تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : سلسلة ردود على الشبهات العقدية لـ «شمس الدين بوروبي» "2" من موقع الشيخ فركوس


عثمان الجزائري.
2015-05-10, 11:40
الشبهة الثانية
نسبة القول بِخِسَّة التكاليف الشرعية للسلفية

قال شمس الدين بوروبي ـ هداه الله ـ: «اتِّهام الصوفية بسقوط التكاليف عنهم، مع أنَّ المتصوِّفة هم أشدُّ الناس تمسُّكًا بالسنَّة، هل تعلمون أنَّ السلفية يُسمُّون الصلاةَ والزكاة والحجَّ بالتكاليف الخسيسة؟ يقول ابنُ القيِّم في «مدارج السالكين» يشرح كلام الهروي: «قولُه: «ويطوي خسَّةَ التَّكاليف» ليت الشَّيخَ عبَّر عن هذه اللَّفظة بغيرها، فواللهِ إنَّها لَأَقبحُ مِنْ شوكةٍ في العين وشجًى في الحَلْقِ، وحاشا التَّكاليفَ أنْ تُوصَفَ بِخِسَّةٍ أو تلحقَها خسَّةٌ، وإنَّما هي قُرَّةُ عينٍ وسرورُ قلبٍ وحياةُ روحٍ، صَدَرَ التَّكليفُ بها عن حكيمٍ حميدٍ، فهي أشرفُ ما وصل إلى العبد مِن ربِّه، وثوابُه عليها أشرفُ ما أعطاه اللهُ للعبد، نَعَمْ، لو قال: يطوي ثِقَلَ التَّكاليف ويخفِّف أعباءَها ونحو ذلك فلعلَّه كان أَوْلى، ولولا مَقامُهُ في الإيمان والمعرفةِ والقيام بالأوامر لَكُنَّا نُسيءُ به الظَّنَّ»».
ثمَّ قال ـ هداه الله ـ: «انظروا الكيلَ بمكيالين، هذه الكلمةُ لو قالها ابنُ عربيٍّ ماذا يحكمون عليه؟ لو قالها الجنيد؟ لو قالها مالكٌ؟ لو قالها الشافعيُّ؟ واللهِ يكفِّرونه ويخرجونه مِن الملل كلِّها، وليس مِن الملَّة فقط، ماذا لو قالها أبي [كذا] حامدٍ الغزَّالي؟ ماذا لو قالها سَرِيٌّ السَّقَطيُّ؟ ماذا لو قالها إبراهيم بنُ الأدهم؟ ماذا لو قالها القاضي عياضٌ؟ ...لماذا لا تعمِّمون حُسْنَ الظنِّ على كلِّ العلماء كما أحسنتم الظنَّ بمن يتَّهم التكاليفَ بأنها خسيسةٌ؟ أحسِنُوا الظنَّ بغيره، وكفى اللهُ المسلمين القتالَ، احْمِلوا كلامَ الصوفية على المحامل الحسنة».
الجواب:
التحقيق في نسبة القول بِخِسَّة التكاليف الشرعية:

ادِّعاء المُحاضِر المتعالم بأنَّ السلفيِّين يتَّهمون الصوفيةَ بالقول بسقوط التكاليف عنهم، ونسبتُه التمسُّكَ بالسنَّة للمتصوِّفة كلامٌ عارٍ عن الدليل، بعيدٌ عن الواقع بعدًا ظاهًرا، فبدعةُ «سقوط التكليف» حقيقةٌ مسطَّرةٌ في كُتُب القوم، لا ينكرها إلَّا جاحدٌ أو مكابرٌ، ولِشدَّة نكير العلماء عليهم سلفًا وخَلَفًا دلَّس المُحاضِرُ البارع في التمويه والتدليس على السامعين محاولًا تخفيفَ قُبحها وألمِها عليهم بنسبتها للسلفية على أنها تهمةٌ منهم للصوفية ـ وهم منها بريئون ـ، ولتجلية حقيقة الأمر وكشفِ إفك المُحاضِر المغالط نسوق بعضَ النقول عن أعيانهم ورؤوسهم:
قال أبو يزيد البسطاميُّ: «لم أرَ الصلاةَ إلَّا نَصَبَ البدن ولا مِن الصوم إلَّا جوعَ البطن»، ويقول: «ليس أفضل للرجل مِن أن يكون بلا شيءٍ، بلا زهدٍ ولا علمٍ ولا عملٍ، فإنه إذا كان بلا شيءٍ كان له كلُّ شيءٍ»، ويقول: «عجبتُ ممَّن عرف اللهَ كيف يعبده»(١).
وقال أحمد بن عطاءٍ مِن مشايخ الصوفية: «العارف لا تكليفَ عليه»(٢).
وقد جرَّتهم نظرتُهم الاحتقارية للتكاليف الشرعية إلى ارتكاب المحارم والولوجِ في المُوبِقات المُهْلِكات، قال مؤسِّس الطريقة البرهانية محمَّد عثمان عبده البرهاني: «المجاذيب(٣) لا يصلُّون ولا يصومون، ويشربون الخمرَ، لكنَّهم أولياء، والمسلم والكافر وإبليس عندهم واحدٌ، وهؤلاء المجاذيبُ يرَوْن العالَمَ كلَّه بإنسه وجنِّه ودوابِّه، فهُم يُغيثون الناسَ ويرسلون الملائكةَ لدفعِ الأذى عنهم، ويرسلون الأرزاقَ إلى الحيَّات والعقارب في أوكارها، لذلك هم لا يصلُّون بسبب مشاغلهم الكثيرة، فلا وقت عندهم للصلاة، وعندما يتعاطَوْن الخمورَ والمريسة فلا حسابَ عليهم، وهُم يروِّجون السفاهاتِ لأنهم لا يعصون اللهَ ما أمرهم، والأرضُ لا تقف إذا عُدِم المجاذيبُ فيها»(٤).
وسندُ القول بسقوط التكاليف الشرعية نابعٌ مِن خلطهم بين الإرادة الكونية والشرعية، وراجعٌ كذلك إلى خزعبلات الكشف(٥) ودعاوى الاتِّصال(٦) وعقيدةِ الحلول والاتِّحاد التي رسم معالمَها وشيَّد أُسُسَها مُحيي الدين بنُ عربيٍّ القائلُ:
العَبْدُ رَبٌّ وَالرَّبُّ عَبْدٌ * يَا لَيْتَ شِعْرِي مَنِ المُكَلَّفْ

إِنْ قُلْتَ: عَبْدٌ؛ فَذَاكَ رَبٌّ * أَوْ قُلْتَ: رَبٌّ؛ أَنَّى يُكَلَّفْ؟(٧)

فلمَّا صيَّر وجودَ الربِّ هو عينَ وجود العبد؛ أنتج مِن ذلك أنْ لا أحدَ يكلِّف الآخَرَ فعطَّل العبودية واستغنى عنها، وصاروا مِن أشرِّ الطوائف وأفسدِ الملل.
قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «فهؤلاء المتصوِّفون الذين يَشْهَدون الحقيقةَ الكونية مع إعراضهم عن الأمر والنهي: شرٌّ مِن القدرية المعتزلة ونحوِهم: أولئك يُشْبِهون المجوسَ وهؤلاء يُشبهون المشركين الذين قالوا: ﴿لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ١٤٨]، والمشركون شرٌّ مِن المجوس»(٨).
وهم ـ بزندقتهم هذه ـ يدَّعون ـ بلسان حالهم ـ لأنفسهم مقامًا لم يَنَلْه الأنبياءُ والمرسلون وخيارُ الصحابة وأفاضلُهم المبشَّرون بالجنان، وما نُقِل عن واحدٍ منهم الفتورُ أو التقصير، وما زادهم التبشيرُ إلَّا اجتهادًا في العمل ومداومةً على الصالحات؛ لإيقانهم أنه لا أسمى للمكلَّف ولا أرفع له مِن أن يعيش عبدًا لربِّه: يأمرُه فيأتمر وينهاه فينتهي، ويقدِّم محابَّ ربِّه على محابِّه وما يهواه.
قال ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ: «ومَن زعم أنه يصل إلى مقامٍ يسقط عنه فيه التعبُّدُ؛ فهو زنديقٌ كافرٌ بالله وبرسوله، وإنما وصل إلى مقام الكفر بالله والانسلاخِ مِن دينه، بل كلَّما تمكَّن العبدُ في منازل العبودية كانت عبوديتُه أَعْظَمَ، والواجبُ عليه منها أكبرَ وأكثر مِن الواجب على مَن دونه، ولهذا كان الواجب على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بل على جميع الرسل أعظمَ مِن الواجب على أممهم، والواجب على أولي العزم أعظمَ مِن الواجب على مَن دونهم، والواجب على أولي العلم أعظمَ مِن الواجب على مَن دونهم، وكلُّ أحدٍ بحسب مرتبته»(٩).
تفنيد نسبة القول بِخِسَّة التكاليف الشرعية للسلفية:

قوله: «إنَّ السلفية يُطلقون على الصلاة والزكاة والحجِّ: التكاليفَ الخسيسة» هو مِن أعظمِ البهتان ومِن أخسِّ صور التدليس، حيث إنَّ العبارة التي نقلها عن الإمام أبي إسماعيل الهرويِّ ـ رحمه الله ـ مستدِلًّا بها على بهتانه في حقِّ السلفيِّين ممَّا انفرد بها الهرويُّ ـ رحمه الله ـ ولم يُقِرَّه عليها أئمَّةُ العلم ومشايخُ الدعوة، فتعقَّبه ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ منتقِدًا له كما سَلَف في النقل عنه، وانتقده ابن تيمية ـ رحمه الله ـ بقوله: «وقد ذكر في كتابه «منازل السائرين» أشياءَ حسنةً نافعةً وأشياءَ باطلةً»(١٠)، وقال الإمام الحافظ شمس الدين الذهبيُّ ـ رحمه الله ـ: «فيا ليته لا ألَّف كتاب «المنازل» ففيه أشياءُ منافيةٌ للسلف وشمائلِهم»(١١).
فتعبيرُ الهرويِّ ـ رحمه الله ـ عن التكاليف الشرعية بأنها خسَّةٌ هفوةٌ منه ـ غفر الله له ـ، مخالِفةٌ للسلف وشمائلهم، فكيف يُعاب السلفيةُ بأمرٍ لم يُقِرُّوه؟ قال ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ: «ومَن له علمٌ بالشرع والواقع يعلم قطعًا أنَّ الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدمٌ صالحٌ وآثارٌ حسنةٌ وهو مِن الإسلام وأهله بمكانٍ قد تكون منه الهفوةُ والزلَّةُ هو فيها معذورٌ بل ومأجورٌ لاجتهاده؛ فلا يجوز أن يُتَّبع فيها، ولا يجوز أن تُهْدَر مكانتُه وإمامته ومنزلته مِن قلوب المسلمين»(١٢).
وممَّا يدلُّ على تعظيم السلفية للتكاليف الشرعية اتِّفاقُ كلمتهم على أنَّ الأعمال داخلةٌ في حقيقة الإيمان ومسمَّاه، وأنَّ ترك جنس العمل يزيل أصلَ الإيمان، قال ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ: «فمَن لم يَرَ القيامَ بالفرائض ـ إذا حصلت له الجمعيةُ ـ فهو كافرٌ منسلِخٌ مِن الدين، ومَن عطَّل لها مصلحةً راجحةً ـ كالسنن الرواتب، والعلمِ النافع، والجهادِ، والأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، والنفعِ العظيم المتعدِّي ـ فهو ناقصٌ»(١٣).
كما أنَّ المصنَّفاتِ السلفيةَ في تعظيم التكاليف الشرعية دليلٌ آخَرُ على بطلان ما نَسَبه إليهم المُحاضِرُ، ومِن أمثلة ذلك:
ـ كتاب «تعظيم قَدْر الصلاة» للإمام أبي عبد الله محمَّد بن نصرٍ المروزيِّ في مجلَّدين.
ـ وكتاب «الصلاة وحكم تاركها» للعلَّامة ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ في مجلَّدٍ.
ـ و«آداب المشي إلى الصلاة»، و«شروط الصلاة وأركانها»، و«منسك الحجِّ» ثلاثتها لشيخ الإسلام الإمام المجدِّد محمَّد بن عبد الوهَّاب ـ رحمه الله ـ.
ـ و«صفة صلاة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن التكبير إلى التسليم كأنك تراها» للمحدِّث الفقيه: محمَّد ناصر الدين الألباني ـ رحمه الله ـ في ثلاث مجلَّداتٍ. وله في «مناسك الحجِّ» مؤلَّفٌ.
ولا زال العلماء على منوالِ مَن سبقهم يسيرون، وعلى منهجهم مِن تعظيم التكاليف الشرعية يحرصون وفيه يؤلِّفون، وما ذُكِر هو مِن باب المثال لا الحصر.
هذا، والمُحاضِر المسكين يجهل أنَّ هذا النقلَ مِن «منازل السائرين» يضاف إلى سجلِّ الصوفية وانحرافهم، فإنه لأجلِ ما وقع فيه ـ أي: «منازل السائرين» ـ مِن زلَّاتٍ سلوكيةٍ ومزالقَ تتوافق ومسلكَ الصوفية نسبوه إليهم تمسُّكًا واعتمادًا، قال الذهبي: «ورأيتُ أهلَ الاتِّحاد (يعني: الصوفيةَ القائلين بوحدة الوجود) يعظِّمون كلامَه في «منازل السائرين» ويدَّعون أنه موافِقُهم ذائقٌ لوَجْدِهم ورامزٌ لتصوُّفهم الفلسفيِّ»(١٤)، فخِسَّةُ التكاليف الشرعية مِن مزاعم الصوفية وضلالاتهم لا مِن مقالات السلفية.
حسن الظنِّ لمن هو أهلُه:

وأمَّا قول المُحاضِر المتلاعب: «انظروا الكيلَ بمكيالين، هذه الكلمة لو قالها ابنُ عربيٍّ ماذا يحكمون عليه؟..» إلخ فغايةٌ في الخلط ونهايةٌ في الخبط، فكيف يستقيم نظمُ مَن عُرِف بالسنَّة والجهاد في سبيلها كالإمام مالكٍ والشافعيِّ ـ رحمهما الله ـ بمن عُرِف بالبدعة والاستماتة في الانحراف كابن عربيٍّ الذي «كلامُه دائرٌ على الوحدة المطلقة، وهي: أنه لا شيء سوى هذا العالَم، وأنَّ الإله أمرٌ كلِّيٌّ لا وجود له إلَّا في ضمن جزئيَّاته، ثمَّ إنه يسعى في إبطال الدين مِن أصله بما يَحُلُّ به عقائدَ أهله؛ .. وهذا يحطُّ ـ عند مَن له وعيٌ ـ على اعتقاد: أنه لا إله أصلًا»(١٥).
ضمن صفٍّ واحدٍ؟! وزيادةً في التضليل ذَكَر المتلاعبُ أسماءَ أعلامٍ لبعضهم كلامٌ ظاهرُه يوافق ما عليه المتصوِّفةُ ولذلك ينسبونهم إلى طريقتهم، كأبي حامدٍ الغزَّاليِّ ـ رحمه الله ـ، فقد كان مِن أذكياء العالَم متفنِّنًا في العلوم، ولكنَّه أُتِي مِن قِبَل عدم تنشئته على منهج أهل الحديث، فتشرَّب مسلكَ أهل الكلام منذ صغره إلى أن منَّ اللهُ عليه بالنور فأبصر خطأَ سيره، واستدرك بعضَ ما فاته بمؤلَّفٍ سمَّاه: «تهافت الفلاسفة»، يقول عنه ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «وفي آخر عمره اشتغل بالحديث: بالبخاريِّ ومسلمٍ»(١٦)، ولكنَّ الوقت لم يُسعفه ليتخلَّص مِن التلوُّث الذي عَلِق به، قال أبو بكر بنُ العربيِّ المالكيُّ: «شيخنا أبو حامدٍ بَلَع الفلاسفةَ وأراد أن يتقيَّأهم فما استطاع»(١٧).
وجديرٌ بالتنبيه أنَّ العبرة في إحسان الظنِّ بسيرة القائل ومسيرته، فمَن أفنى عُمُرَه في بيان حقيقة الإسلام ودعوة الرسل، واجتهد في صفائه؛ يُحْمَلُ كلامُه المُجانبُ للصواب أحسنَ المحامل ويُتأوَّل له وجهٌ سليمٌ يحتمله كلامُه، وإلَّا رُدَّ بأدبٍ يليق بمكانته العلمية، خلافًا لمن عُلِم منه الانحرافُ عن الصراط السويِّ وعُرِف بالمخالفة وجعلها سمةً بارزةً لدعوته، فيُعامَل بما يليق به مِن الردِّ والتحذير، يقول ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ: «والكلمة الواحدة يقولها اثنان، يريد بها أحدُهما أعظمَ الباطل، ويريد بها الآخَرُ محضَ الحقِّ، والاعتبارُ بطريقة القائل وسيرته ومذهبه، وما يدعو إليه ويناظر عليه»(١٨)، تحقيقًا للعدل المأمورِ به شرعًا، وعملًا بقوله ـ تعالى ـ: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا﴾ [الأعراف: ٥٨]، وفي حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: تلا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم هذه الآية: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: ٧] قالت: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «فَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللهُ فَاحْذَرُوهُمْ»(١٩)، فأرشد صلَّى الله عليه وسلَّم إلى معاملتهم بما يستحقُّون لأنهم ليسوا أهلًا لحُسْن الظنِّ بهم، وكيف يُظَنُّ الحسنى بمن يشوِّه صورةَ الإسلام بالبدع ويكدِّر صفاءَه؟!
وهكذا تَعَامَل ابنُ القيِّم مع كلام الإمام الهرويِّ ـ رحمهما الله ـ حيث راعى جهادَه في الحقِّ ومواقفَه في ردِّ الباطل وشدَّتَه على المبتدعة مِن الجهمية والمعتزلة وعلماء الكلام والفلاسفة، قال عنه: «وكان شيخ الإسلام ـ قدَّس الله روحَه ـ راسخًا في إثبات الصفات، ونفيِ التعطيل ومعاداةِ أهله، وله في ذلك كتبٌ مثل: كتاب «ذمِّ الكلام» وغيرِ ذلك ممَّا يخالف طريقةَ المعطِّلة والحلولية والاتِّحادية»(٢٠)، ومِن ميزات المنهج السلفيِّ أنه يقبل الحقَّ ممَّن قاله، ويردُّ الباطلَ على مَن قاله.
قال الحافظ الذهبي ـ رحمه الله ـ: «ثمَّ إنَّ الكبيرَ مِن أئمَّةِ العلمِ إذا كَثُرَ صوابُه، وَعُلِمَ تحرِّيه للحقِّ، واتَّسع علمُه، وظَهَرَ ذكاؤه، وعُرِف صلاحُه ووَرَعُه واتِّباعُه؛ يُغْفَرُ له زَلَلُهُ، ولا نضلِّله ونطرحه وننسى مَحَاسِنَه، نعم، ولا نقتدي به في بدعته وخَطَئِه، ونرجو له التوبةَ مِنْ ذلك»(٢١).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.


(١) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-2#_ftnref1)انظر: «المجموعة الكاملة لأبي يزيد البسطامي» (٥٢، ٥٣، ٥٩).

(٢) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-2#_ftnref2)«الطبقات الكبرى» للشعراني (١/ ٩٦)، وانظر «جهود علماء السلف في القرن السادس الهجري في الردِّ على الصوفية» لمحمَّد الجوير (٣٩٢).

(٣) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-2#_ftnref3)الجذب لغة: القطع. قال ابن فارسٍ: «الجِيمُ والذَّالُ والباءُ أصلٌ واحدٌ يدلُّ على بَتْرِ الشيء» [«مقاييس اللغة» (١/ ٤٤٠)]، وفي اصطلاح المتصوِّفة: هو جذبُ الله ـ تعالى ـ عبدًا إلى حضرته، وهو يقابل «السالك» الذي يقطع الطريقَ بالمجاهدة والرياضة [انظر: «كشَّاف اصطلاحات الفنون» للتهانوي (١/ ٩٧٠)].

(٤) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-2#_ftnref4)مِن كتاب «علِّموا عنِّي» لمحمَّد عثمان عبده البرهاني (١/ ٦٠ ـ ٦٧).

(٥) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-2#_ftnref5)عرف الغزَّاليُّ الكشفَ بقوله: «أن يرتفع الغطاءُ حتَّى تتَّضح له جليَّةُ الحقِّ في هذه الأمور اتِّضاحًا يجري مجرى العيان الذي لا يشكُّ فيه» [انظر: «إحياء علوم الدين» (١/ ٢٠)]. وقال الجرجانيُّ في «التعريفات» (١٨٤) عن الكشف في الاصطلاح بأنه: «هو الاطِّلاع على ما وراء الحجاب مِن المعاني الغيبية والأمورِ الحقيقية وجودًا وشهودًا».

(٦) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-2#_ftnref6)يُعرِّف الصوفيةُ الاتِّصال بعدَّة تعريفاتٍ منها قولُهم: «هو مكاشفات القلوب ومشاهداتُ الأسرار». أو هو «أن لا يشهد العبدُ غيرَ خالقه ولا يتَّصل بسرِّه خاطرٌ لغير صانعه». وقال بعضهم: «الاتِّصال: اتِّصال المدد الوجوديِّ وتجلِّي الرحمن على العبد».

(٧) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-2#_ftnref7)«الفتوحات المكِّية» لابن عربي (٢/ ١)

(٨) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-2#_ftnref8)«مجموع الفتاوى» (٣/ ١٠٤).

(٩) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-2#_ftnref9)«مدارج السالكين» (١/ ١١٧).

(١٠) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-2#_ftnref10)«منهاج السنَّة» لابن تيمية (٥/ ٣٤٢).

(١١) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-2#_ftnref11)«مختصر العلوِّ» (٢٧٨).

(١٢) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-2#_ftnref12)«أعلام الموقِّعين» (٣/ ٢٢٠).

(١٣) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-2#_ftnref13)«مدارج السالكين» (٣/ ١١٢).

(١٤) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-2#_ftnref14)«تذكرة الحفَّاظ» للذهبي (٣/ ٢٤٩).

(١٥) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-2#_ftnref15)«تنبيه الغبيِّ إلى تكفير ابن عربيٍّ» للبقاعي (١٩).

(١٦) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-2#_ftnref16)«منهاج السنَّة» (٥/ ٢٦٩).

(١٧) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-2#_ftnref17)انظر: «سير أعلام النبلاء» للذهبي (١٤/ ٢٦٩).

(١٨) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-2#_ftnref18)«مدارج السالكين» (٣/ ٤٨١).

(١٩) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-2#_ftnref19)أخرجه البخاري (٤٥٤٧).

(٢٠) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-2#_ftnref20)انظر: «مدارج السالكين» (٣/ ٤٨١).

(٢١) (http://ferkous.com/home/?q=rodoud-20-2#_ftnref21)«سير أعلام النبلاء» (٩/ ٣٢٥).

I Am PuzZLE
2015-05-10, 14:45
حياكم الله وبارك الله فيك