علي النموشي
2009-09-03, 17:34
حدثنا عباس النموشي قال : كنت قد أمضيت الخدمة الوطنية ، و مهامي العسكرية ، و فترة الجندية ، في ولاية الجلفة ، ذات الوجوه الخيـّرة الصرفة عرين أولاد نائل الكرام ، و موطن الشهامة و الوئام ، و تركت فيها صحبة نشامى ، و ذكريات حسنة لزاما ، و في أحد الليالي كنت بداري ، فطرق طارق بابي فحسبته جاري ، و هممت بفتحه في التو و الأوان ، فوجدته ابن عمي عمران ، فأذنت له بالدخول آخذه بالأحضان ، وقلت : أسهب في طلبك ، و اكشف عن مقصدك ، و ما أتى بك ، فقال لي : أي يا ابن العم ، لقد أصاب أختي الهم والغم ، جراء ما صنع إبنها الأكبر ، من مشاكل لا تغتفر ، فقد أحال حياتها جحيما ، وبيتها جهيما ، فكـَمَا تعلم أنه شاب بطال ، و لا فائدة منه تـُرجى و تـُطال ، أبَى أن يعمل أو يسترزق ، أو بأترابه في الكد أن يلتحق ، و صار يتسكع في الشوارع ، و قد حل به سوء الطوالع ، فأردت أن أقصدك ، لـَعلّي أجد الحل عندك ، فقد تناهى إلى سمعي ، أن لك معارف و أنا أدري ، بأنك تقدر على أن تدخله الثكنة ، كجندي أو عريف بكل ضمنة ، فأنت لك صحب كثر ، و جمع غفر ، فيهم المرشح و الرقيب و كذا الملازم و النقيب ، فقلت له : يا ابن العم ، هذا كان من زمان تـم ، فقد أحيل بعضهم إلى التقاعد ، و حوّل الآخرون إلى غير قواعد ، وسيستعصى عليّ إيجادهم ، و معرفة أماكنهم ، فصار يتوسل إليّ و يقبل يديّ ، فرضخت للأمر الواقع ، بعد أن أفحمني بالبرهان القاطع ، و طمأنته بأنّي سأتصل بالأصحاب ، و أطرق عليهم الأبواب ، فلما حان وقت الذهاب ، حددت معه الرجوع و الإياب ، و اتفقت مع الشاب بالسفر باكرا ، وقت الفجر عندما أكون لربي ذاكرا ، و لما جاء الميقات المحدد ، وجدته أمام داري يتودد ، فجمعت أغراض السفر ، و ودعت أهلي على صبر ، و اتجهنا إلى أقرب محطة ، قاصدين وجهة الغرب و الشطة ، و ركبنا سيارة باتجاه ولاية باتنة ، ذات الترب الداكنة ، و بعد برهة من السير ، بدأت آلام المعدة تتحير ، لـِما ابتلاني به ربي ، من علة بها كان قدري ، فصرت أتقيأ بشدة ، كمن شرب من ماء الربدة ، أو من كأس الراح و العربدة ، و مكثت على هذا الحال ، ساعتين بالتمام و الكمال ، حتى كدت أن أخرج أمعائي ، أو تتطاير أشلائي ، و رحت أسب ساعة النحس ، و وجه البؤس ، الذي أوصلني إلى هذه الحال ، وما صار إليه المآل ، و كدت أعود أدراجي ، لكن توجهت إلى ربي أناجي ، أن إرحمني من هذا الكرب ، وخفف عني الألم و الذنب و بقيت أتجرع الألم ، ممتنعا عن التكلم ، حتى وصلنا إلى حدود ولاية الجلفة ، في ساعة الزوال و النصف ، و إذا بنا أمام مركز التدريب للمشاة ، في منطقة مويلح شبيهة الفلاة ، التابعة لبلدية المليليحة ، ذات المروج الفسيحة ، فوجدته طابورا قدام الثكنة ، فكدت أصاب لهوله بالعنـّة ، فناديت الشاب و صرت أجول بين الصفوف ، باحثا عن وجه مألوف ، حتى اهتديت إلى ملازم كان صديقي ، و هو في أيام الخدمة رفيقي ، فاقتربت منه و ما عرفني ، لتغيـّر شكلي و مظهري ، فقد صرت ملتحيا ، و وجهي بالكاد متخفيا ، فلما سمع صوتي عرفني ، وصار يرحب بي ، و يسلم علي ، فأطلعته على غايتي و ما جاء بي في ساعتي ، لكنه تأسف ، و صار يقلب كفيه و يتأفف ، وقال لي : أي صديقي أترى هذا الصف الطويل ، الذي ليس له مثيل ، و هو في طول الفرسخ و الميل ، و هؤلاء الشباب الواقفون ، لهم ثلاثة أيام ينتظرون ، و منهم من بات في الغابة المجاورة ، بلا غطاء و لا داثرة ، و قد أقمنا عليهم حراسة ، مخافة الفتك بهم من أصحاب الشراسة ، كما أن المركز طلب عددا يسيرا ، و لا طاقة له بها تدبيرا ، و لك أن تنتظر ، و لو عملت فيك الأجر ، لسوف أحجز لك مكانا مع الأوائل ، بين هذا الكم الهائل ، و كان الأمر كما أشار عليّ ، و بقيت أرقب صاحبي ، و بينما أنا أمشي بين الجموع ، رأيت شابا في القد مربوع ، فتبين لي أنه أحد بني عمومتي ، الذين يسكنون ولاية الوادي ، فزادت لهذا حيرتي ، فأخذ يتودد بأن أجد له مكانا ليلتحق بالجيش أوانا ، فقلت له يا هذا ، ما خطبك و ماذا ، إني والله قد علقت في أن أجد مكانا لرفيقي ، فتأتي أنت لتزيد من ضيقي ، أصبر حتى يحكم الله في الأمر ، أو نخرج كلانا بلا أجر ، فكانت و الله خمس ساعات إنتظارا ، كأننا خضنا فيها غمارا ، و ما هي لحظات ، حتى نادى منادي من وراء الشرفات ، أن قد إنتهى القبول ، و أخذنا كفايتنا من الحصول ، و من أراد أن يلتحق بمركزنا ، فليصبر ستة أشهر أخرى و لا يزعجنا ، هيا إفرنقعوا من أمام الساحة ، في برهة و رواحة ، فما كان مني إلا أن أخذت الشابان ، قاصدا مفترق طرق دار الشيوخ و المكان ، علـّني أظفر بسيارة أجرة أو حافلة أو حتى مزنجرة ، لكي توصلني إلى المدينة قبل المكثرة ، لكن هيهات وهيهات ، فالوقت قد فات ، و تكاثرت جموع الشبان في الحين و الآن و قد قاربت الشمس الأفق ، فقد كان الجو باردا ، و عقلي لهذا شاردا ، و لما رأيت أن لا مناص من المشي ، قبل أن يحل علينا الليل و السعي ، خير من أن أنتظر في هذه القرية المخيفة ، لخوفي على من يرافقني من الحيفة ، فهممت بالسير حتى مر بنا جرار يسير ، فاعترضت سبيله ، قاطعا طريقه ، وقلت لسائقه بالله عليك أن تقربنا قليلا ، و ليس لنا عنك بديلا ، فأوصلنا إلى مكان قرب الفوج الحادي والثلاثين ، و أكملنا بعدها السير خائفين ، وقد عسعس الليل علينا ، و أنا كلي تضرع لله بأن يسترنا ، و قد دخلنا المدينة في جنح الليل ، في سرعة الجياد و الخيل ، فأوقفنا سيارة بحي بوتريفيس ، أوصلتنا إلى وسط المدينة في تنفيس ، و صرت أجول بهم قاصدا فنادقها ، لكني و جدتها كلها محجوزة عن آخرها ، حتى المطاعم مغلقة ، إلا من بعض الدكاكين المنمقة ، فاشتريت عشاءنا ، و هممنا إلى زاوية حذاءنا ، و قد كانت لي معرفة بأحد الرفاق ، في الجلفة الجديدة ذات الأنساق ، لكني خشيت عليه الإنفاق ، ونحن ثلاثة رفاق ، فقصدت ساحة محمد بوضياف ، و قد قارب الليل الأنصاف ، فكدنا نموت من البرد و القـرّ ، و الجليد و الصـرّ فاخترت مكانا بين أحد العمارات و المسجد ، و كان مظلما و دافئا لكي نرقد ، وافترشنا أوراق الصناديق ، و توسدنا الحقائب بعيدا عن الطريق ، لكن النوم جافانا ، و الزمهرير أذانا ، فما غمضت لنا أعين ، و لا هدأت لنا أجفان ، و كاد البكاء يخيم على صحبي ، و رحت أروّح عنهم في حيني فتبادرت إليّ فكرة في ساعتي ، بأن أشعل نارا تقينا شر البلاء ، و تجنبا الموت و الفناء ، و رحنا نبحث عن الأخشاب و الأوراق ، حتى جمعنا منها كثير النطاق ، وأشعلتها ، وصرنا نتدفأ عليها ، حتى تنفس الصبح جليا ، فاتجهنا إلى المحطة مليا ، و ركبت أنا و رفيقي أول سيارة ، و تركت الآخر ينتظر قاصدا وجهته في مرارة ، و كلّي حسرة على ما حل بي ، في سفريتي ، حامدا المولى أنها كانت هذه نهايتي ، و الذي نجانا من شر اللصوص و تقطع الأفئدة والخموص .