اسماعيل 03
2015-03-02, 23:44
: تذكر الموت
" حضرنا يوما جنازة شاب مات أحسن ما كانت الدنيا له ، فرأيت من ذم الناس للدنيا ، و عيب من سكن إليها و التقبيح للغافلين عن الاستعداد لهذا المصرع أمراً كبيراً من الحاضرين .
فقلت : نعم ما قلتم . و لكن اسمعوا مني ما لم تسمعوه .
أعجب الأشياء أن العاقل إذا علم قرب هذا المصرع منه أوجب عليه عقله البدار بالعمل و القلق من الخوف .
وقد اشتد ذلك بأقوام فهاموا في البراري ، و طووا الأيام بالمجاعة ، و داموا على سهر الليل ، و لازموا المقابر ، فهلكوا سريعاً .
و لعمري إن ما خافوه يستحق أكثر من هذا الفعل .
و لكن نرى العقل الذي أوجب هذا القلق قد أمر بما يوجب السكون ، فقال : إنما خلق هذا البدن ليحمل النفس كما تحمل الناقة الراكب .
و لا بد من التلطف بالناقة ليحصل المقصود من السير ، و لا يحسن في العقل دوام السهر و طول القلق ، لأنه يؤثر في البدن فيفوت اكثر المقصود .
كيف و قد خلق بدن الآدمي خلقاً لطيفاً ، فإذا هجر الدسم نشف الدماغ . و إذا دام على السهر قوى اليبس ، و إذا لازم الحزن مرض القلب .
فلا بد من التلطف بالبدن بتناول ما يصلحه ، و بالقلب بما يدفع الحزن المؤذي له .
و إلا فمتى دام المؤذي عجل التلف .
ثم يأتي الشرع بما قد قاله العقل ، فيقول : [ إن لنفسك عليك حقاً و إن لزوجك عليك حقاً ، فصم و أفطر ، و قم و نم ] .
و يقول : [ كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت ] .
و يحث على النكاح و دوام القلق و اليبس يترك الزوجة كالأرملة ، و الولد كاليتيم .
و لا وجه للتشاغل بالعلم مع هذا القلق .
و من أراد مصداق ما قلته ، فاليتأمل حالة الرسول صلى الله عليه و سلم . فإنه كان يعدل ما عنده من الخوف فيمازح ، و يسابق عائشة ، و يكثر من التزوج . و كان يتلطف ببدنه ، فيختار الماء البائت ، و يحب الحلوى و اللحم .
و لولا مساكنة نوع غفلة لما صنف العلماء ، و لا حفظ العلم ، و لا كتب الحديث .
لأن من بقول : ربما مت اليوم كيف يكتب و كيف يسمع و يصنف ،
فلا يهولنكم ما ترون من غفلة الناس عن الموت و عدم ذكره حق ذكره ، فإنها نعمة من الله سبحانه بها تقوم الدنيا و يصلح الدين .
و إنما تذم قوة الغفلة الموجبة للتفرط و الإهمال للمحاسبة للنفس ، وتضييع الزمان في غير التزود ، وربما قويت فحملت على المعاصي .
فأما إذا كانت بقدر كانت كالملح في الطعام لا بد منه، فإن كثر صار الطعام زعافاً .فالغفلة تمدح إذا كانت بقدر كما بينا . و متى زادت وقع الذم .
فافهم ما قلته .
و لا تقل فلان شديد اليقظه ما ينام الليل ، و فلان غافل ينام أكثر الليل ، فإن غفلة توجب مصلحة البدن و القلب لا تذم ، و السلام ."
*************************
*************************
ضع الموت نصب عينيك
" الواجب على العاقل أخذ العدة لرحيله ، فإنه لا يعلم متى يفجؤه أمر ربه ، و لا يدري متى يستدعى ؟
و إني رأيت خلقاً كثيراً غرهم الشباب ، و نسوا فقد الأقران ، و ألهاهم طول الأمل .
و ربما قال العالم المحض لنفسه : أشتغل بالعلم اليوم ثم أعمل به غداً ، فيتساهل في الزلل بحجة الراحة ، و يؤخر الأهبة لتحقيق التوبة ، و لا يتحاشى من غيبة أو سماعها ، و من كسب شبهة يأمل أن يمحوها بالورع .
و ينسى أن الموت قد يبغت . فالعاقل من أعطى كل لحظة حقها من الواجب عليه ، فإن بغته الموت رؤى مستعداً ، و إن نال الأمل ازداد خيراً ."
****************
****************
الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا
" من أظرف الأشياء إفاقة المحتضر عند موته ، فإن ينتبه إنتباهاً لا يوصف ، و يقلق قلقاً لا يحد و يتلهف على زمانه الماضي .
و يود لو ترك كي يتدارك ما فاته ، و يصدق في توبته على مقدار يقينه بالموت و يكاد يقتل نفسه قبل موتها بالأسف .
و لو وجدت ذرة من تلك الأحوال في أوان العافية حصل كل مقصود من العمل بالتقوى .
فالعاقل من مثل تلك الساعة و عمل بمقتضى ذلك .
فإن لم يتهيأ تصوير ذلك على حقيقته تخايله على قدر يقظته .
فإنه يكف كف الهوى ، و يبعث على الجد .
فأما من كانت تلك الساعة نصب عينيه ، كان كالأسير لها .
كما روي عن حبيب العجمي إنه كان إذا أصبح يقول لإمرأته : إذا مت اليوم ففلان يغسلني ، و فلان يحملني .
و قال معروف لرجل صل بنا الظهر ، فقال : إن صليت بكم الظهر لم أصل بكم العصر .
فقال : و كأنك تؤمل أن تعيش إلى العصر ، نعوز با الله من طول الأمل .
و ذكر رجل رجلاً بين يديه بغيبة ، فجعل معروف يقول له : أذكر القطن إذا و ضعوه على عينيك ."
*************************
*************************
صيد الخاطر لابن الجوزي
" حضرنا يوما جنازة شاب مات أحسن ما كانت الدنيا له ، فرأيت من ذم الناس للدنيا ، و عيب من سكن إليها و التقبيح للغافلين عن الاستعداد لهذا المصرع أمراً كبيراً من الحاضرين .
فقلت : نعم ما قلتم . و لكن اسمعوا مني ما لم تسمعوه .
أعجب الأشياء أن العاقل إذا علم قرب هذا المصرع منه أوجب عليه عقله البدار بالعمل و القلق من الخوف .
وقد اشتد ذلك بأقوام فهاموا في البراري ، و طووا الأيام بالمجاعة ، و داموا على سهر الليل ، و لازموا المقابر ، فهلكوا سريعاً .
و لعمري إن ما خافوه يستحق أكثر من هذا الفعل .
و لكن نرى العقل الذي أوجب هذا القلق قد أمر بما يوجب السكون ، فقال : إنما خلق هذا البدن ليحمل النفس كما تحمل الناقة الراكب .
و لا بد من التلطف بالناقة ليحصل المقصود من السير ، و لا يحسن في العقل دوام السهر و طول القلق ، لأنه يؤثر في البدن فيفوت اكثر المقصود .
كيف و قد خلق بدن الآدمي خلقاً لطيفاً ، فإذا هجر الدسم نشف الدماغ . و إذا دام على السهر قوى اليبس ، و إذا لازم الحزن مرض القلب .
فلا بد من التلطف بالبدن بتناول ما يصلحه ، و بالقلب بما يدفع الحزن المؤذي له .
و إلا فمتى دام المؤذي عجل التلف .
ثم يأتي الشرع بما قد قاله العقل ، فيقول : [ إن لنفسك عليك حقاً و إن لزوجك عليك حقاً ، فصم و أفطر ، و قم و نم ] .
و يقول : [ كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت ] .
و يحث على النكاح و دوام القلق و اليبس يترك الزوجة كالأرملة ، و الولد كاليتيم .
و لا وجه للتشاغل بالعلم مع هذا القلق .
و من أراد مصداق ما قلته ، فاليتأمل حالة الرسول صلى الله عليه و سلم . فإنه كان يعدل ما عنده من الخوف فيمازح ، و يسابق عائشة ، و يكثر من التزوج . و كان يتلطف ببدنه ، فيختار الماء البائت ، و يحب الحلوى و اللحم .
و لولا مساكنة نوع غفلة لما صنف العلماء ، و لا حفظ العلم ، و لا كتب الحديث .
لأن من بقول : ربما مت اليوم كيف يكتب و كيف يسمع و يصنف ،
فلا يهولنكم ما ترون من غفلة الناس عن الموت و عدم ذكره حق ذكره ، فإنها نعمة من الله سبحانه بها تقوم الدنيا و يصلح الدين .
و إنما تذم قوة الغفلة الموجبة للتفرط و الإهمال للمحاسبة للنفس ، وتضييع الزمان في غير التزود ، وربما قويت فحملت على المعاصي .
فأما إذا كانت بقدر كانت كالملح في الطعام لا بد منه، فإن كثر صار الطعام زعافاً .فالغفلة تمدح إذا كانت بقدر كما بينا . و متى زادت وقع الذم .
فافهم ما قلته .
و لا تقل فلان شديد اليقظه ما ينام الليل ، و فلان غافل ينام أكثر الليل ، فإن غفلة توجب مصلحة البدن و القلب لا تذم ، و السلام ."
*************************
*************************
ضع الموت نصب عينيك
" الواجب على العاقل أخذ العدة لرحيله ، فإنه لا يعلم متى يفجؤه أمر ربه ، و لا يدري متى يستدعى ؟
و إني رأيت خلقاً كثيراً غرهم الشباب ، و نسوا فقد الأقران ، و ألهاهم طول الأمل .
و ربما قال العالم المحض لنفسه : أشتغل بالعلم اليوم ثم أعمل به غداً ، فيتساهل في الزلل بحجة الراحة ، و يؤخر الأهبة لتحقيق التوبة ، و لا يتحاشى من غيبة أو سماعها ، و من كسب شبهة يأمل أن يمحوها بالورع .
و ينسى أن الموت قد يبغت . فالعاقل من أعطى كل لحظة حقها من الواجب عليه ، فإن بغته الموت رؤى مستعداً ، و إن نال الأمل ازداد خيراً ."
****************
****************
الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا
" من أظرف الأشياء إفاقة المحتضر عند موته ، فإن ينتبه إنتباهاً لا يوصف ، و يقلق قلقاً لا يحد و يتلهف على زمانه الماضي .
و يود لو ترك كي يتدارك ما فاته ، و يصدق في توبته على مقدار يقينه بالموت و يكاد يقتل نفسه قبل موتها بالأسف .
و لو وجدت ذرة من تلك الأحوال في أوان العافية حصل كل مقصود من العمل بالتقوى .
فالعاقل من مثل تلك الساعة و عمل بمقتضى ذلك .
فإن لم يتهيأ تصوير ذلك على حقيقته تخايله على قدر يقظته .
فإنه يكف كف الهوى ، و يبعث على الجد .
فأما من كانت تلك الساعة نصب عينيه ، كان كالأسير لها .
كما روي عن حبيب العجمي إنه كان إذا أصبح يقول لإمرأته : إذا مت اليوم ففلان يغسلني ، و فلان يحملني .
و قال معروف لرجل صل بنا الظهر ، فقال : إن صليت بكم الظهر لم أصل بكم العصر .
فقال : و كأنك تؤمل أن تعيش إلى العصر ، نعوز با الله من طول الأمل .
و ذكر رجل رجلاً بين يديه بغيبة ، فجعل معروف يقول له : أذكر القطن إذا و ضعوه على عينيك ."
*************************
*************************
صيد الخاطر لابن الجوزي