفير بما ليس بمكفر أصلا كما يحدث من بعض أهل الغلو ؟!
لذا فإن علينا واجب البلاغ والدعوة إلى الله مع تأليف الناس وتألفهم وتزين الحق لهم وتيسيره عليهم وعدم التشديد عليهم في التزام الأحكام حتى يستفيض العلم وتصحح المفاهيم ويرفع الالتباس حول حقائق الإسلام فحينها نكون قد أدينا ما علينا من واجب البلاغ فيهلك من هلك عن بينة ويحي من حي عن بينه .
وهذا كله لا يتنافى مع تقرير أحكام الشريعة في هؤلاء وفي أفعالهم وأقوالهم ، والذي يخلط بينهما أو ويثبت بينهما تلازما فحري به أن لا ينظر في قوله إذا تكلم في هذه المسائل !
- أما من يقول بأن تكفير هؤلاء العوام الذين وقعوا في أصناف الشرك هو من ضرورة تحقيق التوحيد وأصل الدين حيث أن تكفيرهم هو بمعنى البراءة منهم ، والبراءة من الكفار ركن في التوحيد وأصل الدين ، فمن لم يكفرهم لم يكن محققا لأصل دينه ، ولا عذر لمن لم يحقق أصل الدين ، ثم يقرر بأن من يعذر بالجهل كافر لأنه لم يحقق البراءة من الكافرين ...
فهؤلاء هم أهل الغلو في هذه المسالة وهذا من أعظم أصولهم الباطلة التي تقابل أصول أهل التفريط - إن صح التعبير- ،إذ أن التكفير ليس بمعنى البراءة لا لغة ولا شرعا ، وإنما تكون البراءة بعد ثبوت وصف الكفر ابتداء ، لقوله تعالى ( فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ) فالبراءة لا تكون إلا بعد ثبوت الكفر فكيف تكون هي معناه ؟!
ومن يعذر بالجهل أو غيره لم يثبت لديه كفر هؤلاء ولا يتبين له ذلك ،فهم وإن أخطئوا فلهم من الأجر مع خطأهم بقدر اجتهادهم وابتعادهم عن التزام الأصول الفاسدة التي سبق ذكرها ، وبهذا أفتت اللجنة الدائمة في الفتوى رقم : ((11043)).
- وعلى كل حال فإذا غضضنا الطرف عن كل ما سبق وعن كل هذه الإفرازات التي نتجت ، فإن المسألة مجردة تعد في النهاية مسالة علمية اجتهادية حول دلالة النصوص على اعتبار عذر الجهل أو عدم اعتباره ، فلا يقال أن المخالف فيها تكفيري أو خارجي لأنه يلتزم بالضوابط الشرعية فيكفر بما اتفق على أنه كفر أكبر مخرج من الملة ويعتبر جميع الأعذار المتفق عليها من الإكراه والخطأ والنسيان وغيرها ويخالف فقط في شرط العلم ومانع الجهل يزعم أن الأدلة لا تدل على عمومه بما يتضمن التوحيد .
- وحيث أن المقام ليس مقام استطراد وتفصل لهذه المسالة فاذكر فقط ممن يخالف الشيخ في هذه المسالة بعض أهل العلم منهم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ومن مصر الشيخ حامد الفقي رئيس جمعية أنصار السنة السابق والشيخ عبد الرحمن الوكيل أيضا رئيس جمعية أنصال السنة السابق وسأكتفي بهؤلاء لتأكيد أن المخالفين للشيخ في هذه المسالة علماء كبار لا ينبغي تجاوزهم أو تجاوز أقوالهم إذا ذكرت المسالة فضلا أن يوصفوا بأنهم خوارج أو تكفيريون...
- وأبدا بذكر فتوى للشيخ ابن باز برقم 3548 قال رحمه الله :
" من مات على الشرك جاهلا لعدم مجيء أحد إليه يعرفه معنى التوحيد وأن النذر والدعاء عبادة لا يجوز صرفها لغير الله ، فهو مشرك كافر لا يجوز المشي في جنازته ولا الصلاة عليه ولا الدعاء والاستغفار له ولا قضاء حجه والتصدق عنه .
وهؤلاء ليسوا بمعذورين بما يقال عنهم أنهم لم يأتهم من يبين أنه هذه الأمور المذكورة التي يرتكبونها شرك لأن الأدلة في القرآن واضحة وأهل العلم موجودون لديهم "
- وهذه أيضا بعض إجابات الشيخ ابن باز حول مسألة العذر بالجهل في شرحه لكتاب كشف الشبهات :
س : الاختلاف في مسائل العذر بالجهل هل من المسائل الخلافية ؟
ج : مسألة عظيمة ، والأصل فيها أنه لا يعذر من كان بين المسلمين من بلغه القرآن والسنة ، ما يعذر.
الله جل وعلا قال :" وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ "، من بلغه القرآن والسنة غير معذور ، إنما أوتي من تساهله وعدم مبالاته .
س : لكن هل يقال هذه مسألة خلافية ؟
ج : ليست خلافية إلا في الدقائق التي قد تخفى مثل قصة الذي قال لأهله حرقوني . صـ 26 – 27
س : كثير من المنتسبين للسلفية يشترطون في إقامة الحجة أن يكون من العلماء فإذا وقع العامي على كلام كفر يقول ما نكفره ؟
ج : إقامة الدليل كل على حسب حاله .
س: هل يجب على العامي أن يكفر من قام كفره أو قام فيه الكفر ؟
ج: إذا ثبت عليه ما يوجب الكفر كفره ما المانع ؟!
إذا ثبت عنده ما يوجب الكفر كفره مثل ما نكفر أبا جهل وأبا طالب وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ، والدليل على كفرهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاتلهم يوم بدر .
س: يا شيخ العامي يمنع من التكفير ؟
ج : العامي لا يكفِّر إلا بالدليل ، العامي ما عنده علم هذا المشكل ، لكن الذي عنده علم بشيء معين مثل من جحد تحريم الزنا هذا يكفر عند العامة والخاصة ، هذا ما فيه شبهة ، ولو قال واحد : إن الزنا حلال ، كفر عند الجميع هذا ما يحتاج أدلة ، أو قال : إن الشرك جائز يجيز للناس أن يعبدوا غير الله هل أحد يشك في هذا ؟! هذا ما يحتاج أدلة ، لو قال : إن الشرك جائز يجوز للناس أن يعبدوا الأصنام والنجوم والجن كفر .
التوقف يكون في الأشياء المشكلة التي قد تخفى على العامي .صـ 34
س : ما يعرف أن الذبح عبادة والنذر عبادة !
ج : يعلَّم ، الذي لا يعرف يعلَّم ، والجاهل يعلَّم .
س : هل يحكم عليه بالشرك ؟
ج : يحكم عليه بالشرك ، ويعلَّم أما سمعت الله يقول :"أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا "
قال جل وعلا :" ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ".
ما وراء هذا تنديدا لهم ،نسأل الله العافية .صـ 42
س : من نشأ ببادية أو بيئة جاهلية ؟
ج : يعلَّم أن هذا شرك أكبر حتى يتوب ، يقال له هذا شرك أكبر عليك بالتوبة إلى الله .
مثل ما كان المشركون يطوفون بالقبور ونصبوا عند الكعبة ثلاثمائة صنم وأرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم فالذي أجاب وهداه الله فالحمد لله والذي ما أجاب مشرك هذا وأغلبهم جهال ، خرجوا إلى بدر جهال ، وإلى أحد جهال ،تابعوا رؤساءهم.
قال الله جل وعلا :" أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا "
مع هذا حكم عليهم بالكفر .صـ 55 - 56
س : يذكر العلماء في أهل البادية أن الأعرابي قد يعذر فما هي المسائل التي قد يعذر فيها صاحب البادية ؟ وهل هذا خاص بزمن النبي صلى الله عليه وسلم عند بداية الإسلام ؟.
ج : يعذر الأعرابي وغير الأعرابي بالشيء الذي يمكن جهله مثل بعض أركان الصلاة ، بعض أركان الزكاة ، بعض المفطرات .
أما إذا جحد الصلاة رأسا وقال :لا أصلي ، أو جحد الصيام رأسا وقال لا أصوم رمضان ، ما يعذر لأن هذا الشيء معلوم من الدين بالضرورة كل مسلم يعرف هذا أو جحد شروط الحج أو أن عرفة من واجبات الحج ومن أعمال الحج لأنه قد يخفى عليه ، لكن يقر بالحج أنه فرض مثل هذه قد تخفى على العامي .
س : يذكر يا شيخ أحسن الله إليك عن بعضهم أنه ما يعرف الجنابة ، وأنه ما يغتسل منها ؟
ج : يعلَّم ، العامي قد لا يفهم خصوصا بعض النساء ، يعلَّم ولا يكفر .
س : من وصلته كتب منحرفة ليست فيها عقيدة ولا توحيد هل يعذر بالجهل ؟
ج : إذا كان بين المسلمين ما يعذر بالشرك أما الذي قد يخفى مثل بعض واجبات الحج أو واجبات العمرة أو واجبات الصيام أو الزكاة بعض أحكام البيع ، وبعض أمور الربا ، قد يعذر وتلتبس عليه الأمور .
لكن أصل الدين كونه يقول أن الحج غير مشروع أو الصيام غير واجب أو الزكاة غير واجبة ، هذا لا يخفى على المسلمين ، هذا شيء معلوم من الدين بالضرورة .
س : لو قال لا بد أن تتوفر شروط فيمن أًريد تكفيره بعينه وتنتفي الموانع ؟
ج : مثل هذه الأمور الظاهرة ما يحتاج فيها شيء ، يكفر بمجرد وجودها ، لأن وجودها لا يخفى على المسلمين ، معلوم بالضرورة من الدين بخلاف الذي قد يخفى مثل شرط من شروط الصلاة ، بعض الأموال التي تجب فيها الزكاة ، تجب أو لا تجب ، بعض شؤون الحج ، بعض شؤون الصيام ، بعض شؤون المعاملات ، بعض مسائل الربا . صـ 99 – 100.
س : بعض الناس يقول : المعين لا يكفر .
ج : هذا من الجهل ، إذا أتى بمكفر يكفر .صـ 117
س : يا شيخ جملة من العاصرين ذكروا أن الكافر من قال الكفر أو عمل بالكفر فلا يكفر حتى تقام عليه الحجة ، ودرجوا عباد القبور في هذا ؟
ج : هذا من جهلهم عباد القبور كفار ، واليهود كفار والنصارى كفار ولكن عند القتل يستتابون ، فإن تابوا وإلا قتلوا.
س : يا شيخ مسألة قيام الحجة ؟
ج : بلغهم القرآن ،هذا بلاغ للناس ، القرآن بلغهم وبين المسلمين "وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ "
" هذا بلاغ للناس " ، " يا أيها الرسول بلغ "
قد بلغ الرسول ، وجاء القرآن وهم بين أيدينا يسمعونه في الإذاعات ويسمعون في غيرها ، ولا يبالون ولا يلتفتون ، وإذا جاء أحد ينذرهم ينهاهم آذوه ، نسأل الله العافية .
س : حديث الرجل الذي قال إذا مت حرقوني ؟
ج : هذا جهل بعض السنن من الأمور الخفية من كمال القدرة ، جهلها فعذر حمله على ذلك خوف الله ، وجهل تمام القدرة فقال لأهله ما قال .
س: سجود معاذ للنبي صلى الله عليه وسلم ؟
ج : هذا إن صح في صحته نظر ، لكن معاذ لو صح ظن أن هذا إذا جاز لكبار قادة المشركين هناك فالنبي أفضل ، هذا له شبهة في أول الإسلام ، لكن استقر الدين وعرف أن السجود لله ،وإذا كان هذا أشكل على معاذ في أول الأمر لكن بعده ما يشكل على أحد . صـ 126 – 127
- وهذه إحدى فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء نذكرها لان الشيخ قد ختم محاضرته بالنقل عنها أكثر من فتوى وسيأتي التعليق على ذلك إن شاءا لله .
- أما فتاوى اللجنة الدائمة فهي كثيرة وأذكر منها أشهرها وأدلها في هذه المسالة وهي الفتوى رقم (4400) السؤال :
( هناك من يقول : كل من يتقيد برسالة محمد صلى الله عليه وسلم واستقبل القبلة بالصلاة ولو سجد لشيخه لم يكفر ولم يسمه مشركا، حتى قال: إن محمد بن عبد الوهاب الذي تكلم في المشركين في خلودهم في النار إذا لم يتوبوا قد أخطأ وغلط، وقال: إن المشركين في هذه الأمة يعذبهم ثم يخرجهم إلى الجنة، وقال: إن أمة محمد لم يخلد فيهم أحد في النار. )
- الجواب :
( كل من آمن برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسائر ما جاء به في الشريعة إذا سجد بعد ذلك لغير الله من ولي وصاحب قبر أو شيخ طريق يعتبر كافرا مرتدا عن الإسلام مشركا مع الله غيره في العبادة، ولو نطق بالشهادتين وقت سجوده؛ لإتيانه بما ينقض قوله من سجوده لغير الله. لكنه قد يعذر لجهله فلا تنزل به العقوبة حتى يعلم وتقام عليه الحجة ويمهل ثلاثة أيام؛ إعذارا إليه ليراجع نفسه، عسى أن يتوب، فإن أصر على سجوده لغير الله بعد البيان قتل لردته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من بدل دينه فاقتلوه صلى الله عليه وسلم أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما، فالبيان وإقامة الحجة للإعذار إليه قبل إنزال العقوبة به، لا ليسمى كافرا بعد البيان، فإنه يسمى: كافرا بما حدث منه من سجوده لغير الله أو نذره قربة أو ذبحه شاة مثلا لغير الله، وقد دل الكتاب والسنة على أن من مات على الشرك لا يغفر له ويخلد في النار؛ لقوله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وقوله: ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفى النار هم خالدون وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد, وآله وصحبه وسلم. )
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو، نائب رئيس اللجنة، الرئيس
عبد الله بن قعود، عبد الرزاق عفيفي، عبد العزيز بن عبد الله بن باز>
وأيضا تراجع فتوى رقم (11043) فهي في هذا الباب .
وهذان علمان من أعلام مصر وكل منهما قد تولى رئاسة جمعية أنصار السنة التي ينتسب إليها الشيخ الآن فأولهما العلامة محمد حامد الفقي رحمه الله- وله تعليق حول العبارة المنسوبة لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وهو قوله : ( و إذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على عبد القادر و الصنم الذي على قبر أحمد البدوي و أمثالها لأجل جهلهم ..الخ ) ا.هـ.
فقال الشيخ رحمه الله : ( في هذه العبارة نقص أو تحريف، لا بد . فإن مؤداها خطأ واضح ينافي نصوص القرآن و السنة، و إذا لم يكفر من يعبد الصنم فمن يكفر غيره ؟ . و هذا بلا شك خلاف دعوة الإسلام و دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب المعروفة من كتاب التوحيد و كشف الشبهات و الثلاثة الأصول و غيرها من كتبه الصريحة في أنه : لا يصح إسلام أحد إلا إذا عرف ما هي الطواغيت و كفر بها و عاداها و عادى عابديها كما قرر إبراهيم عليه السلام في قوله لقومه : ( أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم و آباؤكم الأولون، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ) الآيات .وهذا أوضح في القرآن و السنة و كلام أهل العلم و الدين من أن ينبه عليه .و الداعي إلى الله و إلى إخلاص العبادة له، لا يضيره أبدا أن يرمى من أعداء الله بأنه ( يكفر الناس و يسميهم مشركين )، فإن ذلك من لازم دعوته إلى توحيد الله و الإيمان به، إذ لا يمكن الدعوة إلى الإيمان إلا ببيان الكفر و الكافرين، و الشرك و المشركين، بل إن منطوق كلمة ( لا إله إلا الله ) مستلزم ذلك ... فليس الداعي إلى الله هو الذي يحكم بالكفر و الشرك و وجوب النار للمشركين و الكافرين، إنما هو يخبر عن الله و ينشر كلمات الله و آياته و أحكامه مبشرا و نذيرا . فالله هو الذي يقول : ( و ما أكثر الناس و لو حرصت بمؤمنين )، و هو الذي يقول : ( و قليل من عبادي الشكور )، و غير ذلك لا يحصى من الآيات التي يهدم بها دعاوى من يدعي الإسلام و الإيمان من الجاهلين قديما و حديثا، فواجب الداعي إلى الله أن يبين ذلك في صراحة و شجاعة لا يخاف لومة لائم و لا تشنيع مشنع ... ) ا.هـ هامش رقم 1، على كتاب مصباح الظلام، صـ 28.
- وقال رحمه الله : ( و هل وقع الناس في هاوية الضلال و الشرك إلا بالجري على عادة الآباء و الشيوخ !؟، و هل هذه تنفع حجة أو عذرا !؟ بعد أن أقام الله عليهم الحجة بما قرأوا في القرآن و السنة من آيات الله و أحاديث التوحيد التي هي أكثر شيء و أبينه من قول الله و رسوله ) ا.هـ. ( المصدر السابق، هامش رقم 1، ص : 182 ) .
- والثاني هو الشيخ عبد الرحمن الوكيل رحمه الله وهو العالم السلفي الكبير و الداعية المجرب الخبير، الذي عاش ردحا من عمره مع عباد القبور في بلاد مصر، و كان منهم و مثلهم، ثم هداه الله تعالى إلى التوحيد و السنة فصار حربا على الشرك و الوثنية، و ألف في حرب الوثنية واحدا من أهم الكتب على الإطلاق و هو كتابه هذه هي الصوفية .
- قال رحمه الله : ( و عجب مغرب في العجب، أن نغضب، بل نرتجف من الحنق إذا دُعينا نحن بغير أسمائنا، و نحقر من ينتسب إلى غير أهله، ثم لا نغضب من نعت الباطل بأنه حق !! و عجب ذاهل الدهشة أن نرمي بالعمى و الجهالة من يسمي الليل : بأنه نهار مشمس، أو من يقول عن المر : إنه حلو، أو من يقول عن الثلاثة : إنها واحد !! أو من ينسب إلى مذهب رأي مذهب آخر ، أو من يخطئ في حقيقة تاريخية، أو جغرافية، أو مادة قانونية،.. ثم لا نرمي بهما -بالعمى و الجهالة- من ينعت الصوفية بأنها إسلام صحيح، و من يقول عن الطائفين حول القبور ، اللائذين بأحجارها الصم إنهم مسلمــون !! ثم يمكر ليحسب مع المسلمين، فيقول عن أولئك : و لكنهم مخطئون !! .
عجب أن نكفر من ينسب إلى محمد -صلى الله عليه و سلم- حديثا موضوعا، و القائلين بأن الله ثالث ثلاثة، ثم نحكم بالإيمان الحق لمن ينسبون إلى النبي أنه الصوفي الأول، و أنه الموحي بدين الصوفية !! من يقولون : إن الله عين كل شيء و أنه مليون ملايين !! نحكم بإيمان هؤلاء ، لا لشيء سوى أن لهم أسماء تشاكل أسماء المسلمين !! .
إن الحق و الدفاع عنه يحتمان علينا أن نسمي كل شيء باسمه، و نصفه بصفاته، و إلا افترينا عليه، و جعلنا للباطل السورة و الصولة، و داجينا في الإيمان . أما هذه النعـومة و الطراوة و الرخاوة المخنثـة في الذياد عن الحق، و الجهر بكلمة الحق، أما ذلك فشر أنواع الجبانة الذليلة، و الخداع و الرياء و العجز المهين ..الخ . ) ا.هـ. مقدمة كتابه (هذه هي الصوفية) .
- وأخيرا فليس من الإنصاف أن يهمش ذكر هؤلاء وليس من الأمانة أن تصور المسالة وكأنها إجماعية ثم يرمي علماء الأمة بأنهم تكفيريون خوارج .
الوقفة الرابعة :
ذكر الشيخ وفقه الله قول الشوكاني في السيل الجرار واحتج به في مسالة التكفير والعذر بالجهل حيث نقل قوله :
( اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ، ودخوله الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار ، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن : من قال لأخيه يا كافر ، فقد باء بها أحدهما . هكذا في الصحيح وفي لفظ آخر في الصحيحين وغيرهما : من دعا رجلاً بالكفر ، أو قال : عدو الله ، وليس بذلك إلا حار عليه . أي رجع . وفي لفظ في الصحيح فقد كفر أحدهما . ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير وقد قال الله عز وجل : ولكن من شرح بالكفر صدراً . فلا بد من شرح الصدر بالكفر ، وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه . فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشر ، لا سيما الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر ، ولا اعتبار بلفظ تلفظ به المسلم يدل على الكفر وهو لا يعتقد معناه ) ا.هـ
- و أنبه ابتداء على أن الشوكاني رحمه الله له العديد من المؤلفات أو الرسائل قد تكلم فيها عن هذه المسالة تحديدا منها :
- رسالة في مسائل التوحيد والشرك وهي الرسالة الأولى في كتاب الفتح الرباني .
- ومنها رسالة العذب النمير في جواب مسائل بلاد عسير وهي أيضا مجموعة ضمن كتاب الفتح الرباني تحقيق حلاق .
- ومنها كتاب الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد .
وما ذكره الإمام الشوكاني رحمه الله في السيل الجرار يبدوا متعارضا لما في هذه الرسائل وما فيها من تقريرات صريحة ومخالفة لما ذكره في هذا الموضع ،حيث نص نصا صريحا كما سيأتي على عدم العذر بالجهل في مسائل الشرك الأكبر ونص أيضا على أن الردة لا يعتبر في ثبوتها العلم ،وغير ذلك مما سيأتي نقله ، ولذلك ينبغي أن يوجه هذا القول أو ينقد بما يتوافق مع ما ذكره في هذه الكتب ،جمعا لأقوال الإمام بعضها إلى بعض .
- وهذه بعض نقولات من كلامه رحمه الله في هذه المسالة (العذر بالجهل) أنقلها من الكتب والرسائل التي أشرت إليها .
- قال رحمه الله: ( ثم انظر كيف اعترف بعد أن حكم علي هذا الكفر بأنه كفر عمل لا كفر اعتقاد بقوله : " لكن زين له الشيطان أن هؤلاء عباد الله الصالحين ينفعون ويشفعون . فاعتقد ذلك جهلاً كما اعتقده أهل الجاهلية في الأصنام " ، فتأمل كيف حكم بأن هذا كفر اعتقاد ككفر أهل الجاهلية وأثبت الاعتقاد ، واعتذر عنهم – كما هو حال صاحب الكلام الذي نقلناه لك – بأنه اعتقاد جهل . وليت شعري فأي فائدة لكونه اعتقاد جهل ؟! فإن طوائف الكفر بأسرها وأهل الشرك قاطبة إنما حملهم علي الكفر ودفع الحق والبقاء علي الباطل : الاعتقاد جهلاً ! وهل يقول قائل إن اعتقادهم اعتقاد علم حتى يكون اعتقاد الجهل عذراً لإخوانهم المعتقدين في الأموات ! ثم تمم الاعتذار بقوله : " لكن هؤلاء مثبتون للتوحيد " ، إلي آخر ما ذكره ، ولا يخفاك أن هذا غير باطل ؛ فإن إثباتهم التوحيد إن كان بألسنتهم فقط فهم مشتركون في ذلك هم واليهود والنصارى والمشركون والمنافقون ، وإن كان بأفعالهم فقد اعتقدوا في الأموات ما اعتقده أهل الأصنام في أصنامهم " ) .
- وقال رحمه الله في معرض رده علي القائلين بأن هؤلاء لا يعلمون بأن ما يفعلونه شرك : ( فإن قلت :- هؤلاء المعتقدون في الأموات لا يعلمون بأن ما يفعلونه شرك ، بل لو عرض أحدهم علي السيف لم يقر بأنه مشرك بالله ولا فاعل لما هو شرك بل ولو علم أدني علم أن ذلك شرك لم يفعله ، قلت – أي الشوكاني :- الأمر كما قلت ، ولكن لا يخفي عليك ما تقرر في أسباب الردة أنه لا يعتبر في ثبوتها العلم بمعني ما قاله مما جاء بلفظ كفري ، أو فعل فعلاً كفرياً ، وعلي كل حال فالواجب علي كل من اطلع علي شئ من هذه الأقوال والأفعال ، التي اتصف بها المعتقدون في الأموات أن يبلغهم الحجة الشرعية ، ويبين لهم ما أمره الله ببيانه ، وأخذ عليه ميثاقه ألا يكتمه كما حكي لنا في كتابه العزيز .. )
فتأمل قوله رحمه الله : ( وأنه لا يعتبر في ثبوت الردة العلم بما قاله من ألفاظ الكفر أو الشرك)
- واختم بقوله: ( أما السؤال الأول : فقد أجاب عنه السائل بما شفى وكفى وهو سؤال وجواب وقد أقام الأدلة على ما أجاب به من الكتاب والسنة ، فمن قال بغيره فلا يلتف غليه ولا يعول عليه . ومن وقع في الشرك جاهلا لم يعذر لان الحجة قامت على جميع الخلق بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم فمن جهل فقد أتي من قبل نفسه بسبب الإعراض عن الكتاب والسنة ... فمن جهل فبسبب إعراضه ، ولا يعذر أحد بالإعراض .) الفتح الرباني صـ 145 رسائل العقيدة
- أما التوفيق بين هذه الأقوال التي تبدوا متعارضة لأول وهلة فهو وإن كان من مسؤولية من يحتج بها ابتداء ولكن حيث تعرضت لهذا فأذكر فيه ما يحضرني والله الموفق .
فأقول إن ما ذكره الإمام الشوكاني رحمه الله مخالف لأدلة الكتاب والسنة وأصول أهل السنة في هذا الباب ،حيث أن اشتراط انشراح الصدر بالكفر واعتقاد القلب له مخالف لما اتفق عليه عند أهل السنة من أن الكفر يكون بالقول والفعل والاعتقاد والذي يشترط في انشراح الصدر واعتقاد القلب وسكون النفس إنما يرجع الكفر كله إلى شيء واحد وهو الاعتقاد !
ولا يمكن أن يجتمع قوله هذا مع إقراره بأن الكفر يكون بالقول والعمل إلا بنوع تناقض.
وإن لم يكن في تلك المقالة إلا مخالفة هذا الأصل المتقرر والمميز لها عن أهل الإرجاء والتجهم لكفى لبطلانها وكونها مردودة .
فكيف إذا تعارضت مع نصوص الكتاب والسنة الظاهرة البينة في كفر من تكلم بالكفر من غير اعتقاد ؟
- فلأن يقال عن هذا الكلام بأنه زلة عالم وأن الإمام الشوكاني رحمه الله أخطأ في هذا الكلام وكل يؤخذ من كلامه ويرد إلا النبي عليه الصلاة والسلام ، خير من أن تهدم هذه الأصول.
- هذا وإن اشتراط انشراح الصدر بالكفر وطمأنينة النفس به ليس إلا في المكره على الكفر فمن كفر بغير إكراه فلا يشترط له هذا الشرط مطلقا ودليل ذلك قوله تعالى :
(من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله.. ) الآية فمن كفر بالله من بعد إيمانه فهو كافر إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان فهذا مستثنى من كونه كافرا ،ولكن من شرح بالكفر صدرا أي من المكرهين فعليهم غضب من الله .
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( فإن قيل: فقد قال تعالى «ولكن من شرح بالكفر صدراً»، قيل: وهذا موافق لأولها، فإنه من كفر من غير إكراه فقد شرح بالكفر صدراً، وإلا ناقض أول الآية آخرها، ولو كان المراد بمن كفر هو الشارح صدره، وذلك يكون بلا إكراه، لم يستثن المكره فقط، بل كان يجب أن يستثني المكره وغير المكره إذا لم يشرح صدره، وإذا تكلم بكلمة الكفر طوعاً فقد شرح بها صدراً وهى كفر. وقد دل على ذلك قوله تعالى «يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم، قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون، ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب، قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين». فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم: إنا تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل كنا نخوض ونلعب، وبين أن الاستهزاء بآيات الله كفر، ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدره بهذا الكلام، ولو كان الإيمان في قلبه منعه أن يتكلم بهذا الكلام) (مجموع الفتاوى) 7/ 220
- وقد تكلم الشيخ حمد بن عتيق النجدي رحمه الله 1301 هـ في نفس المسألة في رده على أحد خصوم دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فقال (وأما خروجه ــ أي الخَصْم ــ عما بعث الله به رسوله من الكتاب والسنة وما عليه الصحابة ومن بعدهم من أهل العلم فقوله: فمن شرح بالكفر صدراً أي فتحه ووسّعه وارتد عن الدين وطابت نفسه بالكفر فذلك الذي ندين الله بتكفيره، هذه عبارته، وصريحها أن من قال الكفر أو فعله لا يكون كافراً وأنه لا يكفر إلا من فتح صدره للكفر ووسعه، وهذا معارضة لصريح المعقول وصحيح المنقول وسلوك سبيل غير سبيل المؤمنين، فإن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة قد اتفقت على أن من قال الكفر أو فعله كَفَر ولا يشترط في ذلك انشراح الصدر بالكفر ولا يستثنى من ذلك إلا المكره، وأما من شرح بالكفر صدراً أي فتحه ووسّعه وطابت نفسه به ورضي فهذا كافر عدو لله ولرسوله وإن لم يتلفظ بذلك بلسانه ولا فعله بجوارحه، هذا هو المعلوم بدلالة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ونبين ذلك من وجوه) ثم ذكر عشرة أدلة على كلامه وذلك في رسالته (الدفاع عن أهل السنة والإتباع) صـ 22 ــ 23
- وذكر ابن الوزير اليماني عن أبي هاشم رأس المعتزلة هذا القول وأنكره حيث قال :
( ومن العجب أن الخصوم من البهاشمة وغيرهم لم يساعدوا على تكفير النصارى الذي قالوا إن الله ثالث ثلاثة ومن قال بقولهم مع نص القرآن على كفرهم إلا بشرط أن يعتقدوا ذلك مع القول وعارضوا هذه الآية الظاهرة بعموم مفهوم قوله ولكن من شرح بالكفر صدرا كما سيأتي بيانه وضعفه مع وضوح الآية الكريمة في الكفر بالقول...... وعلى هذا لا يكون شيء من الأفعال والأقوال كفرا إلا مع الاعتقاد حتى قتل الأنبياء والاعتقاد من السرائر المحجوبة فلا يتحقق كفر كافر قط إلا بالنص الخاص في شخص شخص ولا يدل حرب الأنبياء على ذلك لاحتمال أن يكون على الظاهر كقوله فمن حكمت له بمال أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار ومع نكارة هذا فالملجئ إليه عموم مفهوم ظني ضعيف .)
- والاحتجاج بما ذكره الشوكاني رحمه الله من اشتراط انشراح الصدر بالكفر وسكون النفس إليه واعتقاد القلب له يكشف حقيقة منهج من يحتج بهذا الكلام من غير تأمل ويؤكد ما ذكرناه من أسباب استفحال الخلاف في هذه المسالة حيث يلزم من ذلك حصر الكفر في الاعتقاد والاستحلال القلبي دون سائر أنواع الكفر القولي والعملي ،وهم مع ذلك يقررون أن الكفر يكون بالقول والفعل والاعتقاد فكيف يستقيم لمن يحتج بهذا القول أن يقرر ذلك ؟!
لاشك أن هذا تناقض وخلل في فهم هذه المسالة أو فهم أصول أهل السنة أصلا ، فالتزام هذا القول يمنع الاعتبار بكفر الأقوال والأعمال مطلقا ، ويعلقه على انشراح الصدر بالكفر بما يرجع بجميع أنواع الكفر إلى الاعتقاد وهذا أصل باطل مخالف لأصول أهل السنة المعلومة .
- وأخيرا فإن انشراح الصدر بالكفر واعتقاد القلب له أمر مغاير للعلم بل هو عند التأمل غير ملازم له!
إذ كيف ينشرح الصدر بالكفر وتسكن النفس إليه وهو يعلم أنه كفر ؟!
فهذا لا يكون إلا لمن يعتقد في نفسه أنه على الحق ، فما نسميه نحن كفرا ليس عنده بكفر بل هو الحق الذي يعتقده ، فإذا كان انشراح الصدر بالكفر هو دليل جهل صاحبه المركب ومع ذلك يكفر به ،فكيف يحتج به على العذر بالجهل ؟ !
-أما إذا ذهبنا إلى توجيه كلام الشوكاني بما قد يكون أمثل في جمع كلامه وتأليفه فإنه قد يقال :
أولا : إن أصل الكلام إنما كان تعليقا على عبارة الماتن و قوله : ( والمتأول كالمرتد ).
والشوكاني رحمه الله لا يرى أصلا شيئا أسمه " كفر التأويل " ويراه تكفيرا للمسلمين بغير موجب وإخراجا للمسلم عن الإسلام بلوازم قوله ومآله ولذا قال هذا الكلام تعليقا على المتن المشروح قبل هذا الكلام : ( وأما قوله :" ولو تأويلا " فباطل من القول وخطل من الرأي فإن هذه المسائل التي اختلف فيها أهل الإسلام وكفر بعضهم بعضا تعصبا وجرأة على الدين وتأثيرا للأهوية لو كان ظهورها في الدار مقتضيا لكونها دار الكفر لكانت الديار الإسلامية بأسرها ديار كفر فإنها لا تخلوا مدينة من المدائن ولا قرية من القرى من ذاهب إلى ما تذهب إليه الأشعري أو المعتزلة أو الماتريدية وقد اعتقدت كل طائفة من هذه الطوائف ما هو كفر تأويل عند الطائفة الأخرى وكفاك من شر سماعه والحق أنه لا كفر تأويل أصلا وليس هذا موضع البسط لهذه المسألة فخذها كلية تنج بها من موبقات لا تحصى ومهلكات لا تحصر وسيأتي عند الكلام على قوله والمتأول كالمرتد ما ينبغي أن يضم إلى ما هنا لتكمل الفائدة...
فهنا كان التعليق على كفر التأويل وذكر أن الحق أن لا كفر تأويل أصلا ثم ذكر أنه سيعلق على ذلك عند قوله في المتن _ ( والمتأول كالمرتد ) بكلام آخر غير ذلك وقال :
( ينبغي أن يضم بعضه إلى بعض لتكمل الفائدة .)
ثم استرسل في الكلام بعد ذلك حتى ذكر قوله المنقول أعلاه ثم بعد ذلك جاءا التعليق على قول الماتن ( والمتأول كالمرتد ) فقال :
( قوله والمتأول كالمرتد إلخ . أقول ها هنا تسكب العبرات ويناح على الإسلام وأهله بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر لا لسنة ولا لقرآن ولا لبيان من الله ولا لبرهان بل لما غلت مراجل العصبية في الدين وتمكن الشيطان الرجيم من تفريق كلمة المسلمين لقنهم إلزامات بعضهم لبعض بما هو شبيه الهباء في الهواء والسراب البقيعة فيا لله وللمسلمين من هذه الفاقرة التي هي من أعظم فواقر الدين والرزية التي ما رزىء بمثلها سبيل المؤمنين وأنت إن بقي فيك نصيب من عقل وبقية من مراقبة الله عز و جل وحصة من الغيرة الإسلامية قد علمت وعلم كل من له علم بهذا الدين أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن الإسلام قال في بيان حقيقته وإيضاح مفهومه أنه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان وشهادة أن لا إله إلا الله والأحاديث بهذا المعنى متواترة فمن جاء بهذه الأركان الخمسة وقام بها حق القيام فهو المسلم على رغم أنف من أبى ذلك كائنا من كان فمن جاءك بما يخالف هذا من ساقط القول وزائف العلم بل الجهل فاضرب به في وجهه وقل له قد تقدم هذيانك هذا برهان محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه )
فقد يقال أن الإمام رحمه الله قد تأثر في كلامه هذا بما ذكره الماتن أكثر من مرة في جعله المتأول كالمرتد فجاء السياق في كفر التأويل وأنه ليس بكفر أصلا وأن جعله كالمرتد فيه جناية على المسلمين وأن المسلم لا يكفر - من هذه الجهة- إلا باطمئنان نفس وانشراح صدر وغير ذلك مما ذكر وإن كان في العبارة شيء من التوسع في اللفظ إلا أن هذا هو سياقه الذي جاء فيه والذي يقبل فيه مثل هذا الكلام أصلا .
فإن المتأول لا يكفر بلازم قوله ومآله حتى يلتزمه ويقول به فيكون كفره بعد بيان لازم قوله واختياره له ورضاه به قولا ومذهبا فيكفر به اختيارا للكفر وتعصبا للقول وهنا يتحقق انشراح الصدر وهذا يكون في المتأول خاصة ! أو من يأتي بأمر يحتمل في كونه كفر فيكون المرجح حينئذ هو قصد الفاعل وباطنه فإن أبدى عنه كفرا فقد شرح بالكفر صدرا ...
وممن ذهب إلى توجيه آية الإكراه في ذلك فحصر اشتراط انشراح الصدر في المتأولين ابن الوزير اليماني رحمه الله في كتابه إيثار الحق وهو ممن تأثر بهم الشوكاني رحمه الله حيث قال :
(من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم فقوله في هذه الآية الكريمة ولكن من شرح بالكفر صدرا يؤيد أن المتأولين غير كفار لأن صدورهم لم تنشرح بالكفر قطعا أو ظنا أو تجويزا أو احتمالا وقد يشهد لهم بذلك كلام أمير المؤمنين عليه السلام وهو الصادق المصدوق في المشهور عنه حيث سئل عن كفر الخوارج فقال من الكفر فروا فكذلك جميع أهل التأويل من أهل الملة وإن وقعوا في أفحش البدع والجهل ....) ومع ذلك فقد منعه في الكفر الصريح حيث قال : (وقد بالغ الشيخ أبو هاشم (رأس المعتزلة) وأصحابه وغيرهم فقالوا هذه الآية تدل على أن من لم يعتقد الكفر ونطق بصريح الكفر وبسب الرسل أجمعين وبالبراءة منهم وبتكذيبهم من غير إكراه وهو يعلم أن ذلك كفر لا يكفر وهو ظاهر اختيار الزمخشري في كشافه فانه فسر شرح الصدر بطيب النفس بالكفر وباعتقاده معا واختاره الإمام يحيي عليه السلام والأمير الحسين بن محمد وهذا كله ممنوع لأمرين أحدهما معارضة قولهم بقوله تعالى: " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة " فقضي بكفر من قال ذلك بغير شرط فخرج المكره بالنص والإجماع وبقي غيره ...)
فلعل ما ذكرته من السياق وما ذكره ابن الوزير رحمه الله يعين على صحة هذا التوجيه لا سيما وكلام الشوكاني رحمه الله الذي ذكره في السيل وكلامه فيما نقلته عنه في كتبه الأخرى يحتمل أن يقال عنه أن هذا في كفر التأويل لقرينة السياق وما في كتبه الأخرى في كفر التصريح والله أعلم .
ثانيا : قد يوجه هذا الكلام أيضا بأن يقال أن كلام الإمام المذكور في السيل يختص بالأعمال التي ذكرها بعد ذلك وهي الأعمال والأقوال التي أطلق عليها الشارع اسم الكفر وليست بكفر ينقل عن الملة حيث استدرك على نفسه بقوله :
( فإن قلت قد ورد في السنة ما يدل على كفر من حلف بغير ملة الإسلام ، وورد في السنة المطهرة ما يدل على كفر من كفر مسلماً كما تقدم ، وورد في السنة المطهرة إطلاق الكفر على من فعل فعلاً يخالف الشرع كما في حديث لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ونحوه مما ورد مورده وكل ذلك يفيد أن صدور شئ من هذه الأمور يوجب الكفر وإن لم يرد قائله أو فاعله به الخروج من الإسلام إلى ملة الكفر . قلت : إذا ضاقت عليك سبل التأويل ولم تجد طريقاً تسلكها في مثل هذه الأحاديث فعليك أن تقرها كما وردت وتقول من أطلق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم اسم الكفر فهو كما قال . ولا يجوز إطلاقه على غير من سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين كافراً إلا من شرح بالكفر صدراً ، فحينئذ تنجو من معرة الخطر وتسلم من الوقوع في المحنة . فإن الإقدام على ما فيه بعض البأس لا يفعله من يشح على دينه ولا يسمح به فيما لا فائدة فيه ولا عائدة . فكيف إذا كان على نفسه إذا أخطأ أن يكون في عداد من سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كافراً ...)
وتأمل قوله : (وكل ذلك يفيد أن صدور شئ من هذه الأمور يوجب ( الكفر) – وهل يوجب الكفر شيء مما ذكر - وإن لم يرد قائله أو فاعله به الخروج من الإسلام إلى ملة الكفر)
ولا شك أن جميع هذه الأعمال التي ذكرها ليس منها شيء يوجب الكفر الأكبر لذا فإن السياق يدل على أن كلامه المذكور إما أن يكون في المتأول الذي ساواه صاحب المتن بالمرتد أو يكون في التكفير بالأعمال التي سماها الشارع كفرا وليست كذلك كما سبق والله اعلم .
ومما يدعم الوجه الأول ما أورده الشيخ صديق حسن خان في كتابه الروضة الندية وهو شرح لكتاب الدرر البهية للإمام الشوكاني رحمه الله حيث أورد هذا الكلام في سياق الكلام عن المتأول ومقولة (والمتأول كالمرتد ) مع التقديم والتأخير كله تحت سياق التعليق على هذه الكلمة بما يظهر صراحة أن سياقه كان في المتأول حيث قال رحمه الله :
(وأما قول بعض أهل العلم ( أن المتأول كالمرتد) فهنا تسكب العبرات ويناح على الإسلام وأهله بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر لا بسنة ولا قرآن ولا لبيان من الله ولا لبرهان ....) وهذا الكلام قد جاء في السيل الجرار بعد الكلام الذي ذكرناه سابقا وهنا أورده المؤلف في سياق واحد متسلسل تحت تعليق الشوكاني على عبارة (والمتأول كالمرتد ) ثم قال صديق حسن خان : ( هذا ما أفاده الماتن العلامة في السيل . وقال أيضاً... ) ثم ذكر قول الشوكاني المذكور في نفس السياق وذكر أحاديث الترهيب من تكفير المسلم (ففي هذه الأحاديث وما ورد مرودها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن السراع في التكفير . وقد قال عز وجل : ولكن من شرح بالكفر صدراً فلا بد من شرح الصدر بالكفر ، وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه ، فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشرك
لاسيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام ، ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر ، ولا اعتبار بلفظ يلفظ به المسلم يدل على الكفر وهو لا يعتقد معناه ، فإن قلت قد ورد في السنة ما يدل على كفر من حلف بغير ملة الإسلام....) فهذا السياق كله هو تعليق على قول الماتن (والمتأول كالمرتد ) واعتراض الإمام على ذلك ونفيه أن يكون شيئا يسمى كفر تأويل أصلا ..
ثم تطرق بعد ذلك للأقوال والأفعال المكفرة والتي تثبت بها الردة والخروج عن الإسلام فقال رحمه الله :
- والساحر لكون عمل السحر نوعاً من الكفر ، ففاعله مرتد يستحق ما يستحقه المرتد
- والكاهن لكون الكهانة نوعاً من الكفر ، فلا بد أن يعمل من كهانته ما يوجب الكفر
- والساب لله أو لرسوله أو للإسلام أو للكتاب أو للسنة والطاعن في الدين وكل هذه الأفعال موجبة للكفر الصريح ، ففاعلها مرتد حده حده
- وإذا ثبت ما ذكرنا في سب النبي صلى الله عليه وسلم فبالأولى من سب الله تبارك وتعالى ، أو سب كتابه أو الإسلام ، أو طعن في دينه وكفر ، من فعل هذا لا يحتاج إلى برهان .
- وقد اختلف أهل العلم في وجوب الاستتابة ثم كيفيتها ، والظاهر أنه يجب تقديم الدعاء إلى الإسلام قبل السيف كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو أهل الشرك ويأمر بدعائهم إلى إحدى ثلاث خصال ، ولا يقاتلهم حتى يدعوهم . فهذا ثبت في كل كافر . فيقال للمرتد إن رجعت إلى الإسلام وإلا قتلناك ، وللساحر والكاهن والساب لله أو لرسوله أو للإسلام أو للكتاب أو للسنة ، أو للطاعن في الدين ، أو الزنديق قد كفرت بعد إسلامك فإن رجعت إلى الإسلام وإلا قتلناك فهذه هي الاستتابة وهي واجبة
- والمتأمل فيما ذكر من المكفرات يجد أن أنه لم يذكر شيئا منها في سياق اشتراطه انشراح الصدر ولم يذكر انشراح الصدر في سياق كلامه عن المكفرات الصريحة مما قد يصحح هذا التوجيه والله أعلم .
الوقفة الخامسة :
ذكر الشيخ مرارا أن من يعذرهم بالجهل لم يكفروا لأنهم لم يريدوا بذلك الخروج عن الإسلام ، فقد ذكره ذلك في المسالة الثانية في حديث معاذ وسجوده للنبي عليه الصلاة والسلام وذكره في حديث ذات أنواط وأن الصحابة لم يريدوا بهذه الفعل الخروج من الإسلام وذكره في حديث الرجل الذي أمر أهله أن يحرقوه إذا مات خشية من ربه ...
ثم ذكر قولا عجيبا فقال :
( ولماذا قلنا إن الشخص إذا قال قول الكفر أو فعل فعل الكفر لا نكفره وإنما نقول قال قول الكفر أو فعل فعل الكفر . لماذا لا نكفره طالما قال قول الكفر أو فعل فعل الكفر . لماذا لا نكفره إنما قلنا ذلك لان الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهدا مغفورا له قال هذا القول باجتهاد والمجتهد إذا اجتهد فأخطأ له أجر ومنكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله ..)
واستدل على ذلك بحديث الرجل الذي أسرف على نفسه فأر أهله بأن يحرقوه إذا مات ...
وهذا الذي ذكره الشيخ خلط كبير بين المسائل التي هي محل للاجتهاد والمسائل التي ليست كذلك ، وبين الأقوال التي يطلق عليها كفر من أقوال أهل البدع والتي يكون فيها الكفر بلوازم أقوالهم وبين الأقوال والأعمال الكفرية التي هي كفر بذاتها والتي دل الدليل الشرعي على كونها كفرا فلم يفرق بين الكفر بالمآل كما في أقوال أهل البدع من أصحاب المقالات وبين الكفر في الحال الذي دل الدليل على كونه كفرا كسب الدين والاستهزاء بالنبي عليه الصلاة والسلام والسجود للصنم ... فهل يصح أن يقال في مثل هذه الأقوال والأعمال أن أصحابها من أهل الاجتهاد المأجور ؟ !
وما ذكره الشيخ هنا شر مما ذهب إليه الجاحظ الذي قال عنه الموفق ابن قدامه رحمه الله :
( وزعم الجاحظ أن مخالف ملة الإسلام، إذا نظر فعجز عن إدراك الحق، فهو معذور غير آثم، - إلى أن قال: وأما ما ذهب إليه الجاحظ، فباطل يقينا، وكفر بالله. ورد عليه وعلى رسوله. ) ا.هـ
وكونه أشر وافسد من قول الجاحظ ذلك لآن الجاحظ قد اكتفى بعدم تأثيمه والشيخ هنا لم يكتف بذلك بل جعل له الأجر والمثوبة على هذا الاجتهاد !
وأيضا جاء في كتاب معجم المناهي اللفظية للشيخ بكر أبو زيد رحمه الله:
في ترجمة عبيد الله بن الحسن العنبري ، أنه كان ثقة في الحديث وكان من كبار العلماء ،العارفين بالسنة ، إلا أن الناس رموه بالبدعة ، بسبب قول حُكي عنه ، من أنه كان يقول : بأن مجتهد من أهل الأديان مصيب، حتى كفره القاضي أبو بكر ، وغيره ...
( ولقد حكي الشاطبي رحمه الله توبته عن هذا القول في كتابه الاعتصام وذكر كلمته المشهورة ) إذاً أرجع وأنا من الأصاغر، ولأن أكون ذنباً في الحق أحب إلي من أن أكون رأساً في الباطل)ا.هـ
مع أن قول العنبري رحمه الله هذا في الأصول الاعتقادية التي يبدع فيها المخالف ولا يكفر كما ذكر القاضي عنه فأين هذا من كلام الشيخ الذي اثبت الأجر لمن يجتهد في الشرك والكفر! .
- وحيث كرر الشيخ مرارا بأن سبب إعذار الذين وقعوا في الشرك وهو أنهم لم يريدوا بذلك الخروج من الإسلام فأذكر بعض أقوال أهل العلم المدعمة بالنصوص الشرعية والتي ترد هذا القول وتبطله وتقرر أن المرء قد يكفر ويخرج من الإسلام وهو لا يقصد الكفر وعلى رأس هذه الأقوال إجماع الأمة على كفر الهازل مع كونه لم يرد بذلك الخروج عن الإسلام.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله تعالى ( ..لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ) :
(دل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفراً، بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر، فبين أن الاستهزاء بالله ورسوله يكفر به صاحبه بعد إيمانه، فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف، ففعلوا هذا المحرم الذي عرفوا أنه محرم ولكن لم يظنوه كفراً وكان كفراً كفروا به، فإنهم لم يعتقدوا جوازه)
فهذا نص منه رحمه الله في أنهم كفروا ولم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفرا .
- وقال رحمه الله في الصارم المسلول ص 184 ( وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كُفْرٌ كَفَرَ بذلك ، وإن لم يقصد أن يكون كافرا ؛ إذ لا يكاد يقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله ..)
- ثم قال ص 375: ( و الغرض هنا أنه كما أن الردة تتجرد عن السب كذلك قد تتجرد عن قصد تبديل الدين، وإرادة التكذيب بالرسالة، كما تجرد كفر إبليس عن قصد التكذيب بالربوبية، وإن كان عدم هذا القصد لا ينفعه كما لا ينفع من قال الكفر أن لا يقصد أن يكفر)
- وقال شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله :
( والصواب من القول في ذلك عندنا، أن يُقال: إنَّ الله - عز وجل - عنَى بقوله:
( هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ) كلَّ عاملٍ عملاً يحسبه فيه مصيبًا، وأنَّه لله بفعله ذلك مطيع مُرضٍ، وهو بفعله ذلك لله مسخط، وعن طريق أهل الإيمان به جائر كالرهبانيَّة والشمامسة، وأمثالهم من أهل الاجتهاد في ضلالهم، وهم مع ذلك من فعلهم واجتهادهم بالله كفرة، من أهل أي دين كانوا)
- وقال أيضا :
( وهذا من أدل الدلائل على خَطَأِ قَوْلِ مَن زَعَم أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيثُ يقصد إلى الكفر بعد العلم بوحدانيته؛ وذلك أنَّ الله - تعالى ذِكْرُه - أخبر عن هؤلاء الذين وصف صِفَتَهُم في هذه الآية، أنَّ سعْيَهُم الذي سَعَوْا في الدنيا ذَهَبَ ضلالا وقد كانوا يحسبون أنهم محسنون في صنعهم ذلك، وأخبر عنهم أنهم هم الذين كفروا بآيات ربهم. ولو كان القول كما قال الذين زعموا أنَّه لا يكفر بالله أحدٌ إلا من حيث يعلم، لوجب أن يكون هؤلاء القوم في عملهم الذي أخبر الله عنهم أنهم كانوا يحسبون فيه أنهم يُحْسِنون صنعه، كانوا مثابين مأجورين عليها،ولكنَّ القَوْلَ بخلاف ما قالوا، فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم بالله كفرة، وأن أعمالهم حابطة ) ا.هـ
- وقال ابن حجر في الفتح تحت باب من ترك قتال الخوارج للتألف 12/315:
( وفيه أن من المسلمين من يخرج من الدين من غير أن يقصد الخروج منه، ومن غير أن يختار ديناً على دين الإسلام، وأن الخوارج شر الفرق المبتدعة .. ) ا- هـ.
- فهذه بعض أقوال أهل العلم مدعمة بأدلة الكتاب والسنة وإجماع الأمة والتي ترد قول الشيخ أن من يفعل الكفر والشرك لا يكفر لأنه لم يرد بهذا الفعل أو هذا القول الخروج من الإسلام ،علما بأن تعمد الخروج لا يقتصر على الجاهل فقط ، فقد يفعل الكفر من هو عالم به ولا يريد بذلك الخروج الإسلام ،فيلزم الشيخ أن لا يكفر ذلك أيضا إذ علق الكفر على إرادة الخروج !
الوقفة السادسة :
تكلم الشيخ وفقه الله في المسالة الثالثة عن مسالة دخول الأعمال في مسمى الإيمان وهل تدخل الأعمال في مسمى الإيمان أم لا ؟
ثم قرر أنها تدخل في مسمى الإيمان و ذكر أن الذي عليه جمهور أهل السنة أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان وأن الإيمان تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان .
ثم تسائل قائلا : (ما حكم ترك العمل ؟ الجواب فيه تفصيل )
ثم قرر أن من ترك العمل جاحدا فإنه يكفر بلا خلاف ومن تركه كسلا وتهاونا فإنه لا يكفر .
وهذا الكلام لا إشكال فيه إذا كان الكلام عن ترك أي من أعمال الجوارح حيث أن الإيمان يزيد وينقص يزيد بفعل الطاعة وينقص بفعل المعصية وترك الطاعة وما تقرر عن أهل السنة من أن مرتكب الكبيرة مؤمن ناقص الإيمان أو مسلم ليس بمؤمن .
ولكنه قال بعد ذلك :
( وخلاصة القول أن الأعمال وإن كانت داخلة في مسمى الإيمان فإن تركها لا ينقض الإيمان وإن كان ينقصه ) ثم كرر ذلك فقال: ( ترك الأعمال مع الاعتقاد ينقص الإيمان ولا ينقضه ) د /43
وهذا الكلام مشكل !
لان مقام ترك العمل بالكلية يختلف عن مقام ترك أفراد الأعمال فإن ترك العمل بالكلية يلزم منه زوال عمل القلب بالكلية كما أن نقصه دليل نقصه وزيادته دليل زيادته ، وذلك لامتناع حصول المحبة والانقياد في القلب دون عمل ظاهر أو حركة بدن فإن ذلك ممتنع لتلازم الظاهر بالباطن . وأيضا فإن زوال العمل بالكلية يعني عدم تحقيق الإيمان المجزئ في كلام السلف حيث قرروا أن الإيمان : ( قول وعمل واعتقاد لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالأخر ) فمن يقول: ( يجزئ القول والاعتقاد ) دون العمل فهو مخالف لهذا الإجماع ضرورة .
وتقرير الشيخ بأن الإيمان قول وعمل واعتقاد ثم تقريره بعد ذلك بأنه يجزئ القول والاعتقاد دون العمل تناقض ظاهر، وخلاف لما جاء عن السلف رحمهم الله حيث نصوا صراحة على أنه " لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر " فموافقتهم في شق الإجماع ومخالفتهم في الشق الآخر تناقض وخروج عن منهجهم وتقريرهم ، وهذا الإجماع الذي نقله الإمام الشافعي رحمه الله عن الصحابة والتابعين من أثبت الإجماعات وأصحها وأوضحها دلالة وقد أقره عليه الأئمة من بعده وفسروا قوله :( لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر ) أي لا يصح ولا يقبل وذكروا أن من يقول خلاف ذلك فقد قال بقول المرجئة ...
ومما جاء في ذلك قول الإمام الاجري رحمه الله :
) فالأعمال رحمكم الله تعالى بالجوارح تصديق للإيمان بالقلب واللسان .
فمن لم يصدق الإيمان بجوارحه مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه لهذه ، ورضي من نفسه بالمعرفة والقول لم يكن مؤمنا ، ولم تنفعـــــــــه المعرفة والقول ، وكان تركه العمل تكذيبا منه لإيمانه ، وكان العمل بما ذكرنا تصديقا منه لإيمانه ، وبالله تعالى التوفيق ) ا.هـ
وقال أيضا : ( والإعمال بالجوارح تصديق عن الإيمان بالقلب واللسان .
فمن لم يصدق بجوارحه مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه هذه ، ومن رضي لنفسه بالمعرفة دون القول والعمل لم يكن مؤمنا . ومن لم يعتقد المعرفة والقول كان تركه للعمل تكذيبا منه لإيمانه )… كذا) وكان العمل بما ذكرنا تصديقا منه لإيمانه ، فاعلم ذلك . هذا مذهب علماء المسلمين قديما وحديثا ، فمن قال غير هذا فهو مرجئ خبيث ، فاحذره على دينك ..)
- فالقول بأنه يجزئ القول والاعتقاد دون العمل مخالف لهذا الإجماع ضرورة وقد يؤول إلى إخراج العمل الظاهر من حقيقة الإيمان ، ولقد وقفت على بعض التفسيرات الخاطئة لهذا الإجماع من بعض الفضلاء اذكر شيئا منها واعلق عليه باختصار :
- فمنها قولهم أن الإيمان المقصود في كلام السلف هو الإيمان الكامل وهذا باطل ، إذ أنه ليس من مقصود السلف في هذا الإجماع بيان كمال الإيمان أو أصله أو تعيين هذه الأقوال الإعمال والاعتقادات أو مراتبها؛ وإنما مقصدهم ذكر ما يتركب منه الإيمان وحقيقة الدين وأنه لابد فيها من القول والعمل والاعتقاد .
فالإيمان مركب من هذه الأجزاء في أي مرتبة من مراتبه الثلاثة – الأصل والوجوب والكمال - ،فلابد فيها من القول والعمل والاعتقاد، فهم لم يقصدوا إلا بيان جنس ما يتركب منه الإيمان ظاهرا وباطنا ، وقولهم لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالأخر أي لا يصح ولا يقبل إيمان أحد إلا أن يكون فيه هذه الثلاثة أركان مجتمعة سواء قلنا ذلك في الإيمان الكامل أو الواجب أو أصل الإيمان فلابد من اجتماع هذه الثلاثة ، ومن يقول أنه لابد من اجتماعها في الإيمان الكامل والواجب ولا يشترط ذلك في أصل الإيمان فهو متحكم بلا دليل ، بل إن حقيقة الإيمان مركبة من هذه الأجزاء الثلاثة في أي من مراتب الإيمان الثلاثة ،وليس مقصود السلف أصلا ذكر هذه المراتب أو أحدها ، بل مقصودهم هو بيان هذه الحقيقة المركبة وأنه لا يجزئ وجود أي واحد منها دون الأخر ...
- قال شيخ الإسلام : (والمأثور عن الصحابة، وأئمة التابعين، وجمهور السلف، وهو مذهب أهل الحديث، وهو المنسوب إلى أهل السنة أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأنه يجوز الاستثناء فيه، ... - ثم قال - فإن أولئك قالوا : قول وعمل ليبينوا اشتماله على الجنس، ولم يكن مقصودهم ذكر صفات الأقوال والأعمال،) ا. هـ 7/506
فقوله : ( فإن أولئك قالوا: قول وعمل ليبينوا اشتماله على الجنس، ولم يكن مقصودهم ذكر صفات الأقوال والأعمال) هو محل الشاهد ، أي أن قول السلف ليس المقصود منه بيان صفة عمل معين أو مرتبته من الأصل أو الكمال أو ذكر أوصاف هذه الأعمال على سبيل التعين وإنما مقصودهم بيان ما تتركب منه حقيقة الإيمان ...
- قد يقول قائل إنه لا فرق بين التكفير بترك العمل بالكلية أو جنس العمل والتكفير بأفراده فأن التكفير بجنس العمل يؤول إلى التكفير بأفراده ويستلزمه ، ودليل ذلك أن مسلما لو نطق الشهادتين ولم يعمل من الأعمال إلا إماطة الأذى عن الطريق فهو ذلك قد أتى بجنس العمل وهو على قولكم لا يكفر فإن ترك هذا العمل كفر. فكان ترك إماطة الأذى على هذا المذهب كفر وفعله من أصول الإيمان وأركانه ! وهذا تكفير بترك عمل مستحب ! فهل يستقيم ذلك ؟!
- والجواب عن ذلك أن يقال بأنه قد ثبت إجماع الأمة كفر تارك العمل بالكلية حيث نصوا على أنه لا يجزئ أي من هذه الثلاثة أركان إلا بالآخر فلابد من اجتماع القول والعمل والاعتقاد ليصح إيمان العبد ويقبل ولابد من تقرير ذلك إتباعا لإجماع السلف الذي هو من الأدلة الشرعية المعتبرة عند أهل السنة ...
أما أن من أماط الأذى عن الطريق قد أتى بجنس العمل فنعم ، وقد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمنًا بالله ورسوله بقلبه أو بقلبه ولسانه، ولم يؤد واجبًا ظاهرًا، ولا صلاة ولا زكاة ولا صيامًا، ولا غير ذلك من الواجبات، فلا يكون الرجل مؤمنًا بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد صلى الله عليه وسلم .
والكلام عن إماطة الأذى عن الطريق في هذا السياق ليس مقصودا لذاته وإلا فمعلوم أن إماطة الأذى عن الطريق شعبة من شعب الإيمان بل من أدنى شعب الإيمان كما في الحديث ،وإنما الكلام هنا عن الإماطة أو غيرها من الأعمال كفرد من أفراد العمل عموما يتحقق مسمى العمل أو جنسه بوجوده بحيث لا يصح أن يقال بأنه تارك للعمل بالكلية أو تارك جنس العمل ، وحيث أن الجنس إنما يتحقق بحصول أي من أفراده فيستوي في ذلك إماطة الأذى أو غيره من الأعمال .
والقول بأنه لو ترك إماطة الأذى حينئذ يكون كافرا بترك إماطة الأذى غير صحيح ! بل يكون كافرا لترك جنس العمل لا لترك إماطة الأذى ! وإلا فهو حين ترك إماطة الأذى فقد ترك جميع الأعمال الأخرى أيضا ، فليس لذكر إماطة الأذى حينئذ وجه اختصاص لأنه ترك هذا العمل وترك غيره معه فانتقل البحث حينئذ إلى ترك العمل بالكلية لا ترك هذا العمل على وجه الخصوص .
فلا يصح أن يقال حينئذ أن ترك إماطة الأذى كفر أو أن فعله من أصول الإيمان فهذه مغالطة أو سوء فهم .
ومثال ذلك أن يقال : هل في البيت رجل ؟ فيقال نعم زيد في البيت .
فهنا لا يصح نفي وجود جنس الرجال في البيت حيث وجد زيد فيه .
فإن قيل هل في البيت رجل ؟ فقيل لا . فهنا انتفى الجنس ولم يعد لذكر زيد اختصاص حيث اشترك هو وغيره في عدم الوجود .
وتفسير بعض الفضلاء ما جاء في هذا الإجماع من قوله ( لا يجزئ ..) أي لا يتم ولا يكمل تفسير باطل . حيث أن الإجماع قد ساوى بين أركانه الثلاثة في الإجزاء فهل يلتزم صاحب هذا التفسير القول بأنه لا يكمل الإيمان إذا ترك القول أو الاعتقاد ؟!
وأبطل منه قول بعض الفضلاء ممن يفسر القول بأنه لا يجزئ أي ( لا يجزئ عن العقوبة ) فهذا كسابقه لا يختلف عنه وهو تحكم بلا دليل وتفسير بالرأي !
وتفصيل ذلك أن العقوبة إنما تستحق بترك الواجبات عموما يدخل في ذلك ترك أصل الإيمان فإنه من الواجبات بلا شك فاشترك الأصل والكمال الواجب في أمرين :
الأول : كونهما واجبين .
والثاني : كونهما يسحق تاركهما العقوبة مطلقا .
واختلفا في أمرين :
الأول : كون تارك الكمال الواجب فاسقا أو مؤمنا ناقص الإيمان فلا يكفر ،أما تارك أصل الإيمان فإنه يكفر .
والثاني : أن عقوبة تارك الأصل الخلود والتأبيد في العذاب عافانا الله وجميع المسلمين من ذلك أما عقوبة تارك الكمال الواجب فهو بحسب مشيئة الرب سبحانه ،فإن عذب فإنه لا يخلد في العذاب بل يخرج إلى الجنة ولو بعد حين .
فالقول بأن (لا يجزئ ) بمعني لا يجزئ عن العقوبة مطلقا قول مجمل ! وعند التفصيل يرجع صاحب هذا القول إلى التفريق بين القول والعمل والاعتقاد فيقرر أن تارك العمل لا يكفر ولا يخلد وتارك القول والاعتقاد يكفر ويخلد في العذاب وهذا هو قول من سبقه وهو باطل لأنه تفسير مخالف لنص الإجماع ومخالف لتفسير السلف !
فكلاهما فسر الإجماع بالرأي والتحكم فقال العمل من كمال الإيمان والأخير تجاوز هذا إلى الكلام عن العقوبة .
ومن قال إن الإيمان في الإجماع المنقول عن السلف هو الإيمان الكامل أو الإيمان المطلق وظن أن من يقابله يقول بأن هذا الإيمان هو أصل الإيمان فليعلم أن كلا الفهمين غير مقصود في كلام السلف !
فلا هم قصدوا الإيمان المطلق الذي يدخل فيه جميع الأعمال الواجبة ،ولا هم قصدوا أصل الإيمان ، وإن كان لفظ الإيمان يستعمل في الدلالة على كلا المعنيين. وذلك بحسب السياق ، فيطلق تارة ويراد به الإيمان المطلق ويطلق أخرى ويراد به أصل الإيمان، وهذا معروف في كلام أهل العلم وخاصة شيخ الإسلام رحمه الله ، ولا يدل جواز استعماله في أحد هذين المعنيين على ضرورة تفسيره بهذا المعنى في كل موضع ، وإنما قصد السلف القول بأن حقيقة الإيمان مركبة من هذه الثلاثة وانه لا يصح إيمان عبد حتى يجتمع فيه هذه الأركان ولذا قال شيخ الإسلام :
(فإن أولئك قالوا: قول وعمل ليبينوا اشتماله على الجنس، ولم يكن مقصودهم ذكر صفات الأقوال والأعمال) فهذا في الثلاثة أركان
أما فيما يخص عمل الجوارح فقال في نفس السياق :
( لامتناع قيام الإيمان بالقلب من غير حركة بدن وليس المقصود هنا ذكر عمل معين !) فقوله : "من غير حركة بدن" يدل على أن الكلام لا يختص بعمل معين ولذا أكد ذلك بقوله
: "وليس المقصود هنا ذكر عمل معين" ، حيث أن المقصود هو تحقيق جنس العمل الذي يصح به الإيمان .
- فالذي يفسر الإجزاء في هذا المقام بأنه لا يجزئ عن العقوبة إما أن يلتزم أن ترك الثلاثة لا يجزئ عن العقوبة مطلقا فيسوي بين الثلاثة في قدر العقوبة ، فيكون عقوبة تارك القول مثل عقوبة تارك العمل مثل عقوبة تارك الاعتقاد وهي الكفر في الدنيا والخلود في النار عياذا بالله وهذا هو الحق ،وهذا هو موجب دلالة الألفاظ الواردة في الإجماع وفي كلام السلف .
أو يفرق بينهم فيجعل في ترك القول والاعتقاد عقوبة الخلود وفي ترك العمل العذاب دون الخلود وهذا تحكم بلا دليل ولا يختلف عن القولين السابقين وإنما تجاوز هذا التفصيل واستتر خلف الأقوال المجملة والاستدلال بمحل النزاع .
- وقول هذا الفاضل بأن الإيمان المذكور في كلام السلف وفي الإجماع المنقول هو الإيمان الكامل أو الإيمان المطلق يجعل قضية النزاع بين أهل السنة والمرجئة محصورة في مجرد تسمية الأعمال إيمانا فهم يسمونها إيمانا وغيرهم لا يسمونها كذلك ، وهذا باطل بلا شك ، لان هذا الخلاف العظيم الذي حصل بين السلف وبين المرجئة والجهمية وما وقع منهم من التشنيع والتبديع بل والتكفير لبعضهم لا يمكن أن يكون لمجرد الخلاف في التسمية فحسب...
- وإلا فإن أيا من هؤلاء المبتدعة لم ينكر أن تكون هذه الطاعات وهذه الأعمال من واجبات الدين والإسلام بل من الواجبات التي يلتزم هو بأدائها صلاة وزكاة وغيرها فهل يستقيم مع ذلك أن يكون الخلاف فقط في تسمية هذه الأعمال إيمان ؟
هذا قول من لا يتأمل الأقوال ويحققها !
- ومن يقول بأنه يجزئ القول والاعتقاد دون العمل لا يختلف في حقيقة قوله مع قول المرجئة إلا في تسمية هذه الأعمال إيمانا فالخلاف بينهم من هذه الجهة لفظي.
أما في حقيقة الأمر فهو يتفق معهم في أصل قولهم بأن المجزئ من الإيمان هو القول والاعتقاد دون العمل ،وهذا الذي عليه التمايز بين فرق المبتدعة وأهل السنة .
- ومن يراجع أقوال المرجئة التي نقلها العلماء لا يجد فرقا بين هذا القول وبين ما ذكر من أقوالهم في الإيمان بل أحيانا تتطابق الأقوال ،وهذا نقل من كتاب مقالات الإسلاميين للأشعري اذكر فيه من أقوال المرجئة ما يتفق مع قول أصحاب هذه الشبهة حيث قال :
( والفرقة الرابعة : منهم وهم أصحاب أبي شمر ويونس يزعمون أن الإيمان :
1- المعرفة بالله
2- والخضوع له والمحبة له بالقلب
3- والإقرار به أنه واحد ليس كمثله شيء ما لم تقم عليه حجة الأنبياء وإن كانت قامت عليه حجة الأنبياء فالإيمان الإقرار بهم والتصديق لهم والمعرفة بما جاء من عند الله غير داخل في الإيمان ولا يسمون كل خصلة من هذه الخصال إيماناً ولا بعض إيمان حتى تجتمع هذه الخصال فإذا اجتمعت سموها إيماناً لاجتماعها وشبهوا ذلك بالبياض إذا كان في دابة لم يسموها بلقاء ولا بعض أبلق حتى يجتمع السواد والبياض فإذا اجتمعا في الدابة سمي ذلك بلقاً إذا كان بفرس فإن كان في جمل أو كلب سمي بقعاً وجعلوا ترك الخصال كلها وترك كل خصلة منها كفر أو لم يجعلوا الإيمان متبعضاً ولا محتملاً للزيادة والنقصان.
- الفرقة السادسة من المرجئة يزعمون أن الإيمان هو:
1- المعرفة بالله وبرسله وفرائضه المجتمع عليها
2- والخضوع له بجميع ذلك
3- والإقرار باللسان فمن جهل شيئاً من ذلك فقامت به عليه حجة أو عرفه ولم يقر به كفر ولم تسم كل خصلة من ذلك إيماناً كما حكينا عن أبي شمر وزعموا أن الخصال التي هي إيمان إذا وقعت فكل خصلة منها طاعة فإن فعلت خصلة منها ولم تفعل الأخرى لم تكن طاعة كالمعرفة بالله إذا انفردت من الإقرار لم تكن طاعة لأن الله عز وجل أمرنا بالإيمان جملة أمراً واحداً ومن لم يفعل ما أمر به لم يطع وزعموا أن ترك كل خصلة من ذلك معصية وأن الإنسان لا يكفر بترك خصلة واحدة وأن الناس يتفاضلون في إيمانهم ويكون بعضهم أعلم بالله وأكثر تصديقاً لهمن بعض وأن الإيمان يزيد ولا ينقص وأن من كان مؤمناً لا يزول عنه اسم الإيمان إلا بالكفر وهذا قول الحسين بن محمد النجار وأصحابه.
- والفرقة السابعة من المرجئة الغيلانية أصحاب غيلان يزعمون أن الإيمان :
1- المعرفة بالله الثانية
2- والمحبة والخضوع
3- والإقرار بما جاء به الرسول وبما جاء من عند الله سبحانه وذلك أن المعرفة الأولى عنده اضطرار فلذلك لم يجعلها من الإيمان.
وذكر محمد بن شبيب عن الغيلانية أنهم يوافقون الشمرية في الخصلة من الإيمان أنه لا يقال لها إيمان إذا انفردت ولا يقال لها بعض إيمان إذا انفردت وأن الإيمان لا يحتمل الزيادة والنقصان
- والفرقة الثامنة من المرجئة أصحاب محمد بن شبيب يزعمون أن الإيمان:
1- الإقرار بالله
2- والمعرفة بأنه واحد ليس كمثله شيء والإقرار والمعرفة بأنبياء الله وبرسله وبجميع ما جاءت به من عند الله مما نص عليه المسلمون ونقلوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة والصيام وأشباه ذلك مما لا اختلاف فيه بينهم ولا تنازع.....
3-والخضوع لله هو ترك الاستكبار وزعموا أن إبليس قد عرف الله سبحانه وأقر به وإنما كان كافراً لأنه استكبر ولولا استكباره ما كان كافراً وأن الإيمان يتبعض ويتفاضل أهله وأن الخصلة من الإيمان قد تكون طاعة وبعض إيمان ويكون صاحبها كافراً بترك بعض الإيمان ولا يكون مؤمناً إلا بإصابة الكل وكل رجل يعلم أن الله واحد ليس كمثله شيء ويجحد الأنبياء فهو كافر بجحده الأنبياء وفيه خصلة من الإيمان وهو معرفته بالله وذلك أن الله أمره أن يعرفه ويقر بما كان عرف وإن عرف ولم يقر أو عرف الله سبحانه وجحد أنبياءه فإذا فعل ذلك فقد جاء ببعض ما أمر به وإذا كان الذي أمر به كله إيماناً فالواحد منه بعض إيمان وكان محمد بن شبيب وسائر من قدمنا وصفه من المرجئة يزعمون أن مرتكب بالكبائر من أهل الصلاة العارفين بالله وبرسله المقرين به وبرسله مؤمنون بما معهم من الإيمان فاسقون بما معهم من...
- الفرقة التاسعة من المرجئة أبو حنيفة وأصحابه يزعمون أن الإيمان:
1- المعرفة بالله 2- والإقرار بالله والمعرفة بالرسول والإقرار بما جاء من عند الله في الجملة دون التفسير وذكر أبو عثمان الآدمي أنه اجتمع أبو حنيفة وعمر بن أبي عثمان الشمزي بمكة فسأله عمر فقال له: أخبرني عمن زعم أن الله سبحانه حرم أكل الخنزير غير أنه لا يدري لعل الخنزير الذي حرمه الله ليس هي هذه العين فقال: مؤمن فقال له عمر: فإنه قد زعم أن الله قد فرض الحج إلى الكعبة غير أنه لا يدري لعلها كعبة غير هذه بمكان كذا فقال: هذا مؤمن قال: فإن قال أعلم أن الله سبحانه بعث محمداً وأنه رسول الله غير أنه لا يدري لعله هو الزنجي قال: هذا مؤمن ولم يجعل أبو حنيفة شيئاً من الدين مستخرجاً إيماناً وزعم أن الإيمان لا يتبعض ولا يزيد ولا ينقص ولا يتفاضل الناس فيه.فأما غسان وأكثر أصحاب أبي حنيفة فإنهم يحكون عن أسلافهم أن الإيمان هو الإقرار والمحبة لله والتعظيم له والهيبة منه وترك الاستخفاف بحقه وأنه لا يزيد ولا ينقص.) ا. هـ
- فهذه الفرق جميعها لا تختلف أقوالها في حقيقة الإيمان المجزئ عمن يقول أن الإيمان هو الإقرار والمعرفة والخضوع أو تصديق القلب وعمله وإقرار اللسان ، إلا في تسمية الأعمال إيمانا ، ومسألة زيادة الإيمان ونقصانه قد لا يكون لها اختصاص بالمرجئة من جهة أن هذا هو قول الخوارج أيضا وشبهتهم وأصلهم في ذلك واحد هو أن الإيمان شيء واحد لاسيما وقد نقل عن بعض الأئمة أن الإيمان يزيد ولا ينقص .
فإذا أضيف إلى ذلك أن بعض فرق المرجئة قد قال بالتفاضل والزيادة والنقصان وإمكان تعذيب الله لأهل الكبائر كما هو قول الفرقة الثامنة وغيرها فقد ذابت حقيقة الفوارق المميزة بين أصحاب هذه الشبهة وبين قول هذه الفرق وكان الخلاف بينهم في تسمية هذه الأعمال إيمان شكلي ولفظي فحسب !
وتأمل قول الأشعري رحمه الله:
( واختلفت المرجئة في فجار أهل القبلة هل يجوز أن يخلدهم الله في النار إن أدخلهم النار على خمسة أقاويل: فزعمت الفرقة الأولى أصحاب بشر المريسي أنه محال أن يخلد الله الفجار من أهل القبلة في النار لقول الله عز وجل: "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره" وأنهم وزعمت الفرقة الثانية منهم أصحاب أبي شمر ومحمد بن شبيب أنه جائز أن يدخلهم الله النار وجائز أن يخلدهم فيها إن أدخلهم وجائز أن لا يخلدهم.
وقالت الفرقة الثالثة أن الله عز وجل يدخل النار قوماً من المسلمين إلا أنهم يخرجون بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصيرون إلى الجنة لا محالة. وقالت الفرقة الرابعة وهم أصحاب غيلان: جائز أن يعذبهم الله وجائز أن يعفو عنهم وجائز أن لا يخلدهم فإن عذب أحداً عذب من ارتكب مثل ما ارتكبه وكذلك إن خلده وإن عفا عن أحد عفا عن كل من كان مثله.
وقالت الفرقة الخامسة منهم: جائز أن يعذبهم الله وجائز أن لا يعذبهم وجائز أن يخلدهم ولا يخلدهم وأن يعذب واحداً ويعفو عمن كان مثله كل ذلك لله عز وجل أن يفعله.) ا. هـ
- فهم يقرون بتعذيب أهل الكبائر مع أنهم جميعا لم يطلقوا على أعمال الجوارح اسم الإيمان فهل ثمة فرق حقيقي بين أقوال هذه الفرق وبين من يقول بأن تارك العمل بالكلية لا يكفر وأنه يجزئ القول والاعتقاد دون العمل ؟ !
- وقد يقول قائل ما ذكرته لا باس به من جهة أن الخلاف بيننا وبين هذه الفرق لفظي وهذا ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله نصا عن الخلاف بين مرجئة الفقهاء وأهل السنة فذكر أن الخلاف بينهما لفظي إذ جعلوا أعمال الجوارح لازمة للإيمان ليست منه .
- والجواب عن ذلك أن هذا الكلام بني على فهم مغلوط لكلام شيخ الإسلام رحمه الله المذكور في هذه الموضع .
- ولو رجعنا إلى قوله لوجدنا أنه قد علق كون الخلاف لفظيا بين من يقول بأن العمل من الإيمان ومن يقول بأنه لازم له ليس منه إذا رتب على هذا التلازم انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه، أي انتفاء الإيمان الباطن لانتفاء العمل الظاهر ففي هذه الحالة فقط يكون الخلاف لفظيا ومما يوضح ذلك قوله رحمه الله للجهمية :
- ) أنكم سلمتم أن هذه الأعمال لازمة لإيمان القلب، فإذا انتفت لم يبق في القلب إيمان، وهذا هو المطلوب، وبعد هذا فكونها لازمة أو جزءًا، نزاع لفظي(
- وقال رحمه الله كما في 1/168 الإيمان الأوسط :
) ومنشأ الغلط في هذه المواضع من وجوه :
أحدها : أن العلم والتصديق مستلزم لجميع موجبات الإيمان .
الثاني : ظن الظان أن ما في القلوب لا يتفاضل الناس فيه .
الثالث : ظن الظان أن ما في القلب من الإيمان المقبول يمكن تخلف القول الظاهر والعمل الظاهر عنه .
الرابع : ظن الظان أن ليس في القلب إلا التصديق،وأن ليس الظاهر إلا عمل الجوارح . والصواب أن القلب له عمل مع التصديق، والظاهر قول ظاهر وعمل ظاهر، وكلاهما مستلزم للباطن . والمرجئة أخرجوا العمل الظاهر عن الإيمان؛ فمن قصد منهم إخراج أعمال القلوب ـ أيضًا ـ وجعلها هي التصديق، فهذا ضلال بين، ومن قصد إخراج العمل الظاهر قيل لهم : العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه، وانتفاء الظاهر دليل انتفاء الباطن، فبقى النزاع في أن العمل الظاهر : هل هو جزء من مسمى الإيمان يدل عليه بالتضمن، أو لازم لمسمى الإيمان ؟(
ومما ينبغي أن التنبه له في هذا المقام أن الحديث عن الجهمية والرد عليهم يختلف عن الحديث عن المرجئة والرد عليهم فكلاهما يشترك في إخراج عمل الجوارح من الإيمان وتختص الجهمية بإخراج قول اللسان أيضا ، وهذا يفيد في فهم كلام شيخ الإسلام عند الظاهر وانتفاء الإيمان ففي سياق الرد على الجهمية يحتمل أن يكون الظاهر في كلام شيخ الإسلام متضمنا قول اللسان وعمل الجوارح معا ويحتمل إن يكون أحدهما بحسب السياق حيث أنهم قد أخرجوا الظاهر كله بما فيه القول والعمل ، أما في سياق الحديث عن المرجئة خاصة مرجئة الفقهاء فإن الحديث عن الظاهر وانتفاءه يقتصر على ما أخرجوه فقط وهو عمل الجوارح وأيضا بحسب السياق !
- ففي هذا النقل قد فصل شيخ الإسلام أركان الإيمان الأربعة من قول اللسان وتصديق القلب وعمل الجوارح وأعمال القلب فقال :
) والظاهر قول ظاهر وعمل ظاهر، وكلاهما مستلزم للباطن(
فهنا نص على أن الظاهر قول ظاهر وعمل ظاهر وأن كلاهما مستلزم للباطن
ثم ذكر خطا المرجئة فقال ) - والمرجئة أخرجوا العمل الظاهر عن الإيمان(
-ثم قال: ( فمن قصد منهم إخراج أعمال القلوب أيضًا وجعلها هي التصديق، فهذا ضلال بين(
- ثم قال ( ومن قصد إخراج العمل الظاهر قيل لهم : العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه، وانتفاء الظاهر دليل انتفاء الباطن)
وهذا هو محل الشاهد حيث نص شيخ الإسلام رحمه الله على انتفاء الإيمان الباطن لانتفاء العمل الظاهر والذي على أساسه يكون الخلاف بين صاحب هذا القول وبين قول أهل السنة خلافا لفظيا ولذا أردف بقوله :
( فبقى النزاع في أن العمل الظاهر : هل هو جزء من مسمى الإيمان يدل عليه بالتضمن، أو لازم لمسمى الإيمان ؟ )
فالإقرار بأن (انتفاء الظاهر دليل على انتفاء الباطن) لمن يقول بالتلازم بينهما هو شرط كون النزاع لفظيا ، فإذا كان العمل الظاهر لازم لإيمان القلب فيلزم من ذلك انتفاء الإيمان الباطن لانتفائه وبدون هذا فلا يمكن أن يكون الخلاف لفظيا .
فمن يقول بأن الخلاف لفظي لأنهم جعلوا العمل لازم للإيمان فهو مخطئ .لأنه لا يتحقق هذا اللزوم حقيقة إلا بانتفاء الملزوم عند انتفاء اللازم وإلا فلا معنى للتلازم .
فهذا الموضع مع مواضع كثيرة لشيخ الإسلام أكد فيها رحمه الله على قاعدة أهل السنة في التلازم المطلق بين الظاهر والباطن وعلى انتفاء الإيمان الباطن لانتفاء العمل الظاهر .
وليس المقصود في هذا الاستطراد الرد على الشيخ عبد العظيم وفقه الله حيث أن الشيخ لم يتكلم بكل ما سبق ولكنه يتفق مع من يقول بهذا الكلام ضرورة ، لذا أوردت ما سبق في سياق المسالة ، وهي مسالة ثار حولها خلاف كثير في هذا العصر ولولا التعدي والتجني من أصحاب هذه القول على إخوانهم واتهامهم لهم بأنهم على منهج الخوارج وأنهم يكفرون بالمعاصي لما ذكرت ما سبق حيث أن المسالة ليست مما يترتب عليها أحكام ظاهرة وحدوثها في الواقع يكاد يكون غير متحقق ، وقد يلتمس لمن يخالف في هذه المسالة العذر إذا ما اقتصر على الاحتجاج بدلالات النصوص الشرعية وما يذكر من الأحاديث من غير تعدي على الثوابت المجمع عليها أو اتهام المخالف بالخروج عن منهج السنة ...
- أما ما أورده الشيخ من أحاديث الشفاعة وغيرها فقد وجهها العلماء بحيث تتفق مع النصوص الأخرى التي تقرر كفر تارك الصلاة ، ومع إجماع الأمة على كفر تارك العمل بالكلية ... فكل من يرى كفر تارك الصلاة فإنه يقيد أحاديث الشفاعة بأحاديث كفر تارك الصلاة وعلى رأس هؤلاء جمهور الصحابة والتابعين كما قال ابن حزم في الفصل 3/27 ( روينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعاذ بن جبل ،وابن مسعود ، وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم وعن ابن المبارك ،وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه رحمة الله عليهم ، وعن تمام سبعة عشر رجلاً من الصحابة ، والتابعين رضي الله عنهم ، أن من ترك صلاة فرض عامداً ذاكراً حتى يخرج وقتها ، فإنه كافر ومرتد ، وبهذا يقول عبد الله بن الماجشون صاحب مالك ، وبه يقول عبد الملك بن حبيب الأندلسي وغيره ...)
- أما من يذهب إلى كفر تارك الصلاة من المعاصرين فمنهم علماء المملكة العربية السعودية بما فيهم الشيخ ابن باز والشيخ العثيمين واللجنة الدائمة وهيئة كبار العلماء ومنهم الكثير من علماء مصر وغيرها من كافة بلدان العالم الإسلامي وهؤلاء جميعهم يرون ضرورة تقييد أحاديث الشفاعة وغيرها مما قد تفيد دخول الجنة بلا عمل بالنصوص الواردة في كفر تارك الصلاة ، وتوجيه هذه الأحاديث بما يتنافي مع إجماع الأمة أن الإيمان قول وعمل .
- فها هي أدلة الشيخ جميعها أول من يعارضها هم صحابة النبي عليه الصلاة والسلام والتابعين ومن المعاصرين اللجنة الدائمة وهيئة كبار العلماء وغيرهم ، فهل يصح للشيخ بعد ذلك أن يترك قول الجماعة الذين هم الصحابة لقول غيرهم أيا ما كان ؟!
فإذا قيل بقي مع الشيخ من لم ير كفر تارك الصلاة وهم جمهور الفقهاء من أتباع المذاهب.
فالجواب عن ذلك من وجوه :
أولا : أن هذا على فرض صحته يدل على أن الشيخ لم يتبع الصحابة أو جمهور الصحابة الذين هم الجماعة كما قرر ذلك في شريط (كيف تكون من أهل السنة ) وأكد على ضرورة التزام أقوالهم وعدم اعتبار قول من يخالفهم !
وإذا ثبت تكفير الصحابة لتارك الصلاة أو غيرها من الأعمال فقد ثبت بالضرورة أنهم يرون تقييد هذه الأحاديث التي يحتج بها الشيخ حيث أنهم رواتها وناقلوها ولا يجتمع القول بتكفير تارك الصلاة مع القول بأن تارك العمل بالكلية لا يكفر .
وثانيا : فإن منهج أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل واعتقاد لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر وعلى هذا إجماعهم الذي ذكرناه فلابد من العمل ليصح الإيمان ويقبل ومن يقول بالإجزاء بدون العمل فقد خالف هذا الإجماع الصريح وقال بقول المرجئة كما سبق عن الآجري رحمه الله .
ثالثا : إن فتاوى اللجنة الدائمة قد اعتبرت مثل هذا القول الذي يتبناه الشيخ وفقه الله من أقوال المرجئة حيث أصدرت الفتاوى في أكثر من كتاب بتحريم طبعه ونشره واعتبرت من يقول بأن المرء قد يجزئه القول والاعتقاد فقط دون العمل من أقوال المرجئة كما سيأتي ، مع أن أصحاب هذه الكتب قد أكدوا مرارا وتكرارا على أن العمل داخل في مسمى الإيمان وجزء منه ولكنه من مكملاته لا من أصله وتاركه بالكلية لا يكفر ومن هذه الكتب كتاب (ضبط الضوابط) لصاحبه الشيخ أحمد الزهراني وقد قال في كتابه المذكور : صـ60 :
( ... وأما أهل السنة فجميع الأقوال والأعمال التي يحبه الله ورسوله هي عندهم من جملة الإيمان) .
وقال : ( المتقرر عند أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص وهو صريح ما نطق به القرآن والسنة وعليه مذهب الصحابة الكرام ومن بعدهم من السلف الصالح ).
ولكنه لما قدم كتابه بقوله أن العمل شرط كمال وأن تاركه بالكلية لا يكفر حيث قال :
( وأما ما ذكر من أن العمل الظاهر شرط كمال في الإيمان فهو الحق وإن أبى من أبى وهو منهج أهل السنة والجماعة ، وليس في نصوص السلف الصالح ما يخالف هذا عند التأمل) ا.هـ
فكان جواب اللجنة الدائمة على كتابه :
( فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الكتاب الموسوم ب : ( ضبط الضوابط في الإيمان ونواقضه ) تأليف المدعو / أحمد بن صالح الزهراني
فوجدته كتابا يدعو إلى مذهب الإرجاء المذموم ؛ لأنه لا يعتبر الأعمال الظاهرة داخلة في حقيقة الإيمان ، وهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة من أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح ، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية .
وعليه : فإن هذا الكتاب لا يجوز نشره وترويجه ، ويجب على مؤلفه وناشره التوبة إلى الله عز وجل . ) ا.هـ
- وأيضا كتاب) حقيقة الإيمان ) للشيخ عدنان عبد القادر فقد قرر فيه نفس ما قرر صاحب كتاب ضبط الضوابط بل زاد عليه بأن جعل العمل ركنا في الإيمان ولكنه قرر كما قرر الشيخ عبد العظيم هنا من أن تارك العمل بالكلية لا يكفر واحتج بأحاديث الشفاعة على ذلك فكان جواب اللجة الدائمة عليه هو نفس جوابها على كتاب الشيخ أحمد الزهراني بأن هذا كلام المرجئة ويحرم نشره وطباعته وتجب التوبة على صاحبه .
- وهذا ما قرره الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في كثير من المواضع خاصة على كلام ابن حجر رحمه في الإيمان وخطاه في نقل مذهب السلف وهو في الفتح والذي يحتج به الكثيرون في هذه المسألة ،وأيضا في تعليقه على العقيدة الطحاوية قرر في أكثر من موضع خطا الإمام الطحاوي في مسالة الإيمان ...
- ولقد سال رحمه الله عام (1415هـ) ـ في أحد دروسه ـ عن الأعمال : أهـي شـرط صحـة للإيمان ، أم شرط كمال ؟
ــ فقال رحمه الله : من الأعمال شرط صحة للإيمان لا يصح الإيمان إلا بها كالصلاة ، فمن تركها فقد كفر. ومنها ما هو شرط كمال يصـح الإيمـان بدونها ، مع عصيان تاركها وإثمه .
ــ فقلت له رحمه الله : من لم يكفر تارك الصلاة من السلف ، أيكون العمل عنده شرط كمال؟ أم شرط صحة ؟
ـــ فقال : لا ، بل العمل عند الجميع شرط صحة، إلا أنهم اختلفوا فيما يصح الإيمان به منه ؛ فقالت جماعة : إنه الصـلاة ، وعليـه إجماع الصحابـة رضـي الله عنهم ، كما حكاه عبد الله بن شقيق. وقال آخرون بغيرها. إلا أن جنس العمل لابد منه لصحة الإيمان عند السلف جميعاً. لهذا الإيمان عندهم قول وعمل واعتقاد ،لا يصح إلا بها مجتمعة أ.هـ(
- وأكتفي بما سبق ولعله يبرز بجلاء مدى مخالفة الشيخ لهؤلاء الأكابر في هذه المسالة ونحن مع مخالفته لهؤلاء وخطاه في المسالة نحفظ له قدره واجتهاده ونطلب منه أن يفعل مثل ذلك فيحفظ لهؤلاء حرمتهم وينزلهم منازلهم .
الوقفة السابعة :
- قال الشيخ في د 44 ( ولم يختلف أهل السنة في ذلك إلا فيمن ترك الصلاة ومن ترك الحكم بما أنزل الله ، هاتان مسالتان أختلف فيهما أهل السنة .. حكم تارك الصلاة وحكم تارك الحكم بما أنزل الله )
وقرر أن سبب الخلاف هو ( نصوص جاءت تسمي تارك الصلاة كافرا وتسمي تارك الحكم بما أنزل الله كافرا )
وهنا يجعل الشيخ هاتين المسألتين مما اختلف فيهما أهل السنة ومعلوم أن المسألة إذا كانت خلافية بين أهل السنة فلا يجوز الإنكار فيها على المخالف فضلا عن تبديعه وتضليه وتسميته بالتكفيري والخارجي ، ولكن الشيخ هنا سرعان ما وصف مخالفه بالتكفيري !
فهل يقال لمن يكفر تارك الصلاة بأنه تكفيري ؟
وهل أثر عن السلف شيء من ذلك ؟
- ثم ذكر الشيخ الخلاف في تارك الصلاة وذكر أن أحمد ونفر ممن ذهب إلى تكفير تارك الصلاة كسلا وتهاونا لظاهر الأحاديث المعلومة في تكفير تارك الصلاة ، ثم ذكر بعد ذلك أن الجمهور على خلاف ذلك وذكر أدلة الجمهور..
- وما ذكره الشيخ وفقه الله في هذه المسألة فيه إخلال بعرض حقيقة الخلاف الحاصل في هذه المسألة ،لأنه إذا كان أحمد ونفر ذهب إلى تكفير تارك الصلاة فأين الناس قبل أحمد ؟
وهل يصح أن يهمل ذكر الصحابة أو حتى جمهورهم إذا كانوا طرفا في خلاف ما ؟
فكان من الواجب على الشيخ وفقه الله حين ذكر الخلاف أن يذكر أولا مذهب الصحابة والتابعين قبل أن يذكر مذهب الأئمة الأربعة وأتباعهم ، لأن السلف من الصحابة والتابعين والأئمة هم المقصودون أصالة بالإتباع خاصة في المسالة التي يحصل فيها الخلاف ،أما حكاية الخلاف من وقت الأئمة ومن بعدهم دون الإشارة إلى مذهب الصحابة والتابعين ففيه إخلال بلا شك واذكر هنا بعض كلام السلف في هذه المسالة .
- قال محمد بن نصر المروزي:
) قد ذكرنا في كتابنا هذا ما دل عليه كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من تعظيم قدر الصلاة وإيجاب الوعد بالثواب لمن قام بها، والتغليظ بالوعيد على من ضيعها، والفرق بينها وبين سائر الأعمال في الفضل، وعظم القدر. ثم ذكرنا الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في إكفار تاركها، وإخراجه إياه من الملة، وإباحة قتال من امتنع من إقامتها، ثم جاءنا عن الصحابة مثل ذلك، ولم يجئنا عن أحد منهم خلاف ذلك)
- وقال رحمه الله : ( هو قول جمهور أهل الحديث) أي كفر تارك الصلاة
- وقال : ( سمعت إسحاق يقول: "صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر)
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى :
) والمنقول عن أكثر السلف يقتضي كفره وهذا مع الإقرار بالوجوب، فأما من جحد الوجوب، فهو كافر بالاتفاق(
- وقال أيضاً: ( وتكفير تارك الصلاة هو المشهور المأثور عن جمهور السلف من الصحابة والتابعين )
وذكر الكثير من أهل العلم انه إجماع الصحابة .
فهل من يقول بأن جمهور السلف على كفر تارك الصلاة يكون قد أخطا ؟
وإذا قابل السلفي القول بأن ( جمهور السلف الصحابة والتابعين) و( أكثر السلف ) و ( رأي أهل العلم من لدن النبي إلى إسحاق بن راهويه ) و( جمهور أهل الحديث ) بمصطلح جمهور العلماء من بعد الأئمة الأربعة فما عساه أن يترجح له ؟!
- إن هذا الطرح المخل للمسائل يعد سمة بارزة في منهج الشيخ وفيه بلا شك إزراء من قدر هؤلاء المخالفين وهم هنا سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين مع أن الشيخ كثيرا ما يدندن بأن الصحابة هم الجماعة وأنهم هم أهل السنة وأنه لا ينبغي أن ينظر لقول مخالفهم ويحكي في ذلك الآثار الكثيرة كما في شريط كيف تكون من أهل السنة ثم نجده هنا يغض الطرف عن هذا كله ويتوارى خلف مسمى جمهور العلماء !
الوقفة الثامنة :
ذكر الشيخ المسألة الثانية التي اختلف فيها أهل السنة والجماعة وهي مسالة الحكم بغير ما أنزل الله فقال : ( فعمدة أهل
التكفير في تكفير الحكام آيات المائدة الثلاث .... )
والعجب من صنيع الشيخ هنا حيث ذكر أن المسالة مما اختلف فيها أهل السنة ،ومعلوم أن موجب هذا الخلاف أن فريقا من أهل السنة يرى كفر الحكام بالقوانين الوضعية ، وفريقا آخر لا يرى كفرهم كما حصل الخلاف في كفر تارك الصلاة ..
والسؤال هنا : لماذا لم يذكر الشيخ أحدا من العلماء المخالفين له كما ذكر الكثير ممن يرى أنهم يوافقونه ؟!
وإذا أقر الشيخ بأن الخلاف حاصل في مسالة الحكم بما أنزل الله فلماذا يوصف من يكفر الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله بأنه من أهل تكفير ؟! لا شك أن هذا تناقض واضطراب !
ثم ذكر الشيخ أن التفصيل في هذه المسألة هو الواجب !
والتفصيل عند الشيخ هو أن من ترك الحكم بما أنزل الله جاحدا كفر ومن تركه معتقدا وجوبه لم يكفر وهو مستحق للإثم والعقوبة !
وعلى مذهب الشيخ فإن أهل السنة لديهم تفصيل في حكم جميع الأعمال !
حيث أنهم قد قالوا بمثل الذي يسميه الشيخ تفصلا في ترك جميع الأعمال الواجبة ، فمن ترك الصيام جاحدا كفر ومن تركه تهاونا لم يكفر ومن ترك الزكاة جاحدا كفر ومن تركها تهاونا لم يكفر وقل مثل ذلك في ترك جميع الأعمال !
- فإن كلمة تفصيل تعني عند السامع تحقيقا يخص هذه المسالة يتضمن دقائقها ومسالكها وتعدد أوجه الخلاف فيها . فإذا كان ما يقال في هذه المسالة هو ما يقال في غيرها فأين ما يخصها من تفصيل ؟ !
أما تفصيل أهل العلم الحقيقي فإنهم يجعلون الحكم بغير ما أنزل الله صورا متعددة لا صورة واحدة ، وذلك يرجع إلى اختلاف دلالات لفظ الحكم في الكتاب والسنة من حيث الاستعمال حيث أنه قد ورد في نصوص الكتاب والسنة على معنيين رئيسيين :
- الأول التشريع :
- والتشريع وهو من خصائص الرب سبحانه وتعالى وهو حكم الله الذي شرعه في كتابه وعرفه الأصوليون بأنه خطاب الله المتعلق بأعمال المكلفين تكليفا ووضعا وهو تحليل الحلال وتحريم الحرام ووضع العقوبات والحدود وغيرها ...
وهذا المعنى قد اختص به الرب سبحانه فهو من خصائص ربوبيته لقوله سبحانه : (ولا يشرك في حكمه أحدا ) وقوله (إن الحكم إلا لله ) وقوله (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم ياذن به الله ) ونعيه سبحانه على أهل الكتاب بأنهم (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا ) وقول النبي عليه الصلاة والسلام : (الم يحلوا لكم الحرام ويحرموا عليكم الحلال ..) الحديث ففسر ربوبية الأحبار والرهبان بتحليل الحرام وتحريم الحلال فدل على أن هذا من خصائص الرب سبحانه وتعالى .
- وحيث أن توحيد الرب سبحانه وتعالى هو إفراده سبحانه بما يختص من الأسماء والصفات والأفعال وما يستحق من العبادة والتعظيم وحيث أن التشريع والتحليل والتحريم هو من خصائصه سبحانه ومن أعمال الربوبية التي لا يشرك فيها أحدا كان واجب المكلف تجاه حكم الله وتشريعه هو إفراده سبحانه بذلك ، وذلك يكون بقبوله وحده والانقياد له وحده ، وهو معنى طاعته في التشريع ، ويقابل ذلك التولي عن الطاعة برد حكم الله وعدم قبوله حكما أو الشرك في الطاعة بقبول غير شرعه معه فالواجب على المسلم إن كان حاكما ان يفرد الله بالتشريع بأن يجعله وحده حكما بين الناس ،ترد غليه جميع الخصومات والنزاعات ، وإن كان محكوما افرد الله بالتشريع بالتحاكم إلى شرع الله وحده .
ومن يجعل شرعا غير شرع الله حكما بين الناس فلا يكون حينئذ قد أفرد الله سبحانه بالحكم بل يكون قد أشرك في حكمه أحدا والله يقول (ولا يشرك في حكمه أحدا ) وفي قراءة ابن عامر (ولا تشرك في حكمه أحدا ) ..
- أما المعنى الثاني للفظ الحكم والذي يرد في استعمال الكتاب والسنة فهو القضاء :
والقضاء موكول للقاضي والحاكم الشرعي وعمله فقط تنفيذ الأحكام الشرعية بشان المتخاصمين ، فالقاضي حاكم بين الناس بمعنى المنفذ لحكم الله وشرعه .
وهذا القاضي قد يظلم ويجور أثناء تنفيذ الأحكام إما لرشوة أو لعداوة لأحد المتخاصمين أو غير ذلك لكنه في الأصل ملتزم بحكم الله سبحانه وتعالى وشرعه فلا يحل حراما ولا يحرم حلالا ولا يسن تشريعا ومن ذلك قوله سبحانه (وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ..) والمعنى أقض بينهم .
- ولا خلاف في أن لفظ الحكم في القرآن يتناول هذين المعنيين وغيرهما .
فأما الصورة الأولى فالإجماع منعقد على كفر من يخالف فيها حاكما كان أو محكوما فمن شرع حكما عاما يبدل به شرائع الإسلام يحل به الحرام أو يحرم به الحلال أو يشرك به شرع الله سبحانه فهو كافر خارج عن ملة الإسلام ومن يتحاكم إلى الطاغوت ويقدمه على شرع الله باختياره فهو كافر .
يقول الحق تبارك وتعالى : ( يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ...) والطاغوت هو كل ما يتحاكم إليه غير الله ورسوله من القوانين والأعراف والآراء والأهواء ...
- وهذا شيء مما ذكره أهل العلم بهذا الصدد :
قال الإمام إسحاق اين راهويه :
( وقد أجمع العلماء أن من سب الله عز وجل أو سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو دفع شيئا أنزله الله أو قتل نبيا من أنبياء الله وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر ( ا.هـ
فقوله : ( دفع شيئا أنزله الله) يعني رده وعدم قبوله وقوله ( وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر ) يعني لا ينكر شرع الله وفيه رد على قول الشيخ بأنه إذا كان مقرا بوجوب الحكم غير جاحد له فإنه لا يكفر !
فهذا إجماع على أنه يكفر وإن كان مقرا إذا دفع شيئا مما أنزل الله يعني رده .
- وقد ذكر ابن حزم صيغة أخرى للإجماع فقال :
( ...لا خلاف بين اثنين من المسلمين أن هذا منسوخ ، وأن من حكم بحكم الإنجيل مما لم يأت بالنص عليه وحي في شريعة الإسلام فإنه كافر مشرك خارج عن الإسلام " ) الإحكام في أصول الأحكام
- وقال أيضا : ( إحداث الأحكام لا يخلو من أحد أربعة أوجه : إما إسقاط فرض لازم كإسقاط بعض الصلاة أو بعض الصيام أو بعض الزكاة أو بعض الحج أو بعض حد الزنى أو حد القذف أو إسقاط جميع ذلك وإما زيادة في شيء منها أو إحداث فرض جديد وإما إحلال محرم كتحليل لحم الخنزير والخمر والميتة وإما تحريم محلل كتحريم لحم الكبش وما أشبه ذلك وأي هذه الوجوه كان فالقائل به مشرك لاحق باليهود والنصارى )
- ونص ابن كثير رحمه الله أيضا على هذا الإجماع حيث قال :
) فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر ، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه ؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين ، قال تعالى " أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) البداية والنهاية
ونحن نقول أيضا فكيف بمن تحاكم على ذبالة أذهان البشر وقوانين الرومان والفرنسيين وسائر ملل الكفر وقدمها على شرع الله ؟
فهذه إجماعات متتالية متعاقبة تنص على كفر من يبدل شرائع الإسلام بغيرها من الشرائع المنسوخة فكيف بمن يبدلها بقوانين أهل الكفر وحسالة أذهان البشر .؟ وكيف يترك ذكر هذه الإجماعات ويذهب إلى كلام عام ثم يزعم بأنه التفصيل ، فهل هذا هو منهج أهل التحقيق !
- أما الصورة الثانية من صور الحكم وهي القضاء ، فهي ما يدندن حوله الشيخ وغيره ويذكر فيه أقوال المفسرين فهذه الصورة هي التي يقال لها كفر دون كفر، وكفر لا يخرج عن الملة وذلك لان السلف رحمهم الله لم يكن عندهم شيء من سن القوانين وتشريع الأحكام بل كل المخالفات التي كانت على وقتهم هي في باب
القضاء وظلم الولاة حيث كانت الشريعة محكمة والخلافة قائمة لم تبدل الأحكام أو تسن القوانين المخالفة لشريعة الله ، ولم يحدث ذلك قط إلا في زمان التتار حين وضعوا االياسق وحينها أجمعوا على كفرهم وضلالهم كما سبق عن ابن كثير رحمه الله ، ثم رجع الأمر بعدهم حتى زماننا هذا حيث سقطت الخلافة وأزيحت الشريعة وحل محلها الدستور والقانون الذي يسنه مجلس الشعب .
وفي ذلك - يقول الشيخ محمود شاكر رحمه الله :
( فإنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أنْ سنّ حاكم حكما وجعله شريعة ملزمة للقضاء بها. هذه واحدة. وأخرى: أن الحاكم الذي حكم في قضية بعينها بغير حكم الله فيها، فإنه إما أن يكون حكم بها وهو جاهل، فهذا أمره أمر الجاهل بالشريعة. وإما أن يكون حكم بها هوى ومعصية، فهذا ذنب تناله التوبة، وتلحقه المغفرة. وإما أن يكون حكم به متأولا حكما خالف به سائر العلماء، فهذا حكمه حكم كل متأول يستمد تأويله من الإقرار بنص الكتاب، وسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم)
- وقال رحمه الله : ( الذي نحن فيه اليوم هو هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء، وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه، وتعطيل لكل ما في شريعة الله، بل بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع على أحكام الله المنزلة، وادعاء المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان غير زماننا، ولعلل وأسباب انقضت، فسقطت الأحكام كلها بانقضائها) ا. هـ
- أما عن أثر ابن عباس رضي الله عنه فقد علق عليه رحمه الله وعلى بعض الآثار الأخرى التي في معناه فقال :
( لم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعة زماننا من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فهذا الفعل إعراض عن حكم الله ورغبة عن دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه. ولو كان الأمر على ما ظنوا في خبر أبي مِجْلز، أنهم أرادوا مخالفة السلطان في حكم من أحكام الشريعة، (
- وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعليقا على نفس الأثر :
( إنه ليس بالكفر الذي تذهبون إليه، إنه ليس كفرا ينقل عن الملة " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" كفر دون كفر". ووافقه الذهبي على تصحيحه.وهذه الآثار عن ابن عباس وغيره، مما يلعب به المضللون في عصرنا هذا، من المنتسبين للعلم، ومن غيرهم من الجرآء على الدين: يجعلونها عذرا أو إباحة للقوانين الوثنية الموضوعة، التي ضربت على بلاد الإسلام (
- وقال أيضا : ( إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس، هي كفر بوّاح، لا خفاء فيه ولا مداورة، ولا عذر لأحد ممن ينتسب للإسلام - كائنا من كان - في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها، فليحذر امرؤ لنفسه، وكل امرئ حسيب نفسه) أ هـ.
- وقال الشيخ العلامة حامد الفقي رئيس جمعية أنصال السنة في تعليقه على كتاب "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" قال: ( ومثل هذا وشر منه من اتخذ من كلام الفرنجة قوانين يتحاكم إليها في الدماء والفروج والأموال، ويقدمها على ما علم وتبين له من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو بلا شك كافر مرتد إذا أصر عليها ولم يرجع إلى الحكم بما أنزل الله، ولا ينفعه أي أسم تسمى به ولا أي عمل من ظواهر أعمال الصلاة والصيام والحج ونحوها) أ.هـ.
فهل يشك أحد في سلفية وعلمية الشيخ محمود شاكر وأخيه المحدث أحمد شاكر والشيخ العلامة محمد حامد الفقي رحمهم الله وكلهم مصريون ، وهل يصح وصف هؤلاء جميعا بأنهم أهل التكفير ؟!
- أما من ذكرهم الشيخ من أهل التفسير وغيرهم لم يكن كلامهم فيمن شرع الأحكام وسن القوانين فإن هذا لم يحدث في تاريخ الإسلام قط إلا في عهد التتار وفي عصرنا هذا . وهذا واقع تاريخي لا يمكن إثبات خلافه .
- أما الحكم بمعنى القضاء والمخالفة فيه بمعنى ترك الحكم بما أنزل الله في قضية أو بعض القضايا مع الالتزام ابتداء بحكم الله وشرعه فهو الذي يقال فيه كفر دون كفر وكفر لا ينقل عن الملة وهو الجور في الحكم وظلم الناس وعدم تنفيذ أحكام الله التي هي أصلا حاكمة وإليها المرجع في صدور الأحكام .
- ومما جاء في هذه الصورة قول ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد 5/74) : وأجمع العلماء على أن الجور في الحكم من الكبائر لمن تعمد ذلك عالماً به رويت في ذلك آثار شديدة عن السلف وقال الله عز وجل "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " و " الظالمون " و " الفاسقون " نزلت في أهل الكتاب . قال حذيفة و ابن عباس : وهي عامة فينا ، قالوا ليس بكفر ينقل عن الملة إذا فعل ذلك رجل من أهل هذه الأمة حتى يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ) ا.هـ
فقوله رويت في ذلك أي في (الجور في الحكم ) دليل واضح بأن كلامهم ليس في الصورة الأولى التي هي التشريع العام ، وغنما في الجور في الحكم فهذا الإجماع لا يتعارض مع ما ذكر من إجماع في الصورة الأولى لان والمحل ليس واحدا .
- ومما جاء أيضا في إثبات هذا التفريق بين هاتين الصورتين من صور الحكم
قول شيخ الإسلام رحمه الله في مجموع الفتاوى ج: 35 ص: 388
( فإن الحاكم إذا كان دينا لكنه حكم بغير علم كان من أهل النار وإن كان عالما لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه كان من أهل النار وإذا حكم بلا عدل ولا علم كان أولى أن يكون من أهل النار وهذا إذا حكم فى قضية معينة لشخص وأما إذا حكم حكما عاما فى دين المسلمين فجعل الحق باطلا والباطل حقا والسنة بدعة والبدعة سنة والمعروف منكرا والمنكر معروفا ونهى عما أمر الله به ورسوله وأمر بما نهى الله عنه ورسوله فهذا لون آخر يحكم فيه رب العالمين وإله المرسلين مالك يوم الدين ) ا . هـ
ولذلك لما حاول الشيخ خالد العنبري في كتابه ( الحكم بغير ما أنزل الله وأصول التكفير) أن يسوي بين صور الحكم جميعها وزعم أن ذلك تفصيل متين للمسالة يرد به على التكفيريين الذين يكفرون الحكام بلا تفصيل ! كان رد اللجنة الدائمة عليه صارما بأن هذا افتراء على أهل السنة والجماعة علما بأن ما ذكره في هذا الكتاب لا يخرج عما ذكره الشيخ هنا قيد أنملة !
- ومما جاء من كلام اللجنة فتوى رقم ( 21154 ) وتاريخ 24 / 10 / 1420 هـ
قولهم : (دعواه إجماع أهل السنة على عدم كفر من حكم بغـير ما أنزل الله في التـشـريع الـعـام إلا بالاستـحلال القلبي كسائر المعاصي التي دون الكفر . وهذا محض افتراء على أهل السنة ، منشؤه الجهل أو سوء القصد نسأل الله السلامة والعافية .
وبناء على ما تقدم ، فإن اللجنة ترى تـحريم طبع الكتاب المذكور ونشره وبيعه ، وتُذكر الكاتب بالتوبة إلى الله تعالى ومراجعة أهل العلم الموثوقين ليتعلم منهم ويبينوا له زلاته ، ونسأل الله للجميع الهداية والتوفيق والثبات على الإسلام والسنة . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم . )
فجعلت القول بأن الكفر في التشريع العام يكون بالاستحلال محض افتراء على أهل السنة . فماذا يقول الشيخ عبد العظيم في ذلك ؟
- وإذا دققنا النظر في الأقوال المتخالفة فإنه قد يقال بأن التشريع المخالف لابد وانه يتضمن تحليلا للحرام وتحريما للحلال ...
وتحليل الحرام وتحريم الحلال هو من معنى الاستحلال المتفق على كونه كفرا بين الفريقين.
فإن الاستحلال هو القول بأن هذا العمل الذي حرمه الله حلال ، فالمسالة من هذا الوجه تكون على كلا القولين كفر سواء قلنا بأن الكفر يكون بتشريع الأحكام المخالفة لشرع أو قلنا الكفر يكون بالاستحلال فالأمر متحقق بالنسبة للحكم بالقوانين الوضعية ...
وممن قال بذلك الشيخ بن عثيمين رحمه الله :
( وفي ظني أنه لا يمكن لأحدٍ أن يطبق قانوناً مخالفاً للشرع يحكم فيه في عباد الله إلا وهو يستحله ويعتقد أنه خير من القانون الشرعي، فهو كافر ، هذا هو الظاهر وإلا فما حمله على ذلك...)
فهذه بعض أقوال أهل العلم من المعاصرين من مصر والمملكة السعودية ويوجد غيرهم في كافة بلدان العالم الإسلامي لم أنقل أقوالهم اختصارا وإلا فهم أضعاف أضعاف من ذكرتهم والعبرة ليست بالكثرة على كل حال ولكن بما ذكر من الأدلة شرعية وإجماع الأمة على كفر من يبدل شرائع الإسلام بغيرها من القوانين ،فالحق لا يعرف بالرجال مهما كثروا فهل يصح وصف الشيخ لمن ذكرهم من أهل العلم بأهل التكفير ؟!
- الوقفة التاسعة
قد ذكر الشيخ وفقه الله فيمن يوافقه على ما ذهب إليه من عدم كفر الحكام المشرعين للقوانين الوضعية الإمام الشنقيطي رحمه الله وهذا من أعجب ما ذكره الشيخ في هذه الخطبة ، فإن كلام الشيخ الشنقيطي رحمه الله في هذا المقام أصرح الكلام وأبينه على كفر هؤلاء المشرعين وأنا أذكر كلامه حيث أنه لا يحتاج على تعليق :
- قال رحمه الله في نفس الآية التي ذكرها الشيخ في مقدمة خطبته :
( ويفهم من هذه الآيات كقوله { ولا يشرك في حكمه أحدا } أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله ، وهذا المفهوم جاء مبينا في آيات أخر ، كقوله فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة الله { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم ، وهذا الإشراك في الطاعة ، وأتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى هو المراد بعبادة الشيطان في قوله تعالى { ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم } .... ولذا سمي الله تعالى الذين يطاعون فيما زينوا من المعاصي شركاء في قوله تعالى { وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم .... } الآية .... وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور : أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم ، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته ، وأعماه عن نور الوحي مثلهم (
فتأمل قوله رحمه الله : (أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته ، وأعماه عن نور الوحي مثلهم)
- الوقفة العاشرة :
ذكر الشيخ أيضا بأن ممن يوافقه على ما ذهب إليه من عدم كفر الحكام بالقوانين الشيخ الألباني رحمه الله ووافقه على ذلك الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله وهذا فيه غلط على الشيخ ابن عثيمين رحمه الله حيث نص في جوابه على المخالفة للشيخ الألباني رحمه الله فقد قال تعليقا على كلام الشيخ الألباني :
( كلام الشيخ الألباني هذا جيد جداً لكنا قد نخالفه في مسألة أنه لا يحكم بكفرهم إلا إذا اعتقدوا حلَّ ذلك،!هذه المسألة تحتاج إلى نظر !، لأنا نقول : من حكم بحكم الله وهو يعتقد أن حكم غير الله أولى فهو كافر –وإن حكم بحكم الله- وكفره كفر عقيدة ! ، لكن كلامنا عن العمل ! ) ا .هـ
- بل الشيخ رحمه الله معروف عنه بأنه من أكثر الناس تقريرا لما سبق أن ذكرته من تفصيل بل لا يكاد يوجد كتاب للشيخ رحمه الله إلا ذكر فيه كفر الحكام بالقوانين الوضعية وهذه بعض أقواله رحمه الله :
( الحكم بغير ما أنزل الله ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول :
أن يُبطل حكم الله ليحل محله حكم أخر طاغوتي بحيث يلغي الحكم بالشريعة بين الناس ، ويجعل بدله حكم آخر من وضع البشر كالذين يُنحون الأحكام الشرعية
في المعاملة بين الناس ، ويحلون محلها القوانين الوضعية ، فهذا لاشك أنه استبدال بشريعة الله سبحانه وتعالى غيرها
وهو كفر مخرج من الملة ؛ لأن هذا جعل نفسه بمنزلة الخالق حيث شرع لعباد الله ما لم يأذن به الله ، بل ما خالف حكم الله عز وجل وجعله الحكم الفاصل بين الخلق ، وقد سمى الله تعالى ذلك شركاً في قوله تعالى : " أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله " .
القسم الثاني :
أن تبقى أحكام الله عز و جل على ما هي عليه و تكون السلطة لها ، ويكون الحكم منوطاً بها ، ولكن يأتي حاكم من الحكام فيحكم بغير ما تقتضيه هذه الأحكام ، أي يحكم بغير ما أنزل الله ، فهذا له ثلاث حالات :
الحال الأولى : أن يحكم بما يخالف شريعة الله معتقداً أن ذلك أفضل من حكم الله وأنفع لعباد الله ، أو معتقداً
أنه مماثل لحكم الله عز وجل ، أو يعتقد أنه يجوز له الحكم بغير ما أنزل الله ، فهذا كفر . يخرج به الحاكم من الملة، لأنه لم يرض بحكم الله عز وجل ،ولم يجعل الله حكماً بين عباده .
الحال الثانية : أن يحكم بغير ما أنزل الله معتقداً أن حكم الله تعالى هو الأفضل والأنفع لعباده ، لكنه خرج عنه ، وهو يشعر بأنه عاص لله عز وجل إنما يريد الجور والظلم للمحكوم عليه ، لما بينه وبينه من عداوة ، فهو يحكم بغير ما أنزل الله لا كراهة لحكم الله ولا استبدال به ، ولا اعتقاد بأنه أي الحكم الذي حكم به أفضل من حكم الله أو مساو له أو أنه يجوز الحكم به ، لكن من أجل الإضرار بالمحكوم عليه حكم بغير ما أنزل الله ،ففي هذه الحال لا نقول إن هذا الحاكم كافر ، بل تقول إنه ظالم معتد جائر .
الحال الثالثة : أن يحكم بغير ما أنزل الله وهو يعتقد أن حكم الله تعالى هو الأفضل والأنفع لعباد الله ، وأنه بحكمه هذا عاص لله عز وجل ، لكنه حكم لهوى في نفسه ، لمصلحة تعود له أو للمحكوم له ، فهذا فسق وخروج عن طاعة الله عز وجل ، وعلى هذه الأحوال الثلاث يتنزل قول الله تعالى في ثلاث آيات :" و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " وهذا يتنزل على الحالة الأولى " و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" يتنزل على الحالة الثانية " و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " يتنزل على الحالة الثالثة . ) فقه العبادات صـ 60،61
فتأمل أخي قول الشيخ رحمه الله عن القسم الأول : ( ويحلون محلها القوانين الوضعية ، فهذا لاشك أنه استبدال بشريعة الله سبحانه وتعالى غيرها وهو كفر مخرج من الملة ؛ لأن هذا جعل نفسه بمنزلة الخالق حيث شرع لعباد الله ما لم يأذن به الله ، بل ما خالف حكم الله عز وجل )
فهذا تفصيل جلي منه رحمه الله لهذه المسالة ولقد تكرر ذلك منه رحمه الله في جميع كتبه المطبوعة فلا يكاد كتاب للشيخ رحمه الله إلا ويذكر مثل هذا التفصيل وخاصة كتاب شرح رياض الصاحين ، وكما سبق أن ذكرت بأنه ليس المقصود أصالة تحرير المسائل التي ذكرت بقد ما هو إبراز الجانب الذي حرص الشيخ على إخفاءه في غالب محاضراته التي تتناول هذه المسائل .
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
فلقد استمعت منذ فترة إلى شريط مسجل بعنوان ( التحذير من فتنة التكفير) وهو عبارة عن خطبة للشيخ عبد العظيم بدوي وفقه الله ثم فرغت في رسالة صغيرة باسم : ( القول الفصل المبين في حكم من لم يحكم بما أنزل الله رب العالمين) .
ولي على ما تفضل به الشيخ في هذا الشريط بعض الوقفات والملاحظات التي أرى أن من واجب البلاغ والنصح للشيخ ولإخواني أن أذكرها وأنبه عليها وأسأل الله أن ينفع بها وان يخلص نياتنا وأقوالنا وأعمالنا لوجهه الكريم .
وقبل أن أسجل هذه الوقفات أنبه بداية إلى سبب كتابتها وما دفعني إلى ذلك رغم ما يمكن أن يقال أن هذا الكلام قد تكرر من آخرين غير الشيخ ونبه عليه أهل العلم فأقول :
- السبب الأول : أهمية ما ذكر في هذا الشريط من مسائل عقدية حري بكل مسلم أن يقف عليها اعتقادا وتطبيقا .
- ثانيا : طريقة عرض هذه المسائل حيث اتبع فيها الشيخ وفقه الله منهج التهميش للمخالفين حتى يخيل للمستمع أن الناس فيها على قول واحد ،وأن المخالف فيها خارج عن أهل ألسنة .
وإن من الإنصاف والأمانة أن من يتعرض لهذه المسائل أن يذكر ما فيها خلاف بين أهل العلم وأن يذكر من هم أهل العلم الذين خالفوا فيها ، ليراجع طالب العلم ويحقق المسائل ويحفظ للمخالفين ولأهل العلم حرمتهم وأقدارهم.
- ومما أثر عن السلف في ذلك قولهم : ( إن أهل السنة يذكرون ما لهم وما عليهم،وإن أهل البدع يذكرون ما لهم فقط ) والشيخ لم يلتزم ذلك فيما ذكره في هذا الشريط .
وقد قال مالك رحمه الله : ( ليس في زماننا هذا أقل من الإنصاف ) فإذا كان هذا في زمان مالك رحمه الله فما بالك به في هذا الزمان .
وقال ابن عبد البر في آداب طالب العلم : (من بركة العلم الإنصاف فمن لم ينصف لم يفهم ولم يتفهم .)
ثالثا : الشيخ في هذا الشريط وغيره يحاول أن يؤكد أنه لم يخرج عما قرره أهل العلم لاسيما علماء المملكة السعودية وعلماء اللجنة الدائمة على وجه الخصوص لما لهم من وزن علمي وقبول بين أطياف العاملين في العالم الإسلامي ولما هو معلوم عنهم من إتباعهم للسنة والقيام عليها علما وتعليما ودعوة ...
لذا فقد ركزت في هذه الوقفات على إبراز أمر لعله لم يخطر ببال وهو أن ما من مسالة تكلم فيها الشيخ وفقه الله وأوهم انه موافق فيها لعلماء اللجنة الدائمة إلا واللجنة قد بدعت هذا القول الذي اختاره ،وأفتت بتحريم نشره ووجوب التوبة على من قاله !
- وقد يقول قائل : إن علماء اللجنة الدائمة بشر يصيبون ويخطئون والشيخ عالم معتبر ويوافقه فيما ذهب إليه علماء آخرون غير اللجنة ...
والجواب عن ذلك : أن هذا حق لا إشكال فيه وهو ما نعتقده وندين الله سبحانه وتعالى به فهم كغيرهم بشر يصيبون ويخطئون ولكن المأخذ ليس في ذلك إنما المأخذ على الشيخ في أن يوهم أنه موافق لعلماء اللجنة الدائمة فيما ذكره من مسائل وهم في الحقيقة يخالفونه ويبدعوا كلامه ،وأيضا في إيهامه أن المسألة لا خلاف فيها أو أن الخلاف فيها واقع بين أهل السنة وأهل التكفير ثم يتبين بعد ذلك أن المخالفين له هم من يحتج بأقوالهم !
لهذه الأسباب وغيرها سجلت هذه الوقفات والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
الوقفة الأولى : التكفير ليس فتنه !
الشيخ وفقه يحذر من التكفير ويطلق القول كما في عنوان محاضرته " التحذير من فتنة التكفير" وكان الأليق بالشيخ أن يحذر من فتنة ( الغلو) في التكفير لان التكفير في ذاته ليس فتنة وليس بدعة بل هو حكم شرعي كغيره من الأحكام التي إذا أقيمت على وفق ما جاءت به الشريعة فليس بفتنة وإنما الفتنة في تجاوز حدود الله سبحانه وتعالى وذلك في كل أمر ونهي حيث قال سبحانه : ( وليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب عظيم ) الآية ، فالمخالفة عن أمر الله سبحانه وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ومنهجه وطريقته هو الفتنة وهو سبب الفتنة وذلك يكون بالغلو في تطبيقه ومجاوزة الحد أو القصور عن تطبيقه ، أما التزام ما جاءت به الشريعة فليس بفتنة ولا يكون سببا فيها ...
ولا شك أن الغلو في التكفير والتكفير بغير موجب خطأ عظيم وجرم كبير و التحذير من ذلك واجب متحتم على أهل العلم وطلابه لما في ذلك من تعدي لحدود الله واعتداء على دين المسلمين وأعراضهم ودمائهم وهذا واضح أمر لا إشكال فيه ولكن الإشكال أن يجعل نفس التكفير للكافرين الذي هو حكم الشريعة الفتنة أو البدعة ، أو أن تقابل بدعة الغلو في التكفير ببدعة التفريط والإرجاء ! فتقابل الفتنة بفتنة والبدعة ببدعة ، حتى يصل الأمر إلى التحذير من التكفير عموما بما يلزم من ذلك من تعطل أحكام الشريعة وغلق أبواب الردة باسم التحذير من فتنة التكفير !
وإن مما يجب على المسلم الغيور على دينه ، قبل أن يحذر من فتنة ( الغلو ) في التكفير ، أن يحذر أولا من فتنة الكفر والشرك الذي تطاير شراره وثار قتامه في كثير من بلاد المسلمين ، أما أن يكون للخائنين خصيما ، وللمنافقين ردءا وظهيرا ، ثم يتسلط على إخوانه الذين حركتهم الغيرة لتغيير مظاهر الكفر التي قد انتشرت في بلاد المسلمين كالنار في الهشيم - وإن أخطئوا - فهذا أبعد ما يكون عن الإنصاف ، وإلا فلو أنكر الكفر وحذر منه ، ثم حذر من الغلو في التكفير ، لكان خيرا له وأقوم .
- وفي زماننا قد وجد كثير ممن يحذرون من فتنة التكفير بل من التكفير رأسا، وألفت في ذلك الكثير من المؤلفات التي زعم أصحابها أنهم يحذرون من هذه الفتنة ثم تبين بعد ذلك أن الداء منهم والبلية فيهم وأن ثمة خلل في منهجهم واعتقادهم أدى بهم إلى رفع هذا الشعار وتقرير هذا المنهج وهو اعتقادهم في أن المسلم لا يكفر ولا يخرج من الملة وإن فعل من الكفر والشرك ما فعل ما لم يرد بذلك الخروج من الإسلام !
وهي عقيدة الإرجاء توارثها أهلها خلف عن سلف ،واستحكمت من عقول الكثير ممن ينتسب إلى العلم والدعوة خاصة في زماننا هذا ،حتى سرت إلى العامة فتشربتها قلوبهم الخاوية فشب عليها الصغير وشاب عليها الكبير فصارت فتنة بحق !
غيبت بسببها معالم الحق وضيعت حقائق الدين ،واشتبه على الناس حال الموحدين
والمشركين وذهبت عقيدة الولاء والبراء وتسلط بسببها الزنادقة والعلمانيون في رقاب المؤمنين حتى غدا للكافرين على المؤمنين كل سبيل . فإنا لله وإنا إليه راجعون .
- فلا يمكن عند هؤلاء أن يكفر من انتسب للإسلام بحال وإن ارتكب النواقض والموبقات طالما قد انتسب لهذا الدين وتسمي بأسماء المسلمين فهو مع قيامه على الشرك والكفر ومظاهرة أعداء الله موحد مخلص صادق متيقن منقاد قد حقق جميع شروط لا إله إلا الله التي جعلها العلماء شروطا لقبولها وكونها نافعة !
فهؤلاء وإن تشعبت أقوالهم فقد اتفقوا على جعل الإسلام ارق من ثوب سابري - مجرد انتساب - لهذا الدين لا يمكن أن يخرج منه صاحبه إلا أن يقرر هو الخروج فيقول أنا كافر أو أنا نصراني أو غير ذلك مهما فعل وقال من صنوف الشرك وأنواع الكفر ...
وقد حصر أغلبهم الكفر في الجحود والاستحلال صراحة ومنهم من اجتهد في وضع القيود الثقال بما يؤول به إلى ذلك .
ثم ادعوا بعد ذلك أن من يخالف ذلك فقد انتهج نهج الخوارج في التكفير وهو بذلك يستحق التحذير....
و من هذه الكتب التي ابتلينا بها كتاب ( إحكام التقرير في أحكام التكفير ) لصاحبه الشيخ مراد شكري وكتاب (التحذير من فتنة التكفير ) للشيخ علي بن حسن الحلبي وغيرهم ، ولقد حذر من هذه الكتب وغيرها أهل العلم وخاصة علماء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز رحمه الله ،فقد حذروا منها ومن أصحابها وصدرت الفتاوى تحذر من قراءتها وطباعتها ونشرها وأكدت على وجوب توبة أصحابها من بدعة الإرجاء ولم يمنعهم من ذلك أن أصحاب هذه الكتب ينتسبون إلى العلم والحديث والسنة ويرفعون لواءها .
- ومما جاء في فتوى اللجنة الدائمة بخصوص كتاب إحكام التقرير قولهم :
( بعد الإطلاع على الكتاب المذكور وُجد أنه متضمن لما ذُكر من تقرير مذهب المرجئة ونشره . من أنه لا كفر إلا كفر الجحود والتكذيب ، وإظهار هذا المذهب المُردي باسم السنة.....
فإن هذا الكتاب لا يجوز نشره وطبعه ، ولا نسبة ما فيه من الباطل إلى الدليل من الكتاب والسنة ،ولا أنه مذهب أهل السنة والجماعة ، وعلى كاتبه وناشره إعلان التوبة إلى الله فإن التوبة تغفر الحوبة . )
- ومما جاء من كلام اللجنة بخصوص كتابي ( صيحة نذير والتحذير من فتنة التكفير) للشيخ علي الحلبي قولها : (وبعد دراسة اللجنة للكتابين المذكورين والاطلاع عليهما تبين للجنة أن كتاب (التـحذير من فتنة التكفير) جمع : علي حسن الحلبي فيما أضافه إلى كلام العلماء في مقدمته وحواشيه يـحتوي على ما يأتي :
( بناه مؤلفه على مذهب المرجئة البدعي الباطل ، الذين يـحصرون الكفر بكفر الجحود والتكذيب والاستـحلال القلبي كما في (ص6) حاشية 2 و(ص22) وهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة من أن الكفر يكون بالاعتقاد وبالقول وبالفعل وبالشك.....
- تقوله على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ، في (ص17/18) إذ نسب إليه جامع الكتاب المذكور : أن الحكم المبدل لا يكون عند شيخ الإسلام كفراً إلا إذا كان عن معرفة واعتقاد واستـحلال ! وهذا محض تقول على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى!! فهو ناشر مذهب السلف أهل السنة والجماعة ، ومذهبهم كما تقدم، وهذا إنما هو مذهب المرجئة . ..........
- تـحريفه لمراد سماحة العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى في رسالته : ( تـحكيم القوانين الوضعية ) إذ زعم جامع الكتاب المذكور أن الشيخ يشترط الاستـحلال القلبي ، مع أن كلام الشيخ واضح وضوح الشمس في رسالته المذكورة على جادة أهل السنة والجماعة ....
- لهذا فإن اللجنة الدائمة ترى أن هذين الكتابين لا يـجوز طبعهما ولا نشرهما ولا تداولهما ؛ لما فيهما من الباطل والتـحريف، وننصح كاتبهما أن يتقي الله في نفسه وفي المسلمين )
- ومما جاء أيضا في هذا الصدد تعليق الشيخ صالح الفوزان عضو اللجنة الدائمة على كتاب هزيمة الفكر التكفير لصاحبه الشيخ خالد العنبري حيث قال :
( وقد وصل إليَّ كتاب بعنوان ( هزيمة الفكر التكفيري ) تأليف خالد العنبري ، قال فيه :
(فما زال الفكر التكفيري يمضي بقوة في أوساط شباب الأمة منذ أن اختلقته الخوارج الحرورية )
وأقول : التكفير للمرتدين ليس من تشريع الخوارج ولا غيرهم ، وليس هو فكرًا كما تقول ، وإنما هو حكم شرعي ، حَكمَ به الله ورسوله على من يستـحقه ، بارتكاب ناقض من نواقض الإسلام القولية أو الاعتقادية أو الفعلية ، والتي بينها العلماء في باب أحكام المرتد ، وهي مأخوذة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فالله قد حكم بالكفر على أناس بعد إيمانهم ، بارتكابهم ناقضًا من نواقض الإيمان ، قال تعالى ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) ﴾ سورة التوبة ، وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ ﴾ [ التوبة : 74 ] .
وقال عليه الصلاة والسلام : ( بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة ) ، وقال (( فمن تركها فقد كفر )) ، وأخبر تعالى أن تعلم السحر كفر ، فقال عن الملكين اللذين يعلمان السحر ﴿ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نـحنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ﴾ [ البقرة : 102 ] ، وقال تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ أمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ أمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً﴾ النساء 137.
وفرق بين من كفره الله ورسوله وكفره أهل السنة والجماعة إتباعا لكتاب الله وسنة رسوله ، وبين من كفرته الخوارج والمعتزلة ومن تبعهم بغير حق ، وهذا التكفير الذي هو بغير حق هو الذي يسبب القلاقل والبلايا من الاغتيالات والتفجيرات ، أما التكفير الذي يُبنى على حكم شرعي ، فلا يترتب عليه إلا الخير ونصرة الحق على مدار الزمان ، وبلادنا بحمد الله على مذهب أهل السنة والجماعة في قضية التكفير ، وليست على مذهب الخوارج .
ثم قال العنبري:{ فالواجب في الكفر البواح وهو الكفر المجمع عليه التكفير ، والتوقف عنه إرجاء خطير} .
أقول : الكفر البواح هو كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم : ما عليه برهان من الكتاب والسنة والإجماع يأتي به بعد الاستدلال بالكتاب والسنة ، نعم إذا كان الدليل محتملاً فهذا لا يـجزم بأحد الاحتمالات من غير مرجح ، أما إذا كان الدليل نصًا فهذا هو البرهان الذي لا يُعدَل عن القول بموجبه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( عندكم فيه برهان ).
والعلماء المعتبرون مجمعون على تكفير من كفره الله ورسوله ، ولا يقولون بخلاف ذلك ولا عبرة بمن خالفهم .... ) ا.هـ
مما سبق يتبين أنه ليس بالضرورة أن يكون كل من رفع لواء التحذير محقا في نفس الأمر ، بل قد يكون هذا الشعار عنوان خلل في منهجه واعتقاده ، وستارا يواري خلفه إرجاءه وتجهمه كما هو حال أولئك الذين حذر منهم أهل العلم وحرموا طباعة كتبهم ونشرها مع أن موضوع هذه الكتب وشعارها كان التحذير من فتنة التكفير !
الوقفة الثانية :
الشيخ وفقه الله افتتح خطبته بتقرير معنى قوله تعالى : (ولا يشرك في حكمه أحدا ) تقريرا جيدا ثم ذكر بعد ذلك ثلاثة مسائل جعلها كمقدمة للكلام في مسألة الحكم بما أنزل الله .
الأولى : وهي خطورة القول على الله بغير علم وهذا حق لا إشكال فيه لأن القول على الله بغير علم من أعظم المحرمات بل قرنها الله سبحانه بالشرك به في قوله تعالى ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) مما يدل على عظم هذا الجرم وإثم مرتكبه .
ولكن المتأمل يجد أن البعض قد اتخذ من هذا الكلام وسيلة يصد بها كل من يتكلم في هذه المسائل بحجة أنه لا يتكلم فيها إلا العالم ، ترسيخا منهم لمبدأ التقليد الأعمى والانقياد المطلق لما يقول ، حتى صار الحديث عن هذه المسائل التي هي من أصول الدين ودعائمه ومسلماته وثوابته كأنه جريمة وخروج عن المنهج الحق ،فلا تجد متكلما في مسائل الإيمان والكفر والتوحيد والشرك والولاء والبراء وغيرها من هذه المسائل العظيمة إلا متهما فينظر إليه بريبة وتوضع حوله علامات استفهام ؟؟؟ كيف يتكلم في هذه المسائل وهو ليس بعالم ؟
فهو إما تكفيري أو عنده غلو أو تأثر بكتابات أهل البدع !
لذا يكاد لا يوجد تحرير وافي لهذه المسائل عند هؤلاء أو عند طلابهم ، بل غاية ما يذكر في هذه المسائل هو هذا الشريط أو الكتيب الصغير الذي فرغ فيه ، وإذا تعرض إليها عرضا في شروحه فيتناولها تناولا لا يتناسب مع مقامها في الشريعة .
الوقفة الثالثة :
بعد أن انتهى الشيخ من الكلام عن مسالة القول على الله بغير علم انتقل إلى مسالة التكفير ، والكلام في مسالة ( العذر بالجهل ) والملاحظ أن ما يورده الشيخ في هذه المسالة وغيرها يقتصر فيه على ذكر ما يراه في المسالة وذكر من يوافقه من أهل العلم دون الإشارة إلى الخلاف الحاصل فيها ، فيقرر المسالة وكأنها مسالة إجماعية لم يخالف فيها أحد من أهل العلم أو أن الخلاف فيها واقع بين أهل السنة وأهل البدعة والتكفير، وهذا التناول فيه من ترك الإنصاف والإخلال بالأمانة ما فيه ،وكان أحرى به وهو الداعية السلفي أن يذكر من يخالفه
لاسيما إذا كانوا أئمة كبارا لا ينكر الشيخ فضلهم وعلمهم بل ويحتج بأقوالهم ،ولكن ما نراه من الشيخ للأسف على العكس من ذلك فمع تعميته عليهم بعدم ذكرهم وذكر حججهم وأقوالهم فقد جمعهم في سلة واحدة ورماهم عن قوس واحدة وسماهم أهل تكفير...
- ومن ذلك ما ذكره في مسالة العذر بالجهل فإنه قد صور في خطبته هذه أن الذين يخالفونه في إطلاق القول بالعذر بالجهل تكفيريون لا محالة ، بل هم من هواة التكفير ولديهم كروت حمراء يوزعونها على الناس كافر كافر ...!
وهذا الكلام أبعد ما يكون عن التحقيق العلمي لهذه المسائل وأبعد ما يكون عن الواقع .
- ولكن الشيخ ومن يطلقون القول بالعذر بالجهل يشنعون دائما على مخالفيهم بما يوحي بأنهم متسرعون في إصدار الأحكام ، يكفرون من غير تحقيق ولا روية ولا حكمة ، بل بمجرد أن يروا أحدا يقع في الشرك يسارعون في تكفيره ، ويستحلون دمه وماله ! فهل يلحق هذا التصوير والتشنيع كل مخالف للشيخ حتى ولو كان المخالف هم علماء اللجنة الدائمة كما سيأتي ؟!
- يقول ابن القيم رحمه الله في مثل ذلك : ( وكل أهل نحلة ومقالة يكسون نحلتهم ومقالتهم أحسن ما يقدرون عليه من الألفاظ ومقالة مخالفيهم أقبح ما يقدرون عليه من الألفاظ ومن رزقه الله بصيرة فهو يكشف به حقيقة ما تحت تلك الألفاظ من الحق والباطل ولا تغتر باللفظ كما قيل في هذا المعنى
تقول هذا جنى النحل تمدحه ... وان نشأ قلت ذا قيء الزنابير
مدحا وذما وما جاوزت وصفهما ... والحق قد يعتريه سوء تعبير
فإذا أردت الاطلاع على كنه المعنى هل هو حق أو باطل فجرده من لباس العبارة وجرد قلبك عن النفرة والميل ثم أعط النظر حقه ناظرا بعين الإنصاف ولا تكن ممن ينظر في مقالة أصحابه ومن يحسن ظنه نظرا تاما بكل قلبه ثم ينظر في مقالة خصومه وممن يسيء ظنه به كنظر الشزر والملاحظة فالناظر بعين العداوة يرى المحاسن مساوئ والناظر بعين المحبة عكسه وما سلم من هذا إلا من أراد الله كرامته وارتضاه لقبول الحق وقد قيل :
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... كما إن عين السخط تبدي المساويا وقال آخر
نظروا بعين عداوة لو أنها ... عين الرضا لاستحسنوا ما استقبحوا.) ا.هـ مفتاح دار السعادة
- ومما لا خلاف فيه أن الواجب على من يرى أحدا يفعل شيئا من هذه المكفرات أن يبين له ويدعوه بالحكمة والموعظة الحسنة وما يناسب هذا الموقف من اللين والرحمة ، ولعل من الحكمة أحيانا أن لا يذكر له ما يشعره بأنه قد كفر وخرج من الإسلام ويكتفى بأن يقول له هذا العمل حرام وشرك ومخالف لما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام واضع في اعتباره عموم الجهل بهذه الأمور وانتشارها بين الناس انتشار النار في الهشيم فهذا مما عمت به البلوى وعظم فيه الخطب مع قلة المنكرين لها إلى غير ذلك مما هو معلوم .
- وبعيدا عن مسالة التسرع والتكفير فإن البحث ينحصر البحث في هذه المسالة في حكم من يفعل الشرك من المسلمين ، وهذه تنظر ابتداء كمسالة علمية بحتة ، ويبحث فيها دلالة النصوص على هذا المعنى .
- ومن أصول أهل السنة في مسالة التكفير والتي تتميز بها عن الخوارج :
- أولا : أن يكون التكفير بما دل عليه الدليل الشرعي أنه كفر أكبر مخرج من الإسلام كالشرك بالله والاستهزاء بدينه خلافا للخوارج الذين يكفرون بالكبائر دون الكفر .
- وثانيا : أن يعمل بضوابط التكفير في حق من يفعل هذه المكفرات من توفر الشروط وانتفاء الموانع كالعقل والبلوغ والقصد والاختيار والإرادة كذلك الموانع كالإكراه والنسيان والخطأ والتأويل والجهل فيما ورد اعتباره فيه.
- فإذا اتفق الفريقان على ما سبق من أصول وضوابط واختلفوا فقط في التفصيل حول مانع الجهل ، فلو اقتصر الأمر على الخلاف حول دلالة النصوص لما كان يسوغ لأي من الفريقين أن يتهم الآخر بمخالفة المنهج الحق سواء بالخروج والتكفير ،أو التجهم والإرجاء ، ولما كان لمثل هذه المسالة أن تأخذ هذا الحجم الذي نراه اليوم ولكن الأمر قد عظم واستفحل بسبب ما أقحم في هذه المسالة من أصول خارجة عن مجرد دلالات النصوص في سبيل إثباتها وتأصيلها .
-فإن الخلاف في هذه المسالة وغيرها قد يكون وجيها ومقبولا إذا ما اقتصر فيه على دلالات النصوص التي وردت في شانها فتكون هي المنطلق لتحرير المسالة والمرجع في إثباتها أو نفيها ، ولكن لما تعدى البحث ذلك واتخذت أقوال وأصول أخرى أنتقل الخلاف حول هذه الأصول تحت مظلة الخلاف في العذر بالجهل .
ومن تلك الأصول :
1- قول البعض أن الكفر لا يكون إلا بالاعتقاد ، ولا يكون بالعمل .
2 - ومنها قولهم أن المسلم لا يكفر إلا بجحود ما أدخله فيه .
3- ومنها ما ذكره بعض الفضلاء من قولهم أن المسلم الذي ينطق بالشهادتين يكون لديه إيمان مجمل بالتوحيد وبراءة مجملة من الشرك لا تتنافى مع جميع مفردات الشرك إذا تاها وأقام عليها منذ أن اسلم إلى أن يموت فهو مسلم بما لديه من الإيمان المجمل والبراءة المجملة من الشرك .
4- ومنها قولهم أن المسلم لا يخرج من الإسلام إلا بقصد الخروج منه ،فلابد من قصد الكفر وإرادته وانشراح الصدر به.
5- ومنها قولهم أن المسلم لا يكفر وإن فعل الكفر والشرك لأنه قد يجتمع فيه الكفر والإيمان.
إلى غير ذلك من أقوال جعلت الخلاف يعظم ويستفحل وإن كان شدة الخلاف عند التحقيق حول هذه الأقوال ليس في أصل المسالة (العذر بالجهل).
- فالقول الأول مخالف لما هو معلوم من أصول أهل السنة من أن الإيمان قول وعمل واعتقاد والكفر يقابل ذلك فيكون بالقول أو العمل أو الاعتقاد ، فقصره الكفر على الاعتقاد أو تقرير ما يلزم منه ذلك يخالف هذا الأصل .
- والقول الثاني الذي يحصر الكفر في الجحود، والجحود نوع من أنواع الكفر ليس جميعها بل يكون الكفر بالجحود ويكون بالإباء والاستكبار ويكون بالإعراض والجهل والتولي ويكون بالسب والاستهزاء ويكون بالنفاق ويكون بالشرك وعبادة غير الله إلى غير ذلك مما يذكره العلماء في أبواب الردة.
- والقول الثالث مجرد إدعاء لا يختلف في حقيقته عند التأمل عن قول من يقول بأن المسلم لا يكفر ولا يخرج من الإسلام وإن فعل ما فعل !
فهي صياغة جديدة لهذا القول بطريقة سلفية ! حيث أن من يقرر ذلك لم يفسر وجود هذا الإيمان المجمل وهذه البراءة المجملة إلا بمجرد الانتساب للإسلام ولم يشترط لذلك إلا النطق بالشهادتين، وهذه يقولها كل مسلم ، فكل مسلم ينطق بالشهادتين وينتسب للإسلام يكون لديه هذا الإيمان وهذه البراءة ، فإذا حالت هذه البراءة دون تكفير من فعل المكفرات فقد امتنع تكفير أحد من المسلمين مطلقا !
وإلا فليقولوا لنا ماذا يشترط للبراءة المجملة من الشرك غير الانتساب والنطق بالشهادتين ؟!
فإن كان لا يشترط لها إلا ذلك فكلامنا ملزم لهم ضرورة وإن كان يشترط غير ذلك فليذكروه لنا ، ومن يتناقض ويكفر بأي صورة من صور الكفر كالسب مثلا حاججناه نحن بما قرره هو من وجود البراءة المجملة فكل مسلم لديه تعظيم مجمل لا يتنافى مع السب والاستهزاء ، ولديه انقياد مجمل لا يتنافى مع رد الشريعة وهكذا إيمان مجمل عام وبراءة مجملة عامة !
فإنه إذا كان مقتضى النطق بالشهادتين أن يكون لدى المسلم إيمان مجمل بالتوحيد وبراءة مجملة من الشرك فإنه أيضا لا يمتنع أن يقال بأنه لديه براءة مجملة عامة من جميع أنواع الكفر ، فلماذا تقصر البراءة من الشرك فقط ؟
وعليه فلا يكفر مسلم قط لأنه مهما فعل من صور الكفر فإنه لا يتنافي مع الإيمان المجمل والبراءة المجملة التي لديه وهذا أصل باطل يغلق باب الردة بالكلية ويعارض نصوصه جميعها .
- أما القول الرابع فهو حصر الكفر في كفر الجحود العناد وهذا معارض بالطبع لما في الكتاب والسنة من كفر أهل الضلال والجهل من الذين كفروا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا والذين كفروا ويحسبون أنهم مهتدون ، بل مخالف لما هو معلوم من أن أكثر الكفار هم من الجهال الضلال والأتباع المقلدين وسيأتي كلام أهل العلم في مسالة إرادة الكفر وقصده .
- أما القول الخامس فهو فهم مغلوط لقول أهل السنة في أن الإيمان أصل ذو شعب ، وأن والكفر أصل ذو شعب وأنه قد تجتمع شعبة من شعب الكفر مع أصل الإيمان فلا تبطله ولا يكفر من يرتكبها وهذا أمر متقرر لكن الفهم المغلوط والجهل المركب أن يقال بأنه قد يجتمع أصل الإيمان مع أصل الكفر! فقائل هذا ومسوده كيف يحل له أن يتكلم في هذه المسائل ؟!
- فهذه الأقوال المخالفة لهذه الأصول قد اضطرت هؤلاء إلى تفسير الإسلام وحقيقة الدين بما تستوعب جميع صور الشرك والكفر لذا قالوا يجتمع في المرء كفر وإيمان وشرك وتوحيد ! فلم يعد للإسلام حقيقة من فاتها فقد فات الإسلام ولكن الإسلام عنده يتسع دائما ليستوعب آخر ما يصل إليه هذا المشرك في شركه !
- ولعمر الله إن جهلا يعصم صاحبه من الشرك والكفر والخلود في النار لهو خير له من حمر النعم !
- ولعمر الله إن دعوة تتسبب في تكفير هؤلاء لهي عليهم أعظم جناية ووبال !
- وأيضا فلا يمكن أن يستقيم قول من يطلق القول بالعذر بالجهل مطلقا بل لا يكون عالما بالشريعة قط من يطلق القول بالعذر أو عدمه دون تفريق بين المسائل الظاهرة والمسائل الخفية الدقيقة ولا بين المتمكن من العلم المعرض عنه والعاجز عنه الذي لم يبلغه منه شيئا مع طلبه له وبذله فيه ، ولا بين ما يشترط من العلم لتحقيق أصل الدين وما لا يشترط له ذلك ثم وضع الضوابط الصحيحة لهذه الفوارق بعد تقريرها ...
- فإطلاق القول بالعذر من غير مراعاة هذه الضوابط لا يستقيم مع قواعد الشريعة مطلقا بل لا يقول به عالم قط ...
-فإذا كان من يشرك بربه جهلا مسلم في الدنيا ناج في الآخرة وأنه يحتمل إذا علَم ونبه عاند وكفر فلبقائه على الجهل حينئذ أولي من تعليمه !
-وصدق الشافعي رحمه الله حيث قال : ( لو عُذِرَ الجاهل ؛ لأجل جهله لكان الجهل خيراً من العلم إذ كان يحط عن العبد أعباء التكليف و يريح قلبه من ضروب التعنيف... )
-وأيضا فإن إطلاق القول بالعذر بالجهل لا يستقيم معه استثناء الكثير من صور الكفر بغير دليل ، فساب الدين والهازل به وساب الرسول والمستهزئ به صلى الله عليه وسلم يكفر وإن جهل ! ومن يقول إن الله ثالث ثلاثة يكفر وإن جهل ، ومن يقول بأن الله هو المسيح ابن مريم يكفر وإن جهل ! ومن يسجد للصنم يكفر وإن جهل ومن يسجد للشمس والقمر يكفر عند بعضهم وإن جهل وهكذا كلما استعظموا صورة من صور الكفر أخرجوها بلا دليل !
- فإن قيل أنتم تجزمون أن ما أتيتم به من أدلة يقطع بعموم العذر بالجهل .فهلا ذكرتم الدليل على إخراج هذه الصور ؟ أجابوا بأن هذه الصور لا يتأتى فيها الجهل ! والواقع يكذب هذه الدعوى والفرض في أنهم جهلة ليس ممتنعا . ولقد أثبت أحد الأكابر الجهل بمثل هذه الصور وقرر عذرهم فيها بسوء التربية ! ثم يقال أيضا أين ذهبت البراءة المجملة والإيمان المجمل الذي عند هؤلاء ؟ ولماذا لم تمنع البراءة المجملة من تكفيرهم كما منعت من تكفير غيرهم ممن أشرك مع اشتراكهم في الجهل ؟!
- إني أتمنى من علمائنا الأفاضل أن يراجعوا أقوالهم مرة أخرى ويعيدوا قراءة المسألة من جديد وان يراجعهم طلابهم ومحبوهم لعل الله أن يفتح عليهم ويرجعوا لأصول أهل السنة في هذا الأقوال حتى وإن بقي الخلاف حول مسالة العذر بالجهل كما هو ولكن دون التزام هذه الأقوال والله المستعان .
-أما ما يقال في هذه المسالة وما يتعلق بها من أصول فهو باختصار شديد :
- إن حقيقة الإسلام التي أرسل الله بها الرسل وأنزل بها الكتب منذ خلق الله الخلق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها هي أن يعبد الله سبحانه بلا شريك وأن يعبد بما شرع على ألسنة رسله، فمن لم يأت بهذا فلس بمسلم سواء كان جاهلا أو عالما وسواء قلنا بعذره أو لم نقل بذلك فالجهة منفكة ، فلا يجتمع مع التوحيد شرك إلا أفسده ولا مع الإيمان كفر إلا أحبطه ، فأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، وأن من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار ،وأنه من يشرك بالله فقد حرم عليه الجنة ومأواه النار ، ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ، فهذه حقيقة دين الإسلام وهذه إطلاقاته التي لم تقيد وعموماته التي لم تخصص وأصوله التي قام عليها .
- فالإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له والإيمان بالله ورسوله فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم فإن لم يكن كافر معاندا فهو كافر جاهل .ومن يقل إن هذا الإسلام خاص بالكافر الأصلي فلا يستحق أن يوجه إليه الخطاب ابتداء !
-والإيمان والكفر متقابلان لا يجتمعان ولا يزولان عند أي إنسان ، والكفر يثبت بترك الإيمان أو بفعل ما يناقضه فهذا هو المنطلق الأصيل في هذه المسالة .
- ومما ينبغي التنبيه عليه أن الجهل كمانع يختلف عن غيره من الموانع الأخرى كالخطأ والنسيان والإكراه لان الجاهل إذا فعل الكفر والشرك فهو يفعل ذلك مختارا قاصدا لهذا الفعل ولذا فإن جهله لا يمنع من وصف فعله بالكفر ولا يمنع أن تقوم بصاحبه حقائق الكفر ، وليس ذلك في المكره والناسي والمخطئ فلا يطلق على قولهم الكفر ولم تقم في أنفسهم حقائقه حيث انتفت لديهم الإرادة والاختيار التي تعتبر بها الأعمال وتتنزل عليها الأحكام ، تماما كأفعال الجمادات والعجماوات ليس لها توصيف شرعي ، فالمكره لم يرتكب كفرا أصلا والناسي والمخطئ كذلك بخلاف الجاهل الذي قصد فعله وأراده ،ولكنه جهل حكمه ، فيلزمه بذلك اسمه ووصفه ثم ينظر بعد ذلك في عذره .
- ومع ذلك فإن الإسلام يثبت للمرء بالنطق بالشهادتين أو بالولادة لأبوين مسلمين أو أحدهما أو بتبعية الدار أو بفعل ما يختص به المسلمين من شعائر .
وهذا إسلام حكمي يثبت لكل من جاء به ويثبت للمؤمن والمنافق والصغير والمجنون .
- وما يذكره بعض الأفاضل من أدلة في مسالة العذر بالجهل لا يفيد العموم مطلقا بما يتضمن نقض حقيقة الإسلام من التوحيد ونبذ الشرك فليس ثمة نص في المسالة يفيد هذا العموم وهذا هو المنطلق الثاني في تقرير هذه المسالة .
- وما ذكروه من أدلة يمكن جعله على أقسام :
- قسم يختص بمسائل العذاب وان الله سبحانه لا يعذب إلا من قامت عليه الحجة بالرسول ، وهذا حق نقول به ونعتقده فإن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدا إلا من قامت عليه الحجة بالرسول لقوله جل شانه ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) ولكنا مع ذلك نثبت انفكاكا بين استحقاق العذاب وبين الوصف الشرعي لمرتكب الكفر والفسق وغير ذلك حيث لا تلازم بينهما ، فالمنافق مثلا يحكم له بالإسلام في الدنيا ومع ذلك فهو من أشد الناس عذابا في الآخرة ، وأطفال الكفار ومجانينهم كفار في الدنيا ومع ذلك فالخلاف في تعذيبهم في الآخرة حاصل بين أهل السنة ، ومن نحكم عليه بالفسق والبدعة في الدنيا قد يحول دون عذابه في الآخرة حسناته العظيمة أو شفاعة شافع أو عفو من الله سبحانه وتعالى ..وهكذا
فإذا ثبت الانفكاك وعدم التلازم فلا يصح الاستدلال بهذه الأدلة على رفع الوصف الشرعي الثابت للمكلف والمنوط بفعله أو قوله .
وهذا الكلام قد ذكر مرارا ولكن الإخوان لا يملون من تكرار الاستدلال بهذا النوع من النصوص !
- أما القسم الثاني من الأدلة فبعضه حق لدلالته على العذر بالجهل ولا ينكر ذلك إلا مكابر، ولكنا نقول كما سبق بأنه ليس شيئا من هذه الأدلة يصح في الشرك بالله وعبادة غيره ونقض حقيقة الإسلام ومجموع الأدلة لا تفيد العموم الذي يتضمن ذلك .
فنقول حيث جاءت هذه النصوص تطبق فيما جاءت فيه وفيما هو من نظيره فهذا هو الصحيح فيها إن شاء الله .
- وغالب ما يذكر من هذه النصوص يمكن أن يقال بأن صاحبها في حال مظنة جهل لعدم البلوغ أو التمكن من العلم كحديث عهد بالإسلام أو من في مكان لا يصله العلم أو في المسائل الخفية كحديث الذي أمر أهله أن يحرقوه إذا مات ، وحديث عائشة رضي الله عنها وسؤالها النبي عليه الصلاة والسلام : مهما يكتم الناس الله يعلمه ؟ – إن صحت الرواية بذلك – فهذا جهل بكمال القدرة وكمال العلم مع إثبات أصلهما وإلا فإن كان ينفي القدرة ابتداء فلم يأمر أهله أن يحرقوه أصلا ؟ وممن يخاف ؟ أما صفة العلم فقد كان المشركون يثبتونها قبل البعثة (خلقهن العزيز العليم ) فهل تجهل عائشة أم المؤمنين هذه الصفة؟
والحق أن هذه النصوص وما شاكلها إنما يصلح للاحتجاج به في المسائل الخفية والمسائل الدقيقة سواء في مسائل الأصول أو مسائل الفروع والتي يخفى دليلها في نفسها ولا تشتهر عند أكثر الناس وهذه لا إشكال في عذر من يخالف فيها لمظنة الجهل بها ، ولكن يحتج بهذه النصوص على ما جاءت فيه وما هو من نظيره ولذا فإن شيخ الإسلام رحمه الله وفي قرابة ثلاثة عشر موضعا من كتبه يحتج بهذا الحديث على عدم تكفير أصحاب المقالات من أهل البدع من المعتزلة وغيرهم ممن تكلموا في مسائل الصفات والقدر وغيرها فإنها من خفي المسائل ودقائقها حتى قال ابن الوزير رحمه الله : إن هذا الحديث أرجى حديث لأهل الخطأ في التأويل .
فهذه الأدلة وما في معناها حق لا إشكال فيها نقول بها ونصدق بدلالتها على ما جاءت فيه وليس منها شيء في الشرك الأكبر ولا في ما ينقض حقيقة الإسلام ، ومن ذلك ما ذكر من قصة ذات أنواط فنفس القول الذي صدر من الصحابة ليس بكفر وإن كان يشبه بوجه قول الكفار وهم قالوا ولم يقيموا على قولهم بل رجعوا في الحال لتحذير النبي وغضبه من هذا القول الذي شبهه بقول بني إسرائيل اجعل لنا إلها ، وهو نفس الغضب الذي انتابه عليه الصلاة والسلام لما قال له الرجل ما شاء الله وشئت فقال أجعلتني لله ندا فمثَل هذه الكلمة بجعله لله ندا .ولا شك أن من جعل لله ندا فهو كافر، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام كان بأقواله وأفعاله يقطع كل علائق الشرك وذرائعه وما يؤدي إليه خفيا كان أم جليا أصغر كان أو أكبر .
- أما سجود معاذ فهو سجود تحية وإكرام وليس سجود عبادة وهو في شريعتنا كبيرة من الكبائر وقد حرم في حديث معاذ فلا يسجد لغير الله مطلقا تعظيما أو إكراما أو تحية أو عبادة ومن سجد تحية وإكراما لغير الله فهو مرتكب كبيرة وليس مرتكب كفر ولا شرك وعلى هذا نص العلماء ومثله الطواف فقد أختلف فيه هل هو عبادة مجردة يكفر من يفعلها بمجرد فعله أم هو عبادة بقصد التعظيم فهذه صور وغيرها فيها تفصيل لا تصلح للاستدلال على ما نحن بصدده وهكذا بقية الأدلة ...
- والبعض الأخر من الأدلة ليس فيه دلالة أصلا على ما جاء فيه فهو مردود.
ومنه ما يزعم أنه إجماع ، كما ينقل البعض عن ابن حزم رحمه الله ما ذكره فيمن يخطئ في التلاوة فيزيد كلمة أو ينقص كلمة جهلا منه فيأتي البعض فيقول هذا الإجماع على العذر بالجهل ! ومثل هذا الكلام كثير وهو عند التأمل يدل على أن من يستدل به لم يحرر محل النزاع أو لم يتأمل فيما ينقل .
- ومع ما سبق فإنه قد يعذر المشرك بالجهل بمعنى عدم العذاب في الدنيا أو الآخرة إلا بعد العلم ، لكن لا يسمى مسلما موحدا مع شركه وكفره بحال حيث أثبتنا الانفكاك بين العذاب والوصف المستحق بمجرد الفعل أو القول ولأنه لا تجتمع حقيقة الإيمان والكفر في قلب إنسان فهما متقابلان لا يجتمعان ولا يزولان فإذا زال أحدهما خلفه الآخر .
- وفي استحقاق العذاب فإنه يفرق بين الجاهل العاجز عن رفع الجهل عن نفسه مع اجتهاده في ذلك وسعيه فهذا يعذر، وبين الجاهل المعرض المتمكن من العلم فهذا لا يعذر ، أما مسائل العذاب في الآخرة وقيام الحجة على العبد فمرجعها إلى الله سبحانه فهو أعلم بمن قامت عليه الحجة ممن لم تقم عليه ، وليس لنا إلا حكمه في الدنيا فمن ارتكب ناقضا من نواقض الإسلام فهو كافر يستناب فإن تاب وإلا قتل . وفي ذلك ما لا يحصر من كلام العلماء من السلف والخلف والله أعلم .
- ومن يدعي أن من لم يعذر بالجهل في التوحيد والشرك فإنه لا يعتبر بهذه النصوص ولا يعمل بها فهو مخطئ أتي من سوء فهمه ، بل نقول بها جميعا ونعملها فيما جاءت فيه ،وليس منها شيء في الشرك الأكبر ،ولا يفيد مجموعها العموم بما يتضمن الشرك الأكبر ونقض حقيقة الإسلام .
ولا يلزم من تقرير ذلك القول بتكفير الناس بالعموم بل لا يلزم منه تكفيرهم أصلا وإن ارتكبوا هذه المكفرات ، ومن يزعم أن من لا يعذر بالجهل فهو يكفر الناس بالعموم أو أنه يمتهن تكفيرهم فهو مخطئ أتي من سوء فهمه وسوء ظنه بإخوانه أو حكم على الجميع بما قد رآه من أحوال بعض الجهلة ، وهذا أبعد ما يكون عن الإنصاف والتحقيق !
- بل نحن نقرر عقائد الإسلام وحقائق التوحيد والإيمان فنحول دون تغيير هذه الحقائق أو الإخلال بهذه الثوابت - بقصد أو بدون قصد - وهذا حقيقة الصراع بيننا وبين من يخالفنا في هذه المسائل .
- ومع ذلك فنحن أرحم الناس بالناس ندعوهم ونعلمهم ونبين لهم ونشفق عليهم ونبذل لهم من أنفسنا وأموالنا وأعراضنا في سبيل دعوتهم وبيان الحق لهم والأخذ بأيدهم للخروج من هذه الظلمات والجهالات متحملين في ذلك ألوان الابتلاءات من الطواغيت الذين سلطوا على رقاب المسلمين وعملوا على نشر الكفر والشرك وحرسوه ودعموه وحالوا دون وصول أهل الحق إلى هؤلاء تارة بسجنهم وقتلهم وتارة بالتشنيع عليهم وتشويه صورهم ، مع ما يقوم به البعض ممن ينتسب إلى العلم والدعوة من التشنيع علينا بسوء فهمه وضيق عطنه وعدم تأمله فيصفنا تارة بالتوقف وتارة بالتكفيريين وتارة بالخوارج إلى غير ذلك من أنواع التشنيعات التي لا تزيدنا في الحق إلا صلابة بفضل الله .
- وإن مما نعتقده ونربي عليه أنفسنا وإخواننا بل وندعو إليه أيضا أن الواقع الذي نعيش فيه واقع قد التبست فيه معالم الحق وعم فيه الجهل بمسلمات الشريعة حتى التبست على أكثر الناس حقائق الإيمان والكفر والتوحيد والشرك بل التبست عليهم حقيقة الدين الذي جاء به الرسول ونزل به الكتاب ،وإذا كان النبي في وقته قد ترك تكفير من علم كفره بنص الكتاب لئلا يقول الناس إن محمدا يقتل أصحابه فيصد عن قبول الحق أقوام ، فلنا في ذلك أسوة ودليل في ترك التكفير والتشهير وإتباع منهج الدعوة والبيان ،فنحن في واقع دعوة لا واقع إصدار أحكام لاسيما وإن هذه الأحكام من أخفى ما يكون على الناس ، بل على خاصة الناس من بعض الدعاة وطلاب العلم ! فلا مصلحة شرعية من تكفيرهم ثم تركهم على ما هم عليه من الشرك ، أو تكفيرهم ثم دعوتهم بعد ذلك حيث أن النفس تأبى ذلك اشد الإباء .فإن التكفير أشد ما ينفر منه الناس ، حتى إن الكافر الأصلي لا يقبل أن يوصف بالكفر ويروى أنه ما اشتد أذى المشركين للمسلمين إلا بعد ما نزلت قل يا أيها الكافرون ، فإذا كان هذا في الكافر الذي لم يؤمن بالإسلام فكيف بمن ينتسب إليه ويولد فيه ويطبق بعض أحكامه ؟
وكيف إذا كان التكفير بما ليس بمكفر أصلا كما يحدث من بعض أهل الغلو ؟!
لذا فإن علينا واجب البلاغ والدعوة إلى الله مع تأليف الناس وتألفهم وتزين الحق لهم وتيسيره عليهم وعدم التشديد عليهم في التزام الأحكام حتى يستفيض العلم وتصحح المفاهيم ويرفع الالتباس حول حقائق الإسلام فحينها نكون قد أدينا ما علينا من واجب البلاغ فيهلك من هلك عن بينة ويحي من حي عن بينه .
وهذا كله لا يتنافى مع تقرير أحكام الشريعة في هؤلاء وفي أفعالهم وأقوالهم ، والذي يخلط بينهما أو ويثبت بينهما تلازما فحري به أن لا ينظر في قوله إذا تكلم في هذه المسائل !
- أما من يقول بأن تكفير هؤلاء العوام الذين وقعوا في أصناف الشرك هو من ضرورة تحقيق التوحيد وأصل الدين حيث أن تكفيرهم هو بمعنى البراءة منهم ، والبراءة من الكفار ركن في التوحيد وأصل الدين ، فمن لم يكفرهم لم يكن محققا لأصل دينه ، ولا عذر لمن لم يحقق أصل الدين ، ثم يقرر بأن من يعذر بالجهل كافر لأنه لم يحقق البراءة من الكافرين ...
فهؤلاء هم أهل الغلو في هذه المسالة وهذا من أعظم أصولهم الباطلة التي تقابل أصول أهل التفريط - إن صح التعبير- ،إذ أن التكفير ليس بمعنى البراءة لا لغة ولا شرعا ، وإنما تكون البراءة بعد ثبوت وصف الكفر ابتداء ، لقوله تعالى ( فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ) فالبراءة لا تكون إلا بعد ثبوت الكفر فكيف تكون هي معناه ؟!
ومن يعذر بالجهل أو غيره لم يثبت لديه كفر هؤلاء ولا يتبين له ذلك ،فهم وإن أخطئوا فلهم من الأجر مع خطأهم بقدر اجتهادهم وابتعادهم عن التزام الأصول الفاسدة التي سبق ذكرها ، وبهذا أفتت اللجنة الدائمة في الفتوى رقم : ((11043)).
- وعلى كل حال فإذا غضضنا الطرف عن كل ما سبق وعن كل هذه الإفرازات التي نتجت ، فإن المسألة مجردة تعد في النهاية مسالة علمية اجتهادية حول دلالة النصوص على اعتبار عذر الجهل أو عدم اعتباره ، فلا يقال أن المخالف فيها تكفيري أو خارجي لأنه يلتزم بالضوابط الشرعية فيكفر بما اتفق على أنه كفر أكبر مخرج من الملة ويعتبر جميع الأعذار المتفق عليها من الإكراه والخطأ والنسيان وغيرها ويخالف فقط في شرط العلم ومانع الجهل يزعم أن الأدلة لا تدل على عمومه بما يتضمن التوحيد .
- وحيث أن المقام ليس مقام استطراد وتفصل لهذه المسالة فاذكر فقط ممن يخالف الشيخ في هذه المسالة بعض أهل العلم منهم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ومن مصر الشيخ حامد الفقي رئيس جمعية أنصار السنة السابق والشيخ عبد الرحمن الوكيل أيضا رئيس جمعية أنصال السنة السابق وسأكتفي بهؤلاء لتأكيد أن المخالفين للشيخ في هذه المسالة علماء كبار لا ينبغي تجاوزهم أو تجاوز أقوالهم إذا ذكرت المسالة فضلا أن يوصفوا بأنهم خوارج أو تكفيريون...
- وأبدا بذكر فتوى للشيخ ابن باز برقم 3548 قال رحمه الله :
" من مات على الشرك جاهلا لعدم مجيء أحد إليه يعرفه معنى التوحيد وأن النذر والدعاء عبادة لا يجوز صرفها لغير الله ، فهو مشرك كافر لا يجوز المشي في جنازته ولا الصلاة عليه ولا الدعاء والاستغفار له ولا قضاء حجه والتصدق عنه .
وهؤلاء ليسوا بمعذورين بما يقال عنهم أنهم لم يأتهم من يبين أنه هذه الأمور المذكورة التي يرتكبونها شرك لأن الأدلة في القرآن واضحة وأهل العلم موجودون لديهم "
- وهذه أيضا بعض إجابات الشيخ ابن باز حول مسألة العذر بالجهل في شرحه لكتاب كشف الشبهات :
س : الاختلاف في مسائل العذر بالجهل هل من المسائل الخلافية ؟
ج : مسألة عظيمة ، والأصل فيها أنه لا يعذر من كان بين المسلمين من بلغه القرآن والسنة ، ما يعذر.
الله جل وعلا قال :" وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ "، من بلغه القرآن والسنة غير معذور ، إنما أوتي من تساهله وعدم مبالاته .
س : لكن هل يقال هذه مسألة خلافية ؟
ج : ليست خلافية إلا في الدقائق التي قد تخفى مثل قصة الذي قال لأهله حرقوني . صـ 26 – 27
س : كثير من المنتسبين للسلفية يشترطون في إقامة الحجة أن يكون من العلماء فإذا وقع العامي على كلام كفر يقول ما نكفره ؟
ج : إقامة الدليل كل على حسب حاله .
س: هل يجب على العامي أن يكفر من قام كفره أو قام فيه الكفر ؟
ج: إذا ثبت عليه ما يوجب الكفر كفره ما المانع ؟!
إذا ثبت عنده ما يوجب الكفر كفره مثل ما نكفر أبا جهل وأبا طالب وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ، والدليل على كفرهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاتلهم يوم بدر .
س: يا شيخ العامي يمنع من التكفير ؟
ج : العامي لا يكفِّر إلا بالدليل ، العامي ما عنده علم هذا المشكل ، لكن الذي عنده علم بشيء معين مثل من جحد تحريم الزنا هذا يكفر عند العامة والخاصة ، هذا ما فيه شبهة ، ولو قال واحد : إن الزنا حلال ، كفر عند الجميع هذا ما يحتاج أدلة ، أو قال : إن الشرك جائز يجيز للناس أن يعبدوا غير الله هل أحد يشك في هذا ؟! هذا ما يحتاج أدلة ، لو قال : إن الشرك جائز يجوز للناس أن يعبدوا الأصنام والنجوم والجن كفر .
التوقف يكون في الأشياء المشكلة التي قد تخفى على العامي .صـ 34
س : ما يعرف أن الذبح عبادة والنذر عبادة !
ج : يعلَّم ، الذي لا يعرف يعلَّم ، والجاهل يعلَّم .
س : هل يحكم عليه بالشرك ؟
ج : يحكم عليه بالشرك ، ويعلَّم أما سمعت الله يقول :"أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا "
قال جل وعلا :" ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ".
ما وراء هذا تنديدا لهم ،نسأل الله العافية .صـ 42
س : من نشأ ببادية أو بيئة جاهلية ؟
ج : يعلَّم أن هذا شرك أكبر حتى يتوب ، يقال له هذا شرك أكبر عليك بالتوبة إلى الله .
مثل ما كان المشركون يطوفون بالقبور ونصبوا عند الكعبة ثلاثمائة صنم وأرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم فالذي أجاب وهداه الله فالحمد لله والذي ما أجاب مشرك هذا وأغلبهم جهال ، خرجوا إلى بدر جهال ، وإلى أحد جهال ،تابعوا رؤساءهم.
قال الله جل وعلا :" أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا "
مع هذا حكم عليهم بالكفر .صـ 55 - 56
س : يذكر العلماء في أهل البادية أن الأعرابي قد يعذر فما هي المسائل التي قد يعذر فيها صاحب البادية ؟ وهل هذا خاص بزمن النبي صلى الله عليه وسلم عند بداية الإسلام ؟.
ج : يعذر الأعرابي وغير الأعرابي بالشيء الذي يمكن جهله مثل بعض أركان الصلاة ، بعض أركان الزكاة ، بعض المفطرات .
أما إذا جحد الصلاة رأسا وقال :لا أصلي ، أو جحد الصيام رأسا وقال لا أصوم رمضان ، ما يعذر لأن هذا الشيء معلوم من الدين بالضرورة كل مسلم يعرف هذا أو جحد شروط الحج أو أن عرفة من واجبات الحج ومن أعمال الحج لأنه قد يخفى عليه ، لكن يقر بالحج أنه فرض مثل هذه قد تخفى على العامي .
س : يذكر يا شيخ أحسن الله إليك عن بعضهم أنه ما يعرف الجنابة ، وأنه ما يغتسل منها ؟
ج : يعلَّم ، العامي قد لا يفهم خصوصا بعض النساء ، يعلَّم ولا يكفر .
س : من وصلته كتب منحرفة ليست فيها عقيدة ولا توحيد هل يعذر بالجهل ؟
ج : إذا كان بين المسلمين ما يعذر بالشرك أما الذي قد يخفى مثل بعض واجبات الحج أو واجبات العمرة أو واجبات الصيام أو الزكاة بعض أحكام البيع ، وبعض أمور الربا ، قد يعذر وتلتبس عليه الأمور .
لكن أصل الدين كونه يقول أن الحج غير مشروع أو الصيام غير واجب أو الزكاة غير واجبة ، هذا لا يخفى على المسلمين ، هذا شيء معلوم من الدين بالضرورة .
س : لو قال لا بد أن تتوفر شروط فيمن أًريد تكفيره بعينه وتنتفي الموانع ؟
ج : مثل هذه الأمور الظاهرة ما يحتاج فيها شيء ، يكفر بمجرد وجودها ، لأن وجودها لا يخفى على المسلمين ، معلوم بالضرورة من الدين بخلاف الذي قد يخفى مثل شرط من شروط الصلاة ، بعض الأموال التي تجب فيها الزكاة ، تجب أو لا تجب ، بعض شؤون الحج ، بعض شؤون الصيام ، بعض شؤون المعاملات ، بعض مسائل الربا . صـ 99 – 100.
س : بعض الناس يقول : المعين لا يكفر .
ج : هذا من الجهل ، إذا أتى بمكفر يكفر .صـ 117
س : يا شيخ جملة من العاصرين ذكروا أن الكافر من قال الكفر أو عمل بالكفر فلا يكفر حتى تقام عليه الحجة ، ودرجوا عباد القبور في هذا ؟
ج : هذا من جهلهم عباد القبور كفار ، واليهود كفار والنصارى كفار ولكن عند القتل يستتابون ، فإن تابوا وإلا قتلوا.
س : يا شيخ مسألة قيام الحجة ؟
ج : بلغهم القرآن ،هذا بلاغ للناس ، القرآن بلغهم وبين المسلمين "وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ "
" هذا بلاغ للناس " ، " يا أيها الرسول بلغ "
قد بلغ الرسول ، وجاء القرآن وهم بين أيدينا يسمعونه في الإذاعات ويسمعون في غيرها ، ولا يبالون ولا يلتفتون ، وإذا جاء أحد ينذرهم ينهاهم آذوه ، نسأل الله العافية .
س : حديث الرجل الذي قال إذا مت حرقوني ؟
ج : هذا جهل بعض السنن من الأمور الخفية من كمال القدرة ، جهلها فعذر حمله على ذلك خوف الله ، وجهل تمام القدرة فقال لأهله ما قال .
س: سجود معاذ للنبي صلى الله عليه وسلم ؟
ج : هذا إن صح في صحته نظر ، لكن معاذ لو صح ظن أن هذا إذا جاز لكبار قادة المشركين هناك فالنبي أفضل ، هذا له شبهة في أول الإسلام ، لكن استقر الدين وعرف أن السجود لله ،وإذا كان هذا أشكل على معاذ في أول الأمر لكن بعده ما يشكل على أحد . صـ 126 – 127
- وهذه إحدى فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء نذكرها لان الشيخ قد ختم محاضرته بالنقل عنها أكثر من فتوى وسيأتي التعليق على ذلك إن شاءا لله .
- أما فتاوى اللجنة الدائمة فهي كثيرة وأذكر منها أشهرها وأدلها في هذه المسالة وهي الفتوى رقم (4400) السؤال :
( هناك من يقول : كل من يتقيد برسالة محمد صلى الله عليه وسلم واستقبل القبلة بالصلاة ولو سجد لشيخه لم يكفر ولم يسمه مشركا، حتى قال: إن محمد بن عبد الوهاب الذي تكلم في المشركين في خلودهم في النار إذا لم يتوبوا قد أخطأ وغلط، وقال: إن المشركين في هذه الأمة يعذبهم ثم يخرجهم إلى الجنة، وقال: إن أمة محمد لم يخلد فيهم أحد في النار. )
- الجواب :
( كل من آمن برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسائر ما جاء به في الشريعة إذا سجد بعد ذلك لغير الله من ولي وصاحب قبر أو شيخ طريق يعتبر كافرا مرتدا عن الإسلام مشركا مع الله غيره في العبادة، ولو نطق بالشهادتين وقت سجوده؛ لإتيانه بما ينقض قوله من سجوده لغير الله. لكنه قد يعذر لجهله فلا تنزل به العقوبة حتى يعلم وتقام عليه الحجة ويمهل ثلاثة أيام؛ إعذارا إليه ليراجع نفسه، عسى أن يتوب، فإن أصر على سجوده لغير الله بعد البيان قتل لردته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من بدل دينه فاقتلوه صلى الله عليه وسلم أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما، فالبيان وإقامة الحجة للإعذار إليه قبل إنزال العقوبة به، لا ليسمى كافرا بعد البيان، فإنه يسمى: كافرا بما حدث منه من سجوده لغير الله أو نذره قربة أو ذبحه شاة مثلا لغير الله، وقد دل الكتاب والسنة على أن من مات على الشرك لا يغفر له ويخلد في النار؛ لقوله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وقوله: ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفى النار هم خالدون وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد, وآله وصحبه وسلم. )
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو، نائب رئيس اللجنة، الرئيس
عبد الله بن قعود، عبد الرزاق عفيفي، عبد العزيز بن عبد الله بن باز>
وأيضا تراجع فتوى رقم (11043) فهي في هذا الباب .
وهذان علمان من أعلام مصر وكل منهما قد تولى رئاسة جمعية أنصار السنة التي ينتسب إليها الشيخ الآن فأولهما العلامة محمد حامد الفقي رحمه الله- وله تعليق حول العبارة المنسوبة لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وهو قوله : ( و إذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على عبد القادر و الصنم الذي على قبر أحمد البدوي و أمثالها لأجل جهلهم ..الخ ) ا.هـ.
فقال الشيخ رحمه الله : ( في هذه العبارة نقص أو تحريف، لا بد . فإن مؤداها خطأ واضح ينافي نصوص القرآن و السنة، و إذا لم يكفر من يعبد الصنم فمن يكفر غيره ؟ . و هذا بلا شك خلاف دعوة الإسلام و دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب المعروفة من كتاب التوحيد و كشف الشبهات و الثلاثة الأصول و غيرها من كتبه الصريحة في أنه : لا يصح إسلام أحد إلا إذا عرف ما هي الطواغيت و كفر بها و عاداها و عادى عابديها كما قرر إبراهيم عليه السلام في قوله لقومه : ( أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم و آباؤكم الأولون، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ) الآيات .وهذا أوضح في القرآن و السنة و كلام أهل العلم و الدين من أن ينبه عليه .و الداعي إلى الله و إلى إخلاص العبادة له، لا يضيره أبدا أن يرمى من أعداء الله بأنه ( يكفر الناس و يسميهم مشركين )، فإن ذلك من لازم دعوته إلى توحيد الله و الإيمان به، إذ لا يمكن الدعوة إلى الإيمان إلا ببيان الكفر و الكافرين، و الشرك و المشركين، بل إن منطوق كلمة ( لا إله إلا الله ) مستلزم ذلك ... فليس الداعي إلى الله هو الذي يحكم بالكفر و الشرك و وجوب النار للمشركين و الكافرين، إنما هو يخبر عن الله و ينشر كلمات الله و آياته و أحكامه مبشرا و نذيرا . فالله هو الذي يقول : ( و ما أكثر الناس و لو حرصت بمؤمنين )، و هو الذي يقول : ( و قليل من عبادي الشكور )، و غير ذلك لا يحصى من الآيات التي يهدم بها دعاوى من يدعي الإسلام و الإيمان من الجاهلين قديما و حديثا، فواجب الداعي إلى الله أن يبين ذلك في صراحة و شجاعة لا يخاف لومة لائم و لا تشنيع مشنع ... ) ا.هـ هامش رقم 1، على كتاب مصباح الظلام، صـ 28.
- وقال رحمه الله : ( و هل وقع الناس في هاوية الضلال و الشرك إلا بالجري على عادة الآباء و الشيوخ !؟، و هل هذه تنفع حجة أو عذرا !؟ بعد أن أقام الله عليهم الحجة بما قرأوا في القرآن و السنة من آيات الله و أحاديث التوحيد التي هي أكثر شيء و أبينه من قول الله و رسوله ) ا.هـ. ( المصدر السابق، هامش رقم 1، ص : 182 ) .
- والثاني هو الشيخ عبد الرحمن الوكيل رحمه الله وهو العالم السلفي الكبير و الداعية المجرب الخبير، الذي عاش ردحا من عمره مع عباد القبور في بلاد مصر، و كان منهم و مثلهم، ثم هداه الله تعالى إلى التوحيد و السنة فصار حربا على الشرك و الوثنية، و ألف في حرب الوثنية واحدا من أهم الكتب على الإطلاق و هو كتابه هذه هي الصوفية .
- قال رحمه الله : ( و عجب مغرب في العجب، أن نغضب، بل نرتجف من الحنق إذا دُعينا نحن بغير أسمائنا، و نحقر من ينتسب إلى غير أهله، ثم لا نغضب من نعت الباطل بأنه حق !! و عجب ذاهل الدهشة أن نرمي بالعمى و الجهالة من يسمي الليل : بأنه نهار مشمس، أو من يقول عن المر : إنه حلو، أو من يقول عن الثلاثة : إنها واحد !! أو من ينسب إلى مذهب رأي مذهب آخر ، أو من يخطئ في حقيقة تاريخية، أو جغرافية، أو مادة قانونية،.. ثم لا نرمي بهما -بالعمى و الجهالة- من ينعت الصوفية بأنها إسلام صحيح، و من يقول عن الطائفين حول القبور ، اللائذين بأحجارها الصم إنهم مسلمــون !! ثم يمكر ليحسب مع المسلمين، فيقول عن أولئك : و لكنهم مخطئون !! .
عجب أن نكفر من ينسب إلى محمد -صلى الله عليه و سلم- حديثا موضوعا، و القائلين بأن الله ثالث ثلاثة، ثم نحكم بالإيمان الحق لمن ينسبون إلى النبي أنه الصوفي الأول، و أنه الموحي بدين الصوفية !! من يقولون : إن الله عين كل شيء و أنه مليون ملايين !! نحكم بإيمان هؤلاء ، لا لشيء سوى أن لهم أسماء تشاكل أسماء المسلمين !! .
إن الحق و الدفاع عنه يحتمان علينا أن نسمي كل شيء باسمه، و نصفه بصفاته، و إلا افترينا عليه، و جعلنا للباطل السورة و الصولة، و داجينا في الإيمان . أما هذه النعـومة و الطراوة و الرخاوة المخنثـة في الذياد عن الحق، و الجهر بكلمة الحق، أما ذلك فشر أنواع الجبانة الذليلة، و الخداع و الرياء و العجز المهين ..الخ . ) ا.هـ. مقدمة كتابه (هذه هي الصوفية) .
- وأخيرا فليس من الإنصاف أن يهمش ذكر هؤلاء وليس من الأمانة أن تصور المسالة وكأنها إجماعية ثم يرمي علماء الأمة بأنهم تكفيريون خوارج .
الوقفة الرابعة :
ذكر الشيخ وفقه الله قول الشوكاني في السيل الجرار واحتج به في مسالة التكفير والعذر بالجهل حيث نقل قوله :
( اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ، ودخوله الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار ، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن : من قال لأخيه يا كافر ، فقد باء بها أحدهما . هكذا في الصحيح وفي لفظ آخر في الصحيحين وغيرهما : من دعا رجلاً بالكفر ، أو قال : عدو الله ، وليس بذلك إلا حار عليه . أي رجع . وفي لفظ في الصحيح فقد كفر أحدهما . ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير وقد قال الله عز وجل : ولكن من شرح بالكفر صدراً . فلا بد من شرح الصدر بالكفر ، وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه . فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشر ، لا سيما الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر ، ولا اعتبار بلفظ تلفظ به المسلم يدل على الكفر وهو لا يعتقد معناه ) ا.هـ
- و أنبه ابتداء على أن الشوكاني رحمه الله له العديد من المؤلفات أو الرسائل قد تكلم فيها عن هذه المسالة تحديدا منها :
- رسالة في مسائل التوحيد والشرك وهي الرسالة الأولى في كتاب الفتح الرباني .
- ومنها رسالة العذب النمير في جواب مسائل بلاد عسير وهي أيضا مجموعة ضمن كتاب الفتح الرباني تحقيق حلاق .
- ومنها كتاب الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد .
وما ذكره الإمام الشوكاني رحمه الله في السيل الجرار يبدوا متعارضا لما في هذه الرسائل وما فيها من تقريرات صريحة ومخالفة لما ذكره في هذا الموضع ،حيث نص نصا صريحا كما سيأتي على عدم العذر بالجهل في مسائل الشرك الأكبر ونص أيضا على أن الردة لا يعتبر في ثبوتها العلم ،وغير ذلك مما سيأتي نقله ، ولذلك ينبغي أن يوجه هذا القول أو ينقد بما يتوافق مع ما ذكره في هذه الكتب ،جمعا لأقوال الإمام بعضها إلى بعض .
- وهذه بعض نقولات من كلامه رحمه الله في هذه المسالة (العذر بالجهل) أنقلها من الكتب والرسائل التي أشرت إليها .
- قال رحمه الله: ( ثم انظر كيف اعترف بعد أن حكم علي هذا الكفر بأنه كفر عمل لا كفر اعتقاد بقوله : " لكن زين له الشيطان أن هؤلاء عباد الله الصالحين ينفعون ويشفعون . فاعتقد ذلك جهلاً كما اعتقده أهل الجاهلية في الأصنام " ، فتأمل كيف حكم بأن هذا كفر اعتقاد ككفر أهل الجاهلية وأثبت الاعتقاد ، واعتذر عنهم – كما هو حال صاحب الكلام الذي نقلناه لك – بأنه اعتقاد جهل . وليت شعري فأي فائدة لكونه اعتقاد جهل ؟! فإن طوائف الكفر بأسرها وأهل الشرك قاطبة إنما حملهم علي الكفر ودفع الحق والبقاء علي الباطل : الاعتقاد جهلاً ! وهل يقول قائل إن اعتقادهم اعتقاد علم حتى يكون اعتقاد الجهل عذراً لإخوانهم المعتقدين في الأموات ! ثم تمم الاعتذار بقوله : " لكن هؤلاء مثبتون للتوحيد " ، إلي آخر ما ذكره ، ولا يخفاك أن هذا غير باطل ؛ فإن إثباتهم التوحيد إن كان بألسنتهم فقط فهم مشتركون في ذلك هم واليهود والنصارى والمشركون والمنافقون ، وإن كان بأفعالهم فقد اعتقدوا في الأموات ما اعتقده أهل الأصنام في أصنامهم " ) .
- وقال رحمه الله في معرض رده علي القائلين بأن هؤلاء لا يعلمون بأن ما يفعلونه شرك : ( فإن قلت :- هؤلاء المعتقدون في الأموات لا يعلمون بأن ما يفعلونه شرك ، بل لو عرض أحدهم علي السيف لم يقر بأنه مشرك بالله ولا فاعل لما هو شرك بل ولو علم أدني علم أن ذلك شرك لم يفعله ، قلت – أي الشوكاني :- الأمر كما قلت ، ولكن لا يخفي عليك ما تقرر في أسباب الردة أنه لا يعتبر في ثبوتها العلم بمعني ما قاله مما جاء بلفظ كفري ، أو فعل فعلاً كفرياً ، وعلي كل حال فالواجب علي كل من اطلع علي شئ من هذه الأقوال والأفعال ، التي اتصف بها المعتقدون في الأموات أن يبلغهم الحجة الشرعية ، ويبين لهم ما أمره الله ببيانه ، وأخذ عليه ميثاقه ألا يكتمه كما حكي لنا في كتابه العزيز .. )
فتأمل قوله رحمه الله : ( وأنه لا يعتبر في ثبوت الردة العلم بما قاله من ألفاظ الكفر أو الشرك)
- واختم بقوله: ( أما السؤال الأول : فقد أجاب عنه السائل بما شفى وكفى وهو سؤال وجواب وقد أقام الأدلة على ما أجاب به من الكتاب والسنة ، فمن قال بغيره فلا يلتف غليه ولا يعول عليه . ومن وقع في الشرك جاهلا لم يعذر لان الحجة قامت على جميع الخلق بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم فمن جهل فقد أتي من قبل نفسه بسبب الإعراض عن الكتاب والسنة ... فمن جهل فبسبب إعراضه ، ولا يعذر أحد بالإعراض .) الفتح الرباني صـ 145 رسائل العقيدة
- أما التوفيق بين هذه الأقوال التي تبدوا متعارضة لأول وهلة فهو وإن كان من مسؤولية من يحتج بها ابتداء ولكن حيث تعرضت لهذا فأذكر فيه ما يحضرني والله الموفق .
فأقول إن ما ذكره الإمام الشوكاني رحمه الله مخالف لأدلة الكتاب والسنة وأصول أهل السنة في هذا الباب ،حيث أن اشتراط انشراح الصدر بالكفر واعتقاد القلب له مخالف لما اتفق عليه عند أهل السنة من أن الكفر يكون بالقول والفعل والاعتقاد والذي يشترط في انشراح الصدر واعتقاد القلب وسكون النفس إنما يرجع الكفر كله إلى شيء واحد وهو الاعتقاد !
ولا يمكن أن يجتمع قوله هذا مع إقراره بأن الكفر يكون بالقول والعمل إلا بنوع تناقض.
وإن لم يكن في تلك المقالة إلا مخالفة هذا الأصل المتقرر والمميز لها عن أهل الإرجاء والتجهم لكفى لبطلانها وكونها مردودة .
فكيف إذا تعارضت مع نصوص الكتاب والسنة الظاهرة البينة في كفر من تكلم بالكفر من غير اعتقاد ؟
- فلأن يقال عن هذا الكلام بأنه زلة عالم وأن الإمام الشوكاني رحمه الله أخطأ في هذا الكلام وكل يؤخذ من كلامه ويرد إلا النبي عليه الصلاة والسلام ، خير من أن تهدم هذه الأصول.
- هذا وإن اشتراط انشراح الصدر بالكفر وطمأنينة النفس به ليس إلا في المكره على الكفر فمن كفر بغير إكراه فلا يشترط له هذا الشرط مطلقا ودليل ذلك قوله تعالى :
(من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله.. ) الآية فمن كفر بالله من بعد إيمانه فهو كافر إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان فهذا مستثنى من كونه كافرا ،ولكن من شرح بالكفر صدرا أي من المكرهين فعليهم غضب من الله .
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( فإن قيل: فقد قال تعالى «ولكن من شرح بالكفر صدراً»، قيل: وهذا موافق لأولها، فإنه من كفر من غير إكراه فقد شرح بالكفر صدراً، وإلا ناقض أول الآية آخرها، ولو كان المراد بمن كفر هو الشارح صدره، وذلك يكون بلا إكراه، لم يستثن المكره فقط، بل كان يجب أن يستثني المكره وغير المكره إذا لم يشرح صدره، وإذا تكلم بكلمة الكفر طوعاً فقد شرح بها صدراً وهى كفر. وقد دل على ذلك قوله تعالى «يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم، قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون، ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب، قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين». فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم: إنا تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل كنا نخوض ونلعب، وبين أن الاستهزاء بآيات الله كفر، ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدره بهذا الكلام، ولو كان الإيمان في قلبه منعه أن يتكلم بهذا الكلام) (مجموع الفتاوى) 7/ 220
- وقد تكلم الشيخ حمد بن عتيق النجدي رحمه الله 1301 هـ في نفس المسألة في رده على أحد خصوم دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فقال (وأما خروجه ــ أي الخَصْم ــ عما بعث الله به رسوله من الكتاب والسنة وما عليه الصحابة ومن بعدهم من أهل العلم فقوله: فمن شرح بالكفر صدراً أي فتحه ووسّعه وارتد عن الدين وطابت نفسه بالكفر فذلك الذي ندين الله بتكفيره، هذه عبارته، وصريحها أن من قال الكفر أو فعله لا يكون كافراً وأنه لا يكفر إلا من فتح صدره للكفر ووسعه، وهذا معارضة لصريح المعقول وصحيح المنقول وسلوك سبيل غير سبيل المؤمنين، فإن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة قد اتفقت على أن من قال الكفر أو فعله كَفَر ولا يشترط في ذلك انشراح الصدر بالكفر ولا يستثنى من ذلك إلا المكره، وأما من شرح بالكفر صدراً أي فتحه ووسّعه وطابت نفسه به ورضي فهذا كافر عدو لله ولرسوله وإن لم يتلفظ بذلك بلسانه ولا فعله بجوارحه، هذا هو المعلوم بدلالة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ونبين ذلك من وجوه) ثم ذكر عشرة أدلة على كلامه وذلك في رسالته (الدفاع عن أهل السنة والإتباع) صـ 22 ــ 23
- وذكر ابن الوزير اليماني عن أبي هاشم رأس المعتزلة هذا القول وأنكره حيث قال :
( ومن العجب أن الخصوم من البهاشمة وغيرهم لم يساعدوا على تكفير النصارى الذي قالوا إن الله ثالث ثلاثة ومن قال بقولهم مع نص القرآن على كفرهم إلا بشرط أن يعتقدوا ذلك مع القول وعارضوا هذه الآية الظاهرة بعموم مفهوم قوله ولكن من شرح بالكفر صدرا كما سيأتي بيانه وضعفه مع وضوح الآية الكريمة في الكفر بالقول...... وعلى هذا لا يكون شيء من الأفعال والأقوال كفرا إلا مع الاعتقاد حتى قتل الأنبياء والاعتقاد من السرائر المحجوبة فلا يتحقق كفر كافر قط إلا بالنص الخاص في شخص شخص ولا يدل حرب الأنبياء على ذلك لاحتمال أن يكون على الظاهر كقوله فمن حكمت له بمال أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار ومع نكارة هذا فالملجئ إليه عموم مفهوم ظني ضعيف .)
- والاحتجاج بما ذكره الشوكاني رحمه الله من اشتراط انشراح الصدر بالكفر وسكون النفس إليه واعتقاد القلب له يكشف حقيقة منهج من يحتج بهذا الكلام من غير تأمل ويؤكد ما ذكرناه من أسباب استفحال الخلاف في هذه المسالة حيث يلزم من ذلك حصر الكفر في الاعتقاد والاستحلال القلبي دون سائر أنواع الكفر القولي والعملي ،وهم مع ذلك يقررون أن الكفر يكون بالقول والفعل والاعتقاد فكيف يستقيم لمن يحتج بهذا القول أن يقرر ذلك ؟!
لاشك أن هذا تناقض وخلل في فهم هذه المسالة أو فهم أصول أهل السنة أصلا ، فالتزام هذا القول يمنع الاعتبار بكفر الأقوال والأعمال مطلقا ، ويعلقه على انشراح الصدر بالكفر بما يرجع بجميع أنواع الكفر إلى الاعتقاد وهذا أصل باطل مخالف لأصول أهل السنة المعلومة .
- وأخيرا فإن انشراح الصدر بالكفر واعتقاد القلب له أمر مغاير للعلم بل هو عند التأمل غير ملازم له!
إذ كيف ينشرح الصدر بالكفر وتسكن النفس إليه وهو يعلم أنه كفر ؟!
فهذا لا يكون إلا لمن يعتقد في نفسه أنه على الحق ، فما نسميه نحن كفرا ليس عنده بكفر بل هو الحق الذي يعتقده ، فإذا كان انشراح الصدر بالكفر هو دليل جهل صاحبه المركب ومع ذلك يكفر به ،فكيف يحتج به على العذر بالجهل ؟ !
-أما إذا ذهبنا إلى توجيه كلام الشوكاني بما قد يكون أمثل في جمع كلامه وتأليفه فإنه قد يقال :
أولا : إن أصل الكلام إنما كان تعليقا على عبارة الماتن و قوله : ( والمتأول كالمرتد ).
والشوكاني رحمه الله لا يرى أصلا شيئا أسمه " كفر التأويل " ويراه تكفيرا للمسلمين بغير موجب وإخراجا للمسلم عن الإسلام بلوازم قوله ومآله ولذا قال هذا الكلام تعليقا على المتن المشروح قبل هذا الكلام : ( وأما قوله :" ولو تأويلا " فباطل من القول وخطل من الرأي فإن هذه المسائل التي اختلف فيها أهل الإسلام وكفر بعضهم بعضا تعصبا وجرأة على الدين وتأثيرا للأهوية لو كان ظهورها في الدار مقتضيا لكونها دار الكفر لكانت الديار الإسلامية بأسرها ديار كفر فإنها لا تخلوا مدينة من المدائن ولا قرية من القرى من ذاهب إلى ما تذهب إليه الأشعري أو المعتزلة أو الماتريدية وقد اعتقدت كل طائفة من هذه الطوائف ما هو كفر تأويل عند الطائفة الأخرى وكفاك من شر سماعه والحق أنه لا كفر تأويل أصلا وليس هذا موضع البسط لهذه المسألة فخذها كلية تنج بها من موبقات لا تحصى ومهلكات لا تحصر وسيأتي عند الكلام على قوله والمتأول كالمرتد ما ينبغي أن يضم إلى ما هنا لتكمل الفائدة...
فهنا كان التعليق على كفر التأويل وذكر أن الحق أن لا كفر تأويل أصلا ثم ذكر أنه سيعلق على ذلك عند قوله في المتن _ ( والمتأول كالمرتد ) بكلام آخر غير ذلك وقال :
( ينبغي أن يضم بعضه إلى بعض لتكمل الفائدة .)
ثم استرسل في الكلام بعد ذلك حتى ذكر قوله المنقول أعلاه ثم بعد ذلك جاءا التعليق على قول الماتن ( والمتأول كالمرتد ) فقال :
( قوله والمتأول كالمرتد إلخ . أقول ها هنا تسكب العبرات ويناح على الإسلام وأهله بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر لا لسنة ولا لقرآن ولا لبيان من الله ولا لبرهان بل لما غلت مراجل العصبية في الدين وتمكن الشيطان الرجيم من تفريق كلمة المسلمين لقنهم إلزامات بعضهم لبعض بما هو شبيه الهباء في الهواء والسراب البقيعة فيا لله وللمسلمين من هذه الفاقرة التي هي من أعظم فواقر الدين والرزية التي ما رزىء بمثلها سبيل المؤمنين وأنت إن بقي فيك نصيب من عقل وبقية من مراقبة الله عز و جل وحصة من الغيرة الإسلامية قد علمت وعلم كل من له علم بهذا الدين أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن الإسلام قال في بيان حقيقته وإيضاح مفهومه أنه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان وشهادة أن لا إله إلا الله والأحاديث بهذا المعنى متواترة فمن جاء بهذه الأركان الخمسة وقام بها حق القيام فهو المسلم على رغم أنف من أبى ذلك كائنا من كان فمن جاءك بما يخالف هذا من ساقط القول وزائف العلم بل الجهل فاضرب به في وجهه وقل له قد تقدم هذيانك هذا برهان محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه )
فقد يقال أن الإمام رحمه الله قد تأثر في كلامه هذا بما ذكره الماتن أكثر من مرة في جعله المتأول كالمرتد فجاء السياق في كفر التأويل وأنه ليس بكفر أصلا وأن جعله كالمرتد فيه جناية على المسلمين وأن المسلم لا يكفر - من هذه الجهة- إلا باطمئنان نفس وانشراح صدر وغير ذلك مما ذكر وإن كان في العبارة شيء من التوسع في اللفظ إلا أن هذا هو سياقه الذي جاء فيه والذي يقبل فيه مثل هذا الكلام أصلا .
فإن المتأول لا يكفر بلازم قوله ومآله حتى يلتزمه ويقول به فيكون كفره بعد بيان لازم قوله واختياره له ورضاه به قولا ومذهبا فيكفر به اختيارا للكفر وتعصبا للقول وهنا يتحقق انشراح الصدر وهذا يكون في المتأول خاصة ! أو من يأتي بأمر يحتمل في كونه كفر فيكون المرجح حينئذ هو قصد الفاعل وباطنه فإن أبدى عنه كفرا فقد شرح بالكفر صدرا ...
وممن ذهب إلى توجيه آية الإكراه في ذلك فحصر اشتراط انشراح الصدر في المتأولين ابن الوزير اليماني رحمه الله في كتابه إيثار الحق وهو ممن تأثر بهم الشوكاني رحمه الله حيث قال :
(من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم فقوله في هذه الآية الكريمة ولكن من شرح بالكفر صدرا يؤيد أن المتأولين غير كفار لأن صدورهم لم تنشرح بالكفر قطعا أو ظنا أو تجويزا أو احتمالا وقد يشهد لهم بذلك كلام أمير المؤمنين عليه السلام وهو الصادق المصدوق في المشهور عنه حيث سئل عن كفر الخوارج فقال من الكفر فروا فكذلك جميع أهل التأويل من أهل الملة وإن وقعوا في أفحش البدع والجهل ....) ومع ذلك فقد منعه في الكفر الصريح حيث قال : (وقد بالغ الشيخ أبو هاشم (رأس المعتزلة) وأصحابه وغيرهم فقالوا هذه الآية تدل على أن من لم يعتقد الكفر ونطق بصريح الكفر وبسب الرسل أجمعين وبالبراءة منهم وبتكذيبهم من غير إكراه وهو يعلم أن ذلك كفر لا يكفر وهو ظاهر اختيار الزمخشري في كشافه فانه فسر شرح الصدر بطيب النفس بالكفر وباعتقاده معا واختاره الإمام يحيي عليه السلام والأمير الحسين بن محمد وهذا كله ممنوع لأمرين أحدهما معارضة قولهم بقوله تعالى: " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة " فقضي بكفر من قال ذلك بغير شرط فخرج المكره بالنص والإجماع وبقي غيره ...)
فلعل ما ذكرته من السياق وما ذكره ابن الوزير رحمه الله يعين على صحة هذا التوجيه لا سيما وكلام الشوكاني رحمه الله الذي ذكره في السيل وكلامه فيما نقلته عنه في كتبه الأخرى يحتمل أن يقال عنه أن هذا في كفر التأويل لقرينة السياق وما في كتبه الأخرى في كفر التصريح والله أعلم .
ثانيا : قد يوجه هذا الكلام أيضا بأن يقال أن كلام الإمام المذكور في السيل يختص بالأعمال التي ذكرها بعد ذلك وهي الأعمال والأقوال التي أطلق عليها الشارع اسم الكفر وليست بكفر ينقل عن الملة حيث استدرك على نفسه بقوله :
( فإن قلت قد ورد في السنة ما يدل على كفر من حلف بغير ملة الإسلام ، وورد في السنة المطهرة ما يدل على كفر من كفر مسلماً كما تقدم ، وورد في السنة المطهرة إطلاق الكفر على من فعل فعلاً يخالف الشرع كما في حديث لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ونحوه مما ورد مورده وكل ذلك يفيد أن صدور شئ من هذه الأمور يوجب الكفر وإن لم يرد قائله أو فاعله به الخروج من الإسلام إلى ملة الكفر . قلت : إذا ضاقت عليك سبل التأويل ولم تجد طريقاً تسلكها في مثل هذه الأحاديث فعليك أن تقرها كما وردت وتقول من أطلق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم اسم الكفر فهو كما قال . ولا يجوز إطلاقه على غير من سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين كافراً إلا من شرح بالكفر صدراً ، فحينئذ تنجو من معرة الخطر وتسلم من الوقوع في المحنة . فإن الإقدام على ما فيه بعض البأس لا يفعله من يشح على دينه ولا يسمح به فيما لا فائدة فيه ولا عائدة . فكيف إذا كان على نفسه إذا أخطأ أن يكون في عداد من سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كافراً ...)
وتأمل قوله : (وكل ذلك يفيد أن صدور شئ من هذه الأمور يوجب ( الكفر) – وهل يوجب الكفر شيء مما ذكر - وإن لم يرد قائله أو فاعله به الخروج من الإسلام إلى ملة الكفر)
ولا شك أن جميع هذه الأعمال التي ذكرها ليس منها شيء يوجب الكفر الأكبر لذا فإن السياق يدل على أن كلامه المذكور إما أن يكون في المتأول الذي ساواه صاحب المتن بالمرتد أو يكون في التكفير بالأعمال التي سماها الشارع كفرا وليست كذلك كما سبق والله اعلم .
ومما يدعم الوجه الأول ما أورده الشيخ صديق حسن خان في كتابه الروضة الندية وهو شرح لكتاب الدرر البهية للإمام الشوكاني رحمه الله حيث أورد هذا الكلام في سياق الكلام عن المتأول ومقولة (والمتأول كالمرتد ) مع التقديم والتأخير كله تحت سياق التعليق على هذه الكلمة بما يظهر صراحة أن سياقه كان في المتأول حيث قال رحمه الله :
(وأما قول بعض أهل العلم ( أن المتأول كالمرتد) فهنا تسكب العبرات ويناح على الإسلام وأهله بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر لا بسنة ولا قرآن ولا لبيان من الله ولا لبرهان ....) وهذا الكلام قد جاء في السيل الجرار بعد الكلام الذي ذكرناه سابقا وهنا أورده المؤلف في سياق واحد متسلسل تحت تعليق الشوكاني على عبارة (والمتأول كالمرتد ) ثم قال صديق حسن خان : ( هذا ما أفاده الماتن العلامة في السيل . وقال أيضاً... ) ثم ذكر قول الشوكاني المذكور في نفس السياق وذكر أحاديث الترهيب من تكفير المسلم (ففي هذه الأحاديث وما ورد مرودها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن السراع في التكفير . وقد قال عز وجل : ولكن من شرح بالكفر صدراً فلا بد من شرح الصدر بالكفر ، وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه ، فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشرك
لاسيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام ، ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر ، ولا اعتبار بلفظ يلفظ به المسلم يدل على الكفر وهو لا يعتقد معناه ، فإن قلت قد ورد في السنة ما يدل على كفر من حلف بغير ملة الإسلام....) فهذا السياق كله هو تعليق على قول الماتن (والمتأول كالمرتد ) واعتراض الإمام على ذلك ونفيه أن يكون شيئا يسمى كفر تأويل أصلا ..
ثم تطرق بعد ذلك للأقوال والأفعال المكفرة والتي تثبت بها الردة والخروج عن الإسلام فقال رحمه الله :
- والساحر لكون عمل السحر نوعاً من الكفر ، ففاعله مرتد يستحق ما يستحقه المرتد
- والكاهن لكون الكهانة نوعاً من الكفر ، فلا بد أن يعمل من كهانته ما يوجب الكفر
- والساب لله أو لرسوله أو للإسلام أو للكتاب أو للسنة والطاعن في الدين وكل هذه الأفعال موجبة للكفر الصريح ، ففاعلها مرتد حده حده
- وإذا ثبت ما ذكرنا في سب النبي صلى الله عليه وسلم فبالأولى من سب الله تبارك وتعالى ، أو سب كتابه أو الإسلام ، أو طعن في دينه وكفر ، من فعل هذا لا يحتاج إلى برهان .
- وقد اختلف أهل العلم في وجوب الاستتابة ثم كيفيتها ، والظاهر أنه يجب تقديم الدعاء إلى الإسلام قبل السيف كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو أهل الشرك ويأمر بدعائهم إلى إحدى ثلاث خصال ، ولا يقاتلهم حتى يدعوهم . فهذا ثبت في كل كافر . فيقال للمرتد إن رجعت إلى الإسلام وإلا قتلناك ، وللساحر والكاهن والساب لله أو لرسوله أو للإسلام أو للكتاب أو للسنة ، أو للطاعن في الدين ، أو الزنديق قد كفرت بعد إسلامك فإن رجعت إلى الإسلام وإلا قتلناك فهذه هي الاستتابة وهي واجبة
- والمتأمل فيما ذكر من المكفرات يجد أن أنه لم يذكر شيئا منها في سياق اشتراطه انشراح الصدر ولم يذكر انشراح الصدر في سياق كلامه عن المكفرات الصريحة مما قد يصحح هذا التوجيه والله أعلم .
الوقفة الخامسة :
ذكر الشيخ مرارا أن من يعذرهم بالجهل لم يكفروا لأنهم لم يريدوا بذلك الخروج عن الإسلام ، فقد ذكره ذلك في المسالة الثانية في حديث معاذ وسجوده للنبي عليه الصلاة والسلام وذكره في حديث ذات أنواط وأن الصحابة لم يريدوا بهذه الفعل الخروج من الإسلام وذكره في حديث الرجل الذي أمر أهله أن يحرقوه إذا مات خشية من ربه ...
ثم ذكر قولا عجيبا فقال :
( ولماذا قلنا إن الشخص إذا قال قول الكفر أو فعل فعل الكفر لا نكفره وإنما نقول قال قول الكفر أو فعل فعل الكفر . لماذا لا نكفره طالما قال قول الكفر أو فعل فعل الكفر . لماذا لا نكفره إنما قلنا ذلك لان الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهدا مغفورا له قال هذا القول باجتهاد والمجتهد إذا اجتهد فأخطأ له أجر ومنكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله ..)
واستدل على ذلك بحديث الرجل الذي أسرف على نفسه فأر أهله بأن يحرقوه إذا مات ...
وهذا الذي ذكره الشيخ خلط كبير بين المسائل التي هي محل للاجتهاد والمسائل التي ليست كذلك ، وبين الأقوال التي يطلق عليها كفر من أقوال أهل البدع والتي يكون فيها الكفر بلوازم أقوالهم وبين الأقوال والأعمال الكفرية التي هي كفر بذاتها والتي دل الدليل الشرعي على كونها كفرا فلم يفرق بين الكفر بالمآل كما في أقوال أهل البدع من أصحاب المقالات وبين الكفر في الحال الذي دل الدليل على كونه كفرا كسب الدين والاستهزاء بالنبي عليه الصلاة والسلام والسجود للصنم ... فهل يصح أن يقال في مثل هذه الأقوال والأعمال أن أصحابها من أهل الاجتهاد المأجور ؟ !
وما ذكره الشيخ هنا شر مما ذهب إليه الجاحظ الذي قال عنه الموفق ابن قدامه رحمه الله :
( وزعم الجاحظ أن مخالف ملة الإسلام، إذا نظر فعجز عن إدراك الحق، فهو معذور غير آثم، - إلى أن قال: وأما ما ذهب إليه الجاحظ، فباطل يقينا، وكفر بالله. ورد عليه وعلى رسوله. ) ا.هـ
وكونه أشر وافسد من قول الجاحظ ذلك لآن الجاحظ قد اكتفى بعدم تأثيمه والشيخ هنا لم يكتف بذلك بل جعل له الأجر والمثوبة على هذا الاجتهاد !
وأيضا جاء في كتاب معجم المناهي اللفظية للشيخ بكر أبو زيد رحمه الله:
في ترجمة عبيد الله بن الحسن العنبري ، أنه كان ثقة في الحديث وكان من كبار العلماء ،العارفين بالسنة ، إلا أن الناس رموه بالبدعة ، بسبب قول حُكي عنه ، من أنه كان يقول : بأن مجتهد من أهل الأديان مصيب، حتى كفره القاضي أبو بكر ، وغيره ...
( ولقد حكي الشاطبي رحمه الله توبته عن هذا القول في كتابه الاعتصام وذكر كلمته المشهورة ) إذاً أرجع وأنا من الأصاغر، ولأن أكون ذنباً في الحق أحب إلي من أن أكون رأساً في الباطل)ا.هـ
مع أن قول العنبري رحمه الله هذا في الأصول الاعتقادية التي يبدع فيها المخالف ولا يكفر كما ذكر القاضي عنه فأين هذا من كلام الشيخ الذي اثبت الأجر لمن يجتهد في الشرك والكفر! .
- وحيث كرر الشيخ مرارا بأن سبب إعذار الذين وقعوا في الشرك وهو أنهم لم يريدوا بذلك الخروج من الإسلام فأذكر بعض أقوال أهل العلم المدعمة بالنصوص الشرعية والتي ترد هذا القول وتبطله وتقرر أن المرء قد يكفر ويخرج من الإسلام وهو لا يقصد الكفر وعلى رأس هذه الأقوال إجماع الأمة على كفر الهازل مع كونه لم يرد بذلك الخروج عن الإسلام.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله تعالى ( ..لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ) :
(دل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفراً، بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر، فبين أن الاستهزاء بالله ورسوله يكفر به صاحبه بعد إيمانه، فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف، ففعلوا هذا المحرم الذي عرفوا أنه محرم ولكن لم يظنوه كفراً وكان كفراً كفروا به، فإنهم لم يعتقدوا جوازه)
فهذا نص منه رحمه الله في أنهم كفروا ولم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفرا .
- وقال رحمه الله في الصارم المسلول ص 184 ( وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كُفْرٌ كَفَرَ بذلك ، وإن لم يقصد أن يكون كافرا ؛ إذ لا يكاد يقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله ..)
- ثم قال ص 375: ( و الغرض هنا أنه كما أن الردة تتجرد عن السب كذلك قد تتجرد عن قصد تبديل الدين، وإرادة التكذيب بالرسالة، كما تجرد كفر إبليس عن قصد التكذيب بالربوبية، وإن كان عدم هذا القصد لا ينفعه كما لا ينفع من قال الكفر أن لا يقصد أن يكفر)
- وقال شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله :
( والصواب من القول في ذلك عندنا، أن يُقال: إنَّ الله - عز وجل - عنَى بقوله:
( هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ) كلَّ عاملٍ عملاً يحسبه فيه مصيبًا، وأنَّه لله بفعله ذلك مطيع مُرضٍ، وهو بفعله ذلك لله مسخط، وعن طريق أهل الإيمان به جائر كالرهبانيَّة والشمامسة، وأمثالهم من أهل الاجتهاد في ضلالهم، وهم مع ذلك من فعلهم واجتهادهم بالله كفرة، من أهل أي دين كانوا)
- وقال أيضا :
( وهذا من أدل الدلائل على خَطَأِ قَوْلِ مَن زَعَم أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيثُ يقصد إلى الكفر بعد العلم بوحدانيته؛ وذلك أنَّ الله - تعالى ذِكْرُه - أخبر عن هؤلاء الذين وصف صِفَتَهُم في هذه الآية، أنَّ سعْيَهُم الذي سَعَوْا في الدنيا ذَهَبَ ضلالا وقد كانوا يحسبون أنهم محسنون في صنعهم ذلك، وأخبر عنهم أنهم هم الذين كفروا بآيات ربهم. ولو كان القول كما قال الذين زعموا أنَّه لا يكفر بالله أحدٌ إلا من حيث يعلم، لوجب أن يكون هؤلاء القوم في عملهم الذي أخبر الله عنهم أنهم كانوا يحسبون فيه أنهم يُحْسِنون صنعه، كانوا مثابين مأجورين عليها،ولكنَّ القَوْلَ بخلاف ما قالوا، فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم بالله كفرة، وأن أعمالهم حابطة ) ا.هـ
- وقال ابن حجر في الفتح تحت باب من ترك قتال الخوارج للتألف 12/315:
( وفيه أن من المسلمين من يخرج من الدين من غير أن يقصد الخروج منه، ومن غير أن يختار ديناً على دين الإسلام، وأن الخوارج شر الفرق المبتدعة .. ) ا- هـ.
- فهذه بعض أقوال أهل العلم مدعمة بأدلة الكتاب والسنة وإجماع الأمة والتي ترد قول الشيخ أن من يفعل الكفر والشرك لا يكفر لأنه لم يرد بهذا الفعل أو هذا القول الخروج من الإسلام ،علما بأن تعمد الخروج لا يقتصر على الجاهل فقط ، فقد يفعل الكفر من هو عالم به ولا يريد بذلك الخروج الإسلام ،فيلزم الشيخ أن لا يكفر ذلك أيضا إذ علق الكفر على إرادة الخروج !
الوقفة السادسة :
تكلم الشيخ وفقه الله في المسالة الثالثة عن مسالة دخول الأعمال في مسمى الإيمان وهل تدخل الأعمال في مسمى الإيمان أم لا ؟
ثم قرر أنها تدخل في مسمى الإيمان و ذكر أن الذي عليه جمهور أهل السنة أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان وأن الإيمان تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان .
ثم تسائل قائلا : (ما حكم ترك العمل ؟ الجواب فيه تفصيل )
ثم قرر أن من ترك العمل جاحدا فإنه يكفر بلا خلاف ومن تركه كسلا وتهاونا فإنه لا يكفر .
وهذا الكلام لا إشكال فيه إذا كان الكلام عن ترك أي من أعمال الجوارح حيث أن الإيمان يزيد وينقص يزيد بفعل الطاعة وينقص بفعل المعصية وترك الطاعة وما تقرر عن أهل السنة من أن مرتكب الكبيرة مؤمن ناقص الإيمان أو مسلم ليس بمؤمن .
ولكنه قال بعد ذلك :
( وخلاصة القول أن الأعمال وإن كانت داخلة في مسمى الإيمان فإن تركها لا ينقض الإيمان وإن كان ينقصه ) ثم كرر ذلك فقال: ( ترك الأعمال مع الاعتقاد ينقص الإيمان ولا ينقضه ) د /43
وهذا الكلام مشكل !
لان مقام ترك العمل بالكلية يختلف عن مقام ترك أفراد الأعمال فإن ترك العمل بالكلية يلزم منه زوال عمل القلب بالكلية كما أن نقصه دليل نقصه وزيادته دليل زيادته ، وذلك لامتناع حصول المحبة والانقياد في القلب دون عمل ظاهر أو حركة بدن فإن ذلك ممتنع لتلازم الظاهر بالباطن . وأيضا فإن زوال العمل بالكلية يعني عدم تحقيق الإيمان المجزئ في كلام السلف حيث قرروا أن الإيمان : ( قول وعمل واعتقاد لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالأخر ) فمن يقول: ( يجزئ القول والاعتقاد ) دون العمل فهو مخالف لهذا الإجماع ضرورة .
وتقرير الشيخ بأن الإيمان قول وعمل واعتقاد ثم تقريره بعد ذلك بأنه يجزئ القول والاعتقاد دون العمل تناقض ظاهر، وخلاف لما جاء عن السلف رحمهم الله حيث نصوا صراحة على أنه " لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر " فموافقتهم في شق الإجماع ومخالفتهم في الشق الآخر تناقض وخروج عن منهجهم وتقريرهم ، وهذا الإجماع الذي نقله الإمام الشافعي رحمه الله عن الصحابة والتابعين من أثبت الإجماعات وأصحها وأوضحها دلالة وقد أقره عليه الأئمة من بعده وفسروا قوله :( لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر ) أي لا يصح ولا يقبل وذكروا أن من يقول خلاف ذلك فقد قال بقول المرجئة ...
ومما جاء في ذلك قول الإمام الاجري رحمه الله :
) فالأعمال رحمكم الله تعالى بالجوارح تصديق للإيمان بالقلب واللسان .
فمن لم يصدق الإيمان بجوارحه مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه لهذه ، ورضي من نفسه بالمعرفة والقول لم يكن مؤمنا ، ولم تنفعـــــــــه المعرفة والقول ، وكان تركه العمل تكذيبا منه لإيمانه ، وكان العمل بما ذكرنا تصديقا منه لإيمانه ، وبالله تعالى التوفيق ) ا.هـ
وقال أيضا : ( والإعمال بالجوارح تصديق عن الإيمان بالقلب واللسان .
فمن لم يصدق بجوارحه مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه هذه ، ومن رضي لنفسه بالمعرفة دون القول والعمل لم يكن مؤمنا . ومن لم يعتقد المعرفة والقول كان تركه للعمل تكذيبا منه لإيمانه )… كذا) وكان العمل بما ذكرنا تصديقا منه لإيمانه ، فاعلم ذلك . هذا مذهب علماء المسلمين قديما وحديثا ، فمن قال غير هذا فهو مرجئ خبيث ، فاحذره على دينك ..)
- فالقول بأنه يجزئ القول والاعتقاد دون العمل مخالف لهذا الإجماع ضرورة وقد يؤول إلى إخراج العمل الظاهر من حقيقة الإيمان ، ولقد وقفت على بعض التفسيرات الخاطئة لهذا الإجماع من بعض الفضلاء اذكر شيئا منها واعلق عليه باختصار :
- فمنها قولهم أن الإيمان المقصود في كلام السلف هو الإيمان الكامل وهذا باطل ، إذ أنه ليس من مقصود السلف في هذا الإجماع بيان كمال الإيمان أو أصله أو تعيين هذه الأقوال الإعمال والاعتقادات أو مراتبها؛ وإنما مقصدهم ذكر ما يتركب منه الإيمان وحقيقة الدين وأنه لابد فيها من القول والعمل والاعتقاد .
فالإيمان مركب من هذه الأجزاء في أي مرتبة من مراتبه الثلاثة – الأصل والوجوب والكمال - ،فلابد فيها من القول والعمل والاعتقاد، فهم لم يقصدوا إلا بيان جنس ما يتركب منه الإيمان ظاهرا وباطنا ، وقولهم لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالأخر أي لا يصح ولا يقبل إيمان أحد إلا أن يكون فيه هذه الثلاثة أركان مجتمعة سواء قلنا ذلك في الإيمان الكامل أو الواجب أو أصل الإيمان فلابد من اجتماع هذه الثلاثة ، ومن يقول أنه لابد من اجتماعها في الإيمان الكامل والواجب ولا يشترط ذلك في أصل الإيمان فهو متحكم بلا دليل ، بل إن حقيقة الإيمان مركبة من هذه الأجزاء الثلاثة في أي من مراتب الإيمان الثلاثة ،وليس مقصود السلف أصلا ذكر هذه المراتب أو أحدها ، بل مقصودهم هو بيان هذه الحقيقة المركبة وأنه لا يجزئ وجود أي واحد منها دون الأخر ...
- قال شيخ الإسلام : (والمأثور عن الصحابة، وأئمة التابعين، وجمهور السلف، وهو مذهب أهل الحديث، وهو المنسوب إلى أهل السنة أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأنه يجوز الاستثناء فيه، ... - ثم قال - فإن أولئك قالوا : قول وعمل ليبينوا اشتماله على الجنس، ولم يكن مقصودهم ذكر صفات الأقوال والأعمال،) ا. هـ 7/506
فقوله : ( فإن أولئك قالوا: قول وعمل ليبينوا اشتماله على الجنس، ولم يكن مقصودهم ذكر صفات الأقوال والأعمال) هو محل الشاهد ، أي أن قول السلف ليس المقصود منه بيان صفة عمل معين أو مرتبته من الأصل أو الكمال أو ذكر أوصاف هذه الأعمال على سبيل التعين وإنما مقصودهم بيان ما تتركب منه حقيقة الإيمان ...
- قد يقول قائل إنه لا فرق بين التكفير بترك العمل بالكلية أو جنس العمل والتكفير بأفراده فأن التكفير بجنس العمل يؤول إلى التكفير بأفراده ويستلزمه ، ودليل ذلك أن مسلما لو نطق الشهادتين ولم يعمل من الأعمال إلا إماطة الأذى عن الطريق فهو ذلك قد أتى بجنس العمل وهو على قولكم لا يكفر فإن ترك هذا العمل كفر. فكان ترك إماطة الأذى على هذا المذهب كفر وفعله من أصول الإيمان وأركانه ! وهذا تكفير بترك عمل مستحب ! فهل يستقيم ذلك ؟!
- والجواب عن ذلك أن يقال بأنه قد ثبت إجماع الأمة كفر تارك العمل بالكلية حيث نصوا على أنه لا يجزئ أي من هذه الثلاثة أركان إلا بالآخر فلابد من اجتماع القول والعمل والاعتقاد ليصح إيمان العبد ويقبل ولابد من تقرير ذلك إتباعا لإجماع السلف الذي هو من الأدلة الشرعية المعتبرة عند أهل السنة ...
أما أن من أماط الأذى عن الطريق قد أتى بجنس العمل فنعم ، وقد تبين أن الدين لابد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمنًا بالله ورسوله بقلبه أو بقلبه ولسانه، ولم يؤد واجبًا ظاهرًا، ولا صلاة ولا زكاة ولا صيامًا، ولا غير ذلك من الواجبات، فلا يكون الرجل مؤمنًا بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها محمد صلى الله عليه وسلم .
والكلام عن إماطة الأذى عن الطريق في هذا السياق ليس مقصودا لذاته وإلا فمعلوم أن إماطة الأذى عن الطريق شعبة من شعب الإيمان بل من أدنى شعب الإيمان كما في الحديث ،وإنما الكلام هنا عن الإماطة أو غيرها من الأعمال كفرد من أفراد العمل عموما يتحقق مسمى العمل أو جنسه بوجوده بحيث لا يصح أن يقال بأنه تارك للعمل بالكلية أو تارك جنس العمل ، وحيث أن الجنس إنما يتحقق بحصول أي من أفراده فيستوي في ذلك إماطة الأذى أو غيره من الأعمال .
والقول بأنه لو ترك إماطة الأذى حينئذ يكون كافرا بترك إماطة الأذى غير صحيح ! بل يكون كافرا لترك جنس العمل لا لترك إماطة الأذى ! وإلا فهو حين ترك إماطة الأذى فقد ترك جميع الأعمال الأخرى أيضا ، فليس لذكر إماطة الأذى حينئذ وجه اختصاص لأنه ترك هذا العمل وترك غيره معه فانتقل البحث حينئذ إلى ترك العمل بالكلية لا ترك هذا العمل على وجه الخصوص .
فلا يصح أن يقال حينئذ أن ترك إماطة الأذى كفر أو أن فعله من أصول الإيمان فهذه مغالطة أو سوء فهم .
ومثال ذلك أن يقال : هل في البيت رجل ؟ فيقال نعم زيد في البيت .
فهنا لا يصح نفي وجود جنس الرجال في البيت حيث وجد زيد فيه .
فإن قيل هل في البيت رجل ؟ فقيل لا . فهنا انتفى الجنس ولم يعد لذكر زيد اختصاص حيث اشترك هو وغيره في عدم الوجود .
وتفسير بعض الفضلاء ما جاء في هذا الإجماع من قوله ( لا يجزئ ..) أي لا يتم ولا يكمل تفسير باطل . حيث أن الإجماع قد ساوى بين أركانه الثلاثة في الإجزاء فهل يلتزم صاحب هذا التفسير القول بأنه لا يكمل الإيمان إذا ترك القول أو الاعتقاد ؟!
وأبطل منه قول بعض الفضلاء ممن يفسر القول بأنه لا يجزئ أي ( لا يجزئ عن العقوبة ) فهذا كسابقه لا يختلف عنه وهو تحكم بلا دليل وتفسير بالرأي !
وتفصيل ذلك أن العقوبة إنما تستحق بترك الواجبات عموما يدخل في ذلك ترك أصل الإيمان فإنه من الواجبات بلا شك فاشترك الأصل والكمال الواجب في أمرين :
الأول : كونهما واجبين .
والثاني : كونهما يسحق تاركهما العقوبة مطلقا .
واختلفا في أمرين :
الأول : كون تارك الكمال الواجب فاسقا أو مؤمنا ناقص الإيمان فلا يكفر ،أما تارك أصل الإيمان فإنه يكفر .
والثاني : أن عقوبة تارك الأصل الخلود والتأبيد في العذاب عافانا الله وجميع المسلمين من ذلك أما عقوبة تارك الكمال الواجب فهو بحسب مشيئة الرب سبحانه ،فإن عذب فإنه لا يخلد في العذاب بل يخرج إلى الجنة ولو بعد حين .
فالقول بأن (لا يجزئ ) بمعني لا يجزئ عن العقوبة مطلقا قول مجمل ! وعند التفصيل يرجع صاحب هذا القول إلى التفريق بين القول والعمل والاعتقاد فيقرر أن تارك العمل لا يكفر ولا يخلد وتارك القول والاعتقاد يكفر ويخلد في العذاب وهذا هو قول من سبقه وهو باطل لأنه تفسير مخالف لنص الإجماع ومخالف لتفسير السلف !
فكلاهما فسر الإجماع بالرأي والتحكم فقال العمل من كمال الإيمان والأخير تجاوز هذا إلى الكلام عن العقوبة .
ومن قال إن الإيمان في الإجماع المنقول عن السلف هو الإيمان الكامل أو الإيمان المطلق وظن أن من يقابله يقول بأن هذا الإيمان هو أصل الإيمان فليعلم أن كلا الفهمين غير مقصود في كلام السلف !
فلا هم قصدوا الإيمان المطلق الذي يدخل فيه جميع الأعمال الواجبة ،ولا هم قصدوا أصل الإيمان ، وإن كان لفظ الإيمان يستعمل في الدلالة على كلا المعنيين. وذلك بحسب السياق ، فيطلق تارة ويراد به الإيمان المطلق ويطلق أخرى ويراد به أصل الإيمان، وهذا معروف في كلام أهل العلم وخاصة شيخ الإسلام رحمه الله ، ولا يدل جواز استعماله في أحد هذين المعنيين على ضرورة تفسيره بهذا المعنى في كل موضع ، وإنما قصد السلف القول بأن حقيقة الإيمان مركبة من هذه الثلاثة وانه لا يصح إيمان عبد حتى يجتمع فيه هذه الأركان ولذا قال شيخ الإسلام :
(فإن أولئك قالوا: قول وعمل ليبينوا اشتماله على الجنس، ولم يكن مقصودهم ذكر صفات الأقوال والأعمال) فهذا في الثلاثة أركان
أما فيما يخص عمل الجوارح فقال في نفس السياق :
( لامتناع قيام الإيمان بالقلب من غير حركة بدن وليس المقصود هنا ذكر عمل معين !) فقوله : "من غير حركة بدن" يدل على أن الكلام لا يختص بعمل معين ولذا أكد ذلك بقوله
: "وليس المقصود هنا ذكر عمل معين" ، حيث أن المقصود هو تحقيق جنس العمل الذي يصح به الإيمان .
- فالذي يفسر الإجزاء في هذا المقام بأنه لا يجزئ عن العقوبة إما أن يلتزم أن ترك الثلاثة لا يجزئ عن العقوبة مطلقا فيسوي بين الثلاثة في قدر العقوبة ، فيكون عقوبة تارك القول مثل عقوبة تارك العمل مثل عقوبة تارك الاعتقاد وهي الكفر في الدنيا والخلود في النار عياذا بالله وهذا هو الحق ،وهذا هو موجب دلالة الألفاظ الواردة في الإجماع وفي كلام السلف .
أو يفرق بينهم فيجعل في ترك القول والاعتقاد عقوبة الخلود وفي ترك العمل العذاب دون الخلود وهذا تحكم بلا دليل ولا يختلف عن القولين السابقين وإنما تجاوز هذا التفصيل واستتر خلف الأقوال المجملة والاستدلال بمحل النزاع .
- وقول هذا الفاضل بأن الإيمان المذكور في كلام السلف وفي الإجماع المنقول هو الإيمان الكامل أو الإيمان المطلق يجعل قضية النزاع بين أهل السنة والمرجئة محصورة في مجرد تسمية الأعمال إيمانا فهم يسمونها إيمانا وغيرهم لا يسمونها كذلك ، وهذا باطل بلا شك ، لان هذا الخلاف العظيم الذي حصل بين السلف وبين المرجئة والجهمية وما وقع منهم من التشنيع والتبديع بل والتكفير لبعضهم لا يمكن أن يكون لمجرد الخلاف في التسمية فحسب...
- وإلا فإن أيا من هؤلاء المبتدعة لم ينكر أن تكون هذه الطاعات وهذه الأعمال من واجبات الدين والإسلام بل من الواجبات التي يلتزم هو بأدائها صلاة وزكاة وغيرها فهل يستقيم مع ذلك أن يكون الخلاف فقط في تسمية هذه الأعمال إيمان ؟
هذا قول من لا يتأمل الأقوال ويحققها !
- ومن يقول بأنه يجزئ القول والاعتقاد دون العمل لا يختلف في حقيقة قوله مع قول المرجئة إلا في تسمية هذه الأعمال إيمانا فالخلاف بينهم من هذه الجهة لفظي.
أما في حقيقة الأمر فهو يتفق معهم في أصل قولهم بأن المجزئ من الإيمان هو القول والاعتقاد دون العمل ،وهذا الذي عليه التمايز بين فرق المبتدعة وأهل السنة .
- ومن يراجع أقوال المرجئة التي نقلها العلماء لا يجد فرقا بين هذا القول وبين ما ذكر من أقوالهم في الإيمان بل أحيانا تتطابق الأقوال ،وهذا نقل من كتاب مقالات الإسلاميين للأشعري اذكر فيه من أقوال المرجئة ما يتفق مع قول أصحاب هذه الشبهة حيث قال :
( والفرقة الرابعة : منهم وهم أصحاب أبي شمر ويونس يزعمون أن الإيمان :
1- المعرفة بالله
2- والخضوع له والمحبة له بالقلب
3- والإقرار به أنه واحد ليس كمثله شيء ما لم تقم عليه حجة الأنبياء وإن كانت قامت عليه حجة الأنبياء فالإيمان الإقرار بهم والتصديق لهم والمعرفة بما جاء من عند الله غير داخل في الإيمان ولا يسمون كل خصلة من هذه الخصال إيماناً ولا بعض إيمان حتى تجتمع هذه الخصال فإذا اجتمعت سموها إيماناً لاجتماعها وشبهوا ذلك بالبياض إذا كان في دابة لم يسموها بلقاء ولا بعض أبلق حتى يجتمع السواد والبياض فإذا اجتمعا في الدابة سمي ذلك بلقاً إذا كان بفرس فإن كان في جمل أو كلب سمي بقعاً وجعلوا ترك الخصال كلها وترك كل خصلة منها كفر أو لم يجعلوا الإيمان متبعضاً ولا محتملاً للزيادة والنقصان.
- الفرقة السادسة من المرجئة يزعمون أن الإيمان هو:
1- المعرفة بالله وبرسله وفرائضه المجتمع عليها
2- والخضوع له بجميع ذلك
3- والإقرار باللسان فمن جهل شيئاً من ذلك فقامت به عليه حجة أو عرفه ولم يقر به كفر ولم تسم كل خصلة من ذلك إيماناً كما حكينا عن أبي شمر وزعموا أن الخصال التي هي إيمان إذا وقعت فكل خصلة منها طاعة فإن فعلت خصلة منها ولم تفعل الأخرى لم تكن طاعة كالمعرفة بالله إذا انفردت من الإقرار لم تكن طاعة لأن الله عز وجل أمرنا بالإيمان جملة أمراً واحداً ومن لم يفعل ما أمر به لم يطع وزعموا أن ترك كل خصلة من ذلك معصية وأن الإنسان لا يكفر بترك خصلة واحدة وأن الناس يتفاضلون في إيمانهم ويكون بعضهم أعلم بالله وأكثر تصديقاً لهمن بعض وأن الإيمان يزيد ولا ينقص وأن من كان مؤمناً لا يزول عنه اسم الإيمان إلا بالكفر وهذا قول الحسين بن محمد النجار وأصحابه.
- والفرقة السابعة من المرجئة الغيلانية أصحاب غيلان يزعمون أن الإيمان :
1- المعرفة بالله الثانية
2- والمحبة والخضوع
3- والإقرار بما جاء به الرسول وبما جاء من عند الله سبحانه وذلك أن المعرفة الأولى عنده اضطرار فلذلك لم يجعلها من الإيمان.
وذكر محمد بن شبيب عن الغيلانية أنهم يوافقون الشمرية في الخصلة من الإيمان أنه لا يقال لها إيمان إذا انفردت ولا يقال لها بعض إيمان إذا انفردت وأن الإيمان لا يحتمل الزيادة والنقصان
- والفرقة الثامنة من المرجئة أصحاب محمد بن شبيب يزعمون أن الإيمان:
1- الإقرار بالله
2- والمعرفة بأنه واحد ليس كمثله شيء والإقرار والمعرفة بأنبياء الله وبرسله وبجميع ما جاءت به من عند الله مما نص عليه المسلمون ونقلوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة والصيام وأشباه ذلك مما لا اختلاف فيه بينهم ولا تنازع.....
3-والخضوع لله هو ترك الاستكبار وزعموا أن إبليس قد عرف الله سبحانه وأقر به وإنما كان كافراً لأنه استكبر ولولا استكباره ما كان كافراً وأن الإيمان يتبعض ويتفاضل أهله وأن الخصلة من الإيمان قد تكون طاعة وبعض إيمان ويكون صاحبها كافراً بترك بعض الإيمان ولا يكون مؤمناً إلا بإصابة الكل وكل رجل يعلم أن الله واحد ليس كمثله شيء ويجحد الأنبياء فهو كافر بجحده الأنبياء وفيه خصلة من الإيمان وهو معرفته بالله وذلك أن الله أمره أن يعرفه ويقر بما كان عرف وإن عرف ولم يقر أو عرف الله سبحانه وجحد أنبياءه فإذا فعل ذلك فقد جاء ببعض ما أمر به وإذا كان الذي أمر به كله إيماناً فالواحد منه بعض إيمان وكان محمد بن شبيب وسائر من قدمنا وصفه من المرجئة يزعمون أن مرتكب بالكبائر من أهل الصلاة العارفين بالله وبرسله المقرين به وبرسله مؤمنون بما معهم من الإيمان فاسقون بما معهم من...
- الفرقة التاسعة من المرجئة أبو حنيفة وأصحابه يزعمون أن الإيمان:
1- المعرفة بالله 2- والإقرار بالله والمعرفة بالرسول والإقرار بما جاء من عند الله في الجملة دون التفسير وذكر أبو عثمان الآدمي أنه اجتمع أبو حنيفة وعمر بن أبي عثمان الشمزي بمكة فسأله عمر فقال له: أخبرني عمن زعم أن الله سبحانه حرم أكل الخنزير غير أنه لا يدري لعل الخنزير الذي حرمه الله ليس هي هذه العين فقال: مؤمن فقال له عمر: فإنه قد زعم أن الله قد فرض الحج إلى الكعبة غير أنه لا يدري لعلها كعبة غير هذه بمكان كذا فقال: هذا مؤمن قال: فإن قال أعلم أن الله سبحانه بعث محمداً وأنه رسول الله غير أنه لا يدري لعله هو الزنجي قال: هذا مؤمن ولم يجعل أبو حنيفة شيئاً من الدين مستخرجاً إيماناً وزعم أن الإيمان لا يتبعض ولا يزيد ولا ينقص ولا يتفاضل الناس فيه.فأما غسان وأكثر أصحاب أبي حنيفة فإنهم يحكون عن أسلافهم أن الإيمان هو الإقرار والمحبة لله والتعظيم له والهيبة منه وترك الاستخفاف بحقه وأنه لا يزيد ولا ينقص.) ا. هـ
- فهذه الفرق جميعها لا تختلف أقوالها في حقيقة الإيمان المجزئ عمن يقول أن الإيمان هو الإقرار والمعرفة والخضوع أو تصديق القلب وعمله وإقرار اللسان ، إلا في تسمية الأعمال إيمانا ، ومسألة زيادة الإيمان ونقصانه قد لا يكون لها اختصاص بالمرجئة من جهة أن هذا هو قول الخوارج أيضا وشبهتهم وأصلهم في ذلك واحد هو أن الإيمان شيء واحد لاسيما وقد نقل عن بعض الأئمة أن الإيمان يزيد ولا ينقص .
فإذا أضيف إلى ذلك أن بعض فرق المرجئة قد قال بالتفاضل والزيادة والنقصان وإمكان تعذيب الله لأهل الكبائر كما هو قول الفرقة الثامنة وغيرها فقد ذابت حقيقة الفوارق المميزة بين أصحاب هذه الشبهة وبين قول هذه الفرق وكان الخلاف بينهم في تسمية هذه الأعمال إيمان شكلي ولفظي فحسب !
وتأمل قول الأشعري رحمه الله:
( واختلفت المرجئة في فجار أهل القبلة هل يجوز أن يخلدهم الله في النار إن أدخلهم النار على خمسة أقاويل: فزعمت الفرقة الأولى أصحاب بشر المريسي أنه محال أن يخلد الله الفجار من أهل القبلة في النار لقول الله عز وجل: "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره" وأنهم وزعمت الفرقة الثانية منهم أصحاب أبي شمر ومحمد بن شبيب أنه جائز أن يدخلهم الله النار وجائز أن يخلدهم فيها إن أدخلهم وجائز أن لا يخلدهم.
وقالت الفرقة الثالثة أن الله عز وجل يدخل النار قوماً من المسلمين إلا أنهم يخرجون بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصيرون إلى الجنة لا محالة. وقالت الفرقة الرابعة وهم أصحاب غيلان: جائز أن يعذبهم الله وجائز أن يعفو عنهم وجائز أن لا يخلدهم فإن عذب أحداً عذب من ارتكب مثل ما ارتكبه وكذلك إن خلده وإن عفا عن أحد عفا عن كل من كان مثله.
وقالت الفرقة الخامسة منهم: جائز أن يعذبهم الله وجائز أن لا يعذبهم وجائز أن يخلدهم ولا يخلدهم وأن يعذب واحداً ويعفو عمن كان مثله كل ذلك لله عز وجل أن يفعله.) ا. هـ
- فهم يقرون بتعذيب أهل الكبائر مع أنهم جميعا لم يطلقوا على أعمال الجوارح اسم الإيمان فهل ثمة فرق حقيقي بين أقوال هذه الفرق وبين من يقول بأن تارك العمل بالكلية لا يكفر وأنه يجزئ القول والاعتقاد دون العمل ؟ !
- وقد يقول قائل ما ذكرته لا باس به من جهة أن الخلاف بيننا وبين هذه الفرق لفظي وهذا ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله نصا عن الخلاف بين مرجئة الفقهاء وأهل السنة فذكر أن الخلاف بينهما لفظي إذ جعلوا أعمال الجوارح لازمة للإيمان ليست منه .
- والجواب عن ذلك أن هذا الكلام بني على فهم مغلوط لكلام شيخ الإسلام رحمه الله المذكور في هذه الموضع .
- ولو رجعنا إلى قوله لوجدنا أنه قد علق كون الخلاف لفظيا بين من يقول بأن العمل من الإيمان ومن يقول بأنه لازم له ليس منه إذا رتب على هذا التلازم انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه، أي انتفاء الإيمان الباطن لانتفاء العمل الظاهر ففي هذه الحالة فقط يكون الخلاف لفظيا ومما يوضح ذلك قوله رحمه الله للجهمية :
- ) أنكم سلمتم أن هذه الأعمال لازمة لإيمان القلب، فإذا انتفت لم يبق في القلب إيمان، وهذا هو المطلوب، وبعد هذا فكونها لازمة أو جزءًا، نزاع لفظي(
- وقال رحمه الله كما في 1/168 الإيمان الأوسط :
) ومنشأ الغلط في هذه المواضع من وجوه :
أحدها : أن العلم والتصديق مستلزم لجميع موجبات الإيمان .
الثاني : ظن الظان أن ما في القلوب لا يتفاضل الناس فيه .
الثالث : ظن الظان أن ما في القلب من الإيمان المقبول يمكن تخلف القول الظاهر والعمل الظاهر عنه .
الرابع : ظن الظان أن ليس في القلب إلا التصديق،وأن ليس الظاهر إلا عمل الجوارح . والصواب أن القلب له عمل مع التصديق، والظاهر قول ظاهر وعمل ظاهر، وكلاهما مستلزم للباطن . والمرجئة أخرجوا العمل الظاهر عن الإيمان؛ فمن قصد منهم إخراج أعمال القلوب ـ أيضًا ـ وجعلها هي التصديق، فهذا ضلال بين، ومن قصد إخراج العمل الظاهر قيل لهم : العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه، وانتفاء الظاهر دليل انتفاء الباطن، فبقى النزاع في أن العمل الظاهر : هل هو جزء من مسمى الإيمان يدل عليه بالتضمن، أو لازم لمسمى الإيمان ؟(
ومما ينبغي أن التنبه له في هذا المقام أن الحديث عن الجهمية والرد عليهم يختلف عن الحديث عن المرجئة والرد عليهم فكلاهما يشترك في إخراج عمل الجوارح من الإيمان وتختص الجهمية بإخراج قول اللسان أيضا ، وهذا يفيد في فهم كلام شيخ الإسلام عند الظاهر وانتفاء الإيمان ففي سياق الرد على الجهمية يحتمل أن يكون الظاهر في كلام شيخ الإسلام متضمنا قول اللسان وعمل الجوارح معا ويحتمل إن يكون أحدهما بحسب السياق حيث أنهم قد أخرجوا الظاهر كله بما فيه القول والعمل ، أما في سياق الحديث عن المرجئة خاصة مرجئة الفقهاء فإن الحديث عن الظاهر وانتفاءه يقتصر على ما أخرجوه فقط وهو عمل الجوارح وأيضا بحسب السياق !
- ففي هذا النقل قد فصل شيخ الإسلام أركان الإيمان الأربعة من قول اللسان وتصديق القلب وعمل الجوارح وأعمال القلب فقال :
) والظاهر قول ظاهر وعمل ظاهر، وكلاهما مستلزم للباطن(
فهنا نص على أن الظاهر قول ظاهر وعمل ظاهر وأن كلاهما مستلزم للباطن
ثم ذكر خطا المرجئة فقال ) - والمرجئة أخرجوا العمل الظاهر عن الإيمان(
-ثم قال: ( فمن قصد منهم إخراج أعمال القلوب أيضًا وجعلها هي التصديق، فهذا ضلال بين(
- ثم قال ( ومن قصد إخراج العمل الظاهر قيل لهم : العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه، وانتفاء الظاهر دليل انتفاء الباطن)
وهذا هو محل الشاهد حيث نص شيخ الإسلام رحمه الله على انتفاء الإيمان الباطن لانتفاء العمل الظاهر والذي على أساسه يكون الخلاف بين صاحب هذا القول وبين قول أهل السنة خلافا لفظيا ولذا أردف بقوله :
( فبقى النزاع في أن العمل الظاهر : هل هو جزء من مسمى الإيمان يدل عليه بالتضمن، أو لازم لمسمى الإيمان ؟ )
فالإقرار بأن (انتفاء الظاهر دليل على انتفاء الباطن) لمن يقول بالتلازم بينهما هو شرط كون النزاع لفظيا ، فإذا كان العمل الظاهر لازم لإيمان القلب فيلزم من ذلك انتفاء الإيمان الباطن لانتفائه وبدون هذا فلا يمكن أن يكون الخلاف لفظيا .
فمن يقول بأن الخلاف لفظي لأنهم جعلوا العمل لازم للإيمان فهو مخطئ .لأنه لا يتحقق هذا اللزوم حقيقة إلا بانتفاء الملزوم عند انتفاء اللازم وإلا فلا معنى للتلازم .
فهذا الموضع مع مواضع كثيرة لشيخ الإسلام أكد فيها رحمه الله على قاعدة أهل السنة في التلازم المطلق بين الظاهر والباطن وعلى انتفاء الإيمان الباطن لانتفاء العمل الظاهر .
وليس المقصود في هذا الاستطراد الرد على الشيخ عبد العظيم وفقه الله حيث أن الشيخ لم يتكلم بكل ما سبق ولكنه يتفق مع من يقول بهذا الكلام ضرورة ، لذا أوردت ما سبق في سياق المسالة ، وهي مسالة ثار حولها خلاف كثير في هذا العصر ولولا التعدي والتجني من أصحاب هذه القول على إخوانهم واتهامهم لهم بأنهم على منهج الخوارج وأنهم يكفرون بالمعاصي لما ذكرت ما سبق حيث أن المسالة ليست مما يترتب عليها أحكام ظاهرة وحدوثها في الواقع يكاد يكون غير متحقق ، وقد يلتمس لمن يخالف في هذه المسالة العذر إذا ما اقتصر على الاحتجاج بدلالات النصوص الشرعية وما يذكر من الأحاديث من غير تعدي على الثوابت المجمع عليها أو اتهام المخالف بالخروج عن منهج السنة ...
- أما ما أورده الشيخ من أحاديث الشفاعة وغيرها فقد وجهها العلماء بحيث تتفق مع النصوص الأخرى التي تقرر كفر تارك الصلاة ، ومع إجماع الأمة على كفر تارك العمل بالكلية ... فكل من يرى كفر تارك الصلاة فإنه يقيد أحاديث الشفاعة بأحاديث كفر تارك الصلاة وعلى رأس هؤلاء جمهور الصحابة والتابعين كما قال ابن حزم في الفصل 3/27 ( روينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعاذ بن جبل ،وابن مسعود ، وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم وعن ابن المبارك ،وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه رحمة الله عليهم ، وعن تمام سبعة عشر رجلاً من الصحابة ، والتابعين رضي الله عنهم ، أن من ترك صلاة فرض عامداً ذاكراً حتى يخرج وقتها ، فإنه كافر ومرتد ، وبهذا يقول عبد الله بن الماجشون صاحب مالك ، وبه يقول عبد الملك بن حبيب الأندلسي وغيره ...)
- أما من يذهب إلى كفر تارك الصلاة من المعاصرين فمنهم علماء المملكة العربية السعودية بما فيهم الشيخ ابن باز والشيخ العثيمين واللجنة الدائمة وهيئة كبار العلماء ومنهم الكثير من علماء مصر وغيرها من كافة بلدان العالم الإسلامي وهؤلاء جميعهم يرون ضرورة تقييد أحاديث الشفاعة وغيرها مما قد تفيد دخول الجنة بلا عمل بالنصوص الواردة في كفر تارك الصلاة ، وتوجيه هذه الأحاديث بما يتنافي مع إجماع الأمة أن الإيمان قول وعمل .
- فها هي أدلة الشيخ جميعها أول من يعارضها هم صحابة النبي عليه الصلاة والسلام والتابعين ومن المعاصرين اللجنة الدائمة وهيئة كبار العلماء وغيرهم ، فهل يصح للشيخ بعد ذلك أن يترك قول الجماعة الذين هم الصحابة لقول غيرهم أيا ما كان ؟!
فإذا قيل بقي مع الشيخ من لم ير كفر تارك الصلاة وهم جمهور الفقهاء من أتباع المذاهب.
فالجواب عن ذلك من وجوه :
أولا : أن هذا على فرض صحته يدل على أن الشيخ لم يتبع الصحابة أو جمهور الصحابة الذين هم الجماعة كما قرر ذلك في شريط (كيف تكون من أهل السنة ) وأكد على ضرورة التزام أقوالهم وعدم اعتبار قول من يخالفهم !
وإذا ثبت تكفير الصحابة لتارك الصلاة أو غيرها من الأعمال فقد ثبت بالضرورة أنهم يرون تقييد هذه الأحاديث التي يحتج بها الشيخ حيث أنهم رواتها وناقلوها ولا يجتمع القول بتكفير تارك الصلاة مع القول بأن تارك العمل بالكلية لا يكفر .
وثانيا : فإن منهج أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل واعتقاد لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر وعلى هذا إجماعهم الذي ذكرناه فلابد من العمل ليصح الإيمان ويقبل ومن يقول بالإجزاء بدون العمل فقد خالف هذا الإجماع الصريح وقال بقول المرجئة كما سبق عن الآجري رحمه الله .
ثالثا : إن فتاوى اللجنة الدائمة قد اعتبرت مثل هذا القول الذي يتبناه الشيخ وفقه الله من أقوال المرجئة حيث أصدرت الفتاوى في أكثر من كتاب بتحريم طبعه ونشره واعتبرت من يقول بأن المرء قد يجزئه القول والاعتقاد فقط دون العمل من أقوال المرجئة كما سيأتي ، مع أن أصحاب هذه الكتب قد أكدوا مرارا وتكرارا على أن العمل داخل في مسمى الإيمان وجزء منه ولكنه من مكملاته لا من أصله وتاركه بالكلية لا يكفر ومن هذه الكتب كتاب (ضبط الضوابط) لصاحبه الشيخ أحمد الزهراني وقد قال في كتابه المذكور : صـ60 :
( ... وأما أهل السنة فجميع الأقوال والأعمال التي يحبه الله ورسوله هي عندهم من جملة الإيمان) .
وقال : ( المتقرر عند أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص وهو صريح ما نطق به القرآن والسنة وعليه مذهب الصحابة الكرام ومن بعدهم من السلف الصالح ).
ولكنه لما قدم كتابه بقوله أن العمل شرط كمال وأن تاركه بالكلية لا يكفر حيث قال :
( وأما ما ذكر من أن العمل الظاهر شرط كمال في الإيمان فهو الحق وإن أبى من أبى وهو منهج أهل السنة والجماعة ، وليس في نصوص السلف الصالح ما يخالف هذا عند التأمل) ا.هـ
فكان جواب اللجنة الدائمة على كتابه :
( فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الكتاب الموسوم ب : ( ضبط الضوابط في الإيمان ونواقضه ) تأليف المدعو / أحمد بن صالح الزهراني
فوجدته كتابا يدعو إلى مذهب الإرجاء المذموم ؛ لأنه لا يعتبر الأعمال الظاهرة داخلة في حقيقة الإيمان ، وهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة من أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح ، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية .
وعليه : فإن هذا الكتاب لا يجوز نشره وترويجه ، ويجب على مؤلفه وناشره التوبة إلى الله عز وجل . ) ا.هـ
- وأيضا كتاب) حقيقة الإيمان ) للشيخ عدنان عبد القادر فقد قرر فيه نفس ما قرر صاحب كتاب ضبط الضوابط بل زاد عليه بأن جعل العمل ركنا في الإيمان ولكنه قرر كما قرر الشيخ عبد العظيم هنا من أن تارك العمل بالكلية لا يكفر واحتج بأحاديث الشفاعة على ذلك فكان جواب اللجة الدائمة عليه هو نفس جوابها على كتاب الشيخ أحمد الزهراني بأن هذا كلام المرجئة ويحرم نشره وطباعته وتجب التوبة على صاحبه .
- وهذا ما قرره الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في كثير من المواضع خاصة على كلام ابن حجر رحمه في الإيمان وخطاه في نقل مذهب السلف وهو في الفتح والذي يحتج به الكثيرون في هذه المسألة ،وأيضا في تعليقه على العقيدة الطحاوية قرر في أكثر من موضع خطا الإمام الطحاوي في مسالة الإيمان ...
- ولقد سال رحمه الله عام (1415هـ) ـ في أحد دروسه ـ عن الأعمال : أهـي شـرط صحـة للإيمان ، أم شرط كمال ؟
ــ فقال رحمه الله : من الأعمال شرط صحة للإيمان لا يصح الإيمان إلا بها كالصلاة ، فمن تركها فقد كفر. ومنها ما هو شرط كمال يصـح الإيمـان بدونها ، مع عصيان تاركها وإثمه .
ــ فقلت له رحمه الله : من لم يكفر تارك الصلاة من السلف ، أيكون العمل عنده شرط كمال؟ أم شرط صحة ؟
ـــ فقال : لا ، بل العمل عند الجميع شرط صحة، إلا أنهم اختلفوا فيما يصح الإيمان به منه ؛ فقالت جماعة : إنه الصـلاة ، وعليـه إجماع الصحابـة رضـي الله عنهم ، كما حكاه عبد الله بن شقيق. وقال آخرون بغيرها. إلا أن جنس العمل لابد منه لصحة الإيمان عند السلف جميعاً. لهذا الإيمان عندهم قول وعمل واعتقاد ،لا يصح إلا بها مجتمعة أ.هـ(
- وأكتفي بما سبق ولعله يبرز بجلاء مدى مخالفة الشيخ لهؤلاء الأكابر في هذه المسالة ونحن مع مخالفته لهؤلاء وخطاه في المسالة نحفظ له قدره واجتهاده ونطلب منه أن يفعل مثل ذلك فيحفظ لهؤلاء حرمتهم وينزلهم منازلهم .
الوقفة السابعة :
- قال الشيخ في د 44 ( ولم يختلف أهل السنة في ذلك إلا فيمن ترك الصلاة ومن ترك الحكم بما أنزل الله ، هاتان مسالتان أختلف فيهما أهل السنة .. حكم تارك الصلاة وحكم تارك الحكم بما أنزل الله )
وقرر أن سبب الخلاف هو ( نصوص جاءت تسمي تارك الصلاة كافرا وتسمي تارك الحكم بما أنزل الله كافرا )
وهنا يجعل الشيخ هاتين المسألتين مما اختلف فيهما أهل السنة ومعلوم أن المسألة إذا كانت خلافية بين أهل السنة فلا يجوز الإنكار فيها على المخالف فضلا عن تبديعه وتضليه وتسميته بالتكفيري والخارجي ، ولكن الشيخ هنا سرعان ما وصف مخالفه بالتكفيري !
فهل يقال لمن يكفر تارك الصلاة بأنه تكفيري ؟
وهل أثر عن السلف شيء من ذلك ؟
- ثم ذكر الشيخ الخلاف في تارك الصلاة وذكر أن أحمد ونفر ممن ذهب إلى تكفير تارك الصلاة كسلا وتهاونا لظاهر الأحاديث المعلومة في تكفير تارك الصلاة ، ثم ذكر بعد ذلك أن الجمهور على خلاف ذلك وذكر أدلة الجمهور..
- وما ذكره الشيخ وفقه الله في هذه المسألة فيه إخلال بعرض حقيقة الخلاف الحاصل في هذه المسألة ،لأنه إذا كان أحمد ونفر ذهب إلى تكفير تارك الصلاة فأين الناس قبل أحمد ؟
وهل يصح أن يهمل ذكر الصحابة أو حتى جمهورهم إذا كانوا طرفا في خلاف ما ؟
فكان من الواجب على الشيخ وفقه الله حين ذكر الخلاف أن يذكر أولا مذهب الصحابة والتابعين قبل أن يذكر مذهب الأئمة الأربعة وأتباعهم ، لأن السلف من الصحابة والتابعين والأئمة هم المقصودون أصالة بالإتباع خاصة في المسالة التي يحصل فيها الخلاف ،أما حكاية الخلاف من وقت الأئمة ومن بعدهم دون الإشارة إلى مذهب الصحابة والتابعين ففيه إخلال بلا شك واذكر هنا بعض كلام السلف في هذه المسالة .
- قال محمد بن نصر المروزي:
) قد ذكرنا في كتابنا هذا ما دل عليه كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من تعظيم قدر الصلاة وإيجاب الوعد بالثواب لمن قام بها، والتغليظ بالوعيد على من ضيعها، والفرق بينها وبين سائر الأعمال في الفضل، وعظم القدر. ثم ذكرنا الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في إكفار تاركها، وإخراجه إياه من الملة، وإباحة قتال من امتنع من إقامتها، ثم جاءنا عن الصحابة مثل ذلك، ولم يجئنا عن أحد منهم خلاف ذلك)
- وقال رحمه الله : ( هو قول جمهور أهل الحديث) أي كفر تارك الصلاة
- وقال : ( سمعت إسحاق يقول: "صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر)
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى :
) والمنقول عن أكثر السلف يقتضي كفره وهذا مع الإقرار بالوجوب، فأما من جحد الوجوب، فهو كافر بالاتفاق(
- وقال أيضاً: ( وتكفير تارك الصلاة هو المشهور المأثور عن جمهور السلف من الصحابة والتابعين )
وذكر الكثير من أهل العلم انه إجماع الصحابة .
فهل من يقول بأن جمهور السلف على كفر تارك الصلاة يكون قد أخطا ؟
وإذا قابل السلفي القول بأن ( جمهور السلف الصحابة والتابعين) و( أكثر السلف ) و ( رأي أهل العلم من لدن النبي إلى إسحاق بن راهويه ) و( جمهور أهل الحديث ) بمصطلح جمهور العلماء من بعد الأئمة الأربعة فما عساه أن يترجح له ؟!
- إن هذا الطرح المخل للمسائل يعد سمة بارزة في منهج الشيخ وفيه بلا شك إزراء من قدر هؤلاء المخالفين وهم هنا سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين مع أن الشيخ كثيرا ما يدندن بأن الصحابة هم الجماعة وأنهم هم أهل السنة وأنه لا ينبغي أن ينظر لقول مخالفهم ويحكي في ذلك الآثار الكثيرة كما في شريط كيف تكون من أهل السنة ثم نجده هنا يغض الطرف عن هذا كله ويتوارى خلف مسمى جمهور العلماء !
الوقفة الثامنة :
ذكر الشيخ المسألة الثانية التي اختلف فيها أهل السنة والجماعة وهي مسالة الحكم بغير ما أنزل الله فقال : ( فعمدة أهل
التكفير في تكفير الحكام آيات المائدة الثلاث .... )
والعجب من صنيع الشيخ هنا حيث ذكر أن المسالة مما اختلف فيها أهل السنة ،ومعلوم أن موجب هذا الخلاف أن فريقا من أهل السنة يرى كفر الحكام بالقوانين الوضعية ، وفريقا آخر لا يرى كفرهم كما حصل الخلاف في كفر تارك الصلاة ..
والسؤال هنا : لماذا لم يذكر الشيخ أحدا من العلماء المخالفين له كما ذكر الكثير ممن يرى أنهم يوافقونه ؟!
وإذا أقر الشيخ بأن الخلاف حاصل في مسالة الحكم بما أنزل الله فلماذا يوصف من يكفر الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله بأنه من أهل تكفير ؟! لا شك أن هذا تناقض واضطراب !
ثم ذكر الشيخ أن التفصيل في هذه المسألة هو الواجب !
والتفصيل عند الشيخ هو أن من ترك الحكم بما أنزل الله جاحدا كفر ومن تركه معتقدا وجوبه لم يكفر وهو مستحق للإثم والعقوبة !
وعلى مذهب الشيخ فإن أهل السنة لديهم تفصيل في حكم جميع الأعمال !
حيث أنهم قد قالوا بمثل الذي يسميه الشيخ تفصلا في ترك جميع الأعمال الواجبة ، فمن ترك الصيام جاحدا كفر ومن تركه تهاونا لم يكفر ومن ترك الزكاة جاحدا كفر ومن تركها تهاونا لم يكفر وقل مثل ذلك في ترك جميع الأعمال !
- فإن كلمة تفصيل تعني عند السامع تحقيقا يخص هذه المسالة يتضمن دقائقها ومسالكها وتعدد أوجه الخلاف فيها . فإذا كان ما يقال في هذه المسالة هو ما يقال في غيرها فأين ما يخصها من تفصيل ؟ !
أما تفصيل أهل العلم الحقيقي فإنهم يجعلون الحكم بغير ما أنزل الله صورا متعددة لا صورة واحدة ، وذلك يرجع إلى اختلاف دلالات لفظ الحكم في الكتاب والسنة من حيث الاستعمال حيث أنه قد ورد في نصوص الكتاب والسنة على معنيين رئيسيين :
- الأول التشريع :
- والتشريع وهو من خصائص الرب سبحانه وتعالى وهو حكم الله الذي شرعه في كتابه وعرفه الأصوليون بأنه خطاب الله المتعلق بأعمال المكلفين تكليفا ووضعا وهو تحليل الحلال وتحريم الحرام ووضع العقوبات والحدود وغيرها ...
وهذا المعنى قد اختص به الرب سبحانه فهو من خصائص ربوبيته لقوله سبحانه : (ولا يشرك في حكمه أحدا ) وقوله (إن الحكم إلا لله ) وقوله (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم ياذن به الله ) ونعيه سبحانه على أهل الكتاب بأنهم (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا ) وقول النبي عليه الصلاة والسلام : (الم يحلوا لكم الحرام ويحرموا عليكم الحلال ..) الحديث ففسر ربوبية الأحبار والرهبان بتحليل الحرام وتحريم الحلال فدل على أن هذا من خصائص الرب سبحانه وتعالى .
- وحيث أن توحيد الرب سبحانه وتعالى هو إفراده سبحانه بما يختص من الأسماء والصفات والأفعال وما يستحق من العبادة والتعظيم وحيث أن التشريع والتحليل والتحريم هو من خصائصه سبحانه ومن أعمال الربوبية التي لا يشرك فيها أحدا كان واجب المكلف تجاه حكم الله وتشريعه هو إفراده سبحانه بذلك ، وذلك يكون بقبوله وحده والانقياد له وحده ، وهو معنى طاعته في التشريع ، ويقابل ذلك التولي عن الطاعة برد حكم الله وعدم قبوله حكما أو الشرك في الطاعة بقبول غير شرعه معه فالواجب على المسلم إن كان حاكما ان يفرد الله بالتشريع بأن يجعله وحده حكما بين الناس ،ترد غليه جميع الخصومات والنزاعات ، وإن كان محكوما افرد الله بالتشريع بالتحاكم إلى شرع الله وحده .
ومن يجعل شرعا غير شرع الله حكما بين الناس فلا يكون حينئذ قد أفرد الله سبحانه بالحكم بل يكون قد أشرك في حكمه أحدا والله يقول (ولا يشرك في حكمه أحدا ) وفي قراءة ابن عامر (ولا تشرك في حكمه أحدا ) ..
- أما المعنى الثاني للفظ الحكم والذي يرد في استعمال الكتاب والسنة فهو القضاء :
والقضاء موكول للقاضي والحاكم الشرعي وعمله فقط تنفيذ الأحكام الشرعية بشان المتخاصمين ، فالقاضي حاكم بين الناس بمعنى المنفذ لحكم الله وشرعه .
وهذا القاضي قد يظلم ويجور أثناء تنفيذ الأحكام إما لرشوة أو لعداوة لأحد المتخاصمين أو غير ذلك لكنه في الأصل ملتزم بحكم الله سبحانه وتعالى وشرعه فلا يحل حراما ولا يحرم حلالا ولا يسن تشريعا ومن ذلك قوله سبحانه (وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ..) والمعنى أقض بينهم .
- ولا خلاف في أن لفظ الحكم في القرآن يتناول هذين المعنيين وغيرهما .
فأما الصورة الأولى فالإجماع منعقد على كفر من يخالف فيها حاكما كان أو محكوما فمن شرع حكما عاما يبدل به شرائع الإسلام يحل به الحرام أو يحرم به الحلال أو يشرك به شرع الله سبحانه فهو كافر خارج عن ملة الإسلام ومن يتحاكم إلى الطاغوت ويقدمه على شرع الله باختياره فهو كافر .
يقول الحق تبارك وتعالى : ( يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ...) والطاغوت هو كل ما يتحاكم إليه غير الله ورسوله من القوانين والأعراف والآراء والأهواء ...
- وهذا شيء مما ذكره أهل العلم بهذا الصدد :
قال الإمام إسحاق اين راهويه :
( وقد أجمع العلماء أن من سب الله عز وجل أو سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو دفع شيئا أنزله الله أو قتل نبيا من أنبياء الله وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر ( ا.هـ
فقوله : ( دفع شيئا أنزله الله) يعني رده وعدم قبوله وقوله ( وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله أنه كافر ) يعني لا ينكر شرع الله وفيه رد على قول الشيخ بأنه إذا كان مقرا بوجوب الحكم غير جاحد له فإنه لا يكفر !
فهذا إجماع على أنه يكفر وإن كان مقرا إذا دفع شيئا مما أنزل الله يعني رده .
- وقد ذكر ابن حزم صيغة أخرى للإجماع فقال :
( ...لا خلاف بين اثنين من المسلمين أن هذا منسوخ ، وأن من حكم بحكم الإنجيل مما لم يأت بالنص عليه وحي في شريعة الإسلام فإنه كافر مشرك خارج عن الإسلام " ) الإحكام في أصول الأحكام
- وقال أيضا : ( إحداث الأحكام لا يخلو من أحد أربعة أوجه : إما إسقاط فرض لازم كإسقاط بعض الصلاة أو بعض الصيام أو بعض الزكاة أو بعض الحج أو بعض حد الزنى أو حد القذف أو إسقاط جميع ذلك وإما زيادة في شيء منها أو إحداث فرض جديد وإما إحلال محرم كتحليل لحم الخنزير والخمر والميتة وإما تحريم محلل كتحريم لحم الكبش وما أشبه ذلك وأي هذه الوجوه كان فالقائل به مشرك لاحق باليهود والنصارى )
- ونص ابن كثير رحمه الله أيضا على هذا الإجماع حيث قال :
) فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر ، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه ؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين ، قال تعالى " أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) البداية والنهاية
ونحن نقول أيضا فكيف بمن تحاكم على ذبالة أذهان البشر وقوانين الرومان والفرنسيين وسائر ملل الكفر وقدمها على شرع الله ؟
فهذه إجماعات متتالية متعاقبة تنص على كفر من يبدل شرائع الإسلام بغيرها من الشرائع المنسوخة فكيف بمن يبدلها بقوانين أهل الكفر وحسالة أذهان البشر .؟ وكيف يترك ذكر هذه الإجماعات ويذهب إلى كلام عام ثم يزعم بأنه التفصيل ، فهل هذا هو منهج أهل التحقيق !
- أما الصورة الثانية من صور الحكم وهي القضاء ، فهي ما يدندن حوله الشيخ وغيره ويذكر فيه أقوال المفسرين فهذه الصورة هي التي يقال لها كفر دون كفر، وكفر لا يخرج عن الملة وذلك لان السلف رحمهم الله لم يكن عندهم شيء من سن القوانين وتشريع الأحكام بل كل المخالفات التي كانت على وقتهم هي في باب
القضاء وظلم الولاة حيث كانت الشريعة محكمة والخلافة قائمة لم تبدل الأحكام أو تسن القوانين المخالفة لشريعة الله ، ولم يحدث ذلك قط إلا في زمان التتار حين وضعوا االياسق وحينها أجمعوا على كفرهم وضلالهم كما سبق عن ابن كثير رحمه الله ، ثم رجع الأمر بعدهم حتى زماننا هذا حيث سقطت الخلافة وأزيحت الشريعة وحل محلها الدستور والقانون الذي يسنه مجلس الشعب .
وفي ذلك - يقول الشيخ محمود شاكر رحمه الله :
( فإنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أنْ سنّ حاكم حكما وجعله شريعة ملزمة للقضاء بها. هذه واحدة. وأخرى: أن الحاكم الذي حكم في قضية بعينها بغير حكم الله فيها، فإنه إما أن يكون حكم بها وهو جاهل، فهذا أمره أمر الجاهل بالشريعة. وإما أن يكون حكم بها هوى ومعصية، فهذا ذنب تناله التوبة، وتلحقه المغفرة. وإما أن يكون حكم به متأولا حكما خالف به سائر العلماء، فهذا حكمه حكم كل متأول يستمد تأويله من الإقرار بنص الكتاب، وسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم)
- وقال رحمه الله : ( الذي نحن فيه اليوم هو هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء، وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه، وتعطيل لكل ما في شريعة الله، بل بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع على أحكام الله المنزلة، وادعاء المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان غير زماننا، ولعلل وأسباب انقضت، فسقطت الأحكام كلها بانقضائها) ا. هـ
- أما عن أثر ابن عباس رضي الله عنه فقد علق عليه رحمه الله وعلى بعض الآثار الأخرى التي في معناه فقال :
( لم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعة زماننا من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فهذا الفعل إعراض عن حكم الله ورغبة عن دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه. ولو كان الأمر على ما ظنوا في خبر أبي مِجْلز، أنهم أرادوا مخالفة السلطان في حكم من أحكام الشريعة، (
- وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعليقا على نفس الأثر :
( إنه ليس بالكفر الذي تذهبون إليه، إنه ليس كفرا ينقل عن الملة " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" كفر دون كفر". ووافقه الذهبي على تصحيحه.وهذه الآثار عن ابن عباس وغيره، مما يلعب به المضللون في عصرنا هذا، من المنتسبين للعلم، ومن غيرهم من الجرآء على الدين: يجعلونها عذرا أو إباحة للقوانين الوثنية الموضوعة، التي ضربت على بلاد الإسلام (
- وقال أيضا : ( إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس، هي كفر بوّاح، لا خفاء فيه ولا مداورة، ولا عذر لأحد ممن ينتسب للإسلام - كائنا من كان - في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها، فليحذر امرؤ لنفسه، وكل امرئ حسيب نفسه) أ هـ.
- وقال الشيخ العلامة حامد الفقي رئيس جمعية أنصال السنة في تعليقه على كتاب "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" قال: ( ومثل هذا وشر منه من اتخذ من كلام الفرنجة قوانين يتحاكم إليها في الدماء والفروج والأموال، ويقدمها على ما علم وتبين له من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو بلا شك كافر مرتد إذا أصر عليها ولم يرجع إلى الحكم بما أنزل الله، ولا ينفعه أي أسم تسمى به ولا أي عمل من ظواهر أعمال الصلاة والصيام والحج ونحوها) أ.هـ.
فهل يشك أحد في سلفية وعلمية الشيخ محمود شاكر وأخيه المحدث أحمد شاكر والشيخ العلامة محمد حامد الفقي رحمهم الله وكلهم مصريون ، وهل يصح وصف هؤلاء جميعا بأنهم أهل التكفير ؟!
- أما من ذكرهم الشيخ من أهل التفسير وغيرهم لم يكن كلامهم فيمن شرع الأحكام وسن القوانين فإن هذا لم يحدث في تاريخ الإسلام قط إلا في عهد التتار وفي عصرنا هذا . وهذا واقع تاريخي لا يمكن إثبات خلافه .
- أما الحكم بمعنى القضاء والمخالفة فيه بمعنى ترك الحكم بما أنزل الله في قضية أو بعض القضايا مع الالتزام ابتداء بحكم الله وشرعه فهو الذي يقال فيه كفر دون كفر وكفر لا ينقل عن الملة وهو الجور في الحكم وظلم الناس وعدم تنفيذ أحكام الله التي هي أصلا حاكمة وإليها المرجع في صدور الأحكام .
- ومما جاء في هذه الصورة قول ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد 5/74) : وأجمع العلماء على أن الجور في الحكم من الكبائر لمن تعمد ذلك عالماً به رويت في ذلك آثار شديدة عن السلف وقال الله عز وجل "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " و " الظالمون " و " الفاسقون " نزلت في أهل الكتاب . قال حذيفة و ابن عباس : وهي عامة فينا ، قالوا ليس بكفر ينقل عن الملة إذا فعل ذلك رجل من أهل هذه الأمة حتى يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ) ا.هـ
فقوله رويت في ذلك أي في (الجور في الحكم ) دليل واضح بأن كلامهم ليس في الصورة الأولى التي هي التشريع العام ، وغنما في الجور في الحكم فهذا الإجماع لا يتعارض مع ما ذكر من إجماع في الصورة الأولى لان والمحل ليس واحدا .
- ومما جاء أيضا في إثبات هذا التفريق بين هاتين الصورتين من صور الحكم
قول شيخ الإسلام رحمه الله في مجموع الفتاوى ج: 35 ص: 388
( فإن الحاكم إذا كان دينا لكنه حكم بغير علم كان من أهل النار وإن كان عالما لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه كان من أهل النار وإذا حكم بلا عدل ولا علم كان أولى أن يكون من أهل النار وهذا إذا حكم فى قضية معينة لشخص وأما إذا حكم حكما عاما فى دين المسلمين فجعل الحق باطلا والباطل حقا والسنة بدعة والبدعة سنة والمعروف منكرا والمنكر معروفا ونهى عما أمر الله به ورسوله وأمر بما نهى الله عنه ورسوله فهذا لون آخر يحكم فيه رب العالمين وإله المرسلين مالك يوم الدين ) ا . هـ
ولذلك لما حاول الشيخ خالد العنبري في كتابه ( الحكم بغير ما أنزل الله وأصول التكفير) أن يسوي بين صور الحكم جميعها وزعم أن ذلك تفصيل متين للمسالة يرد به على التكفيريين الذين يكفرون الحكام بلا تفصيل ! كان رد اللجنة الدائمة عليه صارما بأن هذا افتراء على أهل السنة والجماعة علما بأن ما ذكره في هذا الكتاب لا يخرج عما ذكره الشيخ هنا قيد أنملة !
- ومما جاء من كلام اللجنة فتوى رقم ( 21154 ) وتاريخ 24 / 10 / 1420 هـ
قولهم : (دعواه إجماع أهل السنة على عدم كفر من حكم بغـير ما أنزل الله في التـشـريع الـعـام إلا بالاستـحلال القلبي كسائر المعاصي التي دون الكفر . وهذا محض افتراء على أهل السنة ، منشؤه الجهل أو سوء القصد نسأل الله السلامة والعافية .
وبناء على ما تقدم ، فإن اللجنة ترى تـحريم طبع الكتاب المذكور ونشره وبيعه ، وتُذكر الكاتب بالتوبة إلى الله تعالى ومراجعة أهل العلم الموثوقين ليتعلم منهم ويبينوا له زلاته ، ونسأل الله للجميع الهداية والتوفيق والثبات على الإسلام والسنة . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم . )
فجعلت القول بأن الكفر في التشريع العام يكون بالاستحلال محض افتراء على أهل السنة . فماذا يقول الشيخ عبد العظيم في ذلك ؟
- وإذا دققنا النظر في الأقوال المتخالفة فإنه قد يقال بأن التشريع المخالف لابد وانه يتضمن تحليلا للحرام وتحريما للحلال ...
وتحليل الحرام وتحريم الحلال هو من معنى الاستحلال المتفق على كونه كفرا بين الفريقين.
فإن الاستحلال هو القول بأن هذا العمل الذي حرمه الله حلال ، فالمسالة من هذا الوجه تكون على كلا القولين كفر سواء قلنا بأن الكفر يكون بتشريع الأحكام المخالفة لشرع أو قلنا الكفر يكون بالاستحلال فالأمر متحقق بالنسبة للحكم بالقوانين الوضعية ...
وممن قال بذلك الشيخ بن عثيمين رحمه الله :
( وفي ظني أنه لا يمكن لأحدٍ أن يطبق قانوناً مخالفاً للشرع يحكم فيه في عباد الله إلا وهو يستحله ويعتقد أنه خير من القانون الشرعي، فهو كافر ، هذا هو الظاهر وإلا فما حمله على ذلك...)
فهذه بعض أقوال أهل العلم من المعاصرين من مصر والمملكة السعودية ويوجد غيرهم في كافة بلدان العالم الإسلامي لم أنقل أقوالهم اختصارا وإلا فهم أضعاف أضعاف من ذكرتهم والعبرة ليست بالكثرة على كل حال ولكن بما ذكر من الأدلة شرعية وإجماع الأمة على كفر من يبدل شرائع الإسلام بغيرها من القوانين ،فالحق لا يعرف بالرجال مهما كثروا فهل يصح وصف الشيخ لمن ذكرهم من أهل العلم بأهل التكفير ؟!
- الوقفة التاسعة
قد ذكر الشيخ وفقه الله فيمن يوافقه على ما ذهب إليه من عدم كفر الحكام المشرعين للقوانين الوضعية الإمام الشنقيطي رحمه الله وهذا من أعجب ما ذكره الشيخ في هذه الخطبة ، فإن كلام الشيخ الشنقيطي رحمه الله في هذا المقام أصرح الكلام وأبينه على كفر هؤلاء المشرعين وأنا أذكر كلامه حيث أنه لا يحتاج على تعليق :
- قال رحمه الله في نفس الآية التي ذكرها الشيخ في مقدمة خطبته :
( ويفهم من هذه الآيات كقوله { ولا يشرك في حكمه أحدا } أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله ، وهذا المفهوم جاء مبينا في آيات أخر ، كقوله فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة الله { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم ، وهذا الإشراك في الطاعة ، وأتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى هو المراد بعبادة الشيطان في قوله تعالى { ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم } .... ولذا سمي الله تعالى الذين يطاعون فيما زينوا من المعاصي شركاء في قوله تعالى { وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم .... } الآية .... وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور : أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم ، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته ، وأعماه عن نور الوحي مثلهم (
فتأمل قوله رحمه الله : (أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته ، وأعماه عن نور الوحي مثلهم)
- الوقفة العاشرة :
ذكر الشيخ أيضا بأن ممن يوافقه على ما ذهب إليه من عدم كفر الحكام بالقوانين الشيخ الألباني رحمه الله ووافقه على ذلك الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله وهذا فيه غلط على الشيخ ابن عثيمين رحمه الله حيث نص في جوابه على المخالفة للشيخ الألباني رحمه الله فقد قال تعليقا على كلام الشيخ الألباني :
( كلام الشيخ الألباني هذا جيد جداً لكنا قد نخالفه في مسألة أنه لا يحكم بكفرهم إلا إذا اعتقدوا حلَّ ذلك،!هذه المسألة تحتاج إلى نظر !، لأنا نقول : من حكم بحكم الله وهو يعتقد أن حكم غير الله أولى فهو كافر –وإن حكم بحكم الله- وكفره كفر عقيدة ! ، لكن كلامنا عن العمل ! ) ا .هـ
- بل الشيخ رحمه الله معروف عنه بأنه من أكثر الناس تقريرا لما سبق أن ذكرته من تفصيل بل لا يكاد يوجد كتاب للشيخ رحمه الله إلا ذكر فيه كفر الحكام بالقوانين الوضعية وهذه بعض أقواله رحمه الله :
( الحكم بغير ما أنزل الله ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول :
أن يُبطل حكم الله ليحل محله حكم أخر طاغوتي بحيث يلغي الحكم بالشريعة بين الناس ، ويجعل بدله حكم آخر من وضع البشر كالذين يُنحون الأحكام الشرعية
في المعاملة بين الناس ، ويحلون محلها القوانين الوضعية ، فهذا لاشك أنه استبدال بشريعة الله سبحانه وتعالى غيرها
وهو كفر مخرج من الملة ؛ لأن هذا جعل نفسه بمنزلة الخالق حيث شرع لعباد الله ما لم يأذن به الله ، بل ما خالف حكم الله عز وجل وجعله الحكم الفاصل بين الخلق ، وقد سمى الله تعالى ذلك شركاً في قوله تعالى : " أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله " .
القسم الثاني :
أن تبقى أحكام الله عز و جل على ما هي عليه و تكون السلطة لها ، ويكون الحكم منوطاً بها ، ولكن يأتي حاكم من الحكام فيحكم بغير ما تقتضيه هذه الأحكام ، أي يحكم بغير ما أنزل الله ، فهذا له ثلاث حالات :
الحال الأولى : أن يحكم بما يخالف شريعة الله معتقداً أن ذلك أفضل من حكم الله وأنفع لعباد الله ، أو معتقداً
أنه مماثل لحكم الله عز وجل ، أو يعتقد أنه يجوز له الحكم بغير ما أنزل الله ، فهذا كفر . يخرج به الحاكم من الملة، لأنه لم يرض بحكم الله عز وجل ،ولم يجعل الله حكماً بين عباده .
الحال الثانية : أن يحكم بغير ما أنزل الله معتقداً أن حكم الله تعالى هو الأفضل والأنفع لعباده ، لكنه خرج عنه ، وهو يشعر بأنه عاص لله عز وجل إنما يريد الجور والظلم للمحكوم عليه ، لما بينه وبينه من عداوة ، فهو يحكم بغير ما أنزل الله لا كراهة لحكم الله ولا استبدال به ، ولا اعتقاد بأنه أي الحكم الذي حكم به أفضل من حكم الله أو مساو له أو أنه يجوز الحكم به ، لكن من أجل الإضرار بالمحكوم عليه حكم بغير ما أنزل الله ،ففي هذه الحال لا نقول إن هذا الحاكم كافر ، بل تقول إنه ظالم معتد جائر .
الحال الثالثة : أن يحكم بغير ما أنزل الله وهو يعتقد أن حكم الله تعالى هو الأفضل والأنفع لعباد الله ، وأنه بحكمه هذا عاص لله عز وجل ، لكنه حكم لهوى في نفسه ، لمصلحة تعود له أو للمحكوم له ، فهذا فسق وخروج عن طاعة الله عز وجل ، وعلى هذه الأحوال الثلاث يتنزل قول الله تعالى في ثلاث آيات :" و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " وهذا يتنزل على الحالة الأولى " و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون" يتنزل على الحالة الثانية " و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " يتنزل على الحالة الثالثة . ) فقه العبادات صـ 60،61
فتأمل أخي قول الشيخ رحمه الله عن القسم الأول : ( ويحلون محلها القوانين الوضعية ، فهذا لاشك أنه استبدال بشريعة الله سبحانه وتعالى غيرها وهو كفر مخرج من الملة ؛ لأن هذا جعل نفسه بمنزلة الخالق حيث شرع لعباد الله ما لم يأذن به الله ، بل ما خالف حكم الله عز وجل )
فهذا تفصيل جلي منه رحمه الله لهذه المسالة ولقد تكرر ذلك منه رحمه الله في جميع كتبه المطبوعة فلا يكاد كتاب للشيخ رحمه الله إلا ويذكر مثل هذا التفصيل وخاصة كتاب شرح رياض الصاحين ، وكما سبق أن ذكرت بأنه ليس المقصود أصالة تحرير المسائل التي ذكرت بقد ما هو إبراز الجانب الذي حرص الشيخ على إخفاءه في غالب محاضراته التي تتناول هذه المسائل .
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم