كرماني
2015-04-01, 21:35
طليعة الفتح المأمول شرح «مبادئ الأصول» للشيخ العلامة أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس حفظه الله
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللهِ مِن شرور أَنْفُسِنا، ومِن سَيِّئات أعمالنا، مَن يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أَنْ لا إله إلَّا اللهُ وَحْدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عَبْدُه ورسولُه.
وصلاةُ الله وسلامُه عليه، وعلى آله وصحبه وإخوانه، أجمعين إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعد:
فمِن المعلوم أنَّ شَرَفَ العلمِ ورِفْعتَه مِن شَرَفِ المعلوم ورفعتِه، وعلمُ الأصول لا خلافَ بين العلماءِ في رِفعةِ شأنه، وعُلُوِّ منزلته، وعظيمِ شَرَفِه وأثرِه عند الأوَّلين والآخِرين؛ إذ هو ضروريٌّ لاستنباطِ الأحكام الشرعية وفَهْمِها وإدراكها، والوقوفِ على المَصالِح التي يريدها الشارعُ الحكيم، فهو لقواعدِ الأحكامِ أساسُها، ولجميعِ العلومِ ميزانُها، وهو عمدةُ الفتوى، وركيزةُ الاجتهاد، وقانونُ العقلِ والترجيح، فهو علمٌ يضبط الفروعَ الفقهية بأصولها، ويجمع المبادئَ المشترَكةَ، ويُبيِّن أسبابَ التبايُنِ بينها، ويُظْهِر أساسَ الخلاف، وهو يتناول جميعَ العلوم:
فمِن علوم القرآن يتناول: العمومَ والخصوصَ، والمطلقَ والمقيَّدَ، والناسخَ والمنسوخَ، وأسبابَ النزول، والمكِّيَّ والمدنيَّ، وقد فسَّر ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما «الحكمةَ» في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة: ٢٦٩]، بأنها: «المَعْرِفَةُ بِالقُرْآنِ: نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ، وَمُقَدَّمِهِ وَمُؤَخَّرِهِ، وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، وَأَمْثَالِهِ»(١).
ومِن مَباحِثِه: علومُ السنَّةِ والحديث: مِن علمِ الرواية، وكيفيتها، والجرح والتعديل، وطُرُقِ الترجيح.
كما يتناول: أحوالَ المجتهدين ومَناهِجَ الاجتهاد.
ومِن مَباحِثِه ـ أيضًا ـ: علومُ العربية، ودلالات الألفاظ، ومعاني الحروف..
كما يتناول: عِلْمَ مَقاصِدِ الشريعة، وعلومَ البحث والمناظَرة، وهذه العلومُ يدرسها علمُ أصول الفقه دراسةً دقيقةً ومعمَّقةً، وغرضُه مِن ذلك الوصولُ إلى الأحكام الشرعية بالنظر في تلك الأدلَّة، وهذا الغرضُ المبتغى يُبيِّن الاختلافَ بين الأصوليِّين في مَباحِثِهم، وأربابِ العلوم الأخرى في نظرتهم لها؛ إذ لا تحصيلَ لمَطالبِ الأصولِ مِن تلك العلومِ دون الرجوع إلى علمِ أصول الفقه؛ فثَبَتَ يقينًا وجودُ مَزايَا وخصائصَ فيه لا توجد في غيره مِن العلوم.
ومِن مزاياه ـ أيضًا ـ: كونُه طريقًا لتيسيرِ عملية الاجتهاد، ويعطي الحوادثَ الجديدة ما يناسبها مِن الأحكام، كما يُعِين على معرفةِ الأسباب المؤدِّية إلى وقوع الخلاف بين العلماء، وَالْتِماسِ الأعذارِ لهم، كما يساعد على بيانِ ضوابطِ الفتوى وشروطِها وآدابِها، وقواعدِ الحوار والمناظَرةِ للوصول إلى الحقِّ.
كما يدعو علمُ الأصول إلى: نَبْذِ التعصُّب المذهبيِّ والتقليد الأعمى، واتِّباعِ الدليل حيثما كان، كما يعمل على صيانةِ الشريعة وحفظِ العقيدة بحمايةِ أصول الاستدلال والردِّ على شُبَهِ المُنْحَرِفين، وحَسْبُنا دليلًا على أَهمِّيَّته وفائدته أنَّ سائِرَ تقنيناتِ العالَم تعتمد على أصول الفقه الإسلاميِّ بقواعده وضوابطه مِن جملةِ ما تعتمده مِن أصولٍ وضوابطَ.
هذه هي فائدةُ علمِ الأصول، وخصوصيتُه ظاهرةٌ، وإن راجَتْ شُبَهٌ أُثيرَتْ حولَه تقضي بذمِّ هذا العلم(٢) وتحقِّره في نفوسِ طُلَّابه، بدعوى أنَّ هذا العلمَ لم يكن موجودًا في العهد النبويِّ ولا عند السلفِ الصالح مِن القرون المفضَّلة؛ لذلك كان عِلْمًا مُبْتَدَعًا ينتفي فيه النفعُ.
ولا تخفى على كلِّ ذي لُبٍّ هذه المغالَطةُ؛ لأنَّ الصحابة رضي الله عنهم عاصَرُوا التنزيلَ وعَلِموا أسبابَ ورودِ الأحاديث، وقد كانوا أَقْرَبَ عهدًا بنورِ النبوَّةِ وأقربَ تلقِّيًا مِن مشكاتها، ومع ذلك دعاهم النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى الاجتهاد، فقال: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»(٣).
وقد تَمَرَّنوا على الاجتهاد والاستنباط، وتَرَبَّوْا على مواجَهةِ القضايا والمسائل، وكانو يحتجُّون بأدلَّةِ التشريع مِن الكتاب والسنَّة، فإن اتَّفقوا على أمرٍ كان إجماعًا وهو الدليل الثالثُ مِن أدلَّة التشريع، وإن لم يتَّفِقوا بقي الأمرُ في حَيِّز القياس والنظرِ وهو الدليل الرابعُ مِن أدلَّةِ التشريع، وكانوا في عهدهم قد طبَّقوا القواعدَ الأصولية بجوهرها وإن لم يُسَمُّوا ذلك بالمصطلحات الحالية، فقَدْ كان الصحابةُ مِن أَفْقَهِ الناسِ بدلالات الألفاظ وصِيَغها لكونهم أهلَ الفصاحةِ واللسان: فالعربيةُ طبيعتُهم وسليقتُهم، والمعاني الصحيحة مغروسةٌ في فِطَرهم وعقولهم، فلم يكونوا بحاجةٍ إلى قواعدِ النحوِ وميزان الصرف؛ لأنهم كانوا ينطقون بالفصحى ويُراعُون الإعرابَ قبل أن يُوضَع علمُ النحو والصرف.
كذلك لم يكونوا بحاجةٍ إلى النظر في الإسناد وأحوالِ الرواة وعِلَلِ الحديث والجرحِ والتعديل لعدالتهم وتزكيتهم بالنصِّ القرآنيِّ والحديثيِّ، فكانوا ـ أيضًا ـ في غِنًى عن النظر إلى قواعد الأصول وأوضاعِ الأصوليِّين، لكونهم أَعْلَمَ بالتأويل وأَعْرَفَ بمَقاصِدِ الشريعة، لِمَا تَميَّزوا به مِن صفاءِ الخاطر، وحِدَّةِ الذِّهن في إدراك المَرامي والأبعاد والغايات، الأمرُ الذي أَكْسَبَهم قُوَّةً تؤهِّلهم لفَهْمِ مُرادِ الشارع وتتبُّعِ النصوص والاستنباط منها والاجتهادِ فيما لم يَرِدْ فيه نصٌّ.
وقد وَجَّه عمرُ بنُ الخطَّاب رضي الله عنه رسالةً إلى أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه يقول فيها: «الفَهْمَ الفَهْمَ فِيمَا تَلَجْلَجَ فِي صَدْرِكَ مِمَّا لَيْسَ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، ثُمَّ اعْرِفِ الأَشْبَاهَ وَالأَمْثَالَ، فَقِسِ الأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَاعْمِدْ إِلَى أَقْرَبِهَا إِلَى اللهِ وَأَشْبَهِهَا بِالحَقِّ»(٤)، فقَدْ أرسى عُمَرُ رضي الله عنه بمقالته هذه أصلين:
يتمثَّل الأوَّل في قاعدةِ: «لَا اجْتِهَادَ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ».
والثاني: في تقريرِ مبدإ القياس ومعرفةِ عِلَل الأحكام.
وكذلك قولُ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه في عِدَّةِ الحاملِ المتوفَّى عنها زوجُها وأنَّ نزول قولِه تعالى في سورة الطلاق: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٤]، كان بعد نزولِ قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة: ٢٣٤]، قال: «وَاللهِ، لَمَنْ شَاءَ لَاعَنَّاهُ، لَأُنْزِلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ القُصْرَى بَعْدَ ﴿أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة: ٢٣٤]»(٥).
وهذا يدلُّ على الأخذِ بالمبدإ الأصوليِّ المعروف بأنَّ «النَّصَّ المُتَأَخِّرَ يَنْسَخُ أَوْ يُخَصِّصُ النَّصَّ المُتَقَدِّمَ»، وفي ذلك آثارٌ أخرى تُبيِّن مسلكَهم الواضحَ في الاجتهاد والقضاءِ وبيانِ الأحكام، واعتمادَهم في ذلك على موضوعات أصول الفقه وإن لم يَنُصُّوا عليها.
ثمَّ تَتَلْمَذَ التابعون على أيديهم ونَهَجوا طريقَهم وتتبَّعوا خُطاهم، وتَبَلْوَرَ في اجتهادهم ظهورُ بعضِ المبادئ الأصولية: كمراعاةِ المصلحة في الاستنباط عند فَقْدِ النصِّ، وأنَّ خَبَرَ الواحدِ يُسْتَدَلُّ به على إثبات حكمٍ شرعيٍّ، وأنَّ هذا قولُ صحابيٍّ في مسألةٍ مِن المسائل، ونحو ذلك.
يتبع......
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللهِ مِن شرور أَنْفُسِنا، ومِن سَيِّئات أعمالنا، مَن يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أَنْ لا إله إلَّا اللهُ وَحْدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عَبْدُه ورسولُه.
وصلاةُ الله وسلامُه عليه، وعلى آله وصحبه وإخوانه، أجمعين إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعد:
فمِن المعلوم أنَّ شَرَفَ العلمِ ورِفْعتَه مِن شَرَفِ المعلوم ورفعتِه، وعلمُ الأصول لا خلافَ بين العلماءِ في رِفعةِ شأنه، وعُلُوِّ منزلته، وعظيمِ شَرَفِه وأثرِه عند الأوَّلين والآخِرين؛ إذ هو ضروريٌّ لاستنباطِ الأحكام الشرعية وفَهْمِها وإدراكها، والوقوفِ على المَصالِح التي يريدها الشارعُ الحكيم، فهو لقواعدِ الأحكامِ أساسُها، ولجميعِ العلومِ ميزانُها، وهو عمدةُ الفتوى، وركيزةُ الاجتهاد، وقانونُ العقلِ والترجيح، فهو علمٌ يضبط الفروعَ الفقهية بأصولها، ويجمع المبادئَ المشترَكةَ، ويُبيِّن أسبابَ التبايُنِ بينها، ويُظْهِر أساسَ الخلاف، وهو يتناول جميعَ العلوم:
فمِن علوم القرآن يتناول: العمومَ والخصوصَ، والمطلقَ والمقيَّدَ، والناسخَ والمنسوخَ، وأسبابَ النزول، والمكِّيَّ والمدنيَّ، وقد فسَّر ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما «الحكمةَ» في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة: ٢٦٩]، بأنها: «المَعْرِفَةُ بِالقُرْآنِ: نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، وَمُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِهِ، وَمُقَدَّمِهِ وَمُؤَخَّرِهِ، وَحَلَالِهِ وَحَرَامِهِ، وَأَمْثَالِهِ»(١).
ومِن مَباحِثِه: علومُ السنَّةِ والحديث: مِن علمِ الرواية، وكيفيتها، والجرح والتعديل، وطُرُقِ الترجيح.
كما يتناول: أحوالَ المجتهدين ومَناهِجَ الاجتهاد.
ومِن مَباحِثِه ـ أيضًا ـ: علومُ العربية، ودلالات الألفاظ، ومعاني الحروف..
كما يتناول: عِلْمَ مَقاصِدِ الشريعة، وعلومَ البحث والمناظَرة، وهذه العلومُ يدرسها علمُ أصول الفقه دراسةً دقيقةً ومعمَّقةً، وغرضُه مِن ذلك الوصولُ إلى الأحكام الشرعية بالنظر في تلك الأدلَّة، وهذا الغرضُ المبتغى يُبيِّن الاختلافَ بين الأصوليِّين في مَباحِثِهم، وأربابِ العلوم الأخرى في نظرتهم لها؛ إذ لا تحصيلَ لمَطالبِ الأصولِ مِن تلك العلومِ دون الرجوع إلى علمِ أصول الفقه؛ فثَبَتَ يقينًا وجودُ مَزايَا وخصائصَ فيه لا توجد في غيره مِن العلوم.
ومِن مزاياه ـ أيضًا ـ: كونُه طريقًا لتيسيرِ عملية الاجتهاد، ويعطي الحوادثَ الجديدة ما يناسبها مِن الأحكام، كما يُعِين على معرفةِ الأسباب المؤدِّية إلى وقوع الخلاف بين العلماء، وَالْتِماسِ الأعذارِ لهم، كما يساعد على بيانِ ضوابطِ الفتوى وشروطِها وآدابِها، وقواعدِ الحوار والمناظَرةِ للوصول إلى الحقِّ.
كما يدعو علمُ الأصول إلى: نَبْذِ التعصُّب المذهبيِّ والتقليد الأعمى، واتِّباعِ الدليل حيثما كان، كما يعمل على صيانةِ الشريعة وحفظِ العقيدة بحمايةِ أصول الاستدلال والردِّ على شُبَهِ المُنْحَرِفين، وحَسْبُنا دليلًا على أَهمِّيَّته وفائدته أنَّ سائِرَ تقنيناتِ العالَم تعتمد على أصول الفقه الإسلاميِّ بقواعده وضوابطه مِن جملةِ ما تعتمده مِن أصولٍ وضوابطَ.
هذه هي فائدةُ علمِ الأصول، وخصوصيتُه ظاهرةٌ، وإن راجَتْ شُبَهٌ أُثيرَتْ حولَه تقضي بذمِّ هذا العلم(٢) وتحقِّره في نفوسِ طُلَّابه، بدعوى أنَّ هذا العلمَ لم يكن موجودًا في العهد النبويِّ ولا عند السلفِ الصالح مِن القرون المفضَّلة؛ لذلك كان عِلْمًا مُبْتَدَعًا ينتفي فيه النفعُ.
ولا تخفى على كلِّ ذي لُبٍّ هذه المغالَطةُ؛ لأنَّ الصحابة رضي الله عنهم عاصَرُوا التنزيلَ وعَلِموا أسبابَ ورودِ الأحاديث، وقد كانوا أَقْرَبَ عهدًا بنورِ النبوَّةِ وأقربَ تلقِّيًا مِن مشكاتها، ومع ذلك دعاهم النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى الاجتهاد، فقال: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»(٣).
وقد تَمَرَّنوا على الاجتهاد والاستنباط، وتَرَبَّوْا على مواجَهةِ القضايا والمسائل، وكانو يحتجُّون بأدلَّةِ التشريع مِن الكتاب والسنَّة، فإن اتَّفقوا على أمرٍ كان إجماعًا وهو الدليل الثالثُ مِن أدلَّة التشريع، وإن لم يتَّفِقوا بقي الأمرُ في حَيِّز القياس والنظرِ وهو الدليل الرابعُ مِن أدلَّةِ التشريع، وكانوا في عهدهم قد طبَّقوا القواعدَ الأصولية بجوهرها وإن لم يُسَمُّوا ذلك بالمصطلحات الحالية، فقَدْ كان الصحابةُ مِن أَفْقَهِ الناسِ بدلالات الألفاظ وصِيَغها لكونهم أهلَ الفصاحةِ واللسان: فالعربيةُ طبيعتُهم وسليقتُهم، والمعاني الصحيحة مغروسةٌ في فِطَرهم وعقولهم، فلم يكونوا بحاجةٍ إلى قواعدِ النحوِ وميزان الصرف؛ لأنهم كانوا ينطقون بالفصحى ويُراعُون الإعرابَ قبل أن يُوضَع علمُ النحو والصرف.
كذلك لم يكونوا بحاجةٍ إلى النظر في الإسناد وأحوالِ الرواة وعِلَلِ الحديث والجرحِ والتعديل لعدالتهم وتزكيتهم بالنصِّ القرآنيِّ والحديثيِّ، فكانوا ـ أيضًا ـ في غِنًى عن النظر إلى قواعد الأصول وأوضاعِ الأصوليِّين، لكونهم أَعْلَمَ بالتأويل وأَعْرَفَ بمَقاصِدِ الشريعة، لِمَا تَميَّزوا به مِن صفاءِ الخاطر، وحِدَّةِ الذِّهن في إدراك المَرامي والأبعاد والغايات، الأمرُ الذي أَكْسَبَهم قُوَّةً تؤهِّلهم لفَهْمِ مُرادِ الشارع وتتبُّعِ النصوص والاستنباط منها والاجتهادِ فيما لم يَرِدْ فيه نصٌّ.
وقد وَجَّه عمرُ بنُ الخطَّاب رضي الله عنه رسالةً إلى أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه يقول فيها: «الفَهْمَ الفَهْمَ فِيمَا تَلَجْلَجَ فِي صَدْرِكَ مِمَّا لَيْسَ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، ثُمَّ اعْرِفِ الأَشْبَاهَ وَالأَمْثَالَ، فَقِسِ الأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَاعْمِدْ إِلَى أَقْرَبِهَا إِلَى اللهِ وَأَشْبَهِهَا بِالحَقِّ»(٤)، فقَدْ أرسى عُمَرُ رضي الله عنه بمقالته هذه أصلين:
يتمثَّل الأوَّل في قاعدةِ: «لَا اجْتِهَادَ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ».
والثاني: في تقريرِ مبدإ القياس ومعرفةِ عِلَل الأحكام.
وكذلك قولُ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه في عِدَّةِ الحاملِ المتوفَّى عنها زوجُها وأنَّ نزول قولِه تعالى في سورة الطلاق: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: ٤]، كان بعد نزولِ قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة: ٢٣٤]، قال: «وَاللهِ، لَمَنْ شَاءَ لَاعَنَّاهُ، لَأُنْزِلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ القُصْرَى بَعْدَ ﴿أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ [البقرة: ٢٣٤]»(٥).
وهذا يدلُّ على الأخذِ بالمبدإ الأصوليِّ المعروف بأنَّ «النَّصَّ المُتَأَخِّرَ يَنْسَخُ أَوْ يُخَصِّصُ النَّصَّ المُتَقَدِّمَ»، وفي ذلك آثارٌ أخرى تُبيِّن مسلكَهم الواضحَ في الاجتهاد والقضاءِ وبيانِ الأحكام، واعتمادَهم في ذلك على موضوعات أصول الفقه وإن لم يَنُصُّوا عليها.
ثمَّ تَتَلْمَذَ التابعون على أيديهم ونَهَجوا طريقَهم وتتبَّعوا خُطاهم، وتَبَلْوَرَ في اجتهادهم ظهورُ بعضِ المبادئ الأصولية: كمراعاةِ المصلحة في الاستنباط عند فَقْدِ النصِّ، وأنَّ خَبَرَ الواحدِ يُسْتَدَلُّ به على إثبات حكمٍ شرعيٍّ، وأنَّ هذا قولُ صحابيٍّ في مسألةٍ مِن المسائل، ونحو ذلك.
يتبع......