بورمله
2009-09-05, 20:16
- مات الرئيس...!!!
قالها أحد الموظفين معنا في العمل وهو يخفي فرحته بعد أن أقسم بالله العظيم أن الخبر صحيح وأن بعض الإذاعات الأجنبية قد بثت الخبر منذ قليل برغم تكتم إذاعاتنا الصماء الغبية، فجاء يبشرنا بالخبر السار. بعدها اختفى متنقلاً بين المكاتب والطرقات لبث الخبر السار.
لم أصدق الخبر في البدء، غير أنه بعد ثوان من مضي زميلنا والذي نقل الخبر للتو لم يكن لأحد من الموظفين في مصلحتنا الحكومية حديث إلا عن خبر موت السيد الرئيس:
- مات الرئيس.
- مات الرئيس.
- مات الرئيس.
كنت حذراً من مجاراة الزملاء والخوض في خبر موت السيد الرئيس – حفظه الله - وسألت نفسي في سذاجة:
- هل من الممكن أن يموت الرئيس؟
- كيف يموت...؟!
- هل يجرؤ عزرائيل على قبض روح السيد الرئيس؟
وكأن زميلي الجالس أمامي يتجسس على أفكاري فبادرني قائلاً:
- أخيراً مات الرئيس...؟!
لم أعبء بما قال ولم أرد عليه، غير أنني تركت نفسي مستمتعاً بموقع المستمع والمتفرج بين الزملاء، والمنشغلين بالخبر. بعضهم التزم الصمت مثلي، البعض الآخر كان متهوراً في فرحته خاصة زميلنا الأخواني الذي هتف دون شعور:
- مات الرئيس ...
- مات الطاغية ...
- مات الظالم ...
قبل أن يكمل هتافه قاطعه أحد الزملاء من ذوي الميول اليسارية:
- ها قد جاء يومكم ... تنتظرون موت الرئيس لتحكموا البلاد. أنتم صورة أخرى من الديكتاتورية العمياء. ولكنها ديكتاتورية باسم الدين.. ستحرموننا من كل شيء وتحرِّمون علينا كل شيء... ستعيدوننا إلى الوراء آلاف السنين إن حكمتم.
قاطعه الأخواني في غضب:
- الكفرة أمثالك هم من يقولون ذلك. أتسمى الحكم بكتاب الله وسنة رسوله تخلفا. أنت ذنديق يجب قتله على الفور يا كافر.
قبل أن يشتبك الإثنان في عراك كان زميل آخر يفرق بينهما قائلاً وهو يبتسم:
- تتعاركون الآن وتتناسون المصيبة؟
بهت الجميع غير أنه عقب:
- نعم موت السيد الرئيس مصيبة...!! هو لم يترك نائباً يحل محله... وبوفاته ستعم الفوضى البلاد أكثر مما هي فيه، بلادنا ترتع في الفساد واللصوصية يا سادة، بيعت بلادنا بأرخص الأثمان بعد أن تحكم فيها الفاسدون ورجال الأعمال. لم يترك الرئيس أحداً يُعتمد عليه. جعل الجميع عبارة عن مسخ لا يستحق الرئاسة، جعلهم إمعات خانعون له في هوان ومذلة، ولو كان الخبر صحيحاً ستكون الطامة الكبرى، إذ من سيحكم بعده؟!
بهت الجميع ولم ينطق أحد.
بعد قليل ابتسم زميلنا الكافر كما قال الأخواني مردفاً في سخرية:
- لا تصدقوا الخبر.. إنها إشاعة ... في بلادنا يموت الرئيس مقتولاً أو مسموماً، أما أن تؤخذ روحه ...... فذلك مستحيل. ((( كلام لا يقال )))قالها زميلنا وضحك وهو يتابع نظرات الأخواني والذي بدت عليه علامات التذمر قائلاً في صوت منخفض:
- لعن الله الكفرة محبي العلمانية والفسوق أمثالك. سنحكمكم قريباً ونعيد الشارد منكم إلى طريق الصواب أيها المارقون عن حظيرة الإيمان.
مرقت أنا بعدها ولم أكمل أحاديث العراك، والتي سببها خبر إشاعة موت السيد الرئيس مستأذناً في مغادرة العمل مبكراً هروباً من مجاراة الجميع في دولتنا البوليسة المحبب فيها المثل القائل "إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب" فأغلقت فمي اللعين حتى لا يكون سبباً في حدفي بأحد المعتقلات المنتشرة بطول البلاد وعرضها والمستعدة دائماً على استقبال زوار جدد كل يوم، وكأنها نار الله الموقدة تقول لنا هل من مزيد.
مضيت غير مكترث بموت الرئيس ممنياً نفسي في سرية تامة أن يكون الخبر صحيحا. فقط متمنياً دون الإفصاح، فأولادي الثلاثة مازالوا في طور الطفولة، وزوجتي لا تزال تتمتع بشبابها. ولا أريد أن ينعم بها أحد إن أفصحت عن فرحتي بموت الرئيس.
في الطريق كان هاتفي المحمول يرن في تواصل دون أن يظهر على شاشته اللعينة أي رقم، مما حدا بي إلى التوجس قبل أن أرد، كان صديقي صابر يتحدث من كندا ليسألني عن صحة الخبر الذي سمعه مبكراً في إذاعاتهم الكندية النشيطة عن موت الرئيس، ضحكت وأنا أقول له:
- لا تصدق يا عزيزي فبلادنا بلاد الإشاعات والجهل. الناس تريد أن تصدق ما يشيعون. لا تكترث يا صديقي هى مجرد إشاعة. اهتم أنت بنفسك وبدراستك حتى تعود إلى وطن الجهل علك تمحو قليلا منه.
تعجب صديقي صابر دون أن يتكلم كثيراً في الخبر. فقط قبل أن ينهي معي الحديث من بلاد الحرية والتي يصر على أنها أكثر منا تقدما وتمسكاً بتعاليم الإسلام التي هجرها الجميع قائلاً في ذهول:
- لكِ الله يا بلادي ... لكِ الله في تنعمك بنعمة الخوف والجهل.
بعدها أغلق الهاتف ليتركني في قلق كبير، فقد تملكني شعور بأنه ربما قد يكون حديثنا الهاتفي مسجلاً من قبل الأمن والذي بدأت أتيقن أنه يطلع على كل أسرارنا، حتى أنني عزفت عن لقاء الخميس بيني وبين زوجتي خشية أن تكون قد زُرعت لي كاميرات تصوير في غرفتي ليعرفوا ما يدور بيني وبين زوجتي الشابة. وهل أنا مواطن مثالي من وجهه نظرهم أم لا..؟
زوجتي اللعينة تقول إننى أصبحت غير قادر على التواصل معها في لقائنا الخميسي الوحيد والذي لا يدوم غير دقائق معدودة بعدها أتكوم أنا في ثبات عميق، مما جعلها تبدأ يوم الخميس بأغنية قذرة لا أدري من يغنيها وأين استمعت إليها، ترددها علي صباح كل خميس وهي تغني في سخرية:
- إنت ما بتعرفش... إنت ما بتقدرش...
ألعنها ساعتئذ وأحاول أن أثبت لها أنني مازلت أعرف وأقدر، متحدياً إياها حتى لا تجرح رجولتي المهانة كل خميس ملعون.
حين عدت إلى المنزل حاولت أن أطرد الخبر الكئيب من رأسي والتي أشك أن الأمن يعلم ما يدور بداخلها، فهززت رأسي حتى أبعد الخبر المشئوم، وحمدت الله أن اليوم ليس هو الخميس، ففي حالتي تلك ستتأكد زوجتي من أنني لا أعرف ولا أقدر أيضاً، فتسللت إلى الغرفة في توجس خشية أن تجبرني زوجتي على أن أعرف أو أقدر واليوم ليس يومها الخميسي الملعون.
في المساء استيقظت على صوت زوجتي.
في البدء ظننت أنها تريدني أن أواقعها، غير أنها قالت في غضب:
- السيد الرئيس لم يمت... ها هو ذا يخطب في التلفاز.
انتفضت مسرعاً لأشاهد الرئيس ـ حفظه الله من كل سوء ومن كل إشاعة ـ وكلي غيظ من أن الأشاعة الملعونة تحولت إلى كذبة.
كان السيد الرئيس يخطب في ثقة وكأنه يقول لنا لا تصدقوا خبر موتي ... كنت أسمعه يهمس إليَّ مستهزءاً منا ومن الإشاعة:
- أنا لا أموت ... أنا حي باقٍ فوق رؤسكم... وحتى لو حدث ذلك...!! فقد استنسخت لكم نفسي وتركت لكم سلالتي حتى تنعموا أيها الحثالة ناكري الجميل.
أغلقت التليفزيون الغبي وقمت منتفضاً هارباً إلى النوم تتبعني زوجتي بعد أن ارتدت قميصها الشفاف ووضعت عطري المحبب حتى تستدرجني إلى تقديم لقائنا الخميسي الذى لا أحبه أن يأتي.
حاولت زوجتي أكثر من مرة كي توقظ همتي وتوقف الدم في عروقي التي يبسها الخبر، غير أنها في النهاية نامت في كمد وغيظ وأنا أسمعها تغني أغنيتها المفضلة قبل أن تنام:
- إنت ما بتعرفش... إنت ما بتقدرش...
في الصباح ذهبت إلى العمل متكاسلاً وكلي رغبة في عدم المضي، غير أن رصيدي من الأجازات كان يناديني مثل رصيد المحمول الذي أحمله مردداً في عقلي:
- لقد نفد رصيدكم من الأجازات. يرجى تناسى الإعتيادي والعارضة.
على مكتبي وجدت عم بيومي الفراش يضع قهوتى الخالية من السكر الذي دب في جسدي فوهبني مرضاً جديداً بالإضافة إلى الضغط والكبد اللذين يرتعان في جسدي النحيل.
قبل أن أنعم بشرب قهوتي الصباحية بادرني أحد الزملاء بأن التعليمات الصادرة اليوم للمصلحة الحكومية التي أعمل بها تقول بأنهم سوف يخرجوننا بعد قليل لنحتفل في مسيرة تنادي بحياة السيد الرئيس لتكذيب الإشاعة التي انتشرت بالأمس.
تذكرت على الفور زميلنا صاحب الإشاعة فسألت عليه لأنني لاحظت عدم وجوده، حين سألت عنه نظر إلى الجميع في استغراب وخوف دون أن ينطق أي منهم بكلمة، غير أن عيونهم كانت تجيب بوضوح عن مصير زميلنا المسكين الذى قتلته الإشاعة.
لحظات وكانت الأتوبيسات الحكومية التابعة للمصلحة تنقلنا لتجمع المواطنين والمحتفلين بحياة السيد الرئيس وتكذيب الإشاعة الملعونة. التعليمات تؤكد أن التجمع سيكون بالجامع الكبير ومنه ستنطلق شرارة الاحتفال بحياة الرئيس.
ركبت الأتوبيس وأنا أجر قدميَّ في تكاسل، إلى جوارى جلس زميلنا الأخواني وأمامه كان يجلس زميلنا الكافر – اليساري - كما أنعم عليه الأخواني بالأمس باللقب الجديد. الجميع كان صامتاً دون أن ينبس بكلمة، فقط كنا ننظر إلى بعضنا البعض في توجس وريبة.
حين وصلنا إلى الجامع كانت الجموع الغفيرة من موظفي الحكومة تطن كخلية نحل وهي ملتحمة كجسد واحد رهيب له آلاف الأيدي والأرجل.
لم تكن تلك هي المرة الأولى التي أشارك فيها في تظاهرة من هذا النوع فقد تعودت في كل انتخابات تجديد للرئيس ـ حفظه الله ـ على أن تنقلنا نفس الأتوبيسات جميعاً وفي نفس المكان أمام الجامع الأزهر حتى نعبر عن رأينا في حرية .. ونؤكد بقاء الرئيس في منصبه دون منافس. صحيح أننى لم أكن أدخل لجان الإنتخابات أو أصوِّت للرئيس أو غيره أنا أو أي من زملائي، وصحيح أيضاً أننا كنا نذهب فقط لأن المتخلف منا كان يوقع عليه خصم من الراتب لست في احتماله، غير أن الغريب أن رئيسنا أدام الله عليه نعمة الرئاسة والمنصب كان ينجح دائماً باكتساح وبنسبة تتعدى التسعة والتسعين بالمائة.
لحظات قليلة بعد نزولنا وبدأت جموع الناس تهتف بحياة الرئيس. نظرت في ذهول إلى الجميع فوجدتهم يهتفون في قوة:
- بالروح... بالدم... نفديك يا زعيم.
كنت أنا الوحيد الذى لا يهتف. حتى زميلي الإخواني كان يصرخ معهم بنفس القوة وصوته يعلو في وضوح وهو يهتف:
- يعيش الرئيس .. يحيا الرئيس ..
الكافر أيضاً كان يشاركه نفس الهتاف وبنفس القوة وقد تعانق الإثنان وهما يهتفان في حماس متناسياً الأخواني أنه قد منّ عليه يوم البارحة بتهمة الكفر.
أنا الوحيد الصامت إذاً...!
أنا الوحيد الذى لا يهتف...!
الويل لى إن رآني أحد...
في بلادي لا أمان لأحد حتى لو كان أخاك. في بلادي الجبن والصمت وحدهما لا يكفيان. عقلي الباطن اللعين يرفض الهتاف ويؤكد لي فى غباء أن السيد الرئيس قد مات. ملعون أيها العقل الخرب، ستقذف بي إلى الهلاك أيها الملعون.
عيناي مغمضتان وأنا أسير مغيباً مع المنادين بحياة الرئيس. انطق أيها اللسان الغبي، سترميني إلى الهلاك إن لاحظني أحد من الزبانية. تكلم يا أنا يا أيها الغبي الدائم. كنت أحاول بإصرار وفي كل مرة ينعقد لساني. غير أنني فجأة هتفت مع الجميع بعد أن فكت عقدتي، فصرخت بقوة وبصوت أعلى من الجميع وأنا أرتعش:
- عاش الرئيس .. يحيا الرئيس ..
بقلم خالد عاشور -مدل است اون لاين
قالها أحد الموظفين معنا في العمل وهو يخفي فرحته بعد أن أقسم بالله العظيم أن الخبر صحيح وأن بعض الإذاعات الأجنبية قد بثت الخبر منذ قليل برغم تكتم إذاعاتنا الصماء الغبية، فجاء يبشرنا بالخبر السار. بعدها اختفى متنقلاً بين المكاتب والطرقات لبث الخبر السار.
لم أصدق الخبر في البدء، غير أنه بعد ثوان من مضي زميلنا والذي نقل الخبر للتو لم يكن لأحد من الموظفين في مصلحتنا الحكومية حديث إلا عن خبر موت السيد الرئيس:
- مات الرئيس.
- مات الرئيس.
- مات الرئيس.
كنت حذراً من مجاراة الزملاء والخوض في خبر موت السيد الرئيس – حفظه الله - وسألت نفسي في سذاجة:
- هل من الممكن أن يموت الرئيس؟
- كيف يموت...؟!
- هل يجرؤ عزرائيل على قبض روح السيد الرئيس؟
وكأن زميلي الجالس أمامي يتجسس على أفكاري فبادرني قائلاً:
- أخيراً مات الرئيس...؟!
لم أعبء بما قال ولم أرد عليه، غير أنني تركت نفسي مستمتعاً بموقع المستمع والمتفرج بين الزملاء، والمنشغلين بالخبر. بعضهم التزم الصمت مثلي، البعض الآخر كان متهوراً في فرحته خاصة زميلنا الأخواني الذي هتف دون شعور:
- مات الرئيس ...
- مات الطاغية ...
- مات الظالم ...
قبل أن يكمل هتافه قاطعه أحد الزملاء من ذوي الميول اليسارية:
- ها قد جاء يومكم ... تنتظرون موت الرئيس لتحكموا البلاد. أنتم صورة أخرى من الديكتاتورية العمياء. ولكنها ديكتاتورية باسم الدين.. ستحرموننا من كل شيء وتحرِّمون علينا كل شيء... ستعيدوننا إلى الوراء آلاف السنين إن حكمتم.
قاطعه الأخواني في غضب:
- الكفرة أمثالك هم من يقولون ذلك. أتسمى الحكم بكتاب الله وسنة رسوله تخلفا. أنت ذنديق يجب قتله على الفور يا كافر.
قبل أن يشتبك الإثنان في عراك كان زميل آخر يفرق بينهما قائلاً وهو يبتسم:
- تتعاركون الآن وتتناسون المصيبة؟
بهت الجميع غير أنه عقب:
- نعم موت السيد الرئيس مصيبة...!! هو لم يترك نائباً يحل محله... وبوفاته ستعم الفوضى البلاد أكثر مما هي فيه، بلادنا ترتع في الفساد واللصوصية يا سادة، بيعت بلادنا بأرخص الأثمان بعد أن تحكم فيها الفاسدون ورجال الأعمال. لم يترك الرئيس أحداً يُعتمد عليه. جعل الجميع عبارة عن مسخ لا يستحق الرئاسة، جعلهم إمعات خانعون له في هوان ومذلة، ولو كان الخبر صحيحاً ستكون الطامة الكبرى، إذ من سيحكم بعده؟!
بهت الجميع ولم ينطق أحد.
بعد قليل ابتسم زميلنا الكافر كما قال الأخواني مردفاً في سخرية:
- لا تصدقوا الخبر.. إنها إشاعة ... في بلادنا يموت الرئيس مقتولاً أو مسموماً، أما أن تؤخذ روحه ...... فذلك مستحيل. ((( كلام لا يقال )))قالها زميلنا وضحك وهو يتابع نظرات الأخواني والذي بدت عليه علامات التذمر قائلاً في صوت منخفض:
- لعن الله الكفرة محبي العلمانية والفسوق أمثالك. سنحكمكم قريباً ونعيد الشارد منكم إلى طريق الصواب أيها المارقون عن حظيرة الإيمان.
مرقت أنا بعدها ولم أكمل أحاديث العراك، والتي سببها خبر إشاعة موت السيد الرئيس مستأذناً في مغادرة العمل مبكراً هروباً من مجاراة الجميع في دولتنا البوليسة المحبب فيها المثل القائل "إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب" فأغلقت فمي اللعين حتى لا يكون سبباً في حدفي بأحد المعتقلات المنتشرة بطول البلاد وعرضها والمستعدة دائماً على استقبال زوار جدد كل يوم، وكأنها نار الله الموقدة تقول لنا هل من مزيد.
مضيت غير مكترث بموت الرئيس ممنياً نفسي في سرية تامة أن يكون الخبر صحيحا. فقط متمنياً دون الإفصاح، فأولادي الثلاثة مازالوا في طور الطفولة، وزوجتي لا تزال تتمتع بشبابها. ولا أريد أن ينعم بها أحد إن أفصحت عن فرحتي بموت الرئيس.
في الطريق كان هاتفي المحمول يرن في تواصل دون أن يظهر على شاشته اللعينة أي رقم، مما حدا بي إلى التوجس قبل أن أرد، كان صديقي صابر يتحدث من كندا ليسألني عن صحة الخبر الذي سمعه مبكراً في إذاعاتهم الكندية النشيطة عن موت الرئيس، ضحكت وأنا أقول له:
- لا تصدق يا عزيزي فبلادنا بلاد الإشاعات والجهل. الناس تريد أن تصدق ما يشيعون. لا تكترث يا صديقي هى مجرد إشاعة. اهتم أنت بنفسك وبدراستك حتى تعود إلى وطن الجهل علك تمحو قليلا منه.
تعجب صديقي صابر دون أن يتكلم كثيراً في الخبر. فقط قبل أن ينهي معي الحديث من بلاد الحرية والتي يصر على أنها أكثر منا تقدما وتمسكاً بتعاليم الإسلام التي هجرها الجميع قائلاً في ذهول:
- لكِ الله يا بلادي ... لكِ الله في تنعمك بنعمة الخوف والجهل.
بعدها أغلق الهاتف ليتركني في قلق كبير، فقد تملكني شعور بأنه ربما قد يكون حديثنا الهاتفي مسجلاً من قبل الأمن والذي بدأت أتيقن أنه يطلع على كل أسرارنا، حتى أنني عزفت عن لقاء الخميس بيني وبين زوجتي خشية أن تكون قد زُرعت لي كاميرات تصوير في غرفتي ليعرفوا ما يدور بيني وبين زوجتي الشابة. وهل أنا مواطن مثالي من وجهه نظرهم أم لا..؟
زوجتي اللعينة تقول إننى أصبحت غير قادر على التواصل معها في لقائنا الخميسي الوحيد والذي لا يدوم غير دقائق معدودة بعدها أتكوم أنا في ثبات عميق، مما جعلها تبدأ يوم الخميس بأغنية قذرة لا أدري من يغنيها وأين استمعت إليها، ترددها علي صباح كل خميس وهي تغني في سخرية:
- إنت ما بتعرفش... إنت ما بتقدرش...
ألعنها ساعتئذ وأحاول أن أثبت لها أنني مازلت أعرف وأقدر، متحدياً إياها حتى لا تجرح رجولتي المهانة كل خميس ملعون.
حين عدت إلى المنزل حاولت أن أطرد الخبر الكئيب من رأسي والتي أشك أن الأمن يعلم ما يدور بداخلها، فهززت رأسي حتى أبعد الخبر المشئوم، وحمدت الله أن اليوم ليس هو الخميس، ففي حالتي تلك ستتأكد زوجتي من أنني لا أعرف ولا أقدر أيضاً، فتسللت إلى الغرفة في توجس خشية أن تجبرني زوجتي على أن أعرف أو أقدر واليوم ليس يومها الخميسي الملعون.
في المساء استيقظت على صوت زوجتي.
في البدء ظننت أنها تريدني أن أواقعها، غير أنها قالت في غضب:
- السيد الرئيس لم يمت... ها هو ذا يخطب في التلفاز.
انتفضت مسرعاً لأشاهد الرئيس ـ حفظه الله من كل سوء ومن كل إشاعة ـ وكلي غيظ من أن الأشاعة الملعونة تحولت إلى كذبة.
كان السيد الرئيس يخطب في ثقة وكأنه يقول لنا لا تصدقوا خبر موتي ... كنت أسمعه يهمس إليَّ مستهزءاً منا ومن الإشاعة:
- أنا لا أموت ... أنا حي باقٍ فوق رؤسكم... وحتى لو حدث ذلك...!! فقد استنسخت لكم نفسي وتركت لكم سلالتي حتى تنعموا أيها الحثالة ناكري الجميل.
أغلقت التليفزيون الغبي وقمت منتفضاً هارباً إلى النوم تتبعني زوجتي بعد أن ارتدت قميصها الشفاف ووضعت عطري المحبب حتى تستدرجني إلى تقديم لقائنا الخميسي الذى لا أحبه أن يأتي.
حاولت زوجتي أكثر من مرة كي توقظ همتي وتوقف الدم في عروقي التي يبسها الخبر، غير أنها في النهاية نامت في كمد وغيظ وأنا أسمعها تغني أغنيتها المفضلة قبل أن تنام:
- إنت ما بتعرفش... إنت ما بتقدرش...
في الصباح ذهبت إلى العمل متكاسلاً وكلي رغبة في عدم المضي، غير أن رصيدي من الأجازات كان يناديني مثل رصيد المحمول الذي أحمله مردداً في عقلي:
- لقد نفد رصيدكم من الأجازات. يرجى تناسى الإعتيادي والعارضة.
على مكتبي وجدت عم بيومي الفراش يضع قهوتى الخالية من السكر الذي دب في جسدي فوهبني مرضاً جديداً بالإضافة إلى الضغط والكبد اللذين يرتعان في جسدي النحيل.
قبل أن أنعم بشرب قهوتي الصباحية بادرني أحد الزملاء بأن التعليمات الصادرة اليوم للمصلحة الحكومية التي أعمل بها تقول بأنهم سوف يخرجوننا بعد قليل لنحتفل في مسيرة تنادي بحياة السيد الرئيس لتكذيب الإشاعة التي انتشرت بالأمس.
تذكرت على الفور زميلنا صاحب الإشاعة فسألت عليه لأنني لاحظت عدم وجوده، حين سألت عنه نظر إلى الجميع في استغراب وخوف دون أن ينطق أي منهم بكلمة، غير أن عيونهم كانت تجيب بوضوح عن مصير زميلنا المسكين الذى قتلته الإشاعة.
لحظات وكانت الأتوبيسات الحكومية التابعة للمصلحة تنقلنا لتجمع المواطنين والمحتفلين بحياة السيد الرئيس وتكذيب الإشاعة الملعونة. التعليمات تؤكد أن التجمع سيكون بالجامع الكبير ومنه ستنطلق شرارة الاحتفال بحياة الرئيس.
ركبت الأتوبيس وأنا أجر قدميَّ في تكاسل، إلى جوارى جلس زميلنا الأخواني وأمامه كان يجلس زميلنا الكافر – اليساري - كما أنعم عليه الأخواني بالأمس باللقب الجديد. الجميع كان صامتاً دون أن ينبس بكلمة، فقط كنا ننظر إلى بعضنا البعض في توجس وريبة.
حين وصلنا إلى الجامع كانت الجموع الغفيرة من موظفي الحكومة تطن كخلية نحل وهي ملتحمة كجسد واحد رهيب له آلاف الأيدي والأرجل.
لم تكن تلك هي المرة الأولى التي أشارك فيها في تظاهرة من هذا النوع فقد تعودت في كل انتخابات تجديد للرئيس ـ حفظه الله ـ على أن تنقلنا نفس الأتوبيسات جميعاً وفي نفس المكان أمام الجامع الأزهر حتى نعبر عن رأينا في حرية .. ونؤكد بقاء الرئيس في منصبه دون منافس. صحيح أننى لم أكن أدخل لجان الإنتخابات أو أصوِّت للرئيس أو غيره أنا أو أي من زملائي، وصحيح أيضاً أننا كنا نذهب فقط لأن المتخلف منا كان يوقع عليه خصم من الراتب لست في احتماله، غير أن الغريب أن رئيسنا أدام الله عليه نعمة الرئاسة والمنصب كان ينجح دائماً باكتساح وبنسبة تتعدى التسعة والتسعين بالمائة.
لحظات قليلة بعد نزولنا وبدأت جموع الناس تهتف بحياة الرئيس. نظرت في ذهول إلى الجميع فوجدتهم يهتفون في قوة:
- بالروح... بالدم... نفديك يا زعيم.
كنت أنا الوحيد الذى لا يهتف. حتى زميلي الإخواني كان يصرخ معهم بنفس القوة وصوته يعلو في وضوح وهو يهتف:
- يعيش الرئيس .. يحيا الرئيس ..
الكافر أيضاً كان يشاركه نفس الهتاف وبنفس القوة وقد تعانق الإثنان وهما يهتفان في حماس متناسياً الأخواني أنه قد منّ عليه يوم البارحة بتهمة الكفر.
أنا الوحيد الصامت إذاً...!
أنا الوحيد الذى لا يهتف...!
الويل لى إن رآني أحد...
في بلادي لا أمان لأحد حتى لو كان أخاك. في بلادي الجبن والصمت وحدهما لا يكفيان. عقلي الباطن اللعين يرفض الهتاف ويؤكد لي فى غباء أن السيد الرئيس قد مات. ملعون أيها العقل الخرب، ستقذف بي إلى الهلاك أيها الملعون.
عيناي مغمضتان وأنا أسير مغيباً مع المنادين بحياة الرئيس. انطق أيها اللسان الغبي، سترميني إلى الهلاك إن لاحظني أحد من الزبانية. تكلم يا أنا يا أيها الغبي الدائم. كنت أحاول بإصرار وفي كل مرة ينعقد لساني. غير أنني فجأة هتفت مع الجميع بعد أن فكت عقدتي، فصرخت بقوة وبصوت أعلى من الجميع وأنا أرتعش:
- عاش الرئيس .. يحيا الرئيس ..
بقلم خالد عاشور -مدل است اون لاين