عَبِيرُ الإسلام
2015-03-26, 12:52
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الرُقْيَة الشّرعية من الكتاب والسُنَّة 2
الفتوى رقم: ١١٤٧
الصنف: فتاوى طبِّية
المفتي : أبو عبدالمعز محمّد علي فركوس وفّقه الله
في شروط مشروعية الرُّقْيَة
السؤال:
نرجو من شيخنا أبي عبد المعزِّ حفظه الله أن يبيِّنَ لنا بعض شروط الرقية الشرعية؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فمشروعية الرقية تستوجب تحقيقَ معاييرَ معلومةٍ تظهر في الوجوه الآتية:
-الوجه الأوَّل: تجريد الرقية من الشِرْكِيَات، ويدلُّ عليه عمومُ الآيات والأحاديث الناهية عن الشِرْك بمختلف مظاهره، فضلاً عن حديث عوفِ بن مالكٍ الأشجعيِّ رضي الله عنه قال: «كُنَّا نَرْقِي فِي الجَاهِلِيَّةِ فَقُلْنَا: «يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ ؟» فَقَالَ: «اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ، لاَ بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ»»(١).
والعلماء يتَّفقون على أنَّ الشِرْك لا يجوز التداوي به، وإن تنازعوا في جواز التداوي بالمحرَّمات كالخمر والميتة والخنزير؛ ذلك لأنَّ الشِّرك محرَّمٌ في كلِّ حالٍ، ولا يصحُّ القياس على التكلُّم به عند الإكراه كما في قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ﴾ [النحل: ١٠٦] لظهور الفرق بينهما، إذ المقيسُ عليه إنّما جاز للمكرَه المضطرِّ على القول مع اطمئنان قلبه بالإيمان، أي: أنَّ كلامه صدر منه وهو غيرُ راضٍ به، ولذلك عُفي عنه ولم يؤاخَذْ به في أحكام الدنيا والآخرة؛ لقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»(٢).
وليس في أمر العلاج بالرقية الشِّركية ضرورةُ إكراهٍ، وعلى فرض التّسليم فهو إكراهٌ على القول والفعل، أمَّا القول فلو لم يكن في قلبه زيغٌ لَمَا صار إليها؛ إذ إنَّ في الحقِّ ما يُغني عن الباطل، وأمَّا الفعل فمؤاخَذٌ به.
قال ابن القيِّم -رحمه الله-: «والفرق بين الأقوال والأفعال في الإكراه: أنَّ الأفعال إذا وقعتْ لم ترتفع مفسدتها، بل مفسدتُها معها، بخلاف الأقوال فإنّها يمكن إلغاؤها وجَعْلُها بمنزلة النائم والمجنون، فمفسدةُ الفعل الذي لا يُباح بالإكراه ثابتةٌ بخلاف مفسدة القول، فإنّها إنّما تثبت إذا كان قائلُه عالِمًا به مختارًا له»(٣).
ويقدح في القياس السابق -من جهةٍ أخرى- مقابلتُه للإجماع على عدم جواز التّداوي بالشِرْك كما تقدَّم، و«كُلُّ قِيَاسٍ فِي مُقَابَلَةِ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ فَاسِدُ الاعْتِبَارِ»، كما هو مقرَّرٌ في القواعد.
-الوجه الثاني: خلوُّ الممارِس للرقية -الراقي- من الصفات القادحة في الدِّين والعدالة، فلا يجوز طلبُ الرقية من ساحرٍ أو كاهنٍ أو عرَّافٍ أو منجِّمٍ أو رمَّالٍ أو نحوِهم ممَّن يدَّعون علْمَ شيءٍ من المغيَّبات؛ لِما في ذلك من المشابهة لحال الجاهلية، ولو قُدِّر أَنَّ عندهم رقيةً صحيحةً؛ إلاَّ أنه لا يُؤْمَن أن يخلطها بشيءٍ من السحر والكهانة والشعوذة، فيُمنع سدًّا للذريعة إلى المحرَّم، و«الأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى النَّظَرِ إِلَى المَآلِ»، ووسائل المحظور تفضي إليه.
وعملُ السحر حرامٌ، وهو من الكبائر بالإجماع(٤)، لقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوت ﴾ [البقرة: ١٠٢]، وقوله تعالى: ﴿وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ﴾ [طه: ٦٩].
فلو كانت في رقية الساحر منفعةٌ للناس لَما أمر الشارع بقتل الساحر ولَما عَدَّ السِّحرَ من الموبِقات في قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «اجْتَنِبُوا المُوبِقَاتِ: الشِّرْكُ بِاللهِ وَالسِّحْرُ..»(٥) الحديث.
ولَمَّا كان محرَّمًا لم يجعلِ اللهُ شفاءَ أمَّته فيما حرَّم عليها بقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «يَا عِبَادَ اللهِ، تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلاَّ وَضَعَ لَهُ شِفَاءً»(٦)، وقولِه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا وَلاَ تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ»(٧)، وفي حديثٍ: «إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِي حَرَامٍ»(٨).
ويدخل في النّهي عن إتيانه للرقية كُلٌّ من: الكُهَّان والعرَّافين، ففي الحديث: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ»(٩).
وقد أوضح ابنُ القيِّم -رحمه الله- أنَّ الكهنة رُسُلُ الشيطان حقيقةً، وأنَّ الناس قسمان: أتباع الكهنة، وأتباع رسل الله، فلا يجتمع في العبد أن يكون من هؤلاء وهؤلاء، بل يَبعُد عن الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بقدر قُربه من الكاهن، ويُكذِّب الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بقدر تصديقه للكاهن.
وَلَمَّا كان بين النوعين أعظمُ التضادِّ قال الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ»(١٠)(١١). ويُلحق بهم كلُّ مشاركٍ لهم في المعنى ممَّن أتاهم فصدَّقهم فيما يقولون.
فالحاصل:
أنَّ على الرّاقي أن يكون معروفًا بسلامة عقيدته، ولا تلازمه صفاتٌ قبيحةٌ شرعًا، وأن يكون ملتزمًا في الظاهر بالأمور الشرعية، وحتى تكون الرقية ناجعةً ينبغي أن يكون مستجمعًا لشرائط الدعاء، مع الحرص على الأكل الحلال، والحذر من المال الحرام أو المشتبه فيه؛ لأنَّ طِيبَ المطعم من أسباب قَبول الدعاء، وذكر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ»(١٢)، ضِمْنَ توجُّهٍ قلبيٍّ قويٍّ إلى الله تعالى مليءٍ بالتقوى والتوكُّل والإخلاص.
وحقيقٌ بالتّنبيه: أنَّ الراقيَ إذا كان مشغولاً بعلاجه للعليل، ولا يُستغنى عن تعاوُنه في الحال، أو يَخاف زيادةَ المرض أو بُطأَهُ وتأخيرَه؛ فهو معدودٌ في حكم المريض الذي يشقُّ عليه حضورُ صلاة الجماعة، ففي الحديث أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «الجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِلاَّ أَرْبَعَةً: عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، أَوِ امْرَأَةٌ، أَوْ صَبِيٌّ، أَوْ مَرِيضٌ»(١٣).
-الوجه الثالث: وضوح الرقية في عباراتها ومعانيها، وفي هيئاتها، أي: أن تكون صافيةً من كلِّ العبارات المَنْهِيِّ عنها، فلا تُشرع الرقية بعباراتٍ غيرِ مفهومةٍ أو غير معقولة المعنى خشيةَ تلبُّسِها واختلاطها بكلام أهل الباطل، والوقوعِ في مظنَّةِ الشِّرك وشَرَكِه الشيطانية، فإنَّ مِثْلَ هذا يفتح البابَ واسعًا لتسويغِ أعمالِ أهل الباطل من السحرة والكهنة والعرَّافين وأشباههم.
وقد نقل ابنُ حجرٍ -رحمه الله- إجماعَ العلماء على جواز الرقى عند تحقُّق اجتماع ثلاثة شروطٍ:
أ- أن تكون بكلام الله أو بأسمائه وصفاته.
ب- أن تكون باللسان العربيِّ أو بما يُعرف معناه مِن غيره.
ﺟ- أن يعتقد أنَّ الرقية لا تؤثِّر بذاتها، بل بتقدير الله تعالى(١٤).
فمِن صفاء الرقية في عباراتها: أن تكون خاليةً من الكلام الشِّركيِّ والألفاظ القبيحة الجارحة التي يتعرَّض فيها لأعراض المسلمين بالقدح واللعن والسبِّ والشتم ونحوها، سواءٌ كان مقصودُه الطعنَ في الجِنِّيِّ المتلبِّس أو استعمالَها بغرض العلاج؛ لأنَّ مثل هذا يُعَدُّ من التداوي المنهيِّ عنه بقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» الحديث(١٥)، والتداوي بالمنهيِّ عنه غيرُ جائزٍ كما تقدَّم.
-وينبغي أن تكون هيئاتُها مباحةً، أي: لا يجوز أن يَرْقِيَ على وضعيةٍ منهيٍّ عنها يتقصَّدها، أو هيئةٍ مُحرَّمةٍ يأتي بها، فإنَّ ذلك يُمنع سدًّا لذريعة الشِّرْك وأعمال الدجَّالين والمشعوذين وإخوانهم، مثل مَن يخصِّص الرقيةَ عند مكانٍ يُنهى عن الصلاة فيه كالمقبرة والحمَّام، أو يترصَّد زمنًا معيَّنًا كبروز القمر والنجوم على حالةٍ ما ليَرْقِيَ فيها المريضَ، أو يلطِّخُ ذاتَه أو ذاتَ المسترقي بالنجاسات، أو يفرش أتربةَ أضرحةِ القبور قَصْدَ الرقية عليها.
قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما في أناسٍ يكتبون أَبَاجَادَ وينظرون في النجوم: «مَا أَدْرِي مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَهُ عِنْدَ اللهِ خَلاَقٌ!»(١٦).
أو على هيئةٍ تُكشَفُ فيها العوراتُ، أو يضع يدَه على الأجنبيات -ولو من وراء حائلٍ أو سِتارٍ- فيما لا تدعو الحاجة إليه في الأصل؛ ذلك لأنَّ الرقية بالمعوِّذات وغيرها من أسماء الله تعالى هي الطِّبُّ الروحانيُّ، فلا يُتطلَّب فيه لحصول الشفاء -بإذن الله- سوى صدقِ توجُّه المداوي، وقُوَّةِ قلبه بالتقوى والتوكُّلِ وسلامة القصد من العِلَلِ، على ما أفادتْه قصَّةُ المرأة السوداء رضي الله عنها التي كانت تُصرع وتتكشَّفُ، فسألت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن يدعوَ لها، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الجَنَّةَ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَكِ»، فَقَالَتْ: «أَصْبِرُ»، فَقَالَتْ: «إِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللهَ لِي أَلاَّ أَتَكَشَّفَ»، فَدَعَا لَهَا(١٧).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.
الجزائر: ٠٥ جمادى الأولى ١٤١٨ﻫ
الموافق ﻟ: ٠٧ سبتمبر ١٩٩٧م
---------------------------------------------------------------------------------
(١) أخرجه مسلم في «السلام» (٢٢٠٠) من حديث عوف بن مالكٍ الأشجعي رضي الله عنه.
(٢) أخرجه ابن عديٍّ في «الكامل» (٢/ ٥٧٣) من حديث أبي بكرة بلفظ: «رَفَعَ اللهُ عَنْ هَذِهِ الأُمَّةِ ثَلاَثًا...». وأخرجه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٣/ ٩٥)، والحاكم في «المستدرك» (٢/ ١٩٨)، والبيهقي في «سننه الكبرى» (٧/ ٣٥٦) من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما بلفظ: «إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي…». وفي لفظ ابن ماجه (١/ ٦٥٩): «إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي…». وللحديث طرقٌ أخرى، منها حديث أبي ذر، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وابن عمر رضي الله عنهم.
قال السخاوي في «المقاصد الحسنة» (٣٧١): «ومجموع هذه الطرق يُظهر أنَّ للحديث أصلاً». وقد صحَّحه ابن حزمٍ في «الإحكام» (٥/ ١٤٩)، وقال النووي في «الأربعين»: حديثٌ حسنٌ.
انظر: «نصب الراية» للزيلعي (٢/ ٦٤)، و«الدراية» (١/ ١٧٥)، «التلخيص» (١/ ٢٨١) كلاهما لابن حجر، «كشف الخفاء» للعجلوني (١/ ٥٢٢)، «جامع العلوم والحكم» لابن رجب (٣٥٠)، «إرواء الغليل» للألباني (١/ ١٢٣).
(٣) «زاد المعاد» (٥/ ٢٠٥، ٢٠٦).
(٤) انظر نقل الإجماع في «الفتح» لابن حجر (١٠/ ٢٢٤).
(٥) متَّفقٌ عليه: أخرجه البخاري في «الطبِّ» باب: الشرك والسحر من الموبقات (٥٧٦٤)، ومسلم في «الإيمان» (٨٩)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٦) أخرجه أحمد في «مسنده» (١٨٤٥٦)، وأبو داود (٢/ ٣٩٦) والترمذي في «الطبِّ» باب ما جاء في الدواء والحثِّ عليه (٢٠٣٨)، من حديث أسامة بن شريكٍ رضي الله عنه، قال الترمذي: «هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ»، وصحَّحه الألباني في «صحيح الجامع» (٢٩٣٠)، وروى البخاري طرفًا منه في «الطبِّ» باب ما أنزل الله داءً إلاَّ أنزل له شفاءً (٥٦٧٨) بلفظ: «مَا أَنْزَلَ اللهُ دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٧) أخرجه أبو داود في «الطبِّ» بابٌ في الأدوية المكروهة (٣٨٧٤)، والبيهقي (١٩٦٨١)، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وانظر «السلسلة الصحيحة» للألباني (٤/ ١٧٤).
(٨) أخرجه ابن حبَّان في «صحيحه» (١٣٩١) من حديث أمِّ سلمة رضي الله عنها، وبمعناه عند البخاري في «الأشربة» باب شراب الحلواء والعسل موقوفًا على ابن مسعودٍ رضي الله عنه، وحسَّنه الألباني لغيره في «التعليقات الحسان» (١٣٨٨).
(٩) رواه البزَّار في «مسنده» (٣٥٧٨)، وذكره الهيثمي في «المجمع» (٥/ ١١٧) وقال: «رواه البزَّار، ورجاله رجال الصحيح، خلا إسحاق بن ربيعٍ، وهو ثقةٌ»، وذكره المنذري من حديث عمران بن حصينٍ رضي الله عنه (٤/ ٥٢)، وله شاهدٌ من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما يرتقي به إلى درجة الحسن. انظر: «السلسلة الصحيحة» للألباني (٥/ ٢٢٨).
(١٠) ذكره الهيثمي في «المجمع» (٥/ ١١٨)، وقال: «رواه البزَّار، ورجاله رجال الصحيح، خلا هبيرة بن مريم، وهو ثقةٌ»، والحديث صحَّحه الألباني في «صحيح الجامع الصغير» (٥/ ٢٢٣).
(١١) «إغاثة اللهفان» لابن القيِّم (١/ ١٩٧).
(١٢) أخرجه مسلم في «الزكاة» (١٠١٥) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(١٣) أخرجه أبو داود في «الصلاة» باب الجمعة للمملوك والمرأة (١٠٦٧) من حديث طارق بن شهابٍ رضي الله عنه، والحاكم في «مستدركه» (١٠٦٢) من حديث طارق بن شهابٍ عن أبي موسى رضي الله عنهما، وصحَّح إسنادَه النووي، وقال الحافظ في «التلخيص» (٢/ ٦٣): «وصحَّحه غير واحدٍ»، وصحَّحه الألباني -أيضًا- في «الإرواء» (٣/ ٥٤).
(١٤) «فتح الباري» لابن حجر (١٠/ ١٩٥).
(١٥) أخرجه البخاري في «الحجِّ» باب الخطبة أيَّامَ منى (١٧٣٩) من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، ومسلم في «القسامة والمحاربين والقصاص والديات» (١٦٧٩) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
(١٦) أخرجه عبد الرزَّاق في «المصنَّف» (١١/ ٢٦)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٨/ ١٣٩).
(١٧) أخرجه البخاري في «المرضى» باب فضل من يُصرع من الريح (٥٦٥٢)، ومسلم في «البرِّ والصلة والآداب» (٢٥٧٦)، من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما.
http://ferkous.com/home/?q=fatwa-1147
الفتوى رقم: ١١٤٤
في حكم الرقية بغير المأثور
السؤال:
هل الرقية توقيفيةٌ أم لا ؟ وهل يجوز الرقية بغير المأثور ؟
فإذا كانت توقيفيةً فهل الزيادة عليها تُعَدُّ شركًا وشعوذةً كما يعتقد بعضُ الناس، مع إيراد الأدلَّة على ذلك ؟
وإذا لم تكن توقيفيةً فما دليل الشرع على ذلك ؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالرقيةُ المأثورة من حيث ذاتُها توقيفيةٌ في هيئاتها وصفاتها، وأوقاتِها وزمانها وعددها، فلا تجوز الزيادةُ عليها ولا النقص منها؛ لِمَا في ذلك من الاستدراك على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم والتهمة له، فالراقي المباشرُ لها لا خِيَرَة له فيها؛ لِمَا اقترن بها من شائبة التعبُّد الذي لا عَقْلَ لمعناه في العدد ومُجملِ صفاته، سواءٌ كان اقتضاءً أو تخييرًا؛ لأنَّ «التَّخْيِيرَ فِي التَّعَبُّدَاتِ إِلْزَامٌ» كما أنَّ «الاقْتِضَاءَ إِلْزَامٌ» على ما قرَّره الشاطبيُّ رحمه الله(١).
وعليه، فالجديرُ بالراقي التقيُّدُ بالثابت من الرقية الشّرعية في جميع صفاتها، فما نصَّ عليه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من الأدوية والرُّقى ينبغي تقديمه على التجربة، كما في حديث العسل: «صَدَقَ اللهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ»(٢)؛ ذلك لأنَّ علم أهل الطِّب والصناعة مَدَارُه غالبًا على التجربة المبنيَّة على ظنٍّ غالبٍ، فتصديقُ مَن لا ينطق عن الهوى أَوْلَى بالتقديم من كلامهم.
وقد أفاد ابن القيِّم -رحمه الله- أنَّ الطِبَّ النبويَّ ليس كطبِّ الأطبَّاء، فإنَّ طبَّ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم متيقَّنٌ قطعيٌّ إلهيٌّ صادرٌ عن الوحي ومشكاة النبوَّة وكمال العقل، وطبُّ غيره أكثرُه حدْسٌ وظنونٌ وتجارب(٣).
قال القرطبيُّ -رحمه الله-: «فإنْ كان مأثورًا فيُستحبُّ»(٤).
هذا، وإذا كانت الرقية المأثورة لها حكمُ الأولوية في التقديم، إلاَّ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم رخَّص في رقية بعض الأمراض والأعراض من غير تقييدٍ بالمأثور، على نحو ما ثبت من حديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: «رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرُّقْيَةِ مِنَ العَيْنِ وَالحُمَةِ(٥) وَالنَّمْلَةِ»(٦)، وحديثِ عمرانَ بنِ حصينٍ رضي الله عنه مرفوعًا: «لاَ رُقْيَةَ إِلاَّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ»(٧).
أمَّا الرقية غير المأثورةِ ولا الواردةِ كيفيَّتُها شرعًا والخاليةُ من المحاذير الشرعية؛ فحكمُ ممارستها مختلَفٌ فيه، ويرجع سبب الخلاف إلى أنَّ ممارسة الرقية: هل هي من جنس التداوي بالأدوية والأعشاب الطبِّيَّة أم تتوقَّف معرفتها على الشرع ؟
والأشبه في الرقية غير المنصوص عليها -وإن كانت من الطِّبِّ الروحانيِّ- أنها لصيقةٌ بالطبِّ الجسمانيِّ من جهة اعتمادها على الاجتهاد والتجربة العملية، والإستعانةِ بالله في تحقيق نفعها. والأخذُ بالتجربة البشرية يجوز إذا أظهرت نجوعًا وفائدةً وخَلَتْ من أيِّ محذورٍ شرعيٍّ؛ لأنَّ ثمرتها حفظُ الصحَّة للأصحَّاء، ودفعُ المرض عن المرضى بالمداواة حتى يحصل لهم البُرْءُ من أمراضهم.
قال ابن خلدون -رحمه الله-: «كان عند العرب من هذا الطبِّ كثيرٌ، وكان فيهم أطبَّاءُ معروفون كالحارث بنِ كَلَدَةَ وغيره، والطبُّ المنقول في الشّرعيات من هذا القبيل، وليس من الوحي في شيءٍ، وإنّما هو أمرٌ كان عاديًّا للعرب»(٨).
ويدلُّ عليه ما رواه مسلمٌ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرُّقَى، فَجَاءَ آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنَ العَقْرَبِ، وَإِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ الرُّقَى»، قَالَ: فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ فَقَالَ: «مَا أَرَى بَأْسًا، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ»»(٩).
والحديث يدلُّ على أنَّ الطبَّ أو الرقية لا تتوقَّف معرفتُها على التَّلَقِّي من النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، أي: أنَّ طريقها ليس الوحيَ باللّزوم، وأنَّ أيَّ اجتهادٍ في دفعِ الضرر ورفعِ البلاء مُعرًّى من أيِّ محذورٍ شرعيٍّ مقبولٌ نفعُه، وجملةُ: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ» -وإن وقعت على سببٍ خاصٍّ وهو الرقية من العقرب- فإنَّ «العِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لاَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ»، على ما هو مقرَّرٌ أصوليًّا.
وفي مَعْرِض شرح حديث ابن عبَّاسٍ وأبي سعيدٍ رضي الله عنهم في قصَّة اللّديغ(١٠) قال الشوكانيُّ -رحمه الله-:
«وفي الحديث دليلٌ على جواز الرقية بكتاب الله تعالى، ويلتحق به ما كان بالذِّكر والدعاء المأثور، وكذا غير المأثور ممَّا لا يُخالف ما في المأثور»(١١).
ويصحِّح هذا القولَ حديثُ عوف بن مالكٍ الأشجعيِّ رضي الله عنه قال: «كُنَّا نَرْقِي فِي الجَاهِلِيَّةِ فَقُلْنَا: «يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ ؟» فَقَالَ: «اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ، لاَ بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ»»(١٢).
«وفيه دليلٌ على جواز الرُّقى والتطبُّب بما لا ضررَ فيه ولا مَنْعَ من جهة الشرع»(١٣). وعبارةُ الحديث: «لاَ بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ تَكُنْ شِرْكًا» تضمَّنت توجيهًا عامًّا غيْرَ قاصرٍ على الرقية المعروضة عليه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وإنّما جاء إرشاده مُطلقًا من غير تحديدٍ للسّور القرآنية، ولا تَعْدادٍ للآيات المقروءة، ولا تعيينٍ للأدعية الواردة والأذكار المأثورة، فمتى كانت الرقية سالمةً من شركٍ أو توسُّلٍ بغير الله أو دعاءِ الجنِّ والشياطين أو الذبح لغير الله، أو ألفاظٍ مجهولةٍ أو عملٍ مخالفٍ للشريعة كترك الصلوات وأكلِ النجاسات؛ جازت بلا كراهةٍ.
وهذه الرُقَى المعروضة التي كانت تُستعمَل في الجاهلية ليست توقيفيةً كما يظهر، فلو كان الجوازُ محصورًا في الثابت بالوحي؛ لَلَزِمَ منه إنكارُ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لها لكونها في مَعْرِض البيان، و«تَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِ الحَاجَةِ لاَ يَجُوزُ».
ويؤكِّد هذا المعنى -بلا ريبٍ- إقرارُه صلَّى الله عليه وسلَّم لرقية الشفاء بنت عبد الله المتلقَّاةِ من غير طريقه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ولمَّا كانت رقيتها خاليةً من أيِّ محذورٍ شركيٍّ أذن لها النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في ممارستها، فقد روى الحاكم بالسند الصحيح: «أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ خَرَجَتْ بِهِ نَمْلَةٌ(١٤)، فَدُلَّ أَنَّ الشِّفَاءَ بِنْتَ عَبْدِ اللهِ تَرْقِي مِنَ النَّمْلَةِ، فَجَاءَهَا فَسَأَلَهَا أَنْ تَرْقِيَهُ، فَقَالَتْ: «وَاللهِ مَا رَقَيْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ»، فَذَهَبَ الأَنْصَارِيُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي قَالَتِ الشِّفَاءُ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشِّفَاءَ فَقَالَ: «اعْرِضِي عَلَيَّ»، فَأَعْرَضَتْهَا عَلَيْهِ فَقَالَ: «ارْقِيهِ وَعَلِّمِيهَا حَفْصَةَ كَمَا عَلَّمْتِيهَا الكِتَابَ»». وفي روايةٍ: «الكِتَابَةَ»(١٥).
هذا، وقد ورد أنَّ الرقية مشروعةٌ في كلِّ ما يؤذي أو يُسَبِّب شكوى، وليست محصورةً في العَين والحُمَة، على ما ذهب إليه بعضهم، وإنما معناه: لا رقيةَ أَوْلَى سعيًا لطلبِ الشفاء لها من العين والحُمَة، والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم رَقَى ورُقِيَ، فقد روى مسلمٌ عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اشْتَكَى مِنَّا إِنْسَانٌ مَسَحَهُ بِيَمِينِهِ ثُمَّ قَالَ: «أَذْهِبِ البَاسَ رَبَّ النَّاسِ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا»»(١٦).
ومن ذلك حديثُ عثمانَ بنِ أبي العاص الثقفيِّ رضي الله عنه: «أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ، وَقُلْ: بِاسْمِ اللهِ ثَلاَثًا، وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ»»(١٧).
ويمكن الاستئناس بما ورد من حديث عمرةَ بنتِ عبد الرحمن -مع ما فيه من انقطاعٍ- أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَهِيَ تَشْتَكِي وَيَهُودِيَّةٌ تَرْقِيهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «ارْقِيهَا بِكِتَابِ اللهِ»(١٨).
والحديثُ يفيد -من جهةٍ أخرى- عدمَ توقيفية الرقية؛ لأنَّ اليهود كانوا يرقون بالتوراة، وإن اختلف الناس في حكم استرقاء أهل الكتاب، إلاَّ أنَّ سبب الخلاف يرجع إلى ذات التوراة التي يُرقى بها: أهي المحرَّفة والمبدَّلة، أم يَحرصون على الرقية بها غيْرَ مبدَّلةٍ حفاظًا على فائدتها ؟
والثاني أَوْلَى عند قومٍ، لذلك أمر أبو بكرٍ رضي الله عنه أن تَرْقِيَها بما في التوراة، لأَمْنِ دخول التبديل والتحريف، إذ لا جدوى ولا فائدة فيها إذا غُيِّرتْ، وبهذا أخذ الشافعيُّ(١٩)، خلافًا لمذهب ابن مسعودٍ رضي الله عنه، فإنه يرى عدمَ جواز رقية أهل الكتاب، وكرهها مالكٌ -رحمه الله-، ويُحمل ما رآه ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه على أنَّ أهل الكتاب مشركون، فلا يَبْعُد أن تتضمَّن رقيتُهم شركًا، أمَّا كراهية مالكٍ فمحمولةٌ على أنَّ الرقية بالتوراة يُخشى أن تكون ممَّا بدَّلوه، والحاذقُ يأنف أن يبدِّل حرصًا على استمرار وصفِه بالحذق لترويج صناعته.
وإذا كانت رُقى أهل الجاهلية الوثنيِّين الخاليةُ من الشرك والمُجرَّبةُ المنفعةِ جائزةً؛ فمِن بابٍ أَوْلَى تجوز رُقى أهل الكتاب لحرصهم على التماس فائدتها باستبقائها غيْرَ محرَّفةٍ، علمًا بأنَّ مواضع التحريف محصورةٌ غالبًا في التثليث والصَّلْب والبشارة بالنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وما يَمَسُّ عقيدتَهم الباطلة.
كذا يتقرَّر الحكم في الأصل، ويبقى في الواقع يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال(٢٠).
ويؤكِّد ما أفاده الحديثُ السابق قصَّةُ ضِماد بن ثعلبة الأزديِّ رضي الله عنه(٢١) الذي كان يرقي من الريح(٢٢)، وردتْ قصَّتُه مع النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في «صحيح مسلم» من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما(٢٣)، وقد كان يمارسها في الجاهلية قبل دخوله في الإسلام. وفضلاً عمَّا تقدَّم فإنَّ ممَّا يدلُّ على عدم إرادة الحصر في حديث عمرانَ بنِ حصينٍ رضي الله عنه السابقِ حديثُ أبي سعيدٍ رضي الله عنه عند مسلمٍ: «أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا مُحَمَّدُ، اشْتَكَيْتَ ؟!» فَقَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: «بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ، اللهُ يَشْفِيكَ، بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ»»(٢٤).
ولا تخفى دلالةُ الحديث على عموم كلِّ شكوى، وهو من العموم الظاهر المنطوق، وما أفاده الحصرُ فمفهومٌ، و«المَنْطُوقُ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ»، وللحصر جوابٌ آخَرُ ذكره ابن حجرٍ -رحمه الله- بقوله: «إنَّ معنى الحصر فيه أنهما أصلُ كلِّ ما يَحتاج إلى الرقية، فيَلتحق بالعين جوازُ رقية مَن به خَبَلٌ أو مسٌّ ونحوُ ذلك؛ لاشتراكها في كونها تنشأ عن أحوالٍ شيطانيةٍ من إنسيٍّ أو جِنِّيٍّ، ويلتحق بالسُّمِّ كُلُّ ما عَرَضَ للبدن من قرحٍ ونحوه من الموادِّ السُّمِّيَّة»(٢٥).
وللحديث جوابٌ ثالثٌ يتمثَّل في أنَّ النفي محمولٌ في حديث عمرانَ بنِ حصينٍ رضي الله عنه على نفي الكمال والنفع، أي: «لا رقيةَ أَوْلَى وأنفعُ منها في العين والحُمَة»، كما قرَّره ابن القيِّم(٢٦).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.
الجزائر: ٠٥ جمادى الأولى ١٤١٨ﻫ
الموافق ﻟ: ٠٧ سبتمبر ١٩٩٧م
-----------------------------------------------------------------------------------------
(١) «الاعتصام» للشاطبي (١/ ٣٤٨).
(٢) متَّفقٌ عليه: أخرجه البخاري في «الطبِّ» باب الدواء بالعسل (٥٦٨٤)، ومسلم في «السلام» (٢٢١٧)، من حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه.
(٣) «زاد المعاد» لابن القيِّم (٣/ ٧٤).
(٤) «فتح الباري» لابن حجر (١٠/ ١٩٧).
(٥) «الحمة» بالتخفيف: السمُّ، وقد يُشدَّد، ويُطلق على إبرة العقرب للمجاورة. [«النهاية» لابن الأثير (١/ ٤٤٦)].
(٦) أخرجه مسلم في «السلام» (٢١٩٦)، من حديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه.
(٧) أخرجه البخاري في «الطب» باب من اكتوى أو كوى غيره، وفضل من لم يكتو (٥٧٠٥) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، ومسلم في «الإيمان» (٢٢٠) من حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه.
(٨) «مقدمة ابن خلدون» (٤٩٣).
(٩) أخرجه مسلم في «السلام» (٢١٩٩)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(١٠) أخرجه البخاري في «الطب» باب الرقى بفاتحة الكتاب (٥٧٣٦)، ومسلم في «السلام» (٢٢٠١)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأخرجه البخاري في «الطب» باب الشرط في الرقية بقطيع من الغنم (٥٧٣٧)، وابن حبان في «صحيحه» (٥١٤٦)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(١١) «نيل الأوطار» للشوكاني (٧/ ٤٠).
(١٢) أخرجه مسلم في «السلام» (٢٢٠٠) من حديث عوف بن مالكٍ الأشجعيِّ رضي الله عنه.
(١٣) «نيل الأوطار» للشوكاني (١٠/ ١٨٥).
(١٤) النملة: قروحٌ تخرج في الجنب، وقد تخرج في غير الجنب. [«النهاية» لابن الأثير (٥/ ١٢٠)، «جامع الأصول» لابن الأثير (٧/ ٥٥٦)].
(١٥) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (٦٨٨٨)، من حديث الشفاء بنت عبد الله رضي الله عنها. [انظر: «سلسلة الأحاديث الصحيحة» للألباني (١٧٨)]. ورواية: «الكتابة» أخرجها أحمد في «المسند» (٢٧٠٩٥)، وأبو داود في «الطبِّ» باب ما جاء في الرقى (٣٨٨٧)، من حديث الشفاء بنت عبد الله رضي الله عنها.
(١٦) أخرجه مسلم في «السلام» (٢١٩١)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(١٧) أخرجه مسلم في «السلام» (٢٢٠٢)، من حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنه.
(١٨) أخرجه مالك في «الموطَّأ» (٣/ ١٢١)، وابن أبي شيبة في «المصنَّف» (٥/ ٤٧)، من حديث عمرة بنت عبد الرحمن، وسكت عنه ابن حجر في «الفتح» (١٠/ ١٩٧)، وقال الألباني في «الصحيحة» (٦/ ٢/ ١١٦٧): «وهذا إسنادٌ رواته ثقاتٌ، لكنَّه منقطعٌ، فإنَّ عمرة هذه لم تُدرك أبا بكرٍ رضي الله عنه، فإنها وُلدت بعد وفاته بثلاث عشرة سنةً».
(١٩) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (١٠/ ١٩٧).
(٢٠) المصدر السابق (١٠/ ١٩٧).
(٢١) قال ابن عبد البرِّ في «الاستيعاب» (٢/ ٧٥١): «كان صديقًا للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في الجاهلية، وكان رجلاً يتطبَّب ويرقي ويطلب العلم، أسلم أوَّلَ الإسلام». [انظر ترجمته في: «أسد الغابة» لابن الأثير (٣/ ٤١)، «الإصابة» لابن حجر (٢/ ٢١٠)].
(٢٢) ريح: ويقال: أرواح، وهي كنايةٌ عن الجِنِّ، وسُمُّوا أرواحًا لكونهم لا يُرون، فهم بمنزلة الأرواح. [«النهاية» لابن الأثير (٢/ ٢٧٢)].
(٢٣) أخرجه مسلم في «الجمعة» (٨٦٨)، من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، وقصَّته: «أَنََّ ضِمادًا قدم مكَّةَ وكان من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الريح، فسمع سفهاءَ من أهل مكَّة يقولون: إنَّ محمَّدًا مجنونٌ، فقال: لو أنِّي رأيت هذا الرجل لعلَّ اللهَ يشفيه على يدي، قال: فلقيه، فقال: يا محمَّد إني أرقي من هذه الريح، وإنَّ الله يشفي على يدي من يشاء، فهل لك ؟ فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: إِنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ. قال: فقال: أَعِدْ عَلَيَّ كلماتِك هؤلاء، فأعادهنَّ عليه رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثلاثَ مرَّاتٍ، قال: فقال: لقد سمعتُ قولَ الكهنة، وقولَ السحرة، وقولَ الشعراء، فما سمعت مثلَ كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر، قال: فقال: هات يدك أبايعكَ على الإسلام، قال: فبايعه، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: وَعَلَى قَوْمِكَ ! قال: وعلى قومي. قال: فبعث رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم سريَّةً فمرُّوا بقومه، فقال صاحبُ السريَّة للجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئًا ؟ فقال رجلٌ من القوم: أصبت منهم مطهرةً، فقال: رُدُّوها فإنَّ هؤلاء قوم ضمادٍ».
(٢٤) أخرجه مسلم في «السلام» (٢١٨٦)، من حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه.
(٢٥) «فتح الباري» لابن حجر (١٠/ ١٩٦)، «نيل الأوطار» للشوكاني (١٠/ ١٨٦).
(٢٦) «الطبُّ النبوي» لابن القيِّم (١٧٤ - ١٧٥)، و«فتح الباري» لابن حجر (١٠/ ١٧٣ - ١٩٦).
http://ferkous.com/home/?q=fatwa-1144
الرُقْيَة الشّرعية من الكتاب والسُنَّة 2
الفتوى رقم: ١١٤٧
الصنف: فتاوى طبِّية
المفتي : أبو عبدالمعز محمّد علي فركوس وفّقه الله
في شروط مشروعية الرُّقْيَة
السؤال:
نرجو من شيخنا أبي عبد المعزِّ حفظه الله أن يبيِّنَ لنا بعض شروط الرقية الشرعية؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فمشروعية الرقية تستوجب تحقيقَ معاييرَ معلومةٍ تظهر في الوجوه الآتية:
-الوجه الأوَّل: تجريد الرقية من الشِرْكِيَات، ويدلُّ عليه عمومُ الآيات والأحاديث الناهية عن الشِرْك بمختلف مظاهره، فضلاً عن حديث عوفِ بن مالكٍ الأشجعيِّ رضي الله عنه قال: «كُنَّا نَرْقِي فِي الجَاهِلِيَّةِ فَقُلْنَا: «يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ ؟» فَقَالَ: «اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ، لاَ بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ»»(١).
والعلماء يتَّفقون على أنَّ الشِرْك لا يجوز التداوي به، وإن تنازعوا في جواز التداوي بالمحرَّمات كالخمر والميتة والخنزير؛ ذلك لأنَّ الشِّرك محرَّمٌ في كلِّ حالٍ، ولا يصحُّ القياس على التكلُّم به عند الإكراه كما في قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ﴾ [النحل: ١٠٦] لظهور الفرق بينهما، إذ المقيسُ عليه إنّما جاز للمكرَه المضطرِّ على القول مع اطمئنان قلبه بالإيمان، أي: أنَّ كلامه صدر منه وهو غيرُ راضٍ به، ولذلك عُفي عنه ولم يؤاخَذْ به في أحكام الدنيا والآخرة؛ لقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»(٢).
وليس في أمر العلاج بالرقية الشِّركية ضرورةُ إكراهٍ، وعلى فرض التّسليم فهو إكراهٌ على القول والفعل، أمَّا القول فلو لم يكن في قلبه زيغٌ لَمَا صار إليها؛ إذ إنَّ في الحقِّ ما يُغني عن الباطل، وأمَّا الفعل فمؤاخَذٌ به.
قال ابن القيِّم -رحمه الله-: «والفرق بين الأقوال والأفعال في الإكراه: أنَّ الأفعال إذا وقعتْ لم ترتفع مفسدتها، بل مفسدتُها معها، بخلاف الأقوال فإنّها يمكن إلغاؤها وجَعْلُها بمنزلة النائم والمجنون، فمفسدةُ الفعل الذي لا يُباح بالإكراه ثابتةٌ بخلاف مفسدة القول، فإنّها إنّما تثبت إذا كان قائلُه عالِمًا به مختارًا له»(٣).
ويقدح في القياس السابق -من جهةٍ أخرى- مقابلتُه للإجماع على عدم جواز التّداوي بالشِرْك كما تقدَّم، و«كُلُّ قِيَاسٍ فِي مُقَابَلَةِ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ فَاسِدُ الاعْتِبَارِ»، كما هو مقرَّرٌ في القواعد.
-الوجه الثاني: خلوُّ الممارِس للرقية -الراقي- من الصفات القادحة في الدِّين والعدالة، فلا يجوز طلبُ الرقية من ساحرٍ أو كاهنٍ أو عرَّافٍ أو منجِّمٍ أو رمَّالٍ أو نحوِهم ممَّن يدَّعون علْمَ شيءٍ من المغيَّبات؛ لِما في ذلك من المشابهة لحال الجاهلية، ولو قُدِّر أَنَّ عندهم رقيةً صحيحةً؛ إلاَّ أنه لا يُؤْمَن أن يخلطها بشيءٍ من السحر والكهانة والشعوذة، فيُمنع سدًّا للذريعة إلى المحرَّم، و«الأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى النَّظَرِ إِلَى المَآلِ»، ووسائل المحظور تفضي إليه.
وعملُ السحر حرامٌ، وهو من الكبائر بالإجماع(٤)، لقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوت ﴾ [البقرة: ١٠٢]، وقوله تعالى: ﴿وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ﴾ [طه: ٦٩].
فلو كانت في رقية الساحر منفعةٌ للناس لَما أمر الشارع بقتل الساحر ولَما عَدَّ السِّحرَ من الموبِقات في قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «اجْتَنِبُوا المُوبِقَاتِ: الشِّرْكُ بِاللهِ وَالسِّحْرُ..»(٥) الحديث.
ولَمَّا كان محرَّمًا لم يجعلِ اللهُ شفاءَ أمَّته فيما حرَّم عليها بقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «يَا عِبَادَ اللهِ، تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلاَّ وَضَعَ لَهُ شِفَاءً»(٦)، وقولِه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا وَلاَ تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ»(٧)، وفي حديثٍ: «إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِي حَرَامٍ»(٨).
ويدخل في النّهي عن إتيانه للرقية كُلٌّ من: الكُهَّان والعرَّافين، ففي الحديث: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ»(٩).
وقد أوضح ابنُ القيِّم -رحمه الله- أنَّ الكهنة رُسُلُ الشيطان حقيقةً، وأنَّ الناس قسمان: أتباع الكهنة، وأتباع رسل الله، فلا يجتمع في العبد أن يكون من هؤلاء وهؤلاء، بل يَبعُد عن الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بقدر قُربه من الكاهن، ويُكذِّب الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بقدر تصديقه للكاهن.
وَلَمَّا كان بين النوعين أعظمُ التضادِّ قال الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ»(١٠)(١١). ويُلحق بهم كلُّ مشاركٍ لهم في المعنى ممَّن أتاهم فصدَّقهم فيما يقولون.
فالحاصل:
أنَّ على الرّاقي أن يكون معروفًا بسلامة عقيدته، ولا تلازمه صفاتٌ قبيحةٌ شرعًا، وأن يكون ملتزمًا في الظاهر بالأمور الشرعية، وحتى تكون الرقية ناجعةً ينبغي أن يكون مستجمعًا لشرائط الدعاء، مع الحرص على الأكل الحلال، والحذر من المال الحرام أو المشتبه فيه؛ لأنَّ طِيبَ المطعم من أسباب قَبول الدعاء، وذكر النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ»(١٢)، ضِمْنَ توجُّهٍ قلبيٍّ قويٍّ إلى الله تعالى مليءٍ بالتقوى والتوكُّل والإخلاص.
وحقيقٌ بالتّنبيه: أنَّ الراقيَ إذا كان مشغولاً بعلاجه للعليل، ولا يُستغنى عن تعاوُنه في الحال، أو يَخاف زيادةَ المرض أو بُطأَهُ وتأخيرَه؛ فهو معدودٌ في حكم المريض الذي يشقُّ عليه حضورُ صلاة الجماعة، ففي الحديث أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال: «الجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِلاَّ أَرْبَعَةً: عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، أَوِ امْرَأَةٌ، أَوْ صَبِيٌّ، أَوْ مَرِيضٌ»(١٣).
-الوجه الثالث: وضوح الرقية في عباراتها ومعانيها، وفي هيئاتها، أي: أن تكون صافيةً من كلِّ العبارات المَنْهِيِّ عنها، فلا تُشرع الرقية بعباراتٍ غيرِ مفهومةٍ أو غير معقولة المعنى خشيةَ تلبُّسِها واختلاطها بكلام أهل الباطل، والوقوعِ في مظنَّةِ الشِّرك وشَرَكِه الشيطانية، فإنَّ مِثْلَ هذا يفتح البابَ واسعًا لتسويغِ أعمالِ أهل الباطل من السحرة والكهنة والعرَّافين وأشباههم.
وقد نقل ابنُ حجرٍ -رحمه الله- إجماعَ العلماء على جواز الرقى عند تحقُّق اجتماع ثلاثة شروطٍ:
أ- أن تكون بكلام الله أو بأسمائه وصفاته.
ب- أن تكون باللسان العربيِّ أو بما يُعرف معناه مِن غيره.
ﺟ- أن يعتقد أنَّ الرقية لا تؤثِّر بذاتها، بل بتقدير الله تعالى(١٤).
فمِن صفاء الرقية في عباراتها: أن تكون خاليةً من الكلام الشِّركيِّ والألفاظ القبيحة الجارحة التي يتعرَّض فيها لأعراض المسلمين بالقدح واللعن والسبِّ والشتم ونحوها، سواءٌ كان مقصودُه الطعنَ في الجِنِّيِّ المتلبِّس أو استعمالَها بغرض العلاج؛ لأنَّ مثل هذا يُعَدُّ من التداوي المنهيِّ عنه بقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» الحديث(١٥)، والتداوي بالمنهيِّ عنه غيرُ جائزٍ كما تقدَّم.
-وينبغي أن تكون هيئاتُها مباحةً، أي: لا يجوز أن يَرْقِيَ على وضعيةٍ منهيٍّ عنها يتقصَّدها، أو هيئةٍ مُحرَّمةٍ يأتي بها، فإنَّ ذلك يُمنع سدًّا لذريعة الشِّرْك وأعمال الدجَّالين والمشعوذين وإخوانهم، مثل مَن يخصِّص الرقيةَ عند مكانٍ يُنهى عن الصلاة فيه كالمقبرة والحمَّام، أو يترصَّد زمنًا معيَّنًا كبروز القمر والنجوم على حالةٍ ما ليَرْقِيَ فيها المريضَ، أو يلطِّخُ ذاتَه أو ذاتَ المسترقي بالنجاسات، أو يفرش أتربةَ أضرحةِ القبور قَصْدَ الرقية عليها.
قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما في أناسٍ يكتبون أَبَاجَادَ وينظرون في النجوم: «مَا أَدْرِي مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَهُ عِنْدَ اللهِ خَلاَقٌ!»(١٦).
أو على هيئةٍ تُكشَفُ فيها العوراتُ، أو يضع يدَه على الأجنبيات -ولو من وراء حائلٍ أو سِتارٍ- فيما لا تدعو الحاجة إليه في الأصل؛ ذلك لأنَّ الرقية بالمعوِّذات وغيرها من أسماء الله تعالى هي الطِّبُّ الروحانيُّ، فلا يُتطلَّب فيه لحصول الشفاء -بإذن الله- سوى صدقِ توجُّه المداوي، وقُوَّةِ قلبه بالتقوى والتوكُّلِ وسلامة القصد من العِلَلِ، على ما أفادتْه قصَّةُ المرأة السوداء رضي الله عنها التي كانت تُصرع وتتكشَّفُ، فسألت النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن يدعوَ لها، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الجَنَّةَ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَكِ»، فَقَالَتْ: «أَصْبِرُ»، فَقَالَتْ: «إِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللهَ لِي أَلاَّ أَتَكَشَّفَ»، فَدَعَا لَهَا(١٧).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.
الجزائر: ٠٥ جمادى الأولى ١٤١٨ﻫ
الموافق ﻟ: ٠٧ سبتمبر ١٩٩٧م
---------------------------------------------------------------------------------
(١) أخرجه مسلم في «السلام» (٢٢٠٠) من حديث عوف بن مالكٍ الأشجعي رضي الله عنه.
(٢) أخرجه ابن عديٍّ في «الكامل» (٢/ ٥٧٣) من حديث أبي بكرة بلفظ: «رَفَعَ اللهُ عَنْ هَذِهِ الأُمَّةِ ثَلاَثًا...». وأخرجه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٣/ ٩٥)، والحاكم في «المستدرك» (٢/ ١٩٨)، والبيهقي في «سننه الكبرى» (٧/ ٣٥٦) من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما بلفظ: «إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي…». وفي لفظ ابن ماجه (١/ ٦٥٩): «إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي…». وللحديث طرقٌ أخرى، منها حديث أبي ذر، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وابن عمر رضي الله عنهم.
قال السخاوي في «المقاصد الحسنة» (٣٧١): «ومجموع هذه الطرق يُظهر أنَّ للحديث أصلاً». وقد صحَّحه ابن حزمٍ في «الإحكام» (٥/ ١٤٩)، وقال النووي في «الأربعين»: حديثٌ حسنٌ.
انظر: «نصب الراية» للزيلعي (٢/ ٦٤)، و«الدراية» (١/ ١٧٥)، «التلخيص» (١/ ٢٨١) كلاهما لابن حجر، «كشف الخفاء» للعجلوني (١/ ٥٢٢)، «جامع العلوم والحكم» لابن رجب (٣٥٠)، «إرواء الغليل» للألباني (١/ ١٢٣).
(٣) «زاد المعاد» (٥/ ٢٠٥، ٢٠٦).
(٤) انظر نقل الإجماع في «الفتح» لابن حجر (١٠/ ٢٢٤).
(٥) متَّفقٌ عليه: أخرجه البخاري في «الطبِّ» باب: الشرك والسحر من الموبقات (٥٧٦٤)، ومسلم في «الإيمان» (٨٩)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٦) أخرجه أحمد في «مسنده» (١٨٤٥٦)، وأبو داود (٢/ ٣٩٦) والترمذي في «الطبِّ» باب ما جاء في الدواء والحثِّ عليه (٢٠٣٨)، من حديث أسامة بن شريكٍ رضي الله عنه، قال الترمذي: «هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ»، وصحَّحه الألباني في «صحيح الجامع» (٢٩٣٠)، وروى البخاري طرفًا منه في «الطبِّ» باب ما أنزل الله داءً إلاَّ أنزل له شفاءً (٥٦٧٨) بلفظ: «مَا أَنْزَلَ اللهُ دَاءً إِلاَّ أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٧) أخرجه أبو داود في «الطبِّ» بابٌ في الأدوية المكروهة (٣٨٧٤)، والبيهقي (١٩٦٨١)، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وانظر «السلسلة الصحيحة» للألباني (٤/ ١٧٤).
(٨) أخرجه ابن حبَّان في «صحيحه» (١٣٩١) من حديث أمِّ سلمة رضي الله عنها، وبمعناه عند البخاري في «الأشربة» باب شراب الحلواء والعسل موقوفًا على ابن مسعودٍ رضي الله عنه، وحسَّنه الألباني لغيره في «التعليقات الحسان» (١٣٨٨).
(٩) رواه البزَّار في «مسنده» (٣٥٧٨)، وذكره الهيثمي في «المجمع» (٥/ ١١٧) وقال: «رواه البزَّار، ورجاله رجال الصحيح، خلا إسحاق بن ربيعٍ، وهو ثقةٌ»، وذكره المنذري من حديث عمران بن حصينٍ رضي الله عنه (٤/ ٥٢)، وله شاهدٌ من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما يرتقي به إلى درجة الحسن. انظر: «السلسلة الصحيحة» للألباني (٥/ ٢٢٨).
(١٠) ذكره الهيثمي في «المجمع» (٥/ ١١٨)، وقال: «رواه البزَّار، ورجاله رجال الصحيح، خلا هبيرة بن مريم، وهو ثقةٌ»، والحديث صحَّحه الألباني في «صحيح الجامع الصغير» (٥/ ٢٢٣).
(١١) «إغاثة اللهفان» لابن القيِّم (١/ ١٩٧).
(١٢) أخرجه مسلم في «الزكاة» (١٠١٥) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(١٣) أخرجه أبو داود في «الصلاة» باب الجمعة للمملوك والمرأة (١٠٦٧) من حديث طارق بن شهابٍ رضي الله عنه، والحاكم في «مستدركه» (١٠٦٢) من حديث طارق بن شهابٍ عن أبي موسى رضي الله عنهما، وصحَّح إسنادَه النووي، وقال الحافظ في «التلخيص» (٢/ ٦٣): «وصحَّحه غير واحدٍ»، وصحَّحه الألباني -أيضًا- في «الإرواء» (٣/ ٥٤).
(١٤) «فتح الباري» لابن حجر (١٠/ ١٩٥).
(١٥) أخرجه البخاري في «الحجِّ» باب الخطبة أيَّامَ منى (١٧٣٩) من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، ومسلم في «القسامة والمحاربين والقصاص والديات» (١٦٧٩) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
(١٦) أخرجه عبد الرزَّاق في «المصنَّف» (١١/ ٢٦)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٨/ ١٣٩).
(١٧) أخرجه البخاري في «المرضى» باب فضل من يُصرع من الريح (٥٦٥٢)، ومسلم في «البرِّ والصلة والآداب» (٢٥٧٦)، من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما.
http://ferkous.com/home/?q=fatwa-1147
الفتوى رقم: ١١٤٤
في حكم الرقية بغير المأثور
السؤال:
هل الرقية توقيفيةٌ أم لا ؟ وهل يجوز الرقية بغير المأثور ؟
فإذا كانت توقيفيةً فهل الزيادة عليها تُعَدُّ شركًا وشعوذةً كما يعتقد بعضُ الناس، مع إيراد الأدلَّة على ذلك ؟
وإذا لم تكن توقيفيةً فما دليل الشرع على ذلك ؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالرقيةُ المأثورة من حيث ذاتُها توقيفيةٌ في هيئاتها وصفاتها، وأوقاتِها وزمانها وعددها، فلا تجوز الزيادةُ عليها ولا النقص منها؛ لِمَا في ذلك من الاستدراك على النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم والتهمة له، فالراقي المباشرُ لها لا خِيَرَة له فيها؛ لِمَا اقترن بها من شائبة التعبُّد الذي لا عَقْلَ لمعناه في العدد ومُجملِ صفاته، سواءٌ كان اقتضاءً أو تخييرًا؛ لأنَّ «التَّخْيِيرَ فِي التَّعَبُّدَاتِ إِلْزَامٌ» كما أنَّ «الاقْتِضَاءَ إِلْزَامٌ» على ما قرَّره الشاطبيُّ رحمه الله(١).
وعليه، فالجديرُ بالراقي التقيُّدُ بالثابت من الرقية الشّرعية في جميع صفاتها، فما نصَّ عليه النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من الأدوية والرُّقى ينبغي تقديمه على التجربة، كما في حديث العسل: «صَدَقَ اللهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ»(٢)؛ ذلك لأنَّ علم أهل الطِّب والصناعة مَدَارُه غالبًا على التجربة المبنيَّة على ظنٍّ غالبٍ، فتصديقُ مَن لا ينطق عن الهوى أَوْلَى بالتقديم من كلامهم.
وقد أفاد ابن القيِّم -رحمه الله- أنَّ الطِبَّ النبويَّ ليس كطبِّ الأطبَّاء، فإنَّ طبَّ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم متيقَّنٌ قطعيٌّ إلهيٌّ صادرٌ عن الوحي ومشكاة النبوَّة وكمال العقل، وطبُّ غيره أكثرُه حدْسٌ وظنونٌ وتجارب(٣).
قال القرطبيُّ -رحمه الله-: «فإنْ كان مأثورًا فيُستحبُّ»(٤).
هذا، وإذا كانت الرقية المأثورة لها حكمُ الأولوية في التقديم، إلاَّ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم رخَّص في رقية بعض الأمراض والأعراض من غير تقييدٍ بالمأثور، على نحو ما ثبت من حديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: «رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرُّقْيَةِ مِنَ العَيْنِ وَالحُمَةِ(٥) وَالنَّمْلَةِ»(٦)، وحديثِ عمرانَ بنِ حصينٍ رضي الله عنه مرفوعًا: «لاَ رُقْيَةَ إِلاَّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ»(٧).
أمَّا الرقية غير المأثورةِ ولا الواردةِ كيفيَّتُها شرعًا والخاليةُ من المحاذير الشرعية؛ فحكمُ ممارستها مختلَفٌ فيه، ويرجع سبب الخلاف إلى أنَّ ممارسة الرقية: هل هي من جنس التداوي بالأدوية والأعشاب الطبِّيَّة أم تتوقَّف معرفتها على الشرع ؟
والأشبه في الرقية غير المنصوص عليها -وإن كانت من الطِّبِّ الروحانيِّ- أنها لصيقةٌ بالطبِّ الجسمانيِّ من جهة اعتمادها على الاجتهاد والتجربة العملية، والإستعانةِ بالله في تحقيق نفعها. والأخذُ بالتجربة البشرية يجوز إذا أظهرت نجوعًا وفائدةً وخَلَتْ من أيِّ محذورٍ شرعيٍّ؛ لأنَّ ثمرتها حفظُ الصحَّة للأصحَّاء، ودفعُ المرض عن المرضى بالمداواة حتى يحصل لهم البُرْءُ من أمراضهم.
قال ابن خلدون -رحمه الله-: «كان عند العرب من هذا الطبِّ كثيرٌ، وكان فيهم أطبَّاءُ معروفون كالحارث بنِ كَلَدَةَ وغيره، والطبُّ المنقول في الشّرعيات من هذا القبيل، وليس من الوحي في شيءٍ، وإنّما هو أمرٌ كان عاديًّا للعرب»(٨).
ويدلُّ عليه ما رواه مسلمٌ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرُّقَى، فَجَاءَ آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنَ العَقْرَبِ، وَإِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ الرُّقَى»، قَالَ: فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ فَقَالَ: «مَا أَرَى بَأْسًا، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ»»(٩).
والحديث يدلُّ على أنَّ الطبَّ أو الرقية لا تتوقَّف معرفتُها على التَّلَقِّي من النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، أي: أنَّ طريقها ليس الوحيَ باللّزوم، وأنَّ أيَّ اجتهادٍ في دفعِ الضرر ورفعِ البلاء مُعرًّى من أيِّ محذورٍ شرعيٍّ مقبولٌ نفعُه، وجملةُ: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ» -وإن وقعت على سببٍ خاصٍّ وهو الرقية من العقرب- فإنَّ «العِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لاَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ»، على ما هو مقرَّرٌ أصوليًّا.
وفي مَعْرِض شرح حديث ابن عبَّاسٍ وأبي سعيدٍ رضي الله عنهم في قصَّة اللّديغ(١٠) قال الشوكانيُّ -رحمه الله-:
«وفي الحديث دليلٌ على جواز الرقية بكتاب الله تعالى، ويلتحق به ما كان بالذِّكر والدعاء المأثور، وكذا غير المأثور ممَّا لا يُخالف ما في المأثور»(١١).
ويصحِّح هذا القولَ حديثُ عوف بن مالكٍ الأشجعيِّ رضي الله عنه قال: «كُنَّا نَرْقِي فِي الجَاهِلِيَّةِ فَقُلْنَا: «يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ ؟» فَقَالَ: «اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ، لاَ بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ»»(١٢).
«وفيه دليلٌ على جواز الرُّقى والتطبُّب بما لا ضررَ فيه ولا مَنْعَ من جهة الشرع»(١٣). وعبارةُ الحديث: «لاَ بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ تَكُنْ شِرْكًا» تضمَّنت توجيهًا عامًّا غيْرَ قاصرٍ على الرقية المعروضة عليه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وإنّما جاء إرشاده مُطلقًا من غير تحديدٍ للسّور القرآنية، ولا تَعْدادٍ للآيات المقروءة، ولا تعيينٍ للأدعية الواردة والأذكار المأثورة، فمتى كانت الرقية سالمةً من شركٍ أو توسُّلٍ بغير الله أو دعاءِ الجنِّ والشياطين أو الذبح لغير الله، أو ألفاظٍ مجهولةٍ أو عملٍ مخالفٍ للشريعة كترك الصلوات وأكلِ النجاسات؛ جازت بلا كراهةٍ.
وهذه الرُقَى المعروضة التي كانت تُستعمَل في الجاهلية ليست توقيفيةً كما يظهر، فلو كان الجوازُ محصورًا في الثابت بالوحي؛ لَلَزِمَ منه إنكارُ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لها لكونها في مَعْرِض البيان، و«تَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِ الحَاجَةِ لاَ يَجُوزُ».
ويؤكِّد هذا المعنى -بلا ريبٍ- إقرارُه صلَّى الله عليه وسلَّم لرقية الشفاء بنت عبد الله المتلقَّاةِ من غير طريقه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، ولمَّا كانت رقيتها خاليةً من أيِّ محذورٍ شركيٍّ أذن لها النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في ممارستها، فقد روى الحاكم بالسند الصحيح: «أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ خَرَجَتْ بِهِ نَمْلَةٌ(١٤)، فَدُلَّ أَنَّ الشِّفَاءَ بِنْتَ عَبْدِ اللهِ تَرْقِي مِنَ النَّمْلَةِ، فَجَاءَهَا فَسَأَلَهَا أَنْ تَرْقِيَهُ، فَقَالَتْ: «وَاللهِ مَا رَقَيْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ»، فَذَهَبَ الأَنْصَارِيُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي قَالَتِ الشِّفَاءُ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشِّفَاءَ فَقَالَ: «اعْرِضِي عَلَيَّ»، فَأَعْرَضَتْهَا عَلَيْهِ فَقَالَ: «ارْقِيهِ وَعَلِّمِيهَا حَفْصَةَ كَمَا عَلَّمْتِيهَا الكِتَابَ»». وفي روايةٍ: «الكِتَابَةَ»(١٥).
هذا، وقد ورد أنَّ الرقية مشروعةٌ في كلِّ ما يؤذي أو يُسَبِّب شكوى، وليست محصورةً في العَين والحُمَة، على ما ذهب إليه بعضهم، وإنما معناه: لا رقيةَ أَوْلَى سعيًا لطلبِ الشفاء لها من العين والحُمَة، والنبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم رَقَى ورُقِيَ، فقد روى مسلمٌ عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اشْتَكَى مِنَّا إِنْسَانٌ مَسَحَهُ بِيَمِينِهِ ثُمَّ قَالَ: «أَذْهِبِ البَاسَ رَبَّ النَّاسِ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا»»(١٦).
ومن ذلك حديثُ عثمانَ بنِ أبي العاص الثقفيِّ رضي الله عنه: «أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ، وَقُلْ: بِاسْمِ اللهِ ثَلاَثًا، وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ»»(١٧).
ويمكن الاستئناس بما ورد من حديث عمرةَ بنتِ عبد الرحمن -مع ما فيه من انقطاعٍ- أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَهِيَ تَشْتَكِي وَيَهُودِيَّةٌ تَرْقِيهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «ارْقِيهَا بِكِتَابِ اللهِ»(١٨).
والحديثُ يفيد -من جهةٍ أخرى- عدمَ توقيفية الرقية؛ لأنَّ اليهود كانوا يرقون بالتوراة، وإن اختلف الناس في حكم استرقاء أهل الكتاب، إلاَّ أنَّ سبب الخلاف يرجع إلى ذات التوراة التي يُرقى بها: أهي المحرَّفة والمبدَّلة، أم يَحرصون على الرقية بها غيْرَ مبدَّلةٍ حفاظًا على فائدتها ؟
والثاني أَوْلَى عند قومٍ، لذلك أمر أبو بكرٍ رضي الله عنه أن تَرْقِيَها بما في التوراة، لأَمْنِ دخول التبديل والتحريف، إذ لا جدوى ولا فائدة فيها إذا غُيِّرتْ، وبهذا أخذ الشافعيُّ(١٩)، خلافًا لمذهب ابن مسعودٍ رضي الله عنه، فإنه يرى عدمَ جواز رقية أهل الكتاب، وكرهها مالكٌ -رحمه الله-، ويُحمل ما رآه ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه على أنَّ أهل الكتاب مشركون، فلا يَبْعُد أن تتضمَّن رقيتُهم شركًا، أمَّا كراهية مالكٍ فمحمولةٌ على أنَّ الرقية بالتوراة يُخشى أن تكون ممَّا بدَّلوه، والحاذقُ يأنف أن يبدِّل حرصًا على استمرار وصفِه بالحذق لترويج صناعته.
وإذا كانت رُقى أهل الجاهلية الوثنيِّين الخاليةُ من الشرك والمُجرَّبةُ المنفعةِ جائزةً؛ فمِن بابٍ أَوْلَى تجوز رُقى أهل الكتاب لحرصهم على التماس فائدتها باستبقائها غيْرَ محرَّفةٍ، علمًا بأنَّ مواضع التحريف محصورةٌ غالبًا في التثليث والصَّلْب والبشارة بالنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وما يَمَسُّ عقيدتَهم الباطلة.
كذا يتقرَّر الحكم في الأصل، ويبقى في الواقع يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال(٢٠).
ويؤكِّد ما أفاده الحديثُ السابق قصَّةُ ضِماد بن ثعلبة الأزديِّ رضي الله عنه(٢١) الذي كان يرقي من الريح(٢٢)، وردتْ قصَّتُه مع النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في «صحيح مسلم» من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما(٢٣)، وقد كان يمارسها في الجاهلية قبل دخوله في الإسلام. وفضلاً عمَّا تقدَّم فإنَّ ممَّا يدلُّ على عدم إرادة الحصر في حديث عمرانَ بنِ حصينٍ رضي الله عنه السابقِ حديثُ أبي سعيدٍ رضي الله عنه عند مسلمٍ: «أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا مُحَمَّدُ، اشْتَكَيْتَ ؟!» فَقَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: «بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ، اللهُ يَشْفِيكَ، بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ»»(٢٤).
ولا تخفى دلالةُ الحديث على عموم كلِّ شكوى، وهو من العموم الظاهر المنطوق، وما أفاده الحصرُ فمفهومٌ، و«المَنْطُوقُ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ»، وللحصر جوابٌ آخَرُ ذكره ابن حجرٍ -رحمه الله- بقوله: «إنَّ معنى الحصر فيه أنهما أصلُ كلِّ ما يَحتاج إلى الرقية، فيَلتحق بالعين جوازُ رقية مَن به خَبَلٌ أو مسٌّ ونحوُ ذلك؛ لاشتراكها في كونها تنشأ عن أحوالٍ شيطانيةٍ من إنسيٍّ أو جِنِّيٍّ، ويلتحق بالسُّمِّ كُلُّ ما عَرَضَ للبدن من قرحٍ ونحوه من الموادِّ السُّمِّيَّة»(٢٥).
وللحديث جوابٌ ثالثٌ يتمثَّل في أنَّ النفي محمولٌ في حديث عمرانَ بنِ حصينٍ رضي الله عنه على نفي الكمال والنفع، أي: «لا رقيةَ أَوْلَى وأنفعُ منها في العين والحُمَة»، كما قرَّره ابن القيِّم(٢٦).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.
الجزائر: ٠٥ جمادى الأولى ١٤١٨ﻫ
الموافق ﻟ: ٠٧ سبتمبر ١٩٩٧م
-----------------------------------------------------------------------------------------
(١) «الاعتصام» للشاطبي (١/ ٣٤٨).
(٢) متَّفقٌ عليه: أخرجه البخاري في «الطبِّ» باب الدواء بالعسل (٥٦٨٤)، ومسلم في «السلام» (٢٢١٧)، من حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه.
(٣) «زاد المعاد» لابن القيِّم (٣/ ٧٤).
(٤) «فتح الباري» لابن حجر (١٠/ ١٩٧).
(٥) «الحمة» بالتخفيف: السمُّ، وقد يُشدَّد، ويُطلق على إبرة العقرب للمجاورة. [«النهاية» لابن الأثير (١/ ٤٤٦)].
(٦) أخرجه مسلم في «السلام» (٢١٩٦)، من حديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه.
(٧) أخرجه البخاري في «الطب» باب من اكتوى أو كوى غيره، وفضل من لم يكتو (٥٧٠٥) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، ومسلم في «الإيمان» (٢٢٠) من حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه.
(٨) «مقدمة ابن خلدون» (٤٩٣).
(٩) أخرجه مسلم في «السلام» (٢١٩٩)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(١٠) أخرجه البخاري في «الطب» باب الرقى بفاتحة الكتاب (٥٧٣٦)، ومسلم في «السلام» (٢٢٠١)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأخرجه البخاري في «الطب» باب الشرط في الرقية بقطيع من الغنم (٥٧٣٧)، وابن حبان في «صحيحه» (٥١٤٦)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(١١) «نيل الأوطار» للشوكاني (٧/ ٤٠).
(١٢) أخرجه مسلم في «السلام» (٢٢٠٠) من حديث عوف بن مالكٍ الأشجعيِّ رضي الله عنه.
(١٣) «نيل الأوطار» للشوكاني (١٠/ ١٨٥).
(١٤) النملة: قروحٌ تخرج في الجنب، وقد تخرج في غير الجنب. [«النهاية» لابن الأثير (٥/ ١٢٠)، «جامع الأصول» لابن الأثير (٧/ ٥٥٦)].
(١٥) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (٦٨٨٨)، من حديث الشفاء بنت عبد الله رضي الله عنها. [انظر: «سلسلة الأحاديث الصحيحة» للألباني (١٧٨)]. ورواية: «الكتابة» أخرجها أحمد في «المسند» (٢٧٠٩٥)، وأبو داود في «الطبِّ» باب ما جاء في الرقى (٣٨٨٧)، من حديث الشفاء بنت عبد الله رضي الله عنها.
(١٦) أخرجه مسلم في «السلام» (٢١٩١)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(١٧) أخرجه مسلم في «السلام» (٢٢٠٢)، من حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنه.
(١٨) أخرجه مالك في «الموطَّأ» (٣/ ١٢١)، وابن أبي شيبة في «المصنَّف» (٥/ ٤٧)، من حديث عمرة بنت عبد الرحمن، وسكت عنه ابن حجر في «الفتح» (١٠/ ١٩٧)، وقال الألباني في «الصحيحة» (٦/ ٢/ ١١٦٧): «وهذا إسنادٌ رواته ثقاتٌ، لكنَّه منقطعٌ، فإنَّ عمرة هذه لم تُدرك أبا بكرٍ رضي الله عنه، فإنها وُلدت بعد وفاته بثلاث عشرة سنةً».
(١٩) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (١٠/ ١٩٧).
(٢٠) المصدر السابق (١٠/ ١٩٧).
(٢١) قال ابن عبد البرِّ في «الاستيعاب» (٢/ ٧٥١): «كان صديقًا للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في الجاهلية، وكان رجلاً يتطبَّب ويرقي ويطلب العلم، أسلم أوَّلَ الإسلام». [انظر ترجمته في: «أسد الغابة» لابن الأثير (٣/ ٤١)، «الإصابة» لابن حجر (٢/ ٢١٠)].
(٢٢) ريح: ويقال: أرواح، وهي كنايةٌ عن الجِنِّ، وسُمُّوا أرواحًا لكونهم لا يُرون، فهم بمنزلة الأرواح. [«النهاية» لابن الأثير (٢/ ٢٧٢)].
(٢٣) أخرجه مسلم في «الجمعة» (٨٦٨)، من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، وقصَّته: «أَنََّ ضِمادًا قدم مكَّةَ وكان من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الريح، فسمع سفهاءَ من أهل مكَّة يقولون: إنَّ محمَّدًا مجنونٌ، فقال: لو أنِّي رأيت هذا الرجل لعلَّ اللهَ يشفيه على يدي، قال: فلقيه، فقال: يا محمَّد إني أرقي من هذه الريح، وإنَّ الله يشفي على يدي من يشاء، فهل لك ؟ فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: إِنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ. قال: فقال: أَعِدْ عَلَيَّ كلماتِك هؤلاء، فأعادهنَّ عليه رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ثلاثَ مرَّاتٍ، قال: فقال: لقد سمعتُ قولَ الكهنة، وقولَ السحرة، وقولَ الشعراء، فما سمعت مثلَ كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر، قال: فقال: هات يدك أبايعكَ على الإسلام، قال: فبايعه، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: وَعَلَى قَوْمِكَ ! قال: وعلى قومي. قال: فبعث رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم سريَّةً فمرُّوا بقومه، فقال صاحبُ السريَّة للجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئًا ؟ فقال رجلٌ من القوم: أصبت منهم مطهرةً، فقال: رُدُّوها فإنَّ هؤلاء قوم ضمادٍ».
(٢٤) أخرجه مسلم في «السلام» (٢١٨٦)، من حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه.
(٢٥) «فتح الباري» لابن حجر (١٠/ ١٩٦)، «نيل الأوطار» للشوكاني (١٠/ ١٨٦).
(٢٦) «الطبُّ النبوي» لابن القيِّم (١٧٤ - ١٧٥)، و«فتح الباري» لابن حجر (١٠/ ١٧٣ - ١٩٦).
http://ferkous.com/home/?q=fatwa-1144