المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سلسلة ردود على الشبهات العقدية لـ «شمس الدين بوروبي» "4" من موقع الشيخ فركوس


عثمان الجزائري.
2015-05-12, 13:39
الشبهة الرابعة
كرامةٌ منسوبةٌ لابن منده ـ رحمه الله ـ

قال شمس الدين بوروبي ـ هداه الله ـ: «كرامة الرفاعي: لمَّا زار قبرَ رسول الله مدَّ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يدَه مِن القبر وصافَحَه.
فِي حَالَةِ البُعْدِ رُوحِي كُنْتُ أُرْسِلُهَا * تُقَبِّلُ الأَرْضَ عَنِّي وَهْيَ نَائِبَتِي

وَهَذِهِ دَوْلَةُ الأَشْبَاحِ قَدْ حَضَرَتْ * فَامْدُدْ يَمِينَكَ كَيْ تَحْظَى بِهَا شَفَتِي

قال المؤرِّخون: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم مدَّ يدَّه فقبَّلها بحضرة الحُجَّاج وهُمْ ينظرون.
هذه كرامةٌ يجوز أَنْ تصدِّقها ويجوز أَنْ لا تصدِّقها ... ولكنَّ الكرامة بعينها لا بدَّ أن تثبت بالسند الصحيح، فمَنْ أنكر هذه الكرامةَ فلا شيءَ عليه، ولكِنْ لاحِظوا جيِّدًا، السلفيةُ أجمعوا جميعًا على أنها مِن المُنْكَرات ...
اسمعوا: ابنُ منده أحَدُ كبار مشايخ الحشوية: «سألتُ بعضَ خَدَمِ تربةِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وكان مِن أبناء مائةٍ وعشرين سنةً، قال: رأيتُ يومًا رجلًا عليه ثيابٌ بِيضٌ دَخَلَ الحرَمَ وقتَ الظهر، فانشقَّ حائطُ التربة فدخل فيها وبيده محبرةٌ وكاغدٌ وقلمٌ، فمكث ما شاء الله، ثمَّ انشقَّ فخرج، فأخذتُ بذيله فقلت: «بحقِّ معبودك مَن أنت؟» قال: «أنا أبو عبد الله بنُ منده، أشكل عليَّ حديثٌ فجئتُ فسألتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأجابني وأرجِعُ»».
يعني: خروج يد النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن القبر منكرٌ، ودخولُ ابنِ منده بكُلِّ لحمه وشحمِه وعظمِه إلى القبر الشريف مِن الكرامات ...كراماتُنا بدعةٌ، وبِدَعُهم كراماتٌ».
الجواب:
الحمد لله وحده، والصلاةُ والسلامُ على مَن لا نبيَّ بعده، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أمَّا بعد:
القصَّة التي نَسَبَها المُحاضِرُ المتعالم إلى الإمام ابنِ منده وَرَدَ ذكرُها في جزءٍ مُعَنْوَنٍ ﺑ «ذِكْرِ الحافظ أبي عبد الله بن منده ومَن أدركهم مِن أصحابه الإمامُ أبو عبد الله الحسينُ بنُ عبد الملك الخلَّال» للإمام الحافظ الحسين بنِ عبد الملك الخلَّال، وقد قام الإمامُ محمَّد بنُ أبي بكرٍ المدينيُّ الأصبهانيُّ بتصنيفه وترتيبه. ذَكَرَ صاحبُه فيه بعضَ تلامذة الإمام ابنِ منده ممَّن أَدْرَكهم الإمامُ وقدَّم فيه بترجمةٍ حافلةٍ للإمام ابنِ منده، ذَكَرَ مَناقبَه ورحلاته ومنزلتَه وأقوالَ العلماء فيه، مع روايته لبعض الأحاديث التي تفرَّد بها، وقد استفاد منه كثيرٌ مِن العلماء والحُفَّاظ في ترجمة الإمام ابنِ منده منهم الحافظُ الذهبيُّ في «سِيَر أعلام النبلاء»(١).
وهذا يُنبئ العارفين ممَّن يدركون مَسالِكَ العلماءِ في التأليف أنَّ هذه الحكايةَ لم تُنْقَلْ في كُتُبِ العقيدة ولا في المصنَّفات التي تُعْنى بذكر الكرامات؛ فهي إذًا لم تُذْكَر ليُسْتدَلَّ بها أو يُعتمد عليها لإثبات عقيدةٍ، بل غايةُ ما في الأمر أنها ذُكِرَتْ في سياق ترجمة الإمام ابنِ منده وذِكْرِ رحلاته الحديثية، وفَرْقٌ عند أهلِ الدراية والمعرفة ممَّن سَلِمَتْ أفئدتهم وحَسُنَتْ سريرتُهم بين حكايةِ أمرٍ ما وبين الاستدلال به.
تفنيد صحَّة القصَّة المنسوبة إلى الإمام ابن منده ـ رحمه الله ـ:
القصة ـ في حدِّ ذاتها ـ غيرُ ثابتةٍ عن الإمام ابنِ منده، ودلائلُ وَهَائها واضحةٌ وإشاراتُ الكذب عليها لائحةٌ، وتظهر هَنَاتُها مِن حيثيتين وهما:
مِن حيثيةِ سَنَدِ القصَّة ومَتْنِها: فإنَّ عَوارَ القصَّةِ تتجلَّى في النقاط التالية:
١- تصديرها بصيغةِ التمريض الدالَّةِ على الضعف عند علماء الحديث؛ ففي الجزء المرويِّ فيها قال الإمام الخلَّال: «وحُكِيَ لي».
٢- جهالةُ نَقَلَةِ القصَّة جهالةً عينيةً مُفْضِيةً إلى جهالة الحال، فناقِلُها رئيسُ حُجَّاجِ نيسابور واسْمُه: أبو جعفرٍ الهمذانيُّ، عن خادمِ التربة التي دُفِنَ فيها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وكلاهما لا يُعْرَف.
٣- استحالة حدوث مثلِ هذه الخوارقِ كونَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قد فارَقَ الدنيا والْتَحَقَ بالرفيق الأعلى، فمحادَثتُه وسؤالُه صلَّى الله عليه وسلَّم ومشافَهتُه غيرُ ممكِنةٍ بعد وفاته صلَّى الله عليه وسلَّم.
٤- قال الإمام الذهبيُّ قبل ذِكْرِه القصَّةَ التي استند إليها المُحاضِرُ الملبِّسُ على العوامِّ: «وهذه حكايةٌ نكتبها للتعجُّب» وقال عَقِبَها: «إسنادُها مُنْقَطِعٌ»(٢).
٥- قال عامر حسن صبري الذي اعتنى بالجزء تخريجا وتحقيقًا: «جاء في حاشية الأصل: هذا كَذِبٌ»(٣)، وقد اعتمد في تحقيقه على نسخةٍ خطِّيَّةٍ وَصَفَها بقوله: «اعتمدتُ في التحقيق على نسخةٍ فريدةٍ ـ حسب علمي ـ محفوظةٍ في المكتبة الظاهرية بالشام مجموع (٨٠) مِن الورقة ١٤٣، إلى الورقة ١٥٨ وتقع في خمسة عشر ورقةً، وهي نسخةٌ جيِّدةٌ واضحةُ الخطِّ كُتِبَتْ في حياة الإمام أبي عبد الله الخلَّال وفي حياةِ مخرِّجها الإمام أبي موسى المدينيِّ، وكانَتْ وقفًا على المدرسة الضيائية بدمشق، وقُرِئَتْ على جماعةٍ مِن العلماء الأثبات، ولكنَّها مع ذلك لم تَسْلَمْ مِن بعض الأخطاء..»(٤)، ولعلَّ مِن أخطائها سقوطَ العبارةِ الصريحة في القصَّة: «هذا كَذِبٌ» مِن أصلها والاكتفاء بالإشارة إليها في الحاشية.
مِن حيثية تلازُمِ سلوكه وسيرته مع منهج دعوته:
لا يمكن ـ بحالٍ ـ التصديق بأنَّ إمامًا كابن منده والمعروفَ بسلامةِ مَشْرَبِه يتلطَّخُ بما يقدح في عقله فضلًا عن عَقْده، وهو الذي لم يجالِسْ طيلةَ حياته العلميةِ مَن يُغيِّر فِطْرَتَه السليمة أو يعبث بمعتقَدِه؛ فقَدْ كان ـ رحمه الله ـ مُجانِبًا لأهل البِدَع غيرَ مُخْتَلِطٍ بهم، وهذا ما صرَّح به قائلًا: «طُفْتُ الشرقَ والغربَ مرَّتين فلم أتقرَّبْ إلى مُذَبْذَبٍ، ولم أسمع مِن المُبْتَدِعين حديثًا واحدًا»(٥)؛ لذلك لا يجوز نسبةُ الضلالات والطامَّات لمن عُرِف مِن منحى عقيدته ومنهجِ دعوته ما يُضادُّها ومِن سيرته وحالِه ما يُخالِفها عملًا بقوله تعالى: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ [الأعراف: ٥٨]؛ فهذه الأباطيل لا تصدر إلَّا مِن الخرافيين الذين يريدون مِن ورائها جَلْبَ عصمةٍ يسيطرون بها على عقول العوامِّ ليروِّجوا ما شاؤوا مِن عقائدَ مُنْحَرِفةٍ، أمَّا ابنُ منده ـ رحمه الله ـ فكان مُدافِعًا عن الحقِّ ومُجاهِدًا لأهل البدع، يغزو حصونهم فيدكُّ شُبَهَهم دكًّا، ويدفع صائِلَهم ويصدُّ باغِيَهم، وله مع أهل الباطل ـ كالجهمية والمُرْجِئة والشيعة والخوارج ـ جَوَلاتٌ، تشهد تصانيفُه النافعةُ ككتاب: «الإيمان» و«الردِّ على المرجئة» بعُلُوِّ قَدْرِه في السنَّة وسُمُوِّ مكانته العلمية.
أفبعد كُلِّ هذه الدلائلِ يجرؤ مُنْصِفٌ على جَعْلِ القصَّة المزعومةِ سهمًا يطعن به السلفيةَ ويُسفِّهُ بها عقولَهم ويُلْصِقُ بهم قُبْحَ البدعة؟ وهو نَفْسُه قد صرَّح مِن قبلِ هذا الكلامِ أنَّ «الكرامة بعينها لا بدَّ أن تَثْبُتَ بالسند الصحيح» فما بالُه يُؤاخِذ غيرَه بما لم يصحَّ سندُه؟ أم أنَّ ذِكْرَ اسْمِ أيِّ عَلَمٍ مِن أعلام السلفية يُحِلُّ له مُخالَفةَ ما جَعَلَه أصلًا؟ فأيُّ كيلٍ يكيل به؟ وأيُّ روحٍ علمية يتمتَّع بها؟
كرامات الصوفية في الميزان:
تهجَّم المُحاضِرُ المفتونُ في كلامه على السلفية مُدَّعِيًا أنَّ للصوفية كراماتٍ وخوارقَ وأنَّ ما رواه السلفيةُ عن صالِحيهم مِن كراماتٍ فبِدَعٌ، وذلك عند قوله: «كراماتُنا بدعةٌ، وبِدَعُهم كراماتٌ». وقد سَبَقَ أَنْ حَكَمَ هو بنفسه على نَفْسِه بأنَّ مِن شروطِ صحَّةِ الكرامات إثباتَها بالسند الصحيح، ثمَّ هاهنا يتناقض مع نَفْسه ليجعل ما رُوِيَ عن الرفاعيِّ مِن تقبيله يدَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم كرامةً، وفي المُقابِل يُصْدِر أحكامًا جُزافيةً على الكرامات التي رواها أهلُ السنَّةِ والجماعة بأنها بِدَعٌ، ومنشأُ هذا الحكمِ الجائر التعصُّبُ المَقيتُ لبِدَعِه ومنهجِه المُنْحَرِف وعقيدتِه المعوجَّة؛ فأعماه ذلك عن الحقِّ وألقى على بصرِه غشاوةً، فمن يَهديه مِن بعدِ الله؟!.
واللافت للنظر أنَّ المُحاضِرَ المزعوم لم يذكر كراماتهم التي حَكَمَ عليها أهلُ السنَّة بالبدعة، وله في ذلك عذرٌ ماكرٌ؛ فإنه لو حدَّث السامعين عن كرامات الصوفية كما حدَّثهم عن الكرامة المنسوبة للرفاعيِّ ـ وحاوَلَ الدفاعَ عنها بسياسةٍ ماكرةٍ تمثَّلَتْ في قوله: «يجوز أن تصدِّقها ويجوز أَنْ لا تُصَدِّقها» ـ لَأجمعَتْ كلمةُ كلِّ سليمِ السمع أنها خُزَعْبلاتٌ تَليقُ بالمجانينِ أو كبائرُ لا يقترفها إلَّا الفُسَّاقُ مِن الناس، فحتَّى يُظْهِر للسامعين أنَّ أهل السنَّةِ السلفيين جَنَوا على الصوفية وافترَوْا عليهم اكتفى بتمثيلِ دورِ المظلوم الذي بُخِسَ حقَّه ولم يُنْصَف. ولا بأس أن نذكر أمثلةً عن كرامات القوم التي يتبجَّح بها المُحاضِرُ الملبِّس، وقد كفانا أحَدُ أقطابهم وهو الشعرانيُّ مؤونةَ البحث والتنقيب عنها فجَمَعَها في كتابٍ سمَّاه «الطبقات الكبرى»، ونعتذر للقُرَّاء عن رداءةِ ما سيقرؤون، ولكنَّ الاطِّلاعَ على حقيقة صورتهم هي التي دفَعَتْ لنقلِ السفاسف والدناءة، وفيما لم يُنْقَلْ ما هو أشدُّ رداءةً.
نماذجُ مِن خُرافات الصوفية:
ـ قال عبد الوهَّاب الشعرانيُّ: «إنَّ سبَبَ حضوري مولدَ «أحمد البدوي» كُلَّ سَنَةٍ أنَّ شيخي العارفَ بالله تعالى «محمَّد الشناوي» رضي الله عنه أحَدَ أعيانِ بيته ـ رحمه الله ـ قد كان أَخَذَ عليَّ العهد في القُبَّةِ تُجاه وجهِ سيِّدي أحمد رضي الله عنه، وسلَّمني بيده، فخرجَتِ اليدُ الشريفة مِن الضريح وقَبَضْتُ على يدي. وقال: يا سيِّدي يكون خاطِرُك عليه، واجْعَلْه تحت نظَرِك فسَمِعْتُ «سيِّدي أحمد» مِن القبر يقول: نعم، ولمَّا دخلتُ بزوجتي فاطمةَ أمِّ عبد الرحمن وهي بِكْرٌ، مكثتُ خمسةَ شهورٍ لم أَقْرُبْ منها فجاءني وأخَذَني وهي معي، وفَرَش لي فراشًا فوق ركنِ القبَّة التي على يسار الداخل، وطَبَخ لي الحلوى، ودعا الأحياءَ والأموات إليه، وقال: «أَزِلْ بكارتها هنا»؛ فكان الأمرُ تلك الليلةَ» ثمَّ يقول: «وتخلَّفتُ عن ميعاد حضوري للمولد سنة ٩٤٨ ثمان وأربعين وتسعمائةٍ، وكان هناك بعضُ الأولياء فأخبَرَني أنَّ سيدي أحمد رضي الله عنه كان ذلك اليومَ يكشف السِّتر مِن الضريح ويقول: «أبطأ عبدُ الوهَّاب، ما جاء»»(٦).
ـ وقال عن الشيخ إبراهيم العريان: «رضي الله تعالى عنه ورَحِمه...كان رضي الله عنه يطلع المنبر ويخطب عريانًا .. وكان يُخْرِج الريحَ بحضرة الأكابر ثمَّ يقول: «هذه ضرطةُ فلان»، ويحلف على ذلك، فيخجلُ ذلك الكبيرُ منه. مات رضي الله عنه سنة نيِّفٍ وثلاثين وتسعمائةٍ رضي الله عنه»(٧).
ـ وقال: «ومنهم الشيخ أبو الخير الكليباتي رضي الله عنه، كان رضي الله عنه مِن الأولياء المعتقِدين، وله المكاشَفات العظيمة مع أهل مصر وأهل عصره، وكانَتِ الكلابُ التي تسير معه مِن الجنِّ، وكانوا يَقْضُون حوائجَ الناس، ويأمر صاحِبَ الحاجةِ أن يشتريَ للكلب منهم إذا ذَهَبَ معه لقضاء حاجته رطلَ لحم، وكان أغْلَبَ أوقاتِه واضعًا وجهَه في حلق الخلاء في مِيضأةِ جامعِ الحاكم، ويدخل الجامعَ بالكلاب»(٨).
وللنبهاني مؤلَّفٌ سمَّاه: «جامع كرامات الأولياء» جَمَعَ فيه هو الآخَرُ مجموعةً كبيرةً مِن كرامات أوليائه وما هي إلَّا قوادحُ عقديةٌ وانحرافاتٌ خُلُقية سمَّاها الصوفيةُ ـ زورًا وتدليسًا ـ كراماتٍ تغطيةً لمَخازيهم وتُرَّهَاتِهم السافلة، تعكس حقيقةَ تفكيرهم ونظرتهم إلى التديُّن حيث اتَّخذوه مطيَّةً لتحقيقِ مَآرِبهم الدنيوية لا غيرَ، الأمرُ الذي يُنافي الغرضَ مِن الكرامة؛ فإنَّ الله سبحانه إنما يُكْرِم بها مَن يشاء مِن خَلْقه لصلاحهم وقوَّةِ إيمانهم، أو لحاجتهم إليها، والمقصودُ منها إظهارُ الدينِ ورفعُ كلمته، إحقاقًا للحقِّ وإبطالًا للباطل تميُّزًا عن الأحوال الشيطانية.
هذا، وأهلُ السنَّة والجماعةِ وقفوا موقفًا وسطًا تُجاه خوارق البشر غيرِ الأنبياء والمُرْسَلين فلم يُغالوا فيها مغالاةَ الصوفية والدجاجلة، ولم ينكروها مطلقًا كفعل المعتزلة، بل أَثْبَتُوها واعتقدوا إمكانيةَ حدوثها، ولم يجعلوها معيارًا يميِّزون بها الأفضليةَ؛ فقد يكون مَن لم يَحُزْها أَكْمَلَ إيمانًا وأَعْظَمَ ولايةً ممَّن نالها، وقد كانَتْ في التابعين أَكْثَرَ منها في الصحابة، ولذلك لم تتشرَّفْ نفوسُهم لطَلَبِها لعلمهم اليقينيِّ أنَّ أفضلَ كرامةٍ هي الاستقامةُ على دينِ الله تعالى. قال أبو عليٍّ الجوزجانِيُّ: «كن طالِبًا لِلاستِقامةِ، لا طالِبًا لِلكرامَة؛ فإنَّ نَفْسَكَ مُتحرِّكةٌ فِي طلبِ الكرامةِ، وربُّك يَطلبُ مِنك الاستِقامة»(٩).
زَعْمُ الصوفية أَخْذَ العلمِ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مباشَرةً بعد موته.
حاوَلَ المُحاضِرُ ـ فشلًا ـ بذِكْرِه للقصَّة الواهية عن الإمام ابنِ منده ـ رحمه الله ـ تضليلَ السامعين بأنَّ السلفية يستمدُّون أحكامَهم على الأحاديث النبوية والأخبار الأثرية مِن خلال ادِّعائهم التلقِّيَ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مُباشَرةً، وهو بذلك يطعن ـ مِن طَرْفٍ خفيٍّ ـ في تأصيل علماء الحديث لقواعدِ قَبول الأخبار وصحَّتها لبناء الأحكام العقدية والعملية عليها، ولسانُ حالِه يصرِّح بأنَّ جهودهم في التنقيب عن الأسانيد وتمحيصها ودراسةِ سقيمها وضعيفها قَصْدَ حِفْظِ السنَّة النبوية وصيانتها مِن كَذِبِ الكَذَبة والوضَّاعين والضعفاء والمدلِّسين، ما هي إلَّا ادِّعاءاتٌ كاذبةٌ، وأخبار رحلاتهم في طلَبِ الحديث وهَجْرِهم الأوطانَ والخِلاَّن أخبارٌ ساقطةٌ، وإنما يروم مِن وراءِ ذلك هَدْمَ أحكام علماء الحديث على الأخبار صحَّةً وضعفًا، قبولًا وردًّا، وذلك مِن أهمِّ الأصول التي يتبنَّاها السلفيةُ مصدرًا للتلقِّي ومنهجًا في الاستدلال. وبهدمه لأصلِ تمحيص الأخبار يخلو له الجوُّ في تلميعِ ما يهواه مِن فسادٍ وضلالٍ، ولله درُّ الشافعيِّ إذ قال: «لولا المَحابِرُ لخَطَبَتِ الزنادقةُ على المَنابِر»(١٠)، وقال سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: «المَلائِكَةُ حُرَّاسُ السَّمَاء، وَأَصْحَابُ الحَدِيثِ حُرَّاسُ الأَرْضِ»(١١)، وَقَالَ يزِيد بن زُرَيْعٍ: «لكلِّ دينٍ فُرْسَانٌ وفرسانُ هَذَا الدِّين أَصحَابُ الأَسَانِيد»(١٢).
وفي الوقت ذاته أخفى المُحاضِرُ عن السامعين عقيدةَ الصوفية المسطَّرةَ في كُتُبهم ومَراجِعِهم، مِن زَعْمِهم أَخْذَ العلومِ مِن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مباشَرةً والْتقائهم إيَّاه يقظةً لا منامًا؛ فيطرحون عليه ما أشكل عليهم مِن مَسائِلَ شرعيةٍ ويتلقَّوْن حَلَّها منه مُشافَهةً ويدوِّنون أجوبتَه، وعند اختلافهم في الحكم على الأحاديث صحَّةً أوضعفًا يتوجَّهون إلى شيخهم وهو بدوره ـ فيما يزعمون ـ يسأل النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فيرفع عنهم الخلافَ ويقطع لهم بصحَّةِ ما يَشْتَهون تصحيحَه مِن أحاديثَ مكذوبةٍ يُلْقُون بها على ألسنة مُريديهم، وجعلوا هذه الضلالةَ أصلًا مِن أصولهم لئلَّا يجرؤَ أَحَدٌ على الإنكار عليهم.
قال العجلونيُّ: «وفي «الفتوحات المكِّيَّة» [لابن عربيٍّ الصوفي] ما حاصِلُه: فرُبَّ حديثٍ يكون صحيحًا مِن طريقِ رُواتِه يحصل لهذا المُكاشِفِ أنه غيرُ صحيحٍ لسؤاله لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فيعلم وَضْعَه ويترك العملَ به وإن عَمِلَ به أهلُ النقل لصحَّةِ طريقه، ورُبَّ حديثٍ تُرِك العملُ به لضعفِ طريقه مِن أجل وضَّاعٍ في رُواته يكون صحيحًا في نفسِ الأمر لسماعِ المُكاشِفِ له مِن الروح حين إلقائه على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم»(١٣)
وقال التجاني: «رأيتُه مَرَّةً صلَّى الله عليه وسلَّم، وسألتُه عن الحديث الواردِ في سيِّدنا عيسى عليه السلام، قلت له: ورَدَ عنك روايتان صحيحتان: واحدةٌ قلتَ فيها: يمكث بعد نزوله أربعين، وقلتَ في الأخرى: سبعًا.. ما الصحيحةُ منهما؟ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: رواية السبع»(١٤).
فالعلم الشرعيُّ الذي امتدح اللهُ أَهْلَه ورَفَعَهم به عمَّن سواهم طريقُه الطلبُ وسبيلُه التعبُ وسَهَرُ الليالي في تصفُّح الكتب ومُطالَعتها، ومُكابَدة الأعباء وثَنْيِ الرُّكَب عند العلماء، مع صِدْقِ السريرة وطِيبِ السيرة، لا يَثْنيه عن الطلب شاغلٌ ولا يُعيقُه كِبَرُ سنٍّ وعُلُوُّ جاهٍ، قال الذهبيُّ ـ رحمه الله ـ: «فالَّذِي يحتَاج إِلَيْهِ الحَافِظُ أَن يَكُون تقيًّا ذكيًّا، نَحْوِيًّا لُغَوِيًّا زكيًّا حَيِيًّا، سَلَفيًّا، يَكْفِيهِ أَنْ يَكتبَ بِيَدِهِ مائَتَيْ مُجَلَّدٍ، ويحصِّل مِن الدواوينِ المعتبَرةِ خمسَمائةِ مجلَّدٍ، وَأَنْ لاَ يَفْتُر مِنْ طَلَبِ العِلم إِلَى المَمَات، بنيَّةٍ خَالصَةٍ وَتواضُعٍ، وَإِلاَّ فَلَا يَتَعَنَّ»(١٥).
وهؤلاء الصوفية لمَّا أعياهم العلمُ طلبًا وأتعبتهم النصوصُ فهمًا وإدراكًا، ووقفَتْ ضدَّ أهوائهم وشهواتهم عَمَدُوا إلى أصولٍ فاسدةٍ وقواعِدَ كاسدةٍ فاتَّخذوها دينًا وصاغوها عبادةً يتزلَّفون بها إلى قلوب الجُهَّال وضِعافِ العقول حتَّى وَصَلَ الحدُّ بِغُلاتهم ـ مِن الزنادقة ـ إلى ادِّعاء رؤية الله سبحانه وتعالى والأخذِ عنه مُباشَرةً بدونِ واسطةٍ. قال في «قوت القلوب»: «وقد كان أبو ترابٍ النخشبيُّ ـ رحمه الله ـ مُعْجَبًا ببعض المريدين؛ فكان يُؤويهِ ويقوم بمَصالِحه، والمريدُ مشغولٌ بعبادته ومَواجيدِه، فقال له أبو ترابٍ يومًا: «لو رأيتَ أبا يزيد»، فقال المريد: «إنِّي عنه مشغولٌ»، فلمَّا أكثر عليه أبو تراب مِن قوله: «لو رأيت أبا يزيد» هاج وجدُ المريد فقال: «ويحك، ما أصنع بأبي يزيد، قد رأيتُ اللهَ فأغناني عن أبي يزيد»، قال أبو تراب: فهاج طبعي ولم أملك نفسي فقلت له: «ويلك، لو رأيتَ أبا يزيد مرَّةً واحدةً كان أَنْفَعَ لك مِن أن ترى الله عزَّ وجلَّ سبعين مرَّةً»، فبُهِت المريدُ مِن قولي وأنكره وقال: «وكيف ذلك؟» فقلت له: «ويلك، إنما ترى الله عندك فيظهر لك على مقدارك، وترى أبا يزيد عند الله قد ظهر له على مقداره»، قال: فعرف ما أقول فقال: «احْمِلْني إليه..»»(١٦)
هذه خرافاتهم وضلالاتهم موثَّقةً مِن كُتُبهم ومَصادِرِهم تشهد ببطلانِ ما يَدينون به ممَّا أخفاهُ المُحاضِرُ عن الحضور، ولا يخفى على اللبيب تخليطُ المُحاضِرِ وتخبيطُه؛ ففي مطلع مُحاضَرته فرَّق بين السلفية الحاضرة وبين السلف، ثمَّ هو هاهنا يتهجَّم على عَلَمٍ مِن أعلام السلف وجَبَلٍ مِن جبالهم حفظًا وروايةً فيصفه ـ أوَّلًا ـ بأنه «أحَدُ كبار الحشوية»، وينسب إليه ـ ثانيًا ـ فريةً عظيمةً، وهو بصنيعه هذا إنما يكشف عن نواياه المدسوسةِ وبواطنِه المخبوءةِ، وأنه يتظاهر بتعظيمِ السلف وفي الحقيقةِ يجتهد في مُحارَبتهم والحطِّ مِن أقدارهم، وكما قيل:
«فَحَسْبُكُمُ هَذَا التَّفَاوُتُ بَيْنَنَا * وَكُلُّ إِنَاءٍ بِالَّذِي فِيهِ يَنْضَحُ»

ولا عَجَبَ في ذلك فإنَّ كُلَّ مَن أُشْرِبَ قلبُه حبَّ البدعةِ فلا بدَّ أن يكون للسلف كارهًا والعداءَ لهم ناصبًا. قال محمَّد البشير الإبراهيمي ـ رحمه الله ـ عن الصوفية: «ومِن مَكْرِها الكُبَّار أن تَعْمِد إلى العلماء ـ وهم ألسنةُ الإسلام المُنافِحة عنه ـ فترمِيَها بالشلل والخرس، وتصرفها في غيرِ ما خُلِقَتْ له»(١٧).
وآخر دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١٨ المحـرَّم ١٤٣٣ﻫ

الموافق ﻟ: ٠٢ ديسمبر ٢٠١٢م


(١) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-4#_ftnref1)«سِيَر أعلام النبلاء» للذهبي (١٢/ ٤٩٩).

(٢) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-4#_ftnref2)«سِيَر أعلام النبلاء» للذهبي (١٢/ ٥٠٣).

(٣) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-4#_ftnref3)الحاشية رقم (٤) صفحة (٣٧).

(٤) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-4#_ftnref4)صفحة (٢١).

(٥) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-4#_ftnref5)انظر: «طبقات الحنابلة» لابن أبي يعلى (٢/ ١٦٧).

(٦) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-4#_ftnref6)«الطبقات الكبرى» للشعراني (١/ ١٦١).

(٧) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-4#_ftnref7)«الطبقات الكبرى» للشعراني (٢/ ١٢٤).

(٨) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-4#_ftnref8)المصدر السابق.

(٩) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-4#_ftnref9)«شرح الطحاوية» لابن أبي العزِّ الحنفي (٥٠٩).

(١٠) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-4#_ftnref10)أخرجه الهرويُّ في «ذمِّ الكلام وأهله» (٣/ ٣٤).

(١١) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-4#_ftnref11)أخرجه الخطيب البغدادي في «شرف أصحاب الحديث» (٤٤).

(١٢) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-4#_ftnref12)المصدر السابق.

(١٣) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-4#_ftnref13)«كشف الخفاء» للعجلوني (١/ ١٤).

(١٤) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-4#_ftnref14)«جواهر المعاني» لعلي حرازم (١/ ٥٥).

(١٥) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-4#_ftnref15)«سِيَر أعلام النبلاء» للذهبي (١٠/ ٣٤١).

(١٦) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-4#_ftnref16)«قوت القلوب في مُعامَلة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد» لأبي طالبٍ المكِّي (٢/ ١١٥).

(١٧) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-4#_ftnref17)«آثار محمَّد البشير الإبراهيمي» (١/ ١٧٠).

david2011
2015-05-13, 17:44
شكراا لك اخي

ابو اكرام فتحون
2015-05-13, 18:41
http://store2.up-00.com/2015-04/1430403822191.gif


http://store2.up-00.com/2015-04/1430404386561.gif