المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : في استقبال رمضان


سلسبيل
2007-09-14, 08:11
في استقبال رمضان

الحمد لله يسر على عباده بشريعة أبي القاسم ، وجعل فيها للخير وللجود والبر خيرَ المواسم . أحمده سبحانه ، حمد من بات لربه بين تال وذاكر، أو ساجد وقائم . وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، فَضَلَ ريحَ المسك عنده خُلوفُ فم الصائم ، فهو الذي يتولى جزاءه في يوم تنشر فيه الدواوين ، وترد فيه المظالم . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، خير خلقه ، وصفوة أنبيائه ، ورسوله إلى الناس كافة ، عربِهم والأعاجم . صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، ذوي الفضل والجود والجهاد والمكارم ، وسلم تسليما . أما بعد ،،، فاتقوا الله أيها المسلمون ، واعتصموا بحبله ، وتوبوا إليه لعلكم تفلحون . معاشر المسلمين : من سنة الله في الخليقة تعاقب الليالي والأيام ، وما تحمله من آمال وآلام ، ما تلبث أن تصير بعد الحقيقة حديثا وذكرى ، وما بقي منها يقرب من الحقيقة الكبرى ، الموت ، أول منازل الدار الأخرى . والكيس من حزم أمره فاتقى الله حق تقاته ، وذكره وتقرب إليه في جميع أحواله ، وسائر أوقاته ، واستعد ليوم لا بد آت ، ذلكم هو آخر يوم في حياته ، فحزم أمره ، وجمع فكره ، ونقل زادا من العمل الصالح ، ينتفع به بعد مماته . وإن الكيس من يزداد في مواسم الخير تقربا وطاعة ، لعلمه شدة حاجته لما يثقل ميزانه يوم تقوم الساعة ، فينتهز موسم الخير فيكثر فيه من خزن البضاعة ، ويعوض فيه ما فات من وقت في غير الخير أضاعه . فيشتري نفسه في الدنيا بصالح الأعمال ، فدية لها وعصمة مما ستواجهه من فتن وأهوال ، أهونها الموت ، فكيف بما بعده من صعق وزلزال ؟ دع عنك انفطار السماء ودكدكة الجبال ، فما بين عينيه صورته وهو موقوف بين يدي الكبير المتعال ، فأيمن منه ، النار ، وأشأم منه ، النار ، وبين يديه النار ، فلا منقذ له من سلاسلها والأغلال ، إلا صلاة وصيام وحج وبر وصلة ودعاء وابتهال . أيها المسلمون : رمضان ، يوشك أن نستقبل أيامه ، وننصب خيامه ، ونطرد عن قلوبنا الملل والسآمة ، ونعيش الأمل بعتق من النار ، وبموفور السعادة والكرامة . فما هي إلا أيام قليلة ، وتظلنا أيام فضيلة ، ونسائم عليلة ، تحمل الرحمة والمغفرة ، والعطايا الجزيلة . بعد أيام ستفتح أبواب الجنان ، وينادى : يا باغي الخير أقبل . بعد أيام تغلق أبواب النار وينادى : يا باغي الشر أقصر . بعد أيام : يعتق في كل ليلة عتقاء من النار . وتنشر على الصائمين والقائمين رحمة الرحيم الغفار . بعد أيام : ندرك من الله نعمة ، ما أجلها من نعمة ، وتيسر لنا فرصة ، ما أعظمها من فرصة ، بلوغ رمضان ، تدركه وأنت آمن في سربك ، معافا في بدنك ، عندك قوت يومك ، فهي نعمة عظيمة ، ومنة جسيمة ، من فاتته فما أعظم خسارته ! وما أكسد تجارته ! نص على ذلك حبيبنا وقرة أعيننا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم إذ قال : من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله قل آمين ، فقلت : آمين . أخرجه أحمد ، والترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب . والحاكم وصحح ، ووافقه الذهبي . أيها الأحبة : إن من أهم ما يستقبل به الضيف بشاشة الوجه ، وطلاقة المحيا ، والسعادة الغامرة بقدومه ، وانشراح الصدر به ، وبذل ما يمكن بذله في الاستعداد احتفاء بقدومه ، وفرحة ببلوغه . وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه . وما من ضيف ينزل بمسلم أفضل من رمضان . فأكرمه أخي الحبيب بما يليق به من إكرام . فما يحمله لك من البشائر والعطايا شيء جزيل ، لو أفنيت عمرك كله في نيله فما أنت بمغبون ، ولا بخاسر . هو شهر البركة ، والرحمة ، تحط فيه الخطايا ، ويستجاب فيه الدعاء ، ينظر الرب تعالى إلى التنافس فيه ، ويباهي بالمتنافسين فيه الملائكة ، فالشقي كل الشقاء من حرم رحمة الله ، ولم يكتب في سجل العتقاء . إن شهر رمضان يحمل معه الهدايا للطائعين ، والبشر والخير للناس أجمعين . فهو شهر الطاعات بأنواعها ، صيام بالنهار ، وقيام بالليل ، وتهجد بالأسحار . ترتيل لكتاب الله ، وجود على عباد الله ، وتسبيح وأذكار . فهو بحق سيد الشهور ، فأهلا به ومرحبا . يفرح بقدومه الصالحون ، ويبتهج بإدراكه العابدون . يشترك في البهجة به والسرور ، الفقراء والأغنياء ، على حد سواء . إذ فيه يزداد إيمانهم ، وتقوى في الطاعة عزائمهم ، وتخشع بكتاب الله قلوبهم ، وتدمع تأثرا بآياته عيونهم . فيدعون ما يشتهون ، ويصبرون على ما يكرهون . ويترقبون ساعة الفطر ، فيفرحون ، بصيامهم ، وبفطرهم ، فيؤملون . فلا تعجب من قول الحق تبارك وتعالى في الحديث القدسي : كل عمل ابن آدم له إلا الصيام ، فإنه لي ، وأنا أجزي به . متفق عليه . وفي رواية لمسلم : يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ، الصيام لي ، وأنا أجزي به . فيا مسلم ، يا عبدالله ، الملكُ القدوسُ السلامُ ، يتولى جزاء صيامك ، ولم يحدد لك من جزائك شيئا ، وهو الكريم ، الجواد الرحيم ، فدع لنفسك أن تذهب كل مذهب تتخيل فيه ما ستناله من صيامها ، فوالله لن تستطيع أن تتخيله ، أو أن تتصوره ، فعدها بوعده ، وذكرها بجوده وفضله ، وقل لها : يقول الملك : الصيام لي وأنا أجزي به ، الصيام لي وأنا أجزي به . فأبشري بخير جزاء ، واسأليه بصيامك ابتغاء وجهه ، أن يمن عليك فلا يحرمك رؤية وجهه . فاصبري يا نفس مع الصابرين ، واركعي مع الراكعين ، وارفعي اليدين مع الداعين ، ففي الصيام يقول الحق تبارك وتعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ، وفي الصيام يقول الكريم ، السميع المجيب : وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان . وفي الصيام يقول الكريم المنان : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم . وفي الصيام يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا . متفق عليه . فيا لله كم سيبعد وجه من صام رمضان وأتبعه بست من شوال . وفي الصيام يقول الحبيب عليه الصلاة والسلام : من صام رمضان إيمانا واحتسابا ، غفر له ما تقدم من ذنبه . متفق عليه . وللصائمين ليس إلا ، باب خاص من أبواب الجنة ، يقال له الريان ، يدخل منه الصائمون ، جعلني الله وإياكم منهم . لا يدخل منه أحد غيرهم ، يقال : أين الصائمون ؟ فيقومون ، لا يدخل منه أحد غيرهم ، فإذا دخلوا أغلق ، فلم يدخل منه أحد . متفق عليه . أيها المسلمون : فرحة رمضان تغمرنا لكثرة مسابقاته ، ومنافساته ، مسابقات للصائمين ، ومنافسات بين القائمين ، ودندنة للمرتلين ، فشارك مع المشاركين ، ودع عنك اللهو واللغو والعبث مع العابثين . إن كثيرا من المسلمين ، هداهم الله ، يستقبلون رمضان بالاستعداد بتسجيل أوقات عرض المسلسلات ، والمسابقات ، فيمضي ليلهم بعد فطرهم بمشاهدة هذه وتلك من القنوات ، والتسوق وشراء الأكل والملبوسات . فلا صيامهم حفظوا ، ولا بصلاتهم قاموا . فما أقربهم من أن ترغم أنوفهم ، يوم لا ينفع مال ولا بنون ، فإن المحروم من حرم رحمة الله في وقتها ، وعرضت عليه بأبخس الأثمان فأعرض عنها وعافها . فبكم تشتري مقعدك من الجنة ؟ وبكم تبيع مقعدك من النار ؟ لو ربحت مسابقات الدنيا كلها ، وخسرت مكانك في الجنة فوالله إن ذلك لهو الخسران المبين . فوالله لموضع السوط من أحدنا في الجنة خير من الدنيا وما عليها . إن أناسا تخاط أكفانهم بين يومنا هذا وبين رمضان ! فهل تأمن أن تكون منهم ؟ وإن بلغت رمضان فهل تضمن أن تكمل أيامه ؟ أو أن تكمل صيامه وقيامه ؟ وإن أكملتها فهل تضمن أن تعود إليه عامك القادم ؟ وهب أن أدركت عشرين أو ثلاثين رمضان قادمة ، لم تتب فيها ولم تعمل صالحا في أيامها فهي عليك حسرة ، وعليك حجة ، وعليك شهيدة ، وفي النهاية ستحمل على الأكتاف يوما ، تتمنى فيه ركعة أو ركعتين ، تسبيحة أو تسبيحتين !!! فعلام التسويف ، وأنت ترى الناس في كل يوم ينعون قريبا أو حبيبا ؟ فعلام التسويف ، وأنت ترى عامنا هذا قد انصرم كأحلام ليل ، لم يبق منه إلا الذكريات ، وآلاما تجرعناها ، وآمالا سعدنا بها ، فما لبثت أن صارت أحاديث . وتأمل يا رعاك الله قول ربك تبارك وتعالى : أفرأيت إن متعناهم سنين ، ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ، ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون . فإذا مد الله أجلك ، وبلغك رمضان فما عساك فاعل ؟ وما الذي ستملي في أيامه ولياليه على الملكين ؟ أغنية وتمثيلية ؟ مسابقة وأمسية شعرية ؟ ألا فاتق الله عبدالله ، واستعد لرمضان بحسن الاستقبال ، بنية صادقة ، وعزم أكيد على شغل أوقاتك بما يفيد ، صلاة وصياما ، برا وصلة ، صدقة ودعاء ، تلاوة وذكرا . فرحمة الله قريب من المحسنين . بعيد من المعرضين . والراحة لا تنال بالراحة . ولا يمكن أن تصل إلى الجنة العليا إلا بالنصب والتعب ، ومن طلب عظيما بذل في ذلك نفسه ومهجته ، ألا إن سلعة الله غالية ، ألا إن سلعة الله الجنة . وقد قيل لأهلها : كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية . وقيل لهم : سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون . وقيل لهم : هل جزاء الإحسان إلا الإحسان . فلا تغتر بكثرة الهالكين ، ولا بكثرة المعرضين ، الذين أطلقوا لنفوسهم العنان ، تتبع غرائزها ، وتعبد هواها ، مكاسبهم وقود شهواتهم ، وغفلتهم حطب ملذاتهم ، ولكن : ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل ، فسوف يعلمون . فلا تكن منهم ، ولا معهم ، ولا فيهم ، ولكن كن راشدا تقيا ، راضيا مرضيا ، ساعيا في طاعة ربك ما دمت حيا ، فهي زادك قبل أن تموت ، وتكون نسيا منسيا . أيها المسلمون : في رمضان يكثر الناس من الموائد ، وصنوف المطاعم والمشارب ، ويقضي الكثير من الناس نهارهم نائمين ، وليله هائمين ، تمر بهم الأوقات بين البيع والشراء ، والأسهم والبناء ، فشغلتهم دنياهم عن دينهم ، وفاتهم أعظم حبل ينجيهم من الموبقات ، وهول الوقوف في العرصات ، وفوتت عليهم فرصة التعرض للنفحات ، والعتق من النار ، والفوز بالدرجات العلى من الجنات . فيا له من محروم ، ويا له من مغبون من كان هذا حاله . فاحذر كل الحذر أن تكون من الغافلين ، وممن أهمل نفسه فلم يكرمها بكرامة رمضان ، ولم يرغم أنفه بالسجود للملك الديان ، فأصبح يقلب كفيه على ما فاته من الأجر العظيم ، وما ناله من ثبور وخسران . طوبى لمن لداعي ربه أجاب ، وعمل صالحا فأصاب ، وتعرض للرحمة ففتح له الباب . وويل لمن أدرك رمضان فخرج فلم يغفر له ولم يعتق من النار ، بل كان رمضان زادا له إلى النار ، وما أعظم خسارته إن كان ممن صام فلم يكن له من صيامه إلا الجوع والعطش ، وقام فلم يكن له من قيامه إلا التعب والسهر ، فيا ذا الجود والإحسان ، يا كريم يا منان ، بلغنا رمضان ، واجعلنا ممن صامه وقامه إيمانا واحتسابا ، ولا تحرمنا فيه من فضلك ، وأعتقنا فيه من النار . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، فمن شهد منكم الشهر فليصمه ، ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون . بارك الله لي ولكم .... الخطبة الثانية : الحمد لله ، حمدا كثيرا طيبا كما أمر ... وبعد ، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا ، فهي غاية العبادات ، وسبب دخول الجنات ، ومنقذة المرء من الهلاك ، والوقوع في الدركات. عباد الله : إن الصيام جنة ، وسبب موصل إلى الجنة . وبلوغ رمضان فضل من الله ومنة ، فيجب تقبلها بالشكر والثناء ، والبذل والعطاء ، بنفوس صابرة ، محتسبة ، شاكرة مطمئنة . ها هو من قد طال غيابه ، قد قرب إيابه ، فيوشك أن تخشع القلوب ، فتنيب لربها وتتوب ، فتغفرَ الذنوب ، وتسترَ العيوب . في رمضان يفتح الباب للطالبين ، وتعد المنازل للراغبين ، ويعتق من النار كثير من المسلمين ، وتصفد مردة الشياطين ، فغيوم الغفلة تكاد أن تقشع ، والعيون من خشية الرحمن تدمع ، وقلوب المشفقين تلين وتخشع ، والمؤمن بغير جنة الفردوس لا يرضى أو يقنع ، فلهذا روض نفسه ، فترك شهوته ، وزم نفسه ، وعن معصية الله أقلع . وأمضى نهاره بالصوم ، وليله يمضي وهو يسجد ويركع . ويدعو ويبتهل ويخضع . يمني النفس بفرحتيها ، فقد علم بنص حبيبه صلى الله عليه وسلم أنه : للصائم فرحتان ، فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه . فما أعظم الفرح حين تلقى مولاك وهو عنك راض ، وهو يعلم أنك جعت فلم تأكل ، وأنت قادر على أن تأكل ، وعطشت فلم تشرب ، وأنت قادر على أن تشرب ، ولكنك راقبته ، وعلمت أنه عليك رقيب ، وحسيب ، فتركت ذلك من أجله ، فقال لك : الصيام لي وأنا أجزي به ، فتولى بنفسه جزاءك ، وترك له لا لغيره ثوابك وعطاءك ، فأبشر وأمل ، وحلق بروحك مع أهل السماء : يسبحون الليل والنهار لا يفترون . وتب إلى الله توبة نصوحا ، واعقد العزم على فعل الفضيلة ، وترك الرذيلة ، وصم بحسك عن المفطرات ، ومعنويا بترك المنكرات . فإن من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه . فيا مولانا ، يا ذا الحول والطول ، يا من لا يبدل لديه القول ، متعنا بما بقي من شعبان ، وبلغنا رمضان ، واجعلنا ممن كتبت لهم العتق من النيران ، والفوز بالدرجات العلى من الجنان ، فنالوا الزيادة ، وحل عليهم الرضوان . هذا وصلوا على الحبيب ، لعله أن يكون لكم شفيعا ،،، إن الله وملائكته ....