تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : مصدر تلقِّي العقيدة الإسلاميَّة .


عَبِيرُ الإسلام
2015-03-18, 21:59
بسم الله الرّحمن الرّحيم



مصدر تلقِّي العقيدة الإسلاميَّة




حسن آيت علجت




إنَّ من أهمِّ ما ينبغي أن يعتني به المسلم ـ عمومًا ـ، وطالب العلم ـ خصوصًا ـ في أمور الإيمان والإعتقاد: تصحيح المصدر الَّذي يقيم عليه دينه واعتقاده، ذلك بأنَّه إذا سلم للإنسان مصدرُه؛ سلم له ـ تبعًا لذلك ـ إيمانُه ومعتقدُه(1).

والعقيدة الإسلاميَّة لها مصدران أساسيَّان هما:

-أوَّلاً:كتاب الله تعالى «القرآن الكريم».

-ثانيًا: ما صحَّ من سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الَّذي وصفه ربُّه سبحانه بقوله: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾[النجم:3-4].

-وإجماع السَّلف الصَّالح مصدرٌ أيضًا؛ إذ جاء ذكر الإجماع في بعض مسائل الإعتقاد كما ثبت عن الإمام الأوزاعي رحمه الله أنَّه قال:
«كنَّا ـ والتَّابعون متوافرون ـ نقول: إنَّ الله تعالى فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السُّنَّة من صفاته »(2).

ولكنَّ مرجع هذا الإجماع ومبناه على الكتاب والسُنَّة، أي أنَّه يستند في أبواب الإعتقاد إلى دليلٍ سمعيٍّ من كتابٍ أو سُنَّةٍ، لا على قياسٍ ولا أمارةٍ ولا غير ذلك(3).

وفي هذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «العقيدة الواسطيَّة» وهو في «مجموع فتاواه» (3/157): «والإجماع هو الأصل الثَّالث الَّذي يعتمد عليه في العلم والدِّين، وهم يَزِنُون بهذه الأصول الثَّلاثة جميع ما عليه النَّاس من أقوالٍ وأعمالٍ باطنةٍ أو ظاهرةٍ ممَّا له تعلُّقٌ بالدِّين.
والإجماع الَّذي ينضبط، هو ما كان عليه السَّلف الصَّالح؛ إذ بعدهم كثر الاختلاف، وانتشرت الأمَّة» اهـ.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح خطبه بقوله:

«أمَّا بعد؛ فإنَّ خيرَ الحديث كتاب اللّه، وخير الهدى هدى محمَّدٍ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ»(4).

وفي هذا تأكيدٌ على أهمِّيَّة العناية بهذا المصدر ـ وهو الكتاب والسُنَّة ـ، وضرورة الإلتزام به، وتحذيرٌ من اتِّخاذ مصدرٍ سواه، وأنَّه ينجم عن تنكُّب الكتاب والسُنَّة الضَّلال والإنحراف.

ولهذا كان ابن تيميَّة يقول:

«مَن فارق الدَّليل ضلَّ السَّبيل، ولا دليل إلاَّ بما جاء به الرَّسول»(5).

فالأمر كما قال الشَّيخ عبد المحسن العبَّاد:

«عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة نزلت من السَّماء، ولم تخرج من الأرض»(6).

ومعنى ذلك أنَّها وحيٌ من الله سبحانه؛ خلافًا لغيرها من العقائد المنحرفة الَّتي هي زبالة أذهان البشر ونخالة أفكارهم وعصارة آرائهم ووساوس صدورهم.

من أجل ذلك دأب أئمَّة السُنَّة على الإرشاد إلى مصدر التَّلقِّي ـ وهو الكتاب والسُنَّة ـ.

ومن أظهر الأمثلة على ذلك: ابتداء الإمام البخاري رحمه الله كتابه «الجامع الصَّحيح» بكتاب «بدء الوحي»؛ إشارةً منه إلى أنَّ الدِّين يؤخذ عقيدةً وعبادةً عن طريق الوحي، ثمَّ ثنَّاه بكتاب «الإيمان»؛ إشارةً إلى وجوب الإيمان بما جاء به الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، ثمَّ ذكر الوسيلة إلى معرفة ذلك وهو العلم، فجعله عنوان الكتاب الَّذي بعدهما.

وكذلك الإمام أبو جعفر الطَّحاوي أشار إلى هذا في عقيدته المشهورة، حيث قال: «لا ندخل في ذلك متأوِّلين بآرائنا، ولا متوهِّمين بأهوائنا، فإنَّه ما سلم في دينه؛ إلاَّ مَن سلّم لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وردّ علم ما اشتبه عليه إلى عالمه، ولا تثبت قدم الإسلام؛ إلاَّ على ظهر التَّسليم والإستسلام».

بل إنَّ أئمَّة السُنَّة يذكرون هذا الأصل ـ وهو مصدر التَّلقِّي ـ حتَّى في منظوماتهم في العقيدة، كما فعل الإمام أبو بكرٍ ابن الإمام أبي داود السِّجستاني ـ رحمهما الله ـ، حيث بدأ قصيدته «الحائيَّة» بقوله:



تمسَّك بحبل الله واتَّبع الهدى** ولا تـك بـدعــيًّا لــعــلَّـك تـفـلـح


وَدِنْ بكتاب الله والسُّنن الَّتي** أتت عن رسول الله تنجو وتربح






- إذا تقرَّر هذا؛ فإنَّ هذا الأمر مؤسَّسٌ على قاعدتين هامَّتين ينبغي أن تكونَا من كلِّ طالب علمٍ على بالٍ(7):


القاعدة الأولى:


اشتمال الكتاب والسُّنَّة على أمور العقيدة: أصولها وفروعها، دلائلها ومسائلها.

وبيان هذه القاعدة يكون من وجهين: إجماليٍّ، وتفصيليٍّ:


- أمَّا الإجمالي: فإنَّ كلَّ ما يجب على المسلم اعتقاده قد جاء بيانه في كتاب الله سبحانه، وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم بيانًا شافيًا، قاطعًا للعذر، مع بيان أدلَّته، وسبل الاهتداء إلى معرفته.


وفي هذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

«وذلك أنَّ أصول الدِّين: إمَّا أن تكون مسائل يجب اعتقادها، ويجب أن تذكر قولاً، أو تعمل عملاً: كمسائل التَّوحيد والصِّفات والقدر والنُّبوَّة والمعاد، أو دلائل هذه المسائل.


أمَّا القسم الأوَّل: فكلُّ ما يحتاج النَّاس إلى معرفته، واعتقاده، والتَّصديق به من هذه المسائل، فقد بيَّنه الله ورسوله بيانًا شافيًا قاطعًا للعذر؛ إذ هذا من أعظم ما بلَّغه الرَّسول البلاغ المبين، وبيَّنه للنَّاس، وهو من أعظم ما أقام الله الحجَّة على عباده فيه بالرُّسل الَّذين بيَّنوه، وبلَّغوه.


وكتاب الله الَّذي نقل الصَّحابة ثمَّ التَّابعون عن الرَّسول لفظه ومعانيه، والحكمة الَّتي هي سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم والَّتي نقلوها ـ أيضًا ـ عن الرَّسول؛ مشتملةٌ من ذلك على غاية المراد، وتمام الواجب والمستحبِّ.


وأمَّا القسم الثَّاني: وهو دلائل هذه المسائل الأصوليَّة؛ فالأمر ما عليه سلف الأمَّة أهل العلم والإيمان من أنَّ الله سبحانه وتعالى بيَّن من الأدلَّة العقليَّة الَّتي يحتاج إليها في العلم بذلك، ما لا يقدر أحدٌ من هؤلاء [المتكلِّمين] قدره، ونهاية ما يذكرونه؛ جاء القرآن بخلاصته على أحسن وجهٍ، وذلك كالأمثال المضروبة الَّتي يذكرها الله في كتابه، الَّتي قال فيها: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون﴾[الزُّمَر:27]؛ فإنَّ الأمثال المضروبة هي الأقيسة العقليَّة»(8).


- أمَّا الوجه التَّفصيلي لهذه القاعدة، فهو متعلِّقٌ بأصلين:


الأوَّل ـ القرآن العظيم: الَّذي هو كلام الله سبحانه المنزَّل على قلب نبيِّنا محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وقد قال الله تعالى فيه: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين﴾[النحل:89]، وقال: ﴿مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون﴾[يوسف:111]، وقال: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾[الأنعام:38]


قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية الأخيرة:


«أي: ما تركنا شيئًا من أمر الدِّين إلاَّ وقد دلَّلنا عليه في القرآن: إمَّا دلالةً مبيَّنةً مشروحةً، وإمَّا مجملةً يتلقَّى بيانها من الرَّسول صلى الله عليه وسلم أو من الإجماع أو من القياس الَّذي ثبت بنصِّ الكتاب، قال الله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين﴾[النحل:89]، وقال: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون﴾[النحل:44]، وقال: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾[الحشر:7]، فأجمل في هذه الآية، وآية «النَّحل»، ما لم ينصَّ عليه ممَّا لم يذكره.

فصدق خبر الله بأنَّه ما فرَّط في الكتاب من شيءٍ إلاَّ ذكره: إمَّا تفصيلاً، وإمَّا تأصيلاً»(9)اهـ.




الثَّاني ـ السُّنَّة النَّبويَّة: فمن المعلوم أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أعلم النَّاس بالله سبحانه ودينه، وأنصحهم للأمَّة، وأفصحهم عبارةً وبيانًا من غيره، فاجتمع في حقِّه: كمال العلم، والقدرة، والإرادة؛ فاستلزم هذا وجود البيان التَّامِّ منه لمسائل الدِّين كلِّها؛ سواءً ما كان منها متعلِّقًا بالعقائد أو الأعمال أو السُّلوك؛ لأنَّ وجود الملزوم يقتضي وجود لازمه.


ومصداق هذا ما رواه العرباض ابن سارية رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:

«قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى البَيْضَاءِ لَيْلها كَنَهَارِهَا، لاَ يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلاَّ هَالِكٌ»(10).


وفي هذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «درء تعارض العقل والنَّقل» (1/23 ـ 24): « ومحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالحقّ، وهو أفصح الخلق لسانًا، وأصحُّهم بيانًا، وهو أحرص الخلق على هدي العباد وكما قال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم﴾[التوبة:128]، وقال: ﴿إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِين﴾[النحل:37] .
وقد أوجب الله عليه البلاغ المبين، وأنزل عليه الكتاب ليبيِّن للنَّاس ما نُزِّل إليهم، فلا بدَّ أن يكون بيانه وخطابه وكلامه أكمل وأتمّ من بيان غيره، فكيف يكون ـ مع هذا ـ لم يبيِّن الحقَّ؟!...».


ومن كمال نصح النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأمَّته أن علَّمها حتَّى آداب قضاء الحاجة.


ففي «صحيح مسلم» (262) عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال لنا المشركون: إنِّي أرى صاحبكم يعلِّمكم؛ حتَّى يعلِّمكم الخراءة؟! فقال: أجل، إنَّه نهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه، أو يستقبل القِبْلَة، ونهى عن الرَّوث، والعظام وقال: «لاَ يَسْتَنْجِي أَحَدُكُمْ بِدُونِ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ».


ومن درر كلام إمام دار الهجرة رحمه الله ما رواه الإمام أبو إسماعيل الهروي رحمه الله في «ذمِّ الكلام» (1128) بسنده إلى الإمام الشَّافعي رحمه الله قال:


سُئل مالكٌ عن الكلام في التَّوحيد, فقال مالكٌ: «محالٌ أن يُظنَّ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه علَّم أمَّته الإستنجاء، ولم يعلِّمهم التَّوحيد».


ولهذا قال الإمام ابن القيِّم رحمه الله؛ تجانسًا مع كلام الإمام مالكٍ رحمه الله المذكور:

«ومن أبْيَن المحال أن يكون أفضلُ الرُّسل قد علَّم أمَّته آداب البول: قبله وبعده ومعه، وآداب الوَطْء، وآداب الطَّعام والشَّراب، ويترك أن يعلِّمهم ما يقولونه بألسنتهم، وتعتقده قلوبهم في ربِّهم ومعبودهم، الَّذي معرفته غاية المعارف، والوصول إليه أجلّ المطالب، وعبادته وحده لا شريك له أقرب الوسائل» اهـ(11).




- ثمرة الإلتزام بهذه القاعدة:


الإستغناء بكتاب الله سبحانه، وما صحَّ من سنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم عمَّا سواهما في جميع الأمور الدِّينيَّة، سيّما ما كان متعلِّقًا بالمطالب الإلهيَّة، والمقاصد الرَّبَّانيَّة، وفي هذا قال ابن القيِّم في «الصَّواعق المرسلة» (4/1352 ـ 1353): «إنَّ الله سبحانه أنكر على مَن لم يكتف بكتابه فقال: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون﴾[العنكبوت:51]،
ومن المحال أن يكون الكتاب الَّذي يخالفه صريح العقل كافيًا، وإنَّما يكون كافيًا لمن قدَّمه على كلِّ معقولٍ ورأيٍ وقياسٍ وذوقٍ وحقيقةٍ وسياسةٍ؛ فهذا الكتاب في حقِّه كافٍ له، كما أنَّه إنَّما يكون رحمةً وذكرى له دون غيره، وأمَّا مَن أعرض عنه، أو عارضه بآراء الرِّجال؛ فليس بكافٍ له، ولا هو في حقِّه هدًى ولا رحمةً؛ بل هو من الَّذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله».




وقال ـ أيضًا ـ رحمه الله في «بدائع الفوائد» (4/155): «فالحمد لله الَّذي أغنى عباده المؤمنين بكتابه، وما أودعه من حججه وبيِّناته، عن شقاشق المتكلِّمين، وهذيانات المتهوِّكين، فلقد عظمت نعمة الله تعالى على عبدٍ أغناه بفهم كتابه عن الفقر إلى غيره ».




- القاعدةالثَّانية:


ظواهر النُّصوص مفهومةٌ لدى المخاطبين.


وبيان هذه القاعدة يكون من وجهين: إجماليٍّ، وتفصيليٍّ:



- أمَّا الإجمالي: فإنَّ كلام الله سبحانه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عربيٌّ مبينٌ، وظاهره غايةٌ في البيان، وهو مفهومٌ لدى المخاطبين من أهل اللِّسان العربيِّ، سيَّما ما يتعلَّق من ذلك بمسائل الإعتقاد والإيمان.


- أمَّا الوجه التَّفصيلي لهذه القاعدة، فهو متعلِّقٌ بأصلين:


الأوَّل ـ القرآن العظيم:

الَّذي نزل بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ، وهو جارٍ على معهود العرب في خطابها.


ودليل هذا من جهتين: من جهة الأثر، ومن جهة النَّظر:


أمَّا من جهة الأثر: فقد قال الله سبحانه: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِين * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِين * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِين* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِين ﴾[الشعراء:192-195]، وقال سبحانه: ﴿ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُون ﴾[فُصِّلَت:3]، وقال: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ﴾[يوسف:2]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدَّالَّة على أنَّ هذا القرآن أنزل باللِّسان العربيِّ المفهوم لدى المخاطبين من أهل اللِّسان العربي.


أمَّا من جهة النَّظر: فإنَّه من المعلوم أنَّ القرآن العظيم مقصودٌ به الهداية والإرشاد؛ فلزم أن يكون بيِّنًا للأمَّة المخاطبة به، ولا يكون كذلك حتَّى تفهمه وتعقله، ولا يتمُّ ذلك حتَّى يكون جاريًا على معهودها في الخطاب، وعادتها في الكلام.


وفي هذا قال الإمام الطَّبري رحمه الله في مقدِّمة «تفسيره» (1/11): « إنَّه غير جائزٍ أن يخاطب ـ جلَّ ذكره ـ أحدًا من خلقه إلاَّ بما يفهمه المخاطب، ولا يرسل إلى أحدٍ منهم رسولاً برسالةٍ؛ إلاَّ بلسانٍ وبيانٍ يفهمه المرسل إليه؛ لأنَّ المخاطب والمرسل إليه، إن لم يفهم ما خوطب به، وأرسل به إليه؛ فحاله قبل الخطاب، وقبل مجيء الرِّسالة إليه وبعده سواءٌ؛ إذ لم يفده الخطاب والرِّسالة شيئًا كان به قبل ذلك جاهلاً، والله ـ جلَّ ذكره ـ يتعالى عن أن يخاطب خطابًا، أو يرسل رسالةً لا توجب فائدةً لمن خوطب، أو أرسلت إليه؛ لأنَّ ذلك فينا من فعل أهل النَّقص والعبث، والله تعالى عن ذلك متعالٍ » اهـ.


الثَّاني ـ السُّنَّة النَّبويَّة:


إنَّ من سُنَّة الله في خلقه وأمره أن يرسل كلَّ رسولٍ بلسان قومه، حتَّى يحصل المقصود من الرِّسالة وهو البيان والإنذار.


ولا تقوم الحجَّة الرِّساليَّة، وتنقطع المعذرة؛ إلاَّ بالبيان من الرَّسول، والفهم من المرسل إليه، قال الله سبحانه: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ﴾[إبراهيم:4]، وقال في حقِّ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم : ﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون ﴾[النحل:44].


والقوم الَّذي بعث فيهم نبيُّنا محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم ـ وهم قريشٌ ـ عربٌ أقحاحٌ، فيكون كلامه لهم ممَّا يفهمونه من لغة العرب وأساليبها.



- ثمرة الإلتزام بهذه القاعدة:


إنَّ ما جاء في كتاب الله سبحانه، وما صحَّ من سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم معقول المعنى، واضحٌ جليٌّ، سيَّما ما كان متعلِّقًا بما يجب على المسلم اعتقاده في ربِّه ومعبوده سبحانه.



- تنبيه حول منزلة العقل والفطرة في الإستدلال على مسائل الإعتقاد(12):

إذا كان الكتاب والسُنَّة الصَّحيحة هما مصدرَا تلقِّي العقيدة الإسلاميَّة، فما منزلة العقل والفطرة في باب الإعتقادات؟


الجواب عن هذا من وجهين:


الأوَّل: الفطرة والعقل السَّليم مؤيِّدان، وموافقان لما جاء في الكتاب والسُّنَّة، ويدركان أصول الإعتقاد على الإجمال ـ لا على التَّفصيل ـ؛ فالعقل والفطرة يدركان وجود الله وعظمته، وضرورة طاعته وعبادته، واتِّصافه بصفات العظمة والجلال على وجه العموم، كما أنَّ العقل والفطرة السَّليمين يدركان ضرورة النُّبوَّات، وإرسال الرُّسل، وضرورة البعث والجزاء على الأعمال؛ على الإجمال ـ أيضًا ـ، لا على التَّفصيل، أمَّا هذه الأمور وسائر أمور الغيب، فلا سبيل إلى إدراك شيءٍ منها على التَّفصيل إلاَّ عن طريق الكتاب والسُنَّة «الوحي»، وإلاَّ لما كانت غيبًا، ومثل الوحي بالنِّسبة للعقل والفطرة، كضوء الشَّمس بالنِّسبة للعين الباصرة.


قال الإمام ابن القيِّم في تفسير قول الله سبحانه: ﴿ الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ الله الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم ﴾[النور:35].


« فأخبر ـ سبحانه ـ عن مثل نور الإيمان به، وبأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وصدق رسله ـ في قلوب عباده ـ، وموافقة ذلك لنور عقولهم، وفطرهم الَّتي أبصروا بها نور الإيمان؛ بهذا المثل المتضمِّن لأعلى أنواع النُّور المشهود، وأنَّه نورٌ على نورٍ: نور الوحي ونور العقل، نور الشِّرعة ونور الفطرة، نور الأدلَّة السَّمعيَّة ونور الأدلَّة العقليَّة »(13).


الوجه الثَّاني: تعارض النَّصِّ الصَّريح من الكتاب والسُّنَّة الصَّحيحة مع العقل الصَّحيح، أي: السَّليم الَّذي لم يطرأ عليه تغييرٌ ولا انحرافٌ؛ غير متصوَّرٍ أصلاً؛ بل هو مستحيلٌ؛ لأنَّ العقل خلق الله تعالى، والوحي أمر الله تعالى، فلا يمكن أن يتعارض خلق الله سبحانه وأمره أبدًا، وهو ـ سبحانه ـ له الخلق والأمر، كما قال: ﴿ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ الله رَبُّ الْعَالَمِين ﴾[الأعراف:54]




فإذا جاء ما يوهم التَّعارض بين الوحي والعقل، فإنَّ الوحي مقدَّمٌ ومحكَّمٌ؛ لأنَّه صادرٌ عن المعصوم صلى الله عليه وسلم ، والعقل لا عصمة له؛ بل هو نظر البشر النَّاقص، وهو معرَّضٌ للوهم، والخطأ، والنِّسيان، والهوى، والجهل، والعجز.




والله تعالى أعلم، والحمد لله ربِّ العالمين.


------------------------------------------------


(1) عن «شرح عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي» للدكتور عبد الرزاق البدر (ص42) باختصار وإضافة.



(2) رواه البيهقي في «الأسماء والصفات» (ص515)، وصحّح إسناده ابن تيميّة في «مجموع الفتاوى» (5/39)، وابن القيّم في «اجتماع الجيوش» (ص31)، والذّهبي في «تذكرة الحفّاظ» (1/181 ـ 182)، وجوّد إسناده الحافظ ابن حجر في «الفتح» (13/406).



(3) انظر: «منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السّنّة والجماعة» رسالة ماجستير لعثمان ابن علي حسن (1/154).


(4) رواه مسلم في «صحيحه» (867)، وما استفيد من الحديث منقولٌ من «شرح حائية ابن أبي داود» للدكتور عبد الرزاق البدر (ص12).



(5) نقله عنه الإمام ابن القيم : في «مفتاح دار السعادة» (1/90).


(6) عن «شرح عقيدة الحافظ عبد الغني» لعبد الرزاق العباد (ص 43 ـ 45) بإضافة.



(7) وهما مستفادتان من كتاب «منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد» لعثمان بن علي حسن (1/245 ـ 258)، و(2/437 ـ 467) [ط/ مكتبة الرشد ـ الرياض]، مع تصرّفٍ واختصارٍ وإضافةٍ.


(8) «درء تعارض العقل والنّقل» (1/27 ـ 28/ط: جامعة الإمام) باختصارٍ وحذفٍ.



(9) «الجامع لأحكام القرآن» (6/420).



(10) رواه أحمد (17142)، وابن ماجة (43)، وانظر: «الصحيحة» (937).



(11) «الصواعق المرسلة» (1/158).



(12) عن «مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة» للدكتور ناصر العقل مع تصرّفٍ وإضافة.




(13) «الصّواعق المرسلة» (3/851 ـ 852).








http://www.rayatalislah.com/index.php/qadaya-minhajia/item/1175-2014-07-01-17-09-40

amine16d
2015-03-19, 11:53
بارك الله فيك على الموضوع القيم

عَبِيرُ الإسلام
2015-03-19, 12:42
وفيكم بارك الله وفّقكم الله.

الاخ ياسين السلفي
2015-03-19, 14:05
هل نقول: إن مصادرنا في التلقي هم فلان وفلان وفلان من الناس، فما قاله فلان أخذناه، وما رده رددناه؟ لا.

إن مصدرنا الأول في التلقي: هو القرآن، فإذا قرأت آية في كتاب الله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، علمت أن الله سبحانه وتعالى لا يشابه أحداً من خلقه، وإذا عرفت أنه: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، أقررت وآمنت أن الله سبحانه وتعالى يسمع ويبصر، لكن ليس كسمع البشر وليس كأبصارهم.

وإذا قرأت قول الله تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ [المائدة:119]، عرفت أن الله يرضى ويغضب.

وإذا قرأت قول الله تعالى: بِيَدَيَّ [ص:75]، أثبت لله اليد.

وإذا قرأت: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، أي: ليس له شبيه.

إذاً: مصدرنا في التلقي هو القرآن الكريم، فهذا هو المصدر الذي نتلقى منه عقائدنا في الله وفي الملائكة وفي النبيين والكتب وفي اليوم الآخر وفي القدر، كل ذلك نتلقاه من كتاب الله سبحانه وتعالى ونؤمن به، ونقر أمام الآخرين أجمعين أن كتاب الله لا ولن يتعرض إلى تحريف أو تغيير أو تبديل؛ لأن الله أوكل حفظ القرآن الكريم لنفسه.

قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].

بخلاف مناهج الكتب الأخر التي أوكل الله سبحانه وتعالى حفظها لأصحابها، كالتوراة والإنجيل، فخانوا الأمانة وما رعوها فحرفوها وغيروها.

المصدر الثاني من مصدر التلقي عند أهل السنة: السنة النبوية الصحيحة، فإذا ثبت أمر في السنة ثبت، وليس حديثاً موضوعاً أو ضعيفاً أو منكراً أو باطلاً، أو فيه كذا وكذا من الأمور القادحة، فإن هذا يعد أمراً واجب التسليم، وواجب الأخذ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بين لك أموراً في العقيدة كثيرةً جداً لم ترد في القرآن، فأنت تأخذ بها وتؤمن بها وتقر على أنها منهج شرعي، وإذا خالفته أو عارضته فإن ذلك يعد معارضة لدين الله.

إذاً: نحن لم نرتبط بأشخاص مثلنا مثلهم، إنما ارتبطنا بكتاب الله سبحانه وتعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وارتبطنا بالسنة بما ثبت لدينا ثبوتاً قطعياً من السنة على أنه صحيح، وجعلناه هو المصدر لنا نأخذ منه العقيدة ونستقي منه المنهج.

إذاً: من خلال هذه المقارنة ينقسم الناس إلى قسمين:

القسم الأول: أهل السنة والجماعة، ويرجعون في تلقيهم العقيدة إلى القرآن، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.

والقسم الآخر: بشتى أصنافه وفرقه ودياناته، يأخذون من غير القرآن والسنة، بل ويأخذون من رجال، وهؤلاء الرجال هم الذين يقررون لهم أحكامهم.

حتى العقلانيين الذين يحكمون العقل يحكمون أنفسهم، أي: أنهم يحكمون الرجال في مناهجهم، ولذلك فإن العقلانيين لا يمكن أن يتفقوا على رأي.

ذكر أن المعتزلة اجتمع من زعمائهم أكثر من تسعة عشر زعيماً للاتفاق على توحيد المنهج المعتزلي، ومراجعة الأخطار التي يتعرض لها هذا المنهج، فخرج هؤلاء التسعة عشر بعشرين رأياً يعني: دخلوا بتسعة عشرة رأياً كي يخرجوا برأي واحد، فخرجوا بعشرين رأياً أي: زاد رأي إضافي.

وفي رواية أخرى للشرساني : أنهم دخلوا تسعة عشر، للاتفاق والاتحاد، وخرج كل منهم يكفر الآخر، وهذا يدلك على أن كلاً منهم يحكم عقله، والعقل يختلف من شخص لآخر، وبالتالي فكل منهم يعد رجلاً بحد ذاته يحكم كيفما يشاء، ويقرر كيفما يشاء.

هذا والله سبحانه وتعالى الموفق والهادي إلى سواء السبيل، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وصل الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.

الاخ ياسين السلفي
2015-03-19, 14:13
في بيان خطورة التأصيل قبل التأهيل

نص السؤال:
لقد انتشرت بعض الآراء والأحكام والاعتقادات في بعض أحياء الجزائر لم نعهدها من الدعاة السلفيِّين، ولم نسمعها في توجيهاتهم، سواءً في مجالسهم الخاصَّة أو العامَّة، هذه الأحكام التي تُروَّج قد تزعَّمها بعض المتخرِّجين من كلِّيَّة أصول الدين بالخرُّوبة، بل بعضهم قد تخرَّج على أيديكم، وهم يُكَتِّلون الناسَ حولها، انطلاقًا من تأسيساتٍ وتأصيلاتٍ سَلَكُوها، نودُّ من الشيخ أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس أن يبيِّن الحقَّ فيها -إن ظهر له-، وتعزيزَ ذلك بأدلَّةٍ وتعليلاتٍ تفنِّد القواعدَ التي انتهجها هؤلاء، وجزاكم الله خير الجزاء. وهاكم هذه التأسيسات مرتَّبةً على النحو التالي:
أوَّلاً: إنه ينفي مرتبة الاتِّباع، ويرى أنَّ الناس: إمَّا مقلِّدٌ أو مجتهدٌ لا ثالث لهما، وبما أنَّ المجتهد منعدمٌ في بلادنا فيَلْزَم كلَّ الناس التقليدُ، ورتَّب على ذلك حكمًا مفاده أنهم مُلْزَمُون بالمذهب المالكيِّ السائد في البلاد، وممَّا سبق من إقراره بالتقليد، فإنه أصبح يفتي الناسَ بما يوافق المذهب، وممَّا انجرَّ عن ذلك أنه فصل من اتَّبعه في ذلك عن علماء الحجاز كالشيخ ابن بازٍ وابن العثيمين -رحمهما الله- بدعوى أنهم حنابلةٌ ونحن مالكيةٌ لنا علماء، وترتَّب عن ذلك أنهم أصبحوا يزجرون من يقرأ كُتُبَ ابن عثيمين لأنه حنبليٌّ ونحن مالكيةٌ، بل صرفوا الناس إلى كتب القرضاوي ومالك بن نبي وشكيب أرسلان وغيرهم، فما تعليقكم على ذلك ؟
ثانيًا: إنه أصبح يحتجُّ بأنه لا إنكار في مسائل الخلاف، سواءً كان الخلاف معتبرًا أو غير ذلك، وبمقول قوله: لا تنكر على الحنفي الذي يشرب النبيذَ لأنه حنفيٌّ.
ثالثًا: إنه ناقمٌ على السلفية تسميةً ومنهجًا، فالتسمية يرى بأنها زادت الأمَّة فُرقةً، أمَّا منهجًا فيرى أنَّ الدعاة السلفيِّين كانوا هم السببَ في طمس معالم المذهب المالكيِّ وأنهم أبعدوا الناسَ عنه.
وإليك الآن بعض فتاويه الجديدة:
- أفتى بجواز الاحتفال بالمولد النبويِّ الشريف وأعياد الميلاد التي هي من عادات الكفَّار، ولمَّا اعتُرض عليه بفتوى اللجنة الدائمة قال بأنَّ لديه عالِمًا أفتى بذلك وهو القرضاوي، واستدلَّ بقاعدةٍ معناها: أنَّ الشيء إذا عمَّ عند المسلمين كان من عاداتهم ولو كان أصلها من عادات الكفَّار.
- وأفتى لأحد الإخوة بجواز أخذ قرضٍ بنكيٍّ للزواج لأنه ضرورةٌ.
- وأنه يرى الأخذَ بالأيسر من فتاوى أهل العلم مثل فتاوى القرضاوي التي تسهِّل على الناس، بخلاف فتاوى الألباني فإنها متشدِّدةٌ، وفقهُه واقفٌ على ظواهر النصوص دون اعتبار المقاصد العامَّة للتشريع والقواعد العامَّة لهذا الدين.
- وقال في الشيخ الألبانيِّ بأنه محدِّثٌ فقط وليس بفقيهٍ، وأنَّ فيه ظاهريةً لأنه لا يرى الأخذَ بالإجماع السكوتيِّ، وغير ذلك من المسائل التي وافق فيها مذهبَ أهل الظاهر.
أمَّا أتباعه فيصفون الألبانيَّ بالأعجمي الذي لا يفهم كلام العرب...
هذا، ونرجو من فضيلة شيخنا أن يبيِّن لنا وجه الصواب والحقِّ في هذه المسائل، وأن يقدِّم له نصيحةً لعلَّه يرجع إلى الحقِّ ويستقيم. وجزاكم الله عنَّا وعن المسلمين خيرَ الجزاء.
الجواب:
طليعة العبارة الأولى التي مفادها نفي رتبة الاتِّباع غير صحيحةٍ، لأنَّ العلماء يفرِّقون بين مرتبة الاتِّباع والتقليد، فالاتِّباع سبيله قبول الحجَّة والانقياد للدليل، بخلاف التقليد، كما أنَّ الاتِّباع أعمُّ من الاجتهاد، فكلُّ مجتهدٍ متَّبعٌ، ولا عكس. فإذن الاتِّباع سبيلُه الدليل والعمل بالوحي، لذلك سَمَّى الله تعالى العملَ بالوحي «اتِّباعًا» في قوله تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: 3]، وقوله تعالى: ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ [الأنعام: 106]، وقوله تعالى: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ﴾ [الأنعام: 155]؛ ذلك لأنَّ حدَّ العلم: «التبيين وإدراك المعلوم على ما هو به»، فمن بان له شيءٌ فقد علمه، والمقلِّد لا علم له، وقد ذكر ابن عبد البرِّ أنهم لم يختلفوا في ذلك، وقد فرَّق الله ورسوله وأهل العلم بين التقليد والاتِّباع، كما فرَّقت الحقائق بينهما، فإنَّ الاتِّباع: «سلوك طريق المُتَّبَع والإتيانُ بمثل ما أتى به»، وأمَّا التقليد: فهو «الرجوع إلى قولٍ لا حجَّة لقائله عليه»، وقد فرَّق بينهما الشيخ عبد الحميد بن باديس -رحمه الله- حيث قال: «التقليد هو: أخذُ قول المجتهد دون معرفةٍ لدليله، وأهله هو من لا قدرة له على فهم الدليل، وهم العامَّة غير المتعاطين لعلوم الشريعة واللسان، والاتِّباعُ هو: أخذُ قول المجتهد مع معرفة دليله ومعرفة كيفية أخذه للحكم من ذلك الدليل حسب القواعد المتقدِّمة، وأهله هم المتعاطون للعلوم الشرعية واللسانية، الذين حصلت لهم مَلَكةٌ صحيحةٌ فيهما»(1)، ولا شكَّ أنَّ التقليد -بالمفهوم السابق لغير العاجز عن فهم الدليل- مذمومٌ، لأنَّ الله تعالى أمر بالاتِّباع ونهى عن التقليد في قوله تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾ [الأعراف: 3]، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [لقمان]، ومن هنا يظهر بطلان فَهْم من جعل التقليدَ اتِّباعًا، نعم، قد يجوز التقليد في حالةٍ ضيَّقتها الشروط، كأن يكون المقلِّد جاهلاً عاجزًا عن معرفة حكم الله ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، شريطةَ أن يقلِّد من عُرف بالعلم والاجتهاد، دينًا وصلاحًا من أهل السنَّة، وأن لا يظهر له الحقُّ عند غير مقلَّده، وأن لا يلتزم إمامًا بعينه في كلِّ المسائل، وإنما يتحرَّى الحقَّ قَدْرَ الاستطاعة، ومن جهةٍ أخرى لا يتتبَّع الرُّخَصَ للتسهيل على نفسه تنقُّلاً بين المذاهب، ولا يكون في تقليده مخالَفةٌ واضحةٌ للكتاب والسنَّة وإجماع الأمَّة. والخروجُ عن هذه الشروط يجعل التقليد مذمومًا(2).
• أمَّا قوله: «وبما أنَّ المجتهد منعدمٌ في بلادنا فيَلزم كلَّ الناس التقليدُ»، ورتَّب على ذلك حكمًا مفاده أنهم مُلْزَمون بالمذهب المالكيِّ السائد في البلاد.
فالجواب على هذا المقطع الثاني من السؤال الأوَّل، الذي هو عبارةٌ عن نتيجةٍ منطقيةٍ على المقدِّمة السابقة، أنه لَمَّا كانت المقدِّمةُ السابقة -المبنيَّة على حصر الناس في مجتهدٍ ومقلِّدٍ- فاسدةً وباطلةً؛ ف«مَا بُنِيَ عَلَى فَاسِدٍ فَفَاسِدٌ»، ذلك لأنَّ إغفالَ مرتبة اتِّباع الوحي والعملِ بالدليل الذي لا يُشترط فيه سوى العلم بما يعمل، ولا يتوقَّف ذلك على تحصيل شروط الاجتهاد، إنما هو إغفالٌ لمقتضى توحيد الله والإيمان به، إذ لا نجاة للعبد من عذاب الله إلاَّ بتوحيد المُرسِل بالعبادة والخضوع والذلِّ والإنابة والتوكُّل، وتوحيدِ متابعة الرسول، وذلك بالتسليم له، والانقياد لأمره، وتلقِّي خبره بالقبول والتصديق دون أن نعارضه بخيالٍ باطلٍ، أو نحمِّله شكًّا وشبهةً، أو نقدِّم عليه آراء الرجال، فلا يجوز أن نُحاكِم إلى غيره، ولا نرضى بحكم غيره، كما جاء ذلك في «العقيدة الطحاوية»(3).
• أمَّا قوله بأنه ليس ثَمَّةَ علماءُ في بلادنا، ولا مَن هم في حكمهم؛ فجوابه من وجوهٍ:
- الوجه الأوَّل: إذا كان يضع مثل هذه التأصيلات المذكورة، ويحكم بمثل هذه الأحكام، فإنه يتناقض مع نفسه، لكون هذه الأمور من اختصاص أهل النظر، وهو مُقِرٌّ على نفسه بالتقليد، ومن كان على شاكلة المقلِّدين فلا سبيل له لوضع التأصيلات واستحكام المناهج، فضلاً عن تمييز العالم من الجاهل، لأنَّ المقلِّد ليس بعالمٍ اتِّفاقًا، فلا يعرف الكاملَ من المجتهدين والناقصَ منهم -كما ذكر ذلك الشوكانيُّ-، وإنما يفعل ذلك من لهم إدراكٌ يعرفون به الكمالَ والنقص.
-الوجه الثاني: قد يخفى على من سبيله التقليد أنَّ الاجتهاد -بالنظر إلى المجتهد من حيث استيعابُه للمسائل أو اقتصاره على بعضها- ينقسم إلى مجتهدٍ مطلقٍ ومجتهدٍ جزئيٍّ.
والمراد بالمجتهد المطلق هو: «من توفَّرت فيه شروط الاجتهاد وبلغ رتبته بحيث يمكنه النظر في جميع المسائل»، بينما المجتهد الجزئيُّ هو: «الذي لم يبلغ رتبة الاجتهاد في جميع المسائل، وإنما بلغ هذه الرتبةَ في بابٍ معيَّنٍ أو مسائلَ معيَّنةٍ أو فنٍّ معيَّنٍ، وهو جاهلٌ لِما عدا ذلك». والعلماء وإن كانوا يختلفون في جواز تجزئة الاجتهاد؛ إلاَّ أنَّ ما عليه أهل التحقيق من أهل العلم جوازُه وصحَّتُه، وبه قال ابن قدامة وابن تيمية وابن القيِّم وغيرهم(4) وهو الصحيح. وعليه، فإنَّ انتفاء وجود المجتهد المطلق في بلادنا لا ينافي وجودَ غيره، وللمجتهد الجزئيِّ أن يُفْتيَ في النوع الذي اجتهد فيه كما قرَّره ابن القيِّم -رحمه الله- مبيِّنًا حجَّةَ الجواز أنه قد عَرف الحقَّ بدليله، وقد بذل جُهْدَه في معرفة الصواب، فحُكْمُه في ذلك -كما قال- حُكم المجتهد المطلق في سائر الأنواع. وهذا -ولا شكَّ- أنه من التبليغ عن الله ورسوله، وجزى الله من أعان الإسلامَ ولو بشطر كلمةٍ خيرًا، ومنعُ هذا من الإفتاء بما عَلِم خطأٌ محضٌ(5).
- الوجه الثالث: أنَّ أهل العلم بيَّنوا لنا طريقَ معرفة العالم من الجاهل، وأن يستفتيَ العامِّيُّ من غلب على ظنِّه أنه من أهل الاجتهاد، وطريقُ معرفته إمَّا بانتصابه للفتيا بمشهدٍ من أعيان العلماء دون نكيرٍ، وإمَّا بأن يأخذ الناسُ عنه ويجتمعوا على سؤاله والعمل بما يقول، وإمَّا بما يظهر على العالم من سمات الدين والتقوى والعدالة، وإمَّا بإخبار عدلٍ يثق به بأنَّ هذا عالمٌ عدلٌ، وقد بيَّنَّا في «الإرشاد إلى مسائل الأصول والاجتهاد» أنَّ طالب العلم ومن يقوم مقامه له سبيلٌ لمعرفة العالم والأعلم، إمَّا بالشهرة والتسامع ورجوع الناس إليه، وإمَّا عن طريق مجالسته ومناقشته ووزن فتاويه، كما يظهر الأعلم بأكثرية إصابته للصواب، أو إذعان المفضول له وتقديمه، أمَّا العامِّيُّ المحض فله اتِّباع من يثق في دينه شريطةَ إلمامه بالعلم، ويهتدي إلى معرفة ذلك بالشهرة والتوجيه(6).
• أمَّا ترتيبه على ذلك أنَّ الكلَّ مُلْزَمون بالمذهب المالكيِّ السائد في البلاد.
فجوابه: أنَّ هذه النتيجة مبنيَّةٌ -أيضًا- على المقدِّمة الأولى التي ظهر فسادُها سابقًا، و»مَا بُنِيَ عَلَى بَاطِلٍ فَبَاطِلٌ».
ومن جهةٍ أخرى؛ فإنَّ هذا التقرير نابعٌ ممَّن يدَّعي على نفسه التقليد وهو مُقِرٌّ به، والمقلِّد ليس بعالمٍ، فلا سبيل له إلى مثل هذا التقرير.
ومن جهةٍ ثالثةٍ؛ فإنَّ هذا الإلزام بالتزام المذهب المالكي معارِضٌ للإجماع المقطوع به عن السلف في موضعين:
-الأوَّل: إجماع السلف الأوَّل من القرون الثلاثة الأولى على عدم إلزام أحدٍ من الناس بالتمذهب بمذهبٍ معيَّنٍ.
-والموضع الثاني: اتِّفاق الصحابة والتابعين والأئمَّة الأربعة وغيرهم على تقديم النصِّ على آرائهم، ونهيهم الناسَ عن تقليدهم. وقد أشار ابن القيِّم -رحمه الله- إلى أنَّ هذه بدعةٌ قبيحةٌ حدثت في الأمَّة لم يقل بها أحدٌ من أئمَّة الإسلام، وقد بيَّن أنه لا يَلْزَم العامِّيَّ التمذهبُ ببعض المذاهب المعروفة، إذ «لاَ وَاجِبَ إِلاَّ مَا أَوْجَبَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ»، ولم يُوجِب الله ورسوله على أحدٍ من الناس أن يتمذهب بمذهب رجلٍ من الأمَّة فيقلِّدَه دينَه دون غيره، وقد انطوت القرون الفاضلة مبرَّأةً ومبرَّأً أهلُها من هذه النسبة(7).
نعم؛ ليس ذلك على الإطلاق، بل يجوز الالتزام بمذهبٍ معيَّنٍ في حالاتٍ، منها: أنه لا يستطيع أن يتعلَّم دينه إلاَّ بالتزام مذهبٍ معيَّنٍ، ولكنَّ ذلك إنما يكون وَفْق ضوابطَ تقيِّد مثل هذه الحالات التي مردُّها أساسًا إلى دفع المفاسد التي لا يتحقَّق دفعُها إلاَّ بالتزام مذهبٍ، على أن يكون التزامُه بمذهب إمامٍ معيَّنٍ ليس في كلِّ المسائل، بل عليه أن يتحرَّى الحقَّ، ويتَّقيَ الله في حدود الاستطاعة، وأن لا يكون انتقاله بين المذاهب متتبِّعًا للرُّخَص على نفسه، لِما فيه من مفسدة التشهِّي وتحكيم الهوى.
• أمَّا قول السائل: «وممَّا انجرَّ عن ذلك أنه فصل من اتَّبعه في ذلك عن علماء الحجاز كالشيخ ابن بازٍ وابن العثيمين -رحمهما الله- بدعوى أنهم حنابلةٌ ونحن مالكيةٌ لنا علماءُ...».
فالجواب: أنَّ المعلوم أنَّ الشيخين ابن بازٍ وابن العثيمين -رحمهما الله تعالى- من علماء الأمَّة ليسا مقلِّدَيْن، وإنما سارا على الجادَّة في اتِّباع الدليل حيثما وُجد ومتى صحَّ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ودونك فتاويهما ومقالاتِهما وكتاباتِهما.
وقد أمر الله تعالى بسؤال أهل الذكر من غير تقييدٍ بزمانٍ أو مكانٍ فقال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43، الأنبياء: 7]، فالآية مطلقةٌ عن الزمان والمكان، فلم يتعبَّدنا الله تعالى بسؤال أهل المشرق دون أهل المغرب ولا العكس، وإنما تعبَّدنا باتِّباع الحقِّ حيثما كان، فالدين واحدٌ، والرسول واحدٌ، والحقُّ واحدٌ.
• وأمَّا قول السائل: «أنهم صرفوا الناس إلى كتب القرضاوي ومالك بن نبي وشكيب أرسلان وغيرهم»، اه.
فجوابه: أنَّ المناصب والولايات ليست دليلاً على العلم، إذ العلماء لا يتمُّ تعيينهم عن طريق صناديق الاقتراع، ولا عن طريق التعيين الإداريِّ، ولكنَّهم يُعرفون بميزة العلم والتقوى، ورسوخ أقدامهم في مواطن الشبه، لِما بذلوه من جهودٍ وأوقاتٍ، وتفانَوْا في دعوتهم إلى الله تعالى، غيرَ أنَّ الناس قد يشتبه عليهم من تشبَّه بالعلماء وليسوا منهم، كالوعَّاظ والخطباء والقرَّاء والمفكِّرين والمثقَّفين، فالقرَّاء هم جماعةٌ من طلبة العلم حصلوا على نُتَفٍ منه، لم يبلغوا فَهْمَ أهل العلم وإدراكَهم، وهم كثيرٌ في عصرنا هذا، في الرجال والنساء والكبار والصغار، بسبب كثرة المتخرِّجين من الجامعات، وانتشار المدارس والمعاهد والزوايا، ولا شكَّ أنَّ المسارعة في القراءة دون فهمٍ أو فقهٍ يفضي إلى الانحراف عن الحقِّ، وقد ورد عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: «سَيَأْتِي عَلَى أُمَّتِي زَمَانٌ تَكْثرُ فِيهِ القُرَّاءُ، وَتَقِلُّ الفُقَهَاءُ، وَيُقْبَضُ العِلْمُ، وَيَكْثُرُ الهَرْجُ»، قَالُوا: «وَمَا الهَرْجُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟» قَالَ: «القَتْلُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ زَمَانٌ يَقْرَأُ القُرْآنَ رِجَالٌ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهِمْ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ زَمَانٌ يُجَادِلُ المُنَافِقُ الكَافِرُ المُشْرِكُ بِاللهِ المُؤْمِنَ بِمِثْلِ مَا يَقُولُ»(8). وقد كان الخوارج يقرأون القرآنَ، ولكن لم يبلغوا درجةَ الفهم والعلم، وقد وصفهم الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم: «يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ»(9)، أي: لا يصل إلى حلوقهم فضلاً عن أن يصل إلى قلوبهم، لأنَّ المطلوب تعلُّق القرآن بالقلب وتدبُّرُ آياته -كما أشار النوويُّ-، فالعلماء لا يقرءون نُتَفًا من العلم، وإنما يدرسون العلومَ الشرعية دراسةً عامَّةً شموليةً من غير أن يتوقَّفوا في التعلُّم، يعانون في تحصيل العلم، ولا يقرءون منه الشذرات، بل هم دائمو الطلب بعزائمَ قويَّةٍ، لا يُثنيهم عناء الرحلات ولا سهرُ الليالي ومعاناة الأيَّام.
وكذلك أهل الوعظ والإرشاد والخطابة -وإن كانت هذه المَهَمَّة تؤدَّى من قِبَل العلماء والفقهاء في الأوَّل- إلاَّ أنَّ هذه المناصب أصبح يمارسها مَن ليس له حظٌّ أو نصيب سوى النَّزْر اليسير، الذين يملكون فصاحةَ اللسان وبلاغته، ولهم به قدراتٌ في قلب الألفاظ وتغييرها كيفما شاءوا، يشدُّون مشاعر الناس، ويسلبون قلوبَهم بحسن الحديث وحلاوة المنطق، وليس ذلك بدليلٍ على أنهم من أهل العلم والفهم، بل قد يكون العالم عَيِّيًا لا يُحسن الكلامَ، وليس عنده قوَّة البيان ولا حسنُ الحديث ولا حلاوة المنطق، قليل الكلام بطبعه أو غير قادرٍ على الخطابة والوعظ والإرشاد، قال ابن رجبٍ -رحمه الله-: «وقد فُتن كثيرٌ من المتأخِّرين بهذا، فظنُّوا أنَّ من كثُر كلامُه وجداله وخصامه في مسائل الدين فهو أعلم مِمَّن ليس كذلك، وهذا جهلٌ محضٌ، وانظر إلى أكابر الصحابة وعلمائهم كأبي بكرٍ وعمر وعليٍّ ومعاذٍ وابن مسعودٍ وزيد بن ثابتٍ كيف كانوا ؟ كلامُهم أقلُّ من كلام ابن عبَّاسٍ وهُم أعلم منه.
وكذلك كلام التابعين أكثر من كلام الصحابة والصحابةُ أعلم منهم، وكذلك تابعو التابعين، كلامُهم أكثر من كلام التابعين والتابعون أعلم منهم. فليس العلم بكثرة الرواية ولا بكثرة المقال، ولكنَّه نورٌ يُقذف في القلب، يفهم به العبد الحقَّ، ويميِّز به بينه وبين الباطل، ويعبِّر عن ذلك بعباراتٍ وجيزةٍ محصِّلةٍ للمقاصد»(10).
وكذلك القول في المفكِّرين وأرباب الثقافة، فهؤلاء -وإن صحَّ تسميتهم بأنهم من المفكِّرين أو الحكماء- فلا يتعدَّى هذا الوصف جوانبَ تخصُّصهم التي أجادوا فيها، كالطبِّ والهندسة والفيزياء والكيمياء وغيرها من العلوم التجريبية، أو علم الاجتماع والنفس والتربية وغيرها من العلوم الإنسانية، فهُم معدودون من جمهور المسلمين وعوامِّهم، بل هم أشبه بأهل الكلام الذين ليس لهم من العلم إلاَّ عباراتٌ وشقائقُ المسائل وتفريعُها، فيظنُّهم الجاهل علماء، ولا يخفى أنَّ معرفة شقائق المسائل لا يعكس حقيقةَ العلم وليس دليلاً عليه، وقد قال الإمام مالكٌ -رحمه الله-: «الحكمة والعلم نورٌ يهدي به الله من يشاء، وليس بكثرة المسائل»(11). وقد ذكر ابن عبد البرِّ -رحمه الله- إجماعَ «أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أنَّ أهل الكلام أهل بدعٍ وزَيْغٍ، ولا يُعَدُّون عند الجميع في جميع الأمصار في طبقات العلماء، وإنما العلماء أهل الأثر والفقه، ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم»(12).
فالحاصل أنَّ الاعتبار في وصف العالم بالعلم ما يحتويه صدرُه من العلم بالله تعالى وعن الله تعالى، وما اتَّصف به من تقوى الله وخشيته.
فمالك بن نبي، وشكيب أرسلان، والعقَّاد وغيرهم أجادوا تخصُّصهم ولهم مكانتهم فيه، لكنَّهم غير مختصِّين في العلوم الشرعيَّة، فلا يخرجون عن صنف المفكِّرين والمثقَّفين، فمالك بن نبي مهندسٌ ميكانيكيٌّ، متخرِّجٌ من معهد الهندسة العالي بباريس، وهو مفكِّرٌ إسلاميٌّ جزائريٌّ توفِّي سنة (1393ه-1973م)، أمَّا شكيب أرسلان اللبناني فهو كاتبٌ وأديبٌ وشاعرٌ ومؤرِّخٌ وسياسيٌّ توفِّي سنة (1366ه-1946م)، وأمَّا عبَّاس محمود العقَّاد؛ فهو أديبٌ مصريٌّ وشاعرٌ ناثرٌ، توفِّي سنة (1383ه-1964م)؛ فهؤلاء اختصاصاتهم في العلوم اللغوية والتجريبية.
أمَّا القرضاوي وأضرابه فإنهم لا يُعْرَفون برسوخ أقدامهم في مواطن الشبه، وهم غيرُ مُتشبِّعين بالسنن والآثار، وكثيرًا ما تزيغ أفهامهم عن فهم السلف الصالح، لذلك نجد فتاويَهم مخالفةً لأقوال السلف، كما يُعْرف عنهم عدم الاتِّصاف بتقوى الله في فتاويهم وسيرتهم، فهُم يجيزون الاستماعَ إلى العزف والأغاني والطرب من الرجال والنساء، ويتلذَّذون بالاستماع إليها ويجيزونها لغيرهم، كما يجيزون العمل في البنوك الربوية بدعوى أنَّ المصلحة تقتضي ذلك، كما يجيزون دخول السينما وممارسةَ أعمال المسرح والتمثيليَّات للذكور والإناث، ويرون ضرورةَ منح النساء مزيدًا من الحقوق، وأنَّ النساء اللاَّتي تجاوزن سنَّ الحمل والولادة يُسمح لهنَّ بالترشُّح في الانتخابات، وهم ممَّن يرَوْنَ أنَّ الدول العربية يجب أن تتحوَّل إلى الديموقراطية، وأنَّ الإسلام يجب أن يشهد إصلاحاتٍ ويحتفيَ بالتسامح في ظلِّ تقارُب الأديان ووحدتها، وهم مِمَّن يمتدحون المُثُل الغربية ويعتقدون أنَّ ثمَّةَ إمكانيةً للتعايش بين اليهود والدولة الفلسطينية، كما يُفتون الجنود الأمريكيِّين المسلمين أن يقاتلوا في صفوف الجيش الأمريكيِّ في أفغانستان، كما أنه من المعروف في خُطبهم التشهيرُ بالحكَّام والانتقاصُ منهم وتأليب العامَّة عليهم، والاعتراف بالدولة اليهودية ضمنًا والثناءُ عليها جهارًا في مناسبات الانتخابات اليهودية، وتجويزُ الأحزاب والممارسات الديمقراطية، والإشادة بحرِّيَّة الشعوب في اتِّخاذ أنموذج نظامها، وأنَّ اختيارها فوق كلِّ اعتبارٍ، وغيرها من الأمور التي لا يرضاها المسلمون فضلاً عن علمائهم وفقهائهم الذين هم جميعًا شهداء الله في أرضه، ولا شكَّ أنَّ ارتكاب مثل هذه المحاذير يمنع من الثقة بالفتوى -كما قد بيَّنَّا ذلك في كتاب «الإرشاد»-(13).
• وأمَّا قول السائل: «إنه أصبح يحتجُّ بأنه لا إنكار في مسائل الخلاف، سواءً كان الخلاف معتبرًا أو غير ذلك، وبمقول قوله: لا تنكر على الحنفي الذي يشرب النبيذ، لأنه حنفيٌّ»، اه.
فجوابه: أنَّ القول بأنَّ مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيحٍ، كما بيَّن ذلك ابن القيِّم في «إعلام الموقِّعين» أتمَّ البيان، فحاصل ذلك أنه يُفرَّق بين المسائل الاجتهادية والمسائل الخلافية، ففي المسائل الخلافية فإنه يجب الإنكار على المخالف في قولٍ يخالف سنَّةً ثابتةً أو إجماعًا شائعًا، وكذلك يجب الإنكار على العمل المخالف للسنَّة أو الإجماع بحسب درجات إنكار المنكر.
أمَّا المسائل الاجتهادية فلا يجوز الإنكار فيها على المخالف إلاَّ بعد بيان الحجَّة وإيضاح المحجَّة، ولا شكَّ أنَّ شرب النبيذ إن كان مسكرًا حرامٌ، لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ»(14)، وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ»(15)، وهذه من المسائل الخلافية غير الاجتهادية، التي يجب الإنكار فيها على العمل المخالف للسنَّة الثابتة بحسب درجات الإنكار(16).
• وأمَّا قول السائل: «ثالثًا: إنه ناقمٌ على السلفية تسميةً ومنهجًا، فالتسمية يرى بأنها زادت الأمَّةَ فُرْقةً، أمَّا منهجًا فيرى أنَّ الدعاة السلفيِّين كانوا هم السبب في طمس معالم المذهب المالكي وأنهم أبعدوا الناس عنه».
فالجواب على ذلك أن نقول:
إنَّ «السلفية» معناها الانتساب إلى سلف هذه الأمَّة من الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وتُسمَّى -أيضًا- بأهل السنَّة والجماعة، أو الفرقة الناجية، أو أهل الحديث، أو الطائفة المنصورة، فمثل هذه التسميات والاصطلاحات أُطلقت في مقابلة أهل الأهواء والبدع، من أهل الفلسفة وعلم الكلام، والمتصوِّفة والقبوريِّين والطرقيِّين والخرافيِّين، والجهمية والرافضة والخوارج والمرجئة وغيرهم(17).
ومعنى السلفية: «الاعتقاد الصحيح بالنصِّ من الكتاب والسنَّة وإجماع السلف، بالتزام موجَبها من الأقوال والأعمال».
ولا يعاب التسمِّي بأهل السنَّة والجماعة أو بالسلفية، باعتباره اسمًا شرعيًّا استعمله أئمَّة السلف في مقابلة أهل الأهواء والبدع، لذلك لَمَّا سئل الإمام مالكٌ -رحمه الله-: «مَن أهل السنَّة؟» قال: «أهل السُّنَّة الذين ليس لهم لقبٌ يُعرفون به، لا جهميٌّ ولا قدريٌّ ولا رافضيٌّ»(18)، أي مراده: أنَّ أهل السنَّة التزموا الأصلَ الذي كان عليه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه، وبَقُوا متمسِّكين به من غير انتسابٍ إلى شخصٍ أو جماعةٍ. ومن هنا يُعلم أنَّ هذه التسمية إنما نشأت بعد الفتنة عند بداية ظهور الفرق الدينية في الأمَّة وتعدُّد الاتِّجاهات الفكرية فيها حول أصول الدين، وقد أشار إلى ذلك ابن سيرين -رحمه الله- بقوله إنهم: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلمَّا وقعت الفتنة قالوا: سَمُّوا لنا رجالكم ! فيُنظر إلى أهل السنَّة فيؤخذ حديثُهم، ويُنظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم»(19). الأمر الذي دعا العلماءَ الأثبات والأئمَّة الفحولَ لتجريد أنفسهم لترتيب الأصول العُظمى والقواعد الكبرى للاتِّجاه السلفيِّ والمعتقد القرآنيِّ، ومن ثَمَّ نسبته إلى السلف الصالح لحسم البدعة وقطع الطريق على كلِّ مبتدعٍ بدعةً اعتقاديةً.
هذا؛ والمنهج السلفيُّ قائمٌ على الصحيح المنقول الثابت بالكتاب والسنَّة والآثار الواردة عن الصحابة والتابعين من أئمَّة الهدى ومصابيح الدجى، الذين سلكوا طريقهم، كما قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»(20)، وفي قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ»(21).
فكان هذا المنهج هو الصراطَ المستقيم، وهو من أعظم ما يتميَّز به أهل السنَّة والجماعة أو السلفُ عن أهل الأهواء والفُرقة، وهي خصيصةٌ لم يتَّصف بها أحدٌ سواهم، ذلك لأنَّ مصدر التلقِّي عند مخالفيهم من أهل البدع والفرقة هو العقل الذي أفسدته تُرَّهات الفلاسفة وخُزَعبَلات المناطقة وتمحُّلات المتكلِّمين.
هذا؛ والسلفية ليست مفرِّقةً، وإنما هي مجمِّعةٌ للمسلمين على التوحيد الخالص ومتابعة الرسول والتزكية، فقد كان من نتائج المنهج السلفيِّ اتِّحادُ كلمة أهل السُّنَّة والجماعة بتوحيد ربِّهم، واجتماعُهم باتِّباع نبيِّهم، واتِّفاقُهم في مسائل الاعتقاد وأبوابه قولاً واحدًا لا يختلف مهما تباعدت بهم الأمكنة واختلفت بينهم الأزمنة، فكان الانتساب إلى السلفية عزًّا وشرفًا ورمزًا للافتخار وعلامةً على العدالة في الاعتقاد، خاصَّةً إذا تجسَّد بالعمل الصحيح المؤيَّد بالكتاب والسنَّة، وإنما العيب والذمُّ في مخالفة اعتقادِ ومذهب السلف الصالح في أيِّ أصلٍ من الأصول، لذلك لم يكن الانتساب إلى السلف بدعةً لفظيةً واصطلاحًا كلاميًّا، لكنَّه حقيقةٌ شرعيةٌ ذات مدلولٍ محدَّدٍ.
وإنما حاربت السلفيةُ البدعَ والتعصُّب المذهبيَّ والتفرُّق، ووقوعَ الفتن بين المذاهب، والانتصارَ لها بالأحاديث الضعيفة والآراء الفاسدة، وترْكَ ما صحَّ وثبت من السنن والآثار عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، كما حاربت تَنْزِيل الإمام المتبوع في أتباعه منزلةَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في أمَّته، والإعراضَ عن الوحي والاستغناءَ عنه بأقوال الرجال، مثلُ هذا الالتزام بمذهبٍ واحدٍ اتُّخِذ سبيلاً لجعل المذهب دعوةً يدعى إليها ويوالى ويعادى عليها، الأمر الذي أدَّى إلى الخروج عن جماعة المسلمين وتفريق صفِّهم وتشتيت وحدتهم، وقد حصل بسبب ذلك تسليطُ الأعداء على المسلمين.
والسلفية إنما تدعو إلى التمسُّك بوصيَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم المتمثِّلة في الاعتصام بالكتاب والسنَّة وما اتَّفقت عليه الأمَّة، فهذه أصولٌ معصومةٌ دون ما سواها. قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ»(22)، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ المَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ»(23).
• وأمَّا قول السائل: «إليك الآن بعض فتاويه الجديدة:
أفتى بجواز الاحتفال بالمولد النبويِّ الشريف وأعياد الميلاد التي هي من عادات الكفَّار، ولمَّا اعتُرِض عليه بفتوى اللجنة الدائمة قال بأنَّ لديه عالِمًا أفتى بذلك وهو القرضاوي، واستدلَّ بقاعدةٍ فقهيةٍ معناها: «أنَّ الشيء إذا تفشَّى عند المسلمين كان من عاداتهم ولو كان أصلها من عادات الكفَّار»، أو شيءٌ كهذا. وأفتى لأحد الإخوة بجواز أخذ قرضٍ بنكيٍّ للزواج لأنه ضرورةٌ»، اه.
فالجواب:
- أوَّلاً: الاحتفال بالمولد النبويِّ(24) الذي أحدثه بعض الناس -سواءً مضاهاةً للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، أو محبَّةً للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وتعظيمًا له- يُعتبر من البدع المحدثة في الدين التي حذَّر الشرع منها، لأنَّ هذا العمل ليس له أصلٌ في الكتاب والسنَّة، ولم يتَّخذ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم موالدَ لمن قبله من الأنبياء والصالحين، ولم يُؤثَر عن الصحابة والتابعين إحياءُ مثل هذه الموالد والاحتفالُ بها، أي: لم يُنقل عن أهل القرون المفضَّلة إقامةُ هذا العمل، وإنما حدث ذلك في دولة بني عُبَيْدٍ المتسمِّين بالفاطميِّين، وأوَّل من أحدثه المعزُّ لدين الله سنة (362ه) بالقاهرة، واستمرَّ الاحتفال به إلى أن ألغاه الأفضل أبو القاسم أميرُ الجيوش ابن بدرٍ الجمالي، وزير المستعلي بالله العبيدي سنة (488ه)، ثمَّ أعيد الاحتفال مرَّةً ثانيةً بعد وفاة المستعلي سنة (490 ه)(25).
ومعنى ذلك أنَّ هذه الموالد لم تُعرف عند المسلمين قبل القرن الرابع الهجري، ولم يفعله السلف مع قيام المقتضي له وانتفاء المانع، ولو كان هذا خيرًا محضًا أو راجحًا لكان السلف رضي الله عنهم أحقَّ به منَّا، فإنهم كانوا أشدَّ محبَّةً لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وتعظيمًا له منَّا، وهم على الخير أحرص، كما صرَّح بذلك شيخ الإسلام في «الاقتضاء»(26)، علمًا أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ المَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ»(27)، والمهديُّون من الخلفاء لم يفعلوا هذا العمل.
ثمَّ إنَّ الاحتفال بِعِيد ميلاد عيسى عليه السلام ليس من عادات الكفَّار، وإنَّما هو من عباداتهم، كما أفصح عن ذلك ابن القيِّم -رحمه الله- بقوله: «وَمَن خصَّ الأمكنة والأزمنة من عنده بعباداتٍ لأجل هذا وأمثاله؛ كان من جنس أهل الكتاب الذين جعلوا زمانَ أحوال المسيح مواسمَ وعباداتٍ، كيوم الميلاد ويوم التعميد(28) وغير ذلك من أحواله»(29).
وإذا سلَّمْنا -جدلاً- أنه من عاداتهم فقد نُهينا عن التشبُّه بهم وتقليدهم، سواءً في أعيادهم أو في غيرها. ومعلومٌ أنَّ المشابهة إذا كانت في أمورٍ دنيويةٍ فإنها تُورِثُ المحبَّةَ والموالاة، فكيف بالمشابهة في أمورٍ دينيةٍ ؟ فإنَّ إفضاءها إلى نوعٍ من الموالاة أكثرُ وأشدُّ، والمحبَّة والموالاة لهم تنافي الإيمان كما قرَّره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-(30).
- أمَّا مسألة الاقتراض من البنك، فلا يخفى أنَّ المعاملاتِ البنكيةَ وسائرَ المصارف المالية من صناديق الادِّخار وغيرها تقوم على أساس ربا الديون، المتمثِّل في قاعدة: «أَنْظِرنِي أَزِدْكَ»، وهو من ربا النسيئة التي ورد فيها التشديد في الوعيد في قوله تعالى: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ﴾ [البقرة: 279]، والأصل في المسلم الابتعادُ عمَّا حرَّمه الله ورسوله، وأن لا يتعاون إلاَّ على البرِّ والتقوى، وقد يُرخَّص التعامل مع البنك في حالاتٍ ماليةٍ تقتضيها الظروف الاستثنائية دون الصور المحرَّمة كمسألة الاقتراض والضمان وغيرهما، مثلما إذا تعذَّر على التاجر تحويلُ أمواله أو صرفُها، وذلك باتَّخاذ البنك وكيلاً عند الضرورة، فظهر جليًّا فساد مثل هذه الفتوى.
• وأمَّا قول السائل: «إنه يرى الأخذَ بالأيسر من فتاوى أهل العلم مثل فتاوى القرضاوي التي تسهِّل على الناس، بخلاف فتاوى الألباني فإنها متشدِّدةٌ، وفِقْهُه واقفٌ على ظواهر النصوص دون اعتبار المقاصد العامَّة للتشريع والقواعد العامَّة لهذا الدين، وقال في الشيخ الألباني بأنه محدِّثٌ فقط وليس بفقيهٍ، وأنَّ فيه ظاهريةً لأنه لا يرى الأخذَ بالإجماع السكوتيِّ، وغير ذلك من المسائل التي وافق فيها مذهبَ أهل الظاهر، أمَّا أتباعه فيصفون الألبانيَّ بالأعجمي الذي لا يفهم كلامَ العرب»، اه.
فالجواب:
أنَّ الذي ينبغي أن يُعلم أنَّ الأحكام التكليفية، سواءً كانت تحريمًا أو إيجابًا أو ندبًا أو كراهةً مبنيَّةٌ على التكليف بما يطاق فعلُه وتركُه، وهذا مبنيٌّ على التخفيف والتيسير من ناحيةِ أنَّ الله تعالى رفع عنَّا الأغلال التي كانت على من قبلنا، كما أنَّ هذه الأحكامَ -من منظور رفع الحرج- شُرعت تخفيفًا وتيسيرًا على ذي الحاجة والمضطرِّ، ولهذا كانت الشريعة بأحكامها من حرامٍ وحلالٍ مبنيَّةً على التيسير ورفع الحرج عن العباد والتخفيف عنهم، لقوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحجّ: 78]، ﴿يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ﴾ [النساء: 28].
ومِن رفع الحرج في الشريعة رخصةُ القَصْر في السفر، والإفطار في رمضان للمريض، والإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام، وصلاة العاجز عن القيام قاعدًا، وإباحة المحظور للضرورة كما في قوله تعالى: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾ [الأنعام: 119]، أمَّا الاستظهار بحديث: «مَا خُيِّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا»(31)، فإنما يصحُّ فيما إذا كانا جائزين أو حلالين، ولا تخيير بالأيسر إذا كان أحدهما حرامًا والآخَر حلالاً، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: «مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا»، فإنه يرتَّب الإثم على الحرام فلا تخيير. ذلك لأنَّ المعلوم في باب الترجيح من جهة المدلول أو الحكم أنه «يُقَدَّمُ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى التَّحْرِيمِ وَالحَظْرِ عَلَى الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى الإِبَاحَةِ»، وهو ما عليه جماهير أهل العلم، والتحريم يدلُّ على التشديد، وكذلك يُقدَّم الواجب على المندوب وهو أثقل منه، ويُقدَّم الواجب على المكروه وعلى المباح وهو الأثقل، ويُقدَّم التحريم على الواجب، وهو أثقل منه وأغلظ. لكنَّ هذا التشديد والإثقال لا يخرج عن كونه مبنيًّا على التخفيف والتيسير لأنه تكليفٌ يدخل في الطاقة والوسع في الفعل والترك.
- أمَّا اتِّهام الشيخ الألباني -رحمه الله- ووصفُه بالظاهري؛ فإنه معلومٌ من كتاباته ومؤلَّفاته وترجيحاته أنها تدلُّ دلالةً واضحةً على ضعف هذا القول وتفاهته، فإنه لا يخفى أنَّ الظاهرية قد شذَّت في مسائلَ خالفت عمومَ أهل العلم فيها ولا سلف لهم فيها، كمسألة التغوُّط والتبوُّل في الماء الراكد، وخالفوا الجمهورَ في مسائلَ ليس لهم فيها سلفٌ من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم أو من الأئمَّة المعتبَرين. وهذا القسم الثاني لو اجتهد أهل النظر، وانتهى اجتهادهم إلى ما يوجب مخالفةَ الجمهور فيما ذهبوا إليه مع عدم الشذوذ عن أقوال المجموع، ولا الجمود على النصِّ؛ لَما كان صاحب النظر فيها ظاهريًّا ولو وافق أهلَ الظاهر في بعض المسائل، بل يكون مجتهدًا مطلقًا غير منتسبٍ للمذاهب المتبوعة، لأنه إنما أخذ بالدليل، وأخذ من حيث أخذ الأئمَّة المجتهدون(32).
هذا؛ وقد وردت مسائلُ كثيرةٌ خالف فيها الألبانيُّ ابنَ حزمٍ الظاهريَّ، منها: مسألة «الفخذ عورةٌ»، وقد صرَّح الألباني بمخالفته لابن حزمٍ، قال: «خلافًا لِما قعقع حوله ابن حزمٍ»(33).
كما خالفه في مسألة اشتراط المسجد الجامع في الاعتكاف، وفي مسألة الثوب الواسع في الصلاة، وفي مسألة رضاع الكبير، وفي حكم العزل، وفي حكم الاستمناء، وفي مسألة خدمة المرأة زوجَها في بيتها، ووطء الحائض عامدًا أو جاهلاً، وفي مسألة الاستماع إلى آلات الطرب والمعازف، فكيف أنَّ ابن حزمٍ استحلَّ الغناءَ وسماع الآلات وحرَّمه الألباني ؟ وكيف أجاز ابن حزمٍ الطلاقَ الثلاث وقال بوقوعه ثلاثًا ولو كان بكلمةٍ واحدةٍ وحرَّم المرأة على المطلِّق، ولم يَقُلِ الألباني بوقوعها ثلاثًا ؟ فهذه تهمةٌ زائفةٌ لا أساس لها ولا قيمة.
ثمَّ إنَّ الظاهرية ينكرون القياسَ مطلقًا، ولم يصحَّ ذلك عن الألباني، والظاهرية أُخذ عليهم جمودُهم على ظواهر النصوص الشرعية، والألباني -رحمه الله- لم يكن كذلك، بل هي تهمةٌ لا وَزْن لها، إذ المعلوم أنه كان يسلك مذهب أهل العلم في معرفة دلالات النصوص، إمَّا عن طريق جمع الأحاديث والأخبار، والتثبُّت من صحَّة الزيادات المفسِّرة لها في بعض الطرق، ثمَّ إقامة الحجَّة بما يثبت حالَ الاستدلال، وإمَّا عن طريق إظهار المعنى من وجوه دلالات النصوص بالاعتماد على فهم السلف الصالح للمعنى المراد من جملة المعاني، وهذه لا شكَّ مخالِفةٌ تمامًا لمذهب أهل الظاهر، وإمَّا بإعمال ظاهر النصِّ إذا كان معناه بعيدًا وتعذَّر وجود الصارف، وهي طريقة أهل التحقيق كالشافعيِّ وابن القيِّم وابن دقيقٍ وغيرهم، يقول ابن القيِّم -رحمه الله-: «فالواجب حملُ كلام الله تعالى ورسوله، وحملُ كلام المكلَّف على ظاهره الذي هو ظاهره، وهو الذي يُقصد من اللفظ عند التخاطب، ولا يتمُّ التفهيم والفهم إلاَّ بذلك، ومدَّعي غير ذلك على المتكلِّم القاصد للبيان والتفهيم كاذبٌ عليه»(34)، وعليه فإنَّ البقاء على ظواهر النصوص من غير جمودٍ في اتِّباع اللفظ والتقيُّدِ بحرفيَّته وإغفالِ ما ينطوي عليه من معنًى، ومن غير ابتعادٍ عن ظاهر النصوص إلى معنًى بعيدٍ هو ما يقتضيه التحقيقُ ويستوجبه العمل، وضمن هذا المنظور يقول ابن دقيقٍ العيد -رحمه الله تعالى-: «واعلم أنَّ أكثر هذه الأحكام قد تدور بين اعتبار المعنى واتِّباع اللفظ، ولكن ينبغي أن يُنظر في المعنى إلى الظهور والخفاء، فحيث يظهر ظهورًا كثيرًا فلا بأس باتِّباعه وتخصيص النصِّ به أو تعميمه على قواعد القياسيِّين، وحيث يخفى أو لا يظهر ظهورًا قويًّا فاتِّباع اللفظ أَوْلى»(35).
ولا شكَّ أنَّ هذه المسالك في الإمرار على الظاهر هو ما جرى عليه السلف الصالح، لا سيَّما في أبواب الاعتقاد والأسماء والصفات، قال الشافعي -رحمه الله-: «فكلُّ كلامٍ كان عامًّا ظاهرًا في سنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فهو على ظهوره وعمومه حتَّى يُعلم حديثٌ ثابتٌ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم -بأبي هو وأمِّي- يدلُّ على أنه إنما أريد بالجملة العامَّة في الظاهر بعضُ الجملة دون بعضٍ»(36)، والمعروفُ عن الشيخ الألباني -رحمه الله- أنه كان يدعو إلى الدليل الصحيح، وفقهِ الدليل الصحيح. وكان فعلاً محدِّثًا فقيهًا، تشهد له مؤلَّفاته الحديثية والفقهية وفتاويه الغنيَّة بالمسائل الحديثية والفقهية والمنهجية المبنيَّة على مقاصد الشريعة وقواعدها، وهذا ممَّا يدلُّ على فقهه -رحمه الله- وعلمه بأحوال زمانه.
وأمَّا القول بأعجميَّته فهو ليس بدعًا من أولئك الأعاجم حَمَلَة السُّنَّة والإسلام الذين نالوا المنزلةَ العظيمة بالاجتهاد والصبر وكمال اليقين، إذ «بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين» لا بكونه عربيًّا أو أعجميًّا، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24]، ومن أمثال الأعاجم الذين جعل الله عمادَ الناس عليهم في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا: الإمام محمَّد بن إسماعيل البخاري، والإمام مسلم بن الحجَّاج النيسابوري، وكثيرٌ من أهل الحديث كالنسائي والترمذي والحاكم النيسابوري وغيرهم كثيرٌ، الذين كانوا أعاجم نشروا السنَّةَ والإسلام، وهم باقون ما بقي الدهر، «أعيانهم مفقودةٌ، وآثارهم في القلوب موجودةٌ» كما أُثر ذلك عن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه(37).
• هذا، والنصيحة التي يمكن لنا في هذا المقام أن نوجِّهها لمن سلك هذا الطريق أن نقول: إنَّ الواجب عليه أن يظهر بحجمه الحقيقيِّ لا بحجم غيره، فلا يُكثر من المسائل وتشقيقاتها، ولا يُؤجِّج فيها نار الجدل والخصومة، حتَّى يَظنَّ الأتباعُ أنه من أهل العلم فيضلَّهم، «كَالهِرِّ يَحْكِي انْتِفَاخًا صَوْلَةَ الأَسَدِ !»، وما أخطر ذلك، فقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَاِم مَنْ تَبِعَهُ، لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا»(38). فالذي يحكم على نفسه بالتقليد، ويؤصِّل ويقعِّد ويثير الشبه، ويدعو إلى مناهجَ منحرفةٍ بيَّن العلماء خروجَها عن الصراط المستقيم مع أنَّ المقلِّد ليس بعالمٍ اتِّفاقًا، فهو مدَّعٍ يظهر بغير حجمه، ويزن نفسه بميزان أهل العلم والاجتهاد، والواجب عليه أن لا يتكلَّف ما ليس له، لأنَّ «المُتَشَبِّع بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ»(39) كما قال عليه الصلاة والسلام.
وننصحه بالاهتمام البالغ والأكيد بطلب العلم والمزيد فيه، والحرص الدائم عليه، ومجالسة الرجال مع التواضع وخفض الجناح، وأن لا يكتفيَ منه بشذراتٍ ونُتَفٍ، بل الواجب عليه التواصل للوصول، مقرونًا بالصدق مع الله وطيب السريرة، مع سهر الليالي ومعاناة الأيَّام، ليكون القدوةَ في الدين، ومن الدين الاقتداءُ بأهل العلم والعمل والاستقامة في الهدى والسنَّة، إذ لا يكون الإمام إلاَّ بالتقوى، كما هو أحد مطالب عباد الرحمن: ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان: 74]، فالإمامة من حيث حملُ الناس على الخير والصلاح والكمال بالقدوة الصالحة مطلوبةٌ شرعًا، لأنَّ فِعْلَ الخير والاتِّصافَ بالصلاح إنما تكون الدعوة إليهما بالعمل، وهو أبلغ من القول، ومن طلبها من أجل الرئاسة والتصدُّر والتقدُّم على الناس فغيرُ مشروعٍ طلبُه، وهو عمل المتكبِّرين لا عمل المتَّقين.
ثمَّ اعلم أنَّ كلَّ من لم يَقْتَدِ بالسلف الصالح فليس أهلاً أن يُقتَدَى به، وفي هذا المضمون يقول ابن باديس -رحمه الله-: «فكلُّ من اخترع وابتدع في الدين ما لم يعرفه السلف فهو ساقطٌ عن رتبة الإمامة فيه»(40).
فنسأل الله أن يوفِّقنا ويهديَنا إلى سنَّة نبيِّنا إذا اقتدينا وإذا اقتُدِي بنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.


(1) «مبادئ الأصول» لابن باديس بشرح «الفتح المأمول» للمؤلِّف (203).
(2) انظر: «الفقيه والمتفقِّه» للخطيب البغدادي (2/ 68، 69)، «جامع بيان العلم وفضله» لابن عبد البرِّ (2/ 100، 115)، «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (19/ 260، 261)، (20/ 15، 16، 17، 225)، «إعلام الموقِّعين» لابن القيِّم (2/ 187، 188)، «أضواء البيان» للشنقيطي (7/ 486).
(3) «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العزِّ (1/ 228).
(4) انظر: «روضة الناظر» لابن قدامة (2/ 406، 407)، «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (20/ 204، 212)، «مذكِّرة الشنقيطي» (312).
(5) انظر: «إعلام الموقِّعين» لابن القيِّم (4/ 216، 217).
(6) «الإرشاد إلى مسائل الأصول والاجتهاد» (64).
(7) انظر: «إعلام الموقِّعين» لابن القيِّم (4/ 261-262).
(8) أخرجه الحاكم (4/ 457) في «الفتن والملاحم» من طريق درَّاجٍ عن ابن حُجَيْرَة عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال الحاكم: «صحيح الإسناد» ووافقه الذهبي. والحديث ضعَّفه الألباني في «السلسلة الضعيفة» (8/ 191) لأجل درَّاجٍ وهو مختلفٌ فيه.
ثمَّ استقرَّ قوله بعد ذلك على الأخذ برواية درَّاجٍ إلاَّ ما كان عن أبي الهيثم، وهو ما أفصح عنه الذهبي عن أبي داود وغيره. قال الألباني في «السلسلة الصحيحة» (7/ 1383): «وقد كنت ضعَّفتُ حديثه هذا [الحديث رقم (3470)] قديما كالأحاديث الأخرى، ثمَّ ترجَّح عندي قول أبي داود في التفريق بين ما يرويه عن أبي الهيثم فضعيفٌ، وما يرويه عن أبي حجيرة فمستقيمٌ، كما سبق أن بيَّنتُ ذلك، وهذا من روايته عنه والله أعلم». انظر: «السلسلة الصحيحة» تحت رقم (3350، 3470، 3479).
(9) أخرجه البخاري في «أحاديث الأنبياء» باب قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ﴾ (3344)، ومسلم في «الزكاة» (1064)، من حديث أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه.
(10) «فضل علم السلف على علم الخلف» لابن رجب (57- 58).
(11) «جامع بيان العلم وفضله» لابن عبد البرِّ (1/ 18).
(12) المصدر نفسه (2/ 95).
(13) انظر: «الإرشاد إلى مسائل الأصول والاجتهاد» (66).
(14) أخرجه أبو داود في «الأشربة» (3681) باب النهي عن المسكر، والترمذي في «الأشربة» (1865)، باب ما جاء: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ»، وابن ماجه في «الأشربة» (3393) باب: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ»، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، والحديث قال عنه ابن حجر في «التلخيص الحبير» (4/ 143): «رجاله ثقاتٌ»، وصحَّحه الألباني في «إرواء الغليل» (8/ 42).
(15) أخرجه البخاري في «المغازي» باب بعث أبي موسى ومعاذٍ إلى اليمن قبل حجَّة الوداع (4343)، ومسلم في «الأشربة» رقم (1733)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(16) انظر: «إعلام الموقِّعين» لابن القيِّم (3/ 288، 289).
(17) انظر: «لوامع الأنوار البهية» للسفاريني (1/ 20).
(18) «الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمَّة الفقهاء» لابن عبد البرِّ (35)، «ترتيب المدارك» للقاضي عياض (1/ 172).
(19) رواه مسلم في «مقدِّمة صحيحه» (1/ 8).
(20) أخرجه البخاري في «الشهادات» باب لا يشهد على شهادة جَوْرٍ إذا شهد (2652)، ومسلم في «الفضائل» رقم (2533)، من حديث عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه. وله شاهدٌ من حديث النعمان بن بشيرٍ رضي الله عنهما بهذا اللفظ إلاَّ أنه قال ثلاث مرَّاتٍ: «ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»، فأثبت القرن الرابع. [انظر: «السلسلة الصحيحة» للألباني (2/ 320)].
(21) أخرجه بهذا اللفظ: مسلم في «الإمارة» (1920) من حديث ثوبان رضي الله عنه. وأخرجه البخاري في «الاعتصام بالكتاب والسنَّة» باب قول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي..» (7311) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. بلفظ: «لاَ يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ».
(22) أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (20336)، والحاكم (1/ 171) في «المستدرك»، من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، والحديث صحَّحه الألباني في «المشكاة» (1/ 66).
(23) أخرجه أبو داود في «السنَّة» باب في لزوم السنَّة (4607)، والترمذي في «العلم» باب ما جاء في الأخذ بالسنَّة واجتناب البدع (2676)، وغيرهما من حديث العرباض بن سارية، والحديث صحَّحه ابن الملقِّن في «البدر المنير» (9/ 582)، والألباني في «السلسلة الصحيحة» (6/ 526).
(24) لمزيدٍ من التفصيل انظر رسالتنا: «حكم الاحتفال بمولد خير الأنام عليه الصلاة والسلام».
(25) انظر: «الإبداع» لعلي محفوظ (126)، «المواعظ والاعتبار» للمقريزي (1/ 432، 433)، «القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل صلَّى الله عليه وسلَّم» لإسماعيل الأنصاري (68).
(26) انظر: «اقتضاء الصراط المستقيم» لابن تيمية (2/ 123).
(27) تقدَّم تخريجه، انظر الهامش (23).
(28) التعميد أو المعمودية عند النصارى: أن يَغْمِسَ القَسُّ الطفلَ في الماء باسم الأب والابن وروح القدس، ويتلوَ عليه بعض فِقَرٍ من الإنجيل، تعبيرًا عن تطهير النفس من الخطايا والذنوب. وهو آية التنصير عندهم. [انظر: «المعجم الوسيط» (2/ 626)، «المسيحية» لأحمد شلبي (30، 168، 169)].
(29) «زاد المعاد» لابن القيِّم (1/ 59).
(30) انظر: «اقتضاء الصراط المستقيم» (1/ 550).
(31) أخرجه البخاري في «الحدود» باب إقامة الحدود والانتقام لحرمات الله (6786)، ومسلم في «الفضائل» (2327)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(32) () انظر الفتوى (459) الموسومة ب: «في الشذوذ في الفقه» على الموقع الرسمي.
(33) «تمام المنَّة» للألباني (160).
(34) «إعلام الموقِّعين» لابن القيِّم (3/ 108).
(35) «إحكام الأحكام» لابن دقيقٍ (3/ 115).
(36) «الرسالة» للشافعي (341).
(37) أخرجه أبو نعيمٍ في «الحلية» (1/ 80)، والخطيب البغدادي في «الفقيه والمتفقِّه» (198)، وابن عبد البرِّ في «جامع بيان العلم وفضله» (1/ 120).
(38) أخرجه مسلم في «العلم» (2674) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(39) أخرجه البخاري في «النكاح» باب المتشبِّع بما لم ينل وما يُنهى من افتخار الضَّرَّة (5219)، ومسلم في «اللباس والزينة» (2130)، من حديث أسماء بنت أبي بكرٍ رضي الله عنهما. ومعنى الحديث عند العلماء: «المتكثِّر بما ليس عنده بأن يُظهر أنَّ عنده ما ليس عنده يتكثَّر بذلك عند الناس ويتزيَّن بالباطل فهو مذمومٌ كما يُذمُّ من لبس ثوبَيْ زورٍ». [«شرح مسلم للنووي» (14/ 110)].
قال ابن حجر في «الفتح» (9/ 318): «وأمَّا حكم التثنية في قوله (ثوبي زور) فللإشارة إلى أنَّ كذب المتحلِّي مثنى، لأنه كذب على نفسه بما لم يأخذ وعلى غيره بما لم يُعطَ، وكذلك شاهد الزور يظلم نفسه ويظلم المشهود عليه».
(40) «مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير» لابن باديس (320).

عَبِيرُ الإسلام
2015-03-19, 22:24
بسم الله الرّحمن الرّحيم


بارك الله فيكم الأخ الفاضل ياسين ، وأذكّركم بأهميّة نقل اسم صاحب المقال حتّى يحظى بالدّعاء له على مجهوداته .

فمشاركتكم الأولى : مقال للشيخ إبراهيم الفارس ، والنقل كان من الشاملة .

وعنوان الدرس:

مصادر أهل السُنّة والجماعة في التّلقّي


والمشاركة الثانية كان المقال للشيخ أبي عبدالمعز محمد علي فركوس من موقعه الرّسمي .

وعنوان المقال كما أدرجتم :


في بيان خطورة التّأصيل قبل التّأهيل



جزاكم الله خيرًا وأحسن إليكم

الاخ ياسين السلفي
2015-03-19, 22:40
بسم الله الرّحمن الرّحيم


بارك الله فيكم الأخ الفاضل ياسين ، وأذكّركم بأهميّة نقل اسم صاحب المقال حتّى يحظى بالدّعاء له على مجهوداته .

فمشاركتكم الأولى : مقال للشيخ إبراهيم الفارس ، والنقل كان من الشاملة .

وعنوان الدرس:

مصادر أهل السُنّة والجماعة في التّلقّي


والمشاركة الثانية كان المقال للشيخ أبي عبدالمعز محمد علي فركوس من موقعه الرّسمي .

وعنوان المقال كما أدرجتم :


في بيان خطورة التّأصيل قبل التّأهيل



جزاكم الله خيرًا وأحسن إليكم

وفيك بارك الله اختنا الفاضلة شكرا على التذكير
احسن الله اليك

عَبِيرُ الإسلام
2015-03-22, 21:01
آمين...وفّقكم الله للحق والصواب .