المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : موضوع مميز سلسلة القصص القراني ,(((,لقد كان في قصصهم عبرة )))


همسات ايمانية
2015-06-10, 22:07
السلام عليكم

[قال الله تعالى

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)

من منا لم يقرا القران فيذهل ويتعرف على اخبار من قبلنا فتبهره براعة سسرد القصص وبديع المعاني وجميل العبر ويذهل من دقة التصوير

واكثر من هذا كلها دروس وعبر لمن يعتبر

قصص القران أصدق القصص ؛ لقوله تعالى: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً)(النساء: الآية87) وذلك لتمام مطابقتها على الواقع وأحسن القصص لقوله تعالى: (نَحْنُ

نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآن) (يوسف: الآية 3) وذلك لاشتمالها على أعلى درجات الكمال في البلاغة وجلال المعنى .

وأنفع القصص ، لقوله تعالى : (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَاب)(يوسف: الآية 111) . وذلك لقوة تأثيرها في إصلاح القلوب والأعمال والأخلاق


لعل الكثير منكم يعرف كثيرا منها ,,,,,,,,ولعل ايضا امنا خرين قراوها ولم يفهموها على الوجه الصحيح وربما منا ايضا من غابت عنه

لاجل كل ذلك سنجعل هذه الصفحة مجالا لعرض بعض القصص الواردة في القران ، مع ذكر العبر المستخلصة منها باذن الله

وسيكون هنا ان شاء الله فهرس للقصص المذكورة حتى يسهل الاطلاع
للاطلاع اضغط على القصة في الرابط

القصة الاولى ,,قصة بقرة بني اسرائيل

القصة الثانية ,,,,اصحاب السبت

القصة الثالثة ,,, صاحب الجنتين
القصة الرابعة ...قصة السامري والعجل ,,,,من قصة سيدنا موسى مع قومع
القصة الخامسة ,,,الثلاثة الذين خلفوا في سورة التوبة

القصة السادسة ,,,قصة سيدنا موسى مع الخضر
القصة السابعة ...قصة قارون
القصة الثامنة ..قصة اصحاب الجنة في سورة القلم

القصة التاسعة ..قصة سيدنا موسى 1

القصة العاشرة .قصة سيدنا موسى 2
القصة الحادية عشر ..قصة سيدنا صالح
القصة الثانية عشر / قصة سيدنا ابراهيم
(http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=3993621127#post3993621127)
قصة سيدنا ابراهيم 2

القصة الثالثة عشر/ قصة اصحاب الكهف
القصة الرابعة عشر قصة سيدنا ابراهيم ....1 مع قومه
قصة سيدنا ابراهيم وزوجته سارة والجبار...2
قصة سيدنا ابراهيم وهاجر واسماعيل في مكة ,,,3

قصة سيدنا يوسف 1

قصة سيدنا يوسف 2

قصة سيدنا يوسف فوائد وعبر

قصة اصحاب الكهف
(http://http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=3993997176#post3993997176) كونوا بالقرب

همسات ايمانية
2015-06-10, 22:10
القصة الاولى ,,,قصة بقرة بني اسرائيل

ورد ذكر القصة في سورة البقرة الآيات 67-73.

قال تعالى ((( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ))

القصة:

مكث موسى في قومه يدعوهم إلى الله. ويبدو أن نفوسهم كانت ملتوية بشكل لا تخطئه عين الملاحظة، وتبدو لجاجتهم وعنادهم فيما يعرف بقصة البقرة. فإن الموضوع لم يكن يقتضي كل هذه المفاوضات بينهم وبين موسى، كما أنه لم يكن يستوجب كل هذا التعنت. وأصل قصة البقرة أن قتيلا ثريا وجد يوما في بني إسرائيل، واختصم أهله ولم يعرفوا قاتله، وحين أعياهم الأمر لجئوا لموسى ليلجأ لربه. ولجأ موسى لربه فأمره أن يأمر قومه أن يذبحوا بقرة. وكان المفروض هنا أن يذبح القوم أول بقرة تصادفهم. غير أنهم بدءوا مفاوضتهم باللجاجة. اتهموا موسى بأنه يسخر منهم ويتخذهم هزوا، واستعاذ موسى بالله أن يكون من الجاهلين ويسخر منهم. أفهمهم أن حل القضية يكمن في ذبح بقرة.

إن الأمر هنا أمر معجزة، لا علاقة لها بالمألوف في الحياة، أو المعتاد بين الناس. ليست هناك علاقة بين ذبح البقرة ومعرفة القاتل في الجريمة الغامضة التي وقعت، لكن متى كانت الأسباب المنطقية هي التي تحكم حياة بني إسرائيل؟ إن المعجزات الخارقة هي القانون السائد في حياتهم، وليس استمرارها في حادث البقرة أمرا يوحي بالعجب أو يثير الدهشة.

لكن بني إسرائيل هم بنو إسرائيل. مجرد التعامل معهم عنت. تستوي في ذلك الأمور الدنيوية المعتادة، وشؤون العقيدة المهمة. لا بد أن يعاني من يتصدى لأمر من أمور بني إسرائيل. وهكذا يعاني موسى من إيذائهم له واتهامه بالسخرية منهم، ثم ينبئهم أنه جاد فيما يحدثهم به، ويعاود أمره أن يذبحوا بقرة، وتعود الطبيعة المراوغة لبني إسرائيل إلى الظهور، تعود اللجاجة والالتواء، فيتساءلون: أهي بقرة عادية كما عهدنا من هذا الجنس من الحيوان؟ أم أنها خلق تفرد بمزية، فليدع موسى ربه ليبين ما هي. ويدعو موسى ربه فيزداد التشديد عليهم، وتحدد البقرة أكثر من ذي قبل، بأنها بقرة وسط. ليست بقرة مسنة، وليست بقرة فتية. بقرة متوسطة.

إلى هنا كان ينبغي أن ينتهي الأمر، غير أن المفاوضات لم تزل مستمرة، ومراوغة بني إسرائيل لم تزل هي التي تحكم مائدة المفاوضات. ما هو لون البقرة؟ لماذا يدعو موسى ربه ليسأله عن لون هذا البقرة؟ لا يراعون مقتضيات الأدب والوقار اللازمين في حق الله تعالى وحق نبيه الكريم، وكيف أنهم ينبغي أن يخجلوا من تكليف موسى بهذا الاتصال المتكرر حول موضوع بسيط لا يستحق كل هذه اللجاجة والمراوغة. ويسأل موسى ربه ثم يحدثهم عن لون البقرة المطلوبة. فيقول أنها بقرة صفراء، فاقع لونها تسر الناظرين.

وهكذا حددت البقرة بأنها صفراء، ورغم وضوح الأمر، فقد عادوا إلى اللجاجة والمراوغة. فشدد الله عليهم كما شددوا على نبيه وآذوه. عادوا يسألون موسى أن يدعو الله ليبين ما هي، فإن البقر تشابه عليهم، وحدثهم موسى عن بقرة ليست معدة لحرث ولا لسقي، سلمت من العيوب، صفراء لا شية فيها، بمعنى خالصة الصفرة. انتهت بهم اللجاجة إلى التشديد. وبدءوا بحثهم عن بقرة بهذه الصفات الخاصة. أخيرا وجدوها عند يتيم فاشتروها وذبحوها.

وأمسك موسى بجزء من البقرة (وقيل لسانها) وضرب به القتيل فنهض من موته. سأله موسى عن قاتله فحدثهم عنه (وقيل أشار إلى القاتل فقط من غير أن يتحدث) ثم عاد إلى الموت. وشاهد بنو إسرائيل معجزة إحياء الموتى أمام أعينهم، استمعوا بآذانهم إلى اسم القاتل. انكشف غموض القضية التي حيرتهم زمنا طال بسبب لجاجتهم وتعنتهم.

نود أن نستلفت انتباه القارئ إلى سوء أدب القوم مع نبيهم وربهم، ولعل السياق القرآني يورد ذلك عن طريق تكرارهم لكلمة "ربك" التي يخاطبون بها موسى. وكان الأولى بهم أن يقولوا لموسى، تأدبا، لو كان لا بد أن يقولوا: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ) ادع لنا ربنا. أما أن يقولوا له: فكأنهم يقصرون ربوبية الله تعالى على موسى. ويخرجون أنفسهم من شرف العبودية لله. انظر إلى الآيات كيف توحي بهذا كله. ثم تأمل سخرية السياق منهم لمجرد إيراده لقولهم: (الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) بعد أن أرهقوا نبيهم ذهابا وجيئة بينهم وبين الله عز وجل، بعد أن أرهقوا نبيهم بسؤاله عن صفة البقرة ولونها وسنها وعلاماتها المميزة، بعد تعنتهم وتشديد الله عليهم، يقولون لنبيهم حين جاءهم بما يندر وجوده ويندر العثور عليه في البقر عادة.

ساعتها قالوا له: "الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ". كأنه كان يلعب قبلها معهم، ولم يكن ما جاء هو الحق من أول كلمة لآخر كلمة. ثم انظر إلى ظلال السياق وما تشي به من ظلمهم: (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ) ألا توحي لك ظلال الآيات بتعنتهم وتسويفهم ومماراتهم ولجاجتهم في الحق؟ هذه اللوحة الرائعة تشي بموقف بني إسرائيل على موائد المفاوضات. هي صورتهم على مائدة المفاوضات مع نبيهم الكريم موسى.




خلاصة القصة (( تفريغ نصي عن محمد المنجد ))

وهذه القصة خلاصتها: أنها وقعت جريمة قتل في بني إسرائيل في زمن موسى، ولم يعرف القاتل، وتدافعوا في ذلك وصارت الاتهامات متبادلة، وأراد الله تعالى أن يكشف لهم القاتل بواسطة معجزة مادية محسوسة، فأوحى الله إلى موسى عليه السلام أن يأمرهم بذبح بقرةٍ، أي بقرة كانت بدون تحديدٍ لمواصفاتها، ولكن طبيعة اليهود في التلكؤ والمماطلة والجدال جعلتهم يسألونه عن عمر البقرة أولاً، ثم عن لونها ثانياً، ثم عن عملها ثالثاً، وأخيراً ذبحوها وما كادوا يفعلون، وأمروا بضرب القتيل ببعضها فضرب، فأحياه الله فأخبر عن قاتله وقال: قتلني فلان، ثم قيل: إنه قد مات في وسط دهشة بني إسرائيل.

وهذه القصة ولا شك من القصص العظيمة التي قصها علينا ربنا في القرآن الكريم عن بني إسرائيل لنأخذ منها العبرة والعظة.

وهذه القصة لا شك قد اكتنفتها إسرائيليات، وجاءت في بعض تفاصيلها أخبار، لكننا على الموقف السابق لا نحتاج إلى هذه التفصيلات؛ لأنه لو كان لنا فيها خير وفائدة لذكرها ربنا عز وجل، فنحن لا نستفيد شيئاً إذا عرفنا أن البعض الذي ضرب منه القتيل من البقرة هو الذَّنب أو غضروف الكتف، أو الرجل، أو الرأس، هذا التفصيل لا يفيدنا، فإن كان ورد في بعض الإسرائيليات فإننا في غنية عنه.

هذه القصة توضح بجلاء تنطع بني إسرائيل وتشددهم في الأحكام، وكيف أن الله شدد عليهم، وقد كره لنا كثرة السؤال.

أسلوب القرآن في عرض القصة
وجاءت هذه القصة بأسلوب يأخذ بمجامع القلوب، ويحرك الفكر في النظر إليها تحريكاً، ويهز النفس للاعتبار بها هزاً، وقال الله تعالى فيها: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [البقرة:72] هذا ذكرت فيه المخالفة أو الاختلاف (فادارأتم فيها) ثم المنة في الخلاصة بقوله فقلنا: (فاضربوه ببعضها) ولكن وسيلة الخلاص من هذه الاتهامات وهذا اللغط، الوسيلة ذكرت قبل السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة، فإننا أول ما نطالع الآيات: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] نحن لا نعرف لماذا في البداية، لكن عندما نقرأ التكملة: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [البقرة:72] ثم قال: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [البقرة:73] عرفنا السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة.

فإذاً: تقديم ذبح البقرة كان فيه تشويق للسامع إلى معرفة ما وراء القصة، وما هو السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة، ثم يفاجأ الشخص وهو يقرأ بحكاية السبب، وقد حصل عنده تشويقٌ سابق لمعرفة السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة، فتتوجه الفكرة بأجمعها لتلقي ذلك، وتظهر الحكمة في أمر الله تعالى لأمةٍ من الأمم بذبح بقرة خفية.

تنطعهم في تنفيذ الأوامر
وظاهر الأمر أن نبيهم موسى عليه السلام أمرهم بذبح بقرةٍ غير معينة، ولكنهم تنطعوا وتشددوا فشدد الله عليهم، فقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] أي بقرة كانت، وكونهم بحثوا في صفاتها تكلفاً منهم، كان ينبغي لهم أن يتنزهوا عنه، وأن يمتثلوا الأمر بذبح البقرة، ولو كان هناك صفة معينة في هذا لذكرها لهم ربهم على لسان نبيهم، ولذلك عنفهم الله تعالى بقوله: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [البقرة:68]، وفي قوله: فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة:71] وعلمنا تقصيرهم في الإتيان بما أمروا به أولاً، وجاء عن ابن عباس بإسنادٍ صحيح أنه قال: [لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لأجزأت منهم، لكنهم شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم] وقد كانوا محتاجين إلى ذبح البقرة لمعرفة القاتل، والله تعالى لم يذكر لهم صفة معينة في أول الأمر، فدل ذلك على أنه يجزئ أي بقرة، ولو كان البيان متعيناً لجاء، إذ لا يجوز من الله أن يؤخر البيان عن وقت الحاجة، فكلفوا في البداية بذبح أية بقرة كانت، وثانياً كلفوا ألا تكون لا فارضٌ ولا بكر، بل عوان بين ذلك، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكون بقرة صفراء، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكون لا ذلول، تثير الأرض ولا تسقي الحرث، كلما تشددوا في السؤال، شدد الله عليهم بصفات إضافية في هذه البقرة.

ولما أمرهم بذبح البقرة قالوا له: أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً [البقرة:67] يعني: أتجعلنا مكاناً للهزأ والسخرية؟ أتهزأ بنا؟ أتتخذنا سخريةً؟

سوء أدبهم مع نبي الله عليه السلام
بهذا يواجهون نبيهم، نبي يأمرهم بأمر يقولون: أتهزأ بنا؟ أتسخر منا؟ هل هذا خطاب يليق بنبي؟ هل هذا أدب ينبغي للنبي؟

هذا من شأن بني إسرائيل الذين تمردوا على نبيهم، وظنوا أنه يلاعبهم، ظنوا أنه يهزأ بهم، وأشعر جوابهم هذا ما ثبت من فضاضتهم وسوء أدبهم، ولذلك رد موسى عليهم بقوله: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67] لأن الاستهزاء في أثناء التبليغ لا يليق بنبي، كيف يهزأ نبي وهو يبلغ قومه؟! كيف يجعل في التبليغ مجالاً للسخرية والاستهزاء والمزاح والضحك والعبث؟! لا يمكن، ولذلك تجلى سوء أدبهم، لما قالوا له: أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً [البقرة:67].

وفي قول موسى: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67] فائدة بديعة في دفاع الداعية عن نفسه إذا اتهم بشيءٍ باطل، وهذا الهزأ في أثناء تبليغ أمر الله تعالى جهلٌ وسفه نفاه موسى عن نفسه، وأكد أنه جاد غاية التأكيد، وقال: أعوذ بالله، ألتجئ وأعتصم به أن أكون من الجاهلين الذين يتقدمون في الأمور بغير علم، فرموا موسى بالسفه والجهالة، ودافع موسى عليه السلام عن نفسه، وقال: ألتجئ إلى الله وأعتصم بتأديبه إياي من الجهالة والهزأ بالناس.

وكان موسى عليه السلام حكيماً لما قال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ [البقرة:67] لم يقل: أنا آمركم، أو اذبحوا بقرة؛ لأن موسى يعلم طبيعة هؤلاء القوم، ويعلم تلكؤهم وتباطؤهم وتمردهم، ولذلك قال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ [البقرة:67] بيَّن لهم أن الأمر من الله حتى يقطع عليهم الطريق على التأخر في التنفيذ أو التحايل، ويقطع عليهم الطريق في المناقشة. ربما قالوا له: إنما أتيت به من عند نفسك، هذا رأيك الشخصي أن نذبح بقرة، لكنه قال لهم بكلمات واضحة ومحددة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] وقوله: (بقرة) هذه نكرة في سياق الأمر تفيد العموم، اذبحوا أي بقرة، التنكير هنا يفيد العموم، لا يهم لونها ولا حجمها ولا عمرها، ولا عملها، ولا ثمنها، المهم أن تذبحوا بقرة، لكن اليهود قومٌ بهت، لم ينقادوا للأمر ولم ينفذوه فوراً، ولم يطيعوا الله ورسوله، وأنى لهم أن يفعلوا ذلك؟

فلذلك بدلاً من أن يوقروا نبيهم وينفذوا أمره، تواقحوا عليه وأساءوا الأدب واعترضوا قائلين: أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً [البقرة:67] وكأنهم يقولون: عجيب! ما هي الصلة بين ذبح البقرة وبين كشف هوية القاتل؟

نحن جئناك في حل قضيتنا نريد أن نعرف القاتل، وبما أنك نبي تعلم الغيب بإذن الله فأخبرنا من هو القاتل، ثم أنت تطلب منا أن نذبح بقرة بدلاً من أن تكشف لنا عن القاتل؟! وهذا طلبٌ مريبٌ يدل على أنك تريد أن تتخذنا هزواً.

خطورة الاستهزاء والمزاح في الأمور الدينية
أولاً: هذه طبيعة نفسية بني إسرائيل، يعتبرون أمر الله تعالى نوعاً من الهزأ والسخرية، وثانياً: يظنون أنه بهذا الطلب يريد أن يشغلهم عن قضيتهم الأساسية لمعرفة القتيل، وثالثاً: يظنون أن موسى الجاد عليه السلام الذي هو من أولي العزم من الرسل يظنون أنه يسخر ويهزأ ويلعب من خلال الأوامر التي يوجهها لهم، وهذا يشبه ما فعله قوم إبراهيم لما قالوا له: أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ [الأنبياء:55] ونفى موسى التهمة عن نفسه، وقال: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67] وهذا دليل على أن السخرية والاستهزاء جهل.

وفيه فائدة تربوية مهمة: وهي أن الإفراط في المزاح وعدم الجدية من الجهل.

وأن الشخص المزاح اللعوب الذي يكثر السخرية والاستهزاء إنسانٌ جاهل، وبذلك نعلم أيضاً من هذه الآية خطورة الاستهزاء والطرف التي يرويها بعض الناس التي يسمونها نكتاً في قضايا عقدية أو شرعية، وأن هذا أمرٌ خطير يؤدي إلى الكفر والخروج عن الملة، كما ينسب بعضهم الجنة والنار ويعملون (نكت) وطرائف على بعض أحكام الشريعة.

وكذلك نعلم أن الذين حولوا حياتهم وحياة الآخرين إلى ضحكٍ دائم فيما يسمونه (بالكوميديا) اليوم، ويعملون لها مسرحيات وأفلاماً ويكون هم الشخص هو الضحك واللعب، يتبين لنا أن هؤلاء الناس من الجاهلين.

وكذلك يتبين أن المسلم الصادق جاد وملتزم، قد يمزح ولكنه لا يقول إلا حقاً، وقد يضحك ولكن بأدبٍ ووقار، وليس المعنى تحريم الضحك أو المزاح، بل إن المقصود هو منع تحويل الحياة إلى ضحكٍ كلها ومزاحٍ وعدم الجدية، فإن المسلم الجاد لا يرضى أن يكون من الجاهلين.

تجرؤهم بقولهم: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ)
قالوا له بعد ذلك لما قال: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [البقرة:67-68] قولهم (ادع لنا ربك) كأنهم يقولون: ربك أنت وليس بربنا نحن، وهذا ربما دل على سوء أدبهم مع الله تعالى، وقد قالوا أشياء كبيرة مثل هذا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24].

وهذا يكشف عن طبيعتهم ويبين الفرق بينهم وبين الصحابة في الأدب مع الله، فإن صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم قالوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285] لما نزل قول الله عز وجل: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284] شق ذلك على الصحابة، لكن لم يتمردوا ولم يرفضوا، قالوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285] فلما زلت بهم ألسنتهم أنزل الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ... [البقرة:286] إلى آخر الآية التي فيها تجاوز عن الناسي والجاهل والمخطئ، الجاهل الذي لا يعلم الحكم وهو معلومٌ بجهله.

لكن بنو إسرائيل يختلفون عن الصحابة تماماً، لم يقولوا: سمعنا وأطعنا، قالوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [البقرة:68] قالوا: أنت حيرتنا، أنت أبهمت علينا الأمر، كلامك غير واضح، يحتاج إلى زيادة تفصيل، حدد لنا عمر هذه البقرة وكأنهم يقولون: لو حددت لنا عمر البقرة نكتفي وننفذ، فأجابهم بقوله: (إنه يقول) مرة أخرى يعزو الأمر إلى الله، والتفصيل من الله، والحكم من الله لا من عنده: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [البقرة:68] لا فارض يعني: غير مسنة انقطعت ولادتها، ولا بكرٌ لم تلد بالمرة، وإنما المراد من ولدت قليلاً ولم تلد كثيراً، عوانٌ بين ذلك: يعني: سنها لا هو صغيرٌ ولا هو كبير فهي متوسطة، حتى قيل: إن العوان معناها: النصف في السن من النساء والبهائم تسمى عوان، ولما ضيقوا ضيق الله عليهم، وجاءهم بهذا القيد الإضافي على البقرة، وقال لهم نبيهم وهو يحس بطبيعتهم ويعلمها: لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [البقرة:68] أكد عليهم الفعل؛ لأنه يعلم حالهم، كأنه يقول: اذبحوها الآن على هذه الصفات ولا تكرروا السؤال، وإنما اندفعوا للتنفيذ فوراً.

ويستفاد من هذا أن الوسط هو الطيب، ولذلك الآن في الأضحية والعقيقة لا يجزئ أقل من ستة أشهر في الضأن وسنة في المعز، وأن ما كان وسطاً في عمره هو أجود اللحوم، فلحم الحيوان الصغير الذي لا يزال في بداية نموه قد تنقصه بعض الفوائد والكمية، ولحم الحيوان الكبير يكون قد قسا ويبس وفقد بعض فائدته الغذائية فيكون الوسط هو الأفضل.

قال لهم نبيهم: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [البقرة:68] اتركوا المزاجية والاعتراض والتلكؤ، والسؤال الذي نهيتم عنه، واشرعوا في التنفيذ، لكن هل فعلوا ذلك؟ وهل امتثلوا الأمر؟

الجواب: لا.

فائدة أصولية في باب الأمر
وفي قوله: فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [البقرة:68] دليلٌ لما ذهب إليه أهل العلم من أن الأمر يقتضي الوجوب، أي أمر في القرآن والسنة يقتضي الوجوب إلا أن يصرفه صارف عن الوجوب إلى الاستحباب، وهذا هو الصحيح في أصول الفقه.

وكذلك من هذه الآية يستدل أيضاً على قاعدة أصولية أخرى تتعلق بالأمر، وهي: الأمر على الفور لا على التراخي، فإذا أمرنا بشيء يجب أن ننفذ فوراً، وهذه حجة من ذهب من العلماء إلى أن الواجب الحج فوراً: (إن الله كتب عليكم الحج فحجوا) أول ما تتمكن تحج، لا يجوز لك التأخير بدون عذر، فإذاً الأمر يفيد الوجوب، والأمر على الفور لا على التراخي، وهذا مذهب أكثر الفقهاء، لكن هل هم نفذوا على الفور؟

الجواب: لا.

مواصلة العناد وزيادة التشديد عليهم
قالوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا [البقرة:69] انتقلوا إلى السؤال عن اللون، كان السؤال الأول عن عمر البقرة، الآن صار السؤال عن اللون، دائماً اللجاجة تقود إلى سؤالٍ جديد، فالذي لا يريد الحق دائماً يخرج لك أسئلة جديدة، والذي من طبيعته التلكؤ والنكوص يخرج أسئلة جديدة.

كانوا يزعمون أن الإبهام في الأمر الذي أمروا به في العمر، فإذا بهم الآن يرونه إبهاماً من وجهٍ آخر، ويقولون: إننا لا نعرف ما لونها، ما اللون المطلوب؟ وكأنهم يقولون: لو عرفنا اللون ذبحناها، ما لونها؟ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا [البقرة:69].

فلما شددوا شدد الله عليهم، ووضعهم في ضيقٍ أشد، فأمرهم بذبح بقرةٍ صفراء فاقع لونها مع أن اللون الأصفر الفاقع في البقر نادر، لكن لما شددوا شدد الله عليهم، ولعل أهلها لا يبيعونها إلا بثمن مرتفع -هذه البقرة الصفراء الفاقع لونها التي تسر الناظرين- ولا شك أن هذا من التضييق عليهم.

قال لهم: صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا [البقرة:69] والفقوع أشد ما يكون من الصفرة وأنصعه، ويقال في التوكيد: أصفر فاقع، وأسود حالك، وأبيض يقق، وأحمر قانٍ، وأخضر ناظر، فالمقصود في قوله: صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا [البقرة:69] يعني: شديدة الصفرة، نقية ما فيها إلا اللون الأصفر، ولا شعرة إلا صفراء، تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [البقرة:69] يعجب الناظرون إليها، حتى إن جمهور المفسرين أشاروا إلى أن الصفرة من الألوان السارة، ولذلك قالوا في أحكام المعتدة: إنها تترك الزينة في الذهب والحلي والملابس الجميلة، فقالوا: تترك الملابس الصفراء والحمراء ... إلخ، فيعتبرونه من الألوان السارة (تسر الناظرين) حتى إن بعضهم ربما كان يلبس الأصفر من النعال، ويقول: اتركوا لبس النعال السود لأنها تغم، فاللون الأسود قد يدل على الغم، ولكن الأصفر يدل على السرور، فهو لونٌ جميل محببٌ إلى النفوس.

ومحبة الألوان الجميلة ليس مما ينافي الشريعة سواء كان حيواناً، أو فاكهةً، أو طعاماً، أو لباساً، أو أثاثاً، فالشريعة لا تحرم الاهتمام بالألوان الجميلة، لكن الفنون الجميلة هذه مما ينبغي أن تضع تحتها خطوطاً حمراء؛ لأنهم قد شغلوا بها عباد الله عن ذكر الله وسموها (فنون جميلة) وصار الواحد ينفق في الساعات والأيام والشهور في لوحة يرسمها ويتعب فيها، ويقولون: هذه أشياء تشجع عليها الشريعة والفن الإسلامي، قاتلهم الله! أشغلوا الناس عن ذكر الله بالفنون الجميلة.

الشريعة لا تحرم أن تستمع وأن تمتع ناظريك ونفسك بالأزهار وألوانها، وتتأمل فيما خلق الله، وأن تسبح ربك على هذه الخلقة التي تسر الناظرين، لكن إنفاق الأوقات والنحت والتصوير والرسم بدعوى أن هذه فنون جميلة والإسلام لا يحرم الفنون الجميلة، وليس للإسلام موقف من الفنون الجميلة، فأشغلوا الناس عن ذكر الله بهذه الهوايات السخيفة الفارغة المضيعة للأوقات.

نعود إلى قصتنا: لما بين لهم أنها بقرة صفراء فاقعٌ لونها، هل نفذوا ذلك؟ وهل سارعوا إلى ذبحها؟

الجواب: لا. بل إنهم عمدوا إلى سؤال ثالث في مشوارهم من المماطلة والتلكؤ والتباطؤ عن تنفيذ أوامر الله.

ما يستفاد من العِبر في التلكؤ وسؤالهم عن عمل البقرة
قالوا: كان الإبهام في العمر، ثم صار الإبهام في اللون، الآن يقولون: ما عمل هذه البقرة؟ ماذا تعمل؟ تحرث .. تزرع .. تسقي .. تعمل؟

ثم إنهم لما أرادوا أن يسألوا سؤالاً ثالثاً وكأنهم استثقلوا الثالث أبدوا عذراً فقالوا: قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة:70] كرروا السؤال عن الحال والصفة، ولا شك أنه تنطع بعد تنطع، ولذلك قيل: إن بعض الخلفاء كتب إلى عامله يقول: اذهب إلى القوم الفلانين فاقطع أشجارهم وهدم بيوتهم، فكتب إليه العامل يقول: بأيهما أبدأ بتخريب البيوت أم بقطع الأشجار؟ فرد عليه الخليفة يقول: إن قلت لك بقطع الشجر ابدأ ستقول لي بسؤالٍ آخر: بأي نوعٍ من الشجر أبدأ؟

وكذلك كتب أحد الأمراء إلى وكيله يقول: إذا أمرتك أن تعطي فلاناً شاةً سألتني أضأنٌ أم ماعز؟ فإن بينت لك قلت: أذكرٌ أم أنثى؟ فإن أخبرتك قلت: أسوداء أم بيضاء؟ فإذا أمرتك بشيءٍ فلا تراجعني.

فهؤلاء قالوا: إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا [البقرة:70] ما عمل هذه البقرة؟ وضح لنا وظيفة هذه البقرة؟ لقد تشابه الأمر واختلط ولا ندري أي بقرة هي المطلوبة من بين البقر.

وهذا فيه فائدة كبيرة وهي: أن الاشتباه والالتباس نتيجة طبيعية للحيرة، ضريبة يدفعها كل من يترك التشريع الرباني الميسر ويذهب للتشديد والتعقيد، مثال: الموسوسين، الشخص الموسوس الذي تقول له: توضأ بهذه الكيفية ترى أنه يأتي لك بأشياء شديدة، اغسل النجاسة، المطلوب إزالة النجاسة، يقول: وهل يلزم نتر الذكر، أو عصره، أو القفز، أو النحنحة، أو الربط، والقيام والقعود، أو النزول من درجات السلم، كل هذا من تشديدات الموسوسين.

إذاً هذه القضية وهي قضية الحيرة والاشتباه والالتباس تحدث نتيجة طبيعية للتشديد والتعقيد والبحث عما لا يلزم شرعاً، ولذلك ترى الموسوس يعيش في عذاب وحيرة وهم وغم؛ بسبب تشديده على نفسه.

فلما أخبروا بهذه الصفات المطلوبة منهم في البقرة، يا ترى أين سيجدونها؟ ومتى سيجدونها؟ وكم سيكون ثمنها؟ وهل هم مستعدون لدفع الثمن؟

ولذلك: فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة:71] وقالوا لنبيهم بعبارة يشتم منها رائحة سوء الأدب، قالوا: الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ [البقرة:71] يعني: بعد البيان الثالث (الآن جئت بالحق) كأنهم يقولون: الذي قبل هذا لم يكن حقاً، الآن هذا حق، وكأنه موسى عليه السلام كان يتكلم بالباطل. وحاشاه.

قال لهم في الصفة الثالثة: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا [البقرة:71] أما قوله: (إنها بقرة لا ذلول) الذلول: من الدواب بينة الذل التي ذللها الذين يستخدمونها، (تثير الأرض) يعني: تقلبها للزراعة، يعني: أن هذه البقرة التي أمرتم بها ليست ذلولاً تثير الأرض، ولا تسقي الحرث، ولا يستقى عليها الماء لسقي الزرع ويحمل عليها الماء ويستقى بها الماء، وإنما هي (مسلَّمة) يعني: خالية ومسلَّمة من العيوب، مسلَّمة من العمل، يعني: كأنها عند أهلها للنظر والاستمتاع لا للعمل والكد، (لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث) وإنما هي (مسلَّمة لا شية فيها) يعني: لا عيب، ولا خلط في الألوان، فلما سمعوا هذه الأوصاف ولم يبق متسع لمزيدٍ من التساؤلات، العمر واللون والعمل، فماذا بقي؟

التباطؤ في التنفيذ طبيعة اليهود والمنافقين
كان الأمر يسيراً فعسروه، وكان واسعاً فضيقوه، وفي النهاية فذبحوها، لكن بعد ماذا؟

( فذبحوها وما كادوا يفعلون ) ما كادوا يفعلون ما أمروا به، ولذلك فإن الله تعالى ذمهم وعابهم على هذا الفعل، وشدد عليهم وجعل الأمر شاقاً عليهم، وكذلك شق عليهم في اللحوم وما يؤكل منها والشحوم، وحرَّم عليهم أشياء، فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160] وهذا التباطؤ والتلكؤ يدل على نفسية لا تريد العمل، ولا تريد التنفيذ.

إن نفس المؤمن فيها شوقٌ ولهفة وهمة وحيوية للتنفيذ؛ لأن هذا هو أمر الله، فالمؤمن يتحمس لتنفيذ أمر الله، ولكن المنافق يتكاسل ويتباطأ ويتحايل ويتهرب، فإذا فشلت المحاولات نفذ مضطراً مكرهاً مرغماً فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة:71] لكن المؤمن إذا نفذ الصلاة والحج ينفذ بطواعية وسرور نفس ومسارعة، واستسلام، لا اعتراض ولا تلكؤ، أما المنافق وطبائع اليهود هذا هو، وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً [النساء:142].

ولكن إذا رأى الإنسان أنه يجرجر نفسه إلى الطاعة جرجرةً، ومرة يفعل ومرة لا يفعل، ويسأل أهل العلم فإذا أجابوه اعترض بسؤالٍ آخر، وتراه يجادل لا للتعلم، ولكن لإضاعة الوقت، ولعله ينفذ من الحكم، ويجد له مخرجاً من هذه الفتوى، فهذه طبيعة يهودية إسرائيلية بغيضة من بني إسرائيل.

المبادرة للتنفيذ هي المقصود من أمرهم بالذبح
ومعلوم أنه ليس المقصود الآن مجرد الذبح، المقصود الأساسي المبادرة للتنفيذ، فالله عز وجل أمرنا بذبح الضحايا والهدايا، وقال: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [ الحج:36] يعني: طاحت بعد نحرها: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ [الحج:36-37].

ولولا أنهم استثنوا ما ذبحوها، ولذلك لما قالوا: قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة:70] لو لم يستعملوا المشيئة كانوا ما ذبحوها أبداً كما قال المفسرون، وهذا من بركة المشيئة، فإنها معينة على تنفيذ الأمر، ولذلك قال الله: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24].

ذبح البقرة وما كان بعدها
مجموعة من الفوائد في الآيات
وفي قوله تعالى: أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67] دليل على منع الاستهزاء بالدين كما تقدم.

جواز بيع السلم
وفي قوله تعالى: إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا [البقرة:71] تكلم العلماء في هذه الآية على قضية بيع السلم، وأنه يجوز بيع الحيوان سلماً إذا ضبطت صفاته كما ضبطت في هذه الآية؛ لأن العلماء قد اختلفوا في حكم بيع السلم في الحيوان، فادعى بعضهم أنه لا يجوز؛ لأنه لا يمكن ضبطه، وهم الحنفية، وذهب الشافعي رحمه الله ومالك والأوزاعي والليث وغيرهم إلى جواز بيع السلم في الحيوان واستدلوا بالآية، فما هو بيع السلم؟

معلوم أنه في القاعدة الأصولية: لا يجوز بيع ما لا تملك، شيء لا تملكه لا يجوز لك أن تبيعه، لكن الحاجة تدعو أحياناً إلى أن يبيع الإنسان ما لا يملك، فأباحت الشريعة بيع السلم، يجوز أن تبيع شيئاً ليس عندك إذا كان يمكن ضبطه، وذكرت الصفات الضابطة له وقدم الثمن في مجلس العقد ... إلى آخر شروط بيع السلم.

فمثلاً: يجوز أن تقول لشخص أشتري منك ثمراً هذه صفته، ولم يكن قد ظهر الثمر، أولم يُزْرَع أشتري منك قمحاً على رأس الحول هذه صفته، وهذا وزنه وهذا ضبطه ونحو ذلك، وتقدم الثمن كاملاً يجوز بيع السلم في هذه الحالة، تقول لشخص مثلاً يسافر إلى أمريكا يأتي بسيارة، تقول: أشتري منك سيارة هذه صفتها كذا وكذا، وتقدم له الثمن كله في مجلس العقد، ثم يأتي لك بالسيارة على الصفات، ومن شروط بيع السلم تحديد مدة التسليم، على أية حال الآن موضوعنا ليس بيع السلم، لكن استدلوا بهذه الآية على جواز السلم في الحيوان.

حرمة الاستهزاء بالأنبياء
وهذه القصة فيها فوائد كثيرة ذكرنا بعضها سابقاً ومنها: إظهار العجرفة وسوء الأخلاق في بني إسرائيل يتجنبها المسلمون، وحرمة الاعتراض على الشارع، ووجوب المبادرة إلى تنفيذ أمره ونهيه، والندب إلى الأخذ بالمتيسر، وكراهية التشديد بالأمور، وفائدة الاستثناء، وإنهم لو لم يقولوا: إن شاء الله ما نفذوا أصلاً، وتحاشي الكلمات التي قد يفهم منها الاستهزاء بالأنبياء، وهناك جدل قائم الآن على فيلم قد صور ومثل فيه لمزٌ ليوسف عليه السلام، هذا الذي يثار فيه الجدل في هذه الأيام، الأفلام التي فيها تمثيل أدوار الأنبياء، ليس هناك شك أنها سخرية بالأنبياء، يظهر لك ممثل فاسق فاجر يمثل دوراً فيه الحب والغرام والعشق المحرم في تمثيلية وفيلم ثم يمثل دور نبي، ثم لو أتيت بأتقى الناس الآن هل يرقى أن يكون في مستوى نبي حتى يمثل دوره.

فلا شك أن تمثيل أدوار الأنبياء مما يقلل من شأنهم ويظهرهم بمظهر غير المظهر الذي أظهره الله تعالى في كتابه، فلذلك حرام تمثيل أدوار الأنبياء، وهم يحاولون المناورة والمداورة وأنه لم نقصد، ولم ... ولكن التفاصيل التي قدموها أنهم قصدوا ذلك، وهذا من محاربة الأعداء لنا في تاريخنا، هم حاربونا في أشياء كثيرة ومنها محاربتهم لنا في تاريخنا.

بيان كيف يحيي الله الموتى
وكذلك فإن من فوائد هذه القصة: بيان كيف يحيى الله الموتى بدليلٍ عجيب وآيةٍ باهرة ومعجزة ربانية: إنسان ميت لا روح فيه ولا حراك، وبقرة عجماء بكماء، ذبحتم أنتم البقرة وتحولت إلى جسدٍ أيضاً لا روح فيه ولا حراك، وأخذتم أنتم جزءاً ميتاً من أجزاء البقرة الميتة وضربتم به جسد الإنسان الميت، وفوجئتم بالمفاجأة المدهشة كيف دبت الحياة في هذا الإنسان الميت من تلك الضربة، وتحرك حركة الأحياء وتكلم كلام الأحياء.

فذبح البقرة إذاً كان فيه فوائد منها: الكشف عن القاتل الحقيقي، وتعريف اليهود عليه، وإقامة الدليل العملي على قدرة الله على إحياء الموتى، وتقديم آية من آيات الله ومعجزة من معجزاته، وتعريفنا على طبيعة اليهود من خلال نظرتهم لأوامر الله وتحذير المؤمنين من أخلاقهم.

لكن قصة البقرة وإحياء الميت بهذه الطريقة العجيبة هل كان ذلك مرققاً لقلوب بني إسرائيل؟

الجواب: كلا. فإن الله أعقب ذلك مباشرة بقوله: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74] مع أنهم من المتوقع أنهم لما رأوا هذه الآية الباهرة، وهذه المعجزة الربانية أن تلين قلوبهم، لكنها قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد؛ لأن من الحجارة ما يتشقق ويتحدر ويتفطر من خشية الله: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر:21].

وفيه كذلك: جرم القاتل وخطورة إخفاء الحقائق، وكيف أنهم تدافعوا وحاولوا اتهام الأبرياء.

وكذلك: أن اللجاجة وكثرة الأسئلة فيما لا داعي له أمرٌ ممقوت، وأهمية الانشغال فيما ينفع والبحث عما يجدي وترك ما لا ينفع.

وجوب تقديم الأصول على الفروع
ثم نأتي إلى درسٍ آخر وهو: قضية عدم الانشغال بالهامشيات والثانويات والشكليات والفرعيات على حساب الأصول والأساسيات، يعني لا تقدم هذه على هذه.

ولا ينبغي أن يفهم من كلامنا ألبتة ترك الجزئيات التي جاءت بها الشريعة كتحريك الإصبع في التشهد مثلاً، بزعم أن هذه جزئية وسنة وأمر شكلي وجانبي، تقول: لا. حاشا وكلا معاذ الله، وإنما سنة نبينا صلى الله عليه وسلم: (من رغب عن سنتي فليس مني) ولكن أن يشتغل الإنسان بالفرعيات ويترك الأصول هذا هو المذموم، كذلك بعضهم قد يشتغل بدقائق الفقه وهو لم يؤسس أسس العقيدة في نفسه، يأخذ المسائل المفرعة الجزئية وهو لم يضبط أصولها.

اليهود قوم بهت مماطلون
وأخيراً: فإننا نختم فوائد هذه القصة بفائدة تتعلق بعصرنا الذي نعيش فيه، فإن المداورة والمماطلة التي كشفتها لنا قصة البقرة في طبيعة اليهود، تدل على أن طبيعة هؤلاء القوم لا يملون ولا يضجرون ولا يسأمون من المفاوضات؛ لأنهم يتقنون فن التهرب والتملص والتحايل، بل ويتمتعون أثناء ذلك بنفس طويل وأعصاب باردة، وهم على استعداد لتضييع الجهود والأوقات في هذه الشكليات والفرعيات، وأن يوجدوا لأنفسهم مداخل، ويمكن أن يعمدوا إلى قضية شكلية هامشية يمضون فيها أوقاتاً طويلة تستغرق شهوراً وسنوات على حساب الطرف المظلوم، وعندهم فنٌ في عدم حل المشاكل وإبقائها معلقة، وتأخير الحل، وعندهم حرصٌ على عدم إظهار الحق وعدم الخروج بنتيجة وإبقاء القضية في غموض وضباب، وأن يبقوا خصومهم في ضياع وفراغ، وهم قضوا أكثر من عشرين سنة في جدال، هل ينسحبون من الأراضي المحتلة، عاشوا أكثر من عشرين سنة وهم ما حلوا القضية.

وكذلك فإنهم على استعداد بأن يجعلوا المفاوضات وهيئات التحكيم الدولية والخبراء والمحامين ينشغلون في قضية طويلة، وما شغلهم بقضية طابا التي لا تتجاوز مساحتها ملعب كرة قدم، جعلوا ذلك خصاماً إلى أكثر من عشر سنوات، وبقية المسائل في تعقيدات ومماطالات، وقصة البقرة تكشف لنا طبيعة هؤلاء جيداً. ولذلك فلا يجوز لمسلم أن يغتر بهم، ولا يظن لحظة واحدة أنهم يحرصون على خيرٍ لنا، أو أنهم يريدون أن يحلوا مشكلة، فإن الله سبحانه وتعالى قد فضحهم في كتابه، وبين لنا طبيعتهم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا شرورهم ومكرهم وأن ينصرنا عليهم، ويخلص المسلمين من شرهم.

والحمد لله رب العالمين.



الفوائد المستنبطه من القصة :


1) أن من شدد على نفسه شدد الله عليه ، كما حصل لهؤلاء؛ فإنهم لو امتثلوا أول ما أُمِروا، فذبحوا أيّ بقرة لكفاهم؛ ولكنهم شددوا، وتعنتوا، فشدد الله عليهم؛ على أنه يمكن أن يكون تعنتهم هذا للتباطؤ في تنفيذ أوامر الله .


2 ) أن الإنسان إذا لم يقبل هدى الله عزّ وجلّ من أول مرة فإنه يوشك أن يشدد الله عليه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الدين يسر؛ ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ) اخرجه البخاري .



3 ) ومنها: أنه ينبغي لطالب العلم أن يعتني بمعنى القصة وغرضها دون من وقعت عليه ؛ لقوله تعالى: { ببعضها } ولم يعين لهم ذلك توسعة عليهم؛ ليحصل المقصود بأيّ جزء منها؛ ولهذا نرى أنه من التكلف ما يفعله بعض الناس إذا سمع حديثاً أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله..." كذا وكذا؛ تجد بعض الناس يتعب ويتكلف في تعيين هذا الرجل؛ وهذا ليس بلازم؛ المهم معنى القصة، وموضوعها؛ أما أن تعرف من هذا الرجل؟ من هذا الأعرابي؟ ما هذه الناقة مثلاً؟ ما هذا البعير؟ فليس بلازم؛ إذ إن المقصود في الأمور معانيها، وأغراضها، وما توصل إليه؛ فلا يضر الإبهام . اللهم إلا أن يتوقف فهم المعنى على التعيين..

4 ) أن المبهم في أمور متعددة أيسر على المكلف من المعين؛ وذلك إذا كانوا قد أمروا أن يضربوه ببعضها فقط؛ فإذا قيل لك: "افعل بعض هذه الأشياء" يكون أسهل مما إذا قيل لك: "افعل هذا الشيء بعينه"؛ فيكون في هذا توسعة على العباد إذا خيروا في أمور متعددة والله أعلم..

5 ) ومنها: أن بيان الأمور الخفية التي يحصل فيها الاختلاف، والنِّزاع، من نعمة الله عزّ وجلّ؛ يعني مثلاً إذا اختلفنا في أمور، وكاد الأمر يتفاقم، ويصل إلى الفتنة، ثم أظهر الله ما يبينه فإن هذا من نعمة الله سبحانه وتعالى علينا؛ لأنه يزيل بذلك هذا الخلاف، وهذا النِّزاع..

6 ) ومنها: التحذير من أن يكتم الإنسان شيئاً لا يرضاه الله عزّ وجلّ؛ فإنه مهما يكتم الإنسان شيئاً مما لا يُرضي الله عزّ وجلّ فإن الله سوف يطلع خلقه عليه . إلا أن يعفو الله عنه ...( نقل من تفسير الشيخ ابن عثمين ) .

همسات ايمانية
2015-06-10, 22:11
القصة الثانية ,,,,,,,,,,,,اصحاب السبت


قصة أصحاب السبت
ورد ذكر القصة في سورة البقرة. كما ورد ذكرها بتفصيل أكثر في سورة الأعرف الآيات 163-166

قال الله تعالى، في سورة "الأعراف":
"وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ .وقال تعالى في سورة "البقرة": وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ" .
وقال تعالى في سورة "النساء":
" أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا"

القصة:
أبطال هذه الحادثة، جماعة من اليهود، كانوا يسكنون في قرية ساحلية. اختلف المفسّرون في اسمها، ودار حولها جدل كثير. أما القرآن الكريم، فلا يذكر الاسم ويكتفي بعرض القصة لأخذ العبرة منها.
وكان اليهود لا يعملون يوم السبت، وإنما يتفرغون فيه لعبادة الله. فقد فرض الله عليهم عدم الانشغال بأمور الدنيا يوم السبت بعد أن طلبوا منه سبحانه أن يخصص لهم يوما للراحة والعبادة، لا عمل فيه سوى التقرب لله بأنواع العبادة المختلفة.
وجرت سنّة الله في خلقه. وحان موعد الاختبار والابتلاء. اختبار لمدى صبرهم واتباعهم لشرع الله. وابتلاء يخرجون بعده أقوى عزما، وأشد إرادة. تتربى نفوسهم فيه على ترك الجشع والطمع، والصمود أمام المغريات.
لقد ابتلاهم الله عز وجل، بأن جعل الحيتان تأتي يوم السبت للساحل، وتتراءى لأهل القرية، بحيث يسهل صيدها. ثم تبتعد بقية أيام الأسبوع. فانهارت عزائم فرقة من القوم، واحتالوا الحيل –على شيمة اليهود- وبدوا بالصيد يوم السبت. لم يصطادوا السمك مباشرة، وإنما أقاموا الحواجز والحفر، فإذا قدمت الحيتان حاوطوها يوم السبت، ثم اصطادوها يوم الأحد. كان هذا الاحتيال بمثابة صيد، وهو محرّم عليهم.
فانقسم أهل القرية لثلاث فرق. فرقة عاصية، تصطاد بالحيلة. وفرقة لا تعصي الله، وتقف موقفا إيجابيا مما يحدث، فتأمر بالمعروف وتنهى عن المكر، وتحذّر المخالفين من غضب الله. وفرقة ثالثة، سلبية، لا تعصي الله لكنها لا تنهى عن المكر.
وكانت الفرقة الثالثة، تتجادل مع الفرقة الناهية عن المنكر وتقول لهم: ما فائدة نصحكم لهؤلاء العصاة؟ إنهم لن يتوفقوا عن احتيالهم، وسيصبهم من الله عذاب أليم بسبب أفعالهم. فلا جدة من تحذيرهم بعدما كتب الله عليهم الهلاك لانتهاكهم حرماته.
وبصرامة المؤمن الذي يعرف واجباته، كان الناهون عن المكر يجيبون: إننا نقوم بواجبنا في الأمر بالمعروف وإنكار المنكر، لنرضي الله سبحانه، ولا تكون علينا حجة يوم القيامة. وربما تفيد هذه الكلمات، فيعودون إلى رشدهم، ويتركون عصيانهم.
بعدما استكبر العصاة المحتالوا، ولم تجد كلمات المؤمنين نفعا معهم، جاء أمر الله، وحل بالعصاة العذاب. لقد عذّب الله العصاة وأنجى الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. أما الفرقة الثالثة، التي لم تعص الله لكنها لم تنه عن المكر، فقد سكت النصّ القرآني عنها. يقول سيّد قطب رحمه الله: "ربما تهوينا لشأنها -وإن كانت لم تؤخذ بالعذاب- إذ أنها قعدت عن الإنكار الإيجابي, ووقفت عند حدود الإنكار السلبي. فاستحقت الإهمال وإن لم تستحق العذاب" (في ظلال القرآن).
لقد كان العذاب شديدا. لقد مسخهم الله، وحوّلهم لقردة عقابا لهم لإمعانهم في المعصية.
وتحكي بعض الروايات أن الناهون أصبحوا ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد. فتعجبوا وذهبوا لينظرون ما الأمر. فوجودا المعتدين وقد أصبحوا قردة. فعرفت القردة أنسابها من الإنس, ولم تعرف الإنس أنسابهم من القردة; فجعلت القردة تأتي نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي; فيقول: ألم ننهكم! فتقول برأسها نعم.
الروايات في هذا الشأن كثيرة، ولم تصح الكثير من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنها. لذا نتوقف هنا دون الخوض في مصير القردة، وكيف عاشوا حياتهم بعد خسفهم.

واسالوا اهل القرية لسعود الشريم
عباد الله: هذه الآيات إنما هي بث في المقام لما أجمل في قوله سبحانه: وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [البقرة:65] والمقرر عباد الله! أن من خصائص القرآن الكريم الإجمال في موضع، والبيان في موضع آخر، لأجل أن تشرئب النفوس إلى معرفة التأويل، وربط الآيات القرآنية بعضها ببعض، وليس ذلك إلا للقرآن خاصة: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزمر:23].

أيها الناس: إن حاصل معنى آيات الأعراف هذه هو أن اليهود المعارضين لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، زعموا أن بني إسرائيل لم يكن فيهم عصيان ولا معاندة لما أمروا به، ولذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسألهم على جهة التوبيخ لهم عن هذه القرية، وهي على المشهور من أقوال المفسرين، قرية أيلة على شاطئ بحر القلزم بين مدين والطور ، هذه القرية أهلها من اليهود، وكانوا يعتدون في يوم السبت، ويخالفون شرع الله حيث أنه نهاهم عن الصيد فيه، وكان الله سبحانه قد ابتلاهم في أمر الحيتان، بأن تغيب عنهم سائر الأيام، فإذا كان يوم السبت جاءتهم في الماء شرعاً ، مقبلة إليهم مصطفة، فإذا كان ليلة الأحد غابت برمتها، ففتنهم ذلك وأضر بهم، فتطرقوا إلى المعصية بأن حفروا حفراً يخرج إليهم ماء البحر على أخدود، فإذا جاءت الحيتان يوم السبت فكانت في الحفرة، ألقوا فيها حجارة فمنعوا الحيتان من الخروج إلى البحر، فإذا كان الأحد أخذوها حتى كثر صيد الحوت ومشي به في الأسواق، وأعلن الفسقة بصيده، فنهضت فرقة منهم، ونهت عن ذلك، وجاهرت بالنهي واعتزلت، وفرقة أخرى لم تنه ولم تعص، بل قالوا للناهين لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً [الأعراف:164] فلما لم يستجب العاصون؛ أخذهم الله بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون، فنص سبحانه على نجاة الناهين، وسكت عن الساكتين، فهم لا يستحقون مدحاً فيمدحوا، ولا ارتكبوا عظيماً فيذموا.

روى ابن جرير بسنده عن عكرمة قال: [[دخلت على ابن عباس رضي الله عنهما والمصحف في حجره وهو يبكي فقلت: ما يبكيك يا ابن عباس جعلني الله فداءك؟ فقال: هؤلاء الورقات، وإذا هو في سورة الأعراف، فقال: ويلك تعرف القرية التي كانت حاضرة البحر، فقلت: تلك أيلة ، فقال ابن عباس : لا أسمع الفرقة الثالثة ذكرت، نخاف أن نكون مثلهم، نرى فلا ننكر فقلت: أما تسمع الله يقول: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ [الأعراف:166] فسري عنه فكساني حلة ]].

الدروس المستفادة من قصة أصحاب السبت ((سعود الشريم )))
عباد الله! إننا بحاجة ماسة إلى أن نرفع الستار، ونلقي الضوء الواعظ، على هذه الآيات الكريمات، التي يتمخض عنها دروس ثرة، ووصايا حثيثة نوجز منها على سبيل المثال لا الحصر.

الاعتبار بأحوال الأمم الماضية
إن مما أوضحه الله في هذه الآيات ما تنطوي عليه طبائع يهود من خبث ومكر وتنكر للرسالة السماوية، يتلونون تلون الحرباء؛ مما جلب لهم المقت من ربهم، فأوقع بهم شر العقوبات: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:60].

لقد كان لليهود شأن في بادئ الأمر، وقد أثنى الله عليهم بقوله: وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنْ الْمُسْرِفِينَ * وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [الدخان:30-32].

لكن التحول الذي حدث فيهم كان جذرياً، حتى أصبح لا يعرف من شمائلهم، أنهم يقودون إلى تقوى أو يعرفون بمهادنة، ومن هنا تبدو النكتة اللطيفة وهي: أنه من الغباء بمكان أن يحسب أهل دين ما، أن رحى الأيام لا تدور بالمجتمعات، وأن من ارتفع اليوم ستبقى رفعته له غداً إذا غير وبدل، إن التاريخ صفحات متتابعة، يطوى منها اليوم ما يطوى، وينشر منها غداً ما ينشر.

وإن الله جل شأنه يختبر بالرفعة والوضاعة، وبالزلزلة والتمكين، وبالخوف والأمن، وبالضحك والبكاء: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا [النجم:42-44].

كل ذلك حتى تنقطع الأعذار، وتخرس الألسن التي مرنت الجدل، فإن أناساً سوف يبعثون يوم القيامة وهم مشركون ويقولون لله: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأنعام:23-24].

ولأجل ذا -عباد الله- جاء التحذير الصارخ من أن نسلك مسالكهم، بل جاء الأمر الصريح بمخالفة اليهود والنصارى في غير ما حديث.

أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ومن الدروس المستقاة -عباد الله- أنه ينبغي على أهل العلم، وذوي الإصلاح أن يقوموا بواجب النصح والوعظ في إنكار المنكرات على الوجوه التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ولا يمنع من التمادي في الوعظ والنهج والإصرار عليه، عدم القبول من المخالف؛ لأنه فرض فرضه الله قبل أو لم يقبل، ولأن هذا هو الذي يحفظ للأمة كيانها بأمر الله.

وبذلك تكون المعذرة إلى الله ، ويكون الخروج من التبعية وسوء المغبة، وبمثل أولاء يدفع الله البلايا عن البشر: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117] ولم يقل وأهلها صالحون، فإن مجرد الصلاح ليس كفيلاً بالنجاة من العقوبة الإلهية الرادعة ، ولأجل ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش : يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون، قال: نعم. إذا كثر الخبث } رواه البخاري ومسلم .

قال الله: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص:59].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

التحذير من التهوين في شأن الإصلاح
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد:

فإن من الدروس المستقاة من الآيات عباد الله! أن التهوين من شأن الإصلاح أو التخذيل أو الإرجاف فيه، ليس من سمات الأمة المسلمة الحقة، وأن مقولة بعضهم: دع الناس وشأنهم، فربهم رقيب عليهم، ليس من السنة في شيء، إنما هو في الواقع إقعاد بكل صراط يوعد فيه ويصد عن سبيل الله من آمن، وحينئذٍ لا بد من معرفة العاقبة لمن كان ديدنه ذلك: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً [الأعراف:164].

ومن هنا عباد الله جاء حذر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن يكون ومن معه من الفرقة الثالثة، وبعد فيا رعاكم الله:

ليت من لم يكن بالحق مقتنعاً يخلي الطريق ولا يؤذي من اقتنعا

سد الذرائع والحيل المفضية إلى الحرام
عباد الله: ومن الدروس أن الشارع الحكيم جاء بسد الذرائع المفضية إلى ما حرم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن شيئاً من أنواع الحيل الموصلة إلى ما حرم الله، لا يجوز ألبتة، لأن الحيل طرق خفية، يتوصل بها إلى حصول الغرض بحيث لا يتفطن لها إلا بنوع من الذكاء والفطنة.

وهي وإن أخفاها المرء فقد تخفى على جملة من البشر، لكنها لا تخفى على رب البشر، إذ إنها من باب الإلحاد في حدود الله، وهو الميل والانحراف عنها: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت:40].

وأياً كانت هذه الحيل في العبادات، أو المعاملات، أو الأحوال الشخصية، أو نحوها، فإنه لا يجوز فعلها للوصول إلى المحرم من طرف خفي، ولربما انتشر مثل هذا في أوساط الكثيرين لا سيما في البنوك والمصارف، أو في الهيئات والشركات المتعهدة في اتخاذ طرق ومرابحات دولية أو مضاربات صورية، إنما هي في حقيقتها حيلة على أخذ الربا؛ فيخدع ببهرجتها السذج ويغرر بها الذين ينشدون الكسب الحلال؛ فيوقعونهم في شرٍ مما فروا منه، دون الرجوع إلى أهل العلم والمعرفة في كشف حقيقة تلك المرابحات، ما يجوز منها وما لا يجوز، وكذا الحيل في التخلص من الزكاة بتفريق المجتمع، وجمع المتفرق، ولقد كتب أبو بكر رضي الله تعالى عنه فريضة الصدقة، التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها: {ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة } رواه البخاري .

ومن ذلك -عباد الله- الحيل في إباحة المطلقة طلاقاً لا رجوع فيه نتيجة شقاق ورعونة عقلٍ أعقبها ندم ولات ساعة مندم، ثم لا تسألوا بعدها -عباد الله- عن كذا حيلة وحيلة يزورها في نفسه، ويخدع بها في إباحة ما حرم الله من لا يعرف الحيل.

إلا على المحتال فهو طبيبها يا محنة الأجيال بالمحتال
عباد الله: ولا غرو أن يقع أولئك في الإثم والتعدي على حدود الله، متناسين بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه أبو عبد الله بن بطة بسند جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل }.

وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فجملوها فباعوها } وغير ذلك كثير وكثير، وما الأمثلة المطروحة إلا شعبة في واد، ونزة من نبع، القصد من ورائها تنبيه الغافلين وإنذار المتغافلين، والتأكيد الجازم على خطورة شيوع الحيل المحرمة، وما تودي به من كدر في الصفو، وعطب في النية والمقصد، وهي وإن تقالهّا ثلة من الناس، فإن هذا لا يهون من شأنها،

إن القليل بالقليل يكثر كما الصفاء بالقذاء يكدر
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين، اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

همسات ايمانية
2015-06-15, 23:35
قصة صاحب الجنتين االواردة في سورة الكهف:
{ وَٱضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً } * { كِلْتَا ٱلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً } * { وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً } * { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَداً } * { وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } * { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } * { لَّٰكِنَّاْ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً }
معنى الآيات:
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم واضرب لأولئك المشركين المتكبرين الذين اقترحوا عليك أن تطرد الفقراء المؤمنين من حولك حتى يجلسوا إليك ويسمعوا منك { اضرب لهم } أي اجعل لهم مثلا: { رجلين } مؤمناً وكافرا { جعلنا لأحدكما } وهو الكافر { جنتين من أعناب وحففناهما بنخل } أي أحطناهما بنخل، { وجعلنا بينهما } أي بين الكروم والنخيل { زرعاً } { كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً } أي لم تنقص منه شيئاً { وفجرنا خلالهما نهراً } ليسقيهما. { وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره } أي في الكلام يراجعه، ويفاخره: { أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً } أي عشيرة ورهطاً، قال هذا فخراً وتعاظماً.
{ ودخل جنته } والحال أنه { ظالم نفسه } بالكفر والكبر وقال: { ما أظن أن تبيد هذه } يشير إلى جنته { أبداً } أي لا تفنى. { وما أظن الساعة قائمة ولئن ردت الى ربي } كما تقول أنت { لأجدن خيراً منها } أي من جنتي { منقلباً } أي مرجعاً إن قامت الساعة وبعث الناس معهم. هذا القول من هذا الرجل هو ما يسمى بالغرور النفسي الذي يصاب به أهل الشرك والكبر. وهنا قال له صاحبه المسلم { وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب } وهو الله عز وجل حيث خلق أباك آدم من (تراب ثم من نطفة) أي ثم خلقك أنت من نطفة أي من مني { ثم سواك رجلاً } وهذا توبيخ من المؤمن للكافر المغرور ثم قال له: { لكنا هو الله ربي } أي لكن أنا أقول هو الله ربي، { ولا أشرك بربي أحداً } من خلقه في عبادته.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
1- استحسان ضرب الأمثال للوصول بالمعاني الخفية الى الاذهان.
2- بيان صورة مثالية لغرس بساتين النخل والكروم.
3- تقرير عقيدة التوحيد والبعث والجزاء.
4- التنديد بالكبر والغرور حيث يفيضان بصاحبهما الى الشرك الكفر.
{ وَلَوْلاۤ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِٱللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً } * { فعسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً } * { أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً } * { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً } * { وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً } * { هُنَالِكَ ٱلْوَلاَيَةُ لِلَّهِ ٱلْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً }
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في المثل المضرورب للمؤمن الفقير والكافر الغني فقد قال المؤمن للكافر ما أخبر تعالى به في قوله: { ولولا إذ دخلت جنتك } أي هلا إذ دخلت بستانك قلت عند تعجبك من حسنه وكماله { ما شاء الله } أي كان { لا قوة إلا بالله } أي لا قوة لأحد على فعل شيء أو تركه بإقدار الله تعالى له وإعانته عليه قلل هذا المؤمن نصحاً للكافر وتوبيخاً له. ثم قال له { إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً } اليوم { فعسى ربي } أي فرجائي في الله { أن يؤتيني خيراً من جنتك ويرسل عليها } أي على جنة الكافر { حسباناً من السماء } أي عذاباً ترمى به. (فتصبح صعيداً زلقاً): أي تراباً أملس لا ينبت زرعاً ولا يثبت عليه قدم. { أو يصبح ماؤها غوراً } الذي تسقى به غائراً في أعماق الأرض فلن تقدر على إستخراجه مرة أخرى، وهو معنى { فلن تستطيع له طلباً }.
وقوله تعالى: في الآيات (40)، (41)، (42) يخبر تعالى أن رجاء المؤمن قد تحقق إذ قد احيط فعلاً ببستان الكافر فهلك ما فيه من ثمر { فأصبح يقلب كفيه } ندماً وتحسراً { على ما أنفق فيها } من جهد ومال في جنته { وهي خاوية على عروشها } أي ساقطة على أعمدة الكرم التي كان يعرشها للكرم أي يحمله عليها كما سقطت جدران مبانيها على سقوفها وهو يتحسر ويتندم ويقول: { يا ليتني لم أشرك بربي أحداً، ولم تكن له } جماعة قوية تنصره { من دون الله وما كان } المنهزم { هنالك } أي يوم القيامة { الولاية } اي القوة والملك والسلطان { لله } أي المعبود { الحق } لا لغيره من الأصنام والأحجار { هو } تعالى { خير ثواباُ } اي خير من يثبت على الإيمان والعمل الصالح. { وخير عقباً } أي خير يعقب أي يجزي بحسن العواقب

+++++++++++++
تخبرنا آيات القصة عن وجود رجلين في الماضي، كان بينهما صلة وصحبة، أحدهما مؤمن، والآخر كافر، وقد أَبهمت الآيات اسمَيّ الرجُلَيْن، كما أبهمت تحديد زمانهما ومكانهما وقومهما، فلا نعرف مَن هما، ولا أين عاشا، ولا في أيّ زمان وُجِدا.
ابتلى الله الرجُلَ المؤمن بضيق ذات اليد، وقلة الرزق والمال والمتاع، لكنه أنعم عليه بأعظم نعمة، وهي نعمة الايمان واليقين والرضا بقدر الله وابتغاء ما عند الله، وهي نعم تفوق المال والمتاع الزائل.
أما صاحبه الكافر فقد ابتلاه الله بأن بَسَط له الرزق، ووسَّع عليه في الدنيا، وآتاه الكثير من المال والمتاع، ليبلوه هل يشكر أم يكفر، وهل يطغى أم يتواضع؟
جعل الله لذلك الكافر جنَّتَيْن، والمراد بالجنّة هو البستان أو "المزرعة"، أي إنه كان يملك مزرعتين.
ووصفت الآيات المزرعتين بقوله: (جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِن أعنابٍ وحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ، وجَعَلْنَا بينهما زَرْعاً* كِلتا الجنَّتَيْن آتتْ أُكُلَهَا، ولم تَظْلِم منه شَيئاً، وفَجَّرْنَا خلالهما نَهَراً* وكان لهُ ثَمَرٌ...).[الكهف: 32-34].
كانتا مزرعتين من أعناب، وكانتا "مُسوَّرَتَيْن" بأسرابِ النخل من جميع الجهات، وكان صاحبهما يزرع الزرع بين الأعناب، وقد فجَّرَ الله له نهراً، فكان يجري بين الجنَّتَيْن المزرعتين، وكان صاحبهما يجني ثمارَهما، ثمار الأعناب، وثمار النخل، وثمار الزرع.
وتُقدم لنا الآيات إشارة لطيفة الى "تنسيق" الحدائق والمزارع والبساتين فكانت المزرعتان مِن أعناب، مزروعة فيهما بتناسق، وكان النخل سوراً محيطاً بهما، وكان الزرع والخضار والبقول يزرع بين أسراب الأعناب، وكان النهر بينهما وقنواته تجري وسطهما، فماذا تريد "تنسيقاً هندسياً" أبدع من هذا التنسيق الزراعي فيهما؟
أُعجِبَ الرجلُ الكافر بجنَّتيه، وافتخرَ بمزرعتَيْه، واعتزَّ بهما، ودخلهما وهو ظالمٌ لنفسِه، كافرٌ بربِّه، متكبرٌ على الآخرين، وقال: إنهما مزرعتان دائمتان أبَدِيَّتان لن تبيدا أبداً، وأنا أغنى الناس وأسعدهم بهما، وهما كل شيء، وليس هناك بعث ولا آخرة ولا جنة غير هاتين الجنتين.
ولاحظ صاحبه المؤمن الفقير الصابر غرورَه وبطرَه، فذكّره بالله ، ودعاه إلى الإيمان بالله وشكره، والاعتماد عليه وليس على مزرعتيه، ودعاه إلى أن يقول: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله)، وحذَّروه مِن عاصفة أو صاعقة تأتي عليهما وتحرقهما.
ولكن الكافرَ المغرور أسكرته نشوة التملُّك، فرفض كلام وتحذير وتوجيه صاحبه المؤمن، وزاد اعتزازه بمزرعتيه واعتماده عليهما، وحصل ما حذَّره منه صاحبه المؤمن، فأرسل الله على مزرعتيه صاعقة، فاحرقتهما!! أحرقت العنب والنخل والزرع، وقضت على الشجر والزرع والثمر، ولم يبقَ مِن المزرعتين شيء، كل هذا جرى في ساعة من ساعات الليل.
وفي الصباح ذهب المغرور إلى جنتيه كعادته، فإذا بهما فانيتان بائدتان، فأسقط في يديه، وشعر بالندم وأيقن بالخسارة، التي أتت على كل ما يملك، وتمنى لو استجاب لنصح صاحبه المؤمن، ولكن متى؟ بعد فوات الأوان!
وعلّق القرآن على هذه القصة، فقال في الآية الأخيرة: (هنالك الوَلايَةُ للهِ الحَقِّ، هو خيرٌ ثواباً، وخيرٌ عُقْباً).
ترى كم تتكرر قصة صاحب الجنتين في أيامنا هذه، في مجالاتها وصورها المختلفة؟.




فوائد في قصة صاحب الجنتين
قال تعالى : ( واضرِبْ لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتينِ من أعنابٍ وحففناهما بنخلٍ وجعلنا بينهما زرعاً ـ 32 ، كِلتا الجنتينِ آتتْ أكُلَها ولم تظلم مِّنهُ شيئاً وفجَّرنا خلالهما نَهَراً ـ 33 ) سورة الكهف .


1ـ الاعتبار والاتعاظ بحال من أنعم الله عليه نعما دنيوية ، فألهته عن آخرته وأطغته وعصى الله فيها . السعدي

2ـ ليس في معرفة أعيان الرجلين وزمانهما ومكانهما فائدة أو نتيجة ، والتعرض لذلك من التكلف ، وإنما الفائدة تحصل من قصتهما فقط . السعدي

3ـ أن بساتين الدنيا يتنعم بها من يدخلها ويرى خضرتها ، وتفرح ناظرها ، لما فيها من النعيم واللذة ، وفي جنتي هذا الرجل أفضل الأشجار وهي النخيل والأعناب . ابن جبرين


( وكانَ لهُ ثمرٌ فقالَ لصاحبِهِ وهو يُحاورُهُ أنا أكثرُ منك مالاً وأعزُّ نفَراً ـ 34 ).


1ـ اغترار هذا الرجل وافتخاره بكثرة ماله وعشيرته وقبيلته ، أي بالغنى والحسب ، يقوله افتخارا لا تحدثا بنعمة الله عليه بدليل العقوبة التي حصلت له . ابن عثيمين

2ـ أن المال والولد لا ينفعان إن لم يعينا على طاعة الله ( وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا ) . السعدي

3ـ ينبغي للعبد إذا أعجبه شيء من ماله أو ولده أن يضيف النعمة إلى مسديها ؛ ليكون شاكرا لله متسببا لبقاء نعمته عليه . السعدي

4ـ الافتخار الذي لم يُعترف بفضل الله فيه ولم يشكر الله عليه يحبط الأعمال . ابن عثيمين

5ـ أن الله ينعم على عباده ليبتليهم ؛ هل يشكرون أم يكفرون ؟! . ابن جبرين


( ودخلَ جنتَهُ وهوَ ظالِمٌ لنفسِهِ قالَ ما أظنُّ أن تبيدَ هذهِ أبداً ـ 35 ، وما أظنُّ الساعةَ قائمةً ولئِن رُدِدتُّ إلى ربي لأجدنَّ خيراً منها مُنقلباً ـ 36 ) .


1ـ اطمئنان الرجل إلى الدنيا ورضاه بها وإعجابه بجنتيه حتى نسي أن الدنيا لا تبقى لأحد . ابن عثيمين

2ـ إنكاره للبعث . ابن عثيمين

3ـ قياسه الفاسد حيث ظن أن الله لما أنعم عليه في الدنيا فلابد أن ينعم عليه في الآخرة ! , ولا تلازم بين هذا وذاك ، بل إن الكفار ينعّمون في الدنيا وتُعجَّل لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا ، ولكنهم في الآخرة يُعذَّبون ! . ابن عثيمين

4ـ تمرده وعناده ؛ لقوله ( ولئن رددت إلى ربي ) قاله على وجه التهكم والاستهزاء ! . السعدي

5ـ الغالب أن الله يزوي الدنيا عن أوليائه وأصفيائه ، ويوسِّعها على أعدائه الذين ليس لهم في الآخرة من نصيب . السعدي

6ـ حقارة هذه الدنيا من أولها إلى آخرها ، فالله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ، ولا يعطي الدين إلا من يحب ! . ابن جبرين

7ـ نسيان الرجل قدرة ربه الذي أعطاه ومكّنه ، بأن يسلبه ما آتاه ! . ابن جبرين


( قالَ لهُ صاحبُهُ وهوَ يُحاورُهُ أكفرتَ بالذي خلقكَ من ترابٍ ثُمَّ سوَّاكَ رجُلاً ـ 37 ، لكنَّا هو اللهُ ربي ولا أشرِكُ بربي أحداً ـ 38 ) .


1ـ نصح صاحبه المؤمن له وتذكيره بنعم الله عليه ، وكيف خلقه ونقله من طور إلى طور ، ويسر له الأسباب ، فكيف يليق بك أن تكفر بالله ؟! . السعدي

2ـ أن منكر البعث كافر . ابن عثيمين

3ـ اعتزاز المؤمن بإيمانه بالله واعترافه به وبفضله عليه ، وإقراره بربوبية ربه ، والتزام طاعته وعدم الإشراك به . السعدي

4ـ أن في تذكر الإنسان مبدأ أمره وخلقه موعظة عظيمة وذكرى . ابن جبرين

5ـ في قول المؤمن (هو الله ربي) دليل على أن صاحب الجنتين قد أشرك . ابن جبرين


( ولولا إذ دخلتَ جنتكَ قلتَ ما شاءَ اللهُ لا قوةَ إلا باللهِ إنْ تَرَنِ أنا أقلَّ منك مالاً وولداً ـ 39 ) .


1ـ أن نعمة الله على الإنسان بالإيمان والإسلام ولو مع قلة المال والولد هي النعمة الحقيقية ، وما عداها معرض للزوال والعقوبة . السعدي

2ـ ينبغي للإنسان إذا أعجبه شيء أن يقول (ماشاء الله لا قوة إلا بالله ) حتى يفوض الأمر إلى الله لا إلى حوله وقوته . ابن عثيمين

3ـ من اعترف بفضل الله عليه ، فإنه يبارك الله له فيما أعطاه ، وأما من أشِر وبطر ، فلا يبارك الله له فيما آتاه ولا ينتفع به . ابن جبرين

4ـ أن ما عند الله خير وأبقى ، وما يُرجى من خيره وإحسانه أفضل من جميع الدنيا التي يتنافس فيها المتنافسون . السعدي


( فعسى ربي أن يُؤتِيَني خيراً من جنتِكَ ويُرِسلَ عليها حُسباناً من السماءِ فتصبحَ صعيداً زَلَقاً ـ 40 ، أو يصبحَ ماؤُها غوراً فلن تستطيعَ لهُ طلَباً ـ 41 ) .


1ـ الارشاد إلى التسلي عن لذات الدنيا وشهواتها بما عند الله من الخير . السعدي

2ـ الدعاء بتلف مال من كان ماله سبب طغيانه وكفره وخسرانه ، خصوصا إن فضّل نفسه بسبب ماله على المؤمنين وفخر عليهم . السعدي

3ـ أن دعاء المؤمن على جنتيّ الكافر كان غضبا لله ؛ لكونها غرته وأطغته ، لعله ينيب ويراجع رشده ويبصر في أمره . السعدي

4ـ لا حرج على الإنسان أن يدعو على ظالمه بمثل ما ظلمه . ابن عثيمين

5ـ في قوله (حسبانا من السماء) خص السماء لأن ما جاء من الأرض قد يدافع ، لكن ما نزل من السماء يصعب دفعه ويتعذر ! . ابن عثيمين

6ـ قوله (خيرا من جنتك) أي أفضل منها وهي جنة الآخرة ، وجنة الدنيا هي الفرح بفضل الله والالتذاذ بطاعته ، والاغتباط بالأعمال الصالحة ، والأنس بذكر الله وشكره ، فهذا خير من متاع الدنيا متاع الغرور . ابن جبرين


( وأحيطَ بثمرِهِ فأصبحَ يُقلِّبُ كفَّيهِ على ما أنفقَ فيها وهيَ خاويةٌ على عروشِها ويقولُ ياليتني لم أشرِكْ بربي أحداً ـ 42 ، ولم تكُن لهُ فِئَةٌ يَنصرونَهُ مِن دونِ اللهِ وما كان منتَصِراً ـ 43 ) .


1ـ استجابة الله لدعاء من دعاه . السعدي

2ـ كان مآل الجنتين الانقطاع والاضمحلال ، وكأنه لم يتمتع بها ! . السعدي

3ـ الندم بعد فوات الأوان لا ينفع ، إنما ينتفع من سمع القصة واعتبر بها . ابن عثيمين

4ـ أن ما افتخر به لم يدفع عنه من العذاب شيئا . السعدي

5ـ لا يستبعد من رحمة الله ولطفه أن صاحب الجنتين تحسنت حاله ، ورزقه الله الإنابة إليه ، بدليل ندمه على شركه بربه . السعدي

6ـ أن سبب عقوبته لأنه أشرك بالله ، ونسب نعمة الله إلى غيره ، وفضل الله إلى نفسه وقوته وحيلته ، وتناسى عطاء الله له . ابن جبرين


( هُنالِكَ الوَلايةُ للهِ الحقِ هو خيرٌ ثواباً وخيرٌ عُقباً ـ 44 ) .

1ـ أن ولاية الله وعدمها إنما تتضح نتيجتها إذا انجلى الغبار وحقَّ الجزاء ، ووجد العاملون أجرهم . السعدي

2ـ من كان مؤمنا بالله تقيا كان له وليا وأكرمه بأنواع الكرامات ، ودفع عنه الشرور والمَثُلات ، ومن لم يؤمن بربه ويتولاه خسر دينه ودنياه ! . السعدي

4ـ أن في يوم القيامة لا نُصرة ولا مُلك إلا لله الحق ، وأن جميع من دونه لا يفيد صاحبه شيئا . ابن عثيمين

5ـ أن من خذله الله فليس له ولي ، ولا ناصر ينصره من عذاب الله ، ومن أمِن بأس الله فإنه ضال مضِل . ابن جبرين

تاييد
2015-06-16, 08:42
موضوع يستحق التميز
جزاك الله خيرا أختي همسات ايمانية وبارك فيك

همسات ايمانية
2015-06-16, 16:44
قصة السامري والعجل ,,,, من قصة سيدنا موسى مع قومه لمحمد صالح المنجد

لقد وردت قصة العجل في القرآن الكريم في سورة البقرة، وسورة الأعراف، وسورة طه، وموسى عليه السلام من أولي العزم من الرسل، وهو ثالث أفضل رسول في البشرية بعد محمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم، وقد عاش موسى حياتين وتاريخين، كان كل نبي يعيش مع قومه حتى يهلكهم الله وينجو بمن ينجو من أهل الاتباع والإسلام، لكن موسى عليه السلام عاش حياتين؛ عاش مع فرعون حتى أهلكه الله، ثم جاهد مع بني إسرائيل حتى أضلهم الله في الصحراء، ومات موسى وبني إسرائيل في التيه.

إغراق فرعون وجنده
لقد عانا موسى عليه السلام معاناة شديدة جداً، وصبر وكان ذا شخصية عظيمة، وجاهد في سبيل الله وقدم أشياء كثيرة، وهيأه الله سبحانه وتعالى واصطنعه لأجل القيام بهذا الدور العظيم في جهاد فرعون وقومه ثم في قيادة بني إسرائيل، وجاهد موسى عليه السلام وقال كلمة الحق عند الملك الظالم الذي ادعى الربوبية والألوهية، وخلص ببني إسرائيل إلى البحر وأتبعه فرعون بجنوده، فلما نظر بنو إسرائيل وراءهم فرعون وجنوده، قال أصحاب موسى: إنا لمدركون لا محالة، وسيقضى علينا، ولكن موسى عليه السلام قال: كلا. لا يمكن أن يحصل ذلك ولو كانوا وراءنا بمسافة بسيطة: قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62] وأوحى الله إلى موسى فضرب بعصاه البحر فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:63]، كان جبلاً كبيراً عن اليمين والشمال وفي الوسط درب أيبسه الله؛ لأن قاع البحر طين لكن الله أيبسه، وأمره أن يسلك في البحر يبساً لا يخاف دركاً ولا يخشى، ودخل موسى ومن معه في هذا الطريق، وعبروا إلى الجانب الآخر، ولما وصل فرعون وجنوده إلى المكان فوجئوا بهذه القضية، فضرب فرعون فرسه ومشى وتشجع وأظهر الجلد، ومشى في ذلك الطريق، ولما استكمل دخول فرعون وجنوده في هذا الدرب أطبق الله عليهم البحر، فعاد كما كان فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ فصار الماء فوقهم بمسافة، فأعلاهم وأغرقهم وقضى الله على ذلك الطاغية وجنوده جميعاً.

عبر موسى البحر ومعه بنو إسرائيل الذين نجاهم الله وامتن عليهم بأن نجاهم من فرعون وجنوده.

السامري وتشكيله للعجل وافتتان بني إسرائيل به
ثم إن الله سبحانه وتعالى واعد موسى عليه السلام، كما قال سبحانه: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [طه:80] لما نجاهم من عدوهم فرعون وأقر أعينهم منه، واعد الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام وبني إسرائيل على جانب الطود الأيمن عند الجانب الأيمن من الطور، ولكن موسى عليه السلام استبق قومه للقاء الله سبحانه وتعالى، وسأله ربه عم أعجله؟ فقال: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84] لتزداد عني رضاً، ولما سأله ربه: لماذا سبق قومه؟ قال: هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي [طـه:84] قادمون سينزلون قريباًً من الطور، فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه أنه قد فتن قومه بعبادة العجل في أثناء غيابه، قال الله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ [الأعراف:148] كان بنو إسرائيل قد استعاروا من القبط -وهم سكان مصر الفرعونيين- استعاروا منهم حلياً ولما هرب بنو إسرائيل أخذوا معهم الحلي؛ لأن هذه أموال محاربين فهي جائزة للمسلمين أخذوها معهم وعبروا بها، وكان هناك رجل، قيل: إنه ليس من قوم موسى ولكنه من طائفة تعبد البقر، يقال له: السامري دخل معهم، ولما ألقى بنو إسرائيل هذا الذهب في الحفرة تحرجاً منه، وقالوا: كيف نأخذه معنا وهي أموال مسروقة، لما وضعوها في الحفرة كان السامري قد رأى أثر فرس جبريل فأخذ منه قبضة من وطأة الفرس على التراب، فألقاها في الحفرة التي فيها الذهب؛ فشكل لهم منه عجلاً من الحلي، ثم ألقى هذه القبضة من التراب من أثر فرس جبريل، فصار العجل له صوت -وهو الخوار: صوت البقر- قال الله: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ [الأعراف:148] فوبخهم ربهم، قال: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ [الأعراف:148].

وأخبر الله سبحانه وتعالى موسى أنه قد فتن من بعده وأضلهم السامري ، قال بعض المفسرين: إن هذا العجل من لحم ودم، وقال بعضهم: إنه لم يزل على طبيعته الذهبية إلا أنه يدخل فيه الهواء ويخرج؛ فيكون له صوت كصوت البقر فافتتنوا به أيما افتتان، وقالوا لبعضهم: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88] وبخهم الله على ذلك (وحبك الشيء يعمي ويصم) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود ، لما افتتنوا به أحبوه وتغلغل فيهم، فلم يكونوا على استعداد لتركه.

عتاب موسى لهارون عليه السلام
اختصرت القصة في سورة الأعراف، فقال الله تعالى: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:149] فاعترفوا بالذنب بعدما تبين لهم وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً [الأعراف:150]، والأسف: هو أشد الغضب، قال موبخاً لهم: بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي [الأعراف:150] بئسما صنعتم في عبادتكم العجل بعد أن تركتكم: أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ [الأعراف:150] استعجلتم مجيئي إليكم وهو مقدر من الله سبحانه وتعالى، وألقى الألواح التي أعطاه الله إياها وأنزلها في جبل الطور.. أعطاه الله التوراة مكتوبة في الألواح، فلما رأى موسى ما حلَّ بقومه ألقى الألواح غضباً على قومه وليس إهانة للألواح، وهذا قول الجمهور من أهل العلم وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ [الأعراف:150] لأنه كان قد استخلفه على قومه خوفاً من أن يكون قد قصر في أمرهم ونهيهم، ولكن أخاه توسل إليه قائلاً: قَالَ ابْنَ أُمَّ [الأعراف:150] يا بن أم! أنا وإياك من بطن واحد: لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [طه:94] ولا تشدني شداً إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي [الأعراف:150] أنا لست قوياً مثلك، فالقوم استضعفوني وما أعاروني اهتماماً ولا سمعوا كلامي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي [الأعراف:150] وصل الأمر بهم إلى مقاربة قتل هارون، وبنو إسرائيل معروفون بقتل الأنبياء، فَلا تُشْمِتْ بِي الأَعْدَاءَ [الأعراف:150] توبخني أمام الناس وتجرني أمامهم، فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأعراف:150] تخلفني معهم وتسوقني مساقهم، وقال له: ابن أمَّ لتكون أرأف وأنجع عنده، مع أنه شقيقه من أبيه وأمه، لكن عندما ناداه بالأمومة لأجل أن يكون هناك عاطفة -يستجر العاطفة من موسى عليه السلام- وقد ذكر ابن كثير رحمه الله هذه النقطة في كتابه العظيم البداية والنهاية وفي التفسير، قال: ترقق له بذكر الأم مع أنه شقيقه لأبويه؛ لأن ذكر الأم هنا أرق وأبلغ -أي: في الحلول والعقل- لما تحقق موسى عليه السلام من براءة ساحة هارون، وأخبره هارون بما صنع في غيابه من مجاهدة هؤلاء القوم، قال موسى عليه السلام: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأعراف:151]، ثم قال الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ * وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف:152-154] وابتدأ في السير مع بني إسرائيل من جديد، والصحيح أن الألواح لم تتكسر إنما مجرد الإلقاء، ثم جمعها موسى مرة أخرى وأخذها ليقود بني إسرائيل بمقتضاها.

وجاءت هذه القصة -أيضاً- في سورة طه بتفصيل أوسع، فقال الله سبحانه وتعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [طه:80-81]، ثم إن الله سبحانه وتعالى قال لموسى: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً [طه:83-86] أي: حزيناً شديد الغضب على ما صنع قومه من بعده، وخبر الله لموسى صدق أنه قد يُفتن القوم في غيابه فرجع إليهم، فقال لهم: أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً [طه:86] أنجاكم من عدوكم وأنعم عليكم وأكرمكم، أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ [طه:86] في انتظار ما وعدكم الله أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ [طه:86] "أم" هنا بمعنى: بل، أي: بل أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي [طه:86] لما وبخهم على عبادة العجل، فإنهم اعتذروا بعذر فارغ سخيف غير مقبول على الإطلاق، وهو قولهم: مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا [طه:87] ملكنا، أي: قدرتنا واستطاعتنا واختيارنا، كأنهم مكرهين على ذلك ليس لهم إرادة، وأخبروه أن المسألة تورع منهم عن الذهب الذي كانوا قد أخذوه من الفرعونيين وحلي الفضة التي استعاروها منهم عند خروجهم من مصر ، فقذفناها وألقيناها عنا، فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ [طه:87-88] صنعه لهم، فَقَالُوا الضلال منهم: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88] فنسي، قيل: فيها ثلاثة أقوال:

الأول: أن موسى نسي ربه هاهنا، وذهب يطلبه عند الجبل، والعياذ بالله.

الثاني: نسي موسى أن يذكر لكم أن هذا إلهكم.

الثالث: أن الذي نسي هو السامري أي: ترك ما كان عليه من الإسلام ورجع إلى ما كان عليه قومه من عبادة البقر.

السامري الذي صنع لهم العجل وفتنهم به لا تزال طريقته موجودة إلى الآن، وهناك طائفة من اليهود عباد العجل يعلقون في رقابهم بقرة صغيرة، يمكن أن يراهم الشخص وهم يعلقون في رقابهم سلسلة فيها عجل أو بقرة صغيرة، وقيل: إنهم لازالوا يقولون عبارة: لا مساس، ويرددونها في ترانيمهم أو أذكارهم التي يزعمون أنهم يعودون بها، قال الله سبحانه وتعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً [طه:89] هذا العجل لا يجيبهم إذا سألوه، ولا يرد عليهم إذا خاطبوه، ولا يملك لهم نفعاً ولا ضراً في دنياهم ولا في أخراهم، فحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة الكفر، فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير مع أنه جائز لهم؛ لأن هذه من أموال المحاربين أخذوها منهم، وقد أثبت الله تعالى أن هارون في غيبة موسى كان حريصاً عليهم، وأنه كان مقاوماً للشرك فيهم، ولذلك قال الله عز وجل: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ [طه:90] البيان لم يحصل من موسى فقط بل حصل من قبل من هارون، فقال: هذه فتنة لكم، وإن ربكم الرحمن وليس هذا العجل، وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي [طه:90] فيما آمركم به وأنهاكم، وَأَطِيعُوا أَمْرِي [طـه:90] ولكن هؤلاء الشرذمة أصروا على عبادة العجل، وقالوا: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ [طه:91] وكانوا هم الأغلبية، ثبت مع هارون أناس لكن ما استطاعوا أمام هذا الطوفان من الأشخاص الذين يريدون عبادة العجل أن يغلبوهم، بل إن الطائفة الأخرى هي التي غلبت حتى كادوا أن يقتلوا هارون عليه السلام، قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [طه:91] نحن نسمع كلام موسى فقط، كلامك عندنا غير مقبول ولا نأخذ به، وسنبقى على عبادة العجل حتى نرى موسى ماذا يقول، وحاربوا هارون وكادوا أن يقتلوه.

توجه موسى عليه السلام إلى أخيه هارون بالخطاب: قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه:92-93] وأخذ برأس أخيه يجره إليه كما حصل وتقدم في سورة الأعراف، وشرع يلوم أخاه هارون: لماذا لم تخبرني بهذا الأمر أول ما حصل؟ لماذا لم تتبع آثاري وتأتي إلي وتخبرني بما حصل؟ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه:93]؛ لأن موسى قال لأخيه: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142] هذه وصيته لأخيه هارون قبل أن يفارقه، قال: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142]، فلما عاتبه قال: أفعصيت أمري الذي كنت أمرتك به؟ قال: يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه:94] كانت لحية هارون وافرة، وهذا رد على الذين يحلقون اللحى، ويقولون: حلق اللحية من سنن المرسلين، وهارون كانت لحيته وافرة، ولذلك استطاع موسى أن يأخذه منها وأن يقبض عليها لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [طه:94] وأنها أقل ما فيها أنها قبضة يمكن أن تقبض.

قال هارون مجيباً عن السبب: لماذا لم يتركهم ويلحق بموسى، ويقول: حصل كذا وكذا الحق بالقوم؟ قال هارون: إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ [طه:94] إذا لحقت بك لأخبرك عما حصل، كنت أخشى أن تقول لي: فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه:94] أخشى إن تبعتك لأخبرك أن تقول لي: لماذا تركتهم وحدهم وجئتني وفرقت بينهم ولم ترقب قولي؛ لأني استخلفتك والخليفة يبقى مع المستخلف عليهم؟ وكان هارون مهيباً يهاب موسى ويطيعه، وموسى هو صاحب المنة على أخيه؛ لأنه هو السبب في جعله نبياً، موسى هو الذي قال لربه عز وجل وطلب منه، فقال: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه:29-32] اجعله نبياً مثلي، ما قال موسى: أنا النبي الوحيد في العائلة، لا. وإنما طلب من الله أن يكون هارون معه نبياً، ولذلك قال العلماء: لا يعرف أحد أعظم منة على أخيه من موسى على هارون، فالله استجاب دعاءه، وجعل هارون نبياً بدعاء موسى، وصار ينزل عليه الوحي مثل موسى، لكن موسى بالمنزلة الأعلى.

النقاش الذي دار بين موسى والسامري
قال موسى وهو ملتفت إلى السامري : فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ [طه:95] انتقل الحساب إلى السامري، كان موسى ينتقد بسرعة وبحزم للقضاء على هذه الفتنة، قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ [طه:95] ما حملك على ما صنعت؟ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ [طه:96] رأيت شيئاً لم يره القوم، رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون على فرسه فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ [طه:96] من أثر الفرس، وهذا هو المشهور عند كثير من المفسرين أو أكثرهم كما يقول ابن كثير رحمه الله: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ [طه:96] من تحت حافر فرس جبريل، والقبضة ملء الكف، فأخذتها وخبأتها عندي، والشيطان يسول للسامري ويخطط له ويلهمه الأشياء، وألقى الشيطان في روع السامري أنك إذا ألقيت القبضة على هذا الحلي بعدما تصنعه عجلاً سيكون له صوت ويفتن به القوم، فألقى هذه القبضة عليه، وكان عجلاً له خوار، قال: فَنَبَذْتُهَا [طـه:96] أي: ألقيتها؛ لأن بني إسرائيل جمعوا الحلي وجعلوا يلقونه في الحفرة، فجاء هذا وألقى معهم، وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي [طـه:96] أي: حسنت نفسي هذا الشيء وأعجبها، قال موسى للسامري: فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ [طه:97] كما أخذت ومسست ما لم يكن أخذته من أثر الرسول لتفتن به الخلق، فعقوبتك من جنس عملك أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ [طـه:97] لا تمس الناس ولا يمسونك فتكون مقبوحاً منبوذاً طريداً، لا أحد يريدك ولا تستطيع أنت أن تقترب من أحد وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً يوم القيامة لَنْ تُخْلَفَهُ ولن تغيب عنه وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ ومعهودك هذا الذي فتنت به الناس الَّذِي ظَلَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً ومقيماً على عبادته لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً [طه:97] حرقه في النار إذا كان من لحم ودم، أو برده بالمبارد إذا كان من ذهب حتى صار ذرات، ثم أذرى الرماد هذا أو الذرات في هواء في البحر ليفرقه الهواء في ماء البحر فيتلاشى تماماً ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً [طه:97]، ثم قال موسى عليه السلام لقومه: إِنَّمَا إِلَهُكُمْ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً [طه:98].

وقد جاء تفصيل لهذه القصة في حديث الفتون الذي رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، لكن الراجح أن هذا الحديث من الإسرائيليات، فلذلك نبقى على ما جاء في الكتاب العزيز.

عقوبة عبدة العجل
هذه عقوبة السامري، فما هي عقوبة الذين عبدوا العجل؟ وما هي عقوبة الذين سكتوا؟ وما هي عقوبة الذين لم ينكروا المنكر؟

قال الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [البقرة:51] لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه عند انقضاء أمد المواعدة، وكانت أربعين يوماً وهي المذكورة في الأعراف: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ [الأعراف:142] بعد خلاصهم من قوم فرعون ونجاتهم من البحر، أنزل الله عليه التوراة، وهذا -أيضاً- بعد خروجهم من البحر، واتخذوا العجل، فماذا قال موسى لقومه عن قضية توبتهم من عبادة العجل؟ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [البقرة:54] هذه هي الطريقة الوحيدة للتوبة من عبادة العجل، حين وقع في قلوبهم عبادة العجل والشرك والكفر بالله يقولون: الله هو هذا العجل، ما أسفه عقولهم!

قال تعالى: فلمَا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا [الأعراف:149] فعند ذلك قال موسى: يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ [البقرة:54] الذي خلقكم؛ لعظم جرمكم فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة:54] لا بد أن تقتلوا أنفسكم، لا بد أن يقتل بعضكم بعضاً، وفي هذا وردت عدة آثار عن السلف رحمهم الله تعالى، فمما ورد عن ابن عباس قال: إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم كلما لقي من ولد ووالد فيقتله بالسيف، ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن.

وكذلك جاء أنهم أخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلة شديدة، أي: أظلم الجو في ظلة أرسلها الله حتى لا يرى بعضهم البعض عند القتل، فجعل يقتل بعضهم بعضاً، فانجلت الظلة عن سبعين ألف قتيل، وتاب الله على القاتل والمقتول؛ لأن القتل كان هو التوبة، كل شخص يرفع السيف على الآخرين ويقتل من يلقى، بهذه الظلة أو بهذه الظلمة لم يعد أحد يرى من أمامه فيقتل من يلقاه من ولد ووالد وقريب وصاحب، لا يدري من أمامه فيقتله، فجعل بعضهم يقتل بعضاً، وربما قتل الولد أباه، وربما قتل الأب ولده أو عمه وخاله.. وهكذا.

وقال بعض السلف: قام بعضهم إلى بعض بالخناجر فقتل بعضهم بعضاً، لا يحنو رجل على قريب ولا بعيد، حتى أوقف الله ذلك بأمر منه، فانكشف عن سبعين ألف قتيل.

وقال قتادة: أمر القوم بشديد من الأمر فقاموا يتناحرون بالشفار، يقتل بعضهم بعضاً، حتى بلغ الله فيهم نقمته، فأمسك عنهم القتل فجعله لحيهم توبة، ولمقتولهم شهادة.

وقال الحسن البصري: أصابتهم ظلمة الحندس؛ أي: الحديدة، فقتل بعضهم بعضاً، ثم انكشف عنهم فجعل توبتهم في ذلك.

وجاء -أيضاً- في كلام بعض السلف: كل من قتل منهم كانت له توبة، وكل من بقي كانت له توبة. فقال الله سبحانه وتعالى: فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:54].

أصاب موسى الحزن على قومه، لكن الله عز وجل أخبره أنه تاب عليهم، وأن المقتول شهيد، والباقي تاب الله عليهم.

فانتقلوا بعد ذلك إلى المرحلة التي تليها في قصة موسى مع بني إسرائيل.

هذه خلاصة قصة العجل، وكيف انتهت هذه النهاية المأساوية التي كان يجب عليهم للتوبة أن يقتل بعضهم بعضاً، حتى كاد بعضهم أن يفني بعضاً.

من قصة السامري
وعند هذه القصة العظيمة التي أخبرنا الله عز وجل عنها لنا وقفات نقفها، ودروس نأخذها:

أثر الاستعباد على النفوس
هؤلاء القوم -بنو إسرائيل- ألفوا الاستعباد الطويل.. استعبدهم فرعون سنين طويلة جداً، ومع هذا الاستعباد والذل الطويل في ظل الفرعونية الطويلة فسدت طبيعة القوم وهذا شيء متوقع، وصار في كيانهم النفسي خلخلة، والاستعداد للانقياد لكل ناعق، فما كاد موسى يترك قومه ويبتعد عنهم قليلاً حتى تخلخلت عقيدتهم، وانهارت أمام أول اختبار، إنهم لما عبروا البحر وجدوا أناساً عاكفين على أصنامٍ لهم: قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138] الآن أنجاكم الله قبل قليل.. الآن النعمة عليكم واضحة جداً، تقولون: اجعل لنا آلهة كما لهم آلهة! ما رأيتم بأعينكم صنيع الله وفضله عليكم حتى تطلبوا أن يجعل لكم آلهة، فما أعجب التواء تلك النفوس! فما من عجب أن الله يضرب عليهم الذل والضعف، وأن يغلبهم الناس ويقهروهم ويستحقرونهم إلى قيام الساعة إلا فترات يسيرة جداً في التاريخ، منها: الفترة التي نعيشها الآن التي بلغت الذروة في تسلط اليهود، وإلا فاليهود على مر التاريخ محقورين منبوذين حتى إذا أراد الواحد أن يسب واحداً قال: يا يهودي.

فطبيعة بني إسرائيل ما كانت تستقيم وإنما تلتوي دائماً، وما كان موسى عليه السلام ينتهي من محنة معهم إلا ويدخل في محنة جديدة، ولذلك عندما نعدد الانحرافات التي أصابتهم: اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138] وعبدوا العجل، قالوا: المن والسلوى لا نريده، نريد بصلاً وثوماً وقثاء، حتى في الأكل مزاجهم منحرف، شخص يترك المن والسلوى ويقول: أعطنا ثوماً وبصلاً وقثاء -كراث-؟! ثم بعد ذلك يقولون: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:55] وبعد ذلك قيل لهم: ادخلوا الأرض المقدسة، فقالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24].. إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا [المائدة:22] ثم ما أشد وقاحتهم حينما قالوا: لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] نحن ننتظر الفتح إذا فتحتوها ادعونا لدخولها.

وقد نتق الله الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم، يرون الآيات تلو الأخرى وليست هناك فائدة، وفي النهاية لما امتنعوا عن دخول القرية، حكم الله سبحانه وتعالى عليهم بالتيه في صحراء سيناء أربعين سنة يخرجون من الصباح للبحث عن منفذ ولا يأتي عليهم المغرب إلا ويجدون أنفسهم في نفس المكان الذي ذهبوا منه في الصباح، ومات موسى وفي نفسه أشياء على بني إسرائيل، مات موسى وبنو إسرائيل في التيه مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ [المائدة:26] وسأل موسى ربه أن يدفن في الأرض المقدسة، فجعله الله يقبض هناك ويموت في الأرض التي كان يتمنى أن يدخلها مع بني إسرائيل.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو شئتم لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر) في داخل أرض فلسطين.

ومن هذه القصة نأخذ عدداً من الفوائد:

منها: هذه الطبيعة الملتوية لبني إسرائيل.

ومنها: كيف أن هذا النبي الكريم صابر وجاهد بهذه النفوس الملتوية، وأراهم الله آيات ومعجزات على يديه ومع ذلك ما استجابوا ولا انقادوا، كان فيهم صلحاءً كان فيهم قوم مستقيمون كان فيهم أناس رفضوا عبادة العجل مع هارون لكن ليس هم الأكثرية وإنما هم الأقلية، وحتى الصفوة الذين أخذهم لميقات لقاء الله قالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء:153] طلبوا رؤية الله سبحانه وتعالى.

من الدروس التي نأخذها من هذه القصة العظيمة: أن الاستعباد يخرب النفوس، ويجعلها تنقاد بسهولة لأي مخرف وناعق، والاستعباد من أشنع الأشياء.. استعباد الشعوب وتربية الناس تربية العبيد، ولا شك أن هذا النوع من التربية يجعل الناس أذلاء صاغرين خائفين، يمكن أن يضحك عليهم أي إنسان ويقودهم، ولذلك ترى الناس أحياناً رعاع همج إلا من رحم الله، يتبعون كل ناعق، لو جاء أحد فنعق بهم يميناً أو شمالاً ذهبوا معه، هذه نتيجة تربية الناس تربية العبيد وليس تربية الأحرار، هذه نتيجة الإذلال والكبت والضغط، ونتيجة التخويف، والتجويع؛ وهذه الأشياء يمارسها الطواغيت مع الناس لتركيعهم وإذلالهم، فإذا فقه دعاة الله بهذه النقطة عرفوا كيف يربون الناس تربية القادة وتربية الأحرار لا تربية العبيد، كان ذلك من أسباب نقلهم من عالم الضلال إلى عالم الهدى، ومن عالم الكفر إلى عالم الإيمان، ومن عالم الذل إلى عالم الحرية، ولذلك لما ذهب ربعي يخاطب رستم: [إن الله ابتعث هذا النبي لينقذنا به من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام] .

كيف واجه موسى قومه بعد اتخاذهم العجل
ومن الفوائد -أيضاً- المهمة في هذه القصة: كيف واجه موسى عليه السلام هذا الموقف العظيم؟

أولاً: غضب لله عز وجل، وبلغ من غضبه أنه لم يتمالك نفسه، فألقى الألواح، ولو ألقى أحد الألواح إهانةً كفر، أما موسى فقد ألقاها غضباً لله، لم يتمالك نفسه عندما رأى ما حصل، وذهب يقرع قومه ويوبخهم: أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ [الأعراف:150] لماذا فعلتم هذا؟ ألا ترون أنه لا يكلمكم؟ ونزل توبيخاً في قومه، وهم يستحقون هذا التوبيخ بما فعلوا هذا الظلم، ثم إنه حاصر مصدر الفتنة مباشرة واتجه إلى السامري ليحقق معه، ثم إنه أخذ مصدر الفتنة وهو العجل، وحرقه ونسفه في اليم نسفاً؛ بحيث لا يعود أبداً كما كان، فكان تعامل موسى مع القضية تعاملاً عجيباً فيه حزم، وسرعة التحقيق مع قومه، ثم التحقيق مع السامري، ثم محاصرة السامري وجعله بمعزل عن الناس، هذا مبتدع هذا رأس بدعة أضل الناس ولا بد من جعله بمعزل عن الناس.. وهكذا لا بد أن يعامل المبتدع؛ يعزل ولا يكلم أحداً ولا يكلمه أحد، ولذلك قال بعض المبتدعة لـأيوب رحمه الله: أريد أن أكلمك كلمة، قال: ولا نصف كلمة. يرفضون سماع البدع، الذين شقوا عصا طاعة النبي صلى الله عليه وسلم، والذين ابتدعوا في دين الله ما لم يأذن به.

وينبغي على الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى إذا رأوا مبتدعاً من مثل الصوفية أو غيرهم أن يحاصروهم، ولا يجعلوا له مجالاً ليتنفس ولا لينفث سمومه في الناس، وهذا الشيء لا بد منه، وينبغي أن يدقق جيداً في هذه المسألة حتى لا تستغل من أعداء الإسلام فيرمون العلماء والصالحين بالبدع؛ لأن هذا سلاح ذو حدين، يمكن أن يستخدمه أعداء الله في رمي أهل الصلاح بالبدعة حتى ينفر عنهم الناس، ولذلك ينبغي أن يعرف من هو المبتدع؟ وما هي البدعة؟ وما هي أنواعها؟ والفرق بين البدعة المكفرة وغير المكفرة، والفرق بين المسائل الاجتهادية وما يجوز الاجتهاد فيه، وما لا يقبل فيه الكلام بين المسائل الخلافية الاجتهادية المقبولة والخلافية التي ليس فيها الاجتهاد مقبولاً، لا بد من الوعي بجميع هذه الأشياء حتى يعرف من هو المبتدع؟ فقد يكون الذي يرمي الناس بالبدعة هو المبتدع.

وكذلك فإنه لا بد من عزل المسلمين عن أسباب الفتنة، كل شيء يثير فتنة بين المسلمين يعزل ويحاصر ويحذر منه، مصدر الفتنة في الدين، وكذلك لا يجوز تسمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتنة بين الناس؛ لأن الفتنة هي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن قال عن آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر: إنه يفتن أو يبذر بذور الفتنة فهو المفتون، والآمر والناهي بمنزلة عند الله، (ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) هذا أعظم الناس منزلة عند رب العالمين (أعظم الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) .

اتباع أصحاب الخوارق والفرق بين الكرامة والخارقة
كذلك من الدروس العظيمة: أنه ليس أي شخص أتى بأي خارقة من الخوارق اتبعناه لأنه خرق لنا العادة وأرانا شيئاً عجيباً ما رأينا مثله.

من قواعد أهل السنة والجماعة في الفرق بين الكرامة والخارقة التي تكون للمشوعذ والساحر، وهي من الفروق الهامة بل هي أهم الفروق، لو قال لك أحد: كيف تفرق بين الساحر الذي يطير في الهواء ويمشي على الماء وبين عباد الله الصالحين الذين ربما مشى أحدهم على الماء، أو الغلام في قصة أصحاب الأخدود لما أرسله الملك مع جنوده إلى عرض البحر في سفينة في قارب، قالوا: إن رجع إلى دينه وإلا فألقوه، فدعا الغلام ربه وقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانقلبت السفينة فغرقوا كلهم إلا هو، وجاء يمشي إلى الملك.. أين مشى الغلام؟ على الماء، لم يغرق، جاء إلى الملك يمشي.. إذاً كيف نفرق بين شخص أعطاه الله كرامة بأن يمشي على الماء، وبين ساحر مشعوذ يسير على الماء أو يطير على الهواء؟

الفرق في حال الشخص؛ لا بد أن نبحث في حال الشخص، لو أخذ رجل كفاً من حصى فقبض يده عليها ثم فتحها فإذا بالحصى تتحول إلى ذهب، كيف نعرف هل هذا تقي وهذه كرامة أعطاه الله إياها فقلب الحصى في يده ذهباً، أو أنه مشعوذ دجال، الجن أو الشياطين هم الذين اشتركوا معه في هذه الفتنة، وجعلوا مكان الحصى ذهباً، أو أنهم سحروا أعين الناس فأصبحوا يرون الحصى ذهباً؟

الفرق في حال الشخص، فإذا كان الإنسان على منهج السلف، وعلى عقيدة أهل السنة والجماعة يقوم بأمر الله، طائع لله قائم بالواجبات مبتعد عن المحرمات، ملتزم بالدين، لا يقول: أنا ولي!

الحذر من شخصيات كشخصيات السامري
وكذلك من الدروس المهمة في هذه القصة: الحذر من شخصيات كشخصيات السامري التي عندها قدرة على البهرجة بالقول، وخداع الناس، وصنع الأشياء التي تذهب القلوب وتحير الألباب، فهؤلاء الأشخاص لا بد من الحذر منهم، ومن عذوبة منطقهم وحلاوة ألسنتهم، أو دقة صنعتهم، فإن هناك كثيراً من يقوم بدور السامري بين المسلمين.

يجب على الداعية ألا يصاب بخيبة الأمل عندما يرى انتكاس من يدعو
ومن الدروس المهمة في هذه القصة: أن الداعية إلى الله سبحانه وتعالى يجب ألا يصاب بخيبة الأمل عندما يرى انتكاساً خطيراً قد حصل في قومه، ولو كان قد مشى معهم فترة طويلة، هب أنك دعوت شخصاً إلى الله، فاستجاب لك وتأثر ومشى معك، وأعطاك القيادة، فجعلت تعلمه وتذهب وتجيء معه، وتذهب من خطبة.. إلى درس.. إلى موعظة.. إلى حلقة علم.. إلى مجتمع، ثم ذهب عنك في إجازة من الإجازات وفوجئت بأنه وقع -مثلاً- في فاحشة والعياذ بالله، فهل يسقط في يدك وتقول: لم تعد هناك فائدة، بعد كل هذا التعب وقع في الفاحشة، أقول: لا أكمل معه المشوار، فنقول: لا. هذا موسى عليه السلام كم جاهد قومه لما وقعوا في الشرك الذي هو أكبر معصية على الإطلاق؟ التوحيد أعظم معروف في الدنيا والشرك أعظم منكر، لم يقل: هؤلاء لا فائدة منهم، أو قال: اللهم خذهم وزلزل بهم الأرض، وأسقط عليهم كسفاً من السماء وأرحنا منهم.. سنوات يجاهد فيهم ثم لا فائدة، يرجعون إلى الشرك بكل سهولة، خذهم أخذ عزيز مقتدر، لا. النبي عليه الصلاة والسلام أخبر عائشة، قال: (لقد لقيت من قومك ما لقيت) ومن أعظم ما لقي منهم: أنه خرج إلى الطائف يرجو فرجاً من أهل الطائف فطردوه، فهام على وجهه، لم يدرِ أين يسير، قال: (فلم أستفق إلا وأنا في قرن الثعالب ) موضع قريب من مكة، فأرسل الله إليه ملك الجبال يقول له: (ما تأمرني به أنفذ -الله عز وجل أرسلني إليك أنتظر أمرك- إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين -أطبق عليهم الجبلين، لأن مكة بين جبلين عظيمين- قال: لا. إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله) فإذاً: الداعية لا ييئس مهما حصل من الانحراف في قومه أو في الشخص الذي يدعوه، هذا هو ما ينبغي أن يكون عليه الداعية، فلا بد من العودة للعلاج والعودة أن نبدأ من البداية فلا بد أن يوطن الداعية نفسه على المفاجآت، وألا ييئس مهما حصل .

التعلق بالمنهج لا بالشخص
كذلك من الدروس: أنه يجب التأكيد على عدم التعلق بشخصية الداعية، وإنما يكون التعلق بمنهج الداعية، لو كان التعلق بشخصية الداعية فيعني أنه متى ما غاب الداعية عن المدعو فإن المدعو ينتكس؛ لأنه متعلق بشخصية الداعية، ينبغي أن نربط الناس بالمنهج لا بالأشخاص.. بالكتاب والسنة لا بزيد وعمرو.. نربط الناس بدين الله سبحانه وتعالى، حتى إذا غاب الداعية بقي المنهج موجوداً حياً في قلب المدعو، فيستمر على المنهج، ويستمر في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى والالتزام بهذا الدين، وهذه من الدروس البالغة الأهمية، وهذا الأمر قد يخطئ فيه عدد من الدعاة إلى الله عز وجل، يجعلون ارتباط الشخص بشخصيته هو، وأنه ينبغي أن يكون موجوداً دائماً، فلذلك إذا غاب فترة لأي ظرف تغيروا من بعده .

مراعاة أدنى المفسدتين
ومن دروس هذه القصة: مراعاة أدنى المفسدتين، فبقاء هارون في قومه على الشرك الذي حصل معهم مفسدة، وخروجه من عندهم مفسدة أخرى، فالحل أنه يبقى مراعاة للمفسدة الأعظم ودرءاً لها فيبقى، كان بإمكانه أن يتخذ إجراءً حاسماً ويتركهم وشأنهم، ولا يبالي بما حصل، لكنه آثر أن يبقى بناءً على أوامر موسى، وبناءً على مواصلة الدور في الدعوة لعل الله أن يهديهم، يحاول فيهم حتى يرجع موسى، يبقى على الحق الأصلي حتى يرجع موسى، يبقى على توحيد الله عز وجل والدعوة إليه حتى يرجع موسى .

غياب المربي عمن يربيه والداعية عمن يدعو
وفي هذه القصة أيضاً: أنه لا بد للمربي ألا يغيب عمن يربيه، ولا ينبغي للداعية أن يغيب عمن يدعوهم، فإن الغياب في هذه الحالة يؤدي إلى وقوع القوم في الانتكاسات، ومهما حاول ألا يربطهم بشخصه لكن وجوده سيبقى مهماً؛ لأنه هو مصدر الخير والإشعاع بالنسبة لهؤلاء القوم، ولذلك يحرص الداعية والمربي ألا يغيب عمن هو معهم حتى لا يحصل لهم انتكاس وانحدار.

من الدروس المتعلقة بهذه النقطة أيضاً: أنه لا بد أن يكون هناك بدائل، فإذا غاب عنهم لا بد أن يكون وراءه من يقوم بأمرهم، ولذلك موسى استخلف هارون، ومن أبسط الأشياء أن إمام المسجد لو غاب عن المسجد ينبغي أن يستخلف رجلاً ثقة يصلح للإمامة، أما أن يترك المسجد بلا إمام فهذا خطأ، وهذا يفعله بعض الأئمة في رمضان، وهذه من الأخطاء، يتركون مساجدهم ويذهبون عشرة أيام في نصف رمضان، من أول الشهر يصلي كم ليلة ويمشي ولم يضع مكانه ثقة يقوم بهم ويأمهم، فتحدث الفوضى في أوقات إقامة الصلوات، ويتقدم من ليس بأهل، والناس فيهم من قلة الفقه ما يجعل زعزعة الموقف في الصلاة وارد جداً، وربما صلوا ظهراً بدلاً من الجمعة قالوا: تأخر الخطيب، أو ما جاء الخطيب، اجلسوا لا يخطب أحد، فمن أبسط الأشياء: أن الثغرات التي يكون فيها الداعية إلى الله موجوداً لا ينبغي له أن يتركها، ولو تركها لا يطيل الغياب، ولو غاب لا بد أن يستخلف بدلاً منه من يقوم بدوره.

طريقة موسى في عتابه لهارون
ومن دروس هذه القصة أيضاً: طريقة موسى في عتابه لهارون عليه السلام، غضب موسى عليه السلام لكن كان غضبه، ما كان يغضب لشخصه أنه ما أعطي، لا. وإنما كان يغضب لله، لكن كان فيه شيء من الحدة، ولعل في شخصية عمر بن الخطاب مشابهة من شخصية موسى عليه السلام في بعض الجوانب، فموسى عاتب هارون بشدة لكن لما اعتذر هارون واسترحم موسى، قبل موسى عذره، وقال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي [الأعراف:151] ولم يصر على وضع الخطأ كله على هارون، وقال: أنت السبب لا، شخصية هارون ليست كشخصية موسى، يمكن أن يستجيبوا لموسى لكن قد لا يستجيبون لهارون، وقوة الشخصية فضل يؤتيه الله من يشاء، فإذا أنعم الله به على شخص لا يلوم الآخر الذي هو أقل منه ويضع كل الخطأ عليه؛ لأنه قد يكون معذوراً، ويكون سبب الانحراف ليس منه إنما هناك أشياء أقوى، فقبل موسى عليه السلام اعتذار هارون، وكان اعتذار هارون مشوب بالعواطف وبالاسترحام، كان هارون رجلاً رحيماً رقيقاً رفيقاً؛ ولذلك فإنه آثر أن يجمع شمل القوم، وعندما رجع موسى مع إنكاره للشرك لم يكن موافقاً، ولذلك بعض الناس قد يقول: لماذا لا نحتج في هذه القصة على بقاء الشخص في الصف ولو كان فيه شرك؟

نقول: أبداً، ليس مقبول على الإطلاق، لا يمكن، فبعض الناس قد يبقى في صف فيه شرك ويتعلق بقصة هارون مع قومه مع الفوارق العظيمة.

أولاً: هارون تبرأ من الشرك وواصل في دعوة قومه للعدول عن الشرك، فهل يفعله هذا ويعلن البراء من الشرك وأهل الشرك الموجودين في الصف؟ أم أنه يقول: أنشغل بأشياء أخرى وأدعهم وشركهم؟

إذاً: البراءة من الشرك وأهل الشرك واجبة.

ثانياً: هل الباقي في هذا الصف منصبه مثل منصب هارون خليفة؟ أو أنه شخص عادي لا يؤبه له؟

على الأقل هارون كان يرفع راية التوحيد، فالثابتين على التوحيد معهم هارون حامل راية وحامل لواء الشرعية، وعنده أمل أن يعود من يعود من هؤلاء الضلال ويلتحقوا به، ثم هناك أمر من موسى -وموسى نبي- أن يبقى، فأين أمر الوحي بالنسبة لهذا الشخص؟

ثالثاً: هل هذا الشخص ينتظر شخصية مثل شخصية موسى لترجع بعد حين يسير وتعالج الأوضاع؟

رابعاً: هل يوجد جماعة لأهل الحق كما كان على عهد هارون يكون معهم أو أنه واحد في هذا الخضم؟ ولذلك لا يجوز البقاء في صف أهل الشرك مطلقاً، يجب على المسلم أن ينحاز لأهل التوحيد، ولا يبرر لنفسه البقاء في صف فيه شرك ويحتج بقصة هارون لهذه الفوارق التي بيناها.

الخلط بين المسئوليات والعاطفة
ومن دروس هذه القصة العظيمة: عدم الخلط بين المسئوليات والعاطفة عند المحاسبة، لم يقل موسى: هذا أخي فحصل خير.. لأنه أخي فلا أحاسبه، بل حاسبه حساباً شديداً، ودقق معه، وحاصره بالأسئلة، ولم تغلبه العاطفة، فينبغي في مسألة المحاسبة في موقع المسئولية محاسبة أهل المسئولية وعدم الخلط بين ما ينبغي أن يفعل هنا، وبين مسألة العواطف والقرابات والصحبة.. ونحو ذلك: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام:152].

وكذلك من دروس هذه القصة: بقاء السامري معذب، ليكون عبرة حتى لا يسول لأي أحد أن يعمل عملاً مثل هذا وهو يرى السامري منبوذاً مقبوحاً لا يقترب أحد منه.

وكذلك: فإن في التعامل الأخوي بين موسى وهارون قدوة للآخرين، ومن الأشياء المهمة: أن الخلاف بين المربين ينبغي ألاَّ يخرج إلى الناس، الخلاف بين الدعاة لا ينبغي أن يخرج إلى الناس مادام أنه ضمن الدائرة الشرعية، أي: في مسائل الاجتهاد، اتبع القاعدة الشرعية العظيمة: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، لا يشنع بعضهم على بعض في مسائل الاجتهاد، فمثلاً: هذا يرى أن النزول في الصلاة يكون على الركبتين وهذا يرى أنه على اليدين، لا مشاحاة ولا تعليق ولا لوم ولا توبيخ ولا إنكار في مباحثة علمية.. هذا يرى أن أهم ما يحتاجه المسلمون الجهاد فيعمل في حقل الجهاد، وهذا يرى أن أهم ما يحتاجه المسلمون العلم الشرعي فيعمل في حقل تعليم العلم الشرعي، وهذا يرى أن المسلمين بحاجة إلى إغاثة فهو يعمل في العمل الإغاثي، والأجواء كلها تكمل بعضها بعضاً، ولا داعي للإنكار ما دام الجميع على معتقد سليم ومنهج صحيح، فكل شخص يؤدي كل ما يستطيعه؛ لأن الثغرات المفتوحة على المسلمين كثيرة في جهل وهجوم من الأعداء، وفي فقر ومرض وموت، وفي منكرات، فيفرغ جهده لإنكار المنكر.

إذاً: لا بد أن تتكامل الجهود مع المعتقد السليم العام لجميع الذين يسيرون ضمن دائرة أهل السنة والجماعة.

أقول -أيها الإخوة- في مسألة النقد بين الإخوان: موسى عليه السلام انتقد هارون وحاسبه، وهارون كان يرجو من موسى ألا يشمت به الأعداء، فينبغي أن نفرق بين قضية المحاسبة والنقد، وبين قضية التخطئة العلنية التي يكون مبعثها التشهير والتشفي، والتخطئة العلنية أحياناً يكون لا بد منها؛ لإحقاق الحق ولبيان الحق، والنبي عليه الصلاة والسلام خطأ أشخاصاً، لكن متى تكون التخطئة سلبية ومتى تكون التخطئة علنية إيجابية؟

إذا كانت لإحقاق الحق وبيانه، وأنه لابد منه لبيان الحق فلا بأس أن نخطئ، مثال: لو أخطأ الإمام في الصلاة، هل تقول: لا أرد عليه حتى لا أفشله عند الجماعة أو أظهر أنه لا يحفظ، لا. بل ترد على الإمام، ولكن إذا كان مبعث التخطئة التشفي والتشهير، وليس بيان الحق، فهذه التخطئة حرام وهي مما توغر الصدور، فينبغي معرفة الفارق بين هذا وهذا.

ثم إن من النقاط المهمة في هذه المسألة: قضية ستر جميع العيوب، المهم ألاَّ يظهر عيب للناس مهما حصل بحجة عدم نشر الغسيل، هذه المسألة غير صحيحة بإطلاقها، لكن الأخطاء التي لا يفهمها ولا يدركها العامة، لا تخطئ أمام العامة شيء على جنب ينبغي أن يكون هذا هو الأدب، والأشياء التي ليس من المصلحة إشهارها لا تشهر، لكن أن يرفض الإنسان أي نقد حتى يبقى في الظاهر للناس سليماً من أي نقد بأي صورة، فهذا -أيضاً- خطأ (كل بني آدم خطاء) .

وينبغي أن نفرق -أيضاً- بين الخطأ الذي يتعدى إلى الناس وبين خطأ الشخص في نفسه، لو كان الشخص يخطئ في نفسه نبهناه في نفسه، لكن لو كان خطأً متعدياً للناس لا بد أن نبين للناس ولو علموا أن فلاناً هو مصدر الخطأ، لو قام شخص وتكلم بكلام باطل على الناس، فقام شخص ورد عليه الرد الحق هذه تخطئة علنية، لكن لا بد منها؛ لأنه نشر خطأه على الناس، لكن لو أنه عمل منكراً بينه وبين نفسه هل يجوز التشهير به؟ هل يجوز أن يقوم شخص بين الناس ويقول: فلان فعل كذا، ما يخاف الله، ارتكب المنكر الفلاني، هذا لا يجوز، التشهير هنا حرام، كذلك ما ينصب من التخطئة على المناهج التي فيها أخطاء لا بد من البيان؛ لأن الناس قد يتبعون هذا النهج الخاطئ، فلا بد من بيانه، ويبقى لصاحب الفضل فضله وخطأه، ينبغي أن يعلم إذا كان منشوراً.

ومن الفوائد كذلك في هذه القصة: عظم نعمة الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة بأن جعل توبتها كلمات، وتوبة بني إسرائيل كانت القتل، الواحد مهما أجرم لو أشرك بالله يتوب إلى الله: (من حلف فقال في حلفه: باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله) لو قال شخص لك: أنا أخطأت، وقلت: بذمتي.. بأمانتي.. برأس أولادي.. بحياة أبي وحياة أولادي.. ونحو ذلك، وشرفي وأمانتي، كيف أتوب؟ هذا حلف بغير الله: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) فلتقل له: إن كفارتها أن تقول: لا إله إلا الله (من حلف فقال في حلفه باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك، فليتصدق) على عادة الجاهلية تعال نتقامر.

فتأمل في عظمة الله على هذه الأمة أن الإنسان لو وقع في الشرك كفارته أن يتوب إلى الله، والتوبة كلمات يستغفر الله ويوحد الله ولو شرك، لكن بني إسرائيل لما وقعوا في هذا الشرك كانت عقوبتهم القتل، لا توبة إلا بالقتل، ويمكن أن يقول بعض الناس: هذا شيء عظيم، لماذا أوجب عليهم هذه الطريقة الشنيعة في التوبة؟ نقول: لأنهم يستحقون ذلك لو نظر في التواءات القوم وانحرافاتهم وعرفها لرأى أنهم يستحقون ذلك، ثم إن فضل الله عليهم عظيم، فقد جعل المقتول شهيداً والحي تيب عليه.

ليس الخبر كالمعاينة
وكذلك من دروس هذه القصة أنه: (ليس الخبر كالمعاينة) وهذا حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه أحمد والحاكم وغيرهما، عن ابن عباس مرفوعاً: أخبر الله موسى لما استلم الألواح أنه فتن قومه من بعده وأضلهم السامري، خبر الله صدق لا شك فيه؟ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122] ولما رجع موسى إلى بني إسرائيل كان يعلم يقيناً أن قومه قد عبدوا العجل؛ لأن الله أخبره بذلك، لم يلق الألواح لما قال الله له: فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ [طه:85] ولكنه ما ألقاها إلا عندما رجع إلى قومه فرآهم بعينيه يعبدون العجل.

إذاً: الخبر ليس كالمعاينة، يمكن أن يقال لك: فلان حصل له حادث فضيع وحصل له كذا وكذا، تتأثر لكن إذا رأيته ونظرت إليه ورأيت ما حل به فعلاً من الأشياء المفضعة فإن الشفقة والشعور والألم سيكون أكثر.. لماذا؟ لأن النظر ليس كالخبر، والخبر ليس كالمعاينة، وهذه مسألة لا بد أن تراعى، ومن راعاها كان حكيماً في كثير من تصرفاته.

تقبل الوصية ولو كان فيها شدة
وكذلك من دروس هذه القصة: أنه ينبغي تقبل النصيحة ولو كان فيها شدة، يقول موسى لهارون: وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142] قد يرى الإنسان هذه الكلمة ثقيلة، لكن موسى يعرف طبيعة بني إسرائيل، خبرهم عنده لأنه عاش معهم منذ صغره فهو يعرف طبيعة قومه، ولذلك كان شديداً في وصيته لأخيه: وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142] فالوصية ولو كانت شديدة فالإنسان يتقبلها، ليس هناك غضاضة أن يقبل الوصية ولو كانت شديدة.

لا ينبغي التوقف في الحرام
وكذلك من دروس هذه القصة: أن الحرام لا ينبغي التوقف فيه، ولذلك من سفاهة عقول هؤلاء عباد العجل أنهم قالوا: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [طه:91] لا نغير حتى يرجع إلينا موسى، جاء في حديث الفتون أن بعضهم توقفوا، وهؤلاء المتوقفين توقفهم غلط؛ لأن التوقف ضلال، ولذلك الإمام أحمد رحمه الله لما ظهرت طائفة تقول: لا نقول القرآن مخلوق أو غير مخلوق، هؤلاء الواقفة، بدعهم الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وقال: إن قولاً شر عظيم. فمسألة التوقف في تخطئة المنكر أو الخطأ لا يجوز أن يقول إنسان: أتريث وهو يعلم أنه شرك، ليس هناك تريث ما دمت علمت أنه شرك لا بد من إنكاره، لكن لو أنه لا يدري هل هذا خطأ أم لا يقول: أتوقف في الإنكار حتى أسأل عالماً، فإذا قال لي: هذا خطأ أنكرت وإلا سكت.

وكذلك لا بد من تبيان العقيدة الصحيحة عند محاربة الشرك، موسى لما تخلص من العجل وتخلص من السامري وقضى على الفتنة ماذا قال بعدها؟ إِنَّمَا إِلَهُكُمْ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [طه:98] فإذاً بين لهم من هو إلههم سبحانه وتعالى: إِنَّمَا إِلَهُكُمْ اللَّهُ [طه:98] مبيناً لهم.

ومن فوائد هذه القصة: خطورة أصحاب الموروثات السابقة عند انضمامهم للصف، فهذا السامري الذي قيل: أنه كان من قومه من يعبدون العجل فأظهر الإسلام ودخل مع بني إسرائيل، كيف صار خطره عظيم؟

لذلك لا بد من الانتباه لأصحاب الموروثات السابقة الذين يدخلون في الصف فيفسدون ويخربون.

ومن فوائدها كذلك: أن وجود سلبية المربي لا يمنع من التلقي عنه والتأثر به، والعلة التي لا تكون قادحة لا تجعل الإنسان بمعزل عن التأثير والإمساك بزمام الأمر؛ لأنه ما من إنسان يخلو من سيئات، لا بد أن يكون كل واحد عنده أخطاء وسلبيات، ولذلك إذا كان الشخص سجاياه الحميدة أكثر من أخطائه فهذا مرضي يناصح بأخطائه، لكن لا شك أن موقع القدوة والقيادة يتطلب وجود صفات عالية، وأن تكون الصفات السلبية أقل ما يمكن.

كذلك من فوائدها: أن الإنسان عليه ألا يتحمس وينفعل جداً ويزيد في التخطئة والهجوم؛ لأنه لو اكتشف أن رأيه خطأ سيكون الانسحاب عليه صعباً، لو سمع أحد أن فلاناً أخطأ فذهب يشنع عليه ويصب عليه غضبه ويعنفه تعنيفاً شديداً، ثم بعد ذلك يتضح له أن القضية ليست كما سمع، وأن المسألة فيها اختلاف، وأن الرجل هذا قد يكون له عذر، فسيكون الانسحاب شديداً، ولذلك نأخذ من قضية شدة موسى مع هارون في البداية أن الإنسان إذا أراد أن يخطئ غيره عليه أن ينظر في ظرفه وعذره جيداً، وألا يشتد في التخطئة ما دام لم يعرف كل ملابسات الموضوع، فقد يكون الانسحاب صعباً عليه.

فائدة من قوله تعالى: (هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ )
وكذلك فإن هناك فائدة مهمة للغاية في قولهم: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88]: لقد حاولت الفئة الضالة إطفاء الشرعية على هذا الانحراف، فقالوا لبقية القوم: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى [طه:88] حاولوا إطفاء الشرعية على هذا العجل وأن يجعلوه مقراً: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى [طه:88] وهذه الفائدة لا شك أن لها أثراً في نفوسنا عندما لا نغتر بأي شيء مكتوب على الإسلام، أو هذه القضية إسلامية، أو هذا الشيء إسلامي دون أن نعرف حقيقته، فمحاولة أعداء الإسلام لإطفاء الشرعية على كثير من المناهج المنحرفة وعلى كثير من الكيانات، وعلى كثير من الشخصيات، وعلى كثير من الكتب، محاولات لا شك أن القصد منها تضليل المسلمين.

على سبيل المثال: لو وجدت أي لحم مكتوب عليه: مذبوح على الطريقة الإسلامية، هل مجرد أن عليه ختم مذبوح على الطريقة الإسلامية أي: أنه كان مذبوحاً على الطريقة الإسلامية؟ محاولة إطفاء الشرعية على هذه اللحوم -مثلاً- من قبل أي تجار أو جهات مصدرة هل تجعل هذه القضية شرعية بمجرد أنه كتب عليها ذلك؟ إذا كانوا قد ذبحوا السمك على الطريقة الإسلامية فما بالكم ببقية الأشياء التي يصدرونها للمسلمين من الأفكار والمناهج غير مسألة السمك، مما هو أخطر من السمك بكثير، ويحاول اليوم عدد من أصحاب المناهج المنحرفة أن يضفوا الشرعية على اتجاهاتهم، ومن أخطرهم في نظري في هذا الوقت أصحاب الفكر العقلاني أو الإسلام المستنير، أو الإسلام الحضاري كما يسمون أنفسهم، وهؤلاء يقولون: لا بد من الموافقة بين الإسلام وبين واقع العالم الذي وصل إليه، فإذا كان العالم اليوم يرفض -مثلاً- الرق والإسلام فيه أشياء تفيد بجواز الرق، فلا بد أن نجد لهذه الأدلة صرفة، وأن نخرجها إذا كان العالم لا يقبل فكرة أهل الذمة ولا يقبل فكرة دفع الجزية، وهكذا مسائل وأفكار خطيرة.. إذا كان العالم لا يقبل حديث: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) ولو قلنا بهذا الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه في محفل من الناس وفيهم غربيين مفكرين عالميين قلنا لهم: عندنا نحن المسلمين لا يجوز للمرأة أن تتولى ولاية عامة، فسيقولون: ظلمتم المرأة! لماذا تجعلونها في مستوى ثانٍ؟ لماذا لا تتولى الوزارة والقضاء والرئاسة؟

فيحاول بعض العقلانيين أن يضعف الحديث، ويستدل باستدلالات منحرفة، إذا كان العالم لا يقبل فكرة الجهاد اليوم ويقول: إن الجهاد هو اعتداء على مجتمع آخر أو على كيان آخر، والجهاد ما وضع في شريعتنا إلا جهاد دفاعي هجومي، ويحاول العقلانيون اليوم أن يثبتوا أن الجهاد دفاعي فقط، وأنه ليس هناك جهاد اسمه جهاد هجومي في الإسلام، والله يقول: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة:36]، قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [التوبة:29] ونص: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29] قال العلماء: لا تقبل منه إذا أرسل غلامه أو خادمه ليدفعها لا بد أن يأتي بنفسه؛ لأن الله يقول: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ [التوبة:29] أي: يسلمها بيده بنفسه، ثم قال: وينبغي على الإمام أن يطيل وقوفهم عند بيت المال إذلالاً لهم ثم يقبلها منهم ولا يقبلها منهم مباشرة؛ لأن الله قال: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29] نسأل الله أن يبلغنا هذا الوقت الذي يطبق فيه هذه الآية.

فأقول: إن من أخطر الناس الذين يحاولون إطفاء الشرعية اليوم على مناهجهم المنحرفة هم العقلانيون المنحرفون أو أصحاب الفكر المستنير.

من مداخلهم: الموسيقى الإسلامية، والفن الإسلامي، والرقص الإسلامي، هذا ما طرحوه بوضوح وصراحة، وقالوا: أسلمة كل شيء لا بد أن نؤسلم الفن ونؤسلم التماثيل فن النحت الإسلامي، الرقص الإسلامي، هذا كله هراء، هذا ما يطرحونه ويجاهرون به في مقالاتهم.

كذلك من فوائد هذه القصة: كيف يتحرج الإنسان من الشيء الذي ليس فيه حرج ويقع في الشيء العظيم والطامة، قالوا: هذه حلية تورعنا منها خفنا أن تكون ليست حلالاً علينا أخذناها من الفرعونيين القبط وهربنا بها، ليست حلال علينا، فنبذناها وألقيناها، ثم عبدوا العجل، هؤلاء الذين قال في مثلهم ابن عمر في قضية أهل العراق قتلوا الحسين بن علي ابن بنت النبي صلى الله عليه وسلم وحبيبه، ثم جاءوا يسألون: هل قتل البعوض من محظورات الإحرام أو لا؟ وهذه المسألة قضية التحرج من الأشياء اليسيرة والوقوع في الأشياء العظيمة، هذا ديدن كثير من الناس، تجدهم اليوم يقولون: هو واقع في الربا والزنا، وإذا جاء على عشر ذي الحجة في الأضحية قال: سقطت مني شعرة وأنا أحك ماذا أفعل؟ الأضحية بطلت أم لا؟ أنا قلق أخبروني، الله أكبر! أنت الآن قلق على الشعرة التي سقطت بالحك، ولست قلقاً على الملايين الموجودة في البنك تأخذ عليها ربا وفوائد محرمة! وكذلك في الإحرام يسأل: يجوز ترجيل الشعر أم لا؟ وتراه يغتاب ويلعب ورقاً في الحج، ويفعل كل المحرمات ويمكن أن يستمع الأغاني، وإذا ذهب يطوف حول الكعبة نظر للنساء، وربما أبطل حجه أو عمل شيئاً خطيراً، ثم يقول: سقطت شعرة.. إن مسألة التورع عن الأشياء الصغيرة والوقوع في الأشياء العظيمة هذا منهج بني إسرائيل.

ثم نلاحظ -أيضاً- درساً في الفتنة بالذهب الذي هو معبود اليهود الأصيل.

إن قضية العجل تبين لنا تغلغل الذهب في نفوس اليهود، وأنهم فتنوا بالعجل المصنوع بالذهب وأن فتنتهم هي الذهب، وهم الذين يملكون أكثر الذهب في العالم اليوم ولا شك، فيتبين لنا فتنة هؤلاء القوم بهذا الذهب في القديم والحديث.

لعل هذه بعضاً من أهم الدروس والفوائد التي تؤخذ من هذه القصة وهي قصة عظيمة جداً جديرة بالتأمل، والله سبحانه وتعالى ما قص علينا هذه القصة ولا غيرها من القصص إلا ليتدبرها أولو الألباب، ويتعظ بها المتعظون، ويأخذ من فوائدها الذين ينهلون من حياض هذه الشريعة وينجون من مواردها.

فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، والله تعالى هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل، وإلى طريق الحق والثواب.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

همسات ايمانية
2015-06-22, 05:37
يتبع باذن الله

*رضاك ربي*
2015-06-22, 15:11
موضوع قيم بارك الله فيك

همسات ايمانية
2015-06-29, 12:52
الثلاثة الذين خلفوا في سورة التوبة
{ وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لاملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم * يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } ( التوبة:118،119).


قصة الثلاثة الذين خلفوا من أروع القصص و أكثرها تأثيرا في النفس مع أن السيرة النبوية الشريفة مليئة بالقصص المؤثرة التي تحرك الوجدان. هذه القصة قد أشار إليها القرآن الكريم في سورة التوبة في الآيات 118 - 119. و قد روى لنا تفاصيل القصة الصحابي كعب بن مالك رضى الله عنه و هو أحد هؤلاء الثلاثة , و القصة مذكورة في كتب السيرة و قد ذكر جانب منها في تفسير ابن كثير.

القصة بدأت عندما أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم المسلمين بالاستعداد للمشاركة في غزوة تبوك, و قد أوجب عليهم المشاركة في هذه الغزوة إلا أهل الأعذار كالمرضى و الضعفاء و الفقراء الذين لم يستطع المسلمون تجهيزهم للمعركة. و كعادتهم سارع الصحابة بالاستعداد تلبية لأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم.

كان الوقت المقرر لغزوة تبوك غير مناسب لكثير من الصحابة, فقد كان الحر شديدا و لم يكن أهل المدينة يقدمون على أسفار طويلة و شاقة في مثل هذه الأجواء. المسافة من المدينة المنورة إلى تبوك تفوق الخمسمائة كيلومتر, فهي رحلة أيام طويلة على الأقدام و البعير. و زيادة على هذا كله, فقد كان هذا هو موسم حصاد الثمار بالنسبة لكثير من الصحابة الذين كانوا يمتلكون البساتين, فكان السفر في هذا الوقت بالتحديد يترتب عليه خسائر مادية فادحة.

و لكن مع كل هذه الصعوبات لم يتردد الصحابة في تلبية أمر النبي صلى الله عليه و سلم. أعد الصحابة أمتعتهم و تجهزوا للسفر مع رسول الله صلى الله عليه و سلم دون شكوى. و قد ذكر القرآن الكريم قوة إيمان هؤلاء الصحابة عندما وصف لنا حال الفقراء الذين لم يستطع المسلمون تجهيزهم للغزوة فقال سبحانه و تعالى: "ليس على الضعفاء و لا على المرضى و لا على الذين لا يجدون ما ينفقوا حرج إذا نصحوا لله و رسوله ما على المحسنين سبيل و الله غفور رحيم و لا على الذين إذا أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولو و أعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون (التوبة 91 - 92).

أما المنافقون فكرهوا الخروج خوفا على أموالهم و أنفسهم و فضلوا البقاء في بيوتهم لتجنب الحر و المشقة, و رأوا أنه من غير المعقول الذهاب في غزوة شاقة و صعبة في مثل هذا الوقت, فأضلتهم عقولهم و اتبعوا أهواءهم فذهبوا إلى النبي يخترعون الأسباب و الأعذار و يكذبون على رسول الله صلى الله عليه و سلم. حتى أنهم قالوا للناس لا تنفروا في الحر, فأجابهم الله تعالى في القرآن الكريم: "قالوا لا تنفروا في الحر, قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون فليضحكوا قليلا و ليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون" (التوبة 81 - 82).

و لا بد لنا من الوقوف هنا و النظر قليلا في عقلية المنافقين و طريقة تفكيرهم. فكثير منا اليوم عندما يقال لنا أن نطيع الله و الرسول صلى الله عليه و سلم في أمر ما نتفنن في اختراع الأعذار و الأسباب لنبرر لأنفسنا و للناس عدم امتثالنا لأوامر الله سبحانه و تعالى و رسوله صلى الله عليه و سلم. حتى أن بعض الأعذار التي نسمعها اليوم مطابقة لما قاله المنافقون في غزوة تبوك. فبعض أخواتنا العزيزات اللواتي لا يلتزمن بالحجاب عندما يسألن عن ذلك تكون الإجابة أحيانا أن الحر شديد في الصيف فالالتزام بالحجاب صعب و شاق! و أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها! و بعض الإخوة الأعزاء عندما تسألهم عن عدم التزامهم بصلاة الجمعة يبرر ذلك بالعمل و بالخوف من المدير أو المشرف! و لا يكاد أحد منا في هذه الأيام لا يقع في مثل هذه المواقف من تبرير أفعالنا بأي طريقة تهربا من الالتزام بالأوامر الشرعية التي تشق علينا. و في هذا خطر كبير على إيماننا لأن هذا من اتباع الهوى, فهدانا الله و وفقنا إلى الالتزام بالشرع حتى و لو لم يوافق أهواءنا و حتى لو لم تفهم الحكمة من وراء أحكامه عقولنا.

و لا بد لنا أن نتساءل كم من الآيات كانت لتنزل فينا و في أعذارنا هذه إذا كان القرآن لا يزال ينزل؟ فعلينا الحذر من هذا و مجاهدة أنفسنا على الالتزام بالأوامر الشرعية و لو كانت شاقة علينا و تسبب لنا التعب و الخسائر المادية. هذه كلها فتن و اختبارات نتعرض إليها و سوف نسأل عنها يوم القيامة.

و فعلا كانت غزوة تبوك اختبار لإيمان الصحابة و نجح في هذا الاختبار كل من امتثل أمر النبي, فعندما وصل المسلمون إلى تبوك, تبين لهم أن جش العدو الذي كانوا يتوقعون لقاءه قد انسحب عندما علم بقدوم المسلمين. فلم يحصل قتال و كانت المعركة في غزوة تبوك هي معركة ضد الأهواء و ضد وساوس الشيطان. و لكن الرحلة كانت شاقة و أصاب المسلمون فيها من الجوع و شدة الحر ما شق عليهم. و لكنهم نجحوا في الاختبار و أثبتوا إيمانهم و حبهم لله و رسوله صلى الله عليه و سلم. و أما المنافقين فقد خسروا خسرانا مبينا بين الفضيحة في الدنيا و العقاب في الآخرة.

عندما عاد المسلمون إلى المدينة توجه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المسجد كما كانت عادته بعد العودة من السفر لصلاة ركعتين, فجاءه المنافقون الذين تخلفوا عن الغزوة يعتذرون إليه و يقدمون الأعذار المكذوبة حتى يعفو عنهم رسول الله صلى الله عليه و سلم. و كان عليه الصلاة و السلام يقبل منهم الأعذار و يستغفر لهم, و لكن الله سبحانه و تعالى فضحهم و كشف كذبهم في القرآن الكريم في سورة التوبة الآيات 90 – 96.

أما هؤلاء الثلاثة الذين خلفوا فلم يكونوا كالمنافقين, بل كانوا مؤمنين صادقين و لكنهم وقعوا في المعصية. و كان من هؤلاء الثلاثة كعب بن مالك رضي الله عنه و قد حكى لنا قصته و قد وردت في الصحيحين. فكان مما قاله كعب ابن مالك: "كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزاة والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة". و قال أيضا: "وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقضى شيئا فأقول في نفسي أنا قادر عليه فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد فأصبح رسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا فقلت أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئا ثم غدوت ثم رجعت ولم أقض شيئا فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو وهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت فلم يقدر لي ذلك فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصاً عليه النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ( ما فعل كعب )؟ . فقال رجل من بني سلمة يا رسول الله حبسه برداه ونظره في عطفيه . فقال معاذ بن جبل بئس ما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه الإ خيراً . فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ."

و من هذا نرى أن كعب بن مالك كان يريد الخروج مع المسلمين و قد نوى ذلك و لكنه ظل يأخر الخروج فوقع في معصية رسول الله صلى الله عليه و سلم. و لذلك فعلينا أن نسارع إلى الامتثال بالشرع و لا نتأخر في ذلك حتى لا تسول لنا أنفسنا أو أهواءنا فنضل عن الصراط المستقيم. هذا و مع أن المشقة كانت نفسها على جميع الصحابة و لم يكن أحد منهم يحب الخروج في شدة الحر و في هذا الوقت و لكنهم جاهدوا أنفسهم على طاعة رسول الله صلى الله عليه و سلم و عدم التردد في ذلك, فلنا فيهم أسوة حسنة.

ثم يكمل كعب بن مالك القصة و يحكى عما كان منه عندما علم بعودة المسلمين من تبوك: "فلما بلغني أنه توجه قافلا حضرني همي وطفقت أتذكر الكذب وأقول بماذا أخرج من سخطه غدا واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل وعرفت أني لن أخرج منه أبدا بشيء فيه كذب فأجمعت صدقه وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين ثم جلس للناس قلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال ( تعال ) . فجئت أمشي حتى جلست يديه فقال لي ( ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك )؟. فقلت بلى إني والله - يا رسول الله - لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلاً ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله لا والله ما كان لي من عذر والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك )."

و لا بد لنا من الوقوف هنا لنتأمل صدق هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه, فمع أنه رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم يستغفر للمنافقين و المخلفين الذين قدموا الأعذار, إلا أنه لم يستطع أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم و علم أنه حتى لو صدقه رسول الله فإن الله سبحانه و تعالى يعلم ما في صدره. فعلم أنه لن يستطيع أن يصحح ذنبه الأول بارتكاب ذنب آخر و علم أنه لا بد له من تحمل مسؤولية ذنبه و الاعتراف بخطأه و علم أنه لا ملجأ من الله إلا إليه!

و قد حكى أيضا كعب بن مالك عما حصل بعد هذا الموقف فقال: "فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المتخلفون قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك . فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي ثم قلت لهم هل لقي هذا معي أحد ؟ قالوا نعم رجلان قالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك فقلت من هما ؟ قالوا مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما لي" فحتى بعد إلحاح الناس عليه رفض كعب بن مالك أن يكذب و علم أن الكذب لا ينبغي أن يكون من المسلم.

ثم حكى عن مقاطعة الناس له فقال: "ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ؟ ثم أصلي قريبا منه فأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام فقلت يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله ؟ فسكت فعدت له فنشدته فسكت فعدت له فنشدته فقال الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار."

فتخيل أخي المسلم هذا الموقف و هذه الشدة. لا أحد يرد السلام و لا حتى ينظرون في وجهه, و مع هذا لم يغير هذا ما في قلبه من حب لله و رسوله و للإسلام و المسلمين. فيا ليتنا نتبع أخلاق هذا الرجل. فكم من المسلمين اليوم إذا لقي ما يكره من أخيه المسلم, فبدلا من أن يعفو و يصفح, تجده يفجر في المخاصمة. و هذا من علامات المنافق أنه إذا خاصم فجر. فلا بد بنا من العمل على المحافظة في علاقاتنا الأخوية و على عقيدة الولاء و البراء حتى مع من قد يظلمنا أو قد نرى منه ما لا نحب. و إن كعب بن مالك ضرب لنا مثلا في الولاء و البراء لا بد لنا من الاقتداء به, فقد حكى لنا عن محاولات أعداء الإسلام بتجنيده ضد المسلمين.

يقول كعب بن مالك: "فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشأم ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له حتى إذا جاءني دفع إلي كتابا من ملك غسان فإذا فيه أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك . فقلت لما قرأتها وهذا أيضا من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته بها"

فانظر إلى قوة الإيمان و الصلابة و عدم الميل إلى المصالح الشخصية الدنيوية. و من المحزن جدا و المخجل أننا نرى بعض الجماعات الإسلامية تختلف مع بعضها البعض, فترى منهم من يستعين بالأجنبي الكافر على أخوه المسلم, مما يناقض عقيدة الولاء و البراء و يناقض حتى العقل السليم. فلا يمكن لإنسان سوي أن يتخيل أن الأجنبي سيأتي لمساعدة فريق من المسلمين ضد فريق آخر دون أي أهداف و مصالح ذاتية يريد أن يحققها على حساب المسلمين. و قد تكرر حدوث هذا مرارا مع المسلمين حتى أصبح الطفل الصغير يفهم اللعبة, و لكن للأسف لا تزال المصالح الدنيوية و الأموال و العصبية المذهبية و القبلية تدفع بعض المسلمين إلى الوقوع في مثل هذا, و الله المستعان.

ثم يحكي كعب بن مالك اشتداد المقاطعة بأمر النبي صلى الله عليه و سلم الثلاثة أن يعتزلوا نساءهم: "حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك فقلت أطلقها أم ماذا أفعل ؟ قال لا بل اعتزلها ولا تقربها . وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. قال كعب فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه ؟ قال ( لا ولكن لا يقربك ) . قالت إنه والله ما به حركة إلى شيء والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا . فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أميه أن تخدمه ؟ فقلت والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب ؟ فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا".

ثم تاب الله على كعب و على صاحبيه, فيقول كعب بن مالك: "فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر قال فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إلي رجل فرسا وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل وكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشراه والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتلقاني الناس فوجا فوجا يهونني بالتوبة يقولون لتهنك توبة الله عليك قال كعب حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس فقام إلى طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة قال كعب فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور ( أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ) . قال قلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال ( لا بل من عند الله ) . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر وكنا نعرف ذلك منه فلما جلست بين يديه قلت يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك ) . قلت فإني أمسك سهمي الذي بخيبر."

فوائد وعبر
و هنا درس هام جدا لا بد لنا أن نتعلمه. فقد كانت المعصية التي ارتكبها هؤلاء الثلاثة معصية مباشرة لرسول الله صلى الله عليه و سلم و متعلقة بالتخلف عن المعركة, فلا بد أنها معصية كبيرة, و لكن انظر إلى كيف استقبل المسلمون نبأ توبة الله سبحانه و تعالى عليهم! تسابق المسلمون لتبشيرهم بالخبر و لتهنئتهم و مصافحتهم. انظر إلى المحبة و الأخوة و خلو الصدور من الغل و الضغينة! سبحان الله الذي ألف بين قلوبهم, اللهم ألف بين قلوب المسلمين اليوم كما ألفت بين قلوب الصحابة! فهذه أخلاق الصحابة التي لا بد لنا أن نتأسى بها. فلا نتذكر دائما أخطاء الناس, و لا نقول دائما للمذنب هذا الذي فعل كذا و كذا, بل لا بد لنا من أن نفرح فرحا شديدا بكل تائب إلى الله مهما كانت ذنوبه من قبل!

و من أجمل ما يقول كعب بن مالك من قصته هو الدرس الذي تعلمه من هذا البلاء و هذه المحنة التي مر بها. فيقول: "فقلت يا رسول الله إن الله إنما نجاني بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا مالقيت . فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبا وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت . وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار - إلى قوله - وكونوا مع الصادقين } . فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا فإن الله قال للذين كذبوا - حين أنزل الوحي - شر ما قال لأحد فقال تبارك وتعالى { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم - إلى قوله - فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين }. قال كعب وكنا تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه فبذلك قال الله { وعلى الثلاثة الذين خلفوا } . وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو إنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه."
أهمية الصدق مع الله
أيها الناس! اتقوا الله عز وجل وكونوا من الصادقين، اصدقوا مع الله واصدقوا مع عباد الله {فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب! فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً}.

أيها المسلمون! إن الصدق بجميع أنواعه محبوب، وإن الصادق محبوب إلى الله وإلى الخلق، إن الله يرفع ذكره، ويزيد أجره، وإن أبين دليل على ذلك ما يحصل من ثناء الناس على الصادقين، في حياتهم وبعد مماتهم.

نعم. أهل الصدق أخبارهم مقبولة، وأماناتهم موثوقة، يكفي لذلك ما حصل لـكعب بن مالك رضي الله عنه عندما صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع الله ذكره، وأنزل في شأنه قرآناً يتلى إلى يوم القيامة.

نعم يا عباد الله! إن هذه هي الغبطة، والنعمة والفائدة الكبيرة.

مشروعية هجر أهل الفسق والمعاصي
عباد الله! لقد سمعتم ما حصل لهؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم من الهجر والمقاطعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الصحابة رضي الله عنهم، ومن أقاربهم؛ وذلك من تمام الإيمان، امتثالاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم هجروهم وقاطعوهم، حتى ضاقت الحال، وتراكمت الكربات، وضاقت عليهم أنفسهم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، حتى جاء الفرج من الله، فتاب الله عليهم، وأعلنت توبتهم في كتاب الله، تتلوها الأمة إلى يوم القيامة.

أما الذين نافقوا وكذبوا الله ورسوله فأنزل الله فيهم: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [التوبة:95-96]. أيها المسلمون! اعتبروا بهذه الآيات، يا ليتنا نطبق هذا الأدب الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة.

فسبحان الله, كان أهم ما استفاده كعب بن مالك من هذا الموقف هو أهمية الصدق بل و أن الصدق كان أعظم نعمة أنعمها الله عليه بعد نعمة الإسلام! اللهم اجعلنا ممن يفهمون الإسلام و يطبقونه في حياتهم كما فعل الصحابة رضوان الله عليهم, اللهم و أنعم علينا بالصدق كما أنعمت به على هؤلاء الثلاثة, رضي الله عنهم.

lenovodz
2015-06-30, 13:14
مشكور اخي الكريم

همسات ايمانية
2015-07-24, 14:30
قصة موسى والخضر عليهما السلام.لابي اسحاق الحويني 00تفريغ نصي00

روى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث سعيد بن جبير رحمه الله، قال: قيل لـابن عباس رضي الله عنهما: إن نوفل المثالي يزعم أن موسى الذي صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل، قال ابن عباس : كذب عدو الله، حدثني أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خطب موسى في بني إسرائيل يوماً حتى ذرفت العيون ووجلت القلوب، فلما انصرف تبعه رجل، فقال: يا نبي الله! هل هناك أعلم منك في الأرض؟ قال: لا. فعتب الله عز وجل عليه إذ لم يرجع العلم إليه، قال: بلى، إن لي عبداً في مجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: أي رب! وكيف لي به؟ قال: خذ حوتاً واجعله في مشكل ..) وفي رواية: (قال: خذ نوناً ميتاً -والنون: هو الحوت، وإليه نسب يونس عليه السلام وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا [الأنبياء:87]، فالنون هو الحوت، وكل سكان البحر يعد من الحيتان، فالسمك اسمه حوت، قال ابن عباس : اشتهيت حيتاناً، أي: أسماكاً- قال: خذ نوناً ميتاً واجعله في مشكل، فحيث فقدته فهو ثم -أي حيث فقدت هذا الحوت فالخضر هناك، فانطلقا، حتى إذا كانا ببقعة من الأرض قال موسى لفتاه: لا أكلفك كثيراً، أيقضني إذا رد الله الحياة في الحوت، قال: ما كلفت كثيراً، ثم إن الحوت ارتدت إليه الحياة وقفز في البحر، فأمسك الله عليه الماء وحبسه فلم يستطع أن يذهب.

فلما استيقظ موسى عليه السلام نسي غلامه أن يخبره أن الحوت قفز في الماء، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، فلما كانا من الغد قال موسى لفتاه: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف:62]، تذكر الفتى أن الحوت المشوي الذي كانا سيتغديان به قفز في الماء، قال: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الكهف:63].. فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [الكهف:64] رجعا يقصان الآثار مرة أخرى.

فلما ذهبا إلى هناك وجدا عبداً مسجى ببردة خضراء تحت قدميه وتحت رأسه، كالذي يلتحف بلحاف فيجعله تحت رأسه وتحت قدميه، فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه، وقال: وهل بأرضي سلام؟ من أنت؟

قال: أنا موسى.

قال: أنت موسى بني إسرائيل؟

قال: نعم.

-هذا هو السؤال الذي من أجله قال ابن عباس : كذب عدو الله؛ لأن الخضر عليه السلام قال: أنت موسى بني إسرائيل؟-

قال: وما تريد؟

قال: أريد أن أتعلم.

قال: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:67].

قال: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:69].

فجاء عصفور فنثر من ماء البحر نثرة، فقال الخضر: يا موسى! إن مثل علمي وعلمك بجانب علم الله عز وجل كمثل الماء الذي أخذه هذا العصفور بمنقاره فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:70].

فانطلقا، ووقفا على شاطئ البحر، فمر مركب فأراد الخضر وموسى أن يركبا، فقال الغلمان: عبد الله الصالح لا نحمله بأجر، فعمد إلى مكان في السفينة فخلع منه لوحاً بقدوم ووضع مكانه خشبة، قال موسى: قوم حملونا بغير أجره تخلع لوحاً من سفينتهم لتغرق أهلها، لقد جئت شيئاً إمراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:72]، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وكانت هذه من موسى نسياناً.

فلما نزلا من السفينة وجدا أُغيلمة يلعبون، فعمد الخضر إلى ولد وضيء جميل ذكي، فأخذه من رأسه وأضجعه على الأرض وذبحه بالسكين، فقال موسى: عمدت إلى نفس لم تعمل الحل فقتلتها بغير نفس، لقد جئت شيئاً نكراً، قال الخضر عليه السلام: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:72]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وكانت هذه شرطاً)؛ لأن موسى عليه السلام قال له: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا [الكهف:76] وهناك فرق في التحذير بين المرة الأولى والثانية، ففي المرة الأولى قال له الخضر: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:72]، وفي المرة الثانية قال له: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:75]، فكأنه استدار إليه وأشار إليه، ولذلك فرق النبي عليه الصلاة والسلام بينهما وبين أن الأولى كانت من موسى نسياناً فلم يشدد الخضر عليه، وكانت الثانية شرطاً في المفارقة، لذلك كأنه التفت إليه وحذره وأشار: ألم أقل لك -أي: في المرة الثانية- إنك لن تستطع معي صبراً.

فدخلوا إلى قرية: فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا [الكهف:77].. قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:78]، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يرحم الله موسى -وفي رواية: رحمة الله علينا وعلى موسى- وددنا أنه صبر حتى يقص الله عز وجل علينا من أخبارهما).

إن قصة موسى والخضر من القصص التي تشتمل على كثير من العبر، وقد عُني القرآن الكريم جد العناية في عرض القصة؛ لأن النفس مجبولة على التأسي بغيرها، كما قالت الخنساء لما قُتل أخوها:

ولولا كثرة الباكين حولـي على إخوانهم لقتلت نفسي

فبمصاب غيرك يهون عليك مصابك، إذا شعرت أن غيرك يشاركك في هذا المصاب خف عليك المصاب، وإنما يعظم الأمر إذا كنت متفرداً بالبلية، وإلى هذا المعنى إشارة في قوله تبارك وتعالى: وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف:39]، فالله تبارك وتعالى ينفي من أذهان أولئك هذه المشاركة التي يجدها العبد في الدنيا، فيقول له: ليس الأمر في الآخرة كالدنيا، إنك إذا رأيت غيرك في مثل مصابك هان عليك مصابك .. كلا! لا ينفعك أنك ترى جهنم كلها مليئة بالخلق يعذبون مثلك، إن هذا لا يخفف عنك شيئاً؛ لأن التسلية التي كنت تراها في الدنيا قد ذهبت: وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف:39].

وفي حديث الإفك أن عائشة رضي الله عنها لما بلغتها التهمة قالت: (بكيت يومي وليلتي حتى ظننت أن البكاء فالقٌ كبدي، فاستأذنت امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي).

قد يقول البعض: وما الفائدة من قول عائشة رضي الله عنها: (جلست تبكي معي)؟ فنقول: الفائدة هنا هي المشاركة التي تخفف عن الإنسان ألمه.

ولما بعث النبي عليه الصلاة والسلام ودعاء إلى الله تعالى في مكة، وعذب أصحابه العذاب الأليم، نزل القرآن الكريم يقص عليهم كثيراً من القصص، وأكثر النبي عليه الصلاة والسلام من ذكر القصص، فقص عليها آنذاك قصة الساحر والراهب، وفيها البلاء في الدين، حتى قال أبو ذر رضي الله عنه: (نالنا من الكفار شدة، فذهبنا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم نستنصره، فوجدناه عند الكعبة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا؟! فاعتدل وقال: لقد كان يؤتى بالرجل من قبلكم فينشر بالمنشار حتى يشق نصفين لا يرده ذلك عن دينه).

فإذا علمت أن أصحاب الأنبياء جميعاً عذبوا وأوذوا؛ علمت أنك لست في الطريق وحدك، هذا الطريق المستقيم طريق الله عز وجل الممتد من لدن آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة، لست الضحية فيه وحدك.

كم من العلماء عذبوا بل طارت رقابهم! بل كم من الأنبياء عذبوا وقتلوا! ألم يقتل يحيى عليه السلام وتقطع رقبته وتهدى إلى امرأة بغي، وهو نبي؟!

إذا تذكرت ما فعله اليهود بموسى عليه السلام هان عليك مصابك، وقد جاء في الصحيحين: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذ ببرده وجذبه حتى أثرت حاشية البرد في عنقه عليه الصلاة والسلام، وقال: يا محمد! أعطني من مال الله، فإنه ليس مالك ولا مال أبيك ولا مال أمك، فتبسم عليه الصلاة والسلام، وقال: يرحم الله أخي موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)، هنا يذكر النبي صلى الله عليه وسلم موسى عليه السلام، ويقول: (قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)، وليس المعنى أن موسى عليه السلام أوذي أكثر من نبينا صلى الله عليه وسلم في الحقيقة، لكن المعنى: أنه أوذي أكثر من هذا، أي: أكثر من هذا الفعل بعينه فصبر، فهنا يذكر سلفه في الأذى وفي البلاء فيحمله ذلك على الصبر.

فميل الناس إلى القصص فطري، وهو ميل شديد قوي؛ لذلك فقد عني القرآن الكريم عناية كبيرة بالقصص، وقد حدد الهدف من هذه القصص، فقال تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف:111]، أي: للذين يتفكرون ويأخذون الأسوة.

فقصة موسى والخضر من القصص التي قصها علينا القرآن الكريم، وزادها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضوحاً.

وفي هذه القصة مطالب:

هل الخضر ولي أم نبي؟
المطلب الأولى: هل الخضر ولي أم نبي؟ وقد يقول البعض: وهل ينبني على ذلك حكم؟ نقول: نعم.

قال ابن المنادي : أول عقده تحل من الزندقة أن يكون الخضر نبياً؛ لأن الصوفية يزعمون أن الولي أعظم من النبي، يقولون:

مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي

إذاً: فالولي عندهم أعظم من النبي، وهذا ضلال مبين وزندقة؛ لأن النبوة ليست مكتسبه؛ بل هي منحة من الله عز وجل.

فإثبات أن الخضر نبي أول عقدة تحل من هذا الحبل الطويل من الزندقة، وقد استدل العلماء على أنه نبي بقوله: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82]، أي: ليس لي دخل في الذي فعلت، ويؤكد أنه نبي أن الله تبارك وتعالى قال: وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [الكهف:65]، والله تبارك وتعالى لا يؤتي هذا العلم إلا لنبي.

أما كونه لم يرسل إلى قوم فهذا هو الغالب على الأنبياء، ولذلك فإن من الفروق التي يذكرها العلماء بين الرسول والنبي: أن النبي قد يشرف بالنبوة لذاته ولكن لا تناط به رسالة، فكثير من الأنبياء لم يبلغوا رسالة تذكر، لكنهم شرفوا بهذا المنصب بأن صاروا أنبياء، بخلاف الرسول؛ فإنه لا بد أن يرسل إلى قوم.

ولذلك قال العلماء: إن عدد الرسل أقل بكثير من عدد الأنبياء؛ لأن النبوة رتبه قد يشرف بها العبد بغير رسالة إلى قوم، بخلاف الرسل.

وأشهر الرسل خمسة هم أولو العزم الذين نوه الله تبارك وتعالى بشرفهم، وهم:

نوح عليه السلام، وإبراهيم عليه السلام، وموسى وعيسى عليهما السلام، ونبينا صلى الله عليه وآله وسلم.

وإنما كانوا من أولي العزم؛ لأنهم أرسلوا إلى جبابرة، وذاقوا من العذاب الأليم ما لم يذقه كثير من الرسل فضلاً عن الأنبياء؛ ولذلك وصفهم الله عز وجل بأنهم من أولي العزم.

إذاً: الخضر عليه السلام على قول أغلب العلماء نبي، فليس بعجيب أن يتعلم نبي من نبي، إن اليهود هم الذين أنكروا أن يكون موسى هو موسى بني إسرائيل؛ لأنهم قالوا: كيف يتعلم موسى من آخر وموسى نبي، والمفترض في النبي أنه أعلم أهل الأرض؟ لأنه غلب على ذهن موسى عليه السلام أنه أعلم الناس، ولم يتصور قط أن يكون هناك أعلم منه، لذلك لم يتردد في الإجابة بقوله لما سئل: هل هناك أعلم منك؟ قال: لا. لظنه أن الله تبارك وتعالى لا يعطي أحداً علماً أكثر منه، فأنكر بنو إسرائيل أن يكون موسى هو موسى بني إسرائيل.

الخضر ليس أعلم من موسى عليه السلام
هل الخضر أعلم من موسى عليه السلام؟

الجواب: لا ثم لا؛ لأن الخضر عليه السلام كان أعلم منه بهذه الجزئية التي علمه الله تعالى إياها؛ ليثبت لموسى عليه السلام أنه ليس أعلم من في الأرض فقط، أما في بقية العلم فلا شك أن موسى أعلم، ولا شك أن موسى أفضل من الخضر، ولذلك قال له الخضر لما نقر العصفور من ماء البحر: يا موسى! إنني على علم من الله لا تعلمه أنت، وأنت على علم من الله علمك هو لا أعلمه أنا.

بل لما قال له موسى عليه السلام: جئت أتعلم منك، قال: أما يكفيك أن الله كتب لك التوراة بيده.

إذاً: الخضر عليه السلام إنما هو أعلم من موسى بهذه الجزئية فقط، أما أنه أعلم من موسى بكافة الجزئيات الأخرى فلا.

وقد أراد الله عز وجل أن يؤدب موسى، وكذلك كل عالم ومفتي يجب أن يُرجع العلم إلى الله عز وجل، وهذا هو مستند قول العلماء بعد ذكر الفتوى: والله أعلم.

فليس معنى قول المفتي: (الله أعلم) أنه يشك في فتواه؛ بل إنه يكل علم ذلك على الحقيقة إلى الله عز وجل، فإن المفتي قد يفتي في القضية ويرى أن هذا هو الصواب من وجهة نظره، ويكون الأمر على خلاف ذلك، وعلى هذا الأمر تُخرَّج فتاوى العلماء التي أخطئوا فيها بأنهم كانوا يظنون أن الحق فيما ذهبوا إليه.

فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما جاءه رجل قد قطعت إصبعه، فقال: هل عندكم من شيء في دية الأصبع؟ فسكتوا، فاجتهد عمر رضي الله عنه رأيه، ورأى أن دية الأصابع تختلف باختلاف منافعها، فهذه الإصبع لا تساوي هذه؛ لأن هذه الإصبع تملك حركة الأصابع الأربع الباقية، فيقول: لا أساوي بينها في الدية؛ بل هي تختلف باختلاف منافعها. فهل هذا هو الصواب؟

الجواب: لا. لكن لم يكن عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه علم أكثر من ذلك، فاجتهد رأيه في هذا الأمر، وظل المسلمون يعملون بهذا الحكم حتى خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.

فلما بلغ هذا الأمر ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (هذه وهذه وهذه سواء، عشر من الجمال)، فساوى النبي عليه الصلاة والسلام بينها، فكل إصبع ديتها عشر من الجمال، فلو افترضنا أن الجمل بألفي جنيه، فإن دية الإصبع عشرون ألف جنيه.

إذاً: عمر رضي الله عنه أفتى بخلاف الصواب، لكن هل عليه إثم؟

الجواب: لا؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران)، أما الذي له أجر؛ فلأنه اجتهد فله أجر على الاجتهاد، وهو إفراغ الوسع في طلب الحق، فإن أصاب فله أجران: أجر إفرغ الوسع وأجر إصابة الحق.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.



تم كلام ابو اسحاق الحويني


فوائد وعبر
قال تعالى (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ـ60)

1ـ إطلاق الفتى على التابع . فتح الباري

2ـ سبب قوله هذا أن الله أوحى إلى موسى أن عبدا لنا هو أعلم منك عند مجمع البحرين ، فسار موسى إليه طلبا للعلم . ابن عثيمين

3ـ جواز أخذ الخادم في الحضر والسفر ، لكفاية المؤن وطلب الراحة . السعدي

4ـ أن المسافر لطلب علم أو جهاد أونحوه ، إذا اقتضت المصلحة الإخبار بمطلبه وأين يريده ، فإنه أكمل من كتمه فإن في إظهاره فوائد من الاستعداد له عدته وإتيان الأمر على بصيرة وإظهار الشوق لهذه العبادة الجليلة . ابن سعدي



(فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا ـ61)

1ـ أضاف الفعل إليهما مع أن الناسي هو الفتى وليس موسى ، ولكن القوم إذا كانوا في شأن واحد نسب فعل الواحد منهم أو القائل إلى الجميع ، ونسيان الحوت نسيان ذهول وليس نسيان ترك ، وهذا من حكمة الله وهو علامة لموسى أنك متى فقدت الحوت فثّم الخضر . والحوت قد اتخذ طريقه في البحر سربا ، والسرب هو السرداب أي أنه يشق الماء ولا يتلاءم عليه وهذا من آيات الله وكذلك كونه ميتا ثم صار حيا . ابن عثيمين



(فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ـ62 )

1ـ جواز إخبار الإنسان عما هو من مقتضى طبيعة النفس من نصب أو جوع أو عطش إذا لم يكن على وجه التسخط وكان صدقا . السعدي

2ـ استحباب إطعام الإنسان خادمه من مأكله وأكلهما جميعا . السعدي

3ـ طواعية الخادم لمخدومه ، وجواز الإخبار بالتعب ويلحق به الألم من مرض ونحوه ، إذا كان على غير سخط ، وفيه جواز طلب القوت والضيافة . فتح الباري

4ـ أن المعونة تنزل على العبد على حسب قيامه بالمأمور به ، وأن الموافق لأمر الله يعان مالا يعان غيره . السعدي

5ـ هذا من آيات الله فقد سارا قبل ذلك مسافة طويلة ولم يتعبا ، ولما جاوزا المكان الذي فيه الخضر تعبا سريعا من أجل ألا يتماديا في البعد عن المكان . ابن عثيمين



(قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجباـ 63)

1ـ قيام العذر بالمرة الواحدة وقيام الحجة بالثانية . فتح الباري

2ـ إضافة الشر وأسبابه إلى الشيطان على وجه التسويل والتزيين ، وإن كان الكل بقضاء الله وقدره . السعدي

3ـ أن محل العجب أن الماء سيال يمر به هذا الحوت ولم يتلاءم الماء عليه . ابن عثيمين



(قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصاـ 64 ـ فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ـ65)

1ـ استحباب الحرص على الازدياد من العلم والرحلة فيه ، ولقاء المشايخ وتجشم المشاق في ذلك ، والاستعانة في ذلك بالاتباع . فتح الباري

2ـ فضيلة العلم والرحلة في طلبه وأنه أهم الأمور ، كما فعل موسى . السعدي

3ـ البداءة بالأهم فالأهم ، فإن زيادة العلم وعلم الإنسان أهم من ترك ذلك والاشتغال بالتعليم من دون تزود من العلم ، والجمع بين الأمرين أكمل . السعدي

4ـ أن ذلك العبد وهو الخضرالذي لقياه ليس نبيا بل عبدا صالحا لأنه وصفه بالعبودية وذكر منة الله عليه بالرحمة والعلم ولم يذكر رسالته ولا نبوته ، ولو كان نبيا لذكر ذلك ، وأما قوله (وما فعلته عن أمري ) فإنه لا يدل على أنه نبي وإنما يدل على الإلهام والتحديث ، كما لأم موسى والنحل . السعدي

5ـ أن العلم الذي يعلمه الله لعباده نوعان : علم مكتسب يدركه العبد بجده واجتهاده ، وعلم لدّنيّ يهبه الله لمن يمن عليه من عباده . السعدي

6ـ النصوص تدل على أن الخضر ليس برسول ولا نبي إنما هو عبد صالح أعطاه الله كرامات ليبين أن موسى لا يحيط بكل شىء علما ، وأنه يفوته من العلم شىء كثير . ابن عثيمين ... واختار الإمام ابن باز أنه نبي لقوله (وما فعلته عن أمري)

7ـ علم الخضر هو علم الغيب وليس علم نبوة ولكنه علم خاص ، حيث أطلعه الله على معلومات لا يطلع عليها البشر . ابن عثيمين



(قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمنِ مما علمت رشدا ـ66)

1ـ التأدب مع المعلم وخطاب المتعلم إياه ألطف خطاب ، بخلاف ما عليه أهل الجفاء أو الكِبر الذي لا يظهر للمعلم افتقاره إلى علمه ، فالذل للمعلم وإظهار الحاجة إلى تعليمه من أنفع شىء للمتعلم . السعدي

2ـ تواضع الفاضل للتعلم ممن دونه ، فموسى بلا شك أفضل من الخضر ، فعلى هذا لا ينبغي للفقيه المحدث إذا كان قاصرا في أحد العلوم أن لا يتعلمه ممن مهر فيه وإن لم يكن محدثا ولا فقيها . السعدي

3ـ أدب موسى مع الخضر وتواضعه مع أفضليته ! ، وفي هذا دليل أن على طالب العلم أن يتلطف مع شيخه وأستاذه ، وأن يعامله بالإكرام . ابن عثيمين

4ـ كل إنسان أعطاه الله علما ينبغي أن يفرح أن يؤخذ منه هذا العلم ، لأن العلم الذي يؤخذ من الإنسان في حياته ينتفع به بعد وفاته كما ورد في حديث (أو علم ينتفع به ) صحيح مسلم . ابن عثيمين

5ـ إضافة العلم وغيره من الفضائل لله تعالى ، والإقرار بها وشكره عليها . السعدي

6ـ أن العلم النافع هو العلم المرشد إلى الخير ، وما سوى ذلك فإما أن يكون ضارا أو ليس فيه فائدة . السعدي



(قال إنك لن تستطيع معي صبرا ـ 67 ـ وكيف تصبر على مالم تحط به خبرا ـ68)

1ـ أن من ليس له قوة الصبر على صحبة العالم والعلم وحسن الثبات على ذلك أنه يفوته من العلم بحسب عدم صبره ، فمن لا صبر له لا يدرك العلم ، ومن استعمل الصبر ولازمه أدرك به كل أمر سعى إليه . السعدي

2ـ أن السبب الكبير لحصول الصبر إحاطة الإنسان علما وخبرة بذلك الأمر الذي أُمر بالصبر عليه ، وإلا فالذي لا يدري غايته وثمرته ليس عنده سبب الصبر . السعدي



(قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا ـ 69ـ قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شىء حتى أحدث لك منه ذكرا ـ70ـ)

1ـ الأمر بالتأني والتثبت وعدم المبادرة إلى الحكم على الشىء حتى يعرف ما يراد منه وما هو مقصود . السعدي

2ـ تعليق الأمور المستقبلية التي من أفعال العباد بالمشيئة . السعدي

3ـ أن العزم على فعل الشىء ليس بمنزلة فعله ، فإن موسى قال : (ستجدني إن شاء الله صابرا) فوطّن نفسه على الصبر ولم يفعل . السعدي

4ـ أن المعلم إذا رأى المصلحة في إيزاعه للمتعلم أن يترك الابتداء في السؤال عن بعض الأشياء حتى يكون المعلم هو الذي يوقفه عليها . السعدي

5ـ فيه توجيه من معلم لمن يتعلم منه ألا يتعجل في الرد على معلمه ، بل ينتظر حتى يحدث له بذلك ذكرا ، وهذا من آداب المتعلم ألا يتعجل في الرد حتى يتبين الأمر . ابن عثيمين



(فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا ـ 71)

1ـ جواز ركوب البحر في غير الحالة التي يخاف منها . السعدي

2ـ في قوله (فانطلقا) الفاعل موسى والخضر ، وسكت عن الفتى ، والذي يظهر ـ والله أعلم ـ أنه كان تابعا ، لكن لم يكن له تعلق بالمسألة ، فطوي ذكره . ابن عثيمين

3ـ أن موسى كان شديدا قويا في ذات الله ، فهو أنكر على الخضر ، وبين أن فعله ستكون عاقبته الإغراق ، وزاده توبيخا بقوله (لقد جئت شيئا إمرا) . ابن عثيمين



(قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا ـ 72 ـ قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا ـ73)

1ـ أن الناسي غير مؤاخذ بنسيانه ، لا في حق الله ولا في حق العباد . السعدي

2ـ أنه ينبغي للإنسان أن يأخذ من أخلاق الناس ومعاملاتهم العفو منها وما سمحت به أنفسهم ، لا أن يكلفهم ما لا يطيقون لأنه مدعاة إلى النفور والسآمة . السعدي

3ـ أن الإنسان ينسى ما سبق ، من شدة وقع ذلك في النفس . ابن عثيمين



(فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا ـ 74 )

1ـ أن الأمور تجري أحكامها على ظاهرها ، وتعلق بها الأحكام الدنيوية في الأموال والدماء وغيرها ، فظاهر هذه الأمور أنها من المنكر ، وموسى لا يسعه السكوت عنها في غير هذه الحال التي صحب عليها الخضر ، فاستعجل ، وبادر إلى الحكم ولم يلتفت إلى هذا العارض الذي يوجب عليه الصبر وعدم المبادرة إلى الإنكار . السعدي

2ـ القاعدة الكبيرة الجليلة وهو أنه يدفع الشر الكبير بارتكاب الشر الصغير ، ويراعى أكبر المصلحتين بتفويت أدناهما ، فإن قتل الغلام شر ، ولكن بقاءه حتى يفتن أبويه عن دينهما أعظم شرا منه ، فالخير ببقاء دين أبويه وإيمانهما خير من بقائه دون قتل وعصمته . السعدي

3ـ أن الغلام الصغير تكتب له الحسنات ولا تكتب له السيئات فهو زكي . ابن عثيمين

4ـ عبارة ( لقد جئت شيئا نكرا ) أشد من الأولى لأن خرق السفينة قد يكون به الغرق وقد لا يكون وهذا هو الذي حصل ، فلم تغرق السفينة ، أما قتل النفس فهو منكر حادث ما فيه احتمال . ابن عثيمين

5ـ أن القتل من أكبر الذنوب . السعدي

6ـ أن القتل قصاصا غير منكر لقوله (بغير نفس) . السعدي



(قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا ـ 75 ـ قال إن سألتك عن شىء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا ـ76)

1ـ شدة لوم الخضر لموسى ، لأنه قال له (ألم أقل لك) ولم يقلها في الأولى ، يعني أن الخطاب ورد عليك ورودا لا خفاء فيه ، ومع ذلك خالفت . ابن عثيمين

2ـ في قول موسى ( فلا تصاحبني ) إشارة إلى أنه يرى أن الخضر أعلى منه منزلة وإلا لقال (فلا أصاحبك) ! . ابن عثيمين



(فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجراـ 77ـ)

1ـ القاعدة الكبيرة هي أن عمل الإنسان في مال غيره إذا كان على وجه المصلحة وإزالة المفسدة أنه يجوز ، ولو بلا إذن ، حتى ولو ترتب على عمله إتلاف بعض مال الغير ، كما في أفعال الخضر . السعدي

2ـ ما أبهمه الله فلا حاجة إلى أن نبحث عن تعيينه . فالقرية لم يعينها الله عزوجل . ابن عثيمين

3ـ عدم الكرم نقص في الإيمان كما في الحديث ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ) متفق عليه . ابن عثيمين

4ـ في قول موسى (لو شئت لاتخذت عليه أجرا) لا شك أنه أسلوب رقيق فيه عرض لطيف . ابن عثيمين



(قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ـ 78)

1ـ أنه ينبغي للصاحب أن لايفارق صاحبه في حالة من الأحوال حتى يعتبه ويعذر منه . السعدي

2ـ أن موافقة الصاحب لصاحبه في غير الأمور المحذورة مدعاة وسبب لبقاء الصحبة وتأكدها ، كما أن عدم الموافقة سبب لقطع المرافقة . السعدي



(أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباـ 79)

1ـ أن العمل يجوز في البحر كما يجوز في البر . السعدي

2ـ أن المسكين قد يكون له مال لا يبلغ كفايته ولا يخرج بذلك عن اسم المسكنة ، فأخبر الله أن هؤلاء لهم سفينة . السعدي

3ـ استعمال حسن الأدب مع الله تعالى في الألفاظ ، فالخضر أضاف عيب السفينة إلى نفسه . السعدي



(وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا ـ80ـ فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما ـ81)

1ـ الغالب أن الوالد يؤثّر على ولده ، ولكن قد يؤثر الولد على الوالد . ابن عثيمين

2ـ أن الله أراد أن يتفضل عليهما بمن هو أزكى منه في الدين ، وأوصل في صلة الرحم ، ويؤخذ منه أنه يقتل الكافر خوفا من أن ينشر كفره في الناس . ابن عثيمين



(وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ـ 82)

1ـ أن العبد الصالح يحفظه الله في نفسه وفي ذريته . السعدي

2ـ أن خدمة الصالحين أو من يتعلق بهم أفضل من غيرها . السعدي

3ـ استعمال الأدب مع الله في الألفاظ ، فالخضر أضاف الخير إلى الله ( فأراد ربك) . السعدي

4ـ ما فعل الخضر كان بإلهام من الله وتوفيق ، لأنه فوق ما يدركه العقل البشري . ابن عثيمين .

5ـ أن هذه القضايا التي أجراها الخضر هي قدر محض أجراها الله وجعلها على يد هذا العبد الصالح ليستدل العباد على ألطافه في أقضيته ، وأنه يقدر على العبد أمورا يكرهها جدا وهي صلاح دينه كما في قضية الغلام ، أو هي صلاح دنياه كما في قضية السفينة . السعدي .
تتمـــة فوائد قصة موسى مع الخضـر ::
====================


تأملات تربوية من القصة للدكتور عثمان قدري مكانسي :ـ

القصة هذه من بدايتها إلى نهايتها نبع ثرٌّ من المعاني التربوية القرآنية الرائعة . في كل كلمة منحى بديع ولفتة راقية :
- " وإذ قال موسى لفتاه : لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو امضي حقباً " إن لموسى هدفاً محدداً يسعى لتحقيقه وهو ..
ا- يريد أن يلقى معلماً يتعلم منه صلاح أمره في دنياه وآخرته .
ب- في مكان محدد يلتقيان فيه .
ج- في وقت ينتظره المعلم فيه .
- وعلى التلميذ أن يسعى إلى المعلم لا أن يسعى المعلم إليه فهذا أكرم للعلم والمعلم والمتعلم فالعلم إن جاء سهل المتناول زهد المتعلم فيه . وأعظم للمعلم في عين المتعلم أن يسعى الأخير إلى الأول ليعرف قدره وقدر ما يحمله ، فيتعلق بهما .
- ونرى الإصرار العجيب على لقاء المعلم والنهل من علمه في قوله : " لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقباً " فهو مصمم على بذل الجهد ليصل إلى مبتغاه – لقاء الأستاذ في المكان المنشود - ولو أمضى عمره يبحث عنه " أو أمضي حقباً " والحقبة أربعون سنة كما قال العلماء ، فما بالك بذكر الجمع " حقباً " ؟! .إنه دليل على الهمة العالية والسعي الحثيث إلى العلم والعلماء . وما يزال العلم بخير مادام طالبوه يطلبونه في مجالسه ويوقرون حامليه ... وهذا نبي كريم موسى على جلال قدره وعلوّ مكانته يسعى إلى الرجل الصالح حين علم أن لديه علماً يُستفاد لم يحزْه موسى " وفوق كل ذي علم عليم " .
- مصاحبة الكبيرِ الصغيرَ فائدة لكليهما فالأول يشرف على تربيته ، ويعلمه الحياة ، ويصوب أخطاءه ، ويسدد خطاه . والثاني يخدمه ، ويعينه على قضاء حوائجه . وقد أفلح موسى في تربية الفتى " يوشع بن نون " إذ بعثه الله تعالى نبيا ً، فقاد مسيرة المؤمنين وحمل لواء الدعوة بعد أستاذه ، وفتح الله على يديه القدس الشريف" !.
- الإنسان ضعيف على الرغم من جلده في كثير من أموره ، ولو كان من أولي العزم . وأول دليل على ذلك أنّ موسى أصر على لقاء الرجل ولو طوى الأرض في سبيل هذا الهدف . لكنه إذ شعر بالجوع بعد السير الطويل واجتياز مكان اللقاء دون أن ينتبها إليه قال لفتاه " آتنا غداءنا ، لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً " .
- ولا بد أن نشير هنا إلى الأدب الذي ربّيَ عليه الصغير في التعامل مع الكبير، وإلى آفة النسيان التي ابتلي بها الإنسان للدلالة على ضعفه . فلما استيقظ موسى وسارا بحثاً عن الرجل الصالح نسي الفتى قصة الحوت على غرابتها وعجيب أمرها .
- ومن الأدب أيضاً مع الله تعالى أنْ نسَب الفتى نسيانه أمر الحوت إلى الشيطان ، واعتبر هذا النسيان عيباً. والعيب كله في الشيطان عدو الإنسان . مع أن الله تعالى كان أخبر نبيه موسى أنه سيلقى الرجل الصالح في المكان الذي يفقد فيه الحوت . فهو أمر مخطَّط له كي يحدد المكان فلا يخطئه .ً " .
- ومن الأدب التربوي في هذه القصة كذلك أن موسى حين علم بخطئه وخطأِ فتاه لم يشغل نفسه بلوم نفسه أو لوم صاحبه فهناك أمر مهم جداً عليهما تداركه قبل فواته . إنه لقاء الرجل المعلم . فماذا فعلا ؟ إنهما
أ – عادا سريعاً لم يضيعا الوقت ، والدليل على ذلك قوله تعالى : " فارتدا ..." وهذه الكلمة مع الفاء – حرف العطف والترتيب والتعقيب - تدلان على سرعة الحركة والعزم على الوصول بقوة إلى الهدف .
ب- عادا من حيث جاءا ، يستهديان بآثار الخطوات التي مشياها كي لا ينحرفا عن الصخرة " ... على أثارهما قصصاً ..." .
جـ - فكان عاقبة سرعتهما وجَدِّهما أن وصلا إلى الهدف فوراً " فوجدا عبداً من عبادنا ..." .
- بعض صفات المعلم الرباني :
أ- هو عبد من عباد الله تعالى ، والعبودية لله أعلى مراتب الإنسانية ، لأن صلة العبد بربه تسمو به، وتفتح له مغاليق الأمور . وقد ورد عن النبي أن هذا الرجل الصالح هو الخضر ، فقد روى الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله :" إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضراء " هذا حديث صحيح غريب ، والفروة هنا وجه الأرض . ... قيل : إنه عبد صالح غير نبي ، والآية تشهد بنبوته لأن بواطن أفعاله لا تكون إلا بوحي ..
ب- " آتيناه رحمة من عندنا " قيل هي النبوة . وقيل النعمة أيضاً . فهو رحيم . والمعلم الرحيم بتلاميذه يعمل على تعليمهم برفق ، ويتقرب إليهم ، ويتحبب إليهم ليأنسوا إليه فيحبوه ويأخذوا عنه علمه .
جـ- كان علم موسى بظواهر الأحكام ، وعلم الخضر معرفة بواطنها . كما أن العلم اللدني من الله مباشرة ، ليس لأحد من البشر فضل تعليمه .

- من أدب التعلم :
أ- التلطف في الطلب ، فلم يفرض موسى نفسه على الخضر على الرغم أن الله تعالى أخبر الخضر بلقائه ليتعلم منه . إنما تلطف في عرضه بصيغة الاستفهام التي تترك مجالاً للمسؤول أن يتنصل إن أراد .
ب- جعل نفسه تابعاً حين سأله " هل أتبعك .." فالتلميذ تابعٌ أستاذه مسلمٌ إليه قياده ، وهذا أدعى إلى التناغم بينهما .
ت- العلم يرفع صاحبه . وهذا ما أقرّ به موسى للخضر حين عرض عليه أن يتابعه شرط أن يعلمه " على أن تعلمن .. " وهذه التبعية ترفع المتعلم . أما التبعية من ذل أو لعاعة من دنيا يصيبها فسقوط للمتبوع ، وكبر للتابع .
ث- الواقعية في الطلب : فهو لم يطلب منه أن يعلمه كل شيء ، إنما طلب أن يعلمه شيئا مما علمه الله تعالى : " ... مما عُلّمْتَ .. " وهذا تواضع في الطلب فهو لم يكلف أستاذه شططاً ... لقد طلب العلم المفيد الذي تسمح به نفس معلمه .
ج- طلب النفيس من العلم : فالله تعالى علم الخضر علماً لدنياً نفيساً يريد موسى بعضه ، ولم يطلب العلم الدنيوي ، وإن كان مفيداً إنما طلب الهدى والرشاد الذي يبلغه المقام الأعلى في الدنيا والآخرة ، وحدد نوع العلم فقال :" مما علمت رشداً " وضد الرشد الهوى والضلال ، وهذا ما لا نريده .
ح- قوله تعالى " مما عُلّمْت رشداً " تذكير للمعلم أن الله تعالى أنعم عليه بالرشاد والهدى والسداد . ومن شُكْرِ النعم أن يعلّم عبادالله بعضاً مما أكرمه الله به ، فتزداد حظوته عند خالقه ، ويزيده علماً. ومن دل على خير كان له مثل أجر فاعله .
- وقد يشترط المعلم على تلميذه أن لا يستعجل في السؤال عن أمر من الأمور إلى أن
يحين الوقت المناسب لشرحه " قال : "فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً " . فقد لا يرغب بالتوضيح حتى يستكمل الأمر . وقد يرى المعلم اختبار
تلميذه في الصبر . وقد يكون المعلم نفسه قليل الكلام . وقد يكون ممن يعتمدون في التعليم على الملاحظة ... ولكل شيخ طريقته ، إن جاريته فيها تعلمت منه ، وإن خالفته فارقك وفارقته .
- لابد أن يخطئ الإنسان فقد خلق من عَجَل ، أي من النقصان فوجب أن يترك له فسحة يستدرك فيها خطأه فقد اتفق النبيان في صحبتهما على أن يرى موسى مايجري دون أن يتدخل مستنكراً أو معلقاً على ما يراه إلى أن يرى الأستاذ رأيه في توضيح بعض الأمور . لكن التلميذ لم يف بالوعد فقال في الأولى " لقد جئت شيئاً إمراً " وشدد النكير في الثانية حين قال : " لقد جئت شيئاً نكراً " وقال في الثالئة معترضاً ومقترحاً" لو شئت لاتخذت عليه أجراً " .
ونبهه أستاذه في الأولى " ألم أقل : إنك لن تستطيع عليه صبراً ؟ " وعاتبه في الثانية بزيادة " لك " في قوله : " ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً؟ " وأعلن في الثانية أن الفرصة الممنوحة انتهت فلا بد من الفراق لأنه استنفدها " هذا فراق بيني وبينك " . ولكنه لم يشأ أن يتركه يجهل أسباب الحوادث فأخبره بها " سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً "
- زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى : قبل أن يخبره بالأسباب أضاف للفعل تاء التعدية " تستطع " على وزن تفتعل وحين أخبره بها حذف التاء لأن المعنى انتهى " تسطع " على وزن تفعل . وسوف نجد هذا في قصة ذي القرنين " فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً " فعلوّ الجدار على صعوبته أسهل من نقبه فحذف التاء مع علو الجدارفي قوله " فما اسطاعوا " وأثبتها في صعوبة النقب " وما استطاعوا " .


تأملات تربوية
--------------------------

1. العجب بالعلم مكمن الخطر. فعلى الإنسان ألاّ يعجب بعلمه أو بظنّ بنفسه وصول المنتهى. ويظهر ذلك في معاتبة الله تعالى لموسى بعد أن سئل عن أعلم الناس فنسب ذلك إلى نفسه، وهو درس لمن وراءه، أن لا يرى في نفسه إعجاباً بعلمه أو فهمه أو تميزه، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وما أوتي الإنسان من العلم إلا قليلاً حتى لو كثر.
2. تُلحظ مسألة حب الاستطلاع واضحة جليّة، وتتمثل في ذهاب موسى وتساؤله عن الرجل الأعلم منه، لا لمجرد الرؤية، بل قرن ذلك بنية صحيحة وهي التعلم منه.
3. الحرص على التعلم محمدة مهما بلغ شأو الإنسان العلمي وشأنه المعرفي، وهذا هو نهج الأنبياء ومن تبعهم من الصالحين والعلماء، فالعلم ميراث النبوة، ورفعة الشأن، وصلاح الأسس، حتى لو استغرق الأمر من الإنسان زمناً طويلا يسعى به لتحقيق مرامه، ونيل أهدافه. ويظهر ذلك في قوله تعالى: ( أو أمضي حقبا ).
4. يتجلى الأدب الجميل .. أدب المتعلم مع المعلم: ( على أن تعلّمني ). وفيه أيضاً فائدة لطيفة، فالمتعلم له أن يبيّن حاله التي سيكون عليها مع معلمه، لينال رضاه عليه، وإقباله لتعليمه. ورغم أنّ المتعلم هنا أرفع قدراً بحكم النبوة والرسالة ( باعتبار نبوة الخضر ) ، إلا أنه يقدم عرضاً للمعلم كي تطيب نفسه بصحبته بشيئين:
أ. (ستجدني إن شاء الله صابراً ). أي صبر على التعلم مع تعليقه الصبر بالمشيئة.
ب. ( لا أعصي لك أمراً ). وفيه تمام الامتثال والطاعة.
5. على المعلم أن ينصح تلميذه غاية النصح، بتبيين حال العلم حتى لا يُدخله فيما لا يطيقه من العلم: ( قَالَ إنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً). مع تبيين السبب فيما يرده عنه أو يمنعه منه. وذلك في تبيين الخضر لموسى : (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً).
6. من الأدب التربوي أيضاً ألاّ يتعجل التلميذ بسؤال معلمه حتى ينهي حديثه، فربما عرض الجواب في ثنايا الحديث، وذلك يؤخذ من قوله: (فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً )
7. يُتعلم من القصة المبادرة إلى الإنكار في حال وقوع المنكر، فرغم أنّ موسى قد شرط للخضر ألاّ يسأله، إلا أنه أنكر عليه ما رأى ظاهره المنكر، وقد أنكر ناسياً الشرط في البداية حين خرق السفينة، إلا أنه لم يكن قد نسيه حين قتل الغلام، لكون المنكر عظيماً في نظره. (أخرقتها لتغرق أهلها) ، ( لقد قتَلتَ نفساً زكيّةً بغيرٍ نَفس).
8. للمعلم العتاب حين يخطئ تلميذه أو يجاوز: (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إنَّكَ لن تستطيعَ معيَ صبراً). وعلى المتعلم الاعتذار: (قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً).
9. يجوز إتلاف بعض الشيء لإصلاح باقيه، أليست قاعدة عظيمة من قوله تعالى: (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا).
10. صلاح الأب ممتد الأثر ودائم النفع، إذ في الآية دعوة لأن يبدأ الآباء بتربية أنفسهم قبل تربية أبناءهم، فستكون الثمار يانعة وباقية. (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً). حتى قال بعض المفسرين : أنه الأب السابع للغلامين .

دروس وعبر من القصة للشيخ الدكتور عبدالله القرشي :
-------------------------------

- التعبير بـ: فتى فيه تأديب للسان ، وعدم جرح المشاعر، قال القرطبي : ولما كان الخدمة أكثر ما يكونون فتيانا قيل للخادم فتى على جهة حسن الأدب، وندبت الشريعة إلى ذلك في قول النبي : «لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي وليقل فتاي وفتاتي» فهذا ندب إلى التواضع .
- في قوله لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا فيه توطين للنفس على تحمل التعب الشديد والعناء العظيم في السفر لأجل طلب العلم ، وذلك تنبيه على أن المتعلم لو سافر من المشرق إلى المغرب لطلب مسألة واحدة لحق له ذلك .
- وفيه كذلك بيان علو همـة موسى وشدة رغبة في الاستزادة مـن العلم
- اتخاذ الزاد في الأسفار، وهو رد على الصوفية الجهلة الأغمار، الذين يقتحمون المهامة والقفار، زعما منهم أن ذلك هو التوكل على الله الواحد القهار؛ هذا موسى نبي الله وكليمه من أهل الأرض قد اتخذ الزاد مع معرفته بربه، وتوكله على رب العباد . وفي الحديث: إن ناسا من أهل اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا سألوا الناس، فأنزل الله تعالى وتزودوا (البقرة: 197) .
- في قوله :وما أنسانيه إلا الشيطان فيه جواز إضافة الشر وأسبابه إلى الشيطان ، على وجه التسويل والتزيين ، وإن كان الكل بقضاء الله وقدره .
- في إيقاع النسيان على اسم الحوت دون ضمير الغداء مع أنه المأمور بإيتائه قيل: للتصريح بما في فقده إدخال السرور على موسى مع حصول الجواب .
- العلم اللدني هو علم الوحي المستمد من كتاب الله وسنة رسوله ، وفي هذا دليل " أنه لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه، وما يتقرب إليه به من فعل وترك إلا عن طريق الوحي. فمن ادعى أنه غني في الوصول إلى ما يرضي ربه عن الرسل، وما جاؤوا به ولو في مسألة واحدة فلا شك في زندقته. والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا تحصى، قال تعالى: وما كنا معذبين حتىٰ نبعث رسولاولم يقل حتى نلقي في القلوب إلهاما ... وبذلك تعلم أن ما يدعيه كثير من الجهلة المدعين التصوف من أن لهم ولأشياخهم طريقا باطنة توافق الحق عند الله ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع، كمخالفة ما فعله الخضر لظاهر العلم الذي عند موسى زندقة، وذريعة إلى الانحلال بالكلية من دين الإسلام، بدعوى أن الحق في أمور باطنة تخالف ظاهره " قاله الشنقيطي .
- أنه قال على أن: تعلمني وهذا إقرار له على نفسه بنقص العلم وعلى أستاذه بالعلم . قاله الرازي . " وهذا بخلاف ما عليه أهل الجفاء والكبر الذين لا يظهرون للمعلم افتقارهم إلى علمه بل يدعون أنه يتعاونون هم وإياه ، بل ربما ظن أحدهم أنه يعلم معلمه ، وهو جاهل جدا ، فالذل للمعلم ، وإظهار الحاجة إلى تعليمه من أنفع شيء للمتعلم "
- أن السبب الكبير لحصول الصبر إحاطة الإنسان علما وخبرة بذلك الأمر الذي أمر بالصبر عليه ، وإلا فالذي لا يدريه ، أو لا يدري غايته ولا نتيجته ولا فائدته وثمرته ليس عند سبب الصبر ، لقوله وكيف تصبر على ما لم تحط به صبرا فجعل الموجب لعدم صبره عدم إحاطته خبرا بالأمر .
- أن المعلم إن رأى أن في التغليظ على المتعلم ما يفيده نفعا وإرشادا إلى الخير. فالواجب عليه ذكره فإن السكوت عنه يوقع المتعلم في الغرور والنخوة وذلك يمنعه من التعلم.
- في قول موسى أخرقتها لتغرق أهلها كمال شفقة موسى ، ونصحه للخلق ، فلم يقل لتغرقنا فنسي نفسه ، في الحالة التي لا يلوي فيها أحد على أحد !.

تأملات للشيخ الدكتور عبدالعظيم بدوي :
---------------------------
= مهما علا كعبُ الإنسان في العلم، و ارتفعتْ درجتُه فيه إلا أنَّه سيظل هناك من هو أعلمُ منه ولو في بعض العلوم فإن الله - – قال ﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾[يوسف: 76]. فموسى – – على جلالة قدره لمَّا علم أنَّ على وجه الأرض من هو أعلم منه سَأَلَ الوصولَ إليه وخرج إليه وطلب لقاءه ليتعلم منه .
= قال العلماء في طلب موسى – – من الغلام أن يأتي بغدائهما ﴿ آَتِنَا غَدَاءَنَا ﴾ في ذلك تواضع موسى – – حيث لم يقل: للفتى آتني غدائي، ولم يقل: أحضر لي الطعام وإنما قال: ﴿ آَتِنَا غَدَاءَنَا ﴾ فيستفاد من ذلك: أنه ينبغي لمن وَّسع الله تعالى عليه واتخذ الخادم في الحضر أو في السفر أنْ يُكرم هذا الخادم وأن يحسن صحبته وأن يطعمه مما يأكل وأن يكسوه مما يكسى، فإن النبي – – أمرنا بذلك، أمر النبي – – بإكرام الخادم وإطعامه وكسوته .

همسات ايمانية
2015-07-25, 13:38
قصة قارون


قال تعالى: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:76-83].


قارون
فتح الله عليه أبواب النعيم، وسبل الرزق، وطرق الكسب، فعظمت أمواله، وكثرت كنوزه، وفاضت خزائنه، وأوتي بسطة في الرزق، ورخاء في العيش، وكثرة في المال؛ فعاش في ترف وبذخ، وكبرٍ وبطرٍ، وفخر وخيلاء. طغى وتجبّر، فسق وتمرّد، تطاول وتمادى، زاد نهمه، وكثر خدمه، وعظم حشمه، حتى ظن أن لن يقدر عليه أحد، عميت بصيرته، وعظم زهوه، وزاد غروره، واغتر به كثير من الناس، ورنت إليه بعض الأبصار، وتمنت مكانه فئام من البشرية. فلما بلغ الأمر مبلغه، والفتنة أشدّها، والتمادي منتهاه، حلت العقوبة، وكانت الفاجعة، ونزلت الكارثة، وعظمت العبرة.

فمن هو هذا الغني، ومن يكون ذلك الثري، وما هي قصته، وكيف كانت نهايته؟!!

استمع الآن إلى البيان المعجز، والخبر الصادق، والنبع الصافي، ليروي لك القصة، ويسرد لك الحكاية، ويُعلمك بالنهاية:

قال الله تعالى: إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة[القصص:76].

بدأت القصة بتحديد البطل؛ فبطل القصة: قارون، وحددت قومه من قوم موسى، ويقال ابن عم موسى عليه السلام، وقررت مسلكه مع قومه، فهو مسلك البغي، وقررت سبب ذلك البغي، وهو الثراء وكثرة الأموال.

فقارون موجود في زمن نبي من أنبياء الله وهو موسى عليه السلام، وهنا إشارة إلى أمرين مهمين:

الأمر الأول: أن قارون لم يستفد من وجود هذا النبي الكريم، ولم يتعظ بمواعظه، ولم يستجب لدعوته، ولم يتخلق بأخلاقه.

والأمر الثاني: الإشارة إلى أن قرابته لموسى، وصلته به، لم تغن عنه شيئاً من عذاب الله تعالى.

فبغى عليهم فلم يحدد نوع ذلك البغي، وهذه إشارة على عظمته وشناعته وتنوعه. بغى عليهم بالكبر، بغي عليهم باغتصاب أموالهم، بغى عليهم بمنعهم حقوقهم في هذا المال، بغى عليهم بالظلم بغى عليهم بكل ما تحمله كلمة البغي من معانٍ.

وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، آتيناه فالرزق من عندنا، والمال من لدنا، وليس بمهارة قارون، ولا بعلمه، ولا بأفضليته، فالأرزاق بيد الله، وهو الذي يقسم أرزاقه على عباده، وليس في إعطائه للعبد دلالة على رضاه عنه، وليس في منعه عن العبد دلالة على سخطه عليه، بل قد يكون الأمر على العكس من ذلك.

هو الرزق لا حل لـديك ولا ربط ولا قلم يجـدي عليـك ولا خط

فطير يطوف الأرض شرقاً ومغرباً وآخر يعطى الطيبات ولا يخطو

يقال: إن مفاتيح خزائن قارون إذا انتقل من مكان إلى مكان كانت تحمل على ستين بغلاً أغرّ محجلاً.

هذا هو المشهد الأول من مشاهد القصة، رجل من قوم موسى وصل إلى قمة الثراء، بغى على قومه.

المشهد الثاني: مشهد أهل الخير الصلاح، والنصح والإرشاد، والعلم والهدى، قاموا بمسؤولية البلاغ، وواجب النصيحة، فحينما رأوا قارون تمادى في طغيانه، وزاد في بغيه، مع غرور واستئثار، وبطر واستكبار، حاولوا أن يثيروا فيه روح الخير، وينبهوه من غفلته، فنصحوه أن لا يغويه المال، ولا يغره الثراء، فيحول بينه وبين الإحسان إلى قومه، والمراقبة لربه، والأخذ من الدنيا بنصيب، ومن الآخرة بنصيب فإن لله حقاً، وللناس حقاً، وللنفس حقاً، وللزوجة حقاً، فيجب أن يعطى كل ذي حق حقه. ونهوه عن الفرح الذي يدفع إلى الزهو والغرور، وبينوا له أن الله تعالى يمقت الفساد والمفسدين، وأن هذا المال ظلّ زائل ووديعة مستردة، فلا يفرح ولا يغتر، بل يجب أن يتخذه وسيلة لقضاء مآربه في الدنيا، وطريقاً لسعادته في الآخرة. وقد أوجز القرآن لك الموعظة البليغة التي وعظ بها قارون، فقال تعالى: إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين [القصص:77].

فماذا كانت ثمرة الموعظة ونتيجة النصيحة؟ أجابهم بجملة واحدة ولكنها تحمل شتى معاني الفساد والإفساد، جملة تحمل في طياتها الكبر والبغي والطغيان قال إنما أوتيته على علم عندي.

أوتيته بعلمي، بمهارتي، بقدراتي، بأفضليتي واستحقاقي لهذا المال، فكان متطاولاً في كلامه، جافياً في رده، جريئاً في مقولته؛ مقولة المغرور المطموس الذي نسي مصدر النعمة، وتنكر لصاحب الفضل، وكفر بمن يستحق الشكر.

ولذلك جاء التهديد والإشارة بالوعيد، والرد على مقولته الفاجرة، جاء ذلك قبل تمام الآية، ونهاية القصة، فقال تعالى: أولم يعلم أن الله أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون[القصص:78].

كانت المشاهد الأولى تحكي البغي والتطاول، والإعراض عن النصح، والتعالي عن العظة، والإصرار على الفساد، والاغترار بالمال، والبطر الذي يقعد بالنفس عن الشكران.

ثم يجيء بعد ذلك مشهد من مشاهد القصة، وهو المشهد الذي يخرج فيه قارون على قومه في زينته، وكأنه بذلك يكيد للذين نصحوه ويستخف بمشاعرهم، ويبالغ في إيلامهم، فيخرج في منتهى الزينة، وغاية الكبر، ونهاية الغرور، فتطير لذلك قلوب فريق من القوم، وتتهاوى أنفسهم لمثل ما أوتي قارون، ويرون أنه صاحب حظ عظيم، وخير عميم، وذلك لأنهم أصحاب نظرية مادية، وأفكار دنيوية.

فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم[القصص:79]. وهنا يتدخل أهل العلم والحكمة مرة أخرى، ويتأنقون في النصيحة، ويجتهدون في الموعظة، قال تعالى: وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلا الصابرون[القصص:80].

فذكّروهم بالرجاء فيما عند الله، والاعتزاز بثوابه، والفرح بعبادته، فجيب أن يكونوا أعلى نفساً، وأكبر قلباً، ولا يلقاها إلا الصابرون الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم، الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها، الصابرون على الفقر ومعاناته، الصابرون على شظف العيش ومقاساته، الصابرون على الحرمان من كثير من متع الدنيا، لأنهم علموا أن الصابرين يوفّون أجورهم بغير حساب.

ثم يجيء المشهد المرعب في القصة، مشهد الخاتمة المشينة، والمصرع الوخيم، والانتقام العظيم فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين [القصص:81].

هكذا كانت النهاية بعد أن عظمت الفتنة، واشتدت المحنة. هذه نتيجة الكبر والبطر والغرور والخيلاء، والجحود والإصرار، والتألي على عباد الله، ابتلعته الأرض، وساخت فيها أمواله وقصوره.

يقول : ((بينا رجل فيمن كان قبلكم خرج في بردين أخضرين يختال فيهما، أمر الله فأخذته، فإنه ليتجلجل فيها إلى يوم القيامة)) [رواه أحمد].

وبعد هذه النهاية الخاسرة، أصبح الذين تمنوا مكان قارون يحمدون الله أن منَّ عليهم ونجاهم من الخسف، قال تعالى: وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون [القصص:82].

ثم تختم القصة بهذا المقطع الجميل الذي يؤكد أن الفوز والفلاح هو في الدار الآخرة وأن الله تعالى يجعل جناتها ونعيمها، وأنسها وسرورها وأنهارها وحورها، لأهل الإيمان والتواضع والتقوى والإحسان، والبعد عن الفساد، قال سبحانه: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين [القصص:83].

بعض الدروس المستفادة من القصة:

1- أن نسب الإنسان وحسبه لا يغني عنه من الله شيئاً.

2- أن الرزق هو من عند الله تعالى فهو مقدر الأقدار، ومقسم الأرزاق.

أما ترى البحر والصياد منتصبٌ لرزقـه ونجـوم الليـل محتبكـه

قد غاص في لُجة والموج يلطمه وعينه لـم تزل فـي كلكل الشبكة

حتى إذا بات مسـروراً بليلتـه بالحوت قد شق سفّود الردى حنكه

شراه منه الذي قـد بات ليلتـه خِلْواً من البرد في خير من البركه

سبحان ربي يعطي ذا ويحرم ذا هـذا يصـيد وهذا يأكـل السمكه

3- عدم الفرح بالدنيا، فرح زهو وكبر وغرور، فإن هذه هي المهلكة الكبرى، والداهية العظمى، فالكبر والغرور عاقبتها وخيمة.

يقول أحد المتكبرين:

أتيه على جن البلاد وإنسـها فلو لم أجـد خلقاً لتهت على نفسـي

أتيه فما أدري من التيه من أنا سوى ما يقول الناس فيّ وفي جنسي

4- مقياس السعادة والسرور في الدنيا هو بطاعة الله تعالى والإحسان إلى عباده، وليست السعادة ولا الريادة بكثرة الغنى.

5- أن الإسلام يدعو إلى إعمار الأرض والسير في مناكبها، والأخذ بنصيب من الدنيا، ولكن يجعل ذلك كله طريقاً إلى الدار الآخرة، ويحسن الإنسان كما أحسن الله إليه.

6- أن الفساد وأهله ممقوتون بعيدون من محبة الله. فويل لمن سخّروا أموالهم لإفساد عباد الله، أين يذهب أصحاب الأموال الطائلة من ربهم، وقد سخروا أموالهم في إفساد الناس، ونشر الفاحشة، والدعوة إلى الرذيلة؟!

7- يجب على أهل العلم والخير أن يقوموا بمسؤولية الدعوة وواجب النصيحة.

8- أن الصبر سبب للخير والفلاح، والتوفيق والنجاح في الدنيا والآخرة.

9- أن العاقبة للمتقين، والفوز للصالحين، والآخرة للمؤمنين المجتهدين المتواضعين.


قارون ...دروس وعبر


لنشرع في شرح الآيات الكريمات، فإنها أقوى تأثيراً، وأقوم قيلاً، يقول تعالى: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ [القصص:76]، قال القرطبي : إن قارون كان من قوم موسى، قال تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا [القصص:60] فبين أن قارون أوتيها، واغتر بها، ولم تعصمه من عذاب الله كما لم تعصم فرعون.

يقول: ولستم أيها المشركون! بأكثر عدداً ومالاًمن قارون وفرعون، فإنه لم ينفع فرعون جنوده وأمواله كما لم ينفع قارون قرابته من موسى ولا كنوزه.

قال النخعي وقتادة وغيرهما: كان ابن عم موسى.

وقال ابن إسحاق : كان عم موسى لأب وأم، وقيل: كان ابن خالته.

ونحن نقف مع التنزيل حيث أوقفنا، فليس هناك دليل على ذلك، فنقول: إنه كان من قوم موسى، ولا نجزم بشيء لم يأت في القرآن، ولا صحت به سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

ذكر وصايا ونصائح قوم قارون لقارون

قال القاسمي : إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى [القصص:76] أي: من شاكلتهم في الكفر والطغيان، وقوم موسى: هم جماعته الذين أرسل إليهم وإلى طاغيتهم فرعون.

فَبَغَى عَلَيْهِمْ [القصص:76] أي: بالكبر والاستطالة عليهم؛ لما غلب عليه من الحرص ومحبة الدنيا، ولغروره وتعززه برؤية زينة نفسه، وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ [القصص:76] أي: من الأموال المدخرة، مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ [القصص:76] أي: مفاتيح صناديقه على حذف المضاف، ولا ملابسة في ذلك، وقيل: خزائنه.

لَتَنُوءُ [القصص:76] أي: تثقل، بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [القصص:76] أي: الجماعة الكثيرة من الرجال والبغال، إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ [القصص:76] أي: بزخارف الدنيا فرحاً يشغلك عن الشكر فيها والقيام بحقها، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص:76] لما فيه من إيثار الدنيا على الآخرة والرضا بها عنها والإخلاد إليها، وذلك أصل كل شر ومبعث كل فساد.

قال الزمخشري : وذلك أنه لا يصلح للدنيا إلا من رضي بها واطمأن، وأما من قلبه معلق بالآخرة فإنه يحن ويعلم أنه مفارق ما هو فيه عن قريب لم تحدثه نفسه بالفرح، وما أحسن ما قيل:

أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالاً

أي: يعيش في نعيم، ومع ذلك فإنه يوقن بأنه سيفارق هذا النعيم، وهذا يورثه شيء من الغم، فإن الإنسان في زينة في الدنيا وفي راحة، فإذا أيقن بأنه سوف ينتقل من هذه الزينة والراحة، حصل له شيء من الغم، أما في الآخرة يبشر أهل الجنة بدخول الجنة والخلود فيها، فلا يتكدر عيشهم، ولا يخرجون من هذا النعيم.

قوله تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:77].

قال الرازي ما ملخصه: ثم إنه تعالى بين أنه كان في قومه من وعظه بأمور:

أحدها: قوله تعالى: لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص:76] والمراد: ألا يضحك ولا يبطر، ولا يلهيه تمسكه بالدنيا عن أمر الآخرة.

وثانيها: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ [القصص:77] والظاهر: أنه كان مقراً بالآخرة، والمراد: أن يصرف المال في السبل التي تؤدي به إلى الجنة، وأن يسلك طريق التواضع.

ومعلوم أنه ليس كل من يقر بالآخرة يكون من أهل النجاة؛ لأن الإنسان قد يقر بالآخرة ولكنه لا يعمل لها، فهذا لا ينفعه الإقرار.

ثالثها: قوله تعالى: وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77] فيه عدة أوجه:

الوجه الأول: لعله كان مستغرق الهم في طلب الدنيا، فلم يتفرغ للتنعم والالتذاذ، فنهاه الواعظ عن ذلك وقال: وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77]؛ لأن كثيراً من الناس يجمعون المال، وتجده فعلاً لا يتمتع بالدنيا، مثل كثير من الأطباء الذين يعملون في المستشفيات، فإن الواحد منهم يمتلك عدة عبادات وينشغل بعدة عمليات جراحية، فتجده يشتغل في الدنيا وفي جمع المال، فيومه كله جمع للمال، فمتى يستفيد بهذا المال ويتمتع به؟

فلعل قارون أيضاً كان مستغرق الهم في جمع المال، فلم يجد فرصة للتمتع بهذا المال؛ ولذلك قال له الناصح: وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77] يعني: تمتع بهذا المال قبل أن تتركه.

الوجه الثاني: لما أمره الواعظ بصرف المال في سبيل الآخرة بين له أنه لا بأس بالتمتع به في الوجوه المباحة، فالإنسان يعمل للآخرة ولكنه لا يحرم نفسه زينة الدنيا، بل يجوز له أن يتمتع بهذه الدنيا في حدود ما أباح الله عز وجل وشرع.

الوجه الثالث: المراد من قول الواعظ: الإنفاق في طاعة الله عز وجل، فإن ذلك هو نصيب المرء من الدنيا دون الذي يأكل ويشرب.

رابعها: قوله تعالى: وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص:77] أمره بالإحسان بالمال، وأمره بالإحسان مطلقاً، فقوله: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ [القصص:77] يعني: من المال، ثم أمره بالإحسان مطلقاً في كل أمر من أموره، ويدخل فيه الإعانة بالمال والجاه وطلاقة الوجه وحسن اللقاء وحسن الذكر، فإن الله سبحانه يقول: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7] يعني: إذا أحسنت أحسن الله عز وجل إليك، فإن هذا الشكر يستوجب المزيد من الخير والنعمة.

خامسها: قوله: وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ [القصص:77] والمراد: ما كان عليه من الظلم والبغي، وقيل: إن هذا القائل هو موسى عليه السلام، وقال آخرون: بل هو مؤمن قومه.

ومع كل هذه النصائح أبى قارون أن يقبل، بل زاد كفراً بالنعمة فقال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]، فلم ينسب الفضل إلى الله عز وجل، بل قال: عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]، قيل: كان عنده علم الكيمياء وحصل به هذا المال، أو أن الله عز وجل أعطاه، وهو على علم بأن الله سيعطيه لاستحقاقه هذا المال.

أقوال المفسرين في قوله تعالى (إنما أوتيته على علم عندي)

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى مخبراً عن جواب قارون لقومه حين نصحوه وأرشدوه إلى الخير: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] أي: أنا لا أفتقر إلى ما تقولون، فإن الله تعالى إنما أعطاني هذا المال لعلمه بأني أستحقه ولمحبته لي، والتقدير: إنما أعطيته لعلم الله في أني أهل له، وهذا كقوله تعالى: فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ [الزمر:49].

فالإنسان إذا أعطاه الله نعمة اعتقد أن الله عز وجل أعطاه لأنه يعلم حاله، فأعطاه هذا من باب التكريم.

فقوله: عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] أي: على علم من الله بي، كما قال تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي [فصلت:50] أي: أستحقه.

وقد روي عن بعض المفسرين في قوله: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] أنه كان عنده علم الكيمياء، وهذا القول ضعيف؛ لأن علم الكيمياء في نفسه علم باطل؛ وقلب الأعيان لا يقدر أحد عليه إلا الله عز وجل.

وقال بعض المفسرين: قارون كان يعرف الاسم الأعظم، فدعا الله به فتمول بسببه، أي: حصل له هذا المال العظيم، وهذا القول ضعيف أيضاً.

والقول الصحيح هو المعنى الأول: على علم عندي؛ ولهذا قال الله تعالى رداً عليه فيما ادعاه من اعتناء الله به: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا [القصص:78].

فكل من عنده مال ليس معناه: أن الله عز وجل يحبه، وأنه أعطاه هذا المال على علم منه بأنه يستحق هذا المال؛ لأن الله تعالى يقول: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا [القصص:78]؛ أي: قد كان من هو أكثر منه مالاً، وما كان ذلك من محبة منا له، وقد أهلكهم الله مع ذلك بكفرهم وعدم شكرهم؛ ولهذا قال: وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص:78] أي: لكثرة ذنوبهم.

وقال القاسمي : وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص:78]؛ أي: لا يتوقف إهلاكه إياهم على سؤال يعتذر عنه، بل متى حق عليهم القول لفسقهم أهلكهم بغتة بلا معاتبة وطلب عذر.

إعجاب قوم قارون بزينة قارون وإهلاك الله له

ثم أشار تعالى إلى أن قارون لم يعتبر بذلك، ولا بنصيحة قومه، فقال سبحانه: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص:79-80].

قال ابن كثير : ذكر كثير من المفسرين: أنه خرج في تجمل عظيم من ملابس ومراكب وخدم وحشم، فلما رآه من يعظم زهرة الحياة الدنيا تمنوا أن لو كانوا مثله، وغبطوه لما عنده، فلما سمع مقالتهم العلماء وذوو الفهم الصحيح من الزهاد قالوا لهم: وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [القصص:80] أي: ثواب الله في الدار الآخرة خير وأبقى وأجل وأعلى.

وهذه الهمة إلى الدار الآخرة عند النظر إلى زهرة الدنيا لا يلقاها إلا من استنار قلبه، وثبت فؤاده؛ لذلك قال تعالى: وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص:80] يعني: لا يعطى هذا العلم وهذا الفهم، وهذا النظر الثاقب والمعرفة بحقارة الدنيا وقيمة الآخرة إلا الصابرون الذين هداهم الله عز وجل ووفقهم، وما أحسن ما قال بعض السلف: إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، والعقل الكامل عند حلول الشهوات.

قوله تعالى: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ [القصص:81].

قال الشوكاني : فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ [القصص:81] يقال: خسف المكان يخسف خسوفاً: ذهب في الأرض، وخسف به الأرض حتفاً أي: غاب فيها، والمعنى: أن الله سبحانه غيبه وداره وماله في الأرض، فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ [القصص:81] أي: ما كان له جماعة يدفعون ذلك عنه، وما كان هو في نفسه من المنتصرين، أي: من الممتنعين مما نزل به من الخسف.

قوله تعالى: وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [القصص:82] قال الزمخشري : قد يذكر الأمس ولا يراد به اليوم الذي مضى، وإنما يراد به: الماضي، فقوله: وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ [القصص:82] أي: في الوقت الماضي وهذه الجملة تحتمل الاستعارة، يعني: كأنه قال: في الماضي القريب كانوا يقولون: يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ [القصص:79] فعند ذلك حمدوا الله عز وجل، وعرفوا أن الدنيا يبسطها الله عز وجل لمن يشاء من عباده، ولولا أن الله رفق بهم لخسف بهم؛ لأنهم تمنوا ما هو فيه.

وقوله: مَكَانَهُ بِالأَمْسِ [القصص:82] أي: منزلته في الدنيا، قوله: يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ [القصص:82] (وي) مفصولة عن كأن، وهي كلمة تشير إلى الخطأ والتندم، والمعنى: أن القوم قد تنبهوا لخطئهم في تمنيهم وقولهم: لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ [القصص:79] فندموا على هذا التمني، ثم قالوا: وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [القصص:82] أي: ما أشبه الحال بحال الكافرين الذين لا ينالون الفلاح وهو مذهب الخليل وسيبويه فقال كقول القائل:

ويكأن من يكن له نشب يحبب ومن يفتقر يعش عيش ضر

وحكى الفراء أن أعرابية قالت لزوجها: أين ابنك؟ فقال: ويكأنه وراء البيت.

وعند الكوفيين: ويك بمعنى: ويلك، والمعنى: ألم تعلم أنه لا يفلح الكافرون، فعلى قولهم تصير الكاف كاف الخطاب مضمومة إلى وي، كقول عنترة بن شداد :

ويك عنتر أقدم

وقال القاسمي : وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [القصص:82] أي: من شقي وسعيد، ويقدر أي: يقبض، فلا دلالة في البسط على السعادة، ولا في القبض على الشقاوة، بل يفعل سبحانه كلاً من البسط والقدر بمحض مشيئته، لا لكرامة تقتضي البسط، ولا لهوان يقتضي القبض، فالمال لا يدل على الرضا ولا على غضب.

فقد يكون الإنسان تقياً وعنده مال كثير، وقد يكون تقياً فقيراً جداً، وقد يكون فاجراً وليس عنده مال، وقد يكون فاجراً وعنده مال كثير، فالله عز وجل يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، ولا علاقة في ذلك بالصلاح أو بالمحبة من الله عز للشخص الذي له بسط له في الرزق.

قال تعالى: لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا [القصص:82] أي: بعدم إيتائه متمنانا، لَخَسَفَ بِنَا [القصص:82] كما خسف به، وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [القصص:82] أي: الكافرون بنعمة الله في صرفها في غير سبيلها، أو المكذبون برسله اغتراراً بدنياهم.

ثم عقب الله عز وجل هذه القصة بالعبرة الظاهرة، وذكر السنة التي لا تبدل والقانون الذي لا يتغير ولا يتحول، فقال: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].

فالدنيا أصلاً ليست هدفاً للمؤمن، فهو لا يطلب الدنيا لتعلم العلم، أو للحصول على الشهادات العالية، ولا يطلبها لكي يكون إنساناً مشهوراً، أو غنياً، فهي ليست مقصوده.

فالآخرة هي مقصود المتقين وهدفهم، إذ إن المتقي يريد أن يعلو في الآخرة، سواء ارتفع في الدنيا أو لم يرتفع؛ لذلك يقولون: من أحب أن يذكر في الدنيا لم يذكر، ومن كره أن يذكر في الدنيا ذكر.

قال القرطبي : تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ [القصص:83] يعني: الجنة، قال ذلك على جهة التعظيم لها، فكلمة تلك تشير إلى البعيد؛ لقوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [البقرة:253] أشار إلى علو منزلة جميع الرسل. فمعنى قوله: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ [القصص:83] تلك التي سمعت ذكرها وبلغك وصفها، نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ [القصص:83] أي: رفعة وتكبراً على المؤمنين، وَلا فَسَادًا [القصص:83] أي: عملاً بالمعاصي. قاله ابن جريج ومقاتل . وقال عكرمة ومسلم : الفساد: أخذ المال بغير حق، وقال الكلبي : ضاف إلى غير عبادة الله، وقال يحيى بن سلام : هو قتل الأنبياء والمؤمنين. وعاقبة المتقين قال: الجنة.

وقال ابن كثير : ثم أخبر تعالى أن الدار الآخرة هي دار القرار وهي الدار التي يغتبط من أعطيها، ويعزى من حرمها، إنما هي معدة للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، فالعلو: التكبر والفخر والأشر والبطر، والفساد: عمل المعاصي اللازمة والمتعدية من أخذ أموال الناس وإفساد معيشتهم، والإساءة إليهم وعدم النصح لهم، قال تعالى: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]، فهذه بعض الفوائد الإيمانية في قصة قارون .

اختلاف أقوال المفسرين في قوله تعالى (وابتغ فيما آتاك الله...)

قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77] أي: اطلب فيما أعطاك الله من الدنيا الدار الآخرة وهي الجنة، فإنه من الواجب على المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة لا في التجبر والبغي.

ولذلك يقول بعض السلف: نعمت الدار الدنيا كانت للمؤمن وذلك لأنه عمل فيها قليلاً وأخذ منها زاده إلى الجنة، وبئست الدار الدنيا كانت للكافر والمنافق؛ وذلك لأنه أضاع فيها لياليه وأخذ منها زاده إلى النار.

وقوله تعالى: وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77] اختلف تفسيرها، فقال ابن عباس والجمهور: لا تضيع عمرك في ألا تعمل عملاً صالحاً في دنياك، إذ الآخرة إنما يعمل لها، فنصيب الإنسان عمره وعمله الصالح.

فالكلام على هذا التأويل فيه شدة في الموعظة.

وقال الحسن وقتادة : معناه: لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه، ونظرك في عاقبة دنياك.

فالكلام على هذا التأويل فيه بعض الرفق به، وإصلاح الأمر الذي يشتهيه. وهذا مما يجب استعماله مع الموعوظ خشية النبوة من الشدة، قاله ابن عطية .

فهو إن كان من أهل الدنيا والرغبة فيها يبين له الناصح أنه لا يطلب منه أن يترك كل ما في الدنيا، وألا يتمتع بشيء من طيباتها.

قلت: وهذان التأويلان قد جمعهما ابن عمر في قوله: أحرز لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، وهذا القول يرويه بعض الناس مرفوعاً، أي: منسوباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الواقع: هو من كلام ابن عمر رضي الله عنهما، وأحياناً يضع أناس في الأسانيد، أو يظنون أن شيئاً من كلام السلف وحكمهم هي أحاديث مرفوعة، فينسبونها ظلماًً وزوراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مثال ذلك: ما سبقكم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في قلبه، هذا من كلام بكر بن عبد الله المزني ، والناس ينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وعن الحسن قال: قدم الفضل، وأمسك ما يبلغ، يسألونك ماذا ينفقون، فالإنسان ينفق الفضل من ماله، وينفق ما يبلغه قدر الكفاية.

وقال مالك : هو الأكل والشرب بلا سرف.

وقيل: أراد بنصيبه الكفن، وهذا فيه موعظة، كأن المعنى: لا تنس أنك ستترك جميع مالك إلا نصيبك من هذه الدنيا وهو الكفن، ونحو هذا قال الشاعر:

نصيبك مما تجمع الدهر كله رداءان تلوى فيهما وحنوط

فالحنوط: الطيب الذي يوضع للميت، وكأنه يقال للإنسان: لن تأخذ من الدنيا إلا الكفن والحنوط.

وقال آخر:

هي القناعة لا تبغي بها بدلاً فيها النعيم وفيها راحة البدن

انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن

والأفضل أن يقول: بغير الزاد والكفن.

قال ابن العربي : وأبدع ما فيه عندي: قول قتادة : ولا تنس نصيبك الحلال، فهو نصيبك من الدنيا.

ذكر قارون في القرآن الكريم والسنة وذم الله له

قال ابن كثير : وقد ذكر الله تعالى فذم قارون في غير ما آية من القرآن، قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [غافر:23-24].

فقارون كذب بموسى وكذب بالآخرة فهو كافر، كذلك النصارى يكذبون بالآخرة فهم كفار، فليس كل إنسان يقر بالآخرة يكون بذلك محسناً.

وقال تعالى في سورة العنكبوت بعد ذكر عاد وثمود: وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:39-40].

فالذي خسف الله به الأرض قارون -كما تقدم- والذين أغرقهم الله فرعون وهامان وجنودهما إنهم كانوا خاطئين.

كذلك روى الإمام أحمد قال: حدثنا أبو عبد الرحمن قال: حدثنا سعيد قال: حدثنا كعب بن علقمة عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: (من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف)، انفرد به الإمام أحمد .

ولذلك يقولون: من شغله المال كان مع قارون ، ومن شغله الحكم أو السلطان كان مع فرعون ، ومن شغلته الوزارة كان مع هامان ، ومن شغلته التجارة كان مع أبي بن خلف .

قال الدكتور أحمد جمال العمري : تمثل قصة قارون في القرآن الكريم جانب الطغيان بالمال، والغرور بالعلم، وكيف مآلهما إلى الفناء إذا تطوقت الأهواء، وسيطرت الأطماع، وتحول الإنسان من مجرد مخلوق من مخلوقات الله إلى متجبر متكبر يعلو بنفسه فوق الناس، ويزهو ويتعالى عليهم، وينظر إليهم بمنظار الاستعلاء والاستكبار.

وقد وردت هذه القصة في القرآن على سبيل العظة والعبرة في إثبات أن كل شيء مآله إلى الزوال، وأن الباقي هو وجه الله ذو الجلال والإكرام.

ويقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: في كل زمان ومكان تستهوي زينة الأرض بعض القلوب، ويظهر الذين يريدون الحياة الدنيا، ولا يتطلعون إلى ما هو أعلى وأكرم منها، فلا يسألون بأي ثمن اشترى صاحب الزينة زينته، ولا بأي وسيلة نال ما نال من عرض الحياة من مال أو منصب أو جاه، ومن ثم تتهافت نفوسهم وتتهاوى كما يتهافت الذباب على الحلوى ويتهاوى ويسيل لعابهم على ما في أيدي المحظوظين من متاع، غير ناظرين إلى الثمن الباهظ الذي أدوه، ولا إلى الطريق الدنس الذي خاضوه، ولا إلى الوسيلة الخسيسة التي اتخذوها.

إن الكثير من أصحاب الأموال يصلون إلى الملك بطرق محرمة، فهم يستبيحون لأنفسهم أشياء حرمها الله عز وجل، إما بتجارات محرمة، أو بالظلم والبغي أو بالنفاق.

قال: فأما المتصلون بالله فلهم ميزان آخر يقيم حياتهم، وفي نفوسهم قيم أخرى غير قيم المال والزينة والمتاع، وهم أعلى نفساً وأكبر قلباً من أن يتهاووا ويتصاغروا أمام قيم الأرض جميعاً، ولهم من استعلائهم بالله عاصم من التخاذل أمام جاه العباد، وهؤلاء هم الذين أوتوا العلم الصحيح الذي يقومون به الحياة حق التقويم.

قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص:80].

يقول: ثواب الله خير من هذه الدنيا، وما عند الله خير مما عند قارون ، والشعور على هذا النحو درجة رفيعة لا يلقاها إلا الصابرون .. الصابرون على معايير الناس ومقاييسهم، الصابرون على فتنة الحياة وإغرائها، الصابرون على الحرمان مما يتشهاه الكثيرون، وعندما يعلم الله منهم الصبر كذلك يرفعهم إلى تلك الدرجة، درجة الاستعلاء على كل ما في الأرض، والتطلع إلى ثواب الله في رضا وثقة واطمئنان.

همسات ايمانية
2015-07-25, 16:32
قصة اصحاب الجنة

ورد ذكر القصة في سورة القلم . آية ( 17 - 33 ) .
قال الله تعالى:
(( إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ))

وهذا مثل ضربه الله لكفار قريش، فيما أنعم به عليهم من إرسال الرسول العظيم الكريم إليهم، فقابلوه بالتكذيب والمخالفة، كما قال تعالى:
(( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَار ))

القصة:
قال إبن عباس:
إنه كان شيخ كانت له جنة، وكان لا يدخل بيته ثمرة منها ولا إلى منزله حتى يعطي كل ذي حق حقه. فلما قبض الشيخ وورثه بنوه -وكان له خمسة من البنين- فحملت جنتهم في تلك السنة التي هلك فيها أبوهم حملا لم يكن حملته من قبل ذلك، فراح الفتية إلى جنتهم بعد صلاة العصر, فأشرفوا على ثمرة ورزق فاضل لم يعاينوا مثله في حياة أبيهم. فلما نظروا إلى الفضل طغوا وبغوا، وقال بعضهم لبعض: إن أبانا كان شيخا كبيرا قد ذهب عقله وخرف، فهلموا نتعاهد ونتعاقد فيما بيننا أن لا نعطي أحدا من فقراء المسلمين في عامنا هذا شيئا، حتى نستغني وتكثر أموالنا، ثم نستأنف الصنعة فيما يستقبل من السنين المقبلة. فرضي بذلك منهم أربعة، وسخط الخامس وهو الذي قال تعالى: (قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون).

فقال لهم أوسطهم: إتقوا الله وكونوا على منهاج أبيكم تسلموا وتغنموا، فبطشوا به، فضربوه ضربا مبرحا. فلما أيقن الأخ أنهم يريدون قتله دخل معهم في مشورتهم كارها لأمرهم، غير طائع، فراحوا إلى منازلهم ثم حلفوا بالله أن يصرموه إذا أصبحوا، ولم يقولوا إن شاء الله.فإبتلاهم الله بذلك الذنب، وحال بينهم وبين ذلك الرزق الذي كانوا أشرفوا عليه. [تفسير القمي،ج2،ص381].

إنها سنة إلهية:
ولعل في القصة إشارة إلى أن الله تعالى أجرى نفس السنة على المترفين أو طالهم منه شيء من العذاب في الدنيا. وفي رواية أبي الجارود عن الإمام الباقر تأكيد لذلك، اذ قال: (إن اهل مكة أبتلوا بالجوع كما أبتلي أصحاب الجنة).

فهذه السنة تنطبق على كل من تشمل الآيات التالية: (ولا تطع كل حلاف مهين* هماز مشاء بنميم* مناع للخير معتد أثيم* عتل بعد ذلك زنيم* أن كان ذا مال وبنين* إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين* سنسمه على الخرطوم) [القلم/ 10-16].

بعد ذلك يقول ربنا عزوجل: (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمونها مصبحين ولا يستثنون).

أي إختبرناهم بالثروة بمثل ما إختبرنا أصحاب المزرعة. ومادامت السنن الإلهية في الحياة واحدة، فيجب إذن أن يعتبر الإنسان بالآخرين، سواء المعاصرين له أو الذين سبقوه، وأن يعيش في الحياة كتلميذ، لأنها مدرسة وأحداثها خير معلم لمن أراد وألقى السمع وأعمل الفكر وهو شهيد.

بهذه الهدفية يجب أن نطالع القصص ونقرأ التاريخ. فهذه قصة أصحاب الجنة يعرضها الوحي لتكون أحداثها ودروسها موعظة وعبرة للإنسانية. ومن الملفت للنظر، إن القرآن في عرضه لهذه القصة لا يحدثنا عن الموقع الجغرافي للجنة، هل كانت في اليمن أو في الحبشة، ولا عن مساحتها ونوع الثمرة التي أقسم أصحابها على صرمها.. لأن هذه الأمور ليست بذات أهمية في منهج الوحي، إنما المهم المواقف والمواعظ والأحداث لمعبرة، سواء فصل العرض أو إختصر.

ومكروا ومكر الله:
فأشار القرآن إلى أنهم كيف أقسموا على قطف ثمار مزرعتهم دون إعطاء الفقراء شيئا منها، وتعاهدوا على ذلك. ولكن هل فلحوا في أمرهم؟ كلا.. (فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم).

إن الله الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ما كان ليغفل عن تدبير خلقه، وإجراء سننه في الحياة. فقد أراد أن يجعل آية تهديهم إلى الإيمان به والتسليم لأوامره بالإنفاق على المساكين وإعطاء كل ذي حق حقه.. وأن يعلم الإنسان بأن الجزاء حقيقة واقعية، وإنه نتيجة عمله.

وهكذا يواجه مكر الله مكر الإنسان، فيدعه هباء منثورا، (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين). وإذا إستطاعوا أن يخفوا مكرهم عن المساكين، فهل إستطاعوا أن يخفوه عن عالم الغيب والشهادة؟ كلا.. وقد أرسل الله تعالى طائفة ليثبت لهم هذه الحقيقة:
(فتنادوا مصبحين* أن أغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين* فإنطلقوا وهم يتخافتون* ان لايدخلنها اليوم عليكم مسكين* وغدوا على حرد قادرين* فلما رأوها قالوا إنا لضالون* بل نحن محرومون) [القلم/ 21-27].
في تلك اللحظة الحرجة إهتدوا إلى ان الحرمان الحقيقي ليس قلة المال والجاه، وإنما الحرمان والمسكنة قلة الإيمان والمعرفة بالله. وهكذا أصبح هذا الحادث المريع بمثابة صدمة قوية أيقظتهم من نومة الضلال والحرمان، وصار بداية لرحلة العروج في آفاق التوبة والإنابة، والتي أولها إكتشاف الإنسان خطئه في الحياة.

ومن هنا نهتدي إلى أن من أهم الحكم التي وراء أخذ الله الناس بالبأساء والضراء وألوان من العذاب في الدنيا، هو تصحيح مسيرة الإنسان بإحياء ضميره وإستثارة عقله من خلال ذلك، كما قال ربنا عزوجل: (فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون).

قصة تستحق التأمل:
فما أحوجنا أن نتأمل قصة هؤلاء الأخوة الذين إعتبروا بآيات الله، وراجعوا أنفسهم بحثا عن الحقيقة لما رأوا جنتهم وقد أصبحت كالصريم، فنغير من أنفسنا ليغير الله ما نحن فيه. إذ ما أشبه تلك الجنة وقد طاف عليها طائف من الله بحضارتنا التي صرمتها عوامل الإنحطاط وال تخلف ولو أنهم إستمعوا إلى نداء المصلحين لما أبتلوا بتلك النهاية المريعة. وهكذا كل أمة لا تفلح إلا إذا عرفت قيمة المصلحين، فإستمعت إلى نصائحهم، وإستجابت لبلاغهم وإنذارهم.

لهذا الدور تصدى أوسط اصحاب الجنة، فعارضهم في البداية حينما أزمعوا وأجمعوا على الخطيئة، وذكرهم لما أصابهم عذاب الله بالحق، وحملهم كامل المسؤولية، وإستفاد من الصدمة التي أصابتهم في إرشادهم إلى العلاج الناجع.

(قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون) من هذا الموقف نهتدي إلى بصيرة هامة ينبغي لطلائع التغيير الحضاري ورجال الإصلاح أن يدركوها ويأخذوا بها في تحركهم إلى ذلك الهدف العظيم، وهي: إن المجتمعات والأمم حينما تضل عن الحق وتتبع النظم البشرية المنحرفة، تصير إلى الحرمان، وتحدث في داخلها هزة عنيفة (صحوة) ذات وجهين، أحدهما القناعة بخطأ المسيرة السابقة، والآخر البحث عن المنهج الصالح. وهذه خير فرصة لهم يعرضوا فيها الرؤى والأفكار الرسالية، ويوجهوا الناس اليها. من هذه الفرصة إستفاد أوسط اصحاب الجنة، بحيث حذر أخوته من أخطائهم، وأرشدهم إلى سبيل الصواب. (قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين* فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون* قالوا ياويلنا إنا كنا طاغين* عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون).

وقصة هؤلاء شبيه بقوله تعالى:
((وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ))

قيل: هذا مثل مضروب لأهل مكة . وقيل: هم أهل مكة أنفسهم، ضربهم مثلا لأنفسهم. ولا ينافي ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.

همسات ايمانية
2015-07-28, 18:00
قصة سيدنا موسى من موقع اسلام ويب

الجزء 1
تعد قصة موسى وهارون عليهما السلام وما حدث بينهما وبين فرعون وبين قومهما من بني إسرائيل تعدُّ على رأس القصص التي تكرر ذكرها في القرآن الكريم؛ حيث ورد الحديث عنها في أكثر من عشرين سورة، تارة بصورة مفصلة، كما هو الحال في سور (البقرة)، و(الأعراف)، و(طه)، و(الشعراء)، و(القصص). وأخرى بصورة مختصرة، كما هو الحال في سور (الروم)، و(الدخان)، و(النازعات) وغيرها.

تكرر ذكر موسى عليه السلام في القرآن الكريم أكثر من مائة مرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عندما يشتد به الأذى، يقول: (رحم الله موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) متفق عليه.

حاصل القصة

كان موسى عليه السلام واحداً من بني إسرائيل؛ إذ ينتهي نسبه إلى يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وقد أرسله سبحانه إلى فرعون وقومه؛ ليدعوهم إلى إخلاص العبادة لله تعالى؛ ولينقذ بني إسرائيل من ظلم فرعون وملئه؛ حيث كانوا يذبحون الأبناء، ويستحيون النساء. وبقي يكرر الدعوة لفرعون وقومه، وينهاهم عن ظلم الناس، لكن من غير فائدة. وكانت نتيجة إصرار فرعون على الكفر والجحود والعناد أن أغرقه الله وقومه، وجعله عبره لمن بعده من الجبابرة.

في سورة القصص أكثر من أربعين آية تحدثت عن الظروف التي ولد خلالها موسى، وعما فعلته أمه بعد مولده، وعن حاله بعد أن بلغ أشده واستوى، وعن هجرته إلى أرض مدين، وعن تشريفه بالنوبة وهو في طريقه من أرض مدين إلى مصر، وعن دعوته فرعون وقومه، إلى إخلاص العبادة لله الواحد القهار.

ولادة موسى وتربيته

وُجد موسى عليه السلام في ظرف كان فيها فرعون مصر قد تمادى في غيه، وعلا في الأرض عتواً وفساداً، وأنزل الخسف بطائفة من رعاياه، هم بنو إسرائيل؛ إذ عاشوا في ظلاله عيشة البلاء، وبينما هم في نكد من العيش، إذ تقدم كاهن من فرعون، وقال له: يولد مولود في بني إسرائيل، يذهب ملكك بيده! فثارت ثائرة فرعون واشتط غضباً، وأخذ يذبِّح الأبناء، ويستبقي النساء أحياء.

كانت أم موسى في تلك الأثناء تجلس في بيتها قلقة خائفة، وهي على وشك أن تضع مولودها، فلما جاءها المخاض، دعت قابلة لتدبر أمر الولادة، فلما وضعت أم موسى حملها، كتمت أمره عن الناس؛ مخافة أن يصيبه ما يُصيب أمثاله من قاتل الأطفال. ثم ألهمها الله أن تضع وليدها في صندوق، وتلقي به في نيل مصر، مسلِّمة أمرها إلى الله، عسى أن يقع في يد بعيدة تحفظه مما يراد به.

وقد طلبت أم موسى من ابنتها أن تتبع أثر أخيها؛ لتنظر ماذا سيكون من أمره. سارت أخت موسى تتتبع أثر أخيها هنا وهناك، وما كان أشد هلعها حينما حُمِل الصندوق إلى فرعون، ولم تكد تقع عين امرأة فرعون على هذا الطفل الوليد الجديد حتى ألقى الله محبته في قلبها، فطلبت من زوجها أن يكون ابناً لها، وبقدر ما فرحت امرأة فرعون بهذا المولود الذي دخل حبه إلى قلبها من غير استئذان، بقدر ما كان قلب أم موسى يكابد الهم ويعتصر إشفاقاً على وليدها، بيد أنها كانت واثقة بحفظ الله له، ورعايته إياه. وأخذت امرأة فرعون تحضر للمولود الجديد مرضعة تقوم بشأنه، بيد أن موسى الرضيع لم يقبل ثدي أي واحدة من المرضعات، ثم هدى الله أخت موسى إلى بيت فرعون، فطلبوا منها أن تأتي بمن يكفله، فجاءت بأمها على أنها مرضعة من المرضعات، فعرضوا عليه ثديها فقبله، فطلبوا منها أن تأخذ الطفل، وتعتني به ريثما يكبر ويشب عن الطوق.

أتمت أم موسى رضاع وليدها، ثم أسلمته إلى القصر الفرعوني، وهناك كبر وأصبح ذا شأن في البلاط، وعندما بلغ موسى تمام الأربعين، أوحى الله إليه بالرسالة، وأمره أن يبلغها إلى فرعون وقومه، واتجهت أنظار المغلوبين والمظلومين إليه؛ ليحميهم مما أثقل كاهلهم من الظلم والآلام.

ثم إن موسى عليه السلام بدت منه مجاهرة لفرعون وقومه بما يكرهون، فاختفى عن الأنظار وغاب. وذات يوم وهو يمشي في شوارع المدينة، إذا برجلين يقتتلان، أحدهما عبري من مشايعيه، والآخر قبطي من قوم فرعون، ويبدو أن القبطي كان هو المعتدي، فطلب العبري من موسى النصرة والحمية، فهمَّ موسى فضرب القبطي، فكانت القاضية، ثم ندم على فعلته، واستغفر ربه على ما كان منه.

واستمر القلق يساور موسى بعد قتله للقبطي، فأصبح يسير في طرقات المدينة خائفاً من مغبة فعله، ومترقباً لما سيؤول إليه الأمر. وبينما هو على هذه الحالة إذا بالشخص العبري يستغيث به مرة أخرى من قبطي آخر، ويطلب منه العون عليه، فما كان من موسى إلا أن قال له، وهو على حالة من الغضب: إنك لضال بيُّن الضلالة، وجاهل واضح الجاهلة؛ لأنك تسببت في قتلي لرجل، ما كان ينبغي أن يُقتل.

وانتشر خبر قتل موسى للقبطي بالمدينة، فأخذ فرعون وقومه في البحث عن موسى عليه السلام؛ لينتقموا منه، في تلك الأثناء جاء رجل مسرعاً، فأخبر موسى أن السلطات الفرعونية، تبحث عنه، وتريد القبض عليه والنيل منه، ونصحه بالخروج من مصر والتوجه إلى مكان آمن، لا تطاله فيه يد البطش ولا تصل إليه قوى العدوان. واستجاب موسى عليه السلام لنصح الرجل، فغادر المدينة تحت جنح الظلام، وأخذ يتضرع إلى الله أن ينجيه من القوم الظالمين، ويحفظه من كيد المعتدين.

توجه موسى تلقاء مدين وزواجه

توجه موسى عليه السلام تلقاء مدينة مدين -منطقة الأردن اليوم- وكان يقيم فيها النبي شعيب عليه السلام، ولم تكن هذه المنطقة داخلة تحت السلطان الفرعوني، ووصل موسى عليه السلام بعد رحلة شاقة محفوفة بالمخاطر والصعاب إلى أرض مدين، وعند وصوله إلى ذلك البلد، قصد مكاناً يستقي الناس منه، وصادف أن وجد في ذلك المكان فتاتين كانتا تريدان سقاية أغنامهما والتزود بالماء، وكان الطلب على الماء شديداً، والناس يتدافعون للحصول عليه ، بيد أن تلك الفتاتين كانتا تقفان جانباً، تنتظران الوقت المناسب للتزود بالماء، فتقدم منهما موسى عليه السلام، وسألهما عن شأنهما: فأخبرتاه أنهما ليس من عادتهما أن يطلبا الماء حتى ينصرف الناس عنه، ويصبح الماء خالياً من قاصديه، وأخبرتاه أيضاً أنهما لا يليق بهما مزاحمة الرجال على الماء، وليس عندهما من يقوم بهذه المهمة بدلاً عنهما، وأن أباهما رجل كبير لا يقوى على القيام بهذه المهمة الشاقة.

وبعد أن سمع موسى عليه السلام منهما هذه الإجابة سارع إلى معاونتهما، فسقى لهما مواشيهما، ثم تنحى جانباً؛ ليستظل تحت شجرة تقيه حر الشمس الحارقة، وأخذ يناجي ربه طالباً منه المدد والعون والتوفيق والتسديد، وكانت الإجابة سريعة.

لما رجعت الفتاتان سراعاً بالغنم إلى أبيهما، أنكر حالهما ومجيئهما سريعاً على غير المألوف من عادتهما، فسألهما عن خبرهما، فقصتا عليه خبر موسى عليه السلام، وأخبرتاه أنه رجل قوي وأمين. فسألهما أبوهما: وكيف علمتما بذلك؟ فأجابته إحداهما: إنه رفع الصخرة التي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال، وإنه لما جئتُ معه تقدمت أمامه، فقال لي: كوني من ورائي، فإذا اجتنبتُ الطريق، فاقذفي لي بحصاة، أعلم بها كيف الطريق، فأهتدي إليه. فبعث إحداهما إلى موسى لتدعوه إلى مقابلته، فجاءته إحداهما وهي تمشي على استحياء، وأخبرته أن أباها متشوف لرؤيته والتعرف عليه، ومكافأته على فعله. فلاقت الدعوى قبولاً لدى موسى عليه السلام، فذهب معها للقاء والدها، ولما وصل إلى بيت العجوز والتقى به، وقص عليه ما كان من أمره وقتله القبطي، وخروجه من مصر، قال له الشيخ: لا تخف، فأنت في مأمن وحرز من أن ينال منك أحد.

ثم إن الفتاة طلبت من أبيها أن يستأجر موسى عليه السلام، وعللت طلبها بقوته وأمانته، وأخبرت والدها بأن في استئجاره كفاية لهم من تعب الرعي، ومشقة السقي، فاستجاب الشيخ لاقتراح ابنته، ثم استدعى موسى وأخبره أنه راغب في مصاهرته، وتزويجه أي الفتاتين يرغب، وشرط عليه العمل عنده مدة ثمانية أعوام، وأنه سيعامله المعاملة التي تليق بمكانته، وإن رغب في إتمامها إلى عشر، فذلك فضل منه وكرم. وأبدى موسى موافقته على هذا العرض النبيل.

ومضت السنون التي قضاها موسى عليه السلام أجيراً عند الشيخ الكبير، ووفى كل واحد منهما بما وعد به صاحبه، وتزوج موسى بإحدى الفتاتين، ثم قرر الرجوع إلى مصر، فماذا حدث في طريق العودة؟

الجزء 2عودة موسى إلى مصر

سار موسى بزوجته قاصداً مصر، وفي أثناء رحلته ضل طريقه، وكانت ليلة شاتية، ونزل منزلاً بين شعاب وجبال، في برد وشتاء، وسحاب وظلام وضباب، وجعل يقدح بزند معه ليشعل ناراً، كما جرت له العادة به، فجعل لا يقدح شيئاً، ولا يخرج منه شرر ولا شيء. فبينا هو كذلك، إذ ظهر له من جانب جبل الطور ناراً، فاستبشر بخير، وأخبر زوجته بما رآى، ولما قصد إلى النار سمع نداء يخاطبه {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني} (طه:14). ثم جاءه نداء ثان يطلب منه أن يلقي عصاه التي يستعين بها في سفره، فلما ألقاها انقلبت العصا ثعباناً يتحرك بسرعة، ويضطرب في حركته، فما كان من موسى إلا أن ولى هارباً من هول الموقف، ولم يلتفت إلى شيء. ثم جاءه نداء ثالث يطلب منه أن يعود إلى مكانه الذي فرَّ منه، ويخبره أنه ليس ثمة ما يُخاف، وأنه آمن بأمان الله. ثم جاءه نداء رابع يطلب منه أن يُدْخل يده في ثوبه تخرج بيضاء من غير مرض أو عيب، وطمئنه أن لا خوف عليه ولا فزع، بل هو في حفظ الله وكنفه.

ثم أتاه نداء يخبره أن الله سبحانه زوده بهاتين المعجزتين؛ لتكونا له برهاناً على صدق ما جاء به، ويحاجج بهما فرعون ومن سار على دربه ونهج نهجه. وتضمن النداء أمراً لموسى بالذهاب إلى فرعون، ودعوته للخضوع والإذعان لله رب العالمين. وهنا تذكر موسى ما كان بينه وبين فرعون من عداوة، فقال: {رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون} (القصص:33)، فاستجاب موسى لأمر ربه، واستدعى أخاه هارون طلباً منه مرافقته في سفره، ومن أجل دعوة فرعون إلى الحق؛ وليأمراه بإخلاص العبادة لله.

لما جاء موسى وهارون فرعون، وأبلغاه رسالة ربهما، ما كان من الأخير إلا أن أنكر دعوى موسى وهارون، وأعرض عنهما، بل فعل أكثر من ذلك، فأخبر أتباعه وأنصاره أنه لا إله سواه! وقد قابل قوم فرعون هذا الهراء والهذيان بالسكوت والتسليم، شأن الجهلاء الجبناء.

المحاورات والمناقشات بين موسى عليه السلام وبين فرعون وملئه

قال موسى في رده على فرعون ودعواه: يا فرعون! ربنا وربك الله الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي أعطى كل مخلوق من المخلوقات، وكل شيء من الأشياء الصورة التي تلائمه، والهيئة التي تتحقق معها منفعته ومصلحته، ثم هداه وظيفته التي خلقه من أجلها، وأمده بالوسائل والملكات التي تحقق هذه الوظيفة.

قال فرعون لموسى مهدداً ومتوعداً: {أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى * فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا} (طه:57-85) للمباراة والمبارزة، ونتخلف نحن ولا أنت عن هذا الموعد، على أن تكون منازلتنا لك في وسط المدينة، بحيث يستطيع جميع سكانها الحضور؛ ليعاينوا عن قرب نتائج هذا التحدي.

وافق موسى على اقتراح فرعون، واتفق الطرفان على أن يكون الموعد بينهما يوم العيد، حيث يكون الناس في فراغ من العمل، ويكون حضورهم أوفى وأيسر. واستشار فرعون حاشيته، فأشاروا عليه بأن يرسل إلى جميع المدن التي تقع تحت سلطانه أن يرسلوا إليه سحرتهم، وطلب منهم الاستعداد للموعد المحدد لمنازلة موسى، ووعدهم الأجر الجزيل، والعطاء الجميل، والمنزلة الرفيعة، وحُسن الرعاية والعناية، على أن يوافوه في الموعد المحدد، والمكان المقرر.

وأقبل السحرة على وجه السرعة -وهذا شأن الأتباع ومنتهزي الفرص- على فرعون، فقالوا له بلغة المحترف والمستوثق، الذي مقصده الأول والأخير مما يعمله الأجر والعطاء: هل ستكافئنا بالأجر العظيم، والعطاء الوفير إذا غلبنا موسى؟ وهنا يجيبهم فرعون بقوله: نعم، لكم أجر مادي جزيل إذا انتصرتم عليه، وفوق ذلك، فأنتم تكونون بهذا الانتصار من الظافرين بقربي، والمحاطين برعايتي.

اطمأن السحرة على الأجر العظيم، والمنـزلة الموعودة، والمكانة المشهودة. وجاء الموعد واليوم المشهود، ووقف الجميع ينتظرون أمر الطاغية! كان ابتداء الكلام للطاغية، قال مخاطباً موسى: ألست أنت الذي ربيناه فينا وفي بيتنا وعلى فراشنا، وغذيناه وكسوناه، وأنعمنا عليه مدة من السنين، ثم بعد هذا قابلت ذلك الإحسان بأن قتلت منا رجلاً، وجحدت نعمتنا عليك؟ قال موسى ردًّا على سؤال الطاغية: أنا لا أنكر أني قد فعلت تلك الفعلة، ولكنني فعلت ما فعلت قبل أن يشرفني الله بوحيه، ويكلفني بحمل رسالته، وفضلاً عن ذلك، فأنا كنت أجهل أن تلك الضربة التي ضربتها لذلك القبطي سوف تؤدي إلى قتله، بل كان قصدي تأديبه، وكفه عن الظلم.

وكان من بين التهم التي وجها الطاغية -وكذلك يفعل كل الطغاة- إلى موسى وأخيه هارون تهمة قديمة جديدة، حاصلها أنهم إنما يمتنعون عن قبول دعوة موسى؛ لأنه في نظرهم إنما جاء بما جاء به طلباً للسيادة عليهم، ونزعاً للسلطان من بين أيديهم.

في ساحة المبارزة قال فرعون بحنق وغضب مخاطباً موسى: لئن اتخذت معبوداً من دوني، لأزجُّن بك في غياهب السجون، وأجعلك عبرة لغيرك، فهذا شأني ومذهبي مع كل من يخالف أمري، ويتمرد على طاعتي.

بيد أن موسى لم يلق بالاً لهذا التهديد والوعيد، بل طلب من فرعون أن يقدم البراهين والأدلة على صحة دعواه، وعلى صواب طريقته. وهنا ألقى السحرة بسحرهم، وقد أخبر عنه القرآن بأنه سحر عظيم، أرهب المجتمعين، وسحر أعينهم، بيد أن هذا السحر وما نتج عنه سرعان ما تهاوى، وانطوى في ومضة، وزالت آثاره بعد أن قذفه موسى بسلاح الحق الذي سلحه به ربه، حيث ألقى موسى عصاه، فإذا هي حية عظيمة، أفزعت الجمع بأسره، وأصابت الهزيمة المنكرة فرعون وملأه، بعد أن أنزل موسى بهم الخذلان والخيبة، ولما رأى سحرة فرعون الأمر كذلك، علموا أن ما جاء به موسى هو الحق، فآمنوا به، وعبروا عن هذا الإيمان بالسجود لله رب العالمين؛ وتحول السحرة من التحدي السافر إلى التسليم المطلق أمام صولة الحق الذي لا يجحده إلا مكابر حقود.

غير أن فرعون وملأه لم يرقهم ما شاهدوا من إيمان السحرة، ولم يدركوا -لطمس بصيرتهم- فعل الإيمان في القلوب، فأخذ يتوعدهم بالموت الأليم، ويتهمهم بأن إيمانهم لم يكن عن قناعة، وإنما كان حيلة احتالوا بها على الناس. وقد ضرب السحرة صفحاً عن تهديد فرعون واتهامه، وضربوا للناس في كل زمان ومكان أروع الأمثال في التضحية من أجل العقيدة، وفي الوقوف أمام الطغيان بثبات وعزة، وفي الصبر على المكاره، وفي المسارعة إلى الدخول في الطريق الحق، وفي التعالي عن كل مغريات الحياة.

وهكذا، بعد أن شاهد السحرة الحق يتلألأ أما أبصارهم، لم يملكوا إلا أن ينطقوا به على رؤوس الأشهاد، وتحولوا من قوم يلتمسون الأمر من فرعون، ويطمعون في المال الجزيل، ويرغبون في المنزلة المقربة إلى قوم آخرين، هجروا الدنيا ومغانمها، واستهانوا بالتهديد والوعيد، ونطقوا بكلمة الحق في وجه من كانوا يقسمون بعزته منذ وقت قريب.

ثم إن موسى بعد الانتصار الذي حققه على فرعون وملئه مكث حيناً من الزمن يدعو فرعون وقومه إلى عبادة الله الواحد القهار -وعلى عادة الطغاة والمتجبرين والمتكبرين- لم يجد آذاناً صاغية لدعوته، وتعرض ومن معه من المؤمنين لصنوف من العذاب، إلى أن جاءه الأمر الإلهي بالخروج ومن معه من المؤمنين من مصر إلى بلاد الشام.

خروج موسى من مصر

بعد ما جاء الأمر الإلهي استعد موسى للخروج من مصر، وسار بقومه من بني إسرائيل تلقاء بلاد الشام، ولما علم فرعون بخروج موسى ومن معه، جمع جنوده وأسرع في طلب موسى، وما إن وصلوا إلى شاطئ البحر حتى انفلق البحر أمام موسى ومن معه، وتمهد الطريق أمامه لعبور البحر، فأتبعهم فرعون وجنوده للظفر بهم، بيد أن الله بقدرته العظيمة، وانتقامه لعباده المؤمنين ما إن دخل فرعون البحر حتى انطبق عليهم فأغرقهم أجمعين، ولما أدرك الغرق فرعون أقر بالإلوهية لله تعالى، وجاءه الرد الإلهي سريعاً ومباشراً بأن الوقت قد فات، وأن المصير الذي ينتظره لا مفر منه، وأنه سيكون عبرة لمن بعده من الظالمين والطاغين والمتجبرين والمتكبرين.

بعد أن أغرق الله فرعون ونجا موسى ومن معه من بني إسرائيل، سار موسى بقومه إلى بيت المقدس، وحدث له في طريقه قصة مع قومه ، نعرض لها في موضوع آخر .

الجزء 3

قصة عبادة بني إسرائيل العجل

بعد أن أهلك الله فرعون وجنوده، سار موسى عليه السلام ببني إسرائيل إلى بيت المقدس، ثم تركهم مستخلفاً عليهم أخاه هارون، وذهب لمناجاة ربه، وفي تلك الأثناء جاءه الخبر الإلهي بما أحدثه قومه في غيبته من عبادة العجل، بعد أن زين لهم ذلك شخص يدعى السامري -نسبة إلى السامرة من مدن فلسطين- وقالوا عندما رأوا العجل الذي صنعه لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى فاعبدوه؛ لأن موسى نسي إلهه هنا، وذهب ليبحث عنه في مكان آخر.

وقد نصح هارون عبدة العجل من قومه قبل رجوع موسى عليه السلام إليهم، فبيَّن لهم أنهم على ضلال مبين بعبادتهم هذا العجل، الذي لا يضر ولا ينفع، وأن المعبود الحق إنما هو الله وحده، وحثهم على العودة واتباع الحق الذي عليه هو وأخوه موسى. بيد أن هذه النصيحة لم تجد آذاناً صاغية، بل قابلت تلك النصيحة بالاستخفاف والاستهزاء، والتصميم على المضي قُدُماً في طريق الضلال.

ولما عاد موسى عليه السلام إلى قومه، عاتب أخاه؛ لأنه لم يتخذ موقفاً حازماً وحاسماً من عبادة القوم العجل، فأخبره هارون أنه لم يقاتلهم جراء فعلتهم؛ مخافة أن تحدث فتنة بينهم، فينقسموا شيعاً وأحزاباً، وآثر أن ينتظر عودة موسى ليتدارك الأمر. وبعد أن انتهى موسى من سماع اعتذار أخيه هارون، وجَّه كلامه إلى قومه، ليعرف السبب وراء عكوفهم على عبادة العجل، فقدموا له معاذير واهية، تدل على بلادة عقولهم، وانتكاس أفكارهم، فذكروا أن عبادتهم العجل كانت أمراً خارجاً عن طاقتهم واختيارهم، وكانت بتسويل السامري، ولولا ذلك -كما ادعوا- لبقوا على العهد والوعد. وتوجَّه موسى عليه السلام مغضباً إلى السامري، وأخذ في زجره وتوبيخه، ثم أمر الناس باجتنابه وعدم الاقتراب منه؛ لأنه مفتر أثيم وشر مستطير. ثم أخذ موسى العجل المصنوع وأتلفه، وألقى ذراته في البحر، وبين لمن كان يعبده أن عبادته جهل ليس بعده جهل، ولا ينبغي لعاقل أن يفعل ذلك. وختم حديثه لهم بأن المعبود الحق إنما هو الله الذي لا إله غيره وسع كل شيء علماً.

قصة السبعين الذين اختارهم موسى

اختار موسى عليه السلام سبعين رجلاً من خيرة قومه للميقات الذي وقَّته الله له، ودعاهم للذهاب معه. وكان هذا الميقات -على الراجح من الأقوال- بعد عبادة بني إسرائيل للعجل في غيبة موسى. ثم إن هؤلاء السبعين المختارين من بني إسرائيل طلبوا من نبيهم موسى ما لا يصح لهم أن يطلبوه، فأخذتهم الرجفة بسبب ذلك. وتوجه موسى عليه السلام إلى ربه قائلاً: يا ربِّ! كنت أتمنى لو سبقت مشيئتك أن تهلكهم من قبل خروجهم معي إلى هذا المكان، وأن تهلكني معهم حتى لا أقع في حرج شديد مع بني إسرائيل؛ لأنهم سيقولون لي: قد ذهبت بخيارنا لإهلاكهم. وقد قال موسى عليه السلام هذا القول لاستجلاب العفو من ربه عن هذه الجريمة التي اقترفها قومه، بعد أن منَّ الله تعالى عليهم بالنعم السابقة الوافرة، وأنقذهم من فرعون وقومه. ثم دعا موسى ربه أن ييسر له في هذه الحياة ما يحسن من نعم وطاعة وعافية وتوفيق، وأن يكتب له في الآخرة أيضاً ما يحسن من مغفرة ورحمة وجنة عرضها السموات والأرض.

ثم قال الله تعالى لموسى ردًّا على دعائه: يا موسى! إن عذابي الذي تخشى أن يصيب قومك، أصيب به من أشاء تعذيبه من العصاة والطغاة، فلا يتعين أن يكون قومك محلاً له بعد توبتهم، فقد اقتضت حكمتي أن أجازي الذين أساؤوا بما عملوا وأجازي الذين أحسنوا بالحسنى. فلا خوف على قومك، ولا على غيرهم من خلقي ممن هم أهل له.

قصة موسى والقوم الجبارين

بعد أن أغرق الله فرعون ونجَّا موسى ومن معه من بني إسرائيل، سار موسى بقومه إلى بيت المقدس، وما إن جاوزوا البحر حتى وقعت أبصارهم على قوم يعبدون الأصنام، فعاودتهم طبيعتهم الوثنية، فطلبوا من موسى أن يصنع لهم آلهة. وهنا غضب عليهم موسى غضباً شديداً، ووصفهم بأنهم قوم يجهلون الحق، وبيَّن لهم فساد ما عليه المشركون، وذكَّرهم بما حباهم الله به من نعم جزيلة، توجب عليهم إفراده بالخضوع لأمره، والتسليم لمشيئته. ثم مضى موسى يستنكر عليهم هذا الطلب، ويبين لهم أن الله وحده هو المستحق للعبادة، وذكَّرهم بنعمة الإنجاء من العذاب الأليم والتنكيل المهين.

في تلك الأثناء أوحى الله تعالى لموسى أن يختار من قومه اثني عشر رجلاً من أشرف من معه، وأمره أن يرسلهم إلى الأرض المقدسة؛ ليستطلعوا أحوال سكانها؛ وليعرفوا شيئاً من أخبارها. ونفذ موسى أمر ربه، وأرسل المختارين من قومه إلى الأرض المقدسة. فلما دخل النقباء الأرض المقدسة، واطلعوا على أحوال سكانها، وجدوا منهم قوة عظيمة، وأجساماً ضخمة، فعاد النقباء إلى موسى، وقالوا له: قد جئنا إلى الأرض التي بعثتنا إليها، فإذا هي في الحقيقة تدر لبناً وعسلاً، غير أن ساكينيها قوم أقوياء، ومدينتهم محصنة تحصيناً قويًّا، وأخذ كل نقيب من النقباء ينهى سبطه عن القتال، إلا اثنين منهم، فإنهما نصحا القوم بطاعة نبيهم موسى وبقتال الكنعانيين معه، ولكن بني إسرائيل عصوا أمر هذين النقيبين، وأطاعوا أمر بقية النقباء، وأصروا على عدم الجهاد، ورفعوا أصواتهم بالبكاء، وقالوا: يا ليتنا متنا في مصر، أو في هذه البرية!

وأوحى الله إلى موسى عليه السلام أن يصدهم عما تردوا فيه من جبن وعصيان، وأن يحملهم على قتال الجبارين، ولكنهم صموا آذانهم عن أمره، وأعرضوا عنه. ثم إن الرجلين المؤمنين، استنكرا إحجام قومهم عن الجهاد، وحرضاهم على طاعة نبيهم، ودعيا قومهما بأن يكلوا أمورهم إلى خالقهم بعد مباشرة الأسباب، وأن يعقدوا العزم على مبادرة أعدائهم بالقتال. غير أن هذه النصيحة من هذين الرجلين المؤمنين، لم تصادف من بني إسرائيل قلوباً واعية، ولا آذاناً صاغية، بل قابلوها بالتمرد والعناد، وكرروا لنبيهم موسى عليه السلام نفيهم القاطع للإقدام على دخول الأرض المقدسة، ما دام الجبارون مقيمين فيها؛ وتذرعوا بأنه لا طاقة لهم على مواجهتهم؛ لأنهم قوم أقوياء أشداء. وأخبروا موسى أنه إذا كان دخول هذه الأرض أمر يهمه، فإن عليه أن يذهب وربه لقتال سكانها الجبابرة، وإخراجهم منها. أما هم فإنهم قاعدون في مكانهم، لن يغادروه؛ لأن قتال الجبابرة لا يعنيهم لا من قريب ولا من بعيد!

وعندما رأى موسى من قومه ما رأى من عناد وجبن، لجأ إلى ربه يشكو إليه أمرهم، ويلتمس منه أن يفرق بينه وبينهم؛ لأنهم ليسوا أهلاً لصحبته واتباعه، ثم قال مخاطباً ربه: لقد علمت يا إلهي أني لا أملك لنصرة دينك إلا أمر نفسي وأمر أخي، أما قومي فقد خرجوا عن طاعتي، وفسقوا عن أمرك، وما دام هذا شأنهم، فافصل بيننا وبينهم بقضائك العادل، فإنك أنت الحكم العدل بين العباد، وأنت أحكم الحاكمين. وأجاب سبحانه دعاء نبيه موسى عليه السلام، فأخبره أن الأرض المقدسة محرمة على هؤلاء الجبناء العصاة مدة أربعين سنة، يسيرون خلالها في الصحراء تائهين حيارى، لا يستقيم لهم أمر، ولا يستقر لهم قرار، فإن هذا جزاء كل من يعصي أمر الله، ولا يلتزم حدود شرعه. وكان لموسى خبر آخر نقف عليه فيما سيأتي من مواضيع .

همسات ايمانية
2015-07-28, 18:06
القصة العاشرة قصة سيدنا موسى 2 [FONT="Amiri"]
مواعدة موسى
كان موسى عليه السلام مشوقاً للحديث مع خالقه عز وجل والنظر إليه ، وقد أمره سبحانه أن ينقطع لمناجاته أربعين ليلة؛ تمهيداً لإعطائه التوراة؛ لتكون هداية ونوراً له ولقومه. وقبل أن ينقطع موسى لمناجاة ربه طلب من أخيه هارون أن يخلفه في قومه، وأن يراقبهم فيما يأتون وما يذرون؛ لضعف إيمانهم، واستيلاء الشهوات والأهواء عليهم. ويبدو أن موسى عليه السلام كان متوقعاً شراً من قومه، ولقد صح ما توقعه، فإنهم بعد أن فارقهم استغلوا جانب اللين في هارون، فعبدوا عجلاً جسداً له خوار، صنعه لهم رجل يقال له: السامري.

ولما وصل موسى إلى الميقات الذي حدده له ربه، خاطبه سبحانه من غير واسطة مَلَك، ثم التمس موسى من ربه أن يراه، فأخبره سبحانه أن رؤيته في الدنيا خارجة عن طوق أحد من البشر، وطلب منه سبحانه أن ينظر إلى الجبل، الذي هو أقوى من أي أحد من البشر، فإن استقر مكانه حين يتجلى له، ولا يتفتت من هذا التجلي، فسوف يتمكن من رؤيته سبحانه، وإن لم يستقر الجبل مكانه، بل تزعزع واضطرب، فإن رؤيته سبحانه غير ممكنة في الدنيا .

وحين تجلى سبحانه للجبل على الوجه اللائق بجلاله، لم يثبت الجبل أمام عظمته سبحانه، بل تفتت وسحق، فلما رأى ذلك موسى علم أن لا طاقة له برؤيته سبحانه، وسقط من هول ما رأى مغشياً عليه، كمن أخذته الصاعقة. وعندما أفاق موسى من غشيته، وعاد إلى حالته الأولى، توجه مخاطباً المولى عز وجل: إني أنزه جلالك أن تشبه أحداً من خلقك في شيء، وإني قد تبت إليك من أن أسألك شيئاً خارجاً عن طاقتي، وأنا مؤمن كل الإيمان بعظمتك وقدرتك، وأنه لا قدرة لأحد من البشر أن يراك في هذه الحياة الدنيا.

ثم أخبر سبحانه موسى عليه السلام أنه اصطفاه على الناس الموجودين في زمانه، وأخبره أن من جملة هذا الاصطفاء أنه أنزل إليه التوراة فيها هدى ونور، وأنه كلَّمه بغير واسطة أحد. وأخبره أن يأخذ ما أعطاه من شرف النبوة والمناجاة، وأن يشكر الله على ما أنعمه عليه من نِعم لا تعدُّ ولا تحصى.

وبيَّن سبحانه لموسى أنه ضمَّن التوراة من الأحكام كل شيء يحتاج إليه من أُرسل إليهم، من الحلال والحرام، والمحاسن والقبائح؛ ليكون ذلك موعظة لقومه، وطلب منه أن يعمل بما جاء فيها بكل عزم وحزم؛ لأنه أُرسل إلى قوم طال عليهم الأمد، فقست قلوبهم، وضعفت عزائمهم، وانحرفت نفوسهم، فإذا لم يكن المتولي لإرشادهم وإلى ما فيه هدايتهم ذا قوة وصبر ويقين، فإنه قد يعجز عن تربيتهم، ويفشل في تنفيذ أمر الله فيهم. وختم سبحانه خطابه لموسى بإنذار من يخالف أمره، ويعرض عن هديه، بأن عاقبته أليمة، وحسابه عسير.

قصة موسى وبقرة بني إسرائيل

كان في بني إسرائيل رجل غني، وله ابن عمٍّ فقير لا وارث له، فلما طال عليه موته، قتله؛ ليرثه، وحمله إلى قرية أخرى، فألقاه فيها: ثم أخذ يطلب ثأره، وجاء بناس إلى موسى يدعي عليهم القتل، فسألهم موسى، فجحدوا، فسألوه أن يدعو الله؛ ليبين لهم بدعائه القاتل الحقيقي، فدعا موسى ربه، فأوحى الله تعالى إليه أن يطلب منهم أن يذبحوا بقرة. وقد أمرهم الله تعالى بذبح بقرة دون غيرها من الحيوانات؛ لأنها من جنس ما عبدوه، وهو العجل.

فكان رد القوم على هذا الطلب أن قالوا: أتهزأ بنا، وتسخر منا؟ فأجابهم موسى: إني لا أهزأ بكم، ولا أسخر منكم، فليس هذا من شأني، ولا هو من خُلقي، فلما رأى القوم أنه جاد فيما يقول، طلبوا منه أن يبين لهم حال البقرة التي يُراد ذبحها، فأخبرهم موسى بأن المطلوب أن تكون معتدلة السن، ليست بالصغيرة ولا بالكبيرة. ومع ذلك فقد أبى القوم إلا التنطع في الطب والاستقصاء في السؤال، فأخذوا يسألون عن لونها بعد أن عرفوا سنَّها، فأجابهم موسى بقوله: إن البقرة التي أمركم الله بذبحها صفراء شديدة الصفرة، تُعجب في هيئتها ومنظرها وحسن شكلها الناظرين إليها.

بيد أن هذا الأوصاف التي سألوا عنها لم تغنهم من الحق شيئاً، وأخذوا يسألون عما هم في غنى عنه، فطلبوا من موسى أن يسأل ربه؛ ليزيدهم إيضاحاً لحال البقرة التي أمروا بذبحها، فأجابهم موسى أن من صفاتها أن تكون سائمة، ليست مذللة بالعمل في الحراثة، ولا في السقي، وأن تكون سليمة من كل عيب، ليس فيها لون يخالف لونها. فلما وجدوا أن جميع صفاتها ومميزاتها قد اكتملت، أقروا أن الأمر قد أصبح واضحاً لديهم، وأحضروا البقرة المستوفية لتلك المواصفات فذبحوها. ثم إن موسى أمرهم أن يضربوا القتيل بأي جزء من أجزاء البقرة، فضربوه، فعادت إليه الحياة -بإذن الله- وأخبر عن قاتله.

ورغم عِظَم هذه المعجزة التي تزلزل المشاعر، وتهز القلوب، وتبعث الإيمان في النفوس، إلا أنها لم تؤثر في قلوب بني إسرائيل الصلدة؛ لأنها قد طرأ عليهم بعد رؤيتها ما أزال آثارها من قلوبهم، ومحا الاعتبار بها من عقولهم.

قصة موسى والخضر

قصَّ علينا القرآن الكريم قصة موسى عليه السلام والخضر، وقد ثبت في السنة أن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل ، فسُئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه؛ إذ لم يَرُدَّ العلم إليه، فقال له: بل لي عبد بمجمع البحرين، هو أعلم منك، قال: أي رب! ومن لي به، قال: تأخذ حوتاً فتجعله في مكتل، فحيثما فقدت الحوت، فهو ثَمَّ، فأخذ حوتاً، فجعله في مكتل، ثم انطلق هو وفتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة، وضعا رؤوسهما، فرقد موسى ، واضطرب الحوت، فخرج فسقط في البحر. فانطلقا يمشيان بقية ليلتهما ويومهما، حتى إذا كان من الغد، أدرك موسى التعب والجوع، فطلب من مرافقه أن يحضر له الطعام، فأخبره المرافق أنه قد نسي الحوت عند الصخرة، فرجعا يتبعان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى بثوب، فسلم موسى فردَّ عليه، فقال: وأنى بأرضك السلام! قال: أنا موسى! قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتك لتعلمني مما علمك الله، قال: يا موسى! إني على علم من علم الله، علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله، علمكه الله لا أعلمه، قال موسى للخضر: هل أتبعك على أن تعلمني مما علمك الله؟ فأجابه الخضر: ليس لك القدرة على مرافقتي والأخذ عني، ثم أخبره موسى أن لديه القدرة على تحمل طلب العلم، والصبر على ملازمة العلماء.

فانطلق موسى والخضر يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهما سفينة، فعرضوا عليهم أن يحملوهما، فعرفوا العبد الصالح، فحملوه بغير أجر، فلما ركبا في السفينة، جاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، فقال الخضر: يا موسى! ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر. ثم أخذ الخضر فأساً، فنزع لوحاً من السفينة، فقال له موسى: ما صنعت؟ قوم حملونا بغير أجر، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها؛ لتغرق أهلها، إن هذا لأمر منكر. فقال الخضر: ألم أخبرك يا موسى أنك لا تقدر على متابعتي والأخذ عني، فاعتذر موسى إليه، وأخبره أنه قد نسي ما وصاه به قبل أن ينطلقا معاً.

فلما خرجا من البحر، مروا بغلام يلعب مع الصبيان، فأخذ الخضر برأسه فقلعه بيده، كأنه يقطف شيئاً، فأنكر موسى فعل الخضر، واعترض عليه بقوله: كيف تقتل نفساً لم ترتكب إثماً؟ فردَّ عليه الخضر: لقد أخبرتك في بادئ الأمر أنك غير قادر على متابعتي والأخذ عني. وهنا اعتذر موسى إليه ثانية، ووعده أنه لن يكرر عليه الاعتراض ثانية، وإن هو فعل واعترض، فإنه في حلٍّ من الأمر.

ثم إن موسى والخضر تابعا مسيرهما، فمرا على قرية، وكان الجوع قد أخذ منهما كل مأخذ- فسألوا أهل القرية الضيافة، فأبوا أن يقدموا لهما شيئاً من الطعام، في تلك الأثناء رأى الخضر جداراً مائلاً على وشك السقوط، فعمد إلى إصلاحه وإسناده بالدعائم؛ ليمنع سقوطه، ولم يطلب الخضر من أهل القرية أجراً على عمله، فاستغرب موسى لهذا الموقف، كيف يقوم الخضر بهذا الفعل، مع أن القوم لم يقدموا لهم شيئاً يدفع عنهم غائلة الجوع؟ ثم توجه إلى الخضر وخاطبه بقوله: قوم أتيناهم فلم يطعمونا، ولم يضيفونا، عمدت إلى حائطهم فأقمته، كيف يكون هذا؟ ألم يكن من العدل أن تطلب أجراً على عملك هذا، أو على الأقل أن تطلب طعاماً مقابل ما قمت به من عمل جميل؟ فأجاب الخضر موسى: لقد آن لنا أن نفترق بعد كل الذي حصل، لقد أثبتت الأحداث والوقائع أنك غير قادر على متابعتي وملازمتي، وعلى الرغم من هذا فسوف أخبرك بحقيقة ما فعلت.

ثم أخذ الخضر يقص على موسى الحِكَم والعِبَر من كل ما فعله، فأخبره أن السفينة كانت ملكاً لأناس فقراء، يتعيشون عليها، وكان من عادة قراصنة البحر أنهم كانوا يأخذون كل سفينة صالحة لا عيب فيها، ويتركون كل سفينة فيها عيب أو عطب، فعمد إلى خرقها وإحداث عيب فيها؛ منعاً لأولئك القراصنة من مصادرتها واغتصابها.

أما الغلام فكان أبواه مؤمنين، وكان هو كافراً، وكان يُخشى عليهما منه، فقتله منعاً من أن يفتنا أبويه، ويردهما عن إيمانهما بالله، فإن العاطفة الأبوية قد تجر أحياناً إلى ما لا يحمد عقباه، وقد تدفع المؤمن إلى ترك إيمانه؛ انجراراً وراء تلك العاطفة.

أما إقامة الجدار الذي أشرف على السقوط والتهاوي، فقد كان مخبوءاً تحته كنز لغلامين، ولو سقط الجدار قبل أن يبلغ الغلمان لذهب ذلك الكنز؛ إذ ليس لهما القدرة على الدفاع عن حقوقهما، فكان الغرض من إقامته رعاية حق هذين الغلامين اليتيمين في هذا المال؛ إكراماً لأبيهما الصالح.

وقد ورد بخصوص قصة موسى والخضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وددنا أن موسى كان صبر، فقص الله علينا من خبرهما) متفق عليه.

[size="6"]تعقيبات على القصة

وردت في قصة موسى بعض الآيات التي تحتاج لتوضيح معناها، ودفع ما يتوهم مما هو خلاف المراد منها. وها نحن نقف عليها، ونذكر ما يتعلق بها من أقوال وتوجيهات:

قوله تعالى: {وأبونا شيخ كبير} (القصص:23)

وردت هذه الآية في سياق الحديث عن موسى عند ذهابه إلى مدين والتقائه بالمرأتين، اللتين كانتا تتزودان بالماء. وقد اختلف المفسرون في هذا الشيخ: من هو؟ على أقوال: أحدها أنه شعيب النبي عليه السلام الذي أُرسل إلى أهل مدين. وهذا هو المشهور عند كثير من المفسرين، وقد قاله الحسن البصري وغير واحد، ورواه ابن أبي حاتم.

وقال آخرون: كان شعيب قبل زمان موسى عليه السلام بمدة طويلة؛ لأنه قال لقومه: {وما قوم لوط منكم ببعيد} (هود:95)، وقد كان هلاك قوم لوط في زمن الخليل عليه السلام بنص القرآن، وقد عُلِم أنه كان بين موسى و الخليل عليهما السلام مدة طويلة، تزيد على أربعمائة سنة، كما ذكره غير واحد. قال ابن كثير: "من المقوي كونه ليس ب شعيب، أنه لو كان إياه لأوشك أن يُنَصَّ على اسمه في القرآن ها هنا. وما جاء في بعض الأحاديث من التصريح بذكره في قصة موسى لم يصح إسناده. ثم من الموجود في كتب بني إسرائيل أن هذا الرجل اسمه: "ثبرون". وقد نقل ابن كثير أقوالاً أُخر في المراد من هذا الشيخ، ثم عقب عليها بقوله: "الصواب أن هذا لا يُدرك إلا بخبر، ولا خبر تجب به الحجة في ذلك". وما ذكره ابن كثير يفيد أن ما ذهب إليه كثير من المفسرين من كونه شعيباً غير مُسَلَّم به؛ لأن هذا لا يُعرف إلا بنص، ولا نص فيه.

قوله تعالى: {هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين} (الزخرف:52)

هذا القول قاله فرعون كذباً وافتراء، وإنما حمله على هذا الكفر والعناد، وهو ينظر إلى موسى عليه السلام، بعين كافرة شقية، وقد كان موسى عليه السلام، من الجلالة والعظمة والبهاء في صورة يبهر أبصار ذوي الأبصار والألباب. وقوله: {ولا يكاد يبين} افتراء أيضاً؛ فإنه وإن كان قد أصاب لسانه في حال صغره شيء من جهة تلك الجمرة، فقد سأل الله عز وجل أن يحل عقدة من لسانه؛ ليفقهوا قوله، وقد استجاب الله له في ذلك في قوله: {قال قد أوتيت سؤلك يا موسى} (طه:26)، وبتقدير أن يكون قد بقى شيء لم يسأل إزالته -كما قاله الحسن البصري- وإنما سأل زوال ما يحصل معه الإبلاغ والإفهام، فالأشياء الخَلْقية التي ليست من فعل العبد لا يعاب بها، ولا يذم عليها، و فرعون وإن كان يفهم وله عقل فهو يدري هذا، وإنما أراد الترويج على رعيته، فإنهم كانوا جهلة أغبياء.

قوله تعالى: {واشدد على قلوبهم} (يونس:88)

هذه الدعوة كانت من موسى عليه السلام؛ غضباً لله ولدينه على فرعون وملئه، بعد أن تبين له أنه لا خير فيهم، كما دعا نوح عليه السلام، فقال: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا} (نوح:26-27)؛ ولهذا استجاب الله تعالى لموسى عليه السلام فيهم هذه الدعوة، التي أمَّن عليها أخوه هارون، فقال تعالى: {قد أجيبت دعوتكما} (يونس:89).

قوله تعالى: {آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} (يونس:91)

هذا الذي حكاه الله تعالى عن فرعون من قوله هذا في حاله ذاك من أسرار الغيب، التي أعلم الله بها رسوله، وقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لما قال فرعون: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل} قال: قال لي جبريل: يا محمد! لو رأيتني، وقد أخذت حالاَ من حال البحر -أي: طيناً أسود من طين البحر-، فدسسته في فيه؛ مخافة أن تناله الرحمة". وقد رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.

قوله تعالى: {قوما جبارين} (المائدة:22)

ذكر كثير من المفسرين ها هنا أخباراً من وضع بني إسرائيل، في عظمة خلق هؤلاء القوم الجبارين، وأنه كان فيهم عوج بن عنق بن آدم عليه السلام، وأنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذراعاً وثلث ذراع! وهذا شيء عجيب غريب، يُستحَى من ذكره، ثم هو مخالف لما ثبت في الصحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى خلق آدم وطوله ستون ذراعاً، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن)، متفق عليه.

وقد ذكروا أن هذا الرجل كان كافراً، وأنه كان ولد زنية، وأنه امتنع من ركوب السفينة، وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته، وهذا كذب وافتراء، فإن الله ذكر أن نوحاً دعا على أهل الأرض من الكافرين، فقال: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} (نوح:26)، وقال تعالى: {فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين} (الشعراء:119-120)، وقال تعالى: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} (هود:43)، وإذا كان ابن نوح الكافر غرق، فكيف يبقى عوج بن عنق، وهو كافر وولد زنية؟! هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع. ثم في وجود رجل يقال له: "عوج بن عنق" نظر.

قال الآلوسي بعد أن حكى ما قيل من صفات هؤلاء القوم الجبارين: "وهي عندي حديث خرافة".

قوله تعالى: {اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم} (غافر:25)

قد يُفهم أن المراد من هذه الآية ما جاء في آية أخرى، وهي قوله تعالى: {يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم} (القصص:4)، إلا أن الصحيح غير ذلك، كما قال الرازي: "أن هذا القتل غير القتل الذي وقع في وقت ولادة موسى عليه السلام؛ لأن في ذلك الوقت أخبره المنجمون بولادة عدو له يظهر عليه، فأمر بقتل الأولاد في ذلك الوقت، وأما في هذا الوقت ف موسى عليه السلام قد جاءه، وأظهر المعجزات الظاهرة، فعند هذا أمر بقتل أبناء الذين آمنوا معه؛ لئلا يُنشَّؤوا على دين موسى، فيقوى بهم، وهذه العلة مختصة بالبنين دون البنات، فلهذا السبب أمر بقتل الأبناء".

قوله تعالى: {فقبضت قبضة من أثر الرسول} (طه:96)

ذهب عامة المفسرين إلى أن المراد بـ {الرسول} في الآية جبريل عليه السلام، وأراد بـ (أثره) التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته. غير أن بعض أهل العلم قال: ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون؛ والظاهر أن يكون المراد بـ {الرسول} موسى عليه السلام، وبـ (أثره) سنته وهديه الذي أمر به، يقال: فلان يقفو أثر فلان، ويقبض أثره: إذا كان يمتثل طريقته. وتقدير الكلام -بحسب هذا القول- أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في عبادة العجل، فقال: بصرت بما لم يبصروا به، أي: عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق، وقد كنت أخذت شيئاً من سنتك ودينك، فطرحته، فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة. قال الرازي: "واعلم أن هذا القول ليس فيه إلا مخالفة المفسرين، ولكنه أقرب إلى التحقيق؛ لوجوه...". ثم ذكر أربعة وجوه تعضد هذا القول. وبحسب هذا القول، يكون المراد بـ {الرسول} موسى عليه السلام، ويكون المراد بـ (أثره) دينه وسنته وعلمه. وهذا القول أقرب لظاهر القرآن، إذا استبعدنا الروايات التي ذكرها المفسرون، ولا حرج في استبعدها؛ لأنها عارية من السند الصحيح، والأغلب أنها من الإسرائيليات.

قوله تعالى: {فأرسله معي ردءا يصدقني} (القصص:34)

قد يقال هنا: ما الفائدة في تصديق هارون لأخيه موسى؟ أجاب الزمخشري عن هذا السؤال بما حاصله: ليس الغرض بتصديقه أن يقول له: صدقت، أو يقول للناس: صدق موسى، بل المراد أن يلخص بلسانه الحق، ويبسط القول فيه، ويجادل به الكفار، كما يفعل الرجل صاحب المنطق والبيان، فذلك جار مجرى التصديق المفيد، كما يصدق القول بالبرهان. ألا ترى إلى قوله: {وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني} (القصص:34)، وفضل الفصاحة إنما يُحتاج إليه لذلك، لا لقوله: صدقت، فإن هذا القول يستوي فيه صاحب البيان وغيره.
قوله سبحانه: {قال رب إني أخاف أن يكذبون} (الشعراء:12)

شكا موسى إلى ربه خوفه من تكذيب قوم فرعون له، وضيق صدره من طغيانهم، وخشيته من قتلهم له عندما يرونه...وليس هذا من باب الامتناع عن أداء الرسالة، أو الاعتذار عن تبليغها، وإنما هو من باب طلب العون من الله تعالى، والاستعانة به سبحانه على تحمل هذا الأمر، والتماس الإذن منه في إرسال هارون معه؛ ليكون له عوناً في مهمته، وليخلفه في تبليغ رسالة ربه في حال قتلهم له.

قوله تعالى: {حية تسعى} (طه:20)

ورد في سياق قصة موسى عليه السلام وَصْفُ عصاه بعد إلقائها مرة بأنها {حية تسعى} (طه:20)، وأخرى بأنها {ثعبان مبين} (الأعراف:107)، وثالثة بأنها {تهتز كأنها جان} (النمل:10)، قد يبدو أن ثمة تناقضاً بين هذه الأوصاف، والواقع أنه لا تنافي بينها؛ لأن (الحية) اسم جنس، يطلق على الصغير والكبير، والذكر والأنثى. و(الثعبان) هو العظيم منها. و(الجان) هو الحية الصغيرة الجسم السريعة الحركة. وقد ذكر بعض المفسرين روايات عن ضخامة هذا (الثعبان) وأحواله، وهي روايات ضعيفة، لا يعول عليها، ولا ينبني على معرفتها فائدة.

قوله تعالى: {فجمع السحرة لميقات يوم معلوم} (الشعراء:38)

اختلف المفسرون في عدد هؤلاء السحرة، فقيل: كانوا اثنين وسبعين ساحراً، وقيل كانوا أكثر من ذلك بكثير. وهذا الاختلاف ليس بذي شأن، ولا ينبغي إطالة الوقوف عنده.

قوله تعالى: {ولما جاء موسى لميقاتنا} (الأعراف:143)

اختلفت روايات المفسرين في سبب هذا الميقات وزمانه؛ فمنهم من يرى أنه الميقات الكلامي الذي كلم الله فيه موسى تكليماً، فقد كان معه سبعون رجلاً من شيوخ بني إسرائيل ينتظرونه في مكان وضعهم فيه غير مكان المناجاة، فلما تمت مناجاة موسى لربه، طلبوا منه أن يكلموا الله تعالى كما كلمه موسى، وأن يروه جهرة، فأخذتهم الصاعقة، وكان ذلك قبل أن يُخبر الله تعالى موسى أن قومه قد عبدوا العجل في غيبته.

والذي عليه المحققون من المفسرين، والسياق القرآني يؤيده أن هذا الميقات الذي جاء في هذه الآية غير الميقات الأول، وأنه بعد عبادة بني إسرائيل للعجل في غيبة موسى، وأن الله أخبر موسى بذلك عند ذهابه لتلقي التوراة، فرجع موسى إليهم مسرعاً، ووبخهم على صنيعهم، وأحرق العجل، وأمره تعالى بعد ذلك أن يأتيه مع جماعة من بني إسرائيل؛ ليتوبوا إليه من عبادة العجل، فاختار موسى هؤلاء السبعين.

ثم إن هؤلاء السبعين المختارين من بني إسرائيل طلبوا من نبيهم موسى ما لا يصح لهم أن يطلبوه، فأخذتهم الرجفة بسبب ذلك، أو بسبب أنهم عندما عبد بنو إسرائيل العجل في غيبة موسى، لم ينهوهم عن المنكر الذي فعلوه، ولم يأمروهم بالمعروف.

عبر وعظات من قصة سيدنا موسى تضمنت قصة موسى عليه السلام في القرآن الكريم في أحداثها المختلفة ووقائعها المتعددة جملة من الدروس والعبر والعظات، نقف عليها فيما يلي:

أولاً: قصة موسى عليه السلام -وكذلك قصص غيره من الأنبياء- تدعو كل مسلم في كل زمان ومكان إلى المداومة على ذكر الله تعالى في كل موطن بقوة لا ضعف معها، وبعزيمة لا فتور فيها.

ثانياً: أن الله سبحانه إذا أراد أمراً هيَّأ أسبابه، ويسر له وسائله، وأن رعايته إذا أحاطت بعبد من عباده صانته من كل أعدائه، مهما بلغ مكر هؤلاء الأعداء وبطشهم. فرعاية الله لموسى جعلته يعيش بين قوى الشر والطغيان آمناً مطمئناً.

ثالثاً: أن الأخيار من الناس هم الذين في شتى مراحل حياتهم يقفون إلى جانب المظلوم بالتأييد والعون، ويقفون في وجه الظالم حتى ينتهي عن ظلمه، وينهضون لمساعدة كل محتاج، وهم الذين يقفون إلى جانب الحق والعدل ومكارم الأخلاق في كل المواطن، وأمام جميع الأحداث.

رابعاً: أن الحق لن يَعْدَم له أنصاراً، حتى ولو كثر عدد المبطلين -المثال هنا مؤمن آل فرعون - وأن سنة الله أن لا يهدي إلى الحق والصواب من كان مسرفاً في أموره، متجاوزاً الحدود التي شرعها الله، ومن كان كذاباً في إخباره عن الله سبحانه.

خامساً: أن الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب ضحى الإنسان في سبيله بكل شيء، وأثر الإيمان عندما تخالط بشاشته القلوب الواعية يصنع المعجزات؛ فقد قال سحرة آل فرعون لفرعون عندما تبين لهم الحق الذي جاء به موسى: {لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض} (طه:72). قال الزمخشري: "سبحان الله ما أعجب أمرهم! قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين!".

سادساً: أن العقلاء الأخيار من الناس قد يختلفون في موقفهم من الأحداث التي تواجههم، وقد يتصرف كل واحد منهم التصرف الذي يراه متناسباً مع هذه الأحداث حسب اجتهاده، ولكن هذا الغير سرعان ما يعود إلى رأي صاحبه متى اقتنع به. المثال هنا موقف هارون عليه السلام من عبدة العجل، ومعاتبة موسى له.

سابعاً: أن سنة الله اقتضت في هذه الحياة أن يجعل نصره وثوابه في النهاية للأخيار من عباده، وأن يجعل خذلانه وعقابه للأشرار. وأن النصر يحتاج إلى تأييد من الله تعالى لعباده، وإلى توكل عليه وحده، وإلى عزيمة صادقة ومباشرة للأسباب توصل إليه. والمثال هنا نجاة موسى ومن معه، وإغراق فرعون ومن تبعه.

ثامناً: أن على الدعاة إلى الله أن يعتمدوا في دعوتهم أسلوب اللين والملاطفة، وأن يتجنبوا أسلوب الشدة والغلظة؛ فإن الله سبحانه أمر موسى -وهو من صفوة الله في خلقه- ألا يخاطب فرعون -وهو سيد العتاة والطغاة- إلا بالملاطفة واللين.

تاسعاً: منطق الطغاة في كل العهود أنهم يلجؤون إلى قوتهم المادية؛ ليحموا عروشهم وشهواتهم وسلطانهم، ففي سبيل هذه الأمور كل شيء عندهم مباح ومستباح. وشأنهم في كل عصر ومصر أنهم عندما يرون الحق قد أخذ يحاصرهم، ويكشف عن ضلالهم وكذبهم، يرمون أهله -زوراً وبهتاناً- بكل نقيصة ووضيعة = {إن هؤلاء لشرذمة قليلون} (الشعراء:54).

عاشراً: أن الطغاة والظلمة في كل زمان ومكان يضربون الحق بكل سلاح من أسلحتهم الباطلة، ثم يزعمون بعد ذلك أمام العامة والبسطاء المغلوبين على أمرهم، أنهم ما فعلوا ذلك إلا من أجل الحرص على مصالحهم!

حادي عشر: أن الطغاة والجبابرة حين يدفعهم الحق، ويطاردهم الدليل الساطع، تأخذهم العزة بالإثم، فيأبون الرجوع إلى الحق. وأن الطغيان في كل عصر ومصر لا يعجبه منطق الحق والعدل، ولكن يعجبه التكبر في الأرض بغير الحق، وإيثار الغي على الرشد.

ثاني عشر: أن من عادة الطغاة أن يستخفوا بأتباعهم، ومن عادة الأتباع أن يطيعوا سادتهم وكبراءهم، ويتابعوهم على باطلهم وما يزينون لهم من الأعمال {قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} (غافر:29)، {فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين} (الزخرف:54).

ثالث عشر: أن الباطل قد يسحر عيون الناس ببريقه لفترة من الوقت، وقد يسترهب قلوبهم لساعة من الزمان، حتى ليخيل إلى الكثيرين الغافلين أنه غالب وجارف، ولكن ما إن يواجهه الحق الهادئ الثابت المستقر بقوته التي لا تُغَالب، حتى يزهق ويزول، وينطفئ كشعلة الهشيم، وإذا بأتباع هذا الباطل يصيبهم الذل والصَّغار، والضعف والهوان، وهم يرون صروحهم تتهاوى، وآمالهم تتداعى، أمام نور الحق المبين.

رابع عشر: أن منطق حاشية السوء على مر العصور أنهم يرون الدعوة إلى الله إفساداً في الأرض؛ لأنها ستأتي على بنيانهم من القواعد؛ ولأنها هي الدعوة التي ستحرر الناس من ظلمهم وجبروتهم، وتفتح العيون على النور الذي يخشاه الظالمون، ويتحاشاه الطاغون.

خامس عشر: أن كثيراً من الناس غافلون عن آيات الله الدالة على وحدانيته، وسادرون عن سنته المقتضية إهلاك كل ظالم جبار، وكل متكبر مختال.

سادس عشر: أن موقف الدعاة إلى الحق في كل العهود أنهم لا يلقون بالاً لتهديد الظالمين، ولا يقيمون وزناً لوعيد المعاندين، بل يمضون في الطريق غير هيَّابين ولا وجلين، مستعينين بالله رب العالمين، ومسلِّمين قيادهم لأمره وقدره ومشيئته، {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (يوسف:21).

سابع عشر: أن الدعاة إلى الحق يحتاجون في مقاومتهم لأهل الباطل إلى إيمان عميق، واعتماد على الله وثيق، وثبات يُزيل المخاوف، ويطمئن القلوب إلى حسن العاقبة.

ثامن عشر: أن مما يعين المؤمنين على النصر والفلاح أن يعتزلوا أهل الكفر والفسوق والعصيان، إذا لم تنفع معه النصيحة، وأن يستعينوا على بلوغ غايتهم بالصبر والصلاة، وأن يقيموا حياتهم فيما بينهم على المحبة الصادقة، وعلى الأخوة الخالصة، وأن يجعلوا توكلهم عليه وحده سبحانه، فإنه {نعم المولى ونعم النصير} (الأنفال:40).

تاسع عشر: أن من علامات الإيمان الصادق أن يكون الإنسان غيوراً على دين الله، ومن مظاهر هذه الغيرة أن يتمنى زوال النعمة من أيدي المصرِّين على الكفر بأنعم الله؛ لأن وجود النعم بين أيديهم سبب في إيذاء المؤمنين، وإدخال القلق والحيرة على نفوس بعضهم.

العشرون: أن الاعتصام بحبل الله المتين يجعل المستمسك به لا يبالي بوعيد الظالمين، ولا يخشى تهديد المتوعدين، ولا يتراجع أمام التهديد والوعيد عن تبليغ رسالة ربه.

الحادي والعشرون: أن باب التوبة والمغفرة مفتوح لمن رجع عن غيِّه، وعمل عملاً صالحاً يُرضي ربه، وواظب على طاعة خالقه، وداوم على نهج الاستقامة والرشاد.

العبر والعظات من قصة موسى وبقرة بني إسرائيل

أولاً: تدل هذه القصة على ما جُبل عليه بنو إسرائيل من فظاظة وغلظة، وسوء أدب مع مرشديهم، وإلحاف في الأسئلة بلا موجب، وعدم استعداد للتسليم بما يأتيهم به الرسل، ومماطلة في الانصياع للتكاليف، وانحراف في الطريق المستقيم.

ثانياً: دلالتها على صدق النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ فقد أخبر بهذه القصة الواقعية، التي لم يشهد أحداثها بما أوحاه الله إليه، وهذا الإخبار من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، كما أنها تدل على صدق نبوة موسى عليه السلام، وأنه رسول ربِّ العالمين.

ثالثاً: دلالتها على أن التنطع في الدين، والإلحاف في المسألة يؤديان إلى التشديد في الأحكام؛ لأن بني إسرائيل لو أنهم عَمَدوا من أول الأمر لفعل ما أُمروا به لقضي الأمر، ولكنهم شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم.

رابعاً: دلالتها على قدرة الله تعالى؛ فإن إحياء الميت عن طريق ضربه بقطعة من جسم بقرة مذبوحة دليل على قدرة الله تعالى على الإحياء والإماتة، وما هذا الضرب إلا وسيلة كشف للناس عن طريق المشاهدة عن آثار قدرته تعالى، التي لا يدرون كيف تعمل، فهم يرون آثارها الخارقة، ولكنهم لا يعرفون كنهها وحقيقتها.

العبر والعظات من قصة موسى والخضر

أولاً: أن الإنسان مهما أوتي من العلم فعليه أن يطلب المزيد {وقل رب زدني علما} (طه:114)، وأن لا يعجب بعلمه {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} (الإسراء:85).

ثانياً: أن الرحلة في طلب العلم من صفات العقلاء؛ فموسى -وهو من أولي العزم من الرسل- تجشم المشاق والمتاعب لكي يلتقي بالخضر؛ لينتفع بعلمه، وصمم على ذلك مهما كانت العقبات. وهذا دأب العلماء، قال البخاري: "ورحل جابر بن عبد الله رضي الله عنه مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في طلب حديث".

ثالثاً: جواز إخبار الإنسان عما هو من مقتضى الطبيعة البشرية، كالجوع والعطش والتعب والنسيان {آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا} (الكهف:62).

رابعاً: أن العلم قسمان: علم (مكتسب) يدركه الإنسان باجتهاده وتحصيله بعد عون الله له، وعلم (لدني) يهبه الله لمن شاء من عباده {وعلمناه من لدنا علما} (الكهف:65).

خامساً: أن على المتعلم أن يخفض جناحه للمعلم، وأن يخاطبه بأرق العبارات وألطفها، حتى يحصل على ما عنده من علم {هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا} (الكهف:66).

سادساً: لا بأس للعالم أن يعتذر للمتعلم عن تعليمه؛ إذا لمس المعلم من المتعلم أنه لا يطيق تحمل العلم الذي يعلمه {إنك لن تستطيع معي صبرا} (الكهف:67).

سابعاً: من علامات الإيمان القوي أن يقدم الإنسان (المشيئة) عند الإقدام على الأعمال، وأن العزم على فعل شيء ليس بمنزلة فعله {ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا} (الكهف:69)، وأنه لا بأس على العالم أن يشترط على المتعلم أموراً معينة قبل أن يبدأ في تعليمه {فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا} (الكهف:70).

ثامناً: يجوز دفع الضر الأكبر بارتكاب الضرر الأقل، وهذا واضح من خلال فعل الخضر في الأحداث الثلاثة: خرق السفينة، قتل الغلام، إقامة الجدار.

تاسعاً: أن التأني في الأحكام، والتثبت في الأمور، ومحاولة معرفة العلل والأسباب كل ذلك يؤدي إلى صحة الحكم، وسلامة القول والعمل.

عاشراً: أن من دأب العقلاء والصالحين الأدب مع الله تعالى في التعبير؛ فالخضر أضاف (خرق السفينة) إلى نفسه {فأردت أن أعيبها} (الكهف:79)، وأضاف الخير الذي فعله من أجل الغلامين اليتيمين إلى الله {فأراد ربك} (الكهف:82).

حادي عشر: أن على الصاحب أن لا يفارق صاحبه حتى يبين له الأسباب التي حملته على المفارقة {قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا} (الكهف:78)، ويُفهم من ذلك أن موافقة الصاحب لصاحبه في غير معصية الله من أهم الأسباب التي تعين على دوام الصحبة، كما أن عدم الموافقة، وكثرة المخالفة تؤدي إلى المقاطعة. ويُفهم من ذلك أيضاً، أن المناقشة والمحاورة متى كان الغرض منها الوصول إلى الحق وإلى العلم، وكانت بأسلوب هادئ مهذب، وبنية طيبة، لا تؤثر في دوام المحبة والصداقة، بل تزيدهما قوة ومتانة.

هذه بعض الدروس النافعة والعظات البليغة التي نأخذها من قصة موسى وهارون في القرآن الكريم.

Imen LM
2015-07-28, 21:07
جزاك الله خيراً

zakaria666
2015-07-29, 20:01
الله يبارك فيك

همسات ايمانية
2015-07-29, 22:17
جزاك الله خيراً

الله يبارك فيك

وفيكما بارك الله

شكرا

همسات ايمانية
2015-07-30, 12:05
القصة الحادية عشر ...قصة سيدنا صالح عليه السلام

قال عز وجل : ((وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف:73] أي: معجزة من عند الله عز وجل، وهي الناقة التي أخرجها الله عز وجل لهم من الصخرة.

ذكر المفسرون أن صالحاً عليه السلام كان يجادل قومه ويناظرهم، وهؤلاء القوم هم قوم ثمود، وكانوا يسكنون بالحجر، وهو في شمال جزيرة العرب بين الحجاز وبين تبوك.

وذكرنا أن عاداً وهي الأمة التي كانت قبلهم كانوا في الأحقاف بين عدن وحضرموت، فقوم ثمود أتوا بعدهم بمدة، وكانوا يسكنون في الحجر، وقد مر عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو ذاهب إلى تبوك، فاستقى الناس من أبيار ثمود، وعجنوا العجين، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم أن يريقوا الماء، وأن يرموا العجين، وقال: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، إلا أن تكونوا باكين؛ لئلا يصيبكم ما أصابهم).

فانظروا كيف يحذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الدخول إلى ديار المعذبين الذين عذبوا قبل ذلك.

ولما مر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بديارهم قنع رأسه، وأسرع المسير، فينبغي للمؤمن أن يعتبر عندما يمر على هؤلاء المعذبين.

كذلك لما مر بوادي محسر الذي نزلت فيه الحجارة على الفيل قبل الميلاد النبوي، أو في العام الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أمرهم أن يسرعوا الخطى.

فهذه الأماكن عباد الله التي عذب فيها الكفرة والفجرة لم تكن للتنزه ولا للفرجة ولا للفسحة، بل هي أماكن للعبرة والعظة، فإذا مر بها المؤمن ينبغي أن يكون معتبراً متعظاً، وينبغي أن يكون باكياً لا غافلاً، قال تعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود:113].

يحذرنا الشرع من أن نتشبه بالكافرين وأن نسلك مسالكهم، ويحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من أن ندخل عليهم في مساكنهم، إلا أن نكون باكين معتبرين.

لما مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك بديار ثمود أمر أصحابه أن يريقوا الماء الذي حملوه معهم من ديار ثمود، ثم أوردهم البئر التي كانت تشرب منه الناقة، فملئوا منه أوعيتهم.

قال الله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [الأعراف:74].

يبدو أنه كان فيهم شبه من قوم عاد، أي: في طول الأجساد وطول الأعمار؛ بأنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً فارهين، وكانوا أهل زرع وأهل ماشية وأهل حرث، فذكرهم نبيهم بنعم الله عز وجل عليهم، وحذرهم من نقمة الله عز وجل، وحذرهم مما حدث للقوم الذين خلوا قبلهم من المكذبين وهم عاد قوم هود، قال تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ [الأعراف:74] قال العلماء: كانوا بعدهم بمدة طويلة؛ لأنه لم يقل: بعد عاد، بل قال: من بعد عاد، أي: بمدة طويلة، كما مكث نوح في قومه يدعوهم إلى الله عز وجل ألف سنة إلا خمسين عاماً، فيبدو أن المدة كانت طويلة، وأن أجسامهم كانت كذلك فارهة عظيمة، كما كان آدم عليه السلام طوله ستون ذراعاً.

ذكرهم نبيهم بنعم الله عز وجل عليهم، وأن الله عز وجل مكنهم في الأرض يبنون في الأماكن السهلة المنبسطة قصوراً يسكنون فيها في الصيف، وينحتون من الجبال بيوتاً يسكنونها في الشتاء، قال فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [الأعراف:74].

ذكر المفسرون أن صالحاً عليه السلام كان يناظر قومه ويجادلهم، وقالوا له: لن نؤمن لك حتى تخرج لنا من هذه الصخرة ناقة من صفتها كذا وكذا، وتعنتوا في وصفها، أن يكون طولها كذا، وغير ذلك، فكأن صالحاً عليه السلام وجد ذلك فرصة وأن يدخلوا في الإيمان، فقال لهم: أرأيتكم إن أجبتكم إلى ما سألتم أتؤمنون بما جئت به؟ فقالوا: نعم، فأخذ عليهم عهودهم ومواثيقهم، ثم دعا الله عز وجل، فأجابه الله عز وجل، فتمخضت الصخرة عن ناقة، وهي أنثى الجمل على الصفة التي وصفوها، فآمن منهم أناس وأعرض أكثرهم عن الإيمان.

فالآية أتت على ما طلبوا وسألوا، ولكنهم استمروا على كفرهم وتكذيبهم، وكانوا في غاية الكفر والغباوة.

وحذرهم نبيهم من أن يتعرضوا لهذه الناقة، فقال لهم: هذه ناقة الله لكم آية فلا تمسوها بسوء، أي: لا تتعرضوا لها في شربها ولا في أكلها، فأمرهم أن يشربوا من البئر يوماً، وأن يدعوا الناقة تشرب اليوم الآخر، وفي اليوم الذي تشرب فيه الناقة من البئر هم يشربون من لبنها، لقد أضاف الله عز وجل الناقة إلى نفسه إضافة تشريف؛ لأنها آية من آيات الله عز وجل، ومعجزة من معجزات أنبياء الله عز وجل، ولم يخلقها بالطريقة التي خلق بها سائر النوق والجمال، هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ [الأعراف:73]ولكنهم من كفرهم وإعراضهم وتكذيبهم أرادوا أن يقتلوا هذه الناقة، إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا [الشمس:12-15].

فعقروا هذه الناقة مبالغة في كفرهم، ومبالغة في تكذيبهم.

موقف المؤمنين والكافرين من صالح عليه السلام ودعوته

يبين الله عز وجل كيف كان كفر الكافرين، وكيف كان إيمان المؤمنين، فيقول عز وجل: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [الأعراف:75-76].

فكان جواب أهل الإيمان في غاية الإيمان، وكان جواب أهل الكفر في غاية الكفر، قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ [الأعراف:75] فهم يسألونهم: أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه؟ كان بالإمكان أن يقولوا: نعم ويقتصروا على ذلك، وإنما كان جواب أهل الإيمان أنهم مؤمنون به، فهم أرادوا أن يكون الجواب في غاية الإيمان، فقالوا: إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ [الأعراف:75] هذا تقرير للإيمان، وبيان لعقيدتهم الواضحة الصريحة، وإثبات له بالرسالة.

أما الكفار فقال عنهم: قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [الأعراف:76].

ما قالوا: إنا بما أرسل به كما قال أهل الإيمان، ولكن قالوا: (إنا بما آمنتم به كافرون) حتى لا يثبتوا له رسالة، ولو في معرض الكلام، فلهم أن يقولوا ذلك على سبيل التهكم، كما قال فرعون: قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء:27].

ولكن المقام ليس هنا مقام استهزاء، ولكنه مقام تقرير، وبيان عقيدة، فكان جواب أهل الإيمان في غاية الإيمان، وكان جواب أهل الكفر في غاية الكفر.

وبعد أن عقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم أخذتهم الرجفة، وأهلكهم الله عز وجل.

وصالح عليه السلام بعد أن عقروا الناقة أمهلهم ثلاثة أيام يتمتعون فيها، وبعدها يأتيهم عذاب الله عز وجل، فجاءهم العذاب بعد ثلاثة أيام.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

مكر قوم صالح عليه السلام وعاقبة ذلك

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

قال تعالى: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [النمل:48-53].

لقد أنذرهم نبيهم صالح عذاب الله عز وجل فقال لهم: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود:65]، وكان هناك تسعة نفر من هؤلاء الكفرة الفجرة هموا بأمر هو أفظع من قتل الناقة، وأكبر جرماً من قتل الناقة، لقد هموا أن يقتلوا نبي الله صالحاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، كأنهم ظنوا بأن الله عز وجل غافل، كما يفعل أعداء الإسلام في كل زمان ومكان، فهم يمكرون بالدعاة وبأولياء الله عز وجل، ويكيدون لدين الله عز وجل ويحاربونه، وكأنه ليس في الكون إله، وكأن الله عز وجل لا يرى مكرهم، وكأنه لا يحيط بهم وغير مطلع على ما في قلوبهم، فهذا من غبائهم وكفرهم وإعراضهم.

فقوله تعالى: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ [النمل:48].

معلوم أن الكفرة كلهم مفسدون، ولكن بعض الشر أهون من بعض، فهؤلاء التسعة كانوا أعتى القوم، وأكثر القوم كفراً وفساداً، قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ [النمل:49] أي: حلفوا بالله عز وجل وتعاهدوا فيما بينهم، لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ [النمل:49] والتبييت هو القتل ليلاً، فقالوا: قبل أن ينزل بنا العذاب بعد ثلاثة أيام نقتل صالحاً خلال هذه الأيام فيموت قبلنا، فنكون نحن وهو في الهلاك سواء، فأردوا أن يقتلوا نبي الله صالحاً، وتعاهدوا وتعاقدوا وحلفوا على ذلك.

لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [النمل:49] كما يفعل أعداء الإسلام المعروفون بالنفاق، فهم يكيدون للإسلام، ويحاربون الالتزام بدين الله عز وجل، فهم يحاربون الإسلام وأهله باسم التطرف، ويملي لهم الشيطان ويسوغ لهم الحجج على أنهم ليسوا أعداء للإسلام، وإنما هم يعملون في مصلحة الإسلام.

وقال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:50].

فهم يمكرون على الأرض وهم من الأرض خلقوا، والله عز وجل يمكر بهم من فوق سبع سماوات، وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ [النمل:48-51].

فهؤلاء المفسدون بينما هم جالسون في أصل الجبل يتهيئون ويتحينون الفرصة ليفتكوا بصالح عليه السلام وأهل بيته، إذ ألقى الله عز وجل عليهم صخرة من فوق الجبل فأهلكتهم، فكانوا سلفاً ومثلاً لإخوانهم الكافرين، فماتوا قبل قومهم الذين أنذرهم نبيهم ثلاثة أيام، ذلك وعد غير مكذوب.

وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا [النمل:50] أفما يخشى الذين يمكرون بدين الله ويمكرون بأولياء الله أما يخشون مكر الله عز وجل، (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]).

فكان عاقبة مكر قوم صالح كما أخبر الله عز وجل عنهم: فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [النمل:51-53].

نهاية كل قصة من قصص أهل الإيمان، وكل قصة من قصص أنبياء الرحمن لابد أن تكون النجاة للمتقين، فلهم العاقبة في الدنيا ويوم يقوم الناس لرب العالمين.

طعن البعض في التنزيل وقال: بأن الآيات تختلف من مكان إلى مكان، فأحياناً يذكر الله عز وجل أنه أهلك ثمود بالرجفة، وأحياناً بالصيحة، وأحياناً بالزلزلة، فقيل: إنه أهلكم بصيحة من جبريل عليه السلام، أي: صاح فيهم صيحة، فقطع قلوبهم في أجوافهم، وقيل: هي زلزلة في الأرض، والزلزلة يصحبها صوت شديد.

وفي بعض الآيات أهلكوا بالطاغية: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ [الحاقة:5-6].

والطاغية: هي كل شيء طغى وجاوز حده.

فنقول: إنه أهلكهم بزلزلة طاغية في صوتها وفي إهلاكها، أي: أهلكوا بزلزلة معها صيحة، وهذه الصيحة أو الصوت كان طاغياً متجاوزاً الحد، فهكذا أهلك الله عز وجل هؤلاء الكافرين المكذبين.

ومن سنن الله عز وجل أنه ينوع العذاب للمكذبين، فأهلك قوم نوح المكذبين بالغرق، وأهلك عاداً قوم هود بريح صرصر عاتية، سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، وأهلك الله عز وجل ثمود بالصيحة، وقيل بالزلزلة، وأهلك الله عز وجل قوم شعيب بالسحاب الممتلئ ناراً، فالله عز وجل أرسل لهم سحاباً فقالوا: هذا عارض ممطرنا، فخرجوا يستبشرون أن ينزل عليهم ماءً وغيثاً فأمطرهم ناراً تلظى.

فإذاً: من سنن الله عز وجل تنويع العذاب، فهو سبحانه يعذب كل قوم بما يناسب عتوهم وتجبرهم.

فهذه القصة عباد الله قصة نبي الله صالح مع قومه ثمود هي عبرة وعظة، وكما قلنا إن دعوة الأنبياء واحدة: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59].

Mirengui
2015-07-30, 12:07
بارك الله فيك

همسات ايمانية
2015-07-30, 12:12
بارك الله فيك

وفيك بارك الله

همسات ايمانية
2015-07-31, 14:40
قصة سيدنا ابراهيم
روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى من طريق عبد الرزاق بن همام الصنعاني، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي تميمة السختياني وكثير بن كثير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل: أم إسماعيل -هاجر - اتخذت منطقاً وذلك لتعفيِّ أثرها على سارة، ثم هاجر بها إبراهيم عليه السلام إلى مكة، فنزل بها قريباً من رابية -وهو مكان البيت اليوم، وكانت هذا الرابية مرتفعة عن الأرض- فلما أنزلها عليه السلام هناك، كان معها جراب من تمر وسقاء من ماء، ومعها ابنها إسماعيل، فلما أنزلهما مكان البيت أو قريباً منه، ولى وتركهما، فالتفتت إليه هاجر -وهي مولاة- وقالت: لمن تتركنا يا إبراهيم؟ فلم يجبها بشيء، ولم يلتفت إليها، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذاً لا يضيعنا، فلما اختفى وراء الجبل، التفت ودعا الله عز وجل ورفع يديه وقال: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37]. ثم تولى عنهم وتركهم، فأتت المرأة الصالحة تربي ابنها، فنفذ الماء، ونفذ الطعام من التمر، فأتت ترتفع لترى في جبال مكة أين تجد الماء.

قال: ابن عباس: لكأني بها تسعى بين الجبلين -أي: بين الصفا والمروة - سبعة أشواط، وتقول وهي تكلم نفسها: صه، - تسكت نفسها لترى هل تسمع صوتاً، أو ترى ساكناً أو حياً- ولم يكن في مكة من البشر أحد، فطافت سبعة أشواط -فهو طوافنا اليوم- ثم عادت إلى مكانها، وأخذ ابنها يتلوى على الأرض من شدة العطش، فنزل ملك من السماء -قيل: جبريل وقيل غيره، وليس في رواية البخاري أنه جبريل- فبحث بجناحه فخرج الماء، فأخذت تعدل الماء وتقيم التراب حوله وتقول: زمزم -أي: تزمزم الماء- وهذه من عادة قبائلهم إذا اشتغلوا في أمر، كأنها تنشد، أو كأنها تفزع، أو تسلي نفسها وتزمزم.

قال عليه الصلاة والسلام: (رحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم لصارت عيناً معيناً) أي: لو تركتها ولم تجمع عليها التراب، ولم تعدلها لصارت عيناً معيناً في مكة.. ثم نزل هناك ركب من جرهم، وجرهم قبيلة انتقلت إلى مكة، وهي من القبائل العربية التي سوف يتزوج منهم إسماعيل كما سيأتي.. نزلوا في طرف مكة، فرأوا غراباً عائفاً -وقيل: حدأة- وإذا هو فوق ماء زمزم، فقال هؤلاء الركب: إن الطائر معه الماء، فاقتربوا فلما رأوا هاجر قالوا: ننزل حول الماء؟ قالت: لا. فاصطلحوا معها على أن ينزلوا معها على حسن الجوار، فنزلوا، فأعطوها الطعام، وأعطتهم الماء، فلما شب إسماعيل عليه السلام تزوج منهم، وكان شاباً ظريفاً عاقلاً آتاه الله الحكم صبياً، فأصبح أرحامه أصهاره من جرهم.

فلما شب فيهم -عليه السلام- أتاه أبوه بعد حين يزوره.. سيد من سادات الأنبياء، وسيد الكرماء والشجعان عليه السلام.. أتى يزورهم فوجد امرأة إسماعيل عليه السلام وهي في البيت، فطرق عليها وهو شيخ حسن الهيئة، عليه هندام الوقار والسكينة، وعليه علامات التوحيد، فقال: أين زوجك؟ -وهو ابنه لكنها لم تعرفه- قالت: خرج يطلب لنا صيداً، قال: كيف أنتم؟ قالت: في حالة ضيقة، وفي شر حال، فقال: إذا أتى زوجك فاقرئي عليه السلام، ومريه أن يغير عتبة بابه. فأتى إسماعيل في المساء فسألها: هل أتاكم من أحد؟ قالت: أتانا شيخ حسن الهيئة، قال: هل سألكم عن شيء؟ قالت: نعم. سألنا عن هيئتنا وطعامنا، فأخبرته أنا بشر حال، قال: هل أمركِ بشيء؟ قالت: نعم. هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تغير عتبة بابك. قال: ذلك أبي، والحقي بأهلك.

ثم تزوج زوجة أخرى صالحة، وأتاهم أبوه يزورهم مرة ثانية، فدخل على امرأته وقال: أين زوجك؟ قالت: خرج يطلب لنا صيداً -وكان يطلب الصيد في جهة نعمان، والعرب كانت تصيد من نعمان، وهو من أجمل الأودية عند العرب، وقد صوروه في الشعر حتى كأنه قطعة من حديقة، أو كأنه فيحاء في بستان، وإذا أتيت إلى نعمان لم تجد فيه إلا الشوك، ولذلك قيل:

ألا أيها الركب اليمانون عرجوا علينا فقد أضحى هوانا يمانيا
نسائلكم هل سال نعمان بعدنا وخب إلينا بطن نعمان واديا
وهو الوادي الذي فوق عرفات وفيه عين زَبِيْدَة.

فقالت: خرج يطلب لنا صيداً، قال: كيف حالكم؟ قالت: في أحسن حال والحمد لله، قال: إذا أتى فاقرئي عليه السلام، ومريه أن يثبت عتبة بابه؛ فأتى فسألها فأخبرته وقالت: هو يقرئك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وأنت العتبة، وهو يأمرني أن أمسككِ.

زواج إبراهيم عليه السلام من سارة
هذا الحديث من رواية ابن عباس، ولفظه قريب من هذا أو نحوه... وفي هذا الحديث مسائل، تعرض لها أهل التفسير والحديث والفقه وأهل السير والتاريخ.

أول مسألة: زواج إبراهيم عليه السلام من سارة، وقصة سارة مع الملك.. وفي ذلك فائدة: فإن القرآن يأتي بالقواعد والحقائق والأصول، ولكنه لا يتعرض للخلافيات التي لا فائدة منها، ولذلك لما ذكر قصة أهل الكهف لم يخبرنا بلون كلب أهل الكهف، ولا أين ناموا، ولا جهة الكهف، ثم قال للرسول عليه الصلاة والسلام: فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف:22]. أي: لا تدخل نفسك إلا في مسائل علمية، وقواعد شرعية تستفيد منها، أما الجدل البارد الذي لا ينبني عليه حكم فليس هناك طائل من إيراده.

فالقرآن يأتينا بقصة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في خطوط عريضة، وفي جمل باهرة.. منها بناء البيت، ومنها الدعوة إلى التوحيد، ومنها جدل إبراهيم الحق مع الملك.. وسوف يأتي.

ومنها: قصة البعث، وبعث الله عز وجل للطيور بين يدي إبراهيم عليه السلام... إلى غير ذلك من القصص.

أما سارة فهي امرأة حرة، تزوجها إبراهيم عليه السلام، وعلمها التوحيد، وأرضعها لبن (لا إله إلا الله) منذ الصغر، وكانت من أجمل نساء زمانها، قال ابن كثير: أجمل النساء في العالمين سارة ومريم، وقيل: عائشة بنت الصديق رضي الله عنها وأرضاها.

هجرة إبراهيم عليه السلام من حران
ثم هاجر إبراهيم من حران.. وحران هذه هي بلد شيخ الإسلام ابن تيمية.

بنفسي تلك الدار ما أحسن الربى وما أحسن المصطاف والمتربعا
وهي حران قريبة من دمشق في بلاد الشام، هاجر منها ابن تيمية إلى دمشق بعد أن ترعرع وشب فيها..

هاجر إبراهيم عليه السلام بـسارة، فمر بملك من ملوك الدنيا، جبار عنيد، كان كلما سمع بفتاة جميلة اغتصبها من أهلها.. فلما وصل إبراهيم بزوجته، سمع به الملك فأرسل جنوده فأخذوا هذه المرأة الصالحة العابدة القوامة الزاهدة.. ولكن من يعتمد ويتوكل ويحفظ الله يحفظه سبحانه وتعالى.

التجأ إبراهيم إلى الله عز وجل ودعا الله أن يحفظ عليه زوجته، فأخذوها من بين يديه، وكان قد قال لها: إذا قدمت على الملك وسألك عن نسبك فقولي: أنا أخت إبراهيم. وصدق؛ فإنها أخته في العقيدة والدين، وأخته في النسب الأول، فكلهم من آدم وحواء.

وصلت إلى هذا الجبار، ودخلت عليه، واقترب منها وهي متوضئة طاهرة، فدعت الله عليه؛ فجفت يده ورجله، فقال لها: ادعي الله لي أن يطلق يدي ورجلي، فدعت له فانطلق، ثم أتى يقترب منها، فدعت عليه، فجفت يده ورجله، فاقترب ثالثة، فدعت عليه بعد أن أطلق، فجفت يده ورجله، فقال: أتيتموني بشيطانة! اذهبوا بها.. فخرجت من عنده وأخدمها هاجر التي هي أم إسماعيل، جعلها مولاة وهدية لها، فقال لها إبراهيم: كيف كان الأمر؟ قالت: منع الله الفاجر وأخدم هاجر. وقد قال بعض أرباب التفسير: إن الله سبحانه وتعالى أطلع إبراهيم عليه السلام بمسيرة سارة، إلى أن وصلت إلى الملك، وبموقفها مع الملك، حتى عادت ليطمئن قلبه ويسكن، فقال لها إبراهيم لما عادت: والله لقد رأيتك منذ ذهبت إلى الآن.

هجرة إبراهيم إلى مكة
فلما أخذ هاجر أتت بإسماعيل، فاغتاضت منها سارة، والغيرة مركوزة في طبيعة النساء، وكأن الغيرة ولدت مع النساء منذ أن خلق الله المرأة إلى اليوم.. ولما أتت بإسماعيل لم يكن عند سارة ولد ولا بنت، فاغتاضت منها وغارت، فأخذ إبراهيم عليه السلام هاجر إلى مكة.

وسبحان الله! كيف اختار الله مكة من بين بلاد الأرض، لتكون مهبط الوحي، وليكون منها الإشعاع الرباني، والرسالة الخالدة، وليتخرج منا أساتذة التوحيد الذين رفعوا علم (لا إله إلا الله) فهي بحق جبال تصهر الرجال بحرارتها وبشظف عيشها، فتخرجهم رجالاً يقودون عجلة التاريخ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

فـمكة مسقط رأس رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وهي التي ولد فيها أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وخالد، والصنف المختار من أصحاب رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.

وصل إبراهيم عليه السلام إلى مكة، وقبل أن يأمره الله بالبناء اختار ذلك الموقع، قال بعض أهل العلم: لأنها وسط الدنيا، وقد أثبت العلم الحديث فيما سمعنا وقرأنا أن من صعد على سطح القمر رأوا أن وسط الدنيا هو الجزيرة العربية أو ما يقاربها، ووسطها هي الكعبة المشرفة، ولذلك سماها الله تعالى أم القرى، فهي تثبت الإشعاع في كل مدينة، ومنها لا بد أن تبعث الرسالة ويهبط الوحي على رسول الهداية صلى الله عليه وسلم.

ولما وصل إبراهيم إلى هناك، وضع لهم جراباً من تمر وسقاءً من ماء وتولى إلى الله عز وجل، واختفى وراء الجبل، وابتهل إلى الله يقول في دعائه الحبيب إلى القلوب: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [إبراهيم:37] وصدق عليه السلام، فإن مكة من أقحل بلاد الأرض، حتى يقول أحد المفكرين: يا سبحان الله! عناية الله، ونور الله، وهدايته تأتي من السماء بوحي خالد على رسول عظيم شريف، في بلاد ليس فيها حدائق ولا قصور ولا أنهار ولا دور، ولا فيها معطيات الحياة، ليس فيها إلا شجر من الشوك طلعه كأنه رءوس الشياطين، وحجارتها تتلظى بالنار وتتوقد، فبعثه الله عز وجل ليقول: إن الآخرة لرسول الهدى صلى الله عليه وسلم.

لم يبعثه في بغداد دار السلام، ولما وجدت بعد، وسميت بدار السلام؛ لأنها ذات حدائق غناء، ولم يبعثه في دمشق، ولم يكن هناك دمشق التي فيها البساتين الفيحاء ونهر بردا.

ولم يبعثه كذلك في أنطاكيا، ذات القصور الشاهقة، والحدائق الوارفة.. ولم يبعثه في بلاد أخرى ذكرت في التاريخ بجمالها وروعتها، بل بعثه هنا، ليقول: إن دعوتك للآخرة لا للدنيا.

فلما أتى عليه السلام قال: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم:37].

وكأنه علم أنه سوف يقوم هناك بيت محرم.. رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37].

وقد رأينا ورأى التاريخ وسمعت الدنيا الملايين المملينة في كل حج تهوي بأفئدتها، ملوكاً ومملوكين، علماء وعامة، رؤساء ومرءوسين، أغنياء وفقراء.. يهوون بأفئدتهم إلى البيت العتيق.

فلما ولى إبراهيم عليه السلام، وبقي الحال على ماكان، تزوج إسماعيل -كما مر- من جرهم، وجرهم هؤلاء ذكرهم زهير بن أبي سلمى يوم يقول:

فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله رجال بنوه من قريش وجرهم
يميناً لنعم السيدان وجدتما على كل حال من سحيل ومبرم
يمدح هرم بن سنان وقيس بن زهير لما تداركا عبساً وذبيان.

أمر الله لإبراهيم أن يذبح إسماعيل
ولما درج وبلغ إسماعيل زاره أبوه، وكانت هذه هي أول زيارة يزوره فيها، وذلك لما درج وبلغ السعي، وأصبح حبيباً إليه عليه السلام، وتخلل مسلك الروح منه، وكان أحب الناس إليه..

قد تخللت مسلك الروح مني ولذا سمي الخليل خليلاً
فأراد الله أن يخلص قلب إبراهيم من هذا الحب لهذا الابن له سبحانه وتعالى، لأنه خليل الرحمن.. فلما وصل إلى مكة رأى فيما يرى النائم أن قائلاً يقول: اذبح ابنك! فتعوذ بالله من الشيطان، وتوضأ وصلى، ثم رأى الرؤيا مرة ثانية وثالثة، وعلم أنها رؤيا حق.. ولذلك قال الإمام البخاري: باب رؤيا الأنبياء حق، وقال إبراهيم: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102].

وخرج في الصباح فعرض الرؤيا على الابن الصالح.. وانظر إلى التربية الصالحة والهدي المستقيم، فلما عرض عليه الرؤيا لم يقل له: إني أفارقك، أو إني أتركك برهة من الزمن، لا. بل قال: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102] ولم يقل آمر غيري بذبحك، لكن أنا أذبحك.. ويا لها من مصيبة! ويا لها من مسألة شاقة على الأنفس! ومثل لنفسك أن تؤمر أنت أن تذبح بيدك وسكينك أحسن أبنائك إليك.. ولو ابتليت ببلاء غير هذا لتحملت؛ كأن يسقط ابنك من على السطح، أو يزلق فيموت، أو يذهب أدراج الرياح، أما أن تؤمر أنت فتأخذ سكيناً وتأخذ ابنك فتبطحه على الأرض، وتجلس على صدره فتذبحه.. إنه لبلاء عظيم! بل من أعظم الابتلاء في تاريخ البشرية، لكن هكذا يثبت العظماء.

ألا لا أحب السير إلا مصعداً ولا البرق إلا أن يكون يمانيا
وأتى في الصباح واستدعى ابنه: قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102].

فلم يشاوره، ولم يقل له: ادرس الموضوع واعطني النتيجة.. ولم يقل انظر: إما أن تكون طائعاً وإما عاصياً، فأنا أقوى منك، والله أمرني، وأنت طفل صغير، سأذبحك سواء رضيت أم لم ترضَ، لا. بل قال له: ما هو ردك؟ فقال في هدوء وفي حياء وفي صبر، ويا لها من تربية! قال: يا أبتِ افعل ما تؤمر. قال أهل التفسير: خاطبه بالأبوة في مقام الحنان، حتى وهو يعتدي على روحه بأمر الله عز وجل، قال: يا أبتي، من الحنان والشفقة وحق الأبوة.. وما قال: افعل ما تأمر أنت، وإنما تؤمر من الله، لأنه صدق بوحي من الله.. افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102] قالوا: ما أحسن هذا الاعتراض! فلم يقل: ستجدني من الصابرين، وإنما قال: إن شاء الله، فصبري بالله، واتكالي على الله، وحفظي على الله فَلَمَّا أَسْلَمَا [الصافات:103] الضمير يعود إلى إبراهيم وإسماعيل، فقد أسلم إبراهيم نفسه إلى الواحد الأحد، فإنه قد أمر بمشقة، ووده لو أنه هو المقتول، وأنه ما رأى هذا المنظر، وأسلم إسماعيل نفسه إلى الله سبحانه وتعالى: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] قال أهل التفسير: ما استطاع أن يذبحه على ظهره، فجعله على وجهه ليذبحه من قفاه؛ لأنه يخشى أن ترسل العينين شعاعاً من المحبة إليه، وأن يرى وجه ابنه فتدركه الرأفة والرحمة فيعصي أمر الله، ولكنه تلَّه على وجهه ساجداً لله عز وجل، لئلا يرى وجهه أبداً حتى يذبحه.. إن هذا بلاء عظيم، ولا تستطيعه النفوس إلا من أسلم وجهه لله، وعلم أن ابتلاء الله عز وجل معه الخلود والبقاء والحياة.. فأتى بالسكين وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] قال أهل العلم: لم يقل: أجلسه أو أقعده، وإنما تلَّه بقوة، لُيري الله أنه ينفذ الأمر بحماس وقوة.

وإبراهيم صاحب مواقف خالدة في القرآن، فقد قال الله تعالى حاكياً عنه: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26].. فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ [الصافات:93].. وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] كلها مواقف تشهد له بالقوة، لأن المسلم ينبغي عليه أن يأخذ أحكام الله وتنفيذ أوامر الله بالقوة، أما البرود والكسل والخنوع فليس في دين الله، ولذلك يقول الله ليحيى عليه السلام: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12] خذه بقوة، ولا تأخذه ببرودة.. ويقول الله عن المنافقين: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ [النساء:142].

ولذلك باستطاعتك أن تميز بين المؤمن والمنافق بمقامهم في مقامات الولاية والعبودية، فالمؤمن يأتي إلى الصلاة بحرارة، ويقرأ القرآن بحرارة، ويستمع إلى الخطب والمواعظ وحلق الذكر بحب وشوق وحرارة، والمنافق يأتي ببرودة، سواء صلى مع الجماعة أو لم يصل، وإن فاته فلس واحد من ماله جزع وهلع عليه، ولكن إن فاته دينه وصلاته فلا يهمه ذلك ولا يشعر بأن النفاق قد خرق قلبه..

أما إبراهيم فأسلم وتلَّه للجبين، فلما أخذ السكين ليذبحه أتى لطف الله عز وجل، وأتت رحمته سبحانه وتعالى، فلم تذبح السكين، ومن عادة السكين أنها تذبح، ولكن حكمة الله عز وجل أن يمنعها من الذبح.. والبحر يغرق، ولكن قدرة الله تمنعه أن يغرق موسى عليه السلام.. والنار تحرق -وهذه من سنن الله الكونية- ولكنها لا تحرق إبراهيم عليه السلام.. والسكين تذبح ولكن بقدرة الله جعلها لا تذبح أبداً، فمنعها من عنق إسماعيل لأنه بريء طاهر عفيف.. والاغتيالات تتوجه إلى الناس لتفتك بهم، لكن رسولنا صلى الله عليه وسلم سلم حصل أكثر من عشر محاولات اغتيال.

عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عال من الأطم
قال الله تعالى: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107] نزل عليه من الجنة، فأخذ السكين وذبح الذبح العظيم وهو الكبش ورد السكين إلى مكانها. ومدحه الله أبد الدهر وأثنى عليه وقال: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ [الصافات:106]. فهو بلاء خالد، لكن خلَّد الله ذكره يوم أن قال: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء:84] فرفع الله ذكره أبد الدهر.

بناء إبراهيم وإسماعيل البيت العتيق
وعاد العودة الثانية، وإذا إسماعيل قد أصبح فتىً قوياً يصارع الرجال، ويستطيع أن يقوم بمهام الرسالة، ويستطيع أن يبني معه، فيوحي الله عز وجل إلى إبراهيم عليه السلام، ويقول: يا إبراهيم! ابن هنا بيتاً. فيأتي إبراهيم ليبني بيت الله سبحانه وتعالى الذي من عفر وجهه في تلك العرصات صادقاً رزقه الله الصدق والإخلاص.

ولما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية ثورة القرامطة عندما ثاروا في الكعبة، وقتلوا ما يقارب ثلاثين ألف حاج، قتلوهم في الحرم، قال: وقتلوا بعض العلماء، فلما أتوا إلى عالم من العلماء بالسكين ليقتلوه حول الحجر قال:

ترى المحبين صرعى في بيوتهم كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا
ثم سقط قتيلاً، قال ابن كثير: فهنيئاً لك ذلك المضجع، وهنيئاً لك ذلك المرقد، فإنها من أحسن البقاع، شرفها الله وأزال عنا كل رجس.. فمن ذهب لعمرة أو حج فليغتنم تربية روحه في تلك البقاع، وليمرغ وجهه في تلك العرصات، وليدع الله بصدق وهو يطوف ويسعى أن يرزقه الإنابة والهداية، فإنها من أعظم الوقفات في الحياة الدنيا.

فلما أتى إبراهيم عليه السلام، قال: يا إسماعيل! إن الله يأمرني أن أبني البيت، قال: أو أمرك ربك؟ قال: نعم. وهل تعينني على ذلك؟ قال: نعم أعينك عليه. قال ابن عباس: كأني بإبراهيم عليه السلام وقد ارتفع على الجدار وإسماعيل يناوله الحجارة وهو يضعها ويبني. أتدرون ماذا كان هزيجهم؟ وماذا كان نشيدهم الخالد؟ كانوا يقولون: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]. يحسنون ويبنون لوجه الله، ويجاهدون ويدعون، ومع ذلك يقولون: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.. والفاجر يفجر ويعصي ويزني ويكذب ويغتاب، ومع ذلك يقول: ورحمة الله وسعت كل شيء.

فإبراهيم عليه السلام كان يقول: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127] لئلا يكون في العمل رياء.. وأتوا يبنون حتى وصل إلى مكان الحجر الأسود، فأمره الله عز وجل أن يبقي مكانه، فلما انتهى من البناء وقف والتفت إلى الحي القيوم، ودعا الله أن يبارك في هذا البناء، وأتاه جبريل بالحجر الأسود، وهو أبيض كاللبن، كالجوهرة البيضاء، أنزله من الجنة، فسلمه إلى إبراهيم وقال: ضع هذا الحجر في هذا المكان، ليستلمه الناس.

قال ابن عباس: [[والذي نفسي بيده، لقد نزل الحجر أبيض كاللبن، فسودته خطايا بني آدم، حتى أصبح أسود]] وصح عنه صلى الله عليه وسلم في حديث أنه قال: {من استلم الحجر الأسود بصدق كان للحجر الأسود لسانان يوم القيامة يشهدان لمن استلمه بصدق في الحياة الدنيا} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

فمن استلم الحجر الأسود أو قبله وهو صادق ومشتاق ومخلص؛ أنطق الله الحجر الأسود يوم القيامة بلسانين ناطقين، يشهد لمن استلمه بحق في الحياة الدنيا.

والحجر الأسود له قصة مسيرة في التاريخ، فإنه اعتدي على عرضه وعلى كرامته في عهد القرامطة، يوم أن وفدوا من الأحساء إلى البيت العتيق، ووفد معهم الفاجر أبو طاهر الجنابي، وأخذ بسيفه على جمله يقتل الحجيج، وهو يقول:

أنا بالله وبالله أنا يخلق الخلق وأفنيهم أنا
ثم تقدم أحدهم بدبوس من حديد بيده، فقال: يا معشر المسلمين! يا أيها الحمير! تقولون: إن الله يقول: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً [آل عمران:97] نحن دخلناه الآن فأين الأمن؟ فقال له بعض العلماء: هذا من باب الأمر لا من باب الخبر. أي: أن الله يأمرنا أن نؤمن البيت، وأنت قد أخفته، فتقدم بخنجر فطعن العالم فقتله، ثم أتى إلى الحجر الأسود فضربه ثلاث ضربات بهذه الدبوس فانفلق منه ثلاث فلق، وهذا هو ما تجدونه فيه من التكسير، لأنه قد وقع عليه ثلاث ضربات، وإلا فإنه كان أملس كالثوب الأملس.. فاجتمع بعض الملوك، فجمعوا بعض المسك والغارية، وخلطوا بعضها ببعض، وألصقوه في الحجر.

وأخذوا الحجر وأركبوه على سبعمائة جمل، كلما مشى جمل أصابه الجرب وأهلكه الله فسقط الحجر من عليه، فيركبونه على جمل آخر، فيموت الجمل الآخر، حتى مات سبعمائة جمل، ووصل إلى الأحساء، وبقي معهم حتى اجتمع سلاطين الدولة الإسلامية ودفعوا مبلغاً هائلاً من الدارهم والدنانير والذهب حتى أعيد الحجر إلى مكانه.. ولله حكمة في ترك هؤلاء الغوغاء يأخذون الحجر، وله حكم في الأحداث التي وقعت في التاريخ، فهو الحكيم: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].

بنى إبراهيم عليه السلام البيت، ونزل ووقف عند المقام الذي نحن نصلي فيه اليوم، وفيه يقول الله عز وجل: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً [البقرة:125] فوقف هناك، ودعا الله كثيراً، فأمره الله أن ينادي في الناس جميعاً أن يحجوا إلى هذا البيت، وأن يأتوا إليه، فإنه بيت الرحمن جل جلاله، وفيه الهداية والنور.. وفي السماء الدنيا بيت آخر كالكعبة، يطوف به كل يوم -كما في رواية المفسرين- سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه أبد الدهر.. فلما انتهى أمره الله أن ينادي في الناس بالحج، فارتفع على جبل من جبال مكة، فنادى في الناس، قال ابن عباس أو غيره من المفسرين: فسمعه الناس في أصلابهم، فقال: من أراد الله به الخير فليأت إلى البيت، لبيك اللهم لبيك.

قال تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:27-28] يأتوك رجالاً، أي: مترجلين يمشون على أقدمهم وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ [الحج:27] على كل بعير ضامر أي: ضعف من شدة السفر.

دخل رجل على ابن سيرين العلامة الكبير، وكان ابن سيرين يعبر الرؤيا، ويئولها، وكان عنده تأييد إلهي في الرؤيا كما يقول الذهبي، ولذلك ذكروا عنه أموراً عجيبة، ولشدة تقواه لله عز وجل وزهده وإخلاصه رزقه الله تعبير الرؤيا.. أتاه رجل فقال: رأيت حمامة أخذت جوهرة في المنام فأخرجتها أصغر مما كانت، ثم أخذتها فأخرجتها مثلها، ثم أخذتها فابتلعتها فأخرجتها أكبر منها، فما تعبيرها؟ وكان ابن سيرين فيه خفة روح ودعابة، مع تقواه واتصاله بالله عز وجل، فكان يضفي على جلاسه وسماره شيئاً من المزاح ومن الدعابة السلمية العفيفة.. فقال: هذا مثلي ومثل الحسن البصري وقتادة بن دعامة السدوسي -وهم كانوا علماء في عهده- أما أنا فأسمع الحديث فآتي به كما هو، فهذا معنى أن الحمامة أتت بالجوهرة كما هي، وأما قتادة فإنه ينقص من الحديث فنقصت الجوهرة، وأما الحسن البصري فإنه يدبج ويوشح الحديث فيأتي أكثر مما هو.

وبينما هو جالس أتاه رجل عليه ملامح التقوى والزهد والعبادة، فقال: إني رأيت في المنام أني أؤذن، فنظر إلى السائل قليلاً ثم قال: أنت تحج هذه العام ويتقبل الله منك. فقال الجلاس: ولماذا؟ قال: لأن الله يقول: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27] وبينما هم جلوس إذ دخل فاجر من الفجار -نسأل الله العافية- فقال: إني رأيت في المنام أني أؤذن، فقال: أنت تسرق وتقطع يدك. قال: ولماذا؟ قال: يقول الله عز وجل: ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ [يوسف:70].

قال الراوي: فو الله ما مرت فترة إلا وحج هذا، وسرق هذا ورأينا يده على باب الإمارة قد قطعت.

ومن أراد أن يتثبت من هذه القصص فليرجع إلى سير أعلام النبلاء، في ترجمة ابن سيرين، وحلية الأولياء لـأبي نعيم، والبداية والنهاية لـابن كثير، وغيرها من الكتب.

الشاهد: أن إبراهيم عليه السلام نادى فاستجاب له من استجاب، وأما إسماعيل فأقام هناك وتزوج من جرهم، فهو جد رسولنا عليه الصلاة والسلام، وفي حديث ضعيف في سنده كلام، يقول عليه الصلاة والسلام: {أنا ابن الذبيحين} فالذبيح الأول إسماعيل، الذي عرضه إبراهيم عليه السلام للذبح، والذبيح الآخر هو عبد الله أبو الرسول عليه الصلاة والسلام مباشرة؛ فإن عبد المطلب لما جفت بئر زمزم نذر نذراً أن إذا أخرج الله الماء أن يذبح أحد أبنائه، وكانوا عشرة، منهم: عبد الله والحارث، وحمزة، وأبو طالب، والعباس، وأبو لهب... فلما خرج الماء أقرع بين العشرة أيهم يخرج نصيبه ليتقرب بذبحه إلى الله -وهذا في الجاهلية- فخرج السهم على عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففداه بعشر من النوق، فأتى السهم الآخر، فوقع عليه، ففداه بعشرين، حتى وصلت إلى مائة، ففداه بها.. فكان الرسول صلى الله عليه وسلم ابن الذبيحين.

وهل الذبيح الأول إسماعيل أم إسحاق؟ فيه خلاف، لكن الصحيح أنه: إسماعيل، وعليه كلام ابن كثير وابن القيم والذهبي وشيخ الإسلام ابن تيمية.

ولذلك يقول كعب الأحبار لأحد الخلفاء: [[والله الذي لا إله إلا هو، لقد علم اليهود أن الذبيح إسماعيل، لكنهم حسدوكم فقالوا: إنه إسحاق..]] وذلك لأنه شرف لنا أن يكون جدنا إسماعيل، فهو جد الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم عدناني لا قحطاني، والعرب قحطان وعدنان، فالرسول صلى الله عليه وسلم بعث من عدنان وأنصاره من قحطان، وهم الأوس والخزرج رضي الله عنهم.

همسات ايمانية
2015-07-31, 14:42
مواقف إبراهيم عليه السلام في القرآن ......................2
المسألة الثانية: مواقف إبراهيم عليه السلام في القرآن.




موقف إبراهيم مع النمرود
أما مواقف إبراهيم في القرآن فهي كثيرة، وسأذكر لكم هذه المواقف لنتعلم عقيدة أهل السنة والجماعة من هذه المواقف، يقول بعض العلماء: حق على من أراد أن يتعلم العقيدة أن يتعلمها من مواقف الأنبياء في القرآن مع قومهم.

يقول الله سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258]. هذا النمرود بن كنعان الذي ملك الدنيا، يقول ابن عباس رضي الله عنهما، وقد ذكره ابن كثير في سيرة إبراهيم عليه السلام، قال: ملك الدنيا أربعة: مؤمنان وكافران، فأما المؤمن الأول فهو سليمان عليه السلام، قال الله عنه: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ص:35] الآخر: ذو القرنين عليه السلام.

وأما الكافران: فـالنمرود بن كنعان، وبختنصر، وقد أحسن الأخير؛ لأنه أباد اليهود من الأرض أول مرة، وهتلر أبادهم المرة الثانية، وينبغي لهم أن يبادوا مرة ثالثة؛ لأن الوتر مطلوب في الإسلام.. فـبختنصر قطع دابرهم وتتبعهم حتى قتلهم قتل عاد وثمود، وأتى هتلر -سود الله وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه- فأدخلهم وهم أحياء في الأفران، ولذلك إذا سمعوا بالنازية يغشى عليهم من الخوف والهلع.. وبقي لهم ثالث موحد يدوسهم على التراب أحفاد القردة الخنازير، وهذا قريب إن شاء الله.

فأتى إبراهيم عليه السلام ودخل على هذا الملك.. والله عز وجل أخبر عن الأنبياء أنهم يدخلون على السلاطين، وأنهم يتحدثون مع الطغاة، فقد أخبرنا أن إبراهيم دخل على النمرود، وأخبرنا أن موسى دخل على فرعون وسنقف مع القصتين لنرى ما هو الاختلاف بين الحوار والجدل، وما هي المناظرة التي وقعت، وما هي البينونة بين هذه القصة وبين تلك.. إبراهيم عليه السلام دخل على هذا الفاجر، فدعاه إلى الله عز وجل، قال الله عز وجل عنه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [البقرة:258] أي: أعطاه الله الملك، ثم حاج إبراهيم في ربه سبحانه وتعالى! كأن تقول لابنك -ولله المثل الأعلى-: أعطيتك، وشريت لك سيارة، ثم ما كان منك إلا أن تترك الفرائض وتترك مجالس الخير، وتذهب تعصي الله عز وجل وتضيع وقتك!

إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة:258] دخل إبراهيم وأراد أن يفحمه، فقال الملك: ما هي علامات ربك؟ قال: يحيي ويميت.. ولذلك موسى لم يقل هذا لفرعون؛ لأن فرعون درس في هذه المدرسة، فلو قال له ذلك لقال: أنا أحيي وأميت. فموسى عليه السلام تجنب هذا، لأنه ضيع الوقت مع فرعون.. فقال النمرود: أنا أحيي وأميت. قال: كيف تحيي وتميت؟ قال: تعالوا بأسيرين، فأخرجوا محبوسين من السجن، فقال: هذا سوف أحييه وأعتقه، فقد عفوت عنك، وهذا سوف أميته، فضربه بالسيف.. وهذا ليس في اللغة ولا في العقل ولا في النقل أنه إحياء وإماتة، لكنه فاجر مجاهر بالفجور، فما موقف إبراهيم عليه السلام؟ هل من الحكمة أن يقول: لا والله ليس هذا بإحياء وإماتة، ويضيع الوقت معه، ثم يحلف ذلك أن هذا إحياء وإماتة، ثم يقول: قدم شاهدين وأعطني بينة؟ لا. بل قال له: مادام أنك تحيي وتميت فما شاء الله تبارك الله عليك: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة:258] ولذلك يسمى هذا في الجدل (الإفحام) ومن أحسن من كتب فيه: الدكتور زاهر بن عوض الألمعي، في كتاب: الجدل في القرآن.. قال: مادام أن عندك هذه الإمكانيات والقدرات التي ما اكتشفناها إلا اليوم: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة:258] ولو كان يستطيع أن يواصل في هذه القضية لواصل، لكنه ما استطاع أن يرد: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258].

مقارنة موقف إبراهيم مع النمرود وموقف موسى مع فرعون
هذه هي المناظرة التي نجح فيها إبراهيم عليه السلام، أما موسى عليه السلام فأتى من نوع آخر، دخل على فرعون، ولما أصبح على العتبات، ماذا أوصاه الله عز وجل؟ هل قال له: ارفع صوتك، أو ثبت جنانك، أو هيئ خاطرك؟ لا.. إنما قال: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً [طه:44] ما ألطف الله بعباده! وما أحسن دعوة الرسل وما أحسن أسلوبهم في القرآن! فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]. من يدري؟ لعل الله أن يفتح عليه، ولذلك على الداعية ألا ييأس من الناس، فلو رأيت الإنسان يشرب الخمر ويزني ويسرق سبعين مرة، فلا تيأس منه، لأن مفاتيح القلوب بيد الله، قال: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] قيل: يتذكر النعم، أو يخشى من العذاب.

فدخل موسى عليه السلام، فلما أصبح في الإيوان، ورأى الوزراء والأبهة والأمراء والسيوف والدولة والملك؛ خاف، قال الله: قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى [طه:45].

يخاطب ربه مع أخيه هارون، ويقولان: يا رب نخاف من هذا الفاجر أن يفرط، أي: يستعجل علينا، ولا يتركنا نُسلم عليه، ويمكن أن يحبسنا أو يضربنا ضرباً مبرحاً أَوْ أَنْ يَطْغَى [طه:45]: يتجاوز في العقوبة، فإذا كان استحقاقنا خمسين جلدة، يجلد كل واحد منا مائة جلدة، فيقول سبحانه وتعالى: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] أي: أنا معكم فلا تخافا، إنما تكلم والله معك.. فدخل عليه، وهو رجل شاب، وكان قد قتل واحداً منهم، ثم ذهب يرعى الغنم، وإذا به يأتي بإزار من صوف، ومعه عصا كان يرعى ويهش بها على الغنم، أتى من الصحراء ويدخل على هذا الطاغية، الذي ما يرى الشمس إلا من السنة إلى السنة من الرفاهية والكبر، فيأتي وإذا هو منتفش كالطاوس على كرسيه.

يقول الحسن البصري: قاتل الله فرعون! كان طياشاً -سفيهاً- لأن العاقل ولو كان كافراً فإنه يترك الإنسان المتحدث الوافد عليه حتى يتحدث، ولذلك ملوك العرب كانوا يتركون الوافد حتى يلقي ما عنده، ويشرح غرضه، ويلقي رسالته.. أما هذا فلما رأى موسى وهارون جلس وقال: من ربكما يا موسى؟ كان الواجب أن يتركهم حتى يتكلموا، لكنه قاطعهم فقال: من ربكما يا موسى؟ قال الزمخشري: فلله در جواب موسى من جواب. لم يقل: ربي الذي يحيي ويميت؛ لأنه سوف يضيع عليه الوقت كما ضيعه النمرود بن كنعان، وموسى عليه السلام قد درس رسالة إبراهيم، وعرف مجريات حياته ودقائقها، فإن الله يعلم كل رسول برسالة الآخر، فقال: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50] قال الزمخشري: لله درك من مجيب! ولله در جوابك ما أحسنه! فإن هذا هو الإفحام.

ذاك يدعي الألوهية، وعنده نهر صغير فقال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51] فأجراها الله من فوق رأسه: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50] ولم يقل: ربنا سميع وبصير... لأن أهل السنة والجماعة يقرون بصفات الله عز وجل، ويقرون كذلك بأن للمخلوق صفات، فهم يقولون: الله عالم، له علم يليق بجلاله، والإنسان عالم له علم يليق به، ويقولون: الله حليم، له حلم يليق بجلاله، والإنسان قد يكون حليماً له حلم يليق به... فلو أتى موسى عليه السلام، لكان ذلك مدخل لفرعون إلى قياس الاشتراك، فلو قال: ربي سميع، لقال فرعون: وأنا سميع، والناس سوف يصدقونه، ولو قال: ربي عليم، لقال فرعون: وأنا عليم، ولو قال: ربي حي، لقال فرعون وأنا حي... لكنه أتى بصفتين ليست في فرعون -لأنه يدعي الألوهية-فقال: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50] فعرف الكذاب أنه لا يعطي كل شيء خلقه ثم يهديه. وما فائدة قوله: ثُمَّ هَدَى [طه:50]؟ قالوا: هدى كل شيء إلى خلقه. يقول سبحانه وتعالى: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:3] ولما قرأ سيد قطب هذه الآية سال قلمه في سورة الأعلى فنسي نفسه، فأتى بصفحات في هداية الله للحيوانات، وأتى بأعاجيب يحسن بنا أن نعود إلى الظلال لنقرأ هذه القصص وهذه الأعاجيب، يقول: من هدى الأسماك حتى تهاجر من المحيط الهندي إلى المحيط الأطلسي في وقت البيض، فتبيض هناك لأن ذلك، المحيط يتجمد، فإذا فقست بيضها هاجرت هذه المواليد والزواحف لتعود إلى أمهاتها! ومن هدى الجراد أن يأتي في موسم الصيف، فيفر من بلد إلى بلد؟ ومن هدى النحلة حتى يقول كريسي موريسون، ينقل عنه سيد قطب يقول: لعل راداراً يوحي إلى هذه النحلة بمكانها، كيف تهاجر وتترك خليتها ثم تقطع آلاف الأميال وتعود إلى الخلية! قال سيد قطب: نعم. إن الله عز وجل يقول: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً [النحل:68-69].

الشاهد: أن موسى عليه السلام دمغه، فلما اندمغ احتار، ثم بعدها: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى [طه:51] يقول: إن كان الله عز وجل سوف يبعث الناس يوم القيامة، فأين تذهب القرون الأولى عندما تموت ولا تعود؟ فبإمكان موسى أن يقول له: ما دخلك يا حقير في هذه المسائل، لكنه تأدب في الخطاب؛ لأن الله أوصاه: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]

ولكن: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى [طه:52] ولله دره من جواب! فإنه لم يقل: لا يضل وسكت، لأنه لو قال: يضل وسكت؛ لقال الناس: إذاً ينسى، ولم يقل: لا ينسى وسكت؛ لأنه لو قال: لا ينسى وسكت، لقالوا: إذاً يضل، فنفى عنه الأمرين، نفى عن نفسه أن إذ وضع شيئاً في مكان فيضل عليه مكانها، أو ينسى أين وضعها.. بل هي في سجلات محفوظة عنده سبحانه وتعالى.

إبراهيم عليه السلام ومسألة إحياء الموتى
وهذا موقف ثان في القرآن يتحدث الله عنه باستفاضة..ففي آخر سورة البقرة يعرض الله عز وجل مشهد البعث والنشور للناس.. ويحسن بالداعية أن يستلهم هذه المواقف لعرض الدعوة على الناس؛ لأن مسألة البعث والنشور من أخطر المسائل في حياة الإسلام، فهما قضيتان: قضية توحيد الله عز وجل، وقضية الإيمان باليوم الآخر، يذكرهما الله عز وجل دائماً.

ولذلك يقول الله تعالى بعد قصة إبراهيم عليه السلام مع النمرود: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا [البقرة:259] وفي قراءة: (نُنشرها) أو (نَنشرها) ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259] قال بعض أهل العلم: إنه عزير، النبي الصالح من بني إسرائيل، خرج فمر بقرية كانت جميلة، ذات رواء، فيها أطيارها، وأشجارها وأنهارها، وفيها سكانها، ثم مر بها بعد فترة وإذا هي قد تهدمت، فلا أنيس فيها، ولا صائح ولا مجيب ولا حبيب ولا قريب، فالتفت إليها وقال: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا [البقرة:259].

وكان معه حماره، وعليه طعامه وشرابه -ولا يهمنا طعامه وشرابه من أي شيء يكون- فأراد الله عز وجل أن يعلمه، وكما يقول أحد الأساتذة الكبار الخطباء، قال: أدخل الله عزيراً في المختبر هو وحماره، فأخرجه وهو يؤمن بالله واليوم الآخر.. فأجرى عليه عملية الموت والإحياء.. مات الرجل ثم مات الحمار، والطعام والشراب في الخرج ما تغير بشيء.. وبعد مائة سنة أيقظ الله عز وجل هذا الرجل الصالح، فقال له: كم لثبت؟ فنظر إلى الشمس وكان الوقت بعد العصر، وكان قد توفي في الصباح -كما يقول أهل التفسير- ولما بعثه الله بعثه بعد العصر، فقال: لبثت يوماً أو بعض يوم. إما يوماً كاملاً، ولكن أخاف أني ما أكملت اليوم؛ لأن الشمس لم تغرب بعد، إذاً بعض يوم، وهذا من الورع والاحتياط في الحساب. فقال سبحانه وتعالى: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ [البقرة:259].

هذا الطعام موجود منذ مائة سنة، لم تتغير رائحته ولا طعمه، ولا لونه، ففتح فوجد اللحم كما هو، ووجد الماء والعصير كما هو لم يتغير، لكن الحمار غير موجود، لأنه لو كان الحمار موجوداً أمامه لشك كذلك في أنه بقي مائة سنة، فالتفت فلم يجد الحمار، ووجد العظام أمامه.. قال سبحانه تعالى: وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً [البقرة:259] قالوا: أعاد الله عز وجل الحمار أمامه، فركب العظام وهو ينظر -بعد أن علم أن الحمار غير موجود- ثم كساه الله لحماً -كما ذكر سبحانه وتعالى في الخلق- فلما كسي لحماً ركب أعصابه فيه، ثم أعطاه دماً، ثم أعطاه جلده وشعره، ثم خلق فيه الروح؛ فانتفض الحمار، فإذا هو حي أمامه.. هل في ذلك شك؟!

.. وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا [البقرة:259] قيل: ننشزها: نركب بعضها في بعض، أو نحييها، وقيل: ننشرها بعد أن ماتت.. فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259].

ثم قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى [البقرة:260] قال المفسرون: مر إبراهيم عليه السلام بجيفة ميت، قيل: إنه حيوان ميت على ساحل البحر، وإذا بالغراب ينهش منه ويذهب، والحدأة تأكل منه، والنسور والطيور وغيرها، فقال إبراهيم: سبحان الله! الله عز وجل يحيي الأموات بعد أن تموت، ولحوم هذه تذهب في بطون هذه كيف ذلك؟

.. وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَال أَوَلَمْ تُؤْمِنْ [البقرة:260] أنت أستاذ التوحيد، الذي تربي الناس على التوحيد والعقيدة وتتكلم بهذا الكلام؟! أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260].

ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {ليس الخبر كالمعاينة} وقال كما في صحيح البخاري: {نحن أولى بالشك من إبراهيم} أي: لو كان إبراهيم شاكاً لشككنا نحن، وهذا من تواضع الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنه يقول: إبرهيم أقوى منا إيماناً، وأعرف منا بالتوحيد، وأقوى يقيناً، فلو شك لشككنا، فنحن أولى بالشك منه.

قال الله عز وجل: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260] قد آمنت لكن أريد يقيناً عندما أرى الأمر مباشرة.. فأجرى الله سبحانه وتعالى عملية البعث بين يديه، ولم يقل له: إني سوف أحيي فلاناً أو فلاناً، لكن: قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ [البقرة:260] وقد اختلف أهل التفسير في الطير، وقد ذكره صاحب فتح القدير، فقال بعضهم: هي بط ووزة وحمام ودجاج، وقال بعضهم: ليس فيها أوز، فيها حمام زاجل، وقال بعضهم: بل فيها نسر، وقال بعضهم: بل حدأة وغراب.. وهذا ليس فيه طائل، وإنما هي أربعة أصناف من الطيور.. قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ [البقرة:260] الصر: هو القطع، وقيل: هو الضم.. وما أحسن أسلوب القرآن! فإن الله عز وجل لا يتكلم في القرآن إلا بالجملة الراقية العظيمة التي تملأ الأذنين جلالة وتملأ القلب محبة ورهبة.. ولذلك انظر كيف يتحدث القرآن بكلام لو تحدث عنه الناس بهذا الأسلوب، لتبدل الكلام، ألم يقل الله سبحانه وتعالى: وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق:10]. فلو تحدثنا عنه لقلنا: والنخل طويلات، لها ثمر طيب.. لكن الله سبحانه وتعالى قال: باسقات، جمع باسقة، في بلاغة وإبداع! وقال: لها طلع، ولم يقل: ثمر، لأن الطلع فيه حياء ورواء وإجماع للذهن، وإحياء للقلب، وقال: نضيد؛ كأنه حب منضود، أو كأنه عقد نقض بعضه على بعض.. فسبحان من أنزل هذا القرآن!

فأخذ إبراهيم عليه السلام الطيور الأربعة، فقطعها، ثم جمع جثثها، شعرها ولحمها ودمها وعظامها، جمعها وخلطها، ثم وزعها على رءوس الجبال، وكانت رءوسها عنده، ثم نزل إلى الوادي والجبال حوله، ثم دعا وقال: تعالي باسم الله؛ فأخذ كل عضو يأتي إلى مكانه.. الجناح يأتي حتى يرجع إلى مكانه، ويأتي الشعر إلى مكانه... وهكذا حتى رفرفت ثم خرجت من بين يديه فإذا هي أحياء بإذن الله.

قال الله: ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً [البقرة:260] ولم يقل: يأتينك على مهل، أو يأتينك يتدحرجن؛ وذلك لأن السعي فيه معنى الحياة.. قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:82-83]. ثم قال الله تعالى: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:260] لماذا قال الله في هذه الآية: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:260] وقال عند عزير: قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259]؟

الآيتان وراء بعض، والقدرة والحكمة وجدت هنا وهناك، فلماذا هذا الاختلاف؟

الجواب: عزير كان عنده شك في إحياء القرية، فناسب أن يقول: أعلم أن الله على كل شيء قدير، ليقرر له حقيقة القدرة، وإبراهيم عليه السلام لما قال الله عز وجل له: قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى [البقرة:260] فهو قد نفى عن نفسه الشك، فما يناسب أن يقول: أعلم أن الله على كل شيء قدير؛ لأنه قد علم، لكنه قال له: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:260] فهو صاحب عزة وحكمة، فناسب أن يختم هذه بهذه، وهذه بهذه.. ولذلك أنا أنصح نفسي وإياكم بالاعتناء بخواتم الآيات؛ لأنها ما تأتي إلا لحكمة، فالله عز وجل إذا ذكر المغفرة والتوبة في سياق الآيات قال: والله غفور رحيم، وإذا ذكر الحدود والعزة والحكمة قال: والله عزيز حكيم، وإذا ذكر الرزق والعلم والعطية والإذن قال: الفتاح العليم الوهاب، سبحانه وتعالى.

سمع أعرابي قارئاً يقرأ من حفظه قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38] إلى قوله تعالى وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]. فقال القارئ: والله غفور رحيم. فقال الأعرابي: لا يكون هذا أبداً، قال القارئ: ولم؟ قال: لأنه لا تأتي المغفرة والرحمة بعد هذا، إنما الذي يناسب هو العزة والحكمة. فرجع إلى المصحف فوجدها كما قال الأعرابي وهذا من حكمة الله عز وجل في كتابه الكريم.

الكلمات التي ابتلى إبراهيمَ ربُهُ بها
يقول الله سبحانه في موقف آخر مع إبراهيم: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً [البقرة:124].

إبراهيم هنا هو المفعول فهو الذي ابتلاه الله سبحانه وتعالى بكلمات.. وبماذا ابتلاه سبحانه وتعالى؟ وما هي هذه الكلمات؟

قيل: هي قوله تعالى: قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً [البقرة:124].

القول الثاني: أنها أوائل سورة المؤمنون، قال ابن عباس: [[ابتلاه الله عز وجل بثلاثين آية، من أول سورة المؤمنون، - ترفع على الحكاية- وعشر من سورة الأحزاب: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:35]... والبقية، وعشر من سورة المعارج وسورة التوبة]]

وقيل: ابتلاه بخصال الفطرة، وهي: قص الشارب، وتقليم الأظافر، والوضوء.

والأحسن أن يقال: ابتلاه عز وجل بالتكاليف الشرعية، فقام بها على أحسن قيام؛ فجعله الله للناس إماماً، ومن قام بالتكاليف الشرعية جعله الله للناس إماماً... وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124] أي: واجعل من ذريتي أئمة؛ فأجابه الله: قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124] أي أن كل ظالم ولو كان من ذريتك لا يناله العهد، ولا يناله التوفيق ولا الهداية ولا السداد.. هذه من مواقف إبراهيم في القرآن.

إبراهيم وإلقاؤه في النار
ومن مواقفه: إلقاؤه في النار.. وهو من أعظم المواقف التي تعرض لها في حياته، والتي أظهرت فضله ومنزلته، والعجيب أنه لما ألقي في النار تخلى عنه كل أحد إلا الله عز وجل، فأتاه جبريل وقال له: هل لك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم. فلما ألقي قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فجعلها الله برداً وسلاماً عليه، ولو جعلها برداً فقط لمزقته بالبرودة والزمهرير.. ولو جعلها سلاماً فقط لاقتضى أن يكون فيها حرارة، ولكن جعلها برداً وسلاماً؛ فخرج بإذن الله، وسلمه الله عز وجل، وكرر الله هذه القصة لأوليائه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

خصائص إبراهيم عليه السلام وصفاته في القرآن
يتميز إبراهيم عليه السلام في القرآن عن الأنبياء بثلاث ميز:

الأولى: أن الله ذكر بعض صفاته كثيراً أكثر من غيره من الأنبياء.

الثانية: أنه عرض دعوته بالآيات والتفكر في مخلوقات الله أكثر من غيره.

الثالثة: أنه واجه صعوبات مع أبيه ومع بيته قبل أن يذهب إلى الناس.. ولذلك يذكره الله عز وجل كثيراً، يقول الله عز وجل عنه: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود:75] أواه: أي: كثير التأوه من الذنوب، وقيل: كثير الاستغفار، وقيل: كثير التوبة.. حليم: أي: أنه شفيق رحيم.. فإن الله تعالى ذكر هذه الآية بعد قصة ذهاب الملائكة إلى قوم لوط ليدمروهم، فأشفق عليهم إبراهيم عليه السلام، وأخذ يجادل فيهم... القوم مهلكون، وإبراهيم عليه السلام قام وترك الغداء معهم وقام يجادلهم في قوم بلغوا من إجرامهم كل مبلغ، فهذه علامة الحلم.

وقد ذكره الله في الشجاعة فقال: فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ [الصافات:93]. وذلك عندما ذهبوا إلى عيدهم، فأتى بفأس فمال على الأصنام فضربها حتى كسرها، وكانت من زبرجد ومن زجاج ومن ذهب وفضة، وأخذ الفأس فعلقه على الكبير الأبله، فأتوا إليه، ومن حقارتهم أنهم يهونون من شأن مخالفيهم: قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:60].

لأن أهل الضلال الآن إذا سمعوا بأهل الإصلاح وأهل الخير قالوا: هناك أناس يدعون أنهم سوف يدعون إلى الله عز وجل وينشرون العلم، والصهيونية العالمية تفعل هذا مع الدول الإسلامية، وتهون من شأنها، وأما نحن إذا أخبرنا عنهم فنقول: الإرهابيون، القتلة، حتى نخوف نساءنا وأطفالنا منهم، فنتصورهم في المنام، وهم يهونون من شأننا.

وإبراهيم عليه السلام له روغتان: روغة شجاعة، وروغة كرم.. قال تعالى: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26] أي: من روغته وسرعته أتى بعجل.

إذاً: من صفاته: الكرم والشجاعة والحلم.. وهذه ميزة القيادي، وقد كانت موجودة في أبي بكر، فقد قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري: {يا أبا بكر! إن فيك شبه من إبراهيم عليه السلام} أو نحواً من هذا.

أثر بركة إبراهيم عليه السلام في مكة
ولما أتى إبراهيم عليه السلام إلى مكة ترك الأثر العجيب المبارك إلى قيام الساعة، ولا بد أن أستعرض معكم في هذه العجالة بعض المسائل:

أولاً: ما جاء في ماء زمزم وفضلها: فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ماء زمزم شفاء سقم، وطعام طُعم) فهو يشفي -بإذن الله- السقيم لمن تعالج به وعرف قدره، قال ابن القيم: وأتاني مرض أعيا الأطباء، فنزلت وأخذت من ماء زمزم، ورقيت نفسي فتشافيت بإذن الله.. فمن أحسن ما يستشفى به الاستشفاء بماء زمزم، ومن استشفى به شفاه الله عز وجل بإذنه سبحانه.

وطعام طعم، أي: أنه يكفيك عن الطعام، وأنك لو بقيت على ماء زمزم لشبعت بإذن الله، إن كنت تقصد الإشباع، فقد جاء في الحديث: (ماء زمزم لما شرب له) وقد بقي عليه أبو ذر أربعين ليلة، يقول: حتى تكسرت عكن بطني من السمن.

ومن المسائل: هل يجوز أن يتوضأ بماء زمزم أم لا يجوز؟

المسألة خلافية بين أهل العلم: فبعضهم كره أن تتوضأ منه؛ لأنه ماء طاهر مبارك، فلا يمتهن بالوضوء.. والصحيح أنه يتوضأ منه، فقد جاء في مسند الإمام أحمد من حديث علي وأسامة بن زيد (أن الرسول عليه الصلاة والسلام توضأ وشرب من ماء زمزم) وقد ورد أن الرسول عليه الصلاة والسلام أدخل أصابعه في الصحفة فبارك الله في الماء الذي خرج من أصابعه، فتوضأ الناس من هذا الماء، وهو أشرف من ماء زمزم، فمن باب أولى أن يتوضأ منه، وكذلك يجوز أن يغتسل به من الجنابة، وهذا هو الصحيح إن شاء الله.

وكيف شرب الرسول صلى الله عليه وسلم منه؟ ثبت أنه شرب منه واقفاً.. قيل: لكثرة الزحام، وقيل: لعجلته صلى الله عليه وسلم، وقيل: ليبين الجواز، وهذا كله وارد، فمن شرب مرة واقفاً فقد خالف الأولى، والأحسن أن يشرب جالساً، ومن كان في زحام أو مشقة أو عجلة فله ذلك.

المسالة الثانية: تحريم مكة على لسان إبراهيم ودعوته لها بالبركة، فإنه حرمها ودعا لأهلها بالبركة، فبارك الله فيها، ولذلك عندما قال إبراهيم لزوجة إسماعيل: ما طعامكم؟ قالت: اللحم والماء. قال: هل لكم طعام غيره؟ قالت: لا. ليس لنا إلا اللحم والماء. فدعا لهم بالبركة فيه قال ابن عباس: فما ينفرد أحد من الناس في غير مكة باللحم والماء إلا لم يوافقاه، إلا في مكة فيوافق العبد اللحم والماء. فلا يستطيع الإنسان أن يعيش دائماً على لحم وماء إلا في مكة.

المسألة الثالثة: فضل الزوجة الصالحة، وأنها علامة الخير.. وإذا آنست المرأة زوجها بالصلاح وأظهرت له الخير والبركة، بارك الله في البيت، ولذلك إبراهيم عليه السلام أمر إسماعيل عليه السلام أن يطلق امرأته الأولى؛ لأنها دائماً تتشاءم، فالخير موجود ومبذول، والماء كثير، والبيت واسع، ولكنها دائماً تقول: بيتنا ضيق، وسيارتنا لا تصلح، وأثاثنا من أخس الأثاث، ونحن في شدة وفي ضنك، والناس مرتاحون إلا نحن... فهذه ليس فيها خير ولا بركة.. فإن المرأة الصالحة ولو كانت تأكل خبز الشعير فإنها تحمد الله، وتقول: نحن في نعمة وارفة، وفي ظل ممدود، ونحن في بركة وخير، وهذه هي علامة الخير والبركة.

ومن المسائل: فضل التوكل على الله عز وجل، فإن إبراهيم ترك أهله وترك زوجته وطفله وذهب متوكلاً على الله فحفظهم الله.

أم فاطمة السلفية
2015-07-31, 21:30
-ماشاء الله موضوع قيم ومميز جعله الله في ميزان حسناتك .

همسات ايمانية
2015-08-01, 14:41
-ماشاء الله موضوع قيم ومميز جعله الله في ميزان حسناتك .


شكرا لك اختي ام فاطمة وجعل الله ايضا ما تقدمينه في ميزان حسناتك

dragown
2015-08-01, 19:21
بارك الله فيك

همسات ايمانية
2015-08-01, 23:12
بارك الله فيك

وفيك بارك الله

همسات ايمانية
2015-08-02, 11:37
القصة الثالثة عشر

قصة اصحاب الكهف تفريغ نصي لنبيل العوضي

قصة من قصص القرآن، ذكرها الله عز وجل في كتابه، واستحب رسوله صلى الله عليه وسلم قراءتها في كل أسبوع، وقد سمى الله تعالى السورة بها .. إنها قصة من أعظم القصص، فيها عبر وفوائد، وفيها ثمرات لمن أيقن بها يجدها في قلبه، فاسمعها يا رعاك الله .. إنها قصة أصحاب الكهف، هذه القصة العظيمة التي ذكرها الله عز وجل من أجل سؤال سأله النبي صلى الله عليه وسلم عنهم، فلم يجبهم إلا بعد أن أنزلها الله عز وجل، فاسمعها ولنقرأها عليك، وتصور -يا عبد الله- هذه القصة، وتخيل أنك أحد هؤلاء الفتية الذين قص الله عز وجل علينا قصتهم!

قال الله عز وجل في بداية هذه القصة، مادحاً نفسه، ومثنياً عليها بأنه يقص هذه القصة بالحق، وليس بالهزل، أو الكذب، أو الافتراء؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الكهف:13] وقد ابتدأت هذه القصة بالثناء على أصحابها وأبطالها: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ [الكهف:13] لم يكونوا شيوخاً - كباراً في السن- إنما كانوا فتية صغاراً في السن، ولكن الله عز وجل خلد ذكرهم.

ما شأنهم يا رب! وما قصتهم؟ إنهم آمنوا بالله جل وعلا .. رأوا قومهم يعبدون الأصنام والكواكب .. يعبدون غير الله جل وعلا، ويشركون به سبحانه وتعالى، لكنهم آمنوا بالله، فاستجابوا لهذه الفطرة، واستجابوا لله جل وعلا؛ فكانت أعظم فضيلة لهم أنهم آمنوا بالله: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ [الكهف:13] هل تركهم الله لوحدهم؟ لا .. وَزِدْنَاهُمْ هُدىً [الكهف:13] ولكن الله عز وجل زادهم إيماناً وتقوى وهدى، ولم يكن هذا فقط؛ بل قال: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ [الكهف:14] ثبتهم الله جل وعلا، وزادهم إيماناً وثباتاً.

إنكار أصحاب الكهف لما عليه قومهم من الشرك بالله
هل جلسوا بين قومهم؟

هل رضوا بهذا الشرك؟

هل رضوا بهذه الأصنام التي تعبد من دون الله؟ لا. بل قاموا من مكانهم، ولم يتحمل أحدهم أن يجلس بين قومه .. إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً [الكهف:14].

نظروا إلى قومهم فأنكروا، ونظروا إلى شركهم فاستنكروا: هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الكهف:15] ليس الأمر بالادعاء ولا بالكلام، من يصف الله عز وجل بأنه يشرك به شيئاً .. يشرك به في الألوهية، أو في أسمائه وصفاته، أو بالربوبية، أو يشرك به في الحكم الذي تفرد الله عز وجل به؛ فليأت بسلطان بين .. فليأت بدليل يثبت ما ادعاه: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [العنكبوت:68].

لم يتحملوا الوضع، ولم يتحملوا الشرك، وتلك الأصنام، ولا هذه الطواغيت، فقاموا من مكانهم، وهربوا من مجتمعهم، واعتزلوا الناس .. إلى أين؟ ذهبوا كلهم إلى أحد الكهوف المظلمة .. خرجوا من القصور إلى أحد الكهوف .. خرجوا من الترف والنعيم وزينة الدنيا إلى كهفٍ من الكهوف، يجتمعون فيه.

نعم! إنه الإيمان الذي لا يسمح لذلك المؤمن أن يجلس بين الشرك، إنه الإيمان الذي لا يرضى لصاحبه أن يرضى بهذا المنكر، وتلك المنكرات .. وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ [الكهف:16] إنه الكهف المظلم .. إنه المكان الموحش، لكن الله عز وجل جعله مفاجأة لهم؛ إن الكهف المظلم قد أصبح كهفاً فسيحاً، ذلك الكهف المظلم ألقى الله سبحانه وتعالى فيه النور، فأصبح من الإيمان جنة من الجنان .. فأصبح من الإيمان الذي دخل في القلوب جنة يعيشون ويتقلبون فيها، أخرجهم الله من القصور ليدخلوا تلك الكهوف، ومن رحمته سبحانه وتعالى أن جعل هذه الكهوف أفضل وأجمل وأسعد لهم من تلك القصور .. وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً [الكهف:16].

وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود
دخلوا ذلك الكهف، فجلسوا، وإذا بالتعب يصيبهم، والنعاس يرهقهم، فاضطجعوا في ذلك الكهف، فأرسل الله عز وجل عليهم النعاس والنوم، وتخيل هذا المنظر! هل ينامون يوماً أو يومين أو ثلاثة؟ تطلع عليهم الشمس فتبدي عليهم من نورها، ثم تغرب عليهم وينتهي ذلك اليوم وهم نيام .. وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ [الكهف:18].

الأعين مفتوحة وهم نيام، ليسوا بثابتين ولا ساكنين، بل يتقلبون يمنة ويسرة، والشمس تطلع عليهم وتغرب، ولهم كلب نائم عند الباب بالوصيد، حتى يرعب من يدخل عليهم؛ حماية من الله جل وعلا، وإذا رأيت منظرهم أصابك الخوف، ولو اطلعت عليهم لملئت منهم رعباً.. ما هذا المنظر العجيب؟ وما هذا الموقف الرهيب؟ الشمس تطلع عليهم وتغرب، وإذا رأيت إلى منظرهم كأنهم أيقاظ لكنهم رقود، قال الله جل وعلا واصفاً ذلك المنظر: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً [الكهف:17-18].

ظهور أمر أصحاب الكهف واختلاف الناس فيهم
إنها آية من آيات الله، وعلامة من علامات قدرة الله جل وعلا؛ أن ترى رجلاً نائماً وليس بنائم، وتراه يقظاناً وليس بيقظان، والكلب عند الباب، والشمس تطلع عليهم وتغرب، وفي لحظة من اللحظات يأذن الله جل وعلا، للأرواح أن ترجع، فإذا الأجساد تتحرك مرة أخرى، فتهتز من بعد موتها: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ [الكهف:19].

فإذا بهم يقومون يتساءلون بينهم! يقول أحدهم: كم يوماً نمنا؟ وكم ساعة لبثنا؟ فيرد عليه الآخر فيقول: نمنا يوماً كاملاً .. نمنا يوماً طويلاً، فرد الآخر فقال: لا. بل نمنا بضع يوم .. عشية أو ضحاها، قال لله تعالى: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف:19] فإذا الجدال عقيم، وإذا النقاش لا ينفع، وإذا الكلام لا يفيد، فردوا أمرهم إلى الله قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ [الكهف:19] هذا أمر لا ينفعنا، لقد أهلكنا الجوع والعطش، ونريد طعاماً؛ فأخرجوا قطعاً من فضة ليشتروا بها طعاماً، وقالوا لأحدهم: اذهب بهذا المال إلى أسواق المدينة، وادخل مخفياً متلطفاً برفق لكي لا يشعر بك أحد؛ فإنهم إن شعروا بك وقبضوا عليك فسوف يرجموننا ويقتلوننا، إلا أن تعود في دينهم.

وهذه هي حال الطغاة، وتلك هي أحوال الظلمة، وهذه هي المجتمعات الظالمة، لا ترضى أن يبقى على دينهم، ولا ترضى أن يبقى الصالحون على منهجهم، بل إما الرجم أو أن يعودوا في ملتهم .. إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً [الكهف:20].

واسمع إلى سياق القرآن كيف يصف الله جل وعلا خبره، ويقص علينا قصصه! وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً [الكهف:19] إياكم إياكم أن يظهروا عليكم! إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ [الكهف:20] أتعرف ما هو الرجم يا عبد الله؟ إنه الرمي بالحجارة؛ أن تحفر لهم الحفر، فيرموا بالحجارة حتى الموت، لماذا؟ لأنهم آمنوا بالله .. يُسجنون ويُقتلون ويُعذبون؛ لأنهم آمنوا بالله جل وعلا، لأنهم ما رضوا إلا عبادة الله، ولأنهم أبوا إلا توحيد الله، ولأنهم رفضوا كل شيء إلا عبادة الله جل وعلا، وحكمه سبحانه وتعالى.

لكن الذي خرج منهم ما كان يعلم أنهم قد ناموا في كهفهم أكثر من ثلاثمائة سنة .. إنها آية من آيات الله! فخرج وإذا بالمدينة قد تغيرت، والناس قد تبدلوا، والقصور قد اختلفت، وإذا بالناس يقصون هذه القصة عبر الأجيال والأزمان .. يقصون قصة فتية خرجوا من قصورهم إلى كهف من الكهوف، فما علم الناس عنهم وما شعروا بهم، وإذا بهذا الرجل يخرج بينهم، شكله يختلف عنهم، وهيئته كأنها هيئة أصحاب الكهف، وإذا به يأتي بمالٍ من العصور القديمة والأجيال السالفة، فيخرجها ليشتري بها طعاماً، فقال له البائع: من أين لك هذه النقود؟ قال: إنها نقودي. قال: من أنت؟ قال: أنا فلان بن فلان، قال: أين أنتم؟ فإذا بهم يكتشفون الخبر ويعرفون القصة، فقدموا عليهم، وقد آمن القوم بالله، ورضوا به جل وعلا، فرأوا هؤلاء الفتية الذين قص الناس قصتهم، وذكروا روايات عنهم، فعظموهم، وأعلوا شأنهم وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ [الكهف:21].

تبعه أهل المدينة فإذا به يهرب ويدخل الكهف، فقبض الله أرواحهم جميعاً .. يموت أصحاب الكهف كما كانوا آية من آيات الله أطلعها الله للناس، فإذا بهم يختلفون ويتنازعون ويتجادلون بينهم، فإذا بالضعفة المساكين يقولون: لنتخذن عليهم مسجداً .. (قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) إنهم أولياء وصالحون ومتقون، لنجعلن عليهم مسجداً، نأتي ونصلي ونعبد الله جل وعلا في هذا المكان .. قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً [الكهف:21].

وهكذا حال السذج والضعفة من الناس، يشركون بالله جل وعلا؛ لأنهم وجدوا قبراً من قبور الأولياء، أو مكاناً من أماكن الصالحين، وإذا رأوا صالحاً تمسحوا به وتقربوا به إلى الله عز وجل، وإذا رأوا قبراً لأحد الأولياء، قالوا: نعبد الله عز وجل عنده، وندعوه عز وجل بجواره، ونتوسل إلى الله عز وجل بهذا الولي وبذلك الصالح .. غلبوا على أمرهم، وتسلطوا على رقابهم أبناء السلاطين، فقالوا: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً [الكهف:21].

وقد اختلف الناس في عددهم، فقال البعض: ثلاثة رابعهم كلبهم، وقال بعضهم: خمسة سادسهم كلبهم، وقال الآخرون: سبعة وثامنهم كلبهم، ولا يعلم عدتهم إلا الله جل وعلا، وقد نهى الله عز وجل نبيه أن يجادل في أمرهم أو يخوض في شأنهم.


عبر ومواعظ من قصة أصحاب الكهف
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون: لم يخبر الله عز وجل بهذه القصص للتسلية ولا لقضاء الوقت والفراغ، إنما هي للعبرة، فما قص الله عز وجل علينا قصة في القرآن إلا وفيها عبر وفوائد، فاسمعها حفظك الله:

أول ما بدأ الله عز وجل القصة أنه أخبر أنهم فتية .. شباب صغار في السن، كما أخبر الله عن إبراهيم بقوله: قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:60] إن هذا الدين لا فرق فيه بين الصغار والكبار، ولا بين الشباب والشيوخ، أو الرجال والنساء، لكن يحمل لواءه الشباب في عز قوتهم، وعنفوان شبابهم -يحملون هذا الدين- فلا يأتي الرجل في وقت الشباب ويستغله في الفتن والشهوات والملهيات، ثم إذا اقتربت وفاته قال: آمنت بالله .. آمنت أنه لا إله إلا الله.

إن هذا الدين يرفع لواءه الشباب قبل الشيوخ، والشيوخ يجلسون في بيوت الله يرفعون أياديهم يدعون الله جل وعلا أن يعز دينه، ويعلي كلمته.

إن الشباب في هذه الأمة مطالبون أن يقوموا كما قام أصحاب الكهف، وألا يجلسوا في بيوتهم وقصورهم، ولا يرضوا بهذا الترف وبذلك النعيم، بل يقومون من ذلك الترف، ويدعون إلى الله جل وعلا، وينكرون تلك المنكرات، ولا يرضوا للناس أن يجلسوا بين هذه المنكرات، أو يأتونها.

إن الشباب في هذا الزمان مطالبون بأن يصدعوا بالحق، ويجهروا به، وينكروا المنكرات، كما قال الله جل وعلا: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].

عبد الله: هل رأيت أولئك الفتية وقد هجروا القصور والنعيم، والدنيا بأكملها .. إلى أين يا عبد الله؟

إنهم جلسوا في كهف من الكهوف المظلمة، ورضوا بهذا الكهف بديلاً عن تلك القصور، لإرضاء الله وعبادته جل وعلا، خرجوا من هذه الدنيا والواحد منهم لا يرضى أن يجلس في هذا النعيم بين المنكرات، أو يأخذ الأموال، أو يرضى بهذه الفتنة وذلك الترف وهو يأتي المنكرات.

أسمعت -يا عبد الله- ببعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إنه خباب بن الأرت رضي الله عنه، كان عمره عشرين سنة، فجلد وضرب وافتتن في دينه، حتى أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟).

أسمعت بـحبيب الزيات عليه رحمة الله، حين استدعاه الحجاج ذلك الظالم الطاغية، فقال له: سمعنا أنك تتكلم فيّ؟ فقال: نعم! أنت أحد الظلمة الطواغيت، وسوف تلقى الله بكل نفس قتلتها ظلماً.

قال: فما تقول في مروان بن عبد الملك؟ قال: أنت خطيئة من خطاياه، هو أظلم منك وأطغى، وأفجر منك وأعتى. قال: أتقول هذا؟ قال: نعم. فصلبه وأمر الجلاد أن يقطع لحمه قطعة قطعة، ويسفك دمه، حتى اقتربت روحه على الوفاة، فقال: لا تقتلوه، اذهبوا به إلى الأسواق لتزهق نفسه والناس ينظرون إليه وهو يعذب: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً [الكهف:20]. فصلب أمام الناس والدم يسيل، واللحم يتقطع، والنفس تخرج، فأتاه أحد الناس الصالحين، وقال: أتريد شيئاً؟ فقال: أما دنياكم فلا، لا أريد شيئاً من الدنيا إلا شربة من ماء -يريد أن يشرب شربة من الماء لتخرج نفسه- فشرب شربة من ماء، ثم خرجت روحه إلى الله جل وعلا.

أتعرف كم كان عمر حبيب في ذلك الوقت؟ لقد كان عمره سبعة عشر سنة، ومع ذلك يواجه أكبر ظالم وطاغية على وجه الأرض.

إن الفتية الذين خلد الله ذكرهم لم ينقطع تاريخهم، بل إن في هذه الأمة من الفتية والشباب الذين يقفون في وجه الظلم والطغيان، وفي وجه الشرك والكفر بالله جل وعلا: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين إلى قيام الساعة، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك).

همسات ايمانية
2015-08-02, 11:51
القصة الرابعة عشر

نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام

قال الله تبارك وتعالى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا}سورة مريم، وقال تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ}سورة الأنبياء.

نسب إبراهيم عليه الصلاة والسلام:

هو إبراهيم بن تارخ (وهو ءازر) بن ناخور بن ساروغ بن ارغو بن فالغ بن غابر بن شالخ بن قينان بن أرفخشذ ابن سام بن نوح عليه الصلاة والسلام

كان أهل بابل في العراق يتنعمون برغد العيش ويتفيئون ظلال النعم الكثيرة التي أنعمها الله عليهم، ولكنهم كانوا يتخبطون في دياجير الظلام، ويتردّون في وهاد الضلال والكفر، فقد نحتوا بأيديهم الأصنام واتخذوها من دون الله ءالهةً وعكفوا على عبادتها، وكان عليهم حاكم ظالم مستبد يقال له نمرود بن كنعان بن كوش، قيل هو الضحاك وقيل غيره، وكان أحد الملوك الذين ملكوا الارض وأحاط ملكه مشارق الأرض ومغاربها، فلما رأى ما هو عليه من الزعامة وما يتمتع به من سطوة الملك وقوة السلطان، ورأى ما أطبق على قومه من الجهل والفساد ادعى الألوهية ودعا قومه إلى عبادته، وقيل: كان قوم إبراهيم يعبدون الكواكب السبعة وكان لهم أصنام بشكل الشمس والقمر وأصنام بشكل الكواكب.

مولد إبراهيم عليه السلام:

في وسط هذه البيئة المنحرفة وفي زمن وعهد هذا الملك الجبار الكافر النمرود كان مولد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وفي موضع ولادته عليه السلام خلاف قيل: ولد بالسوس من أرض الأهواز، وقيل: ولد ببابل وهي أرض الكلدانيين، وقيل: بحران، وقيل: بغوطة دمشق في قرية يقال لها برزة في جبل يقال له قاسيون، والمشهور عند أهل السير والتواريخ أنه ولد ببابل.

قال أهل التواريخ والسير: إنه لما أراد الله عز وجل أن يبعث إبراهيم عليه السلام وأن يجعله حجة على قومه ونبيًا رسولًا إليهم، ولم يكن فيما بين نوح وإبراهيم عليهما السلام من نبي قبله إلا هود وصالح عليهما السلام.

ولما تقارب زمان ابراهيم أتى المنجمون إلى هذا الملك نمرود وقالوا له: اعلم أنا نجد في علمنا أنَّ غلاماً يولد في قريتك هذه يقال له إبراهيم، يفارق دينكم ويكسر أوثانكم في شهر كذا وكذا من سنة كذا وكذا.

فلما دخلت السنة التي وصف أصحاب النجوم لنمرود، بعث نمرود هذا إلى كل امرأة حبلى بقريته، فحبسها عنده إلا ما كان من أم إبراهيم زوجة ءازر والد ابراهيم عليه السلام فإنه لم يعلم بحبلها، وذلك أنها كانت جارية لم يعرف الحبل في بطنها، فجعل هذا الملك الطاغية لا تلد امرأة غلامًا في ذلك الشهر من تلك السنة إلا أمر به فذبح، فلما وجدت أم إبراهيم عليه السلام الطلق، خرجت ليلًا إلى مغارة كانت قريبة منها، فولدت فيها إبراهيم عليه السلام وأصلحت من شأنه ما يُصنع بالمولود، ثم سدت عليه المغارة ورجعت إلى بيتها، كانت تزوره وتطالعه في المغارة لتنظر ما فعل.

فكان يشِب في اليوم ما يشِب غيره في الشهر وكانت تأتي فتجده حيًا يمص إبهامه، فقد جعل رزق إبراهيم عليه السلام في إبهامه فيما يجيئه من مصه، ولم يمكث إبراهيم عليه السلام في المغارة إلا خمسة عشر شهرًا، ثم ترعرع وكبر واصطفاه الله لحمل رسالته وإبانة الحق ودعاء قومه إلى عبادة الله وحده وإلى العقيدة الصافية من الدنس والشرك، وإلى ترك عبادة الكواكب والأصنام وإلى الدخول في دين الاسلام الذي هو دين جميع الأنبياء.

عدد المرات الذي ذكر فيها إبراهيم عليه السلام في القرءان:

ذكرت قصة إبراهيم في عدة مواضع من القرءان، تارة باختصار وتارة بالتطويل وتارة بذكر شأن من شئونه في سورة أخرى.

وقصة إبراهيم عليه السلام ترتبط بها قصص أخرى كقصة لوط، لأن إبراهيم ولوطاً كانا متعاصرين، ونبي الله لوط هو ابن أخي إبراهيم عليه السلام، وقد ءامن لوط بعمه إبراهيم كما قال تعالى:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي}سورة العنكبوت.

نبوة إبراهيم ورسالته ونشأته على الإيمان وعدم شكه بالله تعالى وبقدرته

اختار الله تبارك وتعالى ابراهيم عليه السلام وجعله نبيًا ورسولًا واصطفاه لهداية قومه، ودعوتهم إلى دين الإسلام، وتوحيد الله وترك عبادة الكواكب والأصنام التي لا تخلق شيئًا ولا تستحق العبادة، لأن الذي يستحق العبادة وحده هو الله تبارك وتعالى خالق كل شيء.

وقد كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام كغيره من الأنبياء منذ صغره ونشأته مسلمًا مؤمنًا عارفًا بربه معتقدًا عقيدة التوحيد منزهًا ربه عن مشابهة المخلوقات، ومدركًا أن هذه الأصنام التي يعبدها قومه لا تغني عنهم من الله شيئًا، وأنها لا تضر ولا تنفع لأن الضار والنافع على الحقيقة هو الله تعالى وحده. يقول الله تبارك وتعالى في حق إبراهيم:{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}سورة ءال عمران، وقال الله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ}سورة الأنبياء.

ولقد كان نبي الله إبراهيم عليه السلام مفعم النفس بالإيمان بربه وعارفًا به، ممتلىء الثقة بقدرة الله وأن الله تعالى قادر على كل شيء لا يعجزه شيء، وكان غير شاك ولا مرتاب بوجود الله سبحانه مؤمنًا بما أوحي إليه من بعث الناس بعد موتهم يوم القيامة، وحسابهم في الحياة الأخرى على أعمالهم وما قدموا في هذه الحياة الدنيا.

فائدة:

قال الله تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}سورة البقرة.

ومعناه أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان مؤمنًا ومصدقًا بقلبه تصديقًا جازمًا لا ريب فيه أن الله تبارك وتعالى قادر على إحياء الموتى، وإعادة الخلق يوم القيامة، ولكنه أراد أن يزداد بصيرةً ويقينًا، فسأل الله تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى بعد موتهم، وقول الله تعالى:{قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}سورة البقرة، أي أنا مؤمن غير شاك ولا مرتاب ولكن تاقت نفسي لأن أرى بعينيَّ ليطمئن قلبي ويزداد يقيني، فمعنى قول ابراهيم" لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي" أي ليطمئن قلبي بإجابة طلبي، لأنه من الجائز أن يعطي الله تعالى بعض الأنبياء جميع ما طلب أو أن يعطيه بعض ما طلب ولا يعطيه بعضًا.

فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو أشرف خلق الله وأكرمهم على الله ما أعطي جميع ما طلب، بل أعطي بعض ما طلب ومنع بعض ما طلب، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام ما كان جازمًا وقاطعًا في نفسه بأنَّ الله يعطيه ما سأل، لكنه كان مؤمنًا بأن الله تبارك وتعالى قادر على ذلك، لكن كان عنده إحتمال أن الله يريه كيف يحيي الموتى وإحتمال أنه لا يريه.

فأجاب الله تبارك وتعالى سؤال إبراهيم عليه السلام، وأمره أن يأخذ أربعة من الطير، ويتعرف على أجزائها، ثم يفرقها أشلاء وأجزاء، ويجعل على كل جبل منهن جزءًا، ثم يدعوهن إليه فيأتينه سعيًا بإذن الله، فلمّا فعل إبراهيم خليل الرحمن ما أمره الله تعالى، صار كل جزء ينضم إلى مثله، وعادت الأشلاء والأجزاء كما كانت وعادت الروح إلى كل طير، ورجعت الطيور الأربعة بقدرة الله ومشيئته إلى إبراهيم عليه السلام، وهو يرى ءايات الله البينات وءاثار قدرته العظيمة التي تدل أنه تعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السموات فتبارك الله أحسن الخالقين أي أحسن المقدرين.

دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام أباه ءازر إلى دين الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة

ذكر أهل التواريخ أن إبراهيم انطلق بزوجته سارة وابن أخيه لوط، فخرج بهم من أرض الكلدانيين الى أرض الكنعانيين، وهي بلاد بيت المقدس، فنزلوا حران وكان أهلها يعبدون الكواكب السبعة، فقام الخليل إبراهيم عليه السلام يدعو قومه إلى دين الله وترك عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، وكان أول دعوته لأبيه ءازر الذي كان مشركًا يصنع الأصنام ويعبدها ويبيعها للناس ليعبدوها، فدعاه إلى عبادة الله وحده وإلى دين الحق الإسلام بألطف عبارة وبأحسن بيان، وبالحكمة والموعظة الحسنة، قال الله تبارك وتعالى في محكم تنزيله:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا {41} إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا {42} يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا{43} يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا {44} يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}سورة مريم، وقال تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}سورة الأنعام.

ذكر الله تبارك وتعالى في هذه الآيات ما كان جرى بين إبراهيم وأبيه من المحاورة والجدال إلى عبادة الله وحده، وكيف دعا أباه إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة، وبيَّن له بطلان ما هو عليه من عبادة الأوثان التي لا تسمع دعاء عابدها ولا تبصر مكانه، فكيف تغني عنه شيئًا أو تفعل به خيرًا من رزق أو نصر فهي لا تضر ولا تنفع، وأعلمه بأن الله قد أعطاه من الهدى والعلم النافع، فدعاه إلى اتباعه وإن كان أصغر سنًا من أبيه لأن اتباعه ودخوله إلى الاسلام وعبادة الله وحده هو الطريق المستقيم السويّ الذي يفضي به إلى الخير في الدنيا والآخرة.

ثم بيَّن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه أنه بعبادته للأصنام يكون منقادًا للشيطان الخبيث الفاجر الذي لا يحب للناس الخير، بل يريد لهم الهلاك والضلال، ولا يستطيع أن يدفع عنه عذاب الله ولا يردّ عنه عقوبته وسخطه يقول الله تعالى:{إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}سورة فاطر.

لم يقبل ءازر نصيحة نبي الله إبراهيم ولم يستجب لدعوته بل استكبر وعاند وتوعد، وهدد ابنه إبراهيم بالشر والرجم والقتل، وقال له ما أخبرنا الله تعالى عنه في القرءان:{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}سورة مريم، فعندها قال له إبراهيم ما حكاه الله عنه:{ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً}سورة مريم، أي سلام عليك لا يصلك مني مكروه ولا ينالك مني أذى، وزاده بأن دعا له بالخير فقال:{سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}سورة مريم.

ومعنى قوله:{سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} أي سأطلب من الله أن يغفر لك كفرك بالدخول في الإسلام، وليس معناه أني أطلب لك باللفظ كما يستغفر المسلم للمسلم بقوله: الله يغفر لك أو استغفر الله لك، ومعنى قوله:{إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} أي لطيفًا يعني في أن هداني لعبادته والإخلاص له، ولهذا قال ما حكاه الله عنه في كتابه العزيز:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا}سورة مريم.

وقد استغفر إبراهيم لأبيه ءازر على المعنى الذي ذكرناه سابقًا كما وعده إبراهيم في أدعيته فلما تبين له أنه عدو الله تبرأ منه كما قال تعالى:{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ }سورة التوبة، أي لما علم أنه لا يسلم بل يموت على الكفر تبرأ منه.

دعوة إبراهيم عليه السلام قومه إلى عبادة الله وحده وإقامة الحجة على قومه في أن الكواكب والأصنام التي يعبدونها لا تصلح للعبادة وبيان أن إبراهيم لم يكن يعبد الكواكب

هذه الغلظة والاستكبار من والد إبراهيم عليه السلام لم تقعده وتمنعه من متابعة دعوته إلى الله سبحانه وتعالى، ولم تُثنه عدم استجابة أبيه لنصحه ودعوته إلى عبادة الله وحده عن متابعة دعوته لقومه إلى هذا الدين الحق وترك عبادة الكواكب والأصنام.

وأراد إبراهيم عليه السلام أن يبين لقومه أنّ عبادة الكواكب باطلة، وأنها لا تصلح للعبادة أبدًا لأنها مخلوقة مسخرة متغيرة تطلع تارة وتغيب تارة أخرى، وأنها تتغير من حال إلى حال، وما كان كذلك لا يكون إلهًا، لأنها بحاجة إلى من يغيرها وهو الله تبارك وتعالى الدائم الباقي الذي لا يتغير ولا يزول ولا يفنى ولا يموت، لا إله إلا هو ولا رب سواه.

فبين إبراهيم لقومه أولًا أن الكوكب لا يصلح للعبادة ثم انتقل إلى القمر الذي هو أقوى ضوءًا منه وأبهى حسنًا، ثم انتقل إلى الشمس التي هي أشد الأجرام المشاهدة ضياء ونورًا، فبين أنها ذات حجم وحدود وأنها متغيرة تشرق وتغرب وإذا كانت متغيرة فلا تصلح للألوهية، لأنها بحاجة إلى من يغيرها ويحفظ عليها وجودها وهو الله تبارك وتعالى خالق كل شيء ومدبر أمر هذا العالم.

قال الله تبارك وتعالى:{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ {75}فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ {76} فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ {77} فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ {78}إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {79}وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ}سورة الأنعام.

وأما معنى قول سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن الكوكب حين رءاه{هذا ربي} فهو على تقدير الاستفهام الانكاري فكأنه قال: أهذا ربي كما تزعمون، لذلك لما غاب قال:{ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} أي لا يصلح أن يكون هذا الكوكب ربًا لأنه يأفل ويتغير، فكيف تعتقدون ذلك، ولما لم يفهموا مقصوده وظلوا على ما كانوا عليه، قال حين رأى القمر مثل ذلك فلمّا لم يجد منهم بغيته، أظهر لهم أنه بريء من عبادته أي من عبادة القمر لأنه لا يصلح للعبادة ولا يصلح للربوبية، ثم لما أشرقت الشمس وظهرت قال لهم مثل ذلك، فلما لم ير منهم بغيته أيضًا، وأنهم أصحاب عقول سقيمة وقلوب مظلمة مستكبرة أيس منهم وأظهر براءته من هذا الإشراك الذي وقعوا به وهو عبادة غير الله تعالى.

وأما إبراهيم عليه السلام فهو رسول الله ونبيه، فقد كان مؤمنًا عارفًا بربه كجميع الأنبياء لا يشك بوجود الله طرفة عين، وكان يعلم أن الربوبية لا تكون إلا لله وأنه لا خالق إلا الله ولا معبود بحق إلا الله.

ولم يكن كما يفتري عليه بعض أهل الجهل والضلال من قولهم إنه مر بفترات وأوقات شك فيها بوجود الله، لأن الأنبياء والرسل جميعهم يستحيل عليهم الكفر والضلال قبل النبوة وبعدها، لأنهم بعثوا هداة مهتدين ليعلموا الناس الخير، وما أمرهم الله بتبليغه، فقد كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام قبل مناظرته لقومه وإقامة الحجة عليهم، وقبل دعوتهم إلى الاسلام والإيمان يعلم علمًا يقينًا لا شك فيه أن له ربًا وهو الله تبارك وتعالى الذي لا يشبه شيئًا وخالق كل شيء، وأن الأولوهية والربوبية لا تكون إلا لله خالق السموات والأرض وما فيهما، وهو مالك كل شيء وقادر على كل شيء وعالم بكل شيء ونافذ المشيئة في كل شيء، والدليل على ذلك من القرءان قوله تعالى:{ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ}سورة الأنبياء، وقوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}سورة الأنعام، وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم بعد أن أقام إبراهيم الحجة على قومه وأفحمهم:{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}سورة الأنعام.

والظاهر أن موعظة إبراهيم هذه في الكواكب لأهل حران فإنهم كانوا يعبدونها، أما أهل بابل فكانوا يعبدون الأصنام، وهم الذين ناظرهم في عبادتها، وكسرها وأهانها وبيّن بطلان عبادتها كما قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ{52} قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ {53}قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ{54} قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ {55}قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ}سورة الأنبياء.

ولقد سأل إبراهيم عليه الصلاة والسلام قومه ليقيم الحجة عليهم أيضًا مستنكرًا إن كانت الأصنام تسمع دعاءهم أو تنفع أو تضر، فقالوا له ما حكاه الله تعالى عنهم:{قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}سورة الشعراء.

فقد سلموا له أن هذه الأصنام التي يعبدونها من دون الله لا تسمع داعيًا، ولا تنفع ولا تضر شيئًا، ثم أخذ يبين لهم بديع صنع الله تعالى، وعظيم قدرته ليلمسوا الفرق الواضح بين عبادة إبراهيم لله الحقة وبين عبادتهم للأصنام الباطلة يقول الله تبارك وتعالى:{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ {69} إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ {70} قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ{71}قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ{72}أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ{73}قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ{74}قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ{75}أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ{76}فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ {77}الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ{78}وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ{79}وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ{80}وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ}سورة الشعراء.

قصة إبراهيم عليه السلام في تكسيره للأصنام التي يعبدها قومه وإظهاره الحجة عليهم

ولما رأى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنهم ما زالوا متعلقين بأوهامهم متمسكين بعبادة أصنامهم عَقَد النية على أن يكيد أصنامهم ويفعل بها أمرًا يقيم الحجة به عليهم لعلهم يفيقون من غفلتهم ويصحون من كبوتهم، وكان من عادة قومه أن يقيموا لهم عيدًا، فلمَّا حلَّ عليهم عيدهم وهموا بالخروج إلى خارج بلدهم دعوه ليخرج معهم فأخبرهم أنه سقيم لأنه أراد التخلف عنهم ليكسر أصنامهم ويقيم الحجة عليهم، قال تعالى:{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ}سورة الصافات90-89-88

فلما مضى قومه ليحتفلوا بعيدهم نادى في ءاخرهم:{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ}سورة الأنبياء57، قيل: سمعه بعضهم وقيل: خفية في نفسه، ثم رجع إبراهيم إلى بيت الأصنام الذي كان فيه قومه يعبدون هذه الأصنام، فإذا هو في بهو عظيم واسع مستقبل باب البهو صنم كبير إلى جانبه أصنام صغيرة بعضها إلى جنب بعض، وإذا هم قد صنعوا لها طعامًا وضعوه أمام هذه الأصنام، فلما نظر إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى ما بين أيدي هذه الأصنام من الطعام الذي وضعه قومه قربانًا لها ورأى سخافة عقولهم، خاطب هذه الأصنام وقال لها على سبيل التهكم والازدراء:{ أَلَا تَأْكُلُونَ} سورة الصافات 91، فلما لم تجبه قال لها أيضًا على سبيل الاحتقار{مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ}سورة الصافات92-93.

أمسك بيده اليمنى فأسًا وأخذ يهوي على الأصنام يكسرها ويحطم حجارتها قال تعالى:{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا}سورة الأنبياء58، وما زال كذلك حتى جعلها كلها حطامًا إلا كبير هذه الأصنام فقد أبقى عليه وعلق الفأس في عنقه ليرجعوا إليه فيظهر لهم أنها لا تنطق ولا تعقل ولا تدفع عن نفسها ضررًا، وبذلك يقيم سيدنا إبراهيم عليه السلام الحجة على قومه الكافرين الذين يعبدونها على غير برهان ولا هدى تقليدًا لآباءهم، قال تعالى:{ إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ}سورة الأنبياء58.

ولما رجع قومه من عيدهم ووجدوا ما حل بأصنامهم بهتوا واندهشوا وراعهم ما رأوا في أصنامهم، قال الله تعالى: {قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ }سورة الأنبياء59-60، يعنون فتى يسبها ويعيبها ويستهزىء بها وهو الذي نظن أنه صنع هذا وكسرها، وبلغ ذلك الخبر الملك نمرود الجبار ملك البلاد وحاكمها وأشراف قومه{قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ}سورة الأنبياء61، وأجمعوا على أن يحضروا إبراهيم ويجمعوا الناس ليشهدوا عليه ويسمعوا كلامه وكان اجتماع الناس في هذا المكان الواحد مقصد إبراهيم عليه الصلاة والسلام ليقيم على قومه الحجة على بطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، وتقاطرت الوفود وتكاثرت جموع الكافرين كلّ يريد الاقتصاص من إبراهيم نبي الله الذي أهان أصنامهم واحتقرها، ثم جاءوا بإبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى هذا الجمع الزاخر من الكافرين أمام ملكهم الجبار نمرود {قَالُوا ءَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ}سورة الأنبياء62، وهنا وجد نبي الله إبراهيم الفرصة سانحة ليقيم الحجة عليهم وليظهر لهم سخف معتقدهم وبطلان دينهم {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ}سورة الأنبياء63، وهذا إلزام للحجة عليهم بأن الأصنام جماد لا تقدر على النطق، وأنَّ هذه الأصنام لا تستحق العبادة فهي لا تضر ولا تنفع، ولا تملك لهم نفعًا ولا ضرًا ولا تغني عنهم شيئًا.

فعادوا إلى أنفسهم فيما بينهم بالملامة لأنهم تركوها من غير حافظ لها ولا حارس عندها، ثم عادوا فقالوا لإبراهيم عليه السلام ما أخبر الله تعالى:{ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ }سورة الأنبياء65، أي لقد علمت يا إبراهيم أن هذه الأصنام التي نعبدها لا تنطق فكيف تطلب منا أن نسألها.

فلما أقروا على أنفسهم بأن أصنامهم التي اتخذوها ءالهة من دون الله عاجزة عن الإصغاء والنطق واعترفوا أنها عاجزة لا تدرك ولا تشعر ولا تقدر ولا حياة لها، عند ذلك أقام إبراهيم عليه السلام الحجة عليهم وأفحمهم قال الله تعالى:{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَايَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}سورة الأنبياء66-67، وقال لهم:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}سورة الصافات96، عند ذلك غلبوا على أمرهم وألزمهم نبي الله إبراهيم الحجة عليهم فلم يجدوا حجة يحتجون عليه، يقول تعالى:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}سورة الأنعام83.

قال تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ {51} إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ {52} قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ {53} قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ {54} قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ {55} قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ {56} وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ {57} فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ {58} قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ {59} قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ {60} قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ {61} قَالُوا ءَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ {62} قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ {63} فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ {64} ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ {65} قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَايَضُرُّكُمْ {66} أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ {67} قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ {68} قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ {69} وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}سورة الأنبياء.

فائدة: ليعلم أن قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} "بل فعله كبيرهم هذا" ليس كذبًا حقيقيًا بل هو صدق من حيث الباطن والحقيقة، لأن كبير الأصنام هو الذي حمله على الفتك بالأصنام الأخرى من شدة اغتياظه من هذا الصنم الكبير لمبالغتهم في تعظيمه بتجميل هيأته وصورته، فحمله ذلك على أن يكسر صغار الأصنام ويهين كبيرها، فيكون إسناد الفعل إلى الكبير إسنادًا مجازيًا فلا كذب في ذلك، لأن الأنبياء يستحيل عليهم الكذب لأن من صفاتهم الواجبة لهم الصدق فهم لا يكذبون.

ولما قال إبراهيم عليه السلام لقومه عندما سألوه:{قَالُوا ءَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ}سورة الأنبياء62-63، أراد بذلك أن يبادروا الى القول بأنها لا تنطق قال تعالى:{فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ}سورة الأنبياء64-65.

ذكر مناظرة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام مع الملك الجبار نمرود الذي ادعى الألوهية

أقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام الحجة على قومه بعد أن حطّم أصنامهم، فاغتاظوا منه وأحضروه أمام ملكهم النمرود وأشراف قومه. فأخذ النمرود ينكر على إبراهيم عليه السلام دعوته إلى دين الإسلام، وأن الله تعالى هو ربُّ العالمين لا ربَّ سواه، وأخذ يدّعي عنادًا وتكبرًا أنه هو الإله وقال لإبراهيم: أخبِرْني الذي تعبده وتدعو إلى عبادته ما هو، فقال له إبراهيم عليه السلام:{رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ}سورة البقرة، وبيَّن له أن الله تعالى هو خالق كل شيء، واستدل على وجود الخالق بحدوث هذه المشاهدات من إحياء الحيوانات وإماتتها، وأنه لا بُدَّ لهذه الكواكب والرياح والسحاب والمطر من خالق مُسَخِّرٍ لها ومُدَبِّر.

فقال النمرود الجبار المستكبر: أنا أحيي وأميت أي أنا أحيي من أشاء بالعفو عنه بعد أن يكون صدر الحكم عليه بالقتل فينعم بالحياة، وأنا أميت من أشاء بأمري وأقضي عليه بحكمي، وقال: ءاخذ رجلين قد استوجبا القتل فأقتل أحدهما فأكون قد أمته وأعفو عن الآخر فأكون قد أحييته.

ظن نمرود بمقالته هذه البعيدة عن الحقيقة أنه على صواب وأراد المراوغة والاستكبار والعناد، فأراد إبراهيم عليه السلام أن يفحمه بالحجة القوية ويضيق عليه الخناق ويظهر له جهله وسخف عقله أمام قومه، فأعطاه دليلًا قويًا على أن الله تعالى هو الخالق المدبر لهذا العالم، وأن ما ادعاه عنادًا واستكبارًا باطل فقال له:{قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} أي أن هذه الشمس مسخرة كل يوم تطلع من المشرق كما سخرها الله الذي هو خالقها وخالق كل شيء، فان كنت كما زعمت باطلًا أنك تحيي وتميت فأت بهذه الشمس من المغرب، فإن الذي يحيي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء ولا يُمانَع ولا يُغالَب.

وأمام هذه الحجة الساطعة وقف النمرود مبهوتًا مبغوتًا أمام قومه، قال تعالى:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}سورة البقرة.

وأمام عناد واستكبار هذا الملك الطاغية واستمراره على غيّه وضلاله، يقال: إن الله بعث إلى ذلك الملك الجبار العنيد ملَكًا يأمره بالإيمان بالله والدخول في دين الإسلام، فأبى عليه ثم دعاه ثانية فأبى عليه ثم دعاه الثالثة فأبى عليه وقال له: اجمعْ جموعَك وأجمع جمُوعي، فجمع النمرودُ جيشَه وجنودَه وقت طلوع الشمس وأرسل اللهُ عليه ذبابًا من البعوض بحيث لم يرَوْا عين الشمس وسلط الله هذه الحشرات عليهم فأكلت لحومَهُم ودماءَهُم وتركتهم عِظامًا، ودخلت ذبابةٌ في منخرِ النمرود فمكثت فيه أربعمائة سنة عَذّبه اللهُ بها، فكان يضرب رأسه بالمرازب في هذه المدة كلِّها حتى أهلكه الله عز وجل بها.

مُعجزةُ إبراهيم عليه الصلاة والسلام في عدم احتراقه بالنار

أراد قومُ إبراهيم عليه السلام أن ينتقموا من إبراهيم عليه السلام لما كسّر أصنامهم وحطمها وأهانها، فلمَّا غلبهم بحجتِه القوية الساطعة أرادوا مع مَلِكهم هذا أن ينتقموا منه فيحرقوه في نار عظيمة فيتخلصوا منه، قال تعالى مخبرًا عن قولهم:{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ}سورة الصافات، وقال:{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}سورة الأنبياء. فشرعوا يجمعون الحطب من جميع ما يمكنهم من الأماكن ليلقوه بها وجعلوا ذلك قربانًا لآلهتهم - على زعمهم- حتى قيل إنَّ المرأةَ منهم كانت إذا مَرضتْ تنذر لئن عوفيت لَتحملنَّ حطبًا لحريق إبراهيم، وهذا يدل على عُظْمِ الحقدِ المتأجج في صدورهم ضد إبراهيم عليه السلام.

ثم عمدوا إلى حفرة عظيمة فوضعوا فيها ذلك الحطب وأضرموا النار فيها فتأججت والتهبت، وعلا لها شرر عظيم لم يُر مثله، وكانوا لا يستطيعون لقوة لهبها أن يتقدموا منها، ثم لما كانوا لا يستطيعون أن يمسكوا إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام بأيديهم ويرموه في هذه النار العظيمة لشدة وهجها، صَنعوا المنْجنيق ليرموه من مكان بعيد، فأخذوا يُقيدون إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو عليه الصلاة والسلام متوكل على الله حق توكله، فلما وضعوه عليه السلام في كفة هذا المنجنيق مقيدًا مكتوفًا وألقوه منه إلى وسط النار قال: "حَسْبُنا الله ونعم الوكيل" كما روى ذلك البخاري عن ابن عباس.

فلما ألقي إبراهيم لم تحرقه النار ولم تصبه بإذى ولا ثيابه، لأن النار لا تُحرِقُ بذاتها وطبعها وإنما اللهُ يَخلُقُ الإحراق فيها، قال الله:{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}سورة الأنبياء.

فكانت هذه النار الهائلة العظيمة بَردًا وسلامًا على إبراهيم فلم تحرقه ولم تحرق ثيابه، وقيل: لم تحرق سوى وثاقَه الذي وثقوا وربطوا به إبراهيم عليه السلام. ويروى عن بعض السلف أن جبريل عليه السلام عَرَض له في الهواء فقال: يا إبراهيمُ ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا.

ولما خبا سَعِير هذه النار العظيمة وانقشع دخانها وجدوا إبراهيم سليمًا معافى لم يصبه أيُّ أذى فتعجبوا لأمره ونجاته، ومع أنهم رأوا هذه المعجزة الباهرة ظلوا على كُفرهم وعنادهم ولم يُؤمنوا بنبيّ الله إبراهيم عليه السلام، لقد أرادوا أن ينتصروا لكفرهم فخُذِلوا، يقولُ الله تبارك وتعالى:{وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}سورة الانبياء، وقال:{ قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ}سورة الصافات.

همسات ايمانية
2015-08-02, 11:59
قصة سيدنا ابراهيم وزوجته سارة والجبار

هذه القصة رواها البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات: ثنتين منها في ذات الله، قوله: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89]، وقوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:63]، وواحدةً في شأن سارة، فإنه قد قَدِم أرض جبارٍ ومعه سارة ، وكانت أحسن النساء، فقال لها -إبراهيم يقول لزوجته سارة -: إن هذا الجبار -هذا الملك الكافر الطاغية في هذا البلد- إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي، فإنك أختي في الإسلام، فإني لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيرك، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار، أتاه -هذا القريب للجبار أتى الجبار- فقال له: لقد قدم أرضَك امرأةٌ لا ينبغي لها أن تكون إلا لك، فأرسل إليها، فأُتي بها، فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة، فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها، فقبِضت يده قبضةً شديدة، فقال: ادْعِي الله أن يُطْلِق يدي ولا أضرك، ففعلت، فعاد، فقبِضت أشد من القبضة الأولى، فقال لها مثل ذلك، ففعلت، فعاد، فقُبِضت أشد من القبضتين الأولَيَين، فقال: ادعِي الله أن يطلق يدي، فلكِ الله ألا أضرك، ففعلت وأُطْلِقت يده، ودعا الذي جاء بها، فقال له: إنك إنما أتيتني بشيطان، ولم تأتني بإنسان، فأخْرِجْها من أرضي وأعطها هاجر ، قال: فأقبلت تمشي، فلما رآها إبراهيم عليه السلام انصرف، فقال: مَهْيَمْ؟ قالت: خيراً، كف الله يد الفاجر، وأخدم خادماً قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء).

يقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (لم يكذب إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا ثلاث كذبات ...).

قال في الحديث عن الكذبة الأولى حين دُعِي إلى آلهتهم: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89] وذلك أنه لم تكن به علة ولا مرض؛ ولكنه كان سقيم النفس، كاسف البال، حزيناً على شرك قومه؛ لأنهم لم يلبوا نداءه، ولم يطيعوه في دعوته.

فإذاً عندما قال: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89] لم يكن في الحقيقة كذاباً، وإنما استخدم التورية، ويقصد بالمرض (المرض النفسي) أنه مريض النفس، اعتلت نفسه من إصرارهم على الشرك والكفر، قال: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89] لما دعوه للخروج معهم إلى عيدهم، وكانوا يخرجون إلى عيد خارج البلد، قال لهم: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89]، وقبل أن يقول لهم: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89] نظر نظرة في النجوم فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89] وكان هؤلاء القوم كفاراً عبادَ الكواكب والنجوم، ويعتقدون أن النجوم لها تأثير في الحوادث الأرضية، وفي مرض الناس، والإنجاب، والرزق.. ونحو ذلك، فأراد إبراهيم الخليل أن يقيم عليهم الحجة، فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:88-89] عاملهم من حيث كانوا؛ لئلا يُنْكِروا عليه فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ [الصافات:90] تركوه وذهبوا إلى عيدهم خارج البلد.

لما خلت البلد وصار معبد الأصنام فارغاً دخل إبراهيم على الأصنام، فكسَّرها، ثم وضع القدوم (الفأس) في يد كبيرهم لعلهم يعتقدون أنه هو الذي غار غِيْرةً لنفسه، وأنف أن تُعبد معه الأصنام الصغار، فقام عليها وكسرها.

فلما رجعوا من عيدهم وجدوا أصنامهم مكسَّرة، قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:62] لأنه لم يتخلف عن حضور العيد غيره، قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:63] وأشار بإصبعه قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:63] أي: غضب من أن يعبد معه الصغار وهو أكبر منها فكسرها.

ماذا أراد إبراهيم من هذا الكلام؟

أن يقيم عليهم الحجة، ولذلك قـال لهم: فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ [الأنبياء:63] حتى يخبروا من فعل ذلك بهم، اسألوا الأصنام المكسرة، حتى يخبروكم من كسرها، إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ [الأنبياء:63] .

فلما قال لهم ذلك رجعوا إلى أنفسهم، وعرفوا أنها لا تنطق، نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ [الأنبياء:65] رُدُّوا إلى الكفر بعد أن أقروا على أنفسهم بالظلم.

لما قال لهم: فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ [الأنبياء:63] رجعوا إلى أنفسهم، قالوا: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ [الأنبياء:64] كيف تعبدون أشياء لا تسمع ولا تبصر.

لكن لما كان القوم على فسادٍ في الطريقة أجيالاً استمرءوا الكفر، وأصروا على الباطل، وعاندوا وتعصبوا لمبدئهم، ورفضوا الحق ورجعوا مرة أخرى، ثُمَّ نُكِسُوا [الأنبياء:65] هذا معنى: ثُمَّ نُكِسُوا [الأنبياء:65] رجعوا إلى الكفر مرةً أخرى بعد أن لاح لهم الحق، وأقنعهم إبراهيم، وتبينت لهم القضية بالحجة؛ لكنهم رجعوا، نكسوا على أنفسهم، مثل المريض إذا صارت له صحوة ثم انتكس مرة أخرى ورجع إلى المرض، لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ [الأنبياء:65] كيف نسألهم وهم لا ينطقون؟

فانتهز إبراهيم الخليل الفرصة، وقال لهم: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ [الأنبياء:66-67] تباً لكم وهلاكاً لكم، وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:67] .

قصة حرق إبراهيم
فلما غلبوا على أمرهم وخافوا الفضيحة ولم تبق لهم حجة اجتمعوا هم وملكهم النمرود على إحراق إبراهيم الخليل عليه السلام، وجعلوا له بنياناً قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الصافات:97] بنوا له بنياناً كالحظيرة، وجعلوه في هذا البنيان، وجمعوا له صلاب الحطب من أصناف الخشب، حتى قيل: إن الرجل منهم كان إذا مرض يقول: لئن عوفيت لأجمعن حطباً لإبراهيم، وكانت المرأة تنذر إن أصابت ما تريد وحصل لها ما تبتغي لتحتطبن في نار إبراهيم، وقيل: إن المرأة منهم كانت تغزل وتشتري الحطب بغزلها، فتلقيه في البنيان إعداداً لحرق إبراهيم، تحتسب الدفاع عن الأصنام والانتصار لها.

وجمعوا الحطب -فيما قيل- شهراً، ولما جمعوا ما أرادوا أشعلوا في كل ناحية من الحطب النار، واشتدت النار، وعلت في السماء حتى أن الطير ليمر بها فيحترق من شدة وهجها، فأوقدوا عليها سبعة أيام، حتى إذا اشتدت لم يعلموا كيف يلقوا إبراهيم فيها، فأتاهم إبليس بفكرة المنجنيق على ما ذكر بعض أهل التفسير، فوضعوه مقيداً مغلولاً، وأطلقوه بالمنجنيق مِن بُعد على هذه النار؛ لأنهم لا يستطيعون الاقتراب منها من شدتها، قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69] والله تعالى له الأمر من قبل ومن بعد، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] وهو الذي خلق النار فسلب منها خاصية الإحراق، قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً [الأنبياء:69] لو لم يقل: سَلاماً [الأنبياء:69] لربما مات إبراهيم من شدة البرد وتجمد، كُونِي بَرْداً وَسَلاماً [الأنبياء:69] حتى لا تؤذيه بالبرد.

وقال إبراهيم كلمة واحدة فقط وهو في الهواء، يلقى بالمنجنيق إلى النار، في اتجاه النار، ذاهبٌ في الهواء، قال: حسبي الله ونعم الوكيل؟

قال ابن عباس كما في صحيح البخاري : [حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم حين ألقي في النار] .

وقال محمدٌ صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما قيل لهم: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173] بعد غزوة أحد، قيل لهم: لقد عاد المشركون مرةً أخرى لاستئصالكم، إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173] .

كل الدواب كانت تنفخ -بأمر الله- النار عن إبراهيم إلا الوزغ فإنه كان ينفخ النار على إبراهيم، ولذلك أمرنا بقتل الأوزاغ إحياءً لذكرى أبينا إبراهيم، وإظهاراً للكراهية لهذا الحيوان الدابة الذي كان تنفخ النار على إبراهيم، كما جاء في الحديث الصحيح: (وقالت سائبة مولاة الفاكه بن المغيرة : دخلتُ على عائشة، فرأيتُ في بيتها رمحاً موضوعاً، قلت: يا أم المؤمنين! ماذا تصنعون بهذا الرمح؟ قالت: هذا لهذه الأوزاغ نقتلهن بالرمح، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم: حدثنا أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ألقي في النار لم تكن في الأرض دابةٌ إلا تطفئ النار عنه غير الوزغ، كان ينفخ عليه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله) .

وأخبرنا في الحديث الصحيح: (أن من قتل وزغاً من أول ضربة فله مائة حسنة، ومن قتلها من الضربة الثانية فله خمسون حسنة نصفها) .

وورد في بعض الآثار: [أنه لم يبق يومئذٍ نار في الأرض إلا طفئت، فلم ينتفع في ذلك اليوم بنارٍ في العالَم].

كذب إبراهيم في ذات الله
وهذه قصة الكذبتين الأوليتين: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89]، و بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:63] .

وقيل: إنه استخدم التورية أيضاً، قال: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ [الأنبياء:63] وأشار إلى إصبعه.

وعلى أية حالٍ كانت من إبراهيم الخليل عليه السلام طريقة لإقناع قومه ومحاجتهم.

نعود إلى قصتنا:

- بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:63] .

- إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89] .

- وكذلك عندما قال عن زوجته: إنها أخته.

قال النبي عليه الصلاة والسلام عن هذه الثلاث الكذبات: (ثنتين منهن في ذات الله) ما معنى في ذات الله؟ مع أن قول إبراهيم عن زوجته: هذه أختي، أيضاً فيها معنى من جهة الدفاع عن عرض زوجته وتخليص زوجته في سبيل الله أيضاً؛ لكن خص هاتين بقوله: ( في ذات الله ) مع أن الثالثة في ذات الله أيضاً؛ لكن الثنتين الأوليتين ما تضمنتا حظاً لنفسه، بخلاف الثالثة، فإن فيها حظاً له وهي: نجاته ونجاة زوجته.

الثالثة التي هي في ذات الله؛ لكن فيها فائدة له أو حظاً له، وسعيه لتخليص زوجته، وهو مقصد شرعي مباح لا غبار عليه على الإطلاق؛ لكن امتدح الثنتين الأوليتين؛ لأنها لله محضة ما فيها حظ لنفس إبراهيم وشخصه أبداً.

دخول أرض الجبار .. وطمع الجبار بزوجة إبراهيم
قال: (بينما هو ذات يومٍ وسارة قدم أرض جبارٍ ومعه سارة) قيل: إنه ملك مصر في ذلك الوقت هذا الجبار الكافر الطاغية، وأن إبراهيم لما خرج من أرض العراق بعدما أحرق الله النمرود وقومه اتجه إلى بلاد الشام وبلاد مصر ، فلما دخل بلاد مصر وكان عليها هذا الرجل الجبار قيل له: إن هنا رجلٌ -لما دخل أرض مصر وكان فيها هذا الجبار- قيل للجبار: إن هنا رجل -وهو إبراهيم- ومعه امرأة، هناك رجل معه امرأة دخلوا مملكتك، المرأة جميلة جداً في غاية الجمال، لا تصلح إلا لك.

وإبراهيم تزوجها لَمَّا هاجر من بلاد قومه إلى حران، قيل: إنه تزوجها في ذلك الوقت، ولما دخل بها مصر وكان على مصر ذلك الملك الطاغية بعض أقرباء الملك، كما ورد في الحديث رأى إبراهيم ورأى معه سارة ، وكانت قد أوتيت من الحسن شيئاً عظيماً، وقال له: إني رأيتها تطحن، وإنها في غاية الجمال، فالملك كان لا يدع شيئاً مثل هذا يفوته من ظلمه وعسفه وبغيه، فأرسل إلى إبراهيم وإلى سارة وجيء بها، وجيء معه، فسأله عنها، فقال: من هذه المرأة التي معك؟ قال: أختي، ظاهر الحديث أنه أتي بإبراهيم أولاً وسأله من هذه؟ قال: هذه أختي، رجع إبراهيم إلى زوجته، قال: يا سارة ! ليس على وجه الأرض مسلم غيري وغيركِ، ثم طلب منها، إذا سألها الملك عن قرابتها منه مَن تكون بالنسبة له أن تقول له: إنها أخته؛ حتى لا يتناقض كلامه مع كلامها؛ ولئلا يظهر بمظهر الكاذب، فقال: فصدقيه إذا سألك عني، فقولي: هذا أخي؛ لأنني قلت له: إنك أختي، يقصد إبراهيم أختي في الإسلام.

فلعل إبراهيم أحس مسبقاً أن الملك سيطلبها، فأوصاها بما أوصاها به، ولما وقع ما كان يظنه أعاد عليها الوصية لما استدعاه الملك، وقال: من هذه المرأة التي معك؟ قال: أختي، رجع إليها، وقال: إذا سألك فاصدقيني إذا سألك فقولي له: أنك أختي، ولا تكذبيني.

ما هو السبب؟ لماذا لم يقل: إنها زوجتي؟ ولماذا لم يخبر بالحقيقة؟

قيل: إن الملك إذا عرف أنها زوجته لا يمكن أن يصل إليها إلا بالتخلص من زوجها، فيَقْتُل إبراهيم للوصول إلى المرأة؛ لكن لو عرف أنها أخته ربما وصل إليها بطريقة أخرى كالزواج أو غيره، وإن كان رجلاً رَكَّاباً للحرام، كما يتبين من القصة؛ لكنه كان ظالماً يريد اغتصابها، فلعله كان إذا عرف أن المرأة متزوجة قتل الزوج أولاً، فأراد إبراهيم أن يدفع أعظم الضررين بارتكاب أخفهما، بين أن يكذب أو يخبر بالحقيقة، ويُقْتل، فارتكب أدنى المفسدتين، وأخبر بتلك الكلمة، وقال لها: (ليس على وجه الأرض مؤمنٌ غيري وغيرك).

لو قال قائل: ولوط عليه السلام؟!

فيمكن أن يقال: إن إبراهيم يقصد الأرض التي هو فيها الآن، دخلنا بلد مصر، لا يوجد مؤمن غيري وغيرك، أما الأرض الأخرى ففيها لوط، فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت:26] وقال إبراهيم: إِنِّي مُهَاجِرٌ [العنكبوت:26] وهاجر إبراهيم، إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي [العنكبوت:26].

لما أُخِذَت سارة من إبراهيم قام إبراهيم يصلي، ولما أدخلت سارة على الملك لم يتمالك أن بسط يده إليها من شدة جمالها، لأنه لم يستطع أن يقاوم نفسه فقبِضَت يده قبضة شديدة، وفي رواية: (فقام إليها فقامت تتوضأ وتصلي -أي: تدعو- فغُـطَّ) وفي روايـة: (رُكِض برجله) يعني: اختنق، كأنه مصروع، والغط: صوت النائم، من شدة النفخ، غطيط.

فمجموع الروايات يؤخذ منها:

أنه عوقب أولاً بقبض يده؛ أي: شُلَّت يده ولم يستطيع أن يحركها، وثانياً: أنه صُرِع.

جاء في رواية الأعرج : أن سارة توضأت ودعت الله عز وجل قائلةً: (اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي، فلا تسلط علي الكافر) هي تعلم أنها آمنت به لكن تواضعاً قالت هذا الدعاء.

ولما شلت يد هذا الملك وصرع قال: (ادعي الله لي ولا أضرك) وفي رواية مسلم : (ادعي الله أن يطلق ففعلتْ) قال أبو سلمة : قال أبو هريرة : قالت: (اللهم إن يمت يقال: هي التي قتلته) إن يمت الآن من هذه الصرعة يقول قومه: هي التي قتلته، فربما قتلوها، فدعت الله له فأرسلها، لما تحرر الرجل ورجع إلى حاله الأولى هل توقف؟ أبداً.

تناولها الثانية، ثم قام إليها فقامت تتوضأ وتصلي ودعت الله عز وجل فأخذ مثلها أو أشد، أشد من القبضة الأولى.

وفي المرة الثالثة دعا الرجل الذي جاء له بـسارة وقال له: إنك لم تأتني بإنسان، إنما أتيتني بشيطان، ما أرسلتم إلي إلا شيطانة أرجعوها، ولعله لما صُرع ظن أن الشيطان هو الذي تدخل، وكانوا قبل الإسلام في الجاهلية يعظمون أمر الجن جداً، ويرون كل ما وقع من الخوارق من فعل الجن؛ لما رأى الملك نفسه مصروعاً مشلولاً قال: هذا من فعل الجن، هذا شيطان، هذا ليس بإنسان.

أطلق سراح سارة وقال: أعيدوها إلى إبراهيم، وزيادة على ذلك: أعطاها خادمة وهي هاجر وهبها لها لتخدمها، لأنه سمع أنها كانت تعجن العجين أو تخدم نفسها، قال: هذه لا يليق أن تخدم نفسها، فأعطاها خادمة وهي: هاجر .

فلما أطلق سراحها ومعها هاجر أتت سارة إلى إبراهيم وكان يصلي، فقال إبراهيم بعدما انصرف من صلاته: (مَهْيَمْ-أي: ما الخبر؟- فقالت سارة ملخصةً ما حصل: رد الله كيد الكافر وأخدم هاجر) رد الله كيد الكافر في نحره، أَشَعَرْتَ أن الله كبت الكافر وأخدم وليدةً؟ وهي الجارية.

أبو هريرة ماذا قال عن هاجر في آخر القصة؟

قال: [ تلك أمكم يا بني ماء السماء ] يخاطب أبو هريرة العرب يقول لهم: [تلك أمكم ...] هذه هاجر الـتي كانت خادمة وأُعْطِيَت خادمةًَ وجاريةً لـسارة ، ثم وهبتها لزوجها إبراهيم، قال: [فتلك أمكم يا بني ماء السماء] لماذا يطلق على العرب (بني ماء السماء)؟

لكثرة ملازمتهم للفلوات والصحاري؛ لأن فيها مواقع القطر وهو الماء النازل من السماء، يغشون البراري لأجل رعي أغنامهم، ولذلك سُمُّوا ببني ماء السماء؛ لأن عيشهم على ماء السماء.

وقوله: [تلك أمكم يا بني ماء السماء] قيل: إن العرب كانوا من ولد إسماعيل، وهناك عرب قبلهم؛ لكن هؤلاء العرب المتأخرون كانوا من ولد إسماعيل.

فوائد من قصة إبراهيم وسارة والجبار
هذا الحديث فيه فوائد كثيرة ومتعددة :-

فمن الفوائد:

مشروعية أخوة الإسلام
أولاً: مشروعية أخوة الإسلام، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [حجرات:10] وأن رابطة الدين رابطة عظيمة، وأن أخوة الإسلام أقوى من أخوة النسب، والدليل على ذلك: أن الأخوين إذا كان أحدهما مسلماً والآخر كافراً جاز للمسلم أن يقتل أخاه في سبيل الله، إذا التقيا في صفين يمكن أن يعمد إليه فيقتله، فهذا دليل على أن أخوة الدين أقوى من أخوة النسب.

الرخصة في الانقياد للظالم وقبول هديته
ثانياً: الرخصة في الانقياد للظالم والغاصب، فيمكن أن يقال: لماذا لم تقاوم؟

قد تقاوم وتقتل وتذل وتهان، وهنا رخصة في أن المرأة إذا أجبرت بالقوة على الانقياد إلى ظالم، فإنها إذا لم تجد طريقة للهرب ولا للتخلص، وقِيْدت بالقوة، فإنها تكون معذورة بهذا.

ثالثاً: يؤخذ من الحديث: قبول هدية المشرك؛ فإنه لما أعطاها هاجر قَبِلَت الهدية وأقرها إبراهيم، وهو نبي يأتيه الوحي، فأُخِذَت هدية المشرك.

إجابة دعاء المخلص
ومن أعظم الفوائد: إجابة الدعاء بإخلاص النية؛ فإنها دعت الله تعالى، ففرج الله عنها، والله تعالى مع المكروب، ومع الملهوف، ومع المظلوم، يجيب دعوة المظلوم، والمضطر، ولا شك أن سارة في ذلك الموقف كانت في اضطرار عظيم، فلما دعت الله وقالت: ( اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك ) فكانت صادقة مؤمنة فاستجاب الله دعاءها.

وهكذا المرأة المسلمة والرجل المسلم إذا وقع في ضرورة.. في ورطة.. في أزمة فتوجه إلى الله بالدعاء فإن الله سبحانه وتعالى يخلصه إذا كانت نيته حسنة.

مشروعية التوسل بالأعمال الصالحة
خامساً: مشروعية التوسل بالأعمال الصالحة، وهذا سبق لنا في قصة أصحاب الغار الثلاثة.

وهذا دليل آخر، فإنها قالت: (اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر) فتوسلت إلى الله تعالى بالإيمان وبالعفة، (وأحصنت فرجي إلا على زوجي) وهذه من الأعمال الصالحة، امرأة عفيفة تقول: ما مسني أحد من الأجانب أبداً ( أحصنت فرجي إلا على زوجي ) التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة، وأن الله سبحانه وتعالى يقبل الدعاء بالأعمال الصالحة، وأنه عز وجل يستجيب.

الحكمة من ابتلاء الصالحين
سادساً: يؤخذ من هذه القصة أيضاً: ابتلاء الصالحين لرفع درجاتهم؛ فإن الله ابتلى إبراهيم بأخذ زوجته منه.. ابتلى إبراهيم بهذا الملك الظالم.. ابتلاه باستدعائه له.. ابتلاه بالموقف الصعب الذي مر به.. ابتلاه بالشدة، وهذا ليرفع درجته ويزيد أجره وحسناته.

أهمية الفزع إلى الصلاة ومشروعية الوضوء لمن قبلنا
سابعاً: أن الإنسان إذا نابه كرب أو وقع في شدة فإن عليه أن يفزع إلى الصلاة؛ فإن إبراهيم الخليل لما أُخِذت منه زوجته ماذا فعل؟ اشتكى إلى مَن؟ إلى ملك الملوك.

ويلجأ إلى من؟

الذي خصمه الآن أكبر سلطان في البلد وهو الملك، أخذ زوجته، يشتكيه إلى مَن؟

لا يوجد حل إلا من الله سبحانه وتعالى، فتوجه إلى الله تعالى وقام يصلي.

وهكذا كـان النـبي عليه الصـلاة والسـلام إذا فزعـه أمر صلى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:153] .

ولما أخبر ابن عباس أن أخاه قد توفي وهو في طريق السفر، نزل عن دابته إلى جانب الطريق فصلى ركعتين وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:153] .

فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أو كربه أمر صلى، وهكذا إبراهيم الخليل لما حصل له ما حصل فزع إلى الصلاة، قام إبراهيم يصلي، طيلة فترة غياب الزوجة عنه وهو في صلاته، هذه من أسوأ الفترات التي يمكن أن تمر بالإنسان، الزوج إذا أُخِذَت زوجته إلى مكان مجهول، ولا يدري ماذا يُفعل بها، وليس عنده قوةً ليس عنده جيشٌ يحارب به، ولا قوة يستطيع أن يقتحم قصر الظالم ويستخرج زوجته، أو أنه يهرب بها، لا يستطيع، دخل في سلطان هذا الفاجر.

فإذاً كان يأوي إلى ركنٍ شديد وهو الله عز وجل.

ثامناً: من فوائد هذه القصة أيضاً: أن الوضوء كان مشروعاً للأمم من قبلنا، وليس خاصاً بهذه الأمة ولا بالأنبياء؛ لأن ذلك ثبت عن سارة أنها قامت تتوضأ، وجمهور العلماء على أن سارة ليست بنبية وإنما هي من أولياء الله.

إثبات كرامات الأولياء
تاسعاً: من فوائد القصة: إثبات كرامات أولياء الله تعالى؛ لأن سارة أكرمها الله بأن فكها من يد الظالم وكرامة لها، ثم إن هذا الظالم لما شلت يده وصرع قال: ادعي الله لي ولا أضرك، دعت الله وفُك ورجع إلى ما كان عليه، فمن كرامات أولياء الله أن يستجيب الله دعاءهم، والاعتقاد بكرامات أولياء الله من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله قد يخرق العادة لبعض أوليائه.

وقد اختلف في هذا الشيء أصناف من الناس:

- فذهب الأشاعرة إلى أن كلما كان معجزةً لنبي جاز أن يكون كرامةً لولي، فسوَّوا بين الكرامة والمعجزة.

- وذهبت المعتزلة إلى النقيض من ذلك، فأنكروا كرامات الأولياء، وقالوا: ليست هناك كرامات، لأنهم عقلانيون، فالقضايا الغيبية لا يؤمنون بها.

- وتوسط أهل السنة والجماعة فقالوا بإثبات كرامات الأولياء؛ ولكن كرامة الولي لا يمكن أن ترقى إلى درجة معجزة النبي، فمعجزة النبي أعظم لا شك في ذلك؛ لأنه مؤيد من الله بمعجزات لبيان صدقه وإقامة الحجة على قومه، أما الولي فقد تقع له الكرامة وهو في الصحراء فمفرده، فيعطش مثلاً وليس عنده زاد، فالله سبحانه وتعالى ينزل عليه شيئاً أو طعاماً أو شراباً، أما معجزة النبي فيراها الناس؛ لأنه مؤيد من الله والمعجزة تكون لأجل أن يؤمن الناس ليقيم الله الحجة عليهم.

فإذاً عقيدة أهل السنة والجماعة إثبات كرامات الأولياء إذا ثبتت، وإلا فإن الصوفية وغيرهم ادَّعوا كرامات كثيرة، وكذب كثيرٌ من الناس في الكرامات، كل أحد يدعي كرامة من جهة، لكن إذا ثبتت الكرامة فإن عقيدة أهل السنة والجماعة إثبات كرامات الأولياء، ولكنها مقام دون مقام معجزات الأنبياء ولا شك.

فـأهل السنة والجماعة وسطٌ بين الأشاعرة والمعتزلة في هذا المقام.

تاسعاً: من الفوائد: أن الكذب في ذات الله تعالى لإعلاء شأن الدين جائزٌ ولا حرج فيه.

عاشراً: أن على الإنسان أن يكون حكيماً يحسب للأمر حسابه، فهذا إبراهيم عليه السلام يقول لزوجته: (إذا سألك فأخبريه أنك أختي) حتى لا أكون كذاباً عنده، ولا تتناقض الأقوال.

تحذير النساء من الفجرة
حادي عشر: أن بعض الفجرة لا يتورعون عند رؤية المرأة أن يمدوا أيديهم إليها مباشرةً؛ ولذلك فإن على المرأة المسلمة أن تحتشم ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59] .

فالمرأة إذا تبرجت صارت نهباً وعُرضة لكل فاسق وفاجر؛ لأنها تصبح مجالاً للإغراء والفتنة، ويطمع فيها الطامعون، وأما إذا احتشمت وتحجبت ولم يظهر منها شيء فلا يطمع فيها أحد؛ لأنها ليست مغرية -عند الحجاب ليست مغرية- لكن المتبرجة تغري بنفسها، هذه المتبرجة سفيهة؛ لأنه لسان حالها يقول للناس في الشوارع: تعالوا ورائي، الذي يريد أن يلمسني، يلمسني؛ والذي يريد أن يعطيني رقماً، يعطيني؛ والذي يريد أن يجيء ورائي، يجيء، هذه الفاجرة، المرأة التي تتبرج ما معناها الآن؟

إذا تبرجت امرأة في الشارع؛ مكياج، وزينة، وحسرت عن وجهها وشعرها، وخرجت تمشي في السوق بين الرجال الأجانب، ما معناها؟

معناها دعوة للفحشاء، تلم الناس تقول: تعالوا ورائي، الذي يريد أن يجيء، هذا معناه أن تلفت إليها الأنظار، فهي المجرمة الأولى، والفاجر الذي وراءها المجرم الثاني.

ولذلك النساء اللاتي يتبرجن في الأسواق لا يعلم الإثم الذي عليهن إلا الله عز وجل، لأنها لا تفتن واحداً ولا اثنين ولا عشرة، طيلة مشيها في الشارع تفتن الناس، والناس أكثرهم فيهم ظلمٌ وفجور، ينظرون ولا يتورعون، يطلقون البصر ويلحقونها؛ ولذلك تجد أحياناً امرأة في الشارع يسير وراءها ثلة من الفجرة؛ لأنها كلما تبرجت تبرجاً ملفتاً للنظر مثيراً، كلما زاد عدد الأتباع الذين يتبعونها، وبعض النساء تريد هذا أن يتبعها أكبر عدد من الشباب.

ولذلك يا إخوان، الله سبحانه وتعالى حكيم عندما قال: يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30] ، ويَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ [النور:31] .

ولما قال: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور:31] .

ولما قال: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59] .

ولما قال: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33] .

ولما قال: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32] .

ولما قال: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النور:31] .

كل هذه إجراءات للعفاف وتطهير المجتمع المسلم، ولما خالفت النساء هذا، انتشرت الفاحشة في المجتمع، ورأيتَ الآن رمي الأرقام وهذا شيء مشاهَد، لا يحتاج إلى زيادة تدقيق وأصبح شيئاً عادياً، وتجد المسألة عادية، والعياذ بالله، وهذا يعني أن الله سبحانه وتعالى لا يسامح فيه، الله يغضب لحرماته، وإذا أصبح المجتمع فاجراً فإن الله عز وجل ينزل بأسه وسطوته وعذابه انتقاماً من هذا المجتمع.

ولذلك لا بد من الحذر الشديد في هذه القضية، وأن يقوم كل إنسان على زوجته، وبنته، وأمه، وأخته، بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجار ينصح جاره في زوجته، والقريب ينصح أقرباءه في زوجاتهم وبناتهم وأخواتهم، لا نترك أحداً؛ لأن المسألة عامة، والعذاب عام؛ إذا نزل عمَّ الجميع، ثم يبعثون على نياتهم، لا ينجو من العذاب إلا الذي كان ينهى عن السوء أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ [الأعراف:165] .

ثاني عشر: من فوائـد هذه القـصة: تواضع سارة لما قالت: (كف الله يد الفاجر) ما قالت: بصلاحي.. بدعائي! لا، قالت: (كف الله يد الفاجر) الفرج من عند الله (وأخدم خادماً) .

مشروعية المعاريض والتورية
ثالث عشر: قضية مشروعية المعاريض، استخدام التورية:-

وعند هذا سنقف وقفةً أخيرة في هذه القصة بين الكذب والتورية.

عقوبة الكذاب ومراتب الكذب
أما الكذب: فإنه من الكبائر، قال الله تعالى: فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61]، وقال سبحانه: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر:60] .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والكذب، فإن الكذاب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار -فالكذب طريق مباشر إلى جهنم- ولا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذاباً) .

وكذلك من صفات المنافق أنه (إذا حدث كذب) فالكذاب فيه صفة من صفات المنافقين.

وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: (رأيت كأن رجلاً جاءني فقال لي: قم، فقمتُ معه، فإذا أنا برجلين: أحدهما قائم والآخر جالس، بيد القائم كلُّوب من حديد يلقمه في شدق الجالس فيجذبه حتى يبلغ كاهله) يشرشره من الجنب إلى القفا، ويرجع يأخذ الجنب الثاني إلى القفا، يعود إلى الجنب الأول سليماً، يشرشره إلى القفا، كلاليب من حديد، (فقلت للذي أقامني: ما هذا؟ قال: هذا رجلٌ كذاب، يعذب في قبره إلى يوم القيامة)، وفي رواية: (هذا رجل يكذب فتبلغ كذبته الآفاق) يكذب كذبة وتنتشر، كأن تنتشر الآن عبر القنوات الفضائية، كذبة تنتشر في الآفاق في المشرق والمغرب، فهؤلاء هذا عذابهم في القبر، غير عذاب النار، وسيأتي عذاب جهنم بعد عذاب القبر.

إذاً: الكذب لا شك أنه كبيرة من الكبائر، ومُتَوعد عليها باللعن، أما الكذب على الله وعلى رسوله فهذا أسوأ أنواع الكذب، لأن الكذب درجات، والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم مَن فعله فإنه يتبوأ مقعده من النار مباشرةً، ومن استحل الكذب على النبي عليه الصلاة والسلام فإنه يكفر ولا شك.

والكذب على الله مثل أن تخبر عن الشيء الحرام أنه حلال، كما يفعل بعض المفتين، ينتقد البنوك الربوية؛ لأنها تفتح فروعاً إسلامية، يقول: لماذا تفتحوا فروعاً إسلامية، أنتم إذا فتحتم فروعاً إسلامية معناها كأنكم تقولون للناس: إن شغلكم الآخر حرام، فأنتم لا يجب أن تفتحوا فروعاً إسلامية؛ لأنه أصلاً كله حلال جائز؛ لماذا تفتح فرعاً إسلامياً، ألا لعنة الله على الكاذبين، وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت:13].. وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل:25] والعامة الذين يتبعونهم كلهم أوزارهم فوق ظهر هذا الكذاب.

فلذلك النبي صلى الله عليه وسلم أخوف ما خاف على أمته: (الأئمة المضلين الذين يضلون بأهوائهم) ، وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ [النحل:116] .

فيأتي يقول على الربا: إنها حلال، لعنة الله على مَن قال ذلك، وهذا غيض من فيض.

المهم: الكذب على الله وعلى رسوله أسوأ أنواع الكذب، والكذب العام الذي يبلغ الآفاق هذا، أو الشائعة التي تنشر، أو الخبر الكذب الذي ينشر هذا عقوبته في القبر مرت معنا وعرفناها.

والكذب على أفراد الناس لا شك أنه محرمٌ أيضاً، الكذب مراتب ودرجات.

هل يباح الكذب أو يجب؟
هل هناك كذب مباح؟

نعم، قال عليه الصلاة والسلام: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول: خيراً وينمِي خيراً) ولم أسمعه يُرَخَّص في شيء مما يقول الناس (رخص النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الكذب في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها).

فإذاً: الكذب في الحرب جائز؛ لأجل مخادعة العدو، والحرب خدعة، مثل أن يقول: إن جيش المسلمين كثير، عشرة آلاف، وربما هم لا يتجاوزون الألفين أو الثلاثة، فيكذب على العدو بإعطائهم أخباراً عن جيش المسلمين أنه كثير لأجل إخافة العدو، هذا ماذا؟ كذب مشروع، ولا حرج فيه، ويُتَقَرَّب به إلى الله.

كذلك الكذب للإصلاح بين متخاصمَين، كأن يقول: يا فلان! لم لا تكلم فلاناً، فيقول: هذا عدوي يتكلم علي، هذا بلغني أنه تكلم علي في المجلس الفلاني، فيقول: أنا كنت حاضراً ولم أسمعه يتكلم، وهذه إشاعة، ولا تصدق هذا الكلام؛ لأجل الإصلاح بينهما.

أو يقول: إنني سمعته يثني عليك وهو لم يسمعه يثني عليه، ولكن لأجل الإصلاح بين المتخاصمَين، فهذا لا حرج فيه.

أما حديث الرجل لزوجته: لو قال إنسان لزوجته: أنتِ أجمل امرأة رأيتها في حياتي، ومن المؤكد أنها ليست أجمل امرأة؛ لكن من باب التحبب إليها.

أو يقول: هذه الطبخة أحسن طبخة أكلتها في حياتي، ما أكلت ألذ منها، من باب التلطف مع الزوجة وحسن المداعبة والمعاشرة، مع أنه ربما أكل في مطعم أحسن منها، لكنه يقصد التقرب إلى الزوجة، والحديث معها ليس حديثاً يأكل به حقها ولا مهرها ولا يعتدي عليها أو يهضم شيئاً من حقوقها، لا يقول مثلاً: أنا ما أخذت ذهبك وهو الذي أخذه، كذاب.

وكذلك المرأة لا تقول: إنني ما أخذت مالك، وهي التي أخذت ماله، وإنما الكذب الذي يكون من نوع المِلْح الذي تُحَسَّن به المعيشة.

وكذلك من الكذب الواجب: ما لو قصد إنسان ظالم قتل رجلٍ مختفٍ عندك وجب عليك أن تكذب؛ لئلا يعلم أين هو، فلو قال: هو عندك؟

تقول: لم أره جاز ذلك.

مثلاً لو أن ظالماً يريد أن يأخذ مال واحد قال: هل مال فلان عندك؟

قال: لا. لم يضع عندي ولا قرشاً، بالعكس أنا لي عنده فلوس، فالكذب لإنقاذ روح إنسان معصوم الدم، أو لتخليص مال مسلم من الهلاك، هذا مشروع.

ونَظَم أحد الشعراء المسلمين أقسام الكذب فقال:

لِخَمْسَةٍ ينقسم الكذب فما لا نفع شرعاً فيه قطعاً حُرِما
وما لوالدٍ لجبر خاطرهْ أو خاطر الزوجة دعه فكُرِهْ
وهو لإرهاب العدو يندبُ للمسلمين إن هم تأهبوا
وإن تخلص مسلماً أو مالَهُ به فعلت واجباً تجزى لََهُ
ولصلاحٍ بين ناسٍ قد أبيحْ وقيل: إن الكذب كله قبيحْ
فإذا كان الكذب لتخليص مسلم أو ماله من الهلاك فإنه يكون واجباً.

وإذا كان لإرهاب أعداء الدين كأن يخبرهم بكثرة عدد المسلمين، وأنهم آتون، وأنهم قريبو المجيء، فهذا أيضاً مشروع ومستحب.

قيل: إن الإصلاح بين الناس من قسم المباح، ولا يبعد أن يكون من قسم المشروع.

وقيل: ما كان جبراً لخاطر، فإنه مكروه، وما لا نفع فيه شرعاً فإنه محرم.

ولا شك أنه إذا كان مضراً فهو محرم، مثلك أن يكذب ويقول: سآتيك بالمال، وهو كذاب لن يأتيه به، مالك عندي وجاهز متى تريد أعطيك حقك، وهو كذاب ما عنده المال.. ونحو ذلك، فهذا الكذب أكثره محرم، وقسم قليل هو الذي يكون جائزاً.

التورية مخرج من الكذب
وهناك مخرجٌ مهم يمكن أن يلجأ إليه الإنسان ألا وهو التورية:

إذا احتاج إلى الكذب استخدم التورية، فما هي التورية؟

بعد أن عرفنا أن الكذب حرام ومرت معنا قصة إبراهيم الخليل، وأن الأنبياء لا يحوز الكذب في حقهم مطلقاً في قضية تبليغ الشريعة والوحي، وأنهم معصومون من الكذب في تبليغ الشريعة قطعاً، والكذب في غير ذلك من الصغائر، المسألة فيها قولان مشهوران للسلف والخلف:

- أما منصب النبوة فلا يمكن أن يكذبوا فيه مطلقاً، والله سبحانه وتعالى يبعث الصادق، حتى في الجاهلية كان النبي صلى الله عليه وسلم معروفاً بالصدق.

ينبغي على الإنسان إذا احتاج للوقوع ليخبر عن شيء بخلاف الحقيقة أن لا يكذب وإنما يستخدم التورية فما هي التورية؟

التورية: أن تأتي بكلامٍ له معنيان؛ معنى قريب، ومعنى بعيد، فالسامع يتوهم أنك تقصد المعنى القريب، وفي الحقيقة أنك تقصد المعنى البعيد، هذه قضية المعاريض.

والأصل في مشروعيتها قوله صلى الله عليه وسلم: (إن في معاريض الكلام مندوحة عن الكذب) .

وهذه المعاريض لا تجوز مطلقاً في ظلم الناس أو إسقاط حقوق الخلق أبداً.

لنأخذ شيئاً من معاريض النبوة حتى يتبين لنا ما هي المعاريض:

النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله، بعض العرب في غزوة ما، ولم يتعرفوا من هو، وأرادوا أن يعرفوا شـخصيـته، فقالوا: (من أنتم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: نحن من ماء) ويقصد بذلك الماء الذي خلق منه الإنسان؟

وقال أيضاً: (لا يدخل الجنة عجوز!) ما المعنى القريب الذي فهمته المرأة وبكت؟

أن العجائز لا يدخلن الجنة.

لكن المعنى الآخر: أن الله عز وجل لا يُدخل العجوز على هيئة عجوز، وإنما يغير هيئتها وتعود شابة إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً [الواقعة:35-36] وليس المعنى أن العجوز التي في الدنيا عجوز لا تدخل الجنة، وإنما المقصود أنها عند دخولها الجنة لا تكون عجوزاً؛ بل تنقلب إلى بكرٍ شابة في سن الثالثة والثلاثين.

لما قال للمرأة: (زوجك الذي في عينه بياض) والبياض يفهمون أنه العمى، لكن كل واحد منا في عينه بياض وسواد.

فالمعرِّض يقصد معنىً بعيداً، اللفظ يحتمله، ولو أن اللفظ لا يحتمله يكون كذباً، والسامع يفهم المعنى القريب لهذا اللفظ.

ولا يجوز استعمال التورية مطلقاً في إسقاط حق.

مثال: يقول القاضي لرجل: أنت أخذت مال فلان؟

فيقول: لم آخذ ماله، وهو يقصد مال رجل آخر، فهذا لا يمكن؛ لأن معنى ذلك: أن يسقط حقاً، وهذا حرام ولا يجوز.

أمثلة في التورية
من الأمثلة مثلاً: لما وطئ عبد الله بن رواحة جاريته، وعنده زوجة شديدة الغيرة، فلما وطئ جاريته رأته امرأته فأخذت السكين وجاءته، فوجدته قد قضى حاجته، فقالت: لو رأيتك حيث كنت لَوَجأتُ بها في عنقك، فقال: ما فعلت! فقالت: إن كنت صادقاً فاقرأ القرآن تعرف أن الجنب لا يقرأ القرآن- فقال:

شهدتُ بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طافٍ وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة شداد ملائكة الإله مسومينا
فقالت: آمنت بكتاب الله وكذَّبتُ بصري، وهذه طبعاً القصة في إسنادها شيء، ولها طرق لكنها لا تخلوا من ضعف، وهذه المرأة يمكن أن يكون فيها غفلة، لأنها لم تعرف أن تميز بين الشعر والقرآن.

لكن نأخذ أمثلة أخرى:

دُعِي أبو هريرة إلى طعام فقال: (إني صائم -ما أراد أن يأكل من هذا الطعام- فرأوه يأكل بعد ذلك، فقالوا: ألم تقل إنك صائم؟ قال: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر، فأنا أصوم ثلاثة أيام من كل شهر) .

وكان محمد بن سيرين إذا اقتضاه غريم ولا شيء معه، مثلاً: أعطاه رجل مالاً وجاء يريد المال، وهو مسكين ليس عنده شيء، وهو لا يريد أن يُذهب أموال الناس، يقول: [أعطيك في أحد اليومين إن شاء الله] فالسامع يفهم؟ أنه يطيه المال غداً أو بعده، وهو يقصد يومي الدنيا والآخرة، أحد اليومين، إما في الدنيا أعطيك، أو في الآخرة تأخذه.

وكذلك أبو بكر الصديق لما هاجر مع النبي عليه الصلاة والسلام وسئل: (من هذا الذي معك؟ -كانت خطورة أن يخبر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه معه- فقال: هذا رجلٌ يهديني الطريق) ماذا يقصد؟ ماذا يفهم العربي والبدوي في الصحراء؟

أي: هذا دليل، أنا مسافر وهذا دليل في السفر، بينما هو قصد (هذا رجلٌ يهديني الطريق) يعني: طريق الإسلام.. طريق الخير؛ حِفاظاً على حياة النبي عليه الصلاة والسلام، هذه تورية واضحة ومشروعة، ما أراد أن يكذب لم يقل: هذا فلان الفلاني، جاء بأي اسم كذب، قال: (هذا رجلٌ يهديني الطريق) .

وقال حماد عن إبراهيم أنه سئل عن رجل أخذه رجل فقال: إن لي عندك حقاً، فقال: لا. فقال: احلف بالمشي إلى بيت الله فقال له إبراهيم : احلف بالمشي إلى بيت الله واعنِ مسجد حيك؛ لأن المساجد كلها بيوت الله، وذاك سيفهم بيت الله أي: بيت الله الحرام.

وذكر هشام بن حسان، عن ابن سيرين، أن رجلاً كان يُصِيْب بالعين فرأى بغلة شريح فأراد أن يعينها، كان شريح ذكي رحمه الله وكان عنده بغله حسنه، فرأها أحد العيانين الحساد الذي كان إذا أصاب شيئاً بالعين لا يخطئ كأشعة الليزر، وهذه نوعية موجودة في البشر، فلما رأى بغلة شريح أراد أن يعينها، ففطن له شريح قبل أن يعينها فقال: إنها إذا ربضت لم تقم حتى تُقَام -قال: هذه إذا جلست لا تقوم حتى تقام- قال الرجل: أفٍ أفٍ. فزهد العائن فيها فما حسدها، وإنما أراد أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقيمها، أي: لا تقوم حتى يقيمها الله سبحانه وتعالى، كما يأمر كل شيء فيكون.

وكذلك قال أبو عوانة، عن أبي مسكين: كنت عند إبراهيم وامرأته تعاتبه في جارية له - إبراهيم النخعي كان عنده جارية والمرأة تغار من الجارية جداً- وكان بيد إبراهيم مروحة يروح بها في الصيف ... فلما جاءت المرأة، وأكثرت عليه الكلام عند الناس والضيوف، قال: أشهدكم أنها لها -لتسكيت المرأة- فلما خرجنا قال: علام شهدتم؟

قلنا: شهدنا أنك جعلت الجارية لها، قال: لا، أما رأيتموني أشير إلى المروحة، إنما قلت: اشهدوا أنها لها، وأنا أعني المروحة.

وكان حماد رحمه الله إذا جاءه من لا يريد الاجتماع به من بعض مضيعي الأوقات كان يضع يده على ضرسه، ويقول: ضرسي.. ضرسي.. ويمشي، ضرسي.. ضرسي.. وهو لا يكذب؛ لأن كل واحد عنده ضرس.

وأُحْضِر الثوري إلى مجلس المهدي، فأراد أن يقوم، وكان المهدي متمسكاً به يريد أن يجلس عنده، والثوري رحمه الله يريد الذهاب، فمُنع من القيام فحلف بالله أنه يعود، وعلى هذا الأساس تركه الخليفة يمشي، فترك نعله ومشى ثم رجع فلبس نعله وأخذها ولم يعد، فقال المهدي : ألم يحلف أنه يعود؟ فقالوا: إنه عاد فأخذ نعله.

وكان المروزي من أذكى أصحاب الإمام أحمد وأنجبهم، فجاء واحد يسأل عن المروزي يريد أن يأخذه من مجلس أحمد فأراد الإمام أحمد ألا تفوت المروزي الفائدة من الدرس، فقال الرجل: المروزي موجود عندك؟

فوضع أحمد إصبعه في كفه وقال للسائل ينظر إليه: ليس المروزي هاهنا، وما يفعل المروزي هاهنا؟ يقصد أحمد رحمه الله في كفه ليس المروزي هاهنا، ما يفعل المروزي هاهنا؟ وهذا كله من أجل التوقي من الكذب وعدم الوقوع فيه.

فهذه أمثلة على التورية نلاحظ منها أن الذين فعلوها كانوا يقصدون إما جبر خاطر، أو تحقيق مصلحة مثلاً، أو تخلصاً من موقف محرج، وحفاظاً على وقتهم.

ولذلك فإن هذه التورية مباحة وتغني عن الكذب، إذا احتاج الإنسان أن يتكلم بكلام لا يكذب يمكن أن يستخدم التورية ويحصل على مقصودة.

أما استخدام التورية لبيان المهارة وخداع الناس، لكي يثبت الإنسان أنه أذكى من الآخرين، فهذا مزلق شيطاني، وتجد بعض الناس يفعلون التورية بحاجة وبغير حاجة، ولذلك يقعون في الكذب.

وكذلك فإن كثرة استخدام التورية تؤدي إلى الوقوع في الكذب في النهاية، ولذلك فإننا عندما نتكلم عن التورية لا نقصد التوسع بها وأن يجرب الإنسان مهاراته على الآخرين، إنما نقصد أنك إذا احتجت أن تتكلم بكلام تتخلص به من موقف فهناك مجالات أخرى غير الكذب وهي التورية.

همسات ايمانية
2015-08-02, 12:02
قصة هاجر مع إسماعيل في مكة


إن قصة إبراهيم عليه السلام من أروع القصص في القرآن الكريم، ذلك لما فيها من المواقف العظيمة التي جعلته أبو الأنبياء عليهم السلام .. وقد عرض الشيخ حفظه الله إلى بعض المواقف لإبراهيم عليه السلام، وبين ما فيها من العبر والعظات؛ حتى نقتدي به في سيرنا إلى الله تعالى، وفي دعوتنا إليه سبحانه ...




روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى من طريق عبد الرزاق بن همام الصنعاني، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي تميمة السختياني وكثير بن كثير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل: أم إسماعيل -هاجر - اتخذت منطقاً وذلك لتعفيِّ أثرها على سارة، ثم هاجر بها إبراهيم عليه السلام إلى مكة، فنزل بها قريباً من رابية -وهو مكان البيت اليوم، وكانت هذا الرابية مرتفعة عن الأرض- فلما أنزلها عليه السلام هناك، كان معها جراب من تمر وسقاء من ماء، ومعها ابنها إسماعيل، فلما أنزلهما مكان البيت أو قريباً منه، ولى وتركهما، فالتفتت إليه هاجر -وهي مولاة- وقالت: لمن تتركنا يا إبراهيم؟ فلم يجبها بشيء، ولم يلتفت إليها، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذاً لا يضيعنا، فلما اختفى وراء الجبل، التفت ودعا الله عز وجل ورفع يديه وقال: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37]. ثم تولى عنهم وتركهم، فأتت المرأة الصالحة تربي ابنها، فنفذ الماء، ونفذ الطعام من التمر، فأتت ترتفع لترى في جبال مكة أين تجد الماء.

قال: ابن عباس: لكأني بها تسعى بين الجبلين -أي: بين الصفا والمروة - سبعة أشواط، وتقول وهي تكلم نفسها: صه، - تسكت نفسها لترى هل تسمع صوتاً، أو ترى ساكناً أو حياً- ولم يكن في مكة من البشر أحد، فطافت سبعة أشواط -فهو طوافنا اليوم- ثم عادت إلى مكانها، وأخذ ابنها يتلوى على الأرض من شدة العطش، فنزل ملك من السماء -قيل: جبريل وقيل غيره، وليس في رواية البخاري أنه جبريل- فبحث بجناحه فخرج الماء، فأخذت تعدل الماء وتقيم التراب حوله وتقول: زمزم -أي: تزمزم الماء- وهذه من عادة قبائلهم إذا اشتغلوا في أمر، كأنها تنشد، أو كأنها تفزع، أو تسلي نفسها وتزمزم.

قال عليه الصلاة والسلام: (رحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم لصارت عيناً معيناً) أي: لو تركتها ولم تجمع عليها التراب، ولم تعدلها لصارت عيناً معيناً في مكة.. ثم نزل هناك ركب من جرهم، وجرهم قبيلة انتقلت إلى مكة، وهي من القبائل العربية التي سوف يتزوج منهم إسماعيل كما سيأتي.. نزلوا في طرف مكة، فرأوا غراباً عائفاً -وقيل: حدأة- وإذا هو فوق ماء زمزم، فقال هؤلاء الركب: إن الطائر معه الماء، فاقتربوا فلما رأوا هاجر قالوا: ننزل حول الماء؟ قالت: لا. فاصطلحوا معها على أن ينزلوا معها على حسن الجوار، فنزلوا، فأعطوها الطعام، وأعطتهم الماء، فلما شب إسماعيل عليه السلام تزوج منهم، وكان شاباً ظريفاً عاقلاً آتاه الله الحكم صبياً، فأصبح أرحامه أصهاره من جرهم.

فلما شب فيهم -عليه السلام- أتاه أبوه بعد حين يزوره.. سيد من سادات الأنبياء، وسيد الكرماء والشجعان عليه السلام.. أتى يزورهم فوجد امرأة إسماعيل عليه السلام وهي في البيت، فطرق عليها وهو شيخ حسن الهيئة، عليه هندام الوقار والسكينة، وعليه علامات التوحيد، فقال: أين زوجك؟ -وهو ابنه لكنها لم تعرفه- قالت: خرج يطلب لنا صيداً، قال: كيف أنتم؟ قالت: في حالة ضيقة، وفي شر حال، فقال: إذا أتى زوجك فاقرئي عليه السلام، ومريه أن يغير عتبة بابه. فأتى إسماعيل في المساء فسألها: هل أتاكم من أحد؟ قالت: أتانا شيخ حسن الهيئة، قال: هل سألكم عن شيء؟ قالت: نعم. سألنا عن هيئتنا وطعامنا، فأخبرته أنا بشر حال، قال: هل أمركِ بشيء؟ قالت: نعم. هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تغير عتبة بابك. قال: ذلك أبي، والحقي بأهلك.

ثم تزوج زوجة أخرى صالحة، وأتاهم أبوه يزورهم مرة ثانية، فدخل على امرأته وقال: أين زوجك؟ قالت: خرج يطلب لنا صيداً -وكان يطلب الصيد في جهة نعمان، والعرب كانت تصيد من نعمان، وهو من أجمل الأودية عند العرب، وقد صوروه في الشعر حتى كأنه قطعة من حديقة، أو كأنه فيحاء في بستان، وإذا أتيت إلى نعمان لم تجد فيه إلا الشوك، ولذلك قيل:

ألا أيها الركب اليمانون عرجوا علينا فقد أضحى هوانا يمانيا
نسائلكم هل سال نعمان بعدنا وخب إلينا بطن نعمان واديا
وهو الوادي الذي فوق عرفات وفيه عين زَبِيْدَة.

فقالت: خرج يطلب لنا صيداً، قال: كيف حالكم؟ قالت: في أحسن حال والحمد لله، قال: إذا أتى فاقرئي عليه السلام، ومريه أن يثبت عتبة بابه؛ فأتى فسألها فأخبرته وقالت: هو يقرئك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وأنت العتبة، وهو يأمرني أن أمسككِ.

زواج إبراهيم عليه السلام من سارة
هذا الحديث من رواية ابن عباس، ولفظه قريب من هذا أو نحوه... وفي هذا الحديث مسائل، تعرض لها أهل التفسير والحديث والفقه وأهل السير والتاريخ.

أول مسألة: زواج إبراهيم عليه السلام من سارة، وقصة سارة مع الملك.. وفي ذلك فائدة: فإن القرآن يأتي بالقواعد والحقائق والأصول، ولكنه لا يتعرض للخلافيات التي لا فائدة منها، ولذلك لما ذكر قصة أهل الكهف لم يخبرنا بلون كلب أهل الكهف، ولا أين ناموا، ولا جهة الكهف، ثم قال للرسول عليه الصلاة والسلام: فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف:22]. أي: لا تدخل نفسك إلا في مسائل علمية، وقواعد شرعية تستفيد منها، أما الجدل البارد الذي لا ينبني عليه حكم فليس هناك طائل من إيراده.

فالقرآن يأتينا بقصة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في خطوط عريضة، وفي جمل باهرة.. منها بناء البيت، ومنها الدعوة إلى التوحيد، ومنها جدل إبراهيم الحق مع الملك.. وسوف يأتي.

ومنها: قصة البعث، وبعث الله عز وجل للطيور بين يدي إبراهيم عليه السلام... إلى غير ذلك من القصص.

أما سارة فهي امرأة حرة، تزوجها إبراهيم عليه السلام، وعلمها التوحيد، وأرضعها لبن (لا إله إلا الله) منذ الصغر، وكانت من أجمل نساء زمانها، قال ابن كثير: أجمل النساء في العالمين سارة ومريم، وقيل: عائشة بنت الصديق رضي الله عنها وأرضاها.

هجرة إبراهيم عليه السلام من حران
ثم هاجر إبراهيم من حران.. وحران هذه هي بلد شيخ الإسلام ابن تيمية.

بنفسي تلك الدار ما أحسن الربى وما أحسن المصطاف والمتربعا
وهي حران قريبة من دمشق في بلاد الشام، هاجر منها ابن تيمية إلى دمشق بعد أن ترعرع وشب فيها..

هاجر إبراهيم عليه السلام بـسارة، فمر بملك من ملوك الدنيا، جبار عنيد، كان كلما سمع بفتاة جميلة اغتصبها من أهلها.. فلما وصل إبراهيم بزوجته، سمع به الملك فأرسل جنوده فأخذوا هذه المرأة الصالحة العابدة القوامة الزاهدة.. ولكن من يعتمد ويتوكل ويحفظ الله يحفظه سبحانه وتعالى.

التجأ إبراهيم إلى الله عز وجل ودعا الله أن يحفظ عليه زوجته، فأخذوها من بين يديه، وكان قد قال لها: إذا قدمت على الملك وسألك عن نسبك فقولي: أنا أخت إبراهيم. وصدق؛ فإنها أخته في العقيدة والدين، وأخته في النسب الأول، فكلهم من آدم وحواء.

وصلت إلى هذا الجبار، ودخلت عليه، واقترب منها وهي متوضئة طاهرة، فدعت الله عليه؛ فجفت يده ورجله، فقال لها: ادعي الله لي أن يطلق يدي ورجلي، فدعت له فانطلق، ثم أتى يقترب منها، فدعت عليه، فجفت يده ورجله، فاقترب ثالثة، فدعت عليه بعد أن أطلق، فجفت يده ورجله، فقال: أتيتموني بشيطانة! اذهبوا بها.. فخرجت من عنده وأخدمها هاجر التي هي أم إسماعيل، جعلها مولاة وهدية لها، فقال لها إبراهيم: كيف كان الأمر؟ قالت: منع الله الفاجر وأخدم هاجر. وقد قال بعض أرباب التفسير: إن الله سبحانه وتعالى أطلع إبراهيم عليه السلام بمسيرة سارة، إلى أن وصلت إلى الملك، وبموقفها مع الملك، حتى عادت ليطمئن قلبه ويسكن، فقال لها إبراهيم لما عادت: والله لقد رأيتك منذ ذهبت إلى الآن.

هجرة إبراهيم إلى مكة
فلما أخذ هاجر أتت بإسماعيل، فاغتاضت منها سارة، والغيرة مركوزة في طبيعة النساء، وكأن الغيرة ولدت مع النساء منذ أن خلق الله المرأة إلى اليوم.. ولما أتت بإسماعيل لم يكن عند سارة ولد ولا بنت، فاغتاضت منها وغارت، فأخذ إبراهيم عليه السلام هاجر إلى مكة.

وسبحان الله! كيف اختار الله مكة من بين بلاد الأرض، لتكون مهبط الوحي، وليكون منها الإشعاع الرباني، والرسالة الخالدة، وليتخرج منا أساتذة التوحيد الذين رفعوا علم (لا إله إلا الله) فهي بحق جبال تصهر الرجال بحرارتها وبشظف عيشها، فتخرجهم رجالاً يقودون عجلة التاريخ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

فـمكة مسقط رأس رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وهي التي ولد فيها أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وخالد، والصنف المختار من أصحاب رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.

وصل إبراهيم عليه السلام إلى مكة، وقبل أن يأمره الله بالبناء اختار ذلك الموقع، قال بعض أهل العلم: لأنها وسط الدنيا، وقد أثبت العلم الحديث فيما سمعنا وقرأنا أن من صعد على سطح القمر رأوا أن وسط الدنيا هو الجزيرة العربية أو ما يقاربها، ووسطها هي الكعبة المشرفة، ولذلك سماها الله تعالى أم القرى، فهي تثبت الإشعاع في كل مدينة، ومنها لا بد أن تبعث الرسالة ويهبط الوحي على رسول الهداية صلى الله عليه وسلم.

ولما وصل إبراهيم إلى هناك، وضع لهم جراباً من تمر وسقاءً من ماء وتولى إلى الله عز وجل، واختفى وراء الجبل، وابتهل إلى الله يقول في دعائه الحبيب إلى القلوب: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [إبراهيم:37] وصدق عليه السلام، فإن مكة من أقحل بلاد الأرض، حتى يقول أحد المفكرين: يا سبحان الله! عناية الله، ونور الله، وهدايته تأتي من السماء بوحي خالد على رسول عظيم شريف، في بلاد ليس فيها حدائق ولا قصور ولا أنهار ولا دور، ولا فيها معطيات الحياة، ليس فيها إلا شجر من الشوك طلعه كأنه رءوس الشياطين، وحجارتها تتلظى بالنار وتتوقد، فبعثه الله عز وجل ليقول: إن الآخرة لرسول الهدى صلى الله عليه وسلم.

لم يبعثه في بغداد دار السلام، ولما وجدت بعد، وسميت بدار السلام؛ لأنها ذات حدائق غناء، ولم يبعثه في دمشق، ولم يكن هناك دمشق التي فيها البساتين الفيحاء ونهر بردا.

ولم يبعثه كذلك في أنطاكيا، ذات القصور الشاهقة، والحدائق الوارفة.. ولم يبعثه في بلاد أخرى ذكرت في التاريخ بجمالها وروعتها، بل بعثه هنا، ليقول: إن دعوتك للآخرة لا للدنيا.

فلما أتى عليه السلام قال: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم:37].

وكأنه علم أنه سوف يقوم هناك بيت محرم.. رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37].

وقد رأينا ورأى التاريخ وسمعت الدنيا الملايين المملينة في كل حج تهوي بأفئدتها، ملوكاً ومملوكين، علماء وعامة، رؤساء ومرءوسين، أغنياء وفقراء.. يهوون بأفئدتهم إلى البيت العتيق.

فلما ولى إبراهيم عليه السلام، وبقي الحال على ماكان، تزوج إسماعيل -كما مر- من جرهم، وجرهم هؤلاء ذكرهم زهير بن أبي سلمى يوم يقول:

فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله رجال بنوه من قريش وجرهم
يميناً لنعم السيدان وجدتما على كل حال من سحيل ومبرم
يمدح هرم بن سنان وقيس بن زهير لما تداركا عبساً وذبيان.

أمر الله لإبراهيم أن يذبح إسماعيل
ولما درج وبلغ إسماعيل زاره أبوه، وكانت هذه هي أول زيارة يزوره فيها، وذلك لما درج وبلغ السعي، وأصبح حبيباً إليه عليه السلام، وتخلل مسلك الروح منه، وكان أحب الناس إليه..

قد تخللت مسلك الروح مني ولذا سمي الخليل خليلاً
فأراد الله أن يخلص قلب إبراهيم من هذا الحب لهذا الابن له سبحانه وتعالى، لأنه خليل الرحمن.. فلما وصل إلى مكة رأى فيما يرى النائم أن قائلاً يقول: اذبح ابنك! فتعوذ بالله من الشيطان، وتوضأ وصلى، ثم رأى الرؤيا مرة ثانية وثالثة، وعلم أنها رؤيا حق.. ولذلك قال الإمام البخاري: باب رؤيا الأنبياء حق، وقال إبراهيم: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102].

وخرج في الصباح فعرض الرؤيا على الابن الصالح.. وانظر إلى التربية الصالحة والهدي المستقيم، فلما عرض عليه الرؤيا لم يقل له: إني أفارقك، أو إني أتركك برهة من الزمن، لا. بل قال: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات:102] ولم يقل آمر غيري بذبحك، لكن أنا أذبحك.. ويا لها من مصيبة! ويا لها من مسألة شاقة على الأنفس! ومثل لنفسك أن تؤمر أنت أن تذبح بيدك وسكينك أحسن أبنائك إليك.. ولو ابتليت ببلاء غير هذا لتحملت؛ كأن يسقط ابنك من على السطح، أو يزلق فيموت، أو يذهب أدراج الرياح، أما أن تؤمر أنت فتأخذ سكيناً وتأخذ ابنك فتبطحه على الأرض، وتجلس على صدره فتذبحه.. إنه لبلاء عظيم! بل من أعظم الابتلاء في تاريخ البشرية، لكن هكذا يثبت العظماء.

ألا لا أحب السير إلا مصعداً ولا البرق إلا أن يكون يمانيا
وأتى في الصباح واستدعى ابنه: قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102].

فلم يشاوره، ولم يقل له: ادرس الموضوع واعطني النتيجة.. ولم يقل انظر: إما أن تكون طائعاً وإما عاصياً، فأنا أقوى منك، والله أمرني، وأنت طفل صغير، سأذبحك سواء رضيت أم لم ترضَ، لا. بل قال له: ما هو ردك؟ فقال في هدوء وفي حياء وفي صبر، ويا لها من تربية! قال: يا أبتِ افعل ما تؤمر. قال أهل التفسير: خاطبه بالأبوة في مقام الحنان، حتى وهو يعتدي على روحه بأمر الله عز وجل، قال: يا أبتي، من الحنان والشفقة وحق الأبوة.. وما قال: افعل ما تأمر أنت، وإنما تؤمر من الله، لأنه صدق بوحي من الله.. افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102] قالوا: ما أحسن هذا الاعتراض! فلم يقل: ستجدني من الصابرين، وإنما قال: إن شاء الله، فصبري بالله، واتكالي على الله، وحفظي على الله فَلَمَّا أَسْلَمَا [الصافات:103] الضمير يعود إلى إبراهيم وإسماعيل، فقد أسلم إبراهيم نفسه إلى الواحد الأحد، فإنه قد أمر بمشقة، ووده لو أنه هو المقتول، وأنه ما رأى هذا المنظر، وأسلم إسماعيل نفسه إلى الله سبحانه وتعالى: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] قال أهل التفسير: ما استطاع أن يذبحه على ظهره، فجعله على وجهه ليذبحه من قفاه؛ لأنه يخشى أن ترسل العينين شعاعاً من المحبة إليه، وأن يرى وجه ابنه فتدركه الرأفة والرحمة فيعصي أمر الله، ولكنه تلَّه على وجهه ساجداً لله عز وجل، لئلا يرى وجهه أبداً حتى يذبحه.. إن هذا بلاء عظيم، ولا تستطيعه النفوس إلا من أسلم وجهه لله، وعلم أن ابتلاء الله عز وجل معه الخلود والبقاء والحياة.. فأتى بالسكين وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] قال أهل العلم: لم يقل: أجلسه أو أقعده، وإنما تلَّه بقوة، لُيري الله أنه ينفذ الأمر بحماس وقوة.

وإبراهيم صاحب مواقف خالدة في القرآن، فقد قال الله تعالى حاكياً عنه: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26].. فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ [الصافات:93].. وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103] كلها مواقف تشهد له بالقوة، لأن المسلم ينبغي عليه أن يأخذ أحكام الله وتنفيذ أوامر الله بالقوة، أما البرود والكسل والخنوع فليس في دين الله، ولذلك يقول الله ليحيى عليه السلام: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12] خذه بقوة، ولا تأخذه ببرودة.. ويقول الله عن المنافقين: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ [النساء:142].

ولذلك باستطاعتك أن تميز بين المؤمن والمنافق بمقامهم في مقامات الولاية والعبودية، فالمؤمن يأتي إلى الصلاة بحرارة، ويقرأ القرآن بحرارة، ويستمع إلى الخطب والمواعظ وحلق الذكر بحب وشوق وحرارة، والمنافق يأتي ببرودة، سواء صلى مع الجماعة أو لم يصل، وإن فاته فلس واحد من ماله جزع وهلع عليه، ولكن إن فاته دينه وصلاته فلا يهمه ذلك ولا يشعر بأن النفاق قد خرق قلبه..

أما إبراهيم فأسلم وتلَّه للجبين، فلما أخذ السكين ليذبحه أتى لطف الله عز وجل، وأتت رحمته سبحانه وتعالى، فلم تذبح السكين، ومن عادة السكين أنها تذبح، ولكن حكمة الله عز وجل أن يمنعها من الذبح.. والبحر يغرق، ولكن قدرة الله تمنعه أن يغرق موسى عليه السلام.. والنار تحرق -وهذه من سنن الله الكونية- ولكنها لا تحرق إبراهيم عليه السلام.. والسكين تذبح ولكن بقدرة الله جعلها لا تذبح أبداً، فمنعها من عنق إسماعيل لأنه بريء طاهر عفيف.. والاغتيالات تتوجه إلى الناس لتفتك بهم، لكن رسولنا صلى الله عليه وسلم سلم حصل أكثر من عشر محاولات اغتيال.

عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عال من الأطم
قال الله تعالى: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107] نزل عليه من الجنة، فأخذ السكين وذبح الذبح العظيم وهو الكبش ورد السكين إلى مكانها. ومدحه الله أبد الدهر وأثنى عليه وقال: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ [الصافات:106]. فهو بلاء خالد، لكن خلَّد الله ذكره يوم أن قال: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء:84] فرفع الله ذكره أبد الدهر.

بناء إبراهيم وإسماعيل البيت العتيق
وعاد العودة الثانية، وإذا إسماعيل قد أصبح فتىً قوياً يصارع الرجال، ويستطيع أن يقوم بمهام الرسالة، ويستطيع أن يبني معه، فيوحي الله عز وجل إلى إبراهيم عليه السلام، ويقول: يا إبراهيم! ابن هنا بيتاً. فيأتي إبراهيم ليبني بيت الله سبحانه وتعالى الذي من عفر وجهه في تلك العرصات صادقاً رزقه الله الصدق والإخلاص.

ولما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية ثورة القرامطة عندما ثاروا في الكعبة، وقتلوا ما يقارب ثلاثين ألف حاج، قتلوهم في الحرم، قال: وقتلوا بعض العلماء، فلما أتوا إلى عالم من العلماء بالسكين ليقتلوه حول الحجر قال:

ترى المحبين صرعى في بيوتهم كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا
ثم سقط قتيلاً، قال ابن كثير: فهنيئاً لك ذلك المضجع، وهنيئاً لك ذلك المرقد، فإنها من أحسن البقاع، شرفها الله وأزال عنا كل رجس.. فمن ذهب لعمرة أو حج فليغتنم تربية روحه في تلك البقاع، وليمرغ وجهه في تلك العرصات، وليدع الله بصدق وهو يطوف ويسعى أن يرزقه الإنابة والهداية، فإنها من أعظم الوقفات في الحياة الدنيا.

فلما أتى إبراهيم عليه السلام، قال: يا إسماعيل! إن الله يأمرني أن أبني البيت، قال: أو أمرك ربك؟ قال: نعم. وهل تعينني على ذلك؟ قال: نعم أعينك عليه. قال ابن عباس: كأني بإبراهيم عليه السلام وقد ارتفع على الجدار وإسماعيل يناوله الحجارة وهو يضعها ويبني. أتدرون ماذا كان هزيجهم؟ وماذا كان نشيدهم الخالد؟ كانوا يقولون: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]. يحسنون ويبنون لوجه الله، ويجاهدون ويدعون، ومع ذلك يقولون: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.. والفاجر يفجر ويعصي ويزني ويكذب ويغتاب، ومع ذلك يقول: ورحمة الله وسعت كل شيء.

فإبراهيم عليه السلام كان يقول: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127] لئلا يكون في العمل رياء.. وأتوا يبنون حتى وصل إلى مكان الحجر الأسود، فأمره الله عز وجل أن يبقي مكانه، فلما انتهى من البناء وقف والتفت إلى الحي القيوم، ودعا الله أن يبارك في هذا البناء، وأتاه جبريل بالحجر الأسود، وهو أبيض كاللبن، كالجوهرة البيضاء، أنزله من الجنة، فسلمه إلى إبراهيم وقال: ضع هذا الحجر في هذا المكان، ليستلمه الناس.

قال ابن عباس: [[والذي نفسي بيده، لقد نزل الحجر أبيض كاللبن، فسودته خطايا بني آدم، حتى أصبح أسود]] وصح عنه صلى الله عليه وسلم في حديث أنه قال: {من استلم الحجر الأسود بصدق كان للحجر الأسود لسانان يوم القيامة يشهدان لمن استلمه بصدق في الحياة الدنيا} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

فمن استلم الحجر الأسود أو قبله وهو صادق ومشتاق ومخلص؛ أنطق الله الحجر الأسود يوم القيامة بلسانين ناطقين، يشهد لمن استلمه بحق في الحياة الدنيا.

والحجر الأسود له قصة مسيرة في التاريخ، فإنه اعتدي على عرضه وعلى كرامته في عهد القرامطة، يوم أن وفدوا من الأحساء إلى البيت العتيق، ووفد معهم الفاجر أبو طاهر الجنابي، وأخذ بسيفه على جمله يقتل الحجيج، وهو يقول:

أنا بالله وبالله أنا يخلق الخلق وأفنيهم أنا
ثم تقدم أحدهم بدبوس من حديد بيده، فقال: يا معشر المسلمين! يا أيها الحمير! تقولون: إن الله يقول: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً [آل عمران:97] نحن دخلناه الآن فأين الأمن؟ فقال له بعض العلماء: هذا من باب الأمر لا من باب الخبر. أي: أن الله يأمرنا أن نؤمن البيت، وأنت قد أخفته، فتقدم بخنجر فطعن العالم فقتله، ثم أتى إلى الحجر الأسود فضربه ثلاث ضربات بهذه الدبوس فانفلق منه ثلاث فلق، وهذا هو ما تجدونه فيه من التكسير، لأنه قد وقع عليه ثلاث ضربات، وإلا فإنه كان أملس كالثوب الأملس.. فاجتمع بعض الملوك، فجمعوا بعض المسك والغارية، وخلطوا بعضها ببعض، وألصقوه في الحجر.

وأخذوا الحجر وأركبوه على سبعمائة جمل، كلما مشى جمل أصابه الجرب وأهلكه الله فسقط الحجر من عليه، فيركبونه على جمل آخر، فيموت الجمل الآخر، حتى مات سبعمائة جمل، ووصل إلى الأحساء، وبقي معهم حتى اجتمع سلاطين الدولة الإسلامية ودفعوا مبلغاً هائلاً من الدارهم والدنانير والذهب حتى أعيد الحجر إلى مكانه.. ولله حكمة في ترك هؤلاء الغوغاء يأخذون الحجر، وله حكم في الأحداث التي وقعت في التاريخ، فهو الحكيم: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].

بنى إبراهيم عليه السلام البيت، ونزل ووقف عند المقام الذي نحن نصلي فيه اليوم، وفيه يقول الله عز وجل: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً [البقرة:125] فوقف هناك، ودعا الله كثيراً، فأمره الله أن ينادي في الناس جميعاً أن يحجوا إلى هذا البيت، وأن يأتوا إليه، فإنه بيت الرحمن جل جلاله، وفيه الهداية والنور.. وفي السماء الدنيا بيت آخر كالكعبة، يطوف به كل يوم -كما في رواية المفسرين- سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه أبد الدهر.. فلما انتهى أمره الله أن ينادي في الناس بالحج، فارتفع على جبل من جبال مكة، فنادى في الناس، قال ابن عباس أو غيره من المفسرين: فسمعه الناس في أصلابهم، فقال: من أراد الله به الخير فليأت إلى البيت، لبيك اللهم لبيك.

قال تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:27-28] يأتوك رجالاً، أي: مترجلين يمشون على أقدمهم وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ [الحج:27] على كل بعير ضامر أي: ضعف من شدة السفر.

دخل رجل على ابن سيرين العلامة الكبير، وكان ابن سيرين يعبر الرؤيا، ويئولها، وكان عنده تأييد إلهي في الرؤيا كما يقول الذهبي، ولذلك ذكروا عنه أموراً عجيبة، ولشدة تقواه لله عز وجل وزهده وإخلاصه رزقه الله تعبير الرؤيا.. أتاه رجل فقال: رأيت حمامة أخذت جوهرة في المنام فأخرجتها أصغر مما كانت، ثم أخذتها فأخرجتها مثلها، ثم أخذتها فابتلعتها فأخرجتها أكبر منها، فما تعبيرها؟ وكان ابن سيرين فيه خفة روح ودعابة، مع تقواه واتصاله بالله عز وجل، فكان يضفي على جلاسه وسماره شيئاً من المزاح ومن الدعابة السلمية العفيفة.. فقال: هذا مثلي ومثل الحسن البصري وقتادة بن دعامة السدوسي -وهم كانوا علماء في عهده- أما أنا فأسمع الحديث فآتي به كما هو، فهذا معنى أن الحمامة أتت بالجوهرة كما هي، وأما قتادة فإنه ينقص من الحديث فنقصت الجوهرة، وأما الحسن البصري فإنه يدبج ويوشح الحديث فيأتي أكثر مما هو.

وبينما هو جالس أتاه رجل عليه ملامح التقوى والزهد والعبادة، فقال: إني رأيت في المنام أني أؤذن، فنظر إلى السائل قليلاً ثم قال: أنت تحج هذه العام ويتقبل الله منك. فقال الجلاس: ولماذا؟ قال: لأن الله يقول: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27] وبينما هم جلوس إذ دخل فاجر من الفجار -نسأل الله العافية- فقال: إني رأيت في المنام أني أؤذن، فقال: أنت تسرق وتقطع يدك. قال: ولماذا؟ قال: يقول الله عز وجل: ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ [يوسف:70].

قال الراوي: فو الله ما مرت فترة إلا وحج هذا، وسرق هذا ورأينا يده على باب الإمارة قد قطعت.

ومن أراد أن يتثبت من هذه القصص فليرجع إلى سير أعلام النبلاء، في ترجمة ابن سيرين، وحلية الأولياء لـأبي نعيم، والبداية والنهاية لـابن كثير، وغيرها من الكتب.

الشاهد: أن إبراهيم عليه السلام نادى فاستجاب له من استجاب، وأما إسماعيل فأقام هناك وتزوج من جرهم، فهو جد رسولنا عليه الصلاة والسلام، وفي حديث ضعيف في سنده كلام، يقول عليه الصلاة والسلام: {أنا ابن الذبيحين} فالذبيح الأول إسماعيل، الذي عرضه إبراهيم عليه السلام للذبح، والذبيح الآخر هو عبد الله أبو الرسول عليه الصلاة والسلام مباشرة؛ فإن عبد المطلب لما جفت بئر زمزم نذر نذراً أن إذا أخرج الله الماء أن يذبح أحد أبنائه، وكانوا عشرة، منهم: عبد الله والحارث، وحمزة، وأبو طالب، والعباس، وأبو لهب... فلما خرج الماء أقرع بين العشرة أيهم يخرج نصيبه ليتقرب بذبحه إلى الله -وهذا في الجاهلية- فخرج السهم على عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففداه بعشر من النوق، فأتى السهم الآخر، فوقع عليه، ففداه بعشرين، حتى وصلت إلى مائة، ففداه بها.. فكان الرسول صلى الله عليه وسلم ابن الذبيحين.

وهل الذبيح الأول إسماعيل أم إسحاق؟ فيه خلاف، لكن الصحيح أنه: إسماعيل، وعليه كلام ابن كثير وابن القيم والذهبي وشيخ الإسلام ابن تيمية.

ولذلك يقول كعب الأحبار لأحد الخلفاء: [[والله الذي لا إله إلا هو، لقد علم اليهود أن الذبيح إسماعيل، لكنهم حسدوكم فقالوا: إنه إسحاق..]] وذلك لأنه شرف لنا أن يكون جدنا إسماعيل، فهو جد الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم عدناني لا قحطاني، والعرب قحطان وعدنان، فالرسول صلى الله عليه وسلم بعث من عدنان وأنصاره من قحطان، وهم الأوس والخزرج رضي الله عنهم.

مواقف إبراهيم عليه السلام في القرآن
المسألة الثانية: مواقف إبراهيم عليه السلام في القرآن.

وقد أسلفت في الحديث أن الله عز وجل لا يذكر في القرآن إلا المهمات الكبرى والقواعد التي ينبغي أن يستفاد منها، ولذلك من العجيب أن تجد بعض المفسرين يدندنون حول على بعض المسائل الخفيفة التي لا طائل منها، كأن يقول أحدهم: أرم: في أي بلد؟ وكم طول أعمدتها؟ وطول الخضر عليه السلام ولون بشرته.. وأشياء لا طائل منها.

ولذلك يقول سيد قطب وهو يتحدث عن القرآن وعن حياته مع القرآن: إنني عشت وأنا في الطفولة مع القرآن، فكان للقرآن طعم خاص في قلبي يوم أن كنت أسمع القرآن مباشرة، فلما كبرت وأتيت أدرس القرآن في المدارس وجدت القرآن ممزقاً. أي: أن القرآن مزق ببعض كلام الإسرائيليات، والقصص والأحاديث، وكثرة إدخال النحو والصرف فيه، ونحن لا ننكر فائدة النحو والصرف واللغة، لكن أن يحوَّل القرآن إلى كتاب نحو كأنك تقرأ في كتاب سيبويه، أو يحول إلى كتاب تاريخ كأنه البداية والنهاية، أو كتاب جغرافيا كأنك تقرأ في الأطلس.. فهذا لم ينزل القرآن من أجله، إنما القرآن كما يقول أبو الأعلى المودودي في كتاب كيف تقرأ القرآن وهذا الكتاب له خصائص ليست في كتاب آخر، يقول: فأول خصيصة: ينبغي على قارئ القرآن أن ينزع كل تصور مسبق عن القرآن، فيأتي إلى القرآن وهو يتصور أنه كتاب الله، وأنه كتاب هداية.

الأمر الثاني: أن يعلم أن القرآن لا يوافق أي كتاب آخر من تأليف البشر، فإنهم في تآليفهم يقولون: في هذا البحث ثلاثة أبواب، وفي الباب الأول ثلاثة فصول، وفي الفصل الأول ثلاث فقرات وخاتمة، ومقدمة المشرف والأعضاء.. وهذا ليس في القرآن، يقول أبو الأعلى المودودي: بينما أنت تقرأ القرآن التربوي الرافع -أي: المتحدث- تقرؤه وهو يتحدث لك عن حدائق الدنيا، وعن النخيل والأعناب، وأصوت الأطيار وخرير الماء، وعن الزهور والورود، يريد أن يبين لك التوحيد، وإذا هو ينتقل بك إلى عذاب القبر.. وبينما يصيبك الخوف والوجل من عذاب القبر وتسأل الله العافية والسلامة، وإذا به يتركك من هذا المكان ويدخل بك على الملوك؛ ليعلمك كيف ينبغي أن يعيشوا، وأن يحكموا شرع الله، وعلى القضاة وماذا ينبغي عليهم من السياسات الشرعية.. وإذا به ينتقل بك إلى ساحة الجهاد، وصليل السيوف وضرب الرماح.. وأنت هناك، وإذا به يتركك وينتقل بك إلى البيت والمرأة، والطلاق والنكاح، وماذا ينبغي أن يعيش المسلم في بيته، وما هي الأمور التي ينبغي أن تحكم في البيت... هذا هو كتاب الله، لم يؤلف مثل تأليف البشر.

الأمر الثالث: أنه لم يتفرد في فن من فنون الدنيا.. ولقد ألف العلامة الكبير طنطاوي جوهري كتاباً في التفسير، وأراد الخير، لكن قالوا: في كتابه كل شيء إلا التفسير، أراد أن يفسر القرآن فأتى بكل شيء إلا التفسير، أتى حتى بالهندسة في القرآن، فهو: يستدل على أن هناك مثلثاً وأنه موجود بقوله سبحانه وتعالى: انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ [المرسلات:30] قال: هذا يدل على أن رسم المثلث زواياه منفرجة. والخط المستقيم هو أقرب خط بين نقطتين، لقوله سبحانه وتعالى:اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]. إلى أمور أخرى، وسبقه إلى ذلك الفخر الرازي، الذي قالوا فيه: إنه من أساطين الدنيا، وقد ألف كتاباً في التفسير يقع في ستة عشر مجلداً، لكنك إذا قرأته كأنك تقرأ في كتاب الطب أو في كتاب هندسة أو كتاب كيمياء أو فيزياء، وليس هناك إلا بعض اللمحات عن التفسير، حتى قالوا: فيه كل شيء إلا التفسير.

فالمقصود: إن القرآن ليس كتاب تاريخ، فلم يعتنِ بالتاريخ تلك العناية، ولم يخبرنا أن إبراهيم عليه السلام ولد عام كذا وكذا، وأنه كان طويلاً أو كان قصيراً، أو طوله كذا وكذا، أو عنده أبناء، وكان يفطر بكذا، ويتغدى بكذا، ويتعشى بكذا.. لم يخبرنا بشيء من ذلك.

وليس كتاب جغرافيا؛ فلم يخبرنا بالقارات ولا بالدول، وليس بكتاب هندسة؛ فلم يأت بالأشكال.. ولكنه كتاب هداية ونور وصلاح وفلاح، وهذه هي القضية الكبرى التي ينبغي أن تفهم.

موقف إبراهيم مع النمرود
أما مواقف إبراهيم في القرآن فهي كثيرة، وسأذكر لكم هذه المواقف لنتعلم عقيدة أهل السنة والجماعة من هذه المواقف، يقول بعض العلماء: حق على من أراد أن يتعلم العقيدة أن يتعلمها من مواقف الأنبياء في القرآن مع قومهم.

يقول الله سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258]. هذا النمرود بن كنعان الذي ملك الدنيا، يقول ابن عباس رضي الله عنهما، وقد ذكره ابن كثير في سيرة إبراهيم عليه السلام، قال: ملك الدنيا أربعة: مؤمنان وكافران، فأما المؤمن الأول فهو سليمان عليه السلام، قال الله عنه: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ص:35] الآخر: ذو القرنين عليه السلام.

وأما الكافران: فـالنمرود بن كنعان، وبختنصر، وقد أحسن الأخير؛ لأنه أباد اليهود من الأرض أول مرة، وهتلر أبادهم المرة الثانية، وينبغي لهم أن يبادوا مرة ثالثة؛ لأن الوتر مطلوب في الإسلام.. فـبختنصر قطع دابرهم وتتبعهم حتى قتلهم قتل عاد وثمود، وأتى هتلر -سود الله وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه- فأدخلهم وهم أحياء في الأفران، ولذلك إذا سمعوا بالنازية يغشى عليهم من الخوف والهلع.. وبقي لهم ثالث موحد يدوسهم على التراب أحفاد القردة الخنازير، وهذا قريب إن شاء الله.

فأتى إبراهيم عليه السلام ودخل على هذا الملك.. والله عز وجل أخبر عن الأنبياء أنهم يدخلون على السلاطين، وأنهم يتحدثون مع الطغاة، فقد أخبرنا أن إبراهيم دخل على النمرود، وأخبرنا أن موسى دخل على فرعون وسنقف مع القصتين لنرى ما هو الاختلاف بين الحوار والجدل، وما هي المناظرة التي وقعت، وما هي البينونة بين هذه القصة وبين تلك.. إبراهيم عليه السلام دخل على هذا الفاجر، فدعاه إلى الله عز وجل، قال الله عز وجل عنه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [البقرة:258] أي: أعطاه الله الملك، ثم حاج إبراهيم في ربه سبحانه وتعالى! كأن تقول لابنك -ولله المثل الأعلى-: أعطيتك، وشريت لك سيارة، ثم ما كان منك إلا أن تترك الفرائض وتترك مجالس الخير، وتذهب تعصي الله عز وجل وتضيع وقتك!

إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة:258] دخل إبراهيم وأراد أن يفحمه، فقال الملك: ما هي علامات ربك؟ قال: يحيي ويميت.. ولذلك موسى لم يقل هذا لفرعون؛ لأن فرعون درس في هذه المدرسة، فلو قال له ذلك لقال: أنا أحيي وأميت. فموسى عليه السلام تجنب هذا، لأنه ضيع الوقت مع فرعون.. فقال النمرود: أنا أحيي وأميت. قال: كيف تحيي وتميت؟ قال: تعالوا بأسيرين، فأخرجوا محبوسين من السجن، فقال: هذا سوف أحييه وأعتقه، فقد عفوت عنك، وهذا سوف أميته، فضربه بالسيف.. وهذا ليس في اللغة ولا في العقل ولا في النقل أنه إحياء وإماتة، لكنه فاجر مجاهر بالفجور، فما موقف إبراهيم عليه السلام؟ هل من الحكمة أن يقول: لا والله ليس هذا بإحياء وإماتة، ويضيع الوقت معه، ثم يحلف ذلك أن هذا إحياء وإماتة، ثم يقول: قدم شاهدين وأعطني بينة؟ لا. بل قال له: مادام أنك تحيي وتميت فما شاء الله تبارك الله عليك: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة:258] ولذلك يسمى هذا في الجدل (الإفحام) ومن أحسن من كتب فيه: الدكتور زاهر بن عوض الألمعي، في كتاب: الجدل في القرآن.. قال: مادام أن عندك هذه الإمكانيات والقدرات التي ما اكتشفناها إلا اليوم: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة:258] ولو كان يستطيع أن يواصل في هذه القضية لواصل، لكنه ما استطاع أن يرد: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258].

مقارنة موقف إبراهيم مع النمرود وموقف موسى مع فرعون
هذه هي المناظرة التي نجح فيها إبراهيم عليه السلام، أما موسى عليه السلام فأتى من نوع آخر، دخل على فرعون، ولما أصبح على العتبات، ماذا أوصاه الله عز وجل؟ هل قال له: ارفع صوتك، أو ثبت جنانك، أو هيئ خاطرك؟ لا.. إنما قال: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً [طه:44] ما ألطف الله بعباده! وما أحسن دعوة الرسل وما أحسن أسلوبهم في القرآن! فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]. من يدري؟ لعل الله أن يفتح عليه، ولذلك على الداعية ألا ييأس من الناس، فلو رأيت الإنسان يشرب الخمر ويزني ويسرق سبعين مرة، فلا تيأس منه، لأن مفاتيح القلوب بيد الله، قال: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44] قيل: يتذكر النعم، أو يخشى من العذاب.

فدخل موسى عليه السلام، فلما أصبح في الإيوان، ورأى الوزراء والأبهة والأمراء والسيوف والدولة والملك؛ خاف، قال الله: قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى [طه:45].

يخاطب ربه مع أخيه هارون، ويقولان: يا رب نخاف من هذا الفاجر أن يفرط، أي: يستعجل علينا، ولا يتركنا نُسلم عليه، ويمكن أن يحبسنا أو يضربنا ضرباً مبرحاً أَوْ أَنْ يَطْغَى [طه:45]: يتجاوز في العقوبة، فإذا كان استحقاقنا خمسين جلدة، يجلد كل واحد منا مائة جلدة، فيقول سبحانه وتعالى: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] أي: أنا معكم فلا تخافا، إنما تكلم والله معك.. فدخل عليه، وهو رجل شاب، وكان قد قتل واحداً منهم، ثم ذهب يرعى الغنم، وإذا به يأتي بإزار من صوف، ومعه عصا كان يرعى ويهش بها على الغنم، أتى من الصحراء ويدخل على هذا الطاغية، الذي ما يرى الشمس إلا من السنة إلى السنة من الرفاهية والكبر، فيأتي وإذا هو منتفش كالطاوس على كرسيه.

يقول الحسن البصري: قاتل الله فرعون! كان طياشاً -سفيهاً- لأن العاقل ولو كان كافراً فإنه يترك الإنسان المتحدث الوافد عليه حتى يتحدث، ولذلك ملوك العرب كانوا يتركون الوافد حتى يلقي ما عنده، ويشرح غرضه، ويلقي رسالته.. أما هذا فلما رأى موسى وهارون جلس وقال: من ربكما يا موسى؟ كان الواجب أن يتركهم حتى يتكلموا، لكنه قاطعهم فقال: من ربكما يا موسى؟ قال الزمخشري: فلله در جواب موسى من جواب. لم يقل: ربي الذي يحيي ويميت؛ لأنه سوف يضيع عليه الوقت كما ضيعه النمرود بن كنعان، وموسى عليه السلام قد درس رسالة إبراهيم، وعرف مجريات حياته ودقائقها، فإن الله يعلم كل رسول برسالة الآخر، فقال: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50] قال الزمخشري: لله درك من مجيب! ولله در جوابك ما أحسنه! فإن هذا هو الإفحام.

ذاك يدعي الألوهية، وعنده نهر صغير فقال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51] فأجراها الله من فوق رأسه: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50] ولم يقل: ربنا سميع وبصير... لأن أهل السنة والجماعة يقرون بصفات الله عز وجل، ويقرون كذلك بأن للمخلوق صفات، فهم يقولون: الله عالم، له علم يليق بجلاله، والإنسان عالم له علم يليق به، ويقولون: الله حليم، له حلم يليق بجلاله، والإنسان قد يكون حليماً له حلم يليق به... فلو أتى موسى عليه السلام، لكان ذلك مدخل لفرعون إلى قياس الاشتراك، فلو قال: ربي سميع، لقال فرعون: وأنا سميع، والناس سوف يصدقونه، ولو قال: ربي عليم، لقال فرعون: وأنا عليم، ولو قال: ربي حي، لقال فرعون وأنا حي... لكنه أتى بصفتين ليست في فرعون -لأنه يدعي الألوهية-فقال: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50] فعرف الكذاب أنه لا يعطي كل شيء خلقه ثم يهديه. وما فائدة قوله: ثُمَّ هَدَى [طه:50]؟ قالوا: هدى كل شيء إلى خلقه. يقول سبحانه وتعالى: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:3] ولما قرأ سيد قطب هذه الآية سال قلمه في سورة الأعلى فنسي نفسه، فأتى بصفحات في هداية الله للحيوانات، وأتى بأعاجيب يحسن بنا أن نعود إلى الظلال لنقرأ هذه القصص وهذه الأعاجيب، يقول: من هدى الأسماك حتى تهاجر من المحيط الهندي إلى المحيط الأطلسي في وقت البيض، فتبيض هناك لأن ذلك، المحيط يتجمد، فإذا فقست بيضها هاجرت هذه المواليد والزواحف لتعود إلى أمهاتها! ومن هدى الجراد أن يأتي في موسم الصيف، فيفر من بلد إلى بلد؟ ومن هدى النحلة حتى يقول كريسي موريسون، ينقل عنه سيد قطب يقول: لعل راداراً يوحي إلى هذه النحلة بمكانها، كيف تهاجر وتترك خليتها ثم تقطع آلاف الأميال وتعود إلى الخلية! قال سيد قطب: نعم. إن الله عز وجل يقول: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً [النحل:68-69].

الشاهد: أن موسى عليه السلام دمغه، فلما اندمغ احتار، ثم بعدها: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى [طه:51] يقول: إن كان الله عز وجل سوف يبعث الناس يوم القيامة، فأين تذهب القرون الأولى عندما تموت ولا تعود؟ فبإمكان موسى أن يقول له: ما دخلك يا حقير في هذه المسائل، لكنه تأدب في الخطاب؛ لأن الله أوصاه: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]

ولكن: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى [طه:52] ولله دره من جواب! فإنه لم يقل: لا يضل وسكت، لأنه لو قال: يضل وسكت؛ لقال الناس: إذاً ينسى، ولم يقل: لا ينسى وسكت؛ لأنه لو قال: لا ينسى وسكت، لقالوا: إذاً يضل، فنفى عنه الأمرين، نفى عن نفسه أن إذ وضع شيئاً في مكان فيضل عليه مكانها، أو ينسى أين وضعها.. بل هي في سجلات محفوظة عنده سبحانه وتعالى.

إبراهيم عليه السلام ومسألة إحياء الموتى
وهذا موقف ثان في القرآن يتحدث الله عنه باستفاضة..ففي آخر سورة البقرة يعرض الله عز وجل مشهد البعث والنشور للناس.. ويحسن بالداعية أن يستلهم هذه المواقف لعرض الدعوة على الناس؛ لأن مسألة البعث والنشور من أخطر المسائل في حياة الإسلام، فهما قضيتان: قضية توحيد الله عز وجل، وقضية الإيمان باليوم الآخر، يذكرهما الله عز وجل دائماً.

ولذلك يقول الله تعالى بعد قصة إبراهيم عليه السلام مع النمرود: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا [البقرة:259] وفي قراءة: (نُنشرها) أو (نَنشرها) ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259] قال بعض أهل العلم: إنه عزير، النبي الصالح من بني إسرائيل، خرج فمر بقرية كانت جميلة، ذات رواء، فيها أطيارها، وأشجارها وأنهارها، وفيها سكانها، ثم مر بها بعد فترة وإذا هي قد تهدمت، فلا أنيس فيها، ولا صائح ولا مجيب ولا حبيب ولا قريب، فالتفت إليها وقال: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا [البقرة:259].

وكان معه حماره، وعليه طعامه وشرابه -ولا يهمنا طعامه وشرابه من أي شيء يكون- فأراد الله عز وجل أن يعلمه، وكما يقول أحد الأساتذة الكبار الخطباء، قال: أدخل الله عزيراً في المختبر هو وحماره، فأخرجه وهو يؤمن بالله واليوم الآخر.. فأجرى عليه عملية الموت والإحياء.. مات الرجل ثم مات الحمار، والطعام والشراب في الخرج ما تغير بشيء.. وبعد مائة سنة أيقظ الله عز وجل هذا الرجل الصالح، فقال له: كم لثبت؟ فنظر إلى الشمس وكان الوقت بعد العصر، وكان قد توفي في الصباح -كما يقول أهل التفسير- ولما بعثه الله بعثه بعد العصر، فقال: لبثت يوماً أو بعض يوم. إما يوماً كاملاً، ولكن أخاف أني ما أكملت اليوم؛ لأن الشمس لم تغرب بعد، إذاً بعض يوم، وهذا من الورع والاحتياط في الحساب. فقال سبحانه وتعالى: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ [البقرة:259].

هذا الطعام موجود منذ مائة سنة، لم تتغير رائحته ولا طعمه، ولا لونه، ففتح فوجد اللحم كما هو، ووجد الماء والعصير كما هو لم يتغير، لكن الحمار غير موجود، لأنه لو كان الحمار موجوداً أمامه لشك كذلك في أنه بقي مائة سنة، فالتفت فلم يجد الحمار، ووجد العظام أمامه.. قال سبحانه تعالى: وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً [البقرة:259] قالوا: أعاد الله عز وجل الحمار أمامه، فركب العظام وهو ينظر -بعد أن علم أن الحمار غير موجود- ثم كساه الله لحماً -كما ذكر سبحانه وتعالى في الخلق- فلما كسي لحماً ركب أعصابه فيه، ثم أعطاه دماً، ثم أعطاه جلده وشعره، ثم خلق فيه الروح؛ فانتفض الحمار، فإذا هو حي أمامه.. هل في ذلك شك؟!

.. وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا [البقرة:259] قيل: ننشزها: نركب بعضها في بعض، أو نحييها، وقيل: ننشرها بعد أن ماتت.. فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259].

ثم قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى [البقرة:260] قال المفسرون: مر إبراهيم عليه السلام بجيفة ميت، قيل: إنه حيوان ميت على ساحل البحر، وإذا بالغراب ينهش منه ويذهب، والحدأة تأكل منه، والنسور والطيور وغيرها، فقال إبراهيم: سبحان الله! الله عز وجل يحيي الأموات بعد أن تموت، ولحوم هذه تذهب في بطون هذه كيف ذلك؟

.. وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَال أَوَلَمْ تُؤْمِنْ [البقرة:260] أنت أستاذ التوحيد، الذي تربي الناس على التوحيد والعقيدة وتتكلم بهذا الكلام؟! أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260].

ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {ليس الخبر كالمعاينة} وقال كما في صحيح البخاري: {نحن أولى بالشك من إبراهيم} أي: لو كان إبراهيم شاكاً لشككنا نحن، وهذا من تواضع الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنه يقول: إبرهيم أقوى منا إيماناً، وأعرف منا بالتوحيد، وأقوى يقيناً، فلو شك لشككنا، فنحن أولى بالشك منه.

قال الله عز وجل: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260] قد آمنت لكن أريد يقيناً عندما أرى الأمر مباشرة.. فأجرى الله سبحانه وتعالى عملية البعث بين يديه، ولم يقل له: إني سوف أحيي فلاناً أو فلاناً، لكن: قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ [البقرة:260] وقد اختلف أهل التفسير في الطير، وقد ذكره صاحب فتح القدير، فقال بعضهم: هي بط ووزة وحمام ودجاج، وقال بعضهم: ليس فيها أوز، فيها حمام زاجل، وقال بعضهم: بل فيها نسر، وقال بعضهم: بل حدأة وغراب.. وهذا ليس فيه طائل، وإنما هي أربعة أصناف من الطيور.. قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ [البقرة:260] الصر: هو القطع، وقيل: هو الضم.. وما أحسن أسلوب القرآن! فإن الله عز وجل لا يتكلم في القرآن إلا بالجملة الراقية العظيمة التي تملأ الأذنين جلالة وتملأ القلب محبة ورهبة.. ولذلك انظر كيف يتحدث القرآن بكلام لو تحدث عنه الناس بهذا الأسلوب، لتبدل الكلام، ألم يقل الله سبحانه وتعالى: وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق:10]. فلو تحدثنا عنه لقلنا: والنخل طويلات، لها ثمر طيب.. لكن الله سبحانه وتعالى قال: باسقات، جمع باسقة، في بلاغة وإبداع! وقال: لها طلع، ولم يقل: ثمر، لأن الطلع فيه حياء ورواء وإجماع للذهن، وإحياء للقلب، وقال: نضيد؛ كأنه حب منضود، أو كأنه عقد نقض بعضه على بعض.. فسبحان من أنزل هذا القرآن!

فأخذ إبراهيم عليه السلام الطيور الأربعة، فقطعها، ثم جمع جثثها، شعرها ولحمها ودمها وعظامها، جمعها وخلطها، ثم وزعها على رءوس الجبال، وكانت رءوسها عنده، ثم نزل إلى الوادي والجبال حوله، ثم دعا وقال: تعالي باسم الله؛ فأخذ كل عضو يأتي إلى مكانه.. الجناح يأتي حتى يرجع إلى مكانه، ويأتي الشعر إلى مكانه... وهكذا حتى رفرفت ثم خرجت من بين يديه فإذا هي أحياء بإذن الله.

قال الله: ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً [البقرة:260] ولم يقل: يأتينك على مهل، أو يأتينك يتدحرجن؛ وذلك لأن السعي فيه معنى الحياة.. قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:82-83]. ثم قال الله تعالى: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:260] لماذا قال الله في هذه الآية: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:260] وقال عند عزير: قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259]؟

الآيتان وراء بعض، والقدرة والحكمة وجدت هنا وهناك، فلماذا هذا الاختلاف؟

الجواب: عزير كان عنده شك في إحياء القرية، فناسب أن يقول: أعلم أن الله على كل شيء قدير، ليقرر له حقيقة القدرة، وإبراهيم عليه السلام لما قال الله عز وجل له: قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى [البقرة:260] فهو قد نفى عن نفسه الشك، فما يناسب أن يقول: أعلم أن الله على كل شيء قدير؛ لأنه قد علم، لكنه قال له: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:260] فهو صاحب عزة وحكمة، فناسب أن يختم هذه بهذه، وهذه بهذه.. ولذلك أنا أنصح نفسي وإياكم بالاعتناء بخواتم الآيات؛ لأنها ما تأتي إلا لحكمة، فالله عز وجل إذا ذكر المغفرة والتوبة في سياق الآيات قال: والله غفور رحيم، وإذا ذكر الحدود والعزة والحكمة قال: والله عزيز حكيم، وإذا ذكر الرزق والعلم والعطية والإذن قال: الفتاح العليم الوهاب، سبحانه وتعالى.

سمع أعرابي قارئاً يقرأ من حفظه قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38] إلى قوله تعالى وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]. فقال القارئ: والله غفور رحيم. فقال الأعرابي: لا يكون هذا أبداً، قال القارئ: ولم؟ قال: لأنه لا تأتي المغفرة والرحمة بعد هذا، إنما الذي يناسب هو العزة والحكمة. فرجع إلى المصحف فوجدها كما قال الأعرابي وهذا من حكمة الله عز وجل في كتابه الكريم.

الكلمات التي ابتلى إبراهيمَ ربُهُ بها
يقول الله سبحانه في موقف آخر مع إبراهيم: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً [البقرة:124].

إبراهيم هنا هو المفعول فهو الذي ابتلاه الله سبحانه وتعالى بكلمات.. وبماذا ابتلاه سبحانه وتعالى؟ وما هي هذه الكلمات؟

قيل: هي قوله تعالى: قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً [البقرة:124].

القول الثاني: أنها أوائل سورة المؤمنون، قال ابن عباس: [[ابتلاه الله عز وجل بثلاثين آية، من أول سورة المؤمنون، - ترفع على الحكاية- وعشر من سورة الأحزاب: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:35]... والبقية، وعشر من سورة المعارج وسورة التوبة]]

وقيل: ابتلاه بخصال الفطرة، وهي: قص الشارب، وتقليم الأظافر، والوضوء.

والأحسن أن يقال: ابتلاه عز وجل بالتكاليف الشرعية، فقام بها على أحسن قيام؛ فجعله الله للناس إماماً، ومن قام بالتكاليف الشرعية جعله الله للناس إماماً... وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124] أي: واجعل من ذريتي أئمة؛ فأجابه الله: قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124] أي أن كل ظالم ولو كان من ذريتك لا يناله العهد، ولا يناله التوفيق ولا الهداية ولا السداد.. هذه من مواقف إبراهيم في القرآن.

إبراهيم وإلقاؤه في النار
ومن مواقفه: إلقاؤه في النار.. وهو من أعظم المواقف التي تعرض لها في حياته، والتي أظهرت فضله ومنزلته، والعجيب أنه لما ألقي في النار تخلى عنه كل أحد إلا الله عز وجل، فأتاه جبريل وقال له: هل لك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم. فلما ألقي قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فجعلها الله برداً وسلاماً عليه، ولو جعلها برداً فقط لمزقته بالبرودة والزمهرير.. ولو جعلها سلاماً فقط لاقتضى أن يكون فيها حرارة، ولكن جعلها برداً وسلاماً؛ فخرج بإذن الله، وسلمه الله عز وجل، وكرر الله هذه القصة لأوليائه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

خصائص إبراهيم عليه السلام وصفاته في القرآن
يتميز إبراهيم عليه السلام في القرآن عن الأنبياء بثلاث ميز:

الأولى: أن الله ذكر بعض صفاته كثيراً أكثر من غيره من الأنبياء.

الثانية: أنه عرض دعوته بالآيات والتفكر في مخلوقات الله أكثر من غيره.

الثالثة: أنه واجه صعوبات مع أبيه ومع بيته قبل أن يذهب إلى الناس.. ولذلك يذكره الله عز وجل كثيراً، يقول الله عز وجل عنه: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود:75] أواه: أي: كثير التأوه من الذنوب، وقيل: كثير الاستغفار، وقيل: كثير التوبة.. حليم: أي: أنه شفيق رحيم.. فإن الله تعالى ذكر هذه الآية بعد قصة ذهاب الملائكة إلى قوم لوط ليدمروهم، فأشفق عليهم إبراهيم عليه السلام، وأخذ يجادل فيهم... القوم مهلكون، وإبراهيم عليه السلام قام وترك الغداء معهم وقام يجادلهم في قوم بلغوا من إجرامهم كل مبلغ، فهذه علامة الحلم.

وقد ذكره الله في الشجاعة فقال: فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ [الصافات:93]. وذلك عندما ذهبوا إلى عيدهم، فأتى بفأس فمال على الأصنام فضربها حتى كسرها، وكانت من زبرجد ومن زجاج ومن ذهب وفضة، وأخذ الفأس فعلقه على الكبير الأبله، فأتوا إليه، ومن حقارتهم أنهم يهونون من شأن مخالفيهم: قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:60].

لأن أهل الضلال الآن إذا سمعوا بأهل الإصلاح وأهل الخير قالوا: هناك أناس يدعون أنهم سوف يدعون إلى الله عز وجل وينشرون العلم، والصهيونية العالمية تفعل هذا مع الدول الإسلامية، وتهون من شأنها، وأما نحن إذا أخبرنا عنهم فنقول: الإرهابيون، القتلة، حتى نخوف نساءنا وأطفالنا منهم، فنتصورهم في المنام، وهم يهونون من شأننا.

وإبراهيم عليه السلام له روغتان: روغة شجاعة، وروغة كرم.. قال تعالى: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:26] أي: من روغته وسرعته أتى بعجل.

إذاً: من صفاته: الكرم والشجاعة والحلم.. وهذه ميزة القيادي، وقد كانت موجودة في أبي بكر، فقد قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري: {يا أبا بكر! إن فيك شبه من إبراهيم عليه السلام} أو نحواً من هذا.

أثر بركة إبراهيم عليه السلام في مكة
ولما أتى إبراهيم عليه السلام إلى مكة ترك الأثر العجيب المبارك إلى قيام الساعة، ولا بد أن أستعرض معكم في هذه العجالة بعض المسائل:

أولاً: ما جاء في ماء زمزم وفضلها: فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ماء زمزم شفاء سقم، وطعام طُعم) فهو يشفي -بإذن الله- السقيم لمن تعالج به وعرف قدره، قال ابن القيم: وأتاني مرض أعيا الأطباء، فنزلت وأخذت من ماء زمزم، ورقيت نفسي فتشافيت بإذن الله.. فمن أحسن ما يستشفى به الاستشفاء بماء زمزم، ومن استشفى به شفاه الله عز وجل بإذنه سبحانه.

وطعام طعم، أي: أنه يكفيك عن الطعام، وأنك لو بقيت على ماء زمزم لشبعت بإذن الله، إن كنت تقصد الإشباع، فقد جاء في الحديث: (ماء زمزم لما شرب له) وقد بقي عليه أبو ذر أربعين ليلة، يقول: حتى تكسرت عكن بطني من السمن.

ومن المسائل: هل يجوز أن يتوضأ بماء زمزم أم لا يجوز؟

المسألة خلافية بين أهل العلم: فبعضهم كره أن تتوضأ منه؛ لأنه ماء طاهر مبارك، فلا يمتهن بالوضوء.. والصحيح أنه يتوضأ منه، فقد جاء في مسند الإمام أحمد من حديث علي وأسامة بن زيد (أن الرسول عليه الصلاة والسلام توضأ وشرب من ماء زمزم) وقد ورد أن الرسول عليه الصلاة والسلام أدخل أصابعه في الصحفة فبارك الله في الماء الذي خرج من أصابعه، فتوضأ الناس من هذا الماء، وهو أشرف من ماء زمزم، فمن باب أولى أن يتوضأ منه، وكذلك يجوز أن يغتسل به من الجنابة، وهذا هو الصحيح إن شاء الله.

وكيف شرب الرسول صلى الله عليه وسلم منه؟ ثبت أنه شرب منه واقفاً.. قيل: لكثرة الزحام، وقيل: لعجلته صلى الله عليه وسلم، وقيل: ليبين الجواز، وهذا كله وارد، فمن شرب مرة واقفاً فقد خالف الأولى، والأحسن أن يشرب جالساً، ومن كان في زحام أو مشقة أو عجلة فله ذلك.

المسالة الثانية: تحريم مكة على لسان إبراهيم ودعوته لها بالبركة، فإنه حرمها ودعا لأهلها بالبركة، فبارك الله فيها، ولذلك عندما قال إبراهيم لزوجة إسماعيل: ما طعامكم؟ قالت: اللحم والماء. قال: هل لكم طعام غيره؟ قالت: لا. ليس لنا إلا اللحم والماء. فدعا لهم بالبركة فيه قال ابن عباس: فما ينفرد أحد من الناس في غير مكة باللحم والماء إلا لم يوافقاه، إلا في مكة فيوافق العبد اللحم والماء. فلا يستطيع الإنسان أن يعيش دائماً على لحم وماء إلا في مكة.

المسألة الثالثة: فضل الزوجة الصالحة، وأنها علامة الخير.. وإذا آنست المرأة زوجها بالصلاح وأظهرت له الخير والبركة، بارك الله في البيت، ولذلك إبراهيم عليه السلام أمر إسماعيل عليه السلام أن يطلق امرأته الأولى؛ لأنها دائماً تتشاءم، فالخير موجود ومبذول، والماء كثير، والبيت واسع، ولكنها دائماً تقول: بيتنا ضيق، وسيارتنا لا تصلح، وأثاثنا من أخس الأثاث، ونحن في شدة وفي ضنك، والناس مرتاحون إلا نحن... فهذه ليس فيها خير ولا بركة.. فإن المرأة الصالحة ولو كانت تأكل خبز الشعير فإنها تحمد الله، وتقول: نحن في نعمة وارفة، وفي ظل ممدود، ونحن في بركة وخير، وهذه هي علامة الخير والبركة.

ومن المسائل: فضل التوكل على الله عز وجل، فإن إبراهيم ترك أهله وترك زوجته وطفله وذهب متوكلاً على الله فحفظهم الله.

HAFID JAJA
2015-08-04, 09:28
راااااااااااااائع

sallah eddine
2015-08-04, 15:46
بارك الله فيكم

همسات ايمانية
2015-08-06, 21:07
قصة سيدنا يوسف 1
قال تعالى :

{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ، قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشّيْطان لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ، وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.

القصة:
كان ليعقوب من البنين اثنا عشر ولداً ذكراً ، وإليهم تنسب أسباط بني إسرائيل كلهم، وكان أشرفهم وأجلهم وأعظمهم يوسف عليه السلام.

وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنه لم يكن فيهم نبي غيره، وباقي اخوته لم يَوْحَ إليهم.

وظاهر ما ذكر من فعالهم ومقالهم في هذه القصة يدل على هذا القول.

ومن استدل على نبوتهم بقوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} وزعم أن هؤلاء هم الأسباط، فليس استدلاله بقوى، لأن المراد بالأسباط شعوب بني إسرائيل وما كان يوجد فيهم من الأنبياء الذين ينزل عليهم الوحي من السماء والله أعلم.

ومما يؤيد أن يوسف عليه السلام هو المختص من بين اخوته بالرسالة والنبوة - أنه ما نص على واحد من اخوته سواه فدل على ما ذكرناه.

ويستأنس لهذا بما قال الإمام أحمد: حَدَّثَنا عبد الصمد، حَدَّثَنا عبد الرحمن، عن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم".

انفرد به البُخَاريّ. فرواه عن عبد الله بن محمد وعبدة عن عبد الصمد بن عبد الوارث به وقد ذكرنا طرقه في قصة إبراهيم بما أغنى عن إعادته هنا. ولله الحمد والمنة.

قال المفسرون وغيرهم: رأى يوسف عليه السلام وهو صغير قبل أن يحتلم، كأن أحد عشر كوكباً، وهم إشارة إلى بقية إخوته، والشمس والقمر وهما عبارة عن أبويه، قد سجدوا له فهاله ذلك.

فلما استيقظ قصها على أبيه، فعرف أبوه أنه سينال منزلة عالية ورفعة عظيمة في الدنيا والآخرة، بحيث يخضع له أبواه وأخوته فيها. فأمره بكتمانها وألا يقصها على أخوته؛ كي لا يحسدوه ويبغوا له الغوائل ويكيدوه بأنواع الحيل والمكر.

وهذا يدل على ما ذكرناه.

ولهذا جاء في بعض الآثار: "استعينوا على قضاء حوائجكم بكتمانها فإن كل ذي نعمة محسود".

وعند أهل الكتاب أنه قصها على أبيه وأخوته معاً. وهو غلط منهم.

{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} أي وكما أراك هذه الرؤية العظيمة، فإذا كتمتها {يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} أي يخصك بأنواع اللطف والرحمة، {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} أي يفهمك من معاني الكلام وتعبير المنام ما لا يفهمه غيرك.

{وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} أي بالوحي إليك {وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} أي بسببك، ويحصل لهم بك خير الدنيا والآخرة. {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} أي ينعم عليك ويحسن إليك بالنبوة، كما أعطاها أباك يعقوب، وجدك اسحاق، ووالد جدك إبراهيم الخليل، {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}.

ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل أي الناس أكرم؟ قال: "يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله".

وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما، وأبو يعلى والبزار في مسنديهما، من حديث الحكم بن ظهير - وقد ضعفه الأئمة - على السُّدِّي عن عبد الرحمن بن سابط، عن جابر قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود يقال له: بستانة اليهودي، فقال: يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف أنها ساجدة له ما أسماءها؟ قال: فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه بشيء، ونزل جبريل عليه السلام بأسمائها، قال: فبعث إليه رسول الله فقال: "هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسماءها؟" قال: نعم. فقال: هي جريان، والطارق، والذيال، وذو الكتفان، وقابس، ووثاب، وعمودان، والفيلق، والمصبح، والضروح، وذو الفرع. والضياء، والنور".

فقال اليهودي: أي والله إنها لأسماؤها. وعند أبي يعلى فلما قصها على أبيه قال: هذا أمر مشتت يجمعه الله والشمس أبوه والقمر أمه.‏


قال تعالى {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَاخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ، إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ، قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ}.

ينبه تعالى على ما في هذه القصة من الآيات والحكم، والدلالات والمواعظ والبينات. ثم ذكر حسد إخوة يوسف له على محبة أبيه له ولأخيه - يعنون شقيقه لأمه بنيامين - أكثر منهم، وهم عصبة أي جماعة يقولون: فكنا نحن أحق بالمحبة من هذين {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي بتقديمه حبهما علينا.

ثم اشتوروا فيما بينهم في قتل يوسف أو إبعاده إلى أرض لا يرجع منها ليخلو لهم وجه أبيهم أي لتتمحض محبته لهم وتتوفر عليهم، وأضمروا التوبة بعد ذلك.

فلما تمالأوا على ذلك وتوافقوا عليه {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} قال مجاهد: هو شمعون، وقال السُّدِّي: هو يهوذا، وقال قتادة ومُحَمْد بن إسحاق: هو أكبرهم روبيل: {لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} أي المارة من المسافرين {إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ} ما تقولون لا محالة، فليكن هذا الذي أقول لكم، فهو أقرب حالاً من قتله أو نفيه وتغريبه.

فأجمعوا رأيهم على هذا، فعند ذلك {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ، أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ، قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ}. طلبوا من أبيهم أن يرسل معهم أخاهم يوسف، وأظهروا له أنهم يريدون أن يرعى معهم وأن يلعب وينبسط، وقد أضمروا له ما الله به عليم.

فأجابهم الشيخ، عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم: يا بني يشق عليَّ أن أفارقه ساعة من النهار، ومع هذا أخشى أن تشتغلوا في لعبكم وما أنتم فيه، فيأتي الذئب فيأكله، ولا يقدر على دفعه عنه لصغره وغفلتكم عنه.

{قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ} أي لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا، أو اشتغلنا عنه حتى وقع هذا ونحن جماعة، إنا إذن لخاسرون، أي عاجزون هالكون.

وعند أهل الكتاب: أنه أرسله وراءهم يتبعهم، فضل عن الطريق حتى أرشده رجل إليهم. وهذا أيضاً من غلطهم وخطئهم في التعريب؛ فإن يعقوب عليه السلام كان أحرص عليه من أن يبعثه معهم، فكيف يبعثه وحده.‏


{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ، وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ، قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ، وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.


لم يزالوا بأبيهم حتى بعثه معهم، فما كان إلا أن غابوا عن عينيه، فجعلوا يشتمونه ويهينونه بالفعال والمقال، وأجمعوا على إلقائه في غيابت الجب، أي في قعره على راعونته، وهي الصخرة التي تكون في وسطه يقف عليها المائح، وهو الذي ينزل ليملي الدّلاء، إذا قلَّ الماء، والذي يرفعها بالحبل يسمّى الماتح.

فلمّا ألقوه فيه أوحى الله إليه: أنه لا بدّ لك من فرجٍ ومخرج من هذه الشدة التي أنت فيها، ولتخبرن أخوتك بصنيعهم هذا، في حالٍ أنت فيها عزيز، وهم محتاجون إليك خائفون منك {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}.

قال مجاهد وقتادة: وهم لا يشعرون بإيحاء الله إليه ذلك. وعن ابن عبَّاس {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}، أي لتخبرنهم بأمرهم هذا في حال لا يعرفونك فيها. رواه ابن جرير عنه.

فلما وضعوه فيه ورجعوا عنه أخذوا قميصه فلطّخوه بشيءْ من دمٍ ورجعوا إلى أبيهم عشاء وهم يبكون، أي على أخيهم. ولهذا قال بعض السلف: لا يغرّنك بكاء المتظلم فربَّ ظالم وهو باك، وذكر بكاء إخوة يوسف، وقد جاءوا أباهم عشاءً يبكون، أي في ظلمه الليل ليكون أمشي لغدرهم لا لعذرهم.

{قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا} أي ثيابنا {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} أي في غيبتنا عنه في استباقنا، وقولهم: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} أي وما أنت بمصدق لنا في الذي أخبرناك من أكل الذئب له، ولو كنّا غير متهمين عندك، فكيف وأنت تتهمنا في هذا؟ فإنك خشيت أن يأكله الذئب، وضمّنا لك أن لا يأكله لكثرتنا حوله، فصرنا غير مصدقين عندك فمعذور أنت في عدم تصديقك لنا والحالة هذه. {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} أي مكذوب مفتعل، لأنهم عمدوا إلى سخلة ذبحوها فأخذوا من دمها فوضعوه على قميصه ليوهموه أنه أكله الذئب، قالوا: ونسوا أن يخرّقوه، وآفة الكذب النسيان. ولما ظهرت عليهم علائم الريبة لم يَرُجْ صنيعهم على أبيهم، فإنه كان يفهم عداوتهم له، وحسدهم إياه على محبته له من بينهم أكثر منهم، لما كان يتوسّم فيه من الجلالة والمهابة التي كانت عليه في صغره لما يريد الله أن يخصه به من نبوته. ولما راودوه عن أخذه، فبمجرد ما أخذوه أعدموه وغيبوه عن عينيه وجاؤوا وهم يتباكون، وعلى ما تملأوا يتواطؤن ولهذا {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.

وعند أهل الكتاب: أن روبيل أشار بوضعه في الجب ليأخذه من حيث لا يشعرون، ويرده إلى أبيه، فغافلوه وباعوه لتلك القافلة. فلما جاء روبيل آخر النهار ليخرج يوسف لم يجده فصاح وشق ثيابه. وعمد أولئك إلى جَدْيٍ فذبحوه ولطّخوا من دمه جبةَ يوسف. فلّما علم يعقوب شقَ ثيابه ولبس مئزراً أسود، وحزن على ابنه أياماً كثيرة.

وهذه الركاكة جاءت من خطئهم في التعبير والتصوير.‏


{وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ، وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ، وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.

يخبر تعالى عن قصة يوسف حين وضع في الجب أنه جلس ينتظر فرج الله ولطفه به فجاءت سيّارة، أي مسافرون.قال أهل الكتاب كانت بضاعتهم من الفستق والصنوبر والبطم، قاصدين ديار مصر، من الشام، فأرسلوا بعضهم ليستقوا من ذلك البئر، فلما أدلى أحدُهم دلوه، تعلَّق فيه يوسف.

فلما رآه ذلك الرجل: {قَالَ يَا بُشْرَى} أي يا بشارتي {هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} أي اوهموا انه معهم غلام من جملة متجرهم، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي هو عالم بما تمالأ عليه اخوته وبما يُسِرُّهُ واجدوه، من انه بضاعةٌ لهم، ومع هذا لا يغيّره تعالى، لماله في ذلك من الحكمة العظيمة، والقَدَر السابق، والرحمة بأهل مصر، بما يجري الله على يدي هذا الغلام الذي يدخلها في صورة أسير رقيق، ثم بعد هذا يملّكُه أزمة الأمورِ، وينفعهم الله به في دنياهم وأخراهم بما لا يُحَدّ ولا يوصف.

ولما استشعر أخوة يوسف بأخذ السيارة له، لحقوهم وقالوا: هذا غلامنا أبق منا فاشتروه منهم بثمن بخس، أي قليل نزر، وقيل: هو الزَّيف {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ}.

قال ابن مسعود وابن عبَّاس ونوف البكالي والسُّدِّي وقتادة وعطية العوفي: باعوه بعشرين درهماً اقتسموها درهمين. وقال مجاهد: اثنان وعشرون درهماً. وقال عكرمة ومُحَمْد بن إسحاق: أربعون درهماً، فالله أعلم.

عزيز مصر:


{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} أي أحسني إليه {عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} وهذا من لطف الله به ورحمته وإحسانه إليه بما يريد أن يؤهله له، ويعطيه من خيري الدنيا والآخرة.

قالوا: وكان الذي اشتراه من أهل مصر عزيزها، وهو الوزير بها الذي {تكون} الخزائن مسلمة إليه. قال ابن إسحاق: واسمه أطفير بن روحيب، قال: وكان ملك مصر يومئذ الريان بن الوليد، رجل من العماليق، قال: واسم امرأة العزيز راعيل بنت رعاييل. وقال غيره: كان اسمها زليخا، والظاهر أنه لقبها. وقيل: "فكا" بنت ينوس، رواه الثعلبي عن ابن هشام الرفاعي.

وقال مُحَمْد بن إسحاق، عن مُحَمْد بن السائب، عن أبي الصالح، عن ابن عبَّاس: كان اسم الذي باعه بمصر، يعني الذي جلبه إليها مالك بن ذعر بن نويب بن عفقا بن مديان بن إبراهيم، فالله أعلم.

وقال ابن إسحاق عن أبي عبيدة عن ابن مسعود، قال: أفرس الناس ثلاثة: عزيز مصر حين قال لامرأته اكرمي مثواه، والمرأة التي قالت لأبيها عن موسى {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} وأبو بكر الصديق حين استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.


ثم قيل: اشتراه العزيز بعشرين ديناراً. وقيل: بوزنه مسكاً، ووزنه حريراً، ووزنه وَرِقاً. فالله أعلم.

وقوله: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} أي وكما قيضنا هذا العزيز وامرأته يحسنان إليه، ويعتنيان به مكنا له في أرض مصر {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} أي فهمها. وتعبير الرؤيا من ذلك {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ}، أي إذا أراد شيئاً فإنه يقيض له أسباباً وأموراً لا يهتدي إليها العباد، ولهذا قال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.

{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} فدل على أن هذا كله كان وهو قبل بلوغ الأشد، وهو حد الأربعين الذي يوحي الله فيه إلى عباده النبيين عليهم الصلاة والسلام من رب العالمين.

وقد اختلفوا في مدة العمر الذي هو بلوغ الأشد، فقال مالك وربيعة وزيد بن أسلم والشَّعبي: هو الحلم، وقال سعيد بن جبير، ثماني عشرة سنة، وقال الضحاك: عشرون سنة، وقال عكرمة: خمس وعشرون سنة، وقال السُّدِّي: ثلاثون سنة. وقال ابن عبَّاس ومجاهد وقتادة، ثلاث وثلاثون سنة، وقال الحسن أربعون سنة. ويشهد له قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً}.‏

همسات ايمانية
2015-08-06, 22:03
سيدنا يوسف وإمرأة العزيز:

{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ، وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ، وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ، فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ، يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنْ الْخَاطِئِينَ}.

يذكر تعالى ما كان من مراودة امرأة العزيز ليوسف عليه السلام عن نفسه، وطلبها منه ما لا يليق بحاله ومقامه، وهي في غاية الجمال والمال والمنصب والشباب، وكيف غلقت الأبواب عليها وعليه، وتهيأت له، وتصنعت ولبست أحسن ثيابها وأفخر لباسها، وهي مع هذا كله امرأة الوزير. قال ابن إسحاق: وبنت أخت الملك الريان بن الوليد صاحب مصر.

وهذا كله مع أن يوسف عليه السلام شابً بديع الجمال والبهاء، إلا انه نبي من سلالة الأنبياء، فعصمه ربُّه عن الفحشاء. وحماه عن مكر النساء. فهو سيد السادة النجباء السبعة الأتقياء. المذكورين في "الصحيحين" عن خاتم الأنبياء. في قوله عليه الصلاة والسلام من رب الأرض والسماء: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ورجل معلق قلبه بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه وشاب نشأ في عبادة الله ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله".


والمقصود أنها دعته إليها وحرصت على ذلك أشد الحرص، فقال: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي}. يعني زوجها صاحب المنزل سيدي {أَحْسَنَ مَثْوَايَ} أي احسن إلي واكرم مقامي عنده {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} وقد تكلمنا على قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} بما فيه كفاية ومقنع في التفسير.

وأكثر أقوال المفسرين ها هنا متلقى من كتب أهل الكتاب فالإعراض عنه أولى بنا.

والذي يجب أن يعتقد أن الله تعالى عصمه وبرّأه ونزّهه عن الفاحشة وحماه عنها وصانه منها. ولهذا قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}.

{وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} أي هرب منها طالباً الباب ليخرج منه فراراً منها فاتبعته في أثره {وَأَلْفَيَا} أي وجدا {سَيِّدَهَا} أي زوجها {لَدَى الْبَابِ}، فبدرته بالكلام وحرّضته عليه {قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. اتهمته وهي المتهمة، وبرأت عرضها، ونزهت ساحتها، فلهذا قال يوسف عليه السلام: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} احتاج إلى أن يقول الحق عند الحاجة.

{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} قيل: كان صغيراً في المهد قاله ابن عبَّاس. وروي عن أبي هريرة، وهلال بن يساف، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، والضحاك واختاره ابن جرير. وروى فيه حديثاً مرفوعاً عن ابن عبَّاس ووقفه غيره عنه.


وقيل: كان رجلاً قريباً إلى أطفير بعلها. وقيل قريباً إليها. وممن قال: إنه كان رجلاً: ابن عبَّاس وعكرمة ومجاهد والحسن وقتادة والسُّدِّي ومُحَمْد بن إسحاق وزيد بن أسلم.

فقال: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ}. أي لأنه يكون قد راودها فدافعته حتى قدَّت مقدم قميصه {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ} أي لأنه يكون قد هرب منها فاتّبعته وتعلّقت فيه فانشق قميصه لذلك، وكذلك كان. ولهذا قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} أي هذا الذي جرى من مكركن، أنتِ راودتيه عن نفسه. ثم اتهمته بالباطل.
ثم أضرب بعلها عن هذا صفحاً، فقال: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} أي لا تذكره لأحد، لأنَّ كتمان مثل هذه الأمور هو الأليق والأحسن، وأمرها بالاستغفار لذنبها الذي صدر منها، والتوبة إلى ربِّها فإنَّ العبد إذا تاب إلى الله تاب الله عليه.
وأهل مصر وإن كانوا يعبدون الأصنام إلاّ انهم يعلمون أن الذي يغفر الذنوب ويؤاخذ بها هو الله وحده لا شريك له في ذلك. ولهذا قال لها بعلها، وعذرها من بعض الوجوه، لأنها رأت ما لا صبر لها على مثله، إلا انه عفيف نزيه برئ العرض سليم الناحية، فقال: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنْ الْخَاطِئِين}.‏
{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَاعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ، قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ، قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ، فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
يذكر تعالى ما كان من قبل نساء المدينة، من نساء الأمراء، وبنات الكبراء في الطعن على امرأة العزيز، وعيبها والتشنيع عليها، في مراودتها فتاها، وحبها الشديد له، وهو لا يساوي هذا، لأنه مولى من الموالي، وليس مثله أهلاً لهذا، ولهذا قلن: {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي في وضعها الشيء في غير محله.
{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنّ} أي بتشنيعهن عليها والتنقص لها والإشارة إليها بالعيب، والمذمة بحب مولاها، وعشق فتاها، فأظهرن ذماً، وهي معذورة في نفس الأمر، فلهذا أحبت أن تبسط عذرها عندهن، وتتبيّن أن هذا الفتى ليس كما حسبن، ولا من قبيل ما لديهن. فأرسلت إليهن فجمعتهن في منزلها، واعتدت لهن ضيافة مثلهن، وأحضرت في جملة ذلك شيئاً مما يقطع بالسكاكين، كالأترجّ ونحوه، وأتت كل واحدة منهن سكّيناً، وكانت قد هيّأت يوسف عليه السلام وألبسته أحسن الثياب، وهو في غاية طراوة الشباب، وأمرته بالخروج عليهن بهذه الحالة، فخرج وهو أحسن من البدر لا محالة.
{فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} أي أعظمنه وأجللنه، وهِبْنَه، وما ظنن أن يكون مثل هذا في بني آدم، وبهرهن حسنه، حتى اشتغلن عن أنفسهن وجعلن يحززن في أيديهن بتلك السكاكين، ولا يشعرن بالجراح {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ}.
وقد جاء في حديث الإسراء "فمررت بيوسف وإذا هو قد أعطي شطر الحسن".
قال السهيلي وغيره من الأئمة، معناه أنه كان على النصف من حسن آدم عليه السلام. لأن الله تعالى خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، فكان في غاية نهايات الحسن البشري، ولهذا يدخل أهل الجنَّة الجنَّة على طول آدم وحسنه، ويوسف كان على النصف من حسن آدم، ولم يكن بينهما احسن منهما، كما أنه لم تكن أنثى بعد حَوَّاء أشبه بها من سارة امرأة الخليل عليه السلام.
قال ابن مسعود: وكان وجه يوسف مثل البرق، وكان إذا أتته امرأة لحاجة غطَّى وجهه. وقال غيره: كان في الغالب مبرقعاً، لئلا يراه الناس. ولهذا لما قدم عذر امرأة العزيز في محبتها لهذا المعنى المذكور، وجرى لهن وعليهن ما جرى، من تقطيع أيديهن بجراح السكاكين، وما ركبهن من المهابة والدهش عند رؤيته ومعاينته.
{قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} ثم مدحته بالعفة التامة فقالت: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} أي امتنع {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ}.
وكان بقية النساء حرّضنه على السمع والطاعة لسيدته فأبى أشدّ الآباء، ونأى لأنه من سلالة الأنبياء، ودعا فقال: في دعائه لرب العالمين، {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ}. يعني إن وكلتني إلى نفسي فليس لي من نفسي إلا العجز والضعف، ولا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً، إلا ما شاء الله، فأنا ضعيف، إلاّ ما قويتني وعصمتني وحفظتني وأحطتني بحولك وقوتك.
ولهذا قال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ، وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ، قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ، وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ، يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}.
يذكر تعالى عن العزيز وامرأته أنهم بدا لهم، أي ظهر لهم من الرأي، بعد ما علموا براءة يوسف، أن يسجنوه إلى وقت، ليكون ذلك أقل لكلام الناس، في تلك القضية، وأخمد لأمرها، وليظهروا أنه راودها عن نفسها، فسجن بسببها، فسجنوه ظلماً وعدواناً.
وكان هذا مما قدر الله له. ومن جملة ما عصمه به فإنه أبعد له عن معاشرتهم ومخالطتهم. ومن ها هنا استنبط بعض الصوفية ما حكاه عنهم الشافعي: أن من العصمة أن لا تجد!.
قال الله {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} قيل كان أحدهما ساقي الملك، واسمه فيما قيل: "نبوا". والآخر خبازه، يعني الذي يلي طعامه، وهو الذي يقول له الترك (الجاشنكير) واسمه فيما قيل: "مجلث". كان الملك قد اتهمهما في بعض الأمور فسجنهما. فلما رأيا يوسف في السجن أعجبهما سمته وهديه، ودلّه وطريقته، وقوله وفعله، وكثرة عبادته ربه، وإحسانه إلى خلقه، فرأى كلّ واحد منهما رؤيا تناسبه.
قال أهل التفسير: رأيا في ليلة واحدة، أما الساقي فرأى كأن ثلاث قضبان من حبلة، وقد أورقت وأينعت عناقيد العنب فأخذها، فاعتصرها في كأس الملك وسقاه. ورأى الخباز على رأسه ثلاث سلال من خبز، وضواري الطيور تأكل من السّلِّ الأعلى.
فقصّاها عليه وطلبا منه أن يعبرها لهما، وقالا: {إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ} فأخبرهما أنه عليم بتعبيرها خبير بأمرها {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا}. قيل: معناه مهما رأيتما من حلم فإني أعبره لكم قبل وقوعه فيكون كما أقول.
وقيل: معناه إني أخبركما بما يأتيكما من الطعام، قبل مجيئه حلواً أو حامضاً، كما قال عيسى: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}.
وقال لهما إن هذا من تعليم الله إياي لأني مؤمن به موحد له متبع ملة آبائي الكرام إبراهيم الخليل وإسحاق ويعقوب {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا} أي بأن هدانا لهذا {وَعَلَى النَّاسِ} أي بأن أمرنا ندعوهم إليه ونرشدهم وندلهم عليه وهو في فطرهم مركوز، وفي جبلّتهم مغروز {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}.
ثم دعاهم إلى التوحيد، وذمّ عبادةِ ما سوى اللهِ عزَّ وجلّ وصغّر أمر الأوثان، وحقّرها وضعّف أمرها، فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} أي المتصرف في خلقه الفعال لما يريد الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء {أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} أي وحده لا شريك له و {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}، أي المستقيم والصراط القويم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي فهم لا يهتدون إليه مع وضوحه وظهوره.
وكانت دعوته لهما في هذه الحال في غاية الكمال، لأن نفوسهما معظمة له منبعثة على تلقي ما يقول بالقبول، فناسب أن يدعوهما إلى ما هو الأنفع لهما، مما سألا عنه وطلبا منه.
ثم لما قام بما وجب عليه، وأرشد إلى ما أرشد إليه، قال {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً} قالوا: وهو الساقي
{وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ} قالوا: وهو الخباز {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}. أي وقع هذا لا محالة، ووجب كونه على كل حالة. ولهذا جاء في الحديث "الرؤيا على رِجْلِ طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت".
وقد روي عن ابن مسعود ومجاهد وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم "أنهما قالا لم نر شيئاً" فقال لهما: {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَان}.
{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشّيْطان ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}.
يخبر تعالى أن يوسف عليه السلام قال للذي ظنه ناجياً منهما وهو الساقي: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} يعني أذكر أمري وما أنا فيه من السّجن بغير جرم عند الملك. وفي هذا دليل على جواز السّعي في الأسباب. ولا ينافي ذلك التوكل على ربِّ الأرباب.
وقوله {فَأَنسَاهُ الشّيْطان ذِكْرَ رَبِّهِ}، أي فأنسي الناجي منهما الشّيْطان، أن يذكر ما وصّاه به يوسف عليه السلام. قاله مجاهد ومُحَمْد بن إسحاق وغير واحد وهو الصواب، وهو منصوص أهل الكتاب.
{فَلَبِثَ} يوسف {فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} والبضع ما بين الثلاث إلى التسع. وقيل إلى السبع. وقيل إلى الخمس. وقيل ما دون العشرة. حكاها الثعلبي. ويقال بضع نسوة. وبضعة رجال. ومنع الفّراء استعمال البضع فيما دون العشر، قال: وإنما يقال نيّف. وقال الله تعالى: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} وقال تعالى: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} وهذا رد لقوله.
قال الفراء: ويقال بضعة عشر، وبضعة وعشرون إلى التسعين، ولا يقال: بضع ومائة، وبضع وألف، وخالف الجوهري فيما زاد على بضعة عشر، فمنع أن يقال: بضعة وعشرون إلى تسعين. وفي الصحيح "الإيمان بضع وستون شعبة، وفي رواية: وسبعون شعبة، وأعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق".
ومن قال: إن الضمير في قوله {فَأَنسَاهُ الشّيْطان ذِكْرَ رَبِّهِ} عائد على يوسف فقد ضعف ما قاله، وإن كان قد روي عن ابن عبَّاس وعكرمة.
والحديث الذي رواه ابن جرير في هذا الموضع ضعيف من كل وجه، تفرد بإسناده إبراهيم بن يزيد الخوري المكي وهو متروك، ومرسل الحسن وقتادة لا يقبل، ولا ها هنا بطريق الأولى والأحرى، والله أعلم.
فأما قول ابن حبان في "صحيحه" عند ذكر السبب الذي من أجله لبث يوسفُ في السجن ما لبث: أخبرنا الفضل بن الحباب الجحمي، حَدَّثَنا مسدد بن مسرهد، حَدَّثَنا خالد بن عبد الله، حَدَّثَنا مُحَمْد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رحم الله يوسف لولا الكلمة التي قالها "اذكرني عند ربك" ما لبث في السجن ما لبث، ورحم الله لوطاً، إن كان ليأوي إلى ركن شديد، إذ قال لقومه "لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد" قال: فما بعث الله نبياً بعده إلا في ثروة من قومه".
فإنه حديث منكر من هذا الوجه، ومُحَمْد بن عمرو بن علقمة له أشياء ينفرد بها وفيها نكارة، وهذه اللفظة من أنكرها وأشدِّها. والذي في "الصحيحين" يشهد بغلطها، والله أعلم.
{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ، قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ، وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَاِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِي، يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ، قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُون، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}.
هذا كان من جملة أسباب خروج يوسف عليه السلام من السجن على وجه الاحترام والإكرام، وذلك أن ملك مصر وهو الريان بن الوليد بن ثروان بن اراشه بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح رأى هذه الرؤيا.
قال أهل الكتاب: رأى كأنه على حافة نهر، وكأنه قد خرج منه سبع بقرات سمان، فجعلن يرتعن في روضةٍ هناك فخرجت سبع هزال ضعاف من ذلك النهر، فرتعن معهن ثم ملن عليهن فأكلتهن فاستيقظ مذعوراً.
ثم نام فرأى سبع سنبلات خضر في قصبة واحدة، وإذا سبع أُخر دقاق يابسات، فأكلنهن فاستيقظ مذعوراً. فلما قصها على ملأه وقومه، لم يكن فيهم من يحسن تعبيرها بل {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} أي أخلاط أحلام من الليل، لعلّها لا تعبير لها، ومع هذا فلا خبرة لنا بذلك، ولهذا قالوا: {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} فعند ذلك تذكر الناجي منهما الذي وصّاه يوسف بأن يذكره عند ربه فنسيه إلى حينه هذا. وذلك عن تقدير الله عز وجل، وله الحكمة في ذلك، فلما سمع رؤيا الملك، ورأى عجز الناس عن تعبيرها، تذكر أمر يوسف، وما كان أوصاه به من التذكار.
ولهذا قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا} أي تذكر {بَعْدَ أُمَّةٍ} أي بعد مدة من الزمان، وهو بضع سنين، وقرأ بعضهم، كما حكي عن ابن عبَّاس وعكرمة والضحاك: {وَاِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي بعد نسيان، وقرأها مجاهد {بَعْدَ أُمَّةٍ} بإسكان الميم، وهو النسيان أيضاً، يقال أمِهَ الرجل يأمَه أمهاً وأمها، إذا نسي. قال الشاعر:
أمِهْتُ وكنتُ لا أنسى حديثاً *** كذاكَ الدّهرُ يزري بالعُقُولِ
فقال لقومه وللملك {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِي}، أي فأرسلوني إلى يوسف، فجاءه فقال: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ}.
وعند أهل الكتاب أن الملك لما ذكره له الساقي استدعاه إلى حضرته وقص عليه ما رآه ففسره له، وهذا غلط، والصواب: ما قصّه الله في كتابه القرآن لا ما عرَّبه هؤلاءِ الجهلة الثيران، من فري وهذيان.
فبذل يوسف عليه السلام ما عنده من العلم بلا تأخر ولا شرط ولا طلب الخروج سريعاً، بل أجابهم إلى ما سألوا، وعبّر لهم ما كان من منام الملك الدّال على وقوع سبع سنين من الخصب ويعقبهما سبع جدب: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} يعني يأتيهم الغيث والخصب والرفاهية {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} يعني ما كانوا يعصرونه من الأقصاب والأعناب والزيتون والسمسم وغيرها.
فعبّر لهم. وعلى الخير دلّهم وأرشدهم، إلى ما يعتمدونه في حالتي خصبهم وجَدْبِهم وما يفعلونه من ادّخار حبوب سنّى الخصب في السبع الأول في سنبله، إلاّ ما يرصد بسبب الأكل ومن تقليل البذر في سني الجدب في السبع الثانية، إذ الغالب على الظن أنه لا يرد البذر من الحقل. وهذا يدل على كمال العلم وكمال الرأي والفهم.
{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ، قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ، ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ، وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
لما أحاط الملك علماً بكمال علم يوسف عليه الصلاة والسلام وتمام عقله ورأيه السُّدِّيد وفهمه، أمر بإحضاره إلى حضرته، ليكون من جملة خاصته، فلما جاءه الرَّسول بذلك أحب أن لا يخرج حتى يتبين لكل أحد انه حبس ظلماً وعدواناً، وأنه بريء السَّاحة مما نسبوه إليه بهتاناً {قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} يعني الملك {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} قيل: معناه إن سيدي العزيز يعلم براءتي مما نسب إليّ، أي فمر الملك فليسألهن: كيف كان امتناعي الشديد عند مراودتهن إياي؟ وحثهن لي على الأمر الذي ليس برشيد ولا سديد؟
فلما سئلن عن ذلك اعترفن بما وقع من الأمر، وما كان منه من الأمر الحميد و{قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ}.
فعند ذلك {قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} وهي زليخا: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ}. أي: ظهر وتبيّن ووضح، والحق أحق أن يتبع {أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ} أي فيما يقوله من أنه بريء وأنه لم يراودني وأنه حبس ظلماً وعدواناً وزوراً وبهتاناً.
وقوله {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} قيل إنه من كلام يوسف أي إنما طلبت تحقيق هذا ليعلم العزيز أني لم أخنه بظهر الغيب. وقيل إنه من تمام كلام زليخا، أي: إنما اعترفت بهذا ليعلم زوجي أني لم أخنه في نفس الأمر، وإنما كان مراودة لم يقع معها فعل فاحشة.
وهذا القول هو الذي نصره طائفة كثيرة من أئمة المتأخرين وغيرهم، ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم سوى الأول.
{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} قيل: إنه من كلام يوسف، وقيل: من كلام زليخا، وهو مفرع على القولين الأولين. وكونه من تمام كلام زليخا أظهر وأنسب وأقوى، والله أعلم.
{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ، قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ، وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}.
لما ظهر للملك براءة عرضه، ونزاهة ساحته عما كانوا أظهروا عنه مما نسبوه إليه قال {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} أي اجعله من خاصّتي ومن أكابر دولتي، ومن أعيان حاشيتي، فلمّا كلمّه وسمع مقاله وتبين حاله {قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} أي ذو مكانة وأمانة. {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} طلب أن يوليه النظر فيما يتعلق بالأهراء لما يتوقع من حصول الخلل فيما بعد مضي سبع سنّى الخصب، لينظر فيها بما يرضي الله في خلقه من الاحتياط لهم والرفق بهم، وأخبر الملك إنه حفيظ، أي قوي على حفظ ما لديه أمين عليه، عليم بضبط الأشياء ومصالح الأهراء.
وفي هذا دليل على جواز طلب الولاية لمن علم من نفسه الأمانة والكفاءة.
وعند أهل الكتاب أن فرعون عظّم يوسف عليه السلام جدّاً، وسلطه على جميع أرض مصر وألبسه خاتمه، وألبسه الحرير وطوّقه الذهب وحمله على مركبه الثاني، ونودي بين يديه، أنت ربُّ ومسلط، وقال له: لست أعظم منك إلا بالكرسي.
قالوا: وكان يوسف إذ ذاك ابن ثلاثين سنة، وزوجه امرأة عظيمة الشأن.
وحكى الثعلبي أنه عزل قطفير عن وظيفته، وولاها يوسف.
وقيل: إنه مات، زوَّجَهُ امرأتَهُ زليخا، فوجَدها عذراء لأن زوجها كان لا يأتي النساء، فولدت ليوسف عليه السلام رجلين، وهما:
أفرايم، ومنسا. قال: واستوثق ليوسف ملك مصر، وعمل فيهم بالعدل فأحبَّه الرجال والنساء.
وحكي أنَّ يوسف كان يوم دخل على الملك عمره ثلاثين سنة، وأن الملك خاطبه بسبعين لغة، وفي كل ذلك يجاوبه بكل لغة منها، فأعجبه ذلك مع حداثة سنّهِ فالله أعلم.
قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} أي بعد السجن والضيق والحصر صار مطلق الركاب بديار مصر، {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} أي أين شاء حل منها مكرماً محسوداً معظماً.
{نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} من أي هذا كله من جزاء الله وثوابه للمؤمن، مع ما يدّخر له في آخرته من الخير الجزيل والثواب الجميل.
ولهذا قال: {وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}.
ويقال: إن قطفير زوج زليخا كان قد مات فولاه الملك مكانه وزوجه امراته زليخا فكان وزير صدق.
وذكر مُحَمْد بن إسحاق أن صاحب مصر - الوليد بن الريان - أسلم على يدي يوسف عليه السلام والله أعلم. وقد قال بعضهم:
وراءَ مضيقِ الخوفِ متّسع الأَمن ** وأولُ مفروحٍ به غايةُ الحزْن
فلا تيأسَنْ فالله ملّك يوسُفاً ** خزائنَه بعدَ الخلاصِ من السِّجن
{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُون، ولَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ، فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِي، قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ، وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
يخبر تعالى عن قدوم أخوة يوسف عليه السلام إلى الديار المصرية يمتارون طعاماً، وذلك بعد إتيان سنّى الجدب وعمومها على سائر العباد والبلاد.
وكان يوسف عليه السلام إذ ذاك الحاكم في أمور الديار المصرية ديناً ودنيا. فلما دخلوا عليه عرفهم ولم يعرفوه لأنهم لم يخطر ببالهم ما صار إليه يوسف عليه السلام من المكانة والعظمة فلهذا عرفهم وهم له منكرون.
وعند أهل الكتاب: أنهم لما قدموا عليه سجدوا له، فعرفهم وأراد أن لا يعرفوه، فأغلظ لهم في القول، وقال: أنتم جواسيس، جئتم لتأخذوا خير بلادي. فقالوا: معاذ الله إنما جئنا نمتار لقومنا من الجهد والجوع الذي أصابنا، ونحن بنو أبٍ واحدٍ من كنعان، ونحن اثنا عشر رجلاً، ذهب منّا واحدٌ وصغيرنا عند أبينا، فقال: لا بد أن استعلم أمركم. وعندهم: أنه حبسهم ثلاثة أيام، ثم أخرجهم وأحتبس شمعون عنده ليأتوه بالأخ الآخر وفي بعض هذا نظر.
قال الله تعالى {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} أي أعطاهم من الميرة ما جرت به عادته في إعطاء كلّ إنسان حِمْلَ بعيرٍ لا يزيده عليه {قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ} وكان قد سألهم عن حالهم وكم هم، فقالوا: كنا إثني عشر رجلاً، فذهب منا واحد وبقي شقيقه عند أبينا، فقال: إذا قدمتم من العام المقبل فأتوني به معكم.
{أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} أي قد أحسنت نزلكم وقِرَاكم، فرغَّبهم ليأتوه به، ثم رهّبهم إن لم يأتوه به، قال: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِي} أي فلست أعطيكم ميرة، ولا أقربكم بالكلية، عكس ما أسدى إليهم أولاً.
فاجتهد في إحضاره معهم، ليبلِّ شوقه منه بالترغيب والترهيب
{قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} أي سنجتهد في مجيئه معنا، وإتيانه إليك بكل ممكن {وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} أي وإنا لقادرون على تحصيله.
ثم أمر فتيانه أن يضعوا بضاعتهم، وهي ما جاؤا به يتعوّضون به عن الميرة، في أمتعتهم من حيث لا يشعرون بها {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} قيل: أراد أن يردوها إذا وجدوها في بلادهم. وقيل: خشي أن لا يكون عندهم ما يرجعون به مرة ثانية. وقيل: تذمم أن يأخذ منهم عوضاً عن الميرة.
وقد اختلف المفسرون في بضاعتهم، على أقوال سيأتي ذكرها. وعند أهل الكتاب: أنها كانت صرراً من وَرِق، وهو أشبه والله أعلم.‏
{فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ، قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِي مَوْثِقاً مِنْ اللَّهِ لَتَأْتُونَنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ، وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ، وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
يذكر تعالى ما كان من أمرهم بعد رجوعهم إلى أبيهم، وقولهم له: {مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} أي بعد عامنا هذا إن لم ترسل معنا أخانا، فإن أرسلته معنا لم يمنع منا.
{وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي} أي: أي شيء نريد وقد ردت إلينا بضاعتنا {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} أي نمتار لهم، ونأتيهم بما يصلحهم في سنتهم ومَحْلِهم {وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ} بسببه {كَيْلَ بَعِيرٍ}.
قال الله تعالى: {ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} أي في مقابلة ذهاب ولده الآخر.
وكان يعقوب عليه السلام اضنّ شيء بولده بنيامين، لأنه كان يشمّ فيه رائحة أخيه، ويتسلّى به عنه، ويتعوض بسببه منه.
فلهذا قال: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِي مَوْثِقاً مِنْ اللَّهِ لَتَأْتُونَنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} أي إلاّ أن تغلبوا كلكم عن الإتيان به {فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}.
أكدّ المواثيق، وقرّر العهود، واحتاط لنفسه في ولده، ولن يغني حَذَرٌ من قَدَر. ولولا حاجته وحاجة قومه إلى الميرة لما بعثّ الولد العزيزَ، ولكنَّ الأقدار لها أحكام، والرب تعالى يقدر ما يشاء، ويختار ما يريد، ويحكم ما يشاء وهو الحكيم العليم.
ثم أمرهم أن لا يدخلوا المدينة من بابٍ واحد، ولكن ليدخلوا من أبواب متفرقة. قيل: أراد أن لا يصيبهم أحد بالعين وذلك لأنّهم كانوا أشكالاً حسنة، وصوراً بديعة. قال ابن عبَّاس ومُحَمْد بن كعب وقتادة والسُّدِّي والضحاك.
وقيل: أراد أن يتفرّقوا لعلهم يجدون خبر ليوسف، أو يُحَدَّثُون عنه بأثر. قال إبراهيم النخعي. والأول اظهر، ولهذا قال: {وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}.
وقال تعالى {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
وعند أهل الكتاب: أنه بعث معهم هدية إلى العزيز، من الفستق واللوز والصنوبر والبطم والعسل، وأخذوا الدّراهم الأولى، وعوضاً آخر.
{وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ، قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ، قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ، قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ، قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ، قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ، فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ، قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً وَالله أعلم بِمَا تَصِفُونَ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ، قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظَالِمُونَ}.
يذكر تعالى ما كان من أمرهم حين دخلوا بأخيهم بنيامين على شقيقه يوسف وإيوائه إليه وإخباره له سرّاً عنهم بأنه أخوه، وأمره بكتم ذلك عنهم، وسلاّه عما كان منهم من الإساءة إليه.
ثم احتال على أخذه منهم، وتركه إياه عنده دونهم، فأمر فتيانه بوضع سقايته. وهي التي كان يشرب بها ويكيل بها الناس الطعام، عن غرة في متاع بنيامين. ثم أعلمهم بأنهم قد سرقوا صُواع الملك، ووعدهم جعالة على ردِّه حِمْل بعير، وضمّنه المنادي لهم، فأقبلوا على من اتهمهم بذلك فأنبوه وهجّنوه فيما قاله لهم: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} يقولون: أنتم تعلمون منا خلاف ما رميتمونا له من السّرقة.
{قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ، قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}. وهذه كانت شريعتهم أن السّارق يدفع إلى المسروق منه ولهذا قالوا: {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}.
قال الله تعالى: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} ليكون ذلك أبعد للتهمة، وأبلغ في الحيلة، ثم قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} أي لولا اعترافهم بأنّ جزاءه {مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} لما كان يقدر يوسف على أخذه منهم في سياسة ملك مصر {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} أي في العلم {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}.
وذلك لأنّ يوسف كان أعلم منهم، وأتم رأياً، وأقوى عزماً وحزماً، وإنما فعل ما فعل عن أمر الله له في ذلك لأنه يترتب على هذا الأمر مصلحة عظيمة بعد ذلك، من قدوم أبيه وقومه عليه، ووفودهم إليه.
فلما عاينوا استخراج الصّواع من حمل بنيامين {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} يعنون يوسف. قيل كان قد سرق صنم جدّه، أبي أمه، فكسره. وقيل: كانت عمته قد علقت عليه بين ثيابه، وهو صغير، منطقة كانت لإسحاق، ثم استخرجوها من بين ثيابه، وهو لا يشعر بما صنعت، وإنما أرادت أن يكون عندها، وفي حضانتها لمحبتها له. وقيل: كان يأخذ الطّعام من البيت فيطعمه الفقراء. وقيل: غير ذلك. فلهذا {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ} وهي كلمته بعدها، وقوله {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً وَالله أعلم بِمَا تَصِفُونَ} أجابهم سرّاً لا جهراً، حلماً وكرماً وصفحاً وعفواً، فدخلوا معه في الترفق والتعطف، فقالوا: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ، قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظَالِمُونَ} أي إن أطلقنا المتهم وأخذنا البريء. هذا ما لا نفعله ولا نسمح به، وإنما نأخذ من وجدنا متاعنا عنده.
وعند أهل الكتاب: أن يوسف تعرّف إليهم حينئذ وهذا مما غلطوا فيه ولم يفهموه جيّداً.
{فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنْ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ، ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ، وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ، قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ، قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ، قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ، يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ}.
يقول تعالى مخبراً عنهم: إنهم لما استيأسوا من أخذه منه خلصُوا يتناجون فيما بينهم، قال كبيرهم، وهو روبيل: {أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنْ اللَّهِ} . لتأتنني به الا أن يحاط بكم؟ لقد أخلفتم عهده وفرطتم فيه كما فرطتم في أخيه يوسف من قبله فلم يبق لي وجه أقابله به {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ} أي لا أزال مقيماً ها هنا {حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} في القدوم عليه {أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} بأن يقدّرني على ردِّ أخي إلى أبي {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}.
{ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ} أي أخبروه بما رأيتم من الأمر في الظاهر المشاهدة {وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ، وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا}. أي فإن هذا الذي أخبرناك به - من أخذهم أخانا، لأنه سرق - أمر اشتهر بمصر وعلمه العير التي كنا نحن وهم هناك {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}.
{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي ليس الأمر كما ذكرتم لم يسرق فإنه ليس سجية له، ولا {هو} خلقه، وإنما {سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}.
قال ابن إسحاق وغيره: لما كان التفريط منهم في بنيامين مترتباً على صنيعهم في يوسف، قال لهم ما قال، وهذا كما قال بعض السلف: إن من جزاء السيئة السيئة بعدها!.
ثم قال: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً}. يعني يوسف وبنيامين وروبيل {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} أي بحالي وما أنا فيه من فراق الأحبة {الْحَكِيمُ} فيما يقدره ويفعله وله الحكمة البالغة والحجة القاطعة.
{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ} أي أعرض عن بنيه { وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}
ذكّره حزنه الجديد بالحزن القديم، وحرّك ما كان كامناً، كما قال بعضهم:
نقّلْ فؤادَكَ حيثُ شئتَ منَ الهوى ** ما الحبّ إلاّ لِلحبيبِ الأوّلِ
وقال آخر:
لَقَدْ لاَمَني عندَ القُبورِ عَلى البُكا *** رَفيقي لتذْرافِ الدّموعِ السّوافكِ
فقالَ: أتبكي كلّ قبر رأيتَه ** لقبرٍ ثوى بينَ اللّوى فالدكادِكِ
فقلتُ له: إن الأَسى يبعثُ الأسى ** فَدعْني فهذَا كلّهُ قبرُ مالِكِ
وقوله: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} أي من كثرة البكاء {فَهُوَ كَظِيمٌ} أي مكظم من كثرة حزنه وأسفه وشوقه إلى يوسف.
فلما رأى بنوه ما يقاسيه من الوجد وألم الفراق {قَالُوا} له على وجه الرحمة له والرأفة به والحرص عليه {تَا للَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ}.
يقولون: لا تزال تتذكره حتى ينحل جسدك، وتضعف قوّتك، فلو رفقت بنفسك كان أولى بك.
{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} يقول لبنيه: لست أشكو إليكم ولا إلى أحد من الناس، ما أنا فيه، إنما أشكو إلى الله عز وجل، واعلم أن الله سيجعل لي مما أنا فيه فرجاً ومخرجاً، وأعلم أن رؤيا يوسف لا بد أن تقع، ولا بد أن أسجد له أنا وأنتم حسب ما رأى، ولهذا قال: {وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}.
ثم قال لهم محرضاً على تطلب يوسف وأخيه، وأن يبحثوا عن أمرهما {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} أي لا تيئسوا من الفرج بعد الشدة، فإنه لا ييأس من روح الله وفرجه وما يقدره من المخرج في المضايق إلا القوم الكافرون.‏
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ، قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ، قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ، قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ}.
يخبر تعالى عن رجوع إخوة يوسف إليه وقدومهم عليه ورغبتهم فيما لديه من الميرة والصدقة عليهم بردّ أخيهم بنيامين إليهم {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} أي من الجدب وضيق الحال وكثرة العيال {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ } أي ضعيفة لا يقبل مثلها منا إلا أن يتجاوز عنّا قيل: كانت دراهم رديئة. وقيل: قليلة. وقيل حب الصنوبر، وحب البطم ونحو ذلك. وعن ابن عبَّاس: كانت خَلَقَ الغِرَائِرِ والحبال، ونحو ذلك.
{فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} قيل: بقبولها، قال السُّدِّي. وقيل: بردّ أخينا إلينا، قاله ابن جُرَيْج. وقال سفيان بن عُيينة: إنما حرمت الصدقة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ونزع بهذه الآية رواه ابن جرير.
فلما رأى ما هم فيه من الحال وما جاؤا به مما لم يبق عندهم سواه، من ضعيف المال، تعرف إليهم وعطف عليهم، قائلاً: لهم عن أمر ربه وربهم. وقد حسر لهم عن جبينه الشريف وما يحويه من الحال الذي يعرفون فيه {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ}. {قَالُوا} وتعجبوا كل العجب، وقد ترددوا إليه مراراً عديدة، وهم لا يعرفون أنه هو {أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ }.
{قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي} يعني أنا يوسف الذي صنعتم معه ما صنعتم، وسلف من أمركم فيه ما فرطتم، وقوله {وَهذَا أَخِي} تأكيد لما قال، وتنبيه على ما كانوا اضمروا لهما من الحسد، وعملوا في أمرهما من الاحتيال، ولهذا قال: {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا}، أي بإحسانه إلينا وصدقته علينا، وإيوائه لنا وشدّه معاقد عزنا، وذلك بما أسلفنا من طاعة ربنا، وصبرنا على ما كان منكم إلينا وطاعتنا وبرنا لأبينا، ومحبته الشديدة لنا وشفقته علينا {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} أي فضلك، وأعطاك ما لم يعطنا {وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ}. أي فيما أسدينا إليك، وها نحن بين يديك.
{قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ} أي لست أعاتبكم على ما كان منكم بعد يومكم هذا، ثم زادهم على ذلك فقال: {الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
ومن زعم أن الوقف على قوله {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ}، وابتدأ بقوله {الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} فقوله ضعيف، والصحيح الأول.
ثم أمرهم بأن يذهبوا بقميصه، وهو الذي يلي جسده فيضعوه على عيني أبيه، فإنه يرجع إليه بصره، بعد ما كان ذهب بإذن الله، وهذا من خوارق العادات ودلائل النبوات وأكبر المعجزات.
ثم أمرهم أن يتحملوا بأهلهم أجمعين إلى ديار مصر إلى الخير والدعة وجمع الشمل بعد الفرقة على أكمل الوجوه وأعلى الأمور.‏
{وَلَمَّا فَصَلَتْ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِي، قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ، فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ، قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ، قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
قال عبد الرزاق: أنبأنا إسرائيل، عن أبي سنان، عن عبد الله بن أبي الهذيل، سمعت ابن عبَّاس يقول: {وَلَمَّا فَصَلَتْ الْعِيرُ}، قال: لما خرجت العير هاجت ريح، فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف فقال: {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِي} قال: فوجد ريحه من مسيرة ثلاثة أيام. وكذا رواه الثوري وشعبة وغيرهم عن أبي سنان به.
وقال الحسن البصري وابن جُرَيْج المكي: كان بينهما مسيرة ثمانين فرسخاً، وكان له منذ فارقه ثمانون سنة.
وقوله {لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِي} أي تقولون: إنما قلت هذا من الفند، وهو الخرف، وكبر السن. قال ابن عبَّاس وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة: {تُفَنِّدُونِي} تسفّهون. وقال مجاهد أيضاً والحسن : تهرمّون.
{قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} قال قتادة والسُّدِّي: قالوا له كلمة غليظة.
قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً} أي بمجرّد ما جاء ألقى القميص على وجه يعقوب، فرجع من فوره بصيراً بعد ما كان ضريراً، وقال لنبيه عند ذلك {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي أعلم أن الله سيجمع شملي بيوسف وستقر عيني به وسِيرِيني فيه ومنه ما يسرني.
فعند ذلك {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} طلبوا منه أن يستغفر لهم الله عز وجل عما كانوا فعلوا، ونالوا منه ومن أبيه، وما كانوا عزموا عليه. ولما كان من نيتهم التوبة قبل الفعل وفقّهم الله للاستغفار عند وقوع ذلك منهم فأجابهم أبوهم إلى ما سألوا، وما عليه عوّلوا قائلاً {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
قال ابن مسعود وإبراهيم التيمي وعمرو بن قيس وابن جُرَيْج وغيرهم، أرجأهم إلى وقت السحر. قال ابن جرير: حدثني أبو السائب، حَدَّثَنا ابن إدريس قال: سمعت عبد الرحمن بن إسحاق يذكر عن محارب ابن دثار قال: كان عمر يأتي المسجد فسمع إنساناً يقول: "اللهم دعوتني فأجبت، وأمرتني فأطعت، وهذا السَّحر فاغفر لي" قال: فاستمع إلى الصوت، فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود، فسأل عبد الله عن ذلك؟ فقال: إن يعقوب أخّر بنيه إلى السّحر. بقوله: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي}. وقد قال الله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ}.
وثبت في "الصحيحين" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا، فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له".وقد ورد في حديث "أن يعقوب أرجأ بنيه إلى ليلة الجمعة".
قال ابن جرير: حدثني المثنى؛ قال: حَدَّثَنا سليمان بن عبد الرحمن أبو أيوب الدمشقي، حَدَّثَنا الوليد، أنبأنا ابن جُرَيْج، عن عطاء وعكرمة عن ابن عبَّاس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سوف استغفر لكم ربي"يقول: حتى ليلة الجمعة وهو قول أخي يعقوب لبنيه.وهذا غريب من هذا الوجه وفي رفعه نظر والأشبه أن يكون موقوفاً على ابن عبَّاس رضي الله عنهما.
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ، وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشّيْطان بَيْنِي وَبَيْنَ اخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}.
هذا إخبار عن حال اجتماع المتحابين بعد الفرقة الطويلة التي قيل: إنها ثمانون سنة، وقيل: ثلاث وثمانون سنة، وهما روايتان عن الحسن. وقيل: خمس وثلاثون سنة، قاله قتادة. وقال مُحَمْد بن إسحاق: ذكروا أنه غاب عنه ثماني عشرة سنة. قال: وأهل الكتاب يزعمون أنه غاب عنه أربعين سنة.
وظاهر سياق القصة يرشد إلى تحديد المدة تقريباً، فإنَّ المرأة راودته، وهو شاب ابن سبع عشرة سنة، فيما قاله غير واحد، فامتنع فكان في السجن بضع سنين، وهي سبع عند عكرمة وغيره. ثم أخرج فكانت سنوات الخصب السبع، ثم لما امحل الناس في السبع البواقي جاء اخوتهم يمتارون في السنة الأولى وحدهم، وفي الثانية ومعهم أخوه بنيامين، وفي الثالثة تعرّف إليهم وأمرهم بإحضار أهلهم أجمعين، فجاؤا كلهم.
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} اجتمع بهم خصوصاً وحدهما دون اخوته {وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}. قيل: هذا من المقدم والمؤخر، تقديره قال ادخلوا مصر وآوى إليه أبويه. وضعفه ابن جرير وهو معذور. وقيل: بل تلقاهما وآواهما في منزل الخيام، ثم لما اقتربوا من باب مصر قال {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}. قاله السُّدِّي: ولو قيل: إن الأمر لا يحتاج إلى هذا أيضاً، وانه ضمن قوله: ادخلوا بمعنى: اسكنوا مصر، أو أقيموا بها {إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} لكان صحيحاً مليحاً أيضاً.
وعند أهل الكتاب: أن يعقوب لما وصل إلى أرض جاشر - وهي أرض بلبيس - خرج يوسف لتلقيه، وكان يعقوب قد بعث ابنه يهوذا بين يديه مبشّراً بقدومه، وعندهم أن الملك أطلق لهم أرض جاشر، يكونون فيها ويقيمون بها بنعمهم ومواشيهم، وقد ذكر جماعة من المفسرين، أنه لما أزف قدوم نبي الله يعقوب - وهو إسرائيل - أراد يوسف أن يخرج لتلقيه فركب معه الملك وجنوده خدمة ليوسف، وتعظيماً لنبي الله "إسرائيل"، وأنه دعا للملك، وأن الله رفع عن أهل مصر بقية سنّى الجدب ببركة قدومه إليهم، فالله أعلم.
وكان جملة من قدم مع يعقوب من بنيه وأولادهم - فيما قاله أبو إسحاق السبيعي عن أبو عبيدة عن ابن مسعود - ثلاثة وستين إنساناً.
وقال موسى بن عبيدة، عن مُحَمْد بن كعب، عن عبد الله بن شداد: كانوا ثلاثة وثمانين إنساناً.
وقال أبو إسحاق عن مسروق: دخلوا وهم ثلثمائة وتسعون إنساناً.
قالوا: وخرجوا مع موسى وهم أزيد من ستمائة ألف مقاتل. وفي نص أهل الكتاب: أنهم كانوا سبعين نفساً وسموهم.
قال الله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} قيل: كانت أمه قد ماتت كما هو عند علماء التوراة. وقال بعض المفسرين: أحياها الله تعالى. وقال آخرون: بل كانت خالته "ليا" والخالة بمنزلة الأم.
وقال ابن جرير وآخرون: بل ظاهر القرآن يقتضي بقاء حياة أمه إلى يومئذ، فلا يعوّل على نقل أهل الكتاب فيما خالفه، وهذا قوي. والله أعلم.
ورفعهما على العرش، أي أجلسهما معه على سريره {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} أي سجد له الأبوان والأخوة الأحد عشر تعظيماً وتكريماً، وكان هذا مشروعاً لهم، ولم يزل ذلك معمولاً به في سائر الشرائع حتى حرم في ملّتنا.
{وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ} أي هذا تعبير ما كنت قصصته عليك: من رؤيتي الأحد عشر كوكباً، والشمس والقمر، حين رأيتهم لي ساجدين وأمرتني بكتمانها، ووعدتني ما وعدتني عند ذلك {قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ}. أي بعد الهمِّ والضيق جعلني حاكماً، نافذَ الكلمة، في الديار المصرية حيث شئت {وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ} أي البادية، وكانوا يسكنون أرض العربات من بلاد الخيل {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشّيْطان بَيْنِي وَبَيْنَ اخْوَتِي} أي فيما كان منهم إليّ من الأمر الذي تقدم وسبق ذكره.
ثم قال: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} أي: إذا أراد شيئاً هيّأ أسبابه ويسّرها وسهلها من وجوه لا يهتدي إليها العباد بل يقدّرها وييسّرها بلطيف صنعه وعظيم قدرته {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} أي بجميع الأمور {الْحَكِيمُ} في خلقه وشرعه وقدره.

همسات ايمانية
2015-08-06, 22:04
فوائد وعبر من قصة سيدنا يوسف

إن قصة يوسف من أروع القصص وأعجبه في القرآن الكريم؛ وذلك لما فيها من العبر والعظات، وأنواع التنقلات من حال إلى حال، ومن ذل إلى عزّ، ومن فرقة وشتات إلى اجتماع وائتلاف، وفيها يظهر لطف الله تعالى وعنايته بأوليائه وأصفيائه، وتأييد الله لهم في أحلك الظروف وأشدها، وغير ذلك.

بين يدي سورة يوسف عليه السلام
الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته وعمل بسنته ونصح لأمته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن قصة يوسف عليه الصلاة والسلام مليئة بالوعظ والتذكير، والترغيب والترهيب، ويتبين من خلالها الفرج بعد الشدة، وتيسير الأمور بعد تعسرها، وحسن العواقب المشاهدة في هذه الدار.

فيجب علينا أن نأخذ من هذه القصة العظة والعبرة، لا سيما وأن المبتلى في هذه القصة نبي من خيار أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام.

وقد اشتملت على محن وعلى أمور عظام تعجز عن حملها الجبال، ثم يتحملها ولي من أولياء الله عز وجل؛ لنأخذ من قصته الدروس والعبر، وهذه السورة نستطيع أن نلخص محتواها في جزء من آية وردت فيها، فإن يوسف عليه الصلاة والسلام حينما انكشف أمره لإخوته قال لهم: أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90] ونستطيع أن نلخص هدف السورة في قوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90]، فالتقوى والصبر هما سبب السعادة في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فقصة يوسف عليه السلام من أروع وأعجب القصص التي وردت في القرآن الكريم، لما فيها من أنواع التنقلات من حال إلى حال، ومن محنة إلى محنة، ومن ذل إلى عز، ومن فرقة وشتات إلى انضمام وائتلاف، فتبارك من قصها وجعلها عبرة لأولى الألباب.

وسنتحدث عما تيسر من الدروس والعبر المستفادة من قصة يوسف عليه السلام.

ضرورة العدل بين الأولاد
في قوله تعالى: لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ [يوسف:8] ذهب طائفة من المفسرين إلى أن إخوة يوسف الأحد عشر أنبياء، وهم الأسباط الذين يذكرهم الله عز وجل في كل آية يعدد فيها الأنبياء، فقد أخذتهم الغيرة بسبب تقديم يعقوب عليه السلام يوسف في المحبة، فإن يوسف عليه الصلاة السلام نال من أبيه محبة شديدة، حتى ما كان يسمح ليوسف عليه السلام أن يخرج مع إخوته لرعي الغنم، وهذه المحبة كانت من أكبر الأسباب التي أوغرت صدور إخوة يوسف ضد أخيهم يوسف عليه السلام.

ولذلك فإن العدل بين الأولاد يعتبر أمراً مهماً لا يجوز تضييعه، ولا يجوز تفضيل بعضهم على بعض، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي النعمان بن بشير رضي الله عنهما: (إني لا أشهد على جور، اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) حينما أراد أن يفضل أحد الأولاد على بعض، ولذلك ما يحدث من العقوق من الأولاد لربما يكون أكبر أسبابه هو عدم العدل بين الأولاد، فهؤلاء بينوا العلة التي جعلتهم يغارون من أخيهم يوسف عليه السلام حيث قالوا: لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ [يوسف:8] حتى قالوا لأبيهم عليهم الصلاة السلام جميعاً: إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [يوسف:8] ثم أدى ذلك إلى أن يفكروا في قتل أخيهم، فقالوا: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ [يوسف:9] وهذا دليل على أن تفضيل أحد الأولاد دون الآخرين يغرس الحقد والكراهية لهذا الولد المفضل، ولربما يصل إلى ذلك الأب فيكون سبباً من أسباب العقوق.

الصبر على الابتلاء وعدم الجزع
المسلم عند البلاء لابد أن يصبر، فإن الله سبحانه وتعالى خلق هذه الحياة وهي مبنية على الأكدار، يقول الشاعر:

بنيت على كدر وأنت تريدها صفواً من الآفات والأكدار

فمن أراد أن تصفو له الحياة فعليه أن يراجع حسابه؛ لأنه يحاول أمراً مستحيلاً، فالدنيا مليئة بالمصاعب والمتاعب التي تعكر صفو هذه الحياة، وأما الراحة الأبدية والسعادة السرمدية ففي الآخرة في جنة عرضها السماوات والأرض، ولذلك أنبياء الله عليه الصلاة والسلام يلاقون في هذه الدنيا من العناء والتعب ما لا يتحمله غيرهم، ولكنهم يقابلون هذه البلايا وهذه الفتن بالصبر، ولذلك لما فوجئ يعقوب عليه السلام بالقصة المكذوبة المصطنعة في أن يوسف قد أكله الذئب قال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18]، والصبر الجميل هو الذي لا يكون معه جزع، وما ورد من حزن يعقوب عليه السلام على ولده يوسف فإنما هي عاطفة الأب نحو ابنه، فالصبر هو طريق الفرج، وهو طريق الجنة إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، فإذا ابتلي الإنسان بمصيبة أو بنكبة في نفسه أو ماله أو أهله أو في أي شيء من الأمور. فعليه أن يصبر الصبر الجميل، ويعقوب عليه الصلاة والسلام قال لما فقد ابنه يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18] وقال لما فقد ابنه الآخر: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا [يوسف:83].

لطف الله وعنايته بأوليائه
لما عدل أخوة يوسف عن قتل يوسف عليه السلام بناءً على مشورة أخيهم وألقوه في البئر ما كانوا يظنون أن يوسف عليه السلام سيخرج من هذه البئر حياً، بل كانوا يظنون أنه سيلقى حتفه في ذلك البئر، وما كان يوسف عليه الصلاة والسلام -لولا يقينه بربه- يظن أنه سوف يخرج من هذا البئر، ولكن الله تعالى له لطف خفي، وهذا اللطف لربما يتأخر ولا يأتي إلا في ساعة الصفر، وفي آخر لحظة من لحظات احتياج هذا الإنسان إلى رحمة الله عز وجل.

من يصدق أن يوسف عليه السلام يلقى في البئر طفلاً ليصبح في يوم من الأيام ملك مصر؟ إنها آية من آيات الله عز وجل، فعلى المؤمنين أن يتمسكوا بطاعة الله، وعليهم التسليم والرضا بقضاء الله عز وجل وقدره في أي أمر من الأمور التي تصيبهم، فإذا كانوا كذلك فليبشروا من الله عز وجل بالفرج، فلما ألقي يوسف عليه السلام في البئر جاءت قافلة تريد مصر، فأرسلوا واردهم الذي يطلب لهم المياه فأدلى دلوه فتعلق به يوسف عليه السلام، كما قال تعالى: وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [يوسف:19]، ولما ذهب به السيارة إلى مصر وباعوه بها اشتراه عزيز مصر، وأوصى ملك مصر زوجته به خيراً وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [يوسف:21] ثم علمه الله عز وجل الحكمة وتأويل الأحاديث، وهذا كله من لطف الله عز وجل بأوليائه الصالحين، فالمرء إذا تعرف إلى الله عز وجل في حال الرخاء عرفه الله عز وجل في حال الشدة، وإذا أعرض عن الله سبحانه وتعالى في حال الرخاء فإن الله عز وجل يتركه في وقت الشدة، ولذلك يوسف عليه الصلاة والسلام أنقذه الله عز وجل من كل هذه المحن والشدائد العظام والأحداث الجسام، قال الله عز وجل: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر:61].

فقد نرى ولياً من أولياء الله يحيط به العدو من كل جانب، وتتكالب عليه فتن الحياة الدنيا ومصائبها وآفاتها، حتى يظن الناس أنه قد هلك، وأنه لا يستطيع الخلاص من ذلك كله، فإذا به يتخلص بقدرة الله عز وجل وفضله وكرمه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، فيوسف عليه الصلاة والسلام عرفه الله عز وجل في وقت الشدة والضيق وخلصه، وندب إليه سيارة من الناس كانوا يسيرون في صحراء سيناء، ووقعوا على تلك البئر فأخرجوه منها، ثم أصبح هذا الغلام في يوم من الأيام ملكاً على مصر.

استشعار رقابة الله تمنع العبد من الوقوع في المحرمات
عرضت امرأة العزيز نفسها على يوسف، وطلبت منه أن يفعل بها الفاحشة، وكانت من أجمل النساء، إضافة إلى أنها سيدته، والمسيطرة عليه وعلى شئون البيت، بل وعلى العزيز نفسه، وكان يوسف عليه السلام شاباً في ريعان شبابه، وبحاجة إلى هذا الأمر وإلى إشباع غزيرته، وشهوة الجنس شهوة سريعة الاشتعال، لا تعطي المرء فرصة للتفكير، ولربما يغفل المرء عن إيمانه فيقع فيما حرم الله.

ولكن يوسف عليه الصلاة والسلام -بحفظ من الله عز وجل- لما عرضت عليه هذه الشهوة في خلوة لا يطلع عليه إلا الله عز وجل قال: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23].

فالإنسان في مثل هذه المواقف عليه أن يراقب الله عز وجل، لاسيما إذا عرضت عليه هذه الشهوة وهو بعيد عن أعين الناس، ولذا كان أحد السبعة الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم القيامة، كما في الحديث: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله).

وتأمل معي هذا الموقف! رجل تدعوه امرأة إلى الفاحشة، والمرأة ذات مكانة عالية، ولربما فرضت نفسها بالقوة على هذا الرجل، إضافة إلى أنها باهرة الجمال، والجمال كما هو معلوم من أشد ما يغري الرجل بالمرأة، ولكن مع ذلك كله رفض فعل الفاحشة، وقال: إني أخاف الله. فكان جزاؤه أن جعل الله عز وجل له جنتين جنة لسكنه، وجنة لأزواجه وخدمه، وإنما كانتا اثنتين ليضاعف له السرور بالتنقل من جهة إلى جهة، قال تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46] فلابد من أن يتفكر العبد ويتذكر ساعة الوقوف بين يدي الله عز وجل، ولذلك مدح الله تعالى الذين يخشون ربهم بالغيب فقال جل جلاله: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:12] غابوا عن أعين الناس، ولكنهم استشعروا عظمة نظر الله إليهم، وذلك كله يدل دلالة واضحة على ثبات نبي الله يوسف عليه السلام في مثل هذه المواقف، التي لا يثبت فيها إلا من زكى الله قلبه وطهر نفسه.

تأييد الله لأوليائه في أحلك الظروف وأشدها
جعل الله عز وجل لأوليائه الصالحين في أحلك المواقف وأصعب الظروف فرجاً ومخرجاً، ويتضح هذا الأمر بجلاء من خلال ما حصل من امرأة العزيز مع يوسف عليه السلام، لما جاء العزيز زوجها ووجد المرأة تلاحق يوسف عليه السلام داخل الدار، فقلبت القضية وجعلت يوسف عليه السلام كأنه هو الذي يراودها عن نفسها، وهذا الظلم شديد الوقوع على النفس وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [النساء:112] فقلبت القضية ضد يوسف عليه السلام، وادعت أن يوسف عليه السلام يلاحقها ويراودها عن نفسها، وليس لدى يوسف عليه السلام من الأدلة ما يستطيع أن يبرئ به نفسه؛ لأنه ضعيف مغلوب على أمره، خادم داخل البيت كالرقيق يباع ويشترى، من سيدافع عنه في مثل هذه الحال؟ ومن سيعيد إليه ماء وجهه وكرامته؟ ومن سيرد إليه اعتباره؟ فتلك المرأة اتهمته زوراً وبهتاناً حيث قالت: مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [يوسف:25].

ولكن الله عز وجل الذي بيده مقاليد السماوات والأرض أنطق طفلاً رضيعاً مازال في المهد في بيت امرأة العزيز ، وشهد شهادة حق، وجعل هذه الشهادة مؤيدة بالبينات الواضحة إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:26-27] فأصبح العزيز أمام الأمر الواقع، فعرف أن الذي فعل هذه الجريمة هو زوجته وليس يوسف عليه الصلاة والسلام.

فأظهر الله عز وجل براءة يوسف عليه السلام بطريقة ما كان أحد يفكر فيها أو يتصورها، وما كان يوسف عليه السلام يظن أن طفلاً في المهد سوف ينطق ليشهد ببراءته، فإن هذه تعتبر آية من آيات الله عز وجل، وهكذا يظهر الله عز وجل الحق على لسان ذلك الطفل الرضيع.

ولقد وصل ضعف الغيرة ببعض الرجال إلى أنه يرى زوجته تراود شاباً ثم لا يتمعر وجهه ولا يغضب لمحارمه فضلاً أن يغضب لله عز وجل، ولذلك تجد أن العزيز لم يغضب لما تأكد أن زوجته فيها فساد في فطرتها وانحراف في أخلاقها، وإنما قال: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ [يوسف:29] وهذا في الحقيقة ليس موقف الرجال حينما يرون الخنا في أهليهم، نسأل الله السلامة والعافية، وهذه الدياثة التي يقول عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة ديوث) فالرجل العاقل ذو الغيرة عليه أن يغضب في مثل هذه الأمور، وأن يضع حداً لهذه الزوجة التي تسعى إلى الفاحشة بنفسها، نسأل الله السلامة والعافية.

تحمل المؤمنين للأذى وثباتهم على الحق
في المرة الأخرى أمرت امرأة العزيز يوسف عليه السلام أن يفعل معها الفاحشة بالقوة وهددته بالسجن إن امتنع من فعل الفاحشة، فجمعت النساء اللواتي كن يلمنها على حب يوسف عليه السلام لتريهن ما فيه من جمال فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف:31] فأغرين امرأة العزيز بهذا الشاب، قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف:32].

ففي المرة الأولى كان عرضاً سريعاً خفيفاً، لكنه في هذه المرة أصبح عرضاً إجبارياً، إما أن يفعل بها الفاحشة أو السجن، ولكنه فضل السجن على الوقوع في الفاحشة، فقال: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف:33] فابتلى يوسف عليه السلام بحب النساء له؛ لأنه فيه نضارة، فتوسل إلى الله عز وجل بأن يصرف عنه مكر النساء، حتى لا يقع فيما حرم الله، لكنه فضل العيش في السجن على الوقوع في شيء مما حرمه الله عز وجل.

ولقد أصبح كثير من الناس اليوم لا يطيق السجن ولا ساعة من نهار، ولربما يترك كثيراً من أوامر الله عز وجل مخافة أن يدخل السجن، وأصبح كثير من الدعاة في أيامنا الحاضرة يتأخرون عن واجبهم خشية أن يدخلوا السجن، وأصبح كثير من المصلحين يرجعون من منتصف الطريق حتى لا يتعرضوا للأذى، وهذه من أكبر البلايا التي أصيب بها الناس في هذا العصر.

يوسف عليه الصلاة والسلام فضل العيش في السجن على أن يفعل شيئاً حرمه الله عز وجل، وهؤلاء استرخوا وناموا واستلذوا العيش الطيب وركنوا إلى الحياة الدنيا، فلا يقومون بواجبهم في الدعوة إلى الله تعالى، لا سيما من كان منهم من العلماء الذين أخذ الله عز وجل عليهم العهد والميثاق، ولكنهم لم يصدعوا بكلمة الحق خوفاً من البشر، قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187] فالناس اليوم أحوج ما يكونون إلى معرفة الحق، وحاجتهم إلى ذلك أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب والهواء.

ولذلك ذكر الله عز وجل عن قوم يبدءون مشوارهم بالإيمان، ولكنهم يرجعون من منتصف الطريق دون أن يكملوا مسيرتهم إلى الله عز وجل والدار الآخرة، فإذا أوذي أحدهم بسبب إيمانه ارتد عن الدين، وجعل ما يصيبه من أذى الناس سبباً صارفاً له عن الإيمان كعذاب الله الشديد الذي يصرف الإنسان عن الكفر، وكان مقتضى إيمانهم أن يصبروا ويتشجعوا، ويروا في العذاب عذوبة وفي المحنة منحة، فإن العاقبة للمتقين، يقول الله عز وجل عن هؤلاء: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10]

إن الذي يرجع من منتصف الطريق دون أن يكمل مشواره كالذي يكون على طرف من الجيش فإن أحس بظفر أو غنيمة استقر وإلا فر، قال تعالى: فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ [الحج:11].

والمؤمن بمقدار ما تزيد الفتنة والبلاء والعذاب أمامه بقدر ما يزيد إيمانه ويقينه بالله والثقة بنصره عز وجل، والمؤمن الحق حينما يرى العقبات في طريقه يزداد ثقة بالطريق الذي يسير فيه، وإذا رأى الطريق ممهدة مفروشة بالورود والرياحين فإنه يشك في صحة هذا المسار، وهذا هو الصحيح بالنسبة لسير المسلم إلى ربه سبحانه وتعالى، ولذلك وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ الذين تحزبوا ضدهم وأحاطوا بهم من كل جانب قالوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ [الأحزاب:22] أي: من المحنة والابتلاء، ثم النصر على الأعداء وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:22-23].

وفي عصرنا الحاصر نصبت العقبات في طريق الدعاة والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وتحولت السجون إلى معتقلات للمؤمنين، ولربما لو عملنا إحصائية في سجون العالم الإسلامي هل الذين يدخلونها أكثر من الجامحين الفسقة المجرمين أم من الدعاة الصالحين لرأينا أن جُلّ من يدخل هذه السجون هم المصلحون والدعاة إلى الله تبارك وتعالى، وهذا دليل على صحة الطريق إلى الله عز وجل والدار الآخرة.

فعلى الداعية المخلص أن يصدع بكلمة الحق، وأن يتحمل في سبيل ذلك كل ما يلاقيه حتى لو تحمل السجن مدى الحياة، وعليه أن يتحمل الأذى ما دام ذلك في ذات الله؛ لأن الله عز وجل قد اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.

فعلى الدعاة أن يعلموا أن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم في بيعة سابقة مصدقة في التوراة والإنجيل والقرآن، فليس هناك خيار في مثل هذا العمل، وإنما الأمر هو جبن يصيب بعض الناس فيرجع من منتصف الطريق، يخشى على نفسه أو على ماله أو على أهله، أو يخشى أن يدخل السجن، وما عرف أن يوسف عليه الصلاة والسلام لبث في السجن بضع سنين، وأن موسى عليه الصلاة والسلام قال له الطاغية الجبار: لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29] وأن محمداً صلى الله عليه وسلم لبث في السجن ثلاث سنوات مقاطعاً في الشعب.

المسألة هي مسألة ابتلاء، والله عز وجل ليس عاجزاً أن ينصر أولياءه، وإنما الله تعالى يريد أن يتميز المؤمن الصادق من الكاذب المنافق، يقول تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179] فتمييز الخبيث من الطيب لا يكون إلا عند الشدائد وعند الأمور العظام، أما إذا كان الناس كلهم على مستوى كامل في الإيمان وكلهم أتقياء وليس هناك من يؤذي الدعاة والمصلحين لو كان الأمر كذلك لكان الناس كلهم دعاة ومصلحين، ولتعطلت الحكمة من خلق النار، والله عز وجل يقول: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود:119].

إذاً التهديد لا يضير المؤمن، والمؤمن كذلك لا يقدم شهوة حاضرة على غيب تأكد من أنه سوف يلاقيه، ولذلك لما هددت امرأة العزيز يوسف عليه السلام بالسجن قال: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33] وهذا يعتبر في الحقيقة أعلى درجات الإيمان، يرفض الشهوة في الحرام، ويتحمل في سبيل هذا الرفض أن يكون سجيناً ذليلاً طريداً عن ملك العزيز ، لكنه يعرف أنه ما زال يعيش في ملك الله عز وجل وفي كنفه وحفظه، وفعلاً يدخل يوسف عليه الصلاة والسلام السجن، ويبقى في السجن بضع سنين؛ لأنه رفض الحرام، ولأن الله عز وجل يريد أن يبتلي يوسف عليه السلام، ويريد أن يعلم الناس كيف يواجهون الطغاة والمتجبرين في الأرض، وكيف يواجهون الشهوات التي تعترض طريقهم، وأنه لا سبيل للخلاص منها إلا بالإيمان بالله والاعتصام به جل جلاله.

الإحسان وأثره العظيم في كسب قلوب المدعوين
لربما يفكر أحد الناس بأن يكون من المصلحين، لكنه لا يقدم للناس وللمجتمع خيراً ولا خدمة، ولا يمتلك موهبة جذب قلوب الناس إليه، وليس عنده لباقة، مثل هذا لا ينجح في مهمته، ولذلك تأثر السجناء بدعوة يوسف عليه الصلاة السلام لما رأوا من إحسانه، فلما جاءوا إليه قالوا: إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:36] فإحسان يوسف عليه السلام هو الذي جذبهم إليه فجعلهم يذعنون لنصائحه وتوجيهاته أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف:39] وغيرها من التوجيهات التي كان يمليها عليهم يوسف عليه الصلاة والسلام.

اقتناص الفرص المناسبة لبذل النصيحة
على الداعية أن يقدم النصيحة مع حاجة الناس إليه، حتى يتقبل الناس هذه النصيحة بدافع الحاجة، ويكون من المحسنين فيقبلون عليه، فإذا أقبل الناس عليه فإن عليه أن يستغل فرصة ما يقدمه من خدمة في سبيل الدعوة، ولذلك لما قال الغلامان: نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ [يوسف:36] استغل الفرصة يوسف عليه الصلاة والسلام، وقدم لهما من النصائح ما يستفيدان منها مقابل أن يقضي حاجتهما، فقال: أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف:39]، فهما ما جاءا ليعظهما وإنما جاءا ليعبر لهما الرؤيا، لكنه رأى أنه يقدم هذه النصيحة قبل أن يعبر لهما الرؤيا؛ لأنهما بحاجة ماسة إلى أن يعبر ويفسر لهما رؤياهما التي رأياها في المنام، وهذا أيضاً منهج في الدعوة إلى الله تعالى، كما أن المنهج الأول ينبني على أن الداعية أن يقدم بين يدي دعوته إحساناً ومعروفاً لهؤلاء الناس حتى يكون محبوباً لدى الجميع فإن عليه أيضاً أن يقدم النصيحة وهي ملفوفة بلفائف حاجة هؤلاء الناس.

العبادة والحكم صنوان لا يفترق أحدهما عن الآخر
ومن هذه النصائح التي قدمها يوسف عليه الصلاة والسلام أن العبادة والحكم صنوان لا يفترق أحدهما عن الآخر إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40].

ومعنى ذلك الكلام أن الحكم يجب أن يكون لله كما أن العبادة لله، فالحكم جزء من العبادة، والعبادة أصل يدخل فيها الحكم، وعلى هذا فإن من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر لا شك عندنا في ذلك، فإذا كانت العبادة لله فالحكم يجب أن يكون لله، ولذلك الذين يحكمون بين الناس بآرائهم ويأتون بقوانين البشر وآراء الرجال إنما هم من رءوس الطواغيت؛ لأنهم يدعون الناس إلى عبادتهم، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه فهو أحد رءوس الطواغيت الخمسة الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم.

وبذلك يتضح ضلال العلمانيين -قاتلهم الله أنى يؤفكون- الذين يزعمون أن العبادة لله والحكم ليس لله، والله تعالى يقول: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40] فليس هناك فرق بين الحكم وبين العبادة، فالحكم جزء من العبادة، والعبادة أصل، ومن فروعها الحكم، فمن عبد معبوداً فإن عليه أن يخضع لحكمه، فالذين يستمدون أنظمتهم من فرنسا ومن بلاد الكفر هم عباد لهؤلاء الكفرة، ومن أخذ حكمه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو عبد لله عز وجل، وبمقدار ما يدنو المرء من العبودية لله سبحانه وتعالى بمقدار ما يزيد شرفه، كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله:

ومما زادني شرفاً وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا

لكن ذلك الذي يكون عبداً لمخلوق من المخلوقين يأخذ قوانينه وأنظمته وتشريعاته منه هو عبد لذلك المخلوق.

فالحكم والعبادة لا ينفصل أحدهما عن الآخر، ولذا كان من وصايا يوسف عليه الصلاة والسلام: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40] فهذا أمر من أوامر الله عز وجل ويجب على المسلمين أن يحكموا شرع الله في كل صغيرة وكبيرة، فالحاكم بغير ما أنزل الله من رءوس الطواغيت، قال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] والمتحاكم إلى غير الله عز وجل يصدق فيه قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا [النساء:60].

ظهور الحق ولو بعد أمد
الحق لابد من أن يظهر وإن اختفى مدة من الزمن، فقد بقي يوسف عليه الصلاة والسلام في السجن بضع سنين، وأصبح الناس في أرجاء مصر يتحدثون بأن يوسف يهوى امرأة العزيز ، وأصبح يوسف عليه الصلاة والسلام مشوه السمعة، ولم يُقَلْ عنه: إنه سجن لأنه رفض الفاحشة خوفاً من الله عز وجل. وبقيت سمعته ملطخة مدة من الزمن إلى أن أظهر الله عز وجل الحق، فالحق لابد أن يظهر وإن غطاه ما غطاه من ظلام الليل، ولذلك اعترفت امرأة العزيز بالحقيقة وقالت: الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ [يوسف:51-52] فاعترف المجرم بجريمته وأثبت نزاهة المتهم الذي ما كان موضعاً للتهمة في يوم من الأيام، وهذه سنة من سنن الله في خلقه، فعلى المؤمن أن يتحمل ويصبر على ما يلاقيه من أذى وفتن وتهم في سبيل دينه دعوته، حتى يأتي ذلك اليوم الذي يظهر الله عز وجل فيه براءته على الملأ أجمعين، قال تعالى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:52].

النهي عن أن يمدح المسلم نفسه
لا يجوز للمسلم مهما كان تقياً نقياً أن يزكي نفسه، بل عليه أن يكون على خوف من أن يقلب الله قلبه؛ لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، ولأن الله عز وجل هو الذي يزكي من يشاء، ولذلك نجد أن امرأة العزيز لما قالت: الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ [يوسف:51] قال يوسف عليه السلام: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي [يوسف:53] على خلاف بين المفسرين هل هذا من كلام يوسف عليه السلام أو من كلام امرأة العزيز ، فنفس أي إنسان معرضة للفتنة، ومعرضة للبلاء، ومعرضة للمعصية إلا إذا رحم الله عز وجل هذه النفس، فإذا رحم الله عز وجل هذه النفس زكاها وطهرها وحفظها من الفتن، كما حفظ الله جل جلاله نفس يوسف عليه الصلاة والسلام أمام أشد أنواع الفتن التي اعترضت سبيله.

جواز طلب الولاية لمن علم من نفسه الكفاءة
هناك نصوص تنهى المسلم عن طلب الولاية، فقد ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أبا ذر رضي الله عنه عن طلب الولاية، كما نهى أيضاً عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه عن ذلك وقال له: (يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تطلب الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها) فطلب الإمارة يعتبر خلاف الشرع؛ لأن الذي يطلب الإمارة إما أنه يريد أن يرتفع على الآخرين في هذه الحياة، ومن منطلق القوة ربما يبطش بهؤلاء البشر، أو أنه يزكي نفسه، وكلاهما خطأ، ولكن يوسف عليه الصلاة والسلام طلب الولاية على بيت المال وعلى وزارة المالية في مصر، فقال: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55] فكيف نستطيع أن نجمع بين هذه الآية وبين ما ورد في الأحاديث من النهي عن طلب الإمارة؟ يمكن أن نوجهها بأن القاعدة الشرعية تنص على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، وقد ورد شرعنا بخلافه، وهذا في شريعة يوسف عليه الصلاة والسلام.

ونستطيع أن نقول -وهو الأقرب والله أعلم-: إن يوسف عليه الصلاة والسلام رأى أن البلد قد أقبلت على خطر، وأقبلت على مجاعة شديدة لربما أهلكت البلاد والعباد من خلال الرؤيا التي رآها العزيز ، حينما رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، فرأى أن يتولى أمر مالية مصر لتكون الخزانة محفوظة لا يتلاعب بها أحد كما يتلاعب كثير من الناس بأموال الدول الإسلامية اليوم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وإن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق لهم النار يوم القيامة) لأن مال المسلمين محترم أكثر من مال الفرد، فكما أنه تقطع يد السارق إذا سرقت مال الفرد فإن أموال الدولة والمسلمين محترمة أكثر من ذلك؛ لأنها يدلي فيها كل واحد من هؤلاء المسلمين، فرأى يوسف عليه الصلاة والسلام أن العالم قد أقبل على هاوية وعلى مجاعة، وأنه لو تولى أمر هذه البلاد فإنه سوف يصلح الأمور، ولذلك يقول العلماء: إذا علم من يطلب الولاية أنه يستطيع أن يقوم بها على خير وجه، وأن غيره ربما يقصر فتتدهور الأمور ففي مثل هذه الحال يطلب الإمارة ويطلب الولاية ويطلب السلطة. كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55].

لا تحمل نفس ذنب غيرها
كان أهل الجاهلية يغيرون على قوم فيبيدونهم عن آخرهم بسبب ذنب رجل واحد، وكذلك اليوم لا تسل عما يحدث، أمم تباد بسبب أخطاء أفراد، ويؤخذ الكثير بجريرة رجل واحد.

أما في دين الله عز وجل فإن كل امرئ بما كسب رهين في الدنيا والآخرة، فلا يؤخذ أحد بذنب غيره، ولذلك لما قال إخوة يوسف ليوسف عليه الصلاة والسلام: فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ [يوسف:78-79] مع أنهم عرضوا عليه أن يأخذ أحدهم ليكون بدلاً عن الذي وجدوا المتاع عنده وهو أخو يوسف، لكنه سبحانه وتعالى يريد أن يصدر تشريعاً عاماً إلى يوم القيامة، فقال حكاية عن لسان يوسف عليه الصلاة والسلام: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ [يوسف:79] فالذي يأخذ غير المذنب يعتبر ظالماً لنفسه وظالماً للأمة.

فلا يؤخذ الابن بذنب الأب، ولا يؤخذ الأب بذنب الابن، فـالحجاج بن يوسف وهو أشد رجل عرفه تاريخ الإسلام قساوة، كان قد أصدر ذات يوم قراراً بأنه إذا فقد الرجل فسوف يأخذ كل أهله وذويه حتى يجد ذلك الرجل، فقالوا له: لكن الله تعالى يقول: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ [يوسف:79] فقال: كذب الحجاج وصدق الله.

الشكوى إلى الله لا إلى الخلق
الشكوى يجب أن تكون لله عز وجل وحده، وهذا هو منهج الأنبياء والمصلحين وكل مؤمن، فالشكاية التي ترفع لغير الله عز وجل مذلة، ولذلك فإن يعقوب عليه الصلاة والسلام بالرغم مما أصابه من الحزن، وبالرغم من أنه يعلم أن يوسف ما زال موجوداً على قيد الحياة لأن الله تعالى أوحى إليه بذلك لكنه لم يشك إلى أحد أولاده الأحد عشر مع أنهم يستطيعون أن يبحثوا عن يوسف، وإنما قال: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [يوسف:86] لأن الشكاية لغير الله عز وجل مذلة، ومن نزلت به بلية أو فتنة أو مصيبة فأنزلها بخلق الله لم يزيدوه إلا ضعفاً، ومن أنزلها بالله عز وجل فإن لله خزائن السماوات والأرض، وهو وحده القادر على تنفيس الهموم وتفريج الكروب.

عدم اليأس من روح الله سبحانه وتعالى
لا يجوز اليأس ولو قامت كل الأسباب التي تدل على أن هذا الأمر ليس له حل؛ لأن اليأس معناه القنوط من رحمة الله، والله سبحانه وتعالى هو مسبب الأسباب وهو قادر على إيجاد الحلول لكل المعضلات والملمات، وكل شيء عنده بمقدار وبأجل مسمى، فاليأس من روح الله ومن رحمة الله كفر بالله عز وجل، كما قال الله تعالى: وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف:87] والمسلم عليه مهما تأخرت إجابة دعوته أو حصول مطلوبه في هذه الحياة أن يطرق باب الكريم سبحانه وتعالى دائماً وأبداً بالدعاء والتضرع، وبمقدار ما يتوسل ويتضرع بين يدي الله عز وجل بقدر ما يحصل مقصوده وينال مراده؛ فإن الله سبحانه وتعالى كريم جواد، ولذلك فإنه لا يجوز اليأس من روح الله سبحانه وتعالى.

التقوى والصبر مفتاح كل خير
أعتقد -والله أعلم- أن القصة كلها تدور حول التقوى والصبر، وأنها مفتاح لكل خير، فما حدث ليوسف ولأبيه يعقوب، وما حصل من الفتن العظيمة من إلقائه في البئر، ومن بيعيه وشرائه، ومن أذية يوسف عليه الصلاة والسلام في بيت العزيز ، ومن السجن، ومن الأذى الشديد كل ذلك درس من دروس هذه الحياة، من أجل أن يعلم الله عز وجل الناس الصبر، وأن طريق الجنة صعبة وعرة، فالجنة حفت بالمكاره، فهذا نبي من أنبياء الله لقي من الأذى ولقي من الفتن والبلايا ما لا يتحمله إلا عظماء الرجال.

ولذلك الله تعالى أخبر أن هناك عاملين هما السبب في أن يصل يوسف إلى ما وصل إليه من حكم بلاد مصر هما التقوى والصبر، فالذي لا يتقي الله عز وجل لا يدرك مطلوبه، والذي لا يصبر ويتحمل في سبيل دينه كل مشقة وكل عناء قد ينقلب على عقبيه، ولذلك الله تعالى قال: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90].

ولذلك تعتبر هذه الآية هي خلاصة القصة والهدف منها، ولا يمكن أن يصل العبد إلى مطلوبه وينال مراده إلا بالتقوى والصبر.

العفو عند المقدرة
العفو عند عدم المقدرة أمر يسير؛ لأن الإنسان عاجز عن أن ينال من عدوه، لكن حينما يظفر بعدوه ثم يعفو ويتجاوز عنه ويبحث عما عند الله من الجزاء فإن هذا يعتبر أفضل طريق إلى الله عز وجل والدار الآخرة، ولذلك فإن يوسف عليه الصلاة والسلام بالرغم مما فعل به إخوته من إلقائه في البئر، والمخاطرة بحياته، ثم أذية أبيه بفقد يوسف هذه المدة الطويلة التي قال بعض المفسرين: إنها بلغت أربعين سنة حتى ذهب بصره، ومع ذلك كله عفا عن إخوته رغم قدرته على إنزال أشد العقوبات قساوة بهم، وقابل إساءتهم بالإحسان قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:91-92] وهذا هو العفو عند المقدرة، فإن هذه صفات العظماء الأجلاء، الذين يتحملون في سبيل دعوتهم كل أذى، ولذلك فإنه عفا عنهم وقال: (لا تثريب) و(لا) هنا نافية للجنس، نفى هنا حتى العتاب، أي: لا أعاتبكم أبداً. وكونه ينفي العتاب دليل على أنه قد تجاوز عن هذا الذنب الذي فعلوه معه.

إن العفو عند المقدرة هو أفضل طريق يستطيع أن يكسب فيه المرء القلوب، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لما ظفر بأهل مكة يوم الفتح، وكان يستطيع أن يقطع رءوس القوم الذين آذوه لمدة ثلاث عشرة سنة إضافة إلى ثماني سنوات وهو مطارد في المدينة، ثم لما دخل مكة فاتحاً قال عليه الصلاة والسلام في خطبته: (أيها الناس! ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء) ولذلك دخل الناس في دين الله أفواجاً بسبب العفو عند المقدرة، ولذلك يوسف عليه الصلاة والسلام عفا أيضاً عند المقدرة، وقال لإخوته: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ [يوسف:92].

قصة يوسف منهج لكل داعية يريد نجاح دعوته
قصة يوسف عليه الصلاة والسلام منهج لكل داعية يريد أن ينجح في دعوته في هذه الحياة، ومنهج لكل مصلح يريد أن يكون لإصلاحه أثر في هذه الحياة، ولذلك الله تعالى يقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي [يوسف:108] أي: قل يا محمد: سبيل يوسف عليه السلام هي سبيلي أنا أيضاً في الدعوة إلى الله عز وجل قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].

هذا هو سبيل المرسلين عليهم الصلاة والسلام، فلا بد أن نتقيد بهذا السبيل، ونتقي ونصبر ونحسن العمل، ونتحمل الأذى في سبيل الله عز وجل، ونتحمل كل ما نلاقيه في ذات الله عز وجل ومن أجل دين الله عز وجل، وهذا سبيل يوسف عليه الصلاة والسلام، وهذا سبيل محمد صلى الله عليه وسلم وسبيل جميع المرسلين، وهي سبيل كل داعية، أما الداعية الذي يريد أن يسير في ركب هذه الدعوة دون أن يتحمل سجناً، أو دون أن يتحمل أذى، أو دون أن يبتلى في دينه، أو دون أن تعرض عليه شهوات الحياة الدنيا من نساء ومال ومركز وأذى وقتل وتعذيب فمثل هذا لا يسير على سبيل معتدلة، بل على سبيل معوجة، أما السبيل المعتدلة فهي ما عرفناه في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].

ولذلك فإن السبيل الذي يجب أن يأخذ منه الدعاة بصفة خاصة والمسلمون بصفة عامة منهجهم كتاب الله عز وجل، فإنه فيه خبر ما قبلنا ونبأ ما بعدنا.

مجيء النصر في آخر أشواط الكفاح
النصر قد يتأخر، فتضيق صدور، وييئس أقوام، ويرجع أقوام كثر من منتصف الطريق، ويرفع كثير من الناس أيديهم عن الدعوة، وقد يتراجع الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر دون أن يكملوا المشوار، وقد يستكثر الدعاة المصلحون المجاهدون في سبيل الله مدة الجهاد، وكل ذلك لا يجوز في حياة المسلمين أبداً بأي حال من الأحوال؛ لأن النصر لا يأتي إلا في آخر شوط من أشواط الكفاح والجهاد، فإذا اشتدت الأمور وعظمت، ووصل الأمر إلى حد اليأس من بعض الناس حينئذٍ يأتي النصر، ولا يأتي النصر في أول الطريق إنما يأتي في آخر الطريق، ولو جاء في أول الطريق لما كان هناك كفاح وجهاد، ولكنه يأتي في آخر شوط من أشواط الكفاح حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا [يوسف:110] والله عز وجل يقول في آية أخرى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].

علينا أن نوطن أنفسنا ونحن نضع أول قدم نسلكها في هذا السبيل إلى الله عز وجل والدار الآخرة والكفاح في سبيل حياة الأمم وسعادتها في الدنيا والآخرة، نوطن أنفسنا على أن الطريق وعرة، وأنها مملوءة بالعقبات، لكن لنتأكد أنه في آخر شوط من أشواط هذا الطريق سوف يأتي نصر الله عز وجل حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف:110].

karim.bensallehdz
2015-08-16, 21:32
بارك الله فيكم

همسات ايمانية
2015-08-17, 19:22
قصة اصحاب الكهف




قال الله سبحانه تعالى
((أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)



قال الله عز وجل في بداية هذه القصة، مادحاً نفسه، ومثنياً عليها بأنه يقص هذه القصة بالحق، وليس بالهزل، أو الكذب، أو الافتراء؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الكهف:13] وقد ابتدأت هذه القصة بالثناء على أصحابها وأبطالها: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ [الكهف:13] لم يكونوا شيوخاً - كباراً في السن- إنما كانوا فتية صغاراً في السن، ولكن الله عز وجل خلد ذكرهم.

ما شأنهم يا رب! وما قصتهم؟ إنهم آمنوا بالله جل وعلا .. رأوا قومهم يعبدون الأصنام والكواكب .. يعبدون غير الله جل وعلا، ويشركون به سبحانه وتعالى، لكنهم آمنوا بالله، فاستجابوا لهذه الفطرة، واستجابوا لله جل وعلا؛ فكانت أعظم فضيلة لهم أنهم آمنوا بالله: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ [الكهف:13] هل تركهم الله لوحدهم؟ لا .. وَزِدْنَاهُمْ هُدىً [الكهف:13] ولكن الله عز وجل زادهم إيماناً وتقوى وهدى، ولم يكن هذا فقط؛ بل قال: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ [الكهف:14] ثبتهم الله جل وعلا، وزادهم إيماناً وثباتاً.

إنكار أصحاب الكهف لما عليه قومهم من الشرك بالله
هل جلسوا بين قومهم؟

هل رضوا بهذا الشرك؟

هل رضوا بهذه الأصنام التي تعبد من دون الله؟ لا. بل قاموا من مكانهم، ولم يتحمل أحدهم أن يجلس بين قومه .. إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً [الكهف:14].

نظروا إلى قومهم فأنكروا، ونظروا إلى شركهم فاستنكروا: هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الكهف:15] ليس الأمر بالادعاء ولا بالكلام، من يصف الله عز وجل بأنه يشرك به شيئاً .. يشرك به في الألوهية، أو في أسمائه وصفاته، أو بالربوبية، أو يشرك به في الحكم الذي تفرد الله عز وجل به؛ فليأت بسلطان بين .. فليأت بدليل يثبت ما ادعاه: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [العنكبوت:68].

لم يتحملوا الوضع، ولم يتحملوا الشرك، وتلك الأصنام، ولا هذه الطواغيت، فقاموا من مكانهم، وهربوا من مجتمعهم، واعتزلوا الناس .. إلى أين؟ ذهبوا كلهم إلى أحد الكهوف المظلمة .. خرجوا من القصور إلى أحد الكهوف .. خرجوا من الترف والنعيم وزينة الدنيا إلى كهفٍ من الكهوف، يجتمعون فيه.

نعم! إنه الإيمان الذي لا يسمح لذلك المؤمن أن يجلس بين الشرك، إنه الإيمان الذي لا يرضى لصاحبه أن يرضى بهذا المنكر، وتلك المنكرات .. وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ [الكهف:16] إنه الكهف المظلم .. إنه المكان الموحش، لكن الله عز وجل جعله مفاجأة لهم؛ إن الكهف المظلم قد أصبح كهفاً فسيحاً، ذلك الكهف المظلم ألقى الله سبحانه وتعالى فيه النور، فأصبح من الإيمان جنة من الجنان .. فأصبح من الإيمان الذي دخل في القلوب جنة يعيشون ويتقلبون فيها، أخرجهم الله من القصور ليدخلوا تلك الكهوف، ومن رحمته سبحانه وتعالى أن جعل هذه الكهوف أفضل وأجمل وأسعد لهم من تلك القصور .. وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً [الكهف:16].

وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود
دخلوا ذلك الكهف، فجلسوا، وإذا بالتعب يصيبهم، والنعاس يرهقهم، فاضطجعوا في ذلك الكهف، فأرسل الله عز وجل عليهم النعاس والنوم، وتخيل هذا المنظر! هل ينامون يوماً أو يومين أو ثلاثة؟ تطلع عليهم الشمس فتبدي عليهم من نورها، ثم تغرب عليهم وينتهي ذلك اليوم وهم نيام .. وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ [الكهف:18].

الأعين مفتوحة وهم نيام، ليسوا بثابتين ولا ساكنين، بل يتقلبون يمنة ويسرة، والشمس تطلع عليهم وتغرب، ولهم كلب نائم عند الباب بالوصيد، حتى يرعب من يدخل عليهم؛ حماية من الله جل وعلا، وإذا رأيت منظرهم أصابك الخوف، ولو اطلعت عليهم لملئت منهم رعباً.. ما هذا المنظر العجيب؟ وما هذا الموقف الرهيب؟ الشمس تطلع عليهم وتغرب، وإذا رأيت إلى منظرهم كأنهم أيقاظ لكنهم رقود، قال الله جل وعلا واصفاً ذلك المنظر: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً [الكهف:17-18].

ظهور أمر أصحاب الكهف واختلاف الناس فيهم
إنها آية من آيات الله، وعلامة من علامات قدرة الله جل وعلا؛ أن ترى رجلاً نائماً وليس بنائم، وتراه يقظاناً وليس بيقظان، والكلب عند الباب، والشمس تطلع عليهم وتغرب، وفي لحظة من اللحظات يأذن الله جل وعلا، للأرواح أن ترجع، فإذا الأجساد تتحرك مرة أخرى، فتهتز من بعد موتها: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ [الكهف:19].

فإذا بهم يقومون يتساءلون بينهم! يقول أحدهم: كم يوماً نمنا؟ وكم ساعة لبثنا؟ فيرد عليه الآخر فيقول: نمنا يوماً كاملاً .. نمنا يوماً طويلاً، فرد الآخر فقال: لا. بل نمنا بضع يوم .. عشية أو ضحاها، قال لله تعالى: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف:19] فإذا الجدال عقيم، وإذا النقاش لا ينفع، وإذا الكلام لا يفيد، فردوا أمرهم إلى الله قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ [الكهف:19] هذا أمر لا ينفعنا، لقد أهلكنا الجوع والعطش، ونريد طعاماً؛ فأخرجوا قطعاً من فضة ليشتروا بها طعاماً، وقالوا لأحدهم: اذهب بهذا المال إلى أسواق المدينة، وادخل مخفياً متلطفاً برفق لكي لا يشعر بك أحد؛ فإنهم إن شعروا بك وقبضوا عليك فسوف يرجموننا ويقتلوننا، إلا أن تعود في دينهم.

وهذه هي حال الطغاة، وتلك هي أحوال الظلمة، وهذه هي المجتمعات الظالمة، لا ترضى أن يبقى على دينهم، ولا ترضى أن يبقى الصالحون على منهجهم، بل إما الرجم أو أن يعودوا في ملتهم .. إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً [الكهف:20].

واسمع إلى سياق القرآن كيف يصف الله جل وعلا خبره، ويقص علينا قصصه! وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً [الكهف:19] إياكم إياكم أن يظهروا عليكم! إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ [الكهف:20] أتعرف ما هو الرجم يا عبد الله؟ إنه الرمي بالحجارة؛ أن تحفر لهم الحفر، فيرموا بالحجارة حتى الموت، لماذا؟ لأنهم آمنوا بالله .. يُسجنون ويُقتلون ويُعذبون؛ لأنهم آمنوا بالله جل وعلا، لأنهم ما رضوا إلا عبادة الله، ولأنهم أبوا إلا توحيد الله، ولأنهم رفضوا كل شيء إلا عبادة الله جل وعلا، وحكمه سبحانه وتعالى.

لكن الذي خرج منهم ما كان يعلم أنهم قد ناموا في كهفهم أكثر من ثلاثمائة سنة .. إنها آية من آيات الله! فخرج وإذا بالمدينة قد تغيرت، والناس قد تبدلوا، والقصور قد اختلفت، وإذا بالناس يقصون هذه القصة عبر الأجيال والأزمان .. يقصون قصة فتية خرجوا من قصورهم إلى كهف من الكهوف، فما علم الناس عنهم وما شعروا بهم، وإذا بهذا الرجل يخرج بينهم، شكله يختلف عنهم، وهيئته كأنها هيئة أصحاب الكهف، وإذا به يأتي بمالٍ من العصور القديمة والأجيال السالفة، فيخرجها ليشتري بها طعاماً، فقال له البائع: من أين لك هذه النقود؟ قال: إنها نقودي. قال: من أنت؟ قال: أنا فلان بن فلان، قال: أين أنتم؟ فإذا بهم يكتشفون الخبر ويعرفون القصة، فقدموا عليهم، وقد آمن القوم بالله، ورضوا به جل وعلا، فرأوا هؤلاء الفتية الذين قص الناس قصتهم، وذكروا روايات عنهم، فعظموهم، وأعلوا شأنهم وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ [الكهف:21].

تبعه أهل المدينة فإذا به يهرب ويدخل الكهف، فقبض الله أرواحهم جميعاً .. يموت أصحاب الكهف كما كانوا آية من آيات الله أطلعها الله للناس، فإذا بهم يختلفون ويتنازعون ويتجادلون بينهم، فإذا بالضعفة المساكين يقولون: لنتخذن عليهم مسجداً .. (قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) إنهم أولياء وصالحون ومتقون، لنجعلن عليهم مسجداً، نأتي ونصلي ونعبد الله جل وعلا في هذا المكان .. قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً [الكهف:21].

وهكذا حال السذج والضعفة من الناس، يشركون بالله جل وعلا؛ لأنهم وجدوا قبراً من قبور الأولياء، أو مكاناً من أماكن الصالحين، وإذا رأوا صالحاً تمسحوا به وتقربوا به إلى الله عز وجل، وإذا رأوا قبراً لأحد الأولياء، قالوا: نعبد الله عز وجل عنده، وندعوه عز وجل بجواره، ونتوسل إلى الله عز وجل بهذا الولي وبذلك الصالح .. غلبوا على أمرهم، وتسلطوا على رقابهم أبناء السلاطين، فقالوا: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً [الكهف:21].

وقد اختلف الناس في عددهم، فقال البعض: ثلاثة رابعهم كلبهم، وقال بعضهم: خمسة سادسهم كلبهم، وقال الآخرون: سبعة وثامنهم كلبهم، ولا يعلم عدتهم إلا الله جل وعلا، وقد نهى الله عز وجل نبيه أن يجادل في أمرهم أو يخوض في شأنهم.

إنها قصة وأي قصة، وعبرة وأي عبرة، نرجي بعض العبر فيها إلى الخطبة الثانية .. أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

عبر ومواعظ من قصة أصحاب الكهف
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون: لم يخبر الله عز وجل بهذه القصص للتسلية ولا لقضاء الوقت والفراغ، إنما هي للعبرة، فما قص الله عز وجل علينا قصة في القرآن إلا وفيها عبر وفوائد، فاسمعها حفظك الله:

أول ما بدأ الله عز وجل القصة أنه أخبر أنهم فتية .. شباب صغار في السن، كما أخبر الله عن إبراهيم بقوله: قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:60] إن هذا الدين لا فرق فيه بين الصغار والكبار، ولا بين الشباب والشيوخ، أو الرجال والنساء، لكن يحمل لواءه الشباب في عز قوتهم، وعنفوان شبابهم -يحملون هذا الدين- فلا يأتي الرجل في وقت الشباب ويستغله في الفتن والشهوات والملهيات، ثم إذا اقتربت وفاته قال: آمنت بالله .. آمنت أنه لا إله إلا الله.

إن هذا الدين يرفع لواءه الشباب قبل الشيوخ، والشيوخ يجلسون في بيوت الله يرفعون أياديهم يدعون الله جل وعلا أن يعز دينه، ويعلي كلمته.

إن الشباب في هذه الأمة مطالبون أن يقوموا كما قام أصحاب الكهف، وألا يجلسوا في بيوتهم وقصورهم، ولا يرضوا بهذا الترف وبذلك النعيم، بل يقومون من ذلك الترف، ويدعون إلى الله جل وعلا، وينكرون تلك المنكرات، ولا يرضوا للناس أن يجلسوا بين هذه المنكرات، أو يأتونها.

إن الشباب في هذا الزمان مطالبون بأن يصدعوا بالحق، ويجهروا به، وينكروا المنكرات، كما قال الله جل وعلا: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].

عبد الله: هل رأيت أولئك الفتية وقد هجروا القصور والنعيم، والدنيا بأكملها .. إلى أين يا عبد الله؟

إنهم جلسوا في كهف من الكهوف المظلمة، ورضوا بهذا الكهف بديلاً عن تلك القصور، لإرضاء الله وعبادته جل وعلا، خرجوا من هذه الدنيا والواحد منهم لا يرضى أن يجلس في هذا النعيم بين المنكرات، أو يأخذ الأموال، أو يرضى بهذه الفتنة وذلك الترف وهو يأتي المنكرات.

أسمعت -يا عبد الله- ببعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إنه خباب بن الأرت رضي الله عنه، كان عمره عشرين سنة، فجلد وضرب وافتتن في دينه، حتى أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟).

أسمعت بـحبيب الزيات عليه رحمة الله، حين استدعاه الحجاج ذلك الظالم الطاغية، فقال له: سمعنا أنك تتكلم فيّ؟ فقال: نعم! أنت أحد الظلمة الطواغيت، وسوف تلقى الله بكل نفس قتلتها ظلماً.

قال: فما تقول في مروان بن عبد الملك؟ قال: أنت خطيئة من خطاياه، هو أظلم منك وأطغى، وأفجر منك وأعتى. قال: أتقول هذا؟ قال: نعم. فصلبه وأمر الجلاد أن يقطع لحمه قطعة قطعة، ويسفك دمه، حتى اقتربت روحه على الوفاة، فقال: لا تقتلوه، اذهبوا به إلى الأسواق لتزهق نفسه والناس ينظرون إليه وهو يعذب: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً [الكهف:20]. فصلب أمام الناس والدم يسيل، واللحم يتقطع، والنفس تخرج، فأتاه أحد الناس الصالحين، وقال: أتريد شيئاً؟ فقال: أما دنياكم فلا، لا أريد شيئاً من الدنيا إلا شربة من ماء -يريد أن يشرب شربة من الماء لتخرج نفسه- فشرب شربة من ماء، ثم خرجت روحه إلى الله جل وعلا.

أتعرف كم كان عمر حبيب في ذلك الوقت؟ لقد كان عمره سبعة عشر سنة، ومع ذلك يواجه أكبر ظالم وطاغية على وجه الأرض.

إن الفتية الذين خلد الله ذكرهم لم ينقطع تاريخهم، بل إن في هذه الأمة من الفتية والشباب الذين يقفون في وجه الظلم والطغيان، وفي وجه الشرك والكفر بالله جل وعلا: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين إلى قيام الساعة، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك).