عَبِيرُ الإسلام
2015-02-19, 11:52
بسم الله الرّحمن الرّحيم
السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
http://im43.gulfup.com/E1CPJg.png
القول الوجيز السّليم في وصف الصّراط المستقيم
قال ابن القيم رحمه اللّه تعالى:
ولنذكر في الصّراط المستقيم قولاً وجيزًا، فإن الناس قد تنوّعت عباراتهم عنه، وترجمتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته، وحقيقته شيء واحد وهو طريق اللّه الذي نصبه لعباده موصلاً لهم إليه، ولا طريق إليه سواه، بل الطّرق كلّها مسدودة على الخلق إلاّ طريقه الذي نصبه على ألسن رسله، وجعله موصلاً لعباده إليه، وهو إفراده بالعبودية وإفراد رسوله بالطّاعة، فلا يشرك به أحد في عبوديته، ولا يشرك برسوله أحد في طاعته، فيجرّد التّوحيد، ويجرّد متابعة الرسول ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ
وهذا معنى قول بعض العارفين: إنّ السّعادة كلّها والفلاح كلّه مجموع في شيئين: صِدْقُ مَحَبَّة، وحُسْنُ مُعَامَلَة.
وهذا كلّه مضمون شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدًا رسول اللّه.
فأيّ شيء فسّر به الصّراط المستقيم، فهو داخل في هذين الأصلين.
ونكتة ذلك أن تحبّه بقلبك كلّه، وترضيه بجهدك كلّه، فلا يكون في قلبك موضع إلاّ معمور بحبّه، ولا يكون لك إرادة إلاّ متعلّقة بمرضاته، فالأوّل يحصل بتحقيق شهادة أن لا إله إلا اللّه، والثاني يحصل بتحقيق شهادة أن محمدًا رسول اللّه، وهذا هو الهدى ودين الحق، وهو معرفة الحق والعمل به، وهو معرفة ما بعث اللّه به رسوله والقيام به، فقل ما شئت من العبارات التي هذا آخيَّتُها وقطب رحاها.
المصدر:
كتاب تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد
للشيخ العلامة : سلميان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله
ص 63
http://im78.gulfup.com/5c0Xaf.png
فوائد وأسرار من فاتحة الكتاب
الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى
قال شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله ورضي عنه بمنّه وكرمه:
اعلم أرشدك الله لطاعته، وأحاطك بحياطته، وتولاك في الدنيا والآخرة: أن مقصود الصلاة وروحها ولبّها، هو إقبال القلب على الله تعالى فيها، فإذا صلّيت بلا قلب فهي كالجسد الذي لا روح فيه.
إذا فهمت ذلك، فافهم نوعا واحداً من الصلاة، وهو قراءة الفاتحة، لعلّ الله أن يجعل صلاتك في الصلوات المقبولة المضاعفة، المكفّرة للذنوب.
ومن أحسن ما يفتح لك الباب في فهم الفاتحة، حديث أبي هريرة الذي في صحيح مسلم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل.
فإذا قال العبد: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قال الله: حمدني عبدي،
فإذا قال: { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قال الله: أثنى علي عبدي،
فإذا قال: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قال الله: مجّدني عبدي،
فإذا قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قال الله: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل،
فإذا قال: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } قال الله: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل".
فإذا تأمّل العبد هذا، وعلم أنّها نصفان: نصف لله، وهو أوّلها إلى قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ونصف للعبد دعاء يدعو به لنفسه، وتأمّل أنّ الذي علّمه هذا هو الله تعالى، وأمره أن يدعو به، ويكرّره في كل ركعة، وأنّه سبحانه من فضله وكرمه ضمن إجابة هذا الدّعاء إذا دعاه بإخلاص وحضور قلب، تبيّن له ما أضاع أكثر الناس.
قد هيّأُوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
وها أنا أذكر لك بعض معاني هذه السورة العظيمة، لعلّك تصلّي بحضور قلب، ويعلم قلبك ما نطق به لسانك؛ لأنّ ما نطق به اللسان ولم يعقد عليه القلب ليس بعمل صالح، كما قال تعالى: { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ }
وأبدأ بمعنى الإستعاذة، ثم البسملة، على طريق الإختصار والإيجاز.
فمعنى: {أعوذ بالله من الشيطان الرجيم}:
ألوذ بالله وأعتصم بالله، وأستجير بجنابه من شرّ هذا العدو، أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه، لأنه أحرص ما يكون على العبد، إذا أراد عمل الخير، من صلاة أو قراءة أو غير ذلك، وذلك أنه لا حيلة لك في دفعه إلا بالاستعاذة بالله، لقوله تعالى: { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ }؛ فإذا طلبت من الله أن يعيذك منه، واعتصمت به، كان هذا سببا في حضور القلب. فاعرف معنى هذه الكلمة، ولا تقلها باللسان فقط، كما عليه أكثر الناس.
وأما البسملة: فمعناها:
أدخل في هذا الأمر من قراءة أو دعاء أو غير ذلك { بِسْمِ اللَّهِ }، لا بحولي ولا بقوّتي، بل أفعل هذا الأمر مستعينا بالله، متبرّكا باسمه تبارك وتعالى، هذا في كل أمر تسمّي في أوّله، من أمر الدّين أو أمر الدنيا.
فإذا أحضرت في نفسك: أنّ دخولك في القراءة بالله، مستعينا به، متبرّئا من الحول والقوّة، كان هذا أكبر الأسباب في حضور القلب، وطرد الموانع من كل خير.
{ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }:
اسمان مشتقان من الرحمة، أحدهما أبلغ من الآخر، مثل: العلام والعليم، قال ابن عباس: "هما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر"، أي: أكثر من الآخر رحمة.
وأما الفاتحة، فهي سبع آيات: ثلاث ونصف لله، وثلاث ونصف للعبد؛
فأوّلها: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }:
الألف واللام في قوله: { الْحَمْدُ } للاستغراق، أي: جميع أنواع الحمد لله لا لغيره، فأما الذي لا صنع للخلق فيه، مثل خلق الإنسان، وخلق السمع والبصر، والسماء والأرض، والأرزاق، وغير ذلك: فواضح.
وأما ما يحمد عليه المخلوق، مثل ما يثنى به على الصالحين والأنبياء المرسلين، وعلى مَن فعل معروفا، خصوصا إن أسداه إليك، فهذا كلّه لله أيضا، بمعنى أنهّ خلق ذلك الفاعل، وأعطاه ما فعل به ذلك، وحبّبه إليه وقوّاه عليه، وغير ذلك من إفضال الله الذي لو يختل بعضها، لم يحمد ذلك المحمود، فصار الحمد كلّه لله بهذا الاعتبار.
وأما قوله: { لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
فالله عَلَمٌ على ربّنا تبارك وتعالى، ومعناه: الإله، أي: المعبود، لقوله: { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ } أي: المعبود في السماوات، والمعبود في الأرض.
وأمّا الربّ، فمعناه: المالك المتصرّف،
وأمّا{ الْعَالَمِينَ } فهو اسم لكل ما سوى الله تبارك وتعالى؛ فكل ما سواه من ملك ونبي، وإنسي وجني وغير ذلك، مربوب مقهور يتصرّف فيه، فقير محتاج، كلّهم صامدون إلى واحد لا شريك له في ذلك، وهو الغني الصّمد.
وذكر بعد ذلك: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ }، وفي قراءة أخرى { مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ } فذكر في أوّل هذه السورة، التي هي أوّل المصحف، الألوهية والرّبوبية والملك، كما ذكره في آخر سورة في المصحف { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ } : فهذه ثلاثة أوصاف لربّنا تبارك وتعالى، ذكرها مجموعة في موضع واحد في أوّل القرآن، ثم ذكرها مجموعة في موضع واحد، في آخر ما يطرق سمعك من القرآن، فينبغي لمن نصح نفسه أن يعتني بهذا الموضع، ويبذل جهده في البحث عنه، ويعلم أنّ العليم الخبير، لم يجمع بينهما في أوّل القرآن، ثم في آخره إلاّ لما يعلم من شدّة حاجة العباد إلى معرفتها، ومعرفة الفرق بين هذه الصّفات، فكلّ صفة لها معنى غير معنى الصّفة الأخرى، كما يقال: محمد رسول الله، وخاتم النبيين، وسيّد ولد آدم، فكل وصف له معنى غير ذلك الوصف الآخر.
إذا عرفت: أن معنى "الله" هو الإله، وعرفت أن الإله هو المعبود، ثم دعوت الله، أو ذبحت له، أو نذرت له، فقد عرفت أنّه الله، فإن دعوت مخلوقا طيّبا أو خبيثا، أو ذبحت له أو نذرت له، فقد زعمت أنّه هو الله...
وأمّا "الربّ" فمعناه: المالك المتصرّف، فالله تعالى مالك كل شيء، وهو المتصرّف فيه، وهذا حق، ولكن أقر به عبّاد الأصنام الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكر الله عنهم في القرآن في غير موضع، كقوله تعالى: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية : 31]
فَمَنْ دعا الله في تفريج كربته وقضاء حاجته، ثم دعا مخلوقا في ذلك، فقد أقرّ له بالرّبوبية ولم يقرّ لله بأنّه ربّ العالمين، بل جحد بعض ربوبيته. فرحم الله عبدا نصح نفسه، وتفطن لهذه المهمات ...
وأما " الملك " فيأتي الكلام عليه؛ وذلك أن قوله: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } وفي القراءة الأخرى { مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ } فمعناه عند جميع المفسّرين كلّهم، فسّره الله في قوله: { وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ }
وتضمّنت هذه الثلاث الآيات ثلاث مسائل:
الآية الأولى: فيها المحبّة؛ لأنّ الله مُنْعِم، والمُنْعِم يُحَبُ على قدر إنعامه؛ والمحبّة تنقسم إلى أربعة أنواع:
-محبّة شركية، وهي محبّة الذين قال الله فيهم: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } إلى قوله: { وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ }.
-المحبّة الثانية: حب الباطل وأهله، وبغض الحق وأهله، وهذه صفة المنافقين.
-والمحبة الثالثة: طبيعية، وهي محبّة المال والولد، فإذا لم تشغل عن طاعة الله، ولم تعن على محارم الله، فهي مباحة.
-والمحبة الرابعة: حب أهل التّوحيد، وبغض أهل الشِّرْك، وهي أوثق عرى الإيمان، وأعظم ما يعبد بها الإنسان ربه.
الآية الثانية: فيها الرجاء.
والآية الثالثة: فيها الخوف.
وأما قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }،
أي: أعبدك يا ربّ بما مضى بهذه الثلاث، بمحبّتك ورجائك وخوفك وهذه الثلاث أركان العبادة، وصرفها لغير الله شرك.
فالعبادة: كمال المحبّة، وكمال الخضوع والخوف والذل، وقدم المفعول وهو إيّاك، وكرر للاهتمام والحصر، أي: لا نعبد إلاّ إيّاك، ولا نتوكل إلاّ عليك، وهذا هو كمال الطاعة؛ والدّين كلّه يرجع إلى هذين المعنيين: فالأول: التّبرّؤ من الشِّرْك، والثاني: التّبرّؤ من الحول والقوّة، فقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } أي: إيّاك نوحّد؛ ومعناه: أنّك تعاهد ربّك أن لا تشرك به في عبادته أحدا، لا ملكا ولا نبيًّا، ولا غيرهما، كما قال للصحابة: { وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }
وفيها من الفوائد: الرد على ثلاث الطوائف التي كل طائفة تعلق بواحدة منها، كمَن عبد الله بالمحبّة وحدها، وكذلك مَن عبد الله بالرّجاء وحده كالمرجئة، وكذلك مَن عبد الله بالخوف وحده كالخوارج.
وقوله: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } هذا فيه أمران:
أحدهما: سؤال الإعانة، وهو التوكل، والتّبرّي من الحول والقوّة.
وأيضا: طلب الإعانة من الله كما مرّ أنّها من نصف العبد.
فهي سؤال منك لمولاك سبحانه أن يعينك على أمور دينك ودنياك، ولا يكلك إلى نفسك، ولا إلى أحد من خلقه، وإخبار منك أنّك لا تستعين إلاّ به تبارك وتعالى.
وأما قوله: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }
تسأله تعالى أن يهديك إلى طريق الجنة، الذي لا اعوجاج فيه، الذي نصبه طريقا إليها، لا طريق لها إلاّ هو، وهو التّوحيد والبراءة من الشِّرْك وتوابعه، وذلك مع أداء الفرائض وترك المحارم.
فهذا هو الدّعاء الصريح الذي هو حظ العبد من الله، وهو التّضرع إليه والإلحاح عليه أن يرزقه هذا الطلب العظيم الذي لم يعط أحد في الدنيا والآخرة أفضل منه، كما من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح بقوله: { وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً }، والهداية هاهنا: التّوفيق والإرشاد.
وليتأمّل العبد ضرورته إلى هذه المسألة، فإنّ الهداية إلى ذلك تتضمّن العلم، والعمل الصالح، على وجه الإستقامة والكمال، والثّبات على ذلك إلى أن يلقى الله.
والصّراط: الطريق الواضح، والمستقيم: الذي لا عوج فيه، والمراد بذلك: الدّين الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنت دائما في كل ركعة تسأل الله أن يهديك إلى طريقهم.
وعليك من الفرائض أن تصدق الله أنّه هو المستقيم، وكل ما خالفه من طريق أو علم أو عبادة فليس بمستقيم، بل معوج؛ وهذه أوّل الواجبات من هذه الآية، وهو اعتقاد ذلك بالقلب.
وليحذر المؤمن من خدع الشيطان، وهو اعتقاد ذلك مجملا، وتركه مفصلا؛ فإنّ أكفر الناس من المرتدّين يعتقدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق، وأن ما خالفه باطل، فإذا جاء بما لا تهوى أنفسهم، فكما قال تعالى: { فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ }.
وأما قوله: { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ }،
فالمغضوب عليهم هم: العلماء الذين لم يعملوا بعلمهم، والضّالون: العاملون بلا علم، فالأول صفة اليهود، والثاني صفة النصارى.
وكثير من الناس إذا رأى في التفسير أنّ اليهود مغضوب عليهم، وأنّ النصارى ضالون، ظن الجاهل أن ذلك مخصوص بهم، وهو يُقرّ أنّ ربّه فارض عليه أن يدعو بهذا الدّعاء، ويتعوّذ من طريق أهل هذه الصّفات.
فيا سبحان الله! كيف يعلمه الله ويختار له ويفرض عليه أن يدعو به دائما، مع أنّه لا حذر عليه منه، ولا يتصوّر أنه يفعله ؟ ! هذا من ظن السّوء بالله.
فإذا سلم العبد من آفة الجهل، وصار من أهل المعرفة، ثم سلم من آفة الفسق وعمل بما أمره الله به، صار من الذين أنعم الله عليهم، من أهل الصراط المستقيم.
وهذا الدّعاء جامع لخيري الدنيا والآخرة؛ أما جمعه لخير الآخرة فواضح. وأما جمعه لخير الدنيا، فلأن الله تعالى يقول: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ }، والإيمان والتّقوى هو الصّراط المستقيم، فقد أخبر أن ذلك سبب لفتح بركات السماء والأرض، هذا في الرزق.
وأمّا في النّصر، فقد قال تعالى: { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } فأخبر الله أن العزة تحصل بالإيمان وهو الصراط المستقيم، فإذا حصل العز والنصر، وحصل فتح بركات السماء والأرض، فهذا خير الدنيا، والله أعلم.
فهذه السّورة تضمّنت الألوهية، والرّبوبية، ونفي النّقائص عن الله، وتضمّنت معرفة العبادة وأركانها، فكل آية منها لو يعلمها الإنسان صار فقيها، وكل آية أفرد معناها بالتّصانيف، والله أعلم. هذا آخر الفاتحة.
وأمّا "آمين" فليست من الفاتحة، ولكنّها تأمين على الدّعاء، معناها: اللّهمّ استجب، فالواجب تعليم الجاهل، لِئَلاّ يظن أنّها من كلام الله، والله أعلم.
المصدر:
بداية المجلد الثالث عشر من الدرر السنية
http://im78.gulfup.com/5c0Xaf.png
السِّرُّ الذي فيه الشِّفاء التّام والدّواء النّافع
للإمام ابن قيّم الجوزية رحمه الله
فَاتِحَةُ الْكِتاب: وأُمُّ القرآن، والسَّبْعُ المثاني، والشفاءُ التام، والدواءُ النافع، والرُّقيةُ التامة، ومفتاح الغِنَى والفلاح، وحافظةُ القوّة، ودافعةُ الهمّ والغمّ والخوف والحزن لمن عرف مقدارَها وأعطاها حقَّها، وأحسنَ تنزيلها على دائه، وعَرَفَ وجهَ الإستشفاء والتّداوي بها، والسرَّ الذي لأجله كانت كذلك.
ولمّا وقع بعضُ الصحابة على ذلك، رقى بها اللَّديغ، فبرأ لوقته. فقال له النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « وما أدراك أنَّها رُقْيَة ».
ومَن ساعده التّوفيق، وأُعين بنور البصيرة حتّى وقف على أسرارِ هذه السّورة، وما اشتملت عليه مِنَ التّوحيد، ومعرفةِ الذّات والأسماء والصّفات والأفعال، وإثباتِ الشّرع والقَدَر والمعاد، وتجريدِ توحيد الرّبوبية والإلهية، وكمال التّوكّل والتّفويض إلى مَن له الأمر كُلُّه، وله الحمدُ كُلُّه، وبيده الخيرُ كُلُّه، وإليه يرجع الأمرُ كُلُّه، والإفتقار إليه في طلب الهداية التي هي أصلُ سعادة الدارين، وعَلِمَ ارتباطَ معانيها بجلب مصالحهما، ودفع مفاسدهما، وأنَّ العاقبةَ المطلقة التامة، والنعمةَ الكاملة مَنوطةٌ بها، موقوفةٌ على التحقق بها، أغنته عن كثير من الأدوية والرُّقى، واستفتح بها من الخير أبوابه، ودفع بها من الشّر أسبابَه.
وهذا أمرٌ يحتاجُ استحداثَ فِطرةٍ أُخرى، وعقلٍ آخر، وإيمانٍ آخر، وتاللهِ لا تجدُ مقالةً فاسدة، ولا بدعةً باطلة إلاّ وفاتحةُ الكتابِ متضمِّنة لردّها وإبطالها بأقرب الطُرُق، وأصحِّها وأوضحِها، ولا تجدُ باباً من أبواب المعارف الإلهية، وأعمال القلوب وأدويتها مِن عللها وأسقامها إلاّ وفى فاتحة الكتاب مفتاحُه، وموضعُ الدلالة عليه، ولا منزلاً من منازل السّائرين إلى ربِّ العالمين إلاّ وبدايتُه ونهايتُه فيها.
ولعَمْرُ الله إنَّ شأنها لأعظمُ من ذلك، وهى فوقَ ذلك. وما تحقَّق عبدٌ بها، واعتصم بها، وعقل عمّن تكلَّم بها، وأنزلها شفاءً تاماً، وعِصمةً بالغةً، ونوراً مبيناً، وفهمها وفهم لوازمَها كما ينبغي ووقع في بدعةٍ ولا شِركٍ، ولا أصابه مرضٌ من أمراض القلوب إلا لِماماً، غيرَ مستقر.
هذا.. وإنّها المفتاح الأعظم لكنوز الأرض، كما أنّها المفتاحُ لكنوز الجَنَّة، ولكن ليس كل واحد يُحسن الفتح بهذا المفتاح، ولو أنَّ طُلابَ الكنوز وقفوا على سرّ هذه السّورة، وتحقَّقُوا بمعانيها، وركَّبوا لهذا المفتاح أسناناً، وأحسنُوا الفتح به، لوصلوا إلى تناول الكُنوزِ من غير معاوِق، ولا ممانع.
ولم نقل هذا مجازفةً ولا استعارةً؛ بل حقيقةً، ولكنْ لله تعالى حكمةٌ بالغة في إخفاء هذا السِّرّ عن نفوس أكثر العالَمين، كما لَه حكمة بالغة في إخفاء كنوز الأرض عنهم. والكنوزُ المحجوبة قد استُخدمَ عليها أرواحٌ خبيثة شيطانية تحولُ بين الإنس وبينها، ولا تقهرُها إلاَّ أرواحٌ عُلْوية شريفة غالبة لها بحالها الإيماني، معها منه أسلحةٌ لا تقومُ لها الشياطين، وأكثرُ نفوس الناس ليست بهذه المَثابة، فلا يُقاوِمُ تلك الأرواح ولا يَقْهَرُها، ولا ينال من سلبِها شيئاً، فإنَّ مَن قتل قتيلاً فله سلبه.
المصدر:
من كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد / مجلد الطب النبوي ( 4 / 347 )
نقل لكم جميع هذه الدّرر الثّمينة أخوكم الفاضل أبو راشد جزاه الله عنّا جميعا خيرًا وبارك فيه ووفّقه لما يحبّه ويرضاه .
تحيّة الإسلام الخالصة ....إلى كلّ القلوب المخلصة ....
السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
منقول من:
http://www.abouislam.com/vb/showthread.php?2333
السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
http://im43.gulfup.com/E1CPJg.png
القول الوجيز السّليم في وصف الصّراط المستقيم
قال ابن القيم رحمه اللّه تعالى:
ولنذكر في الصّراط المستقيم قولاً وجيزًا، فإن الناس قد تنوّعت عباراتهم عنه، وترجمتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته، وحقيقته شيء واحد وهو طريق اللّه الذي نصبه لعباده موصلاً لهم إليه، ولا طريق إليه سواه، بل الطّرق كلّها مسدودة على الخلق إلاّ طريقه الذي نصبه على ألسن رسله، وجعله موصلاً لعباده إليه، وهو إفراده بالعبودية وإفراد رسوله بالطّاعة، فلا يشرك به أحد في عبوديته، ولا يشرك برسوله أحد في طاعته، فيجرّد التّوحيد، ويجرّد متابعة الرسول ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ
وهذا معنى قول بعض العارفين: إنّ السّعادة كلّها والفلاح كلّه مجموع في شيئين: صِدْقُ مَحَبَّة، وحُسْنُ مُعَامَلَة.
وهذا كلّه مضمون شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدًا رسول اللّه.
فأيّ شيء فسّر به الصّراط المستقيم، فهو داخل في هذين الأصلين.
ونكتة ذلك أن تحبّه بقلبك كلّه، وترضيه بجهدك كلّه، فلا يكون في قلبك موضع إلاّ معمور بحبّه، ولا يكون لك إرادة إلاّ متعلّقة بمرضاته، فالأوّل يحصل بتحقيق شهادة أن لا إله إلا اللّه، والثاني يحصل بتحقيق شهادة أن محمدًا رسول اللّه، وهذا هو الهدى ودين الحق، وهو معرفة الحق والعمل به، وهو معرفة ما بعث اللّه به رسوله والقيام به، فقل ما شئت من العبارات التي هذا آخيَّتُها وقطب رحاها.
المصدر:
كتاب تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد
للشيخ العلامة : سلميان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله
ص 63
http://im78.gulfup.com/5c0Xaf.png
فوائد وأسرار من فاتحة الكتاب
الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى
قال شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله ورضي عنه بمنّه وكرمه:
اعلم أرشدك الله لطاعته، وأحاطك بحياطته، وتولاك في الدنيا والآخرة: أن مقصود الصلاة وروحها ولبّها، هو إقبال القلب على الله تعالى فيها، فإذا صلّيت بلا قلب فهي كالجسد الذي لا روح فيه.
إذا فهمت ذلك، فافهم نوعا واحداً من الصلاة، وهو قراءة الفاتحة، لعلّ الله أن يجعل صلاتك في الصلوات المقبولة المضاعفة، المكفّرة للذنوب.
ومن أحسن ما يفتح لك الباب في فهم الفاتحة، حديث أبي هريرة الذي في صحيح مسلم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل.
فإذا قال العبد: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قال الله: حمدني عبدي،
فإذا قال: { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قال الله: أثنى علي عبدي،
فإذا قال: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قال الله: مجّدني عبدي،
فإذا قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قال الله: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل،
فإذا قال: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } قال الله: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل".
فإذا تأمّل العبد هذا، وعلم أنّها نصفان: نصف لله، وهو أوّلها إلى قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ونصف للعبد دعاء يدعو به لنفسه، وتأمّل أنّ الذي علّمه هذا هو الله تعالى، وأمره أن يدعو به، ويكرّره في كل ركعة، وأنّه سبحانه من فضله وكرمه ضمن إجابة هذا الدّعاء إذا دعاه بإخلاص وحضور قلب، تبيّن له ما أضاع أكثر الناس.
قد هيّأُوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
وها أنا أذكر لك بعض معاني هذه السورة العظيمة، لعلّك تصلّي بحضور قلب، ويعلم قلبك ما نطق به لسانك؛ لأنّ ما نطق به اللسان ولم يعقد عليه القلب ليس بعمل صالح، كما قال تعالى: { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ }
وأبدأ بمعنى الإستعاذة، ثم البسملة، على طريق الإختصار والإيجاز.
فمعنى: {أعوذ بالله من الشيطان الرجيم}:
ألوذ بالله وأعتصم بالله، وأستجير بجنابه من شرّ هذا العدو، أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه، لأنه أحرص ما يكون على العبد، إذا أراد عمل الخير، من صلاة أو قراءة أو غير ذلك، وذلك أنه لا حيلة لك في دفعه إلا بالاستعاذة بالله، لقوله تعالى: { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ }؛ فإذا طلبت من الله أن يعيذك منه، واعتصمت به، كان هذا سببا في حضور القلب. فاعرف معنى هذه الكلمة، ولا تقلها باللسان فقط، كما عليه أكثر الناس.
وأما البسملة: فمعناها:
أدخل في هذا الأمر من قراءة أو دعاء أو غير ذلك { بِسْمِ اللَّهِ }، لا بحولي ولا بقوّتي، بل أفعل هذا الأمر مستعينا بالله، متبرّكا باسمه تبارك وتعالى، هذا في كل أمر تسمّي في أوّله، من أمر الدّين أو أمر الدنيا.
فإذا أحضرت في نفسك: أنّ دخولك في القراءة بالله، مستعينا به، متبرّئا من الحول والقوّة، كان هذا أكبر الأسباب في حضور القلب، وطرد الموانع من كل خير.
{ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }:
اسمان مشتقان من الرحمة، أحدهما أبلغ من الآخر، مثل: العلام والعليم، قال ابن عباس: "هما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر"، أي: أكثر من الآخر رحمة.
وأما الفاتحة، فهي سبع آيات: ثلاث ونصف لله، وثلاث ونصف للعبد؛
فأوّلها: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }:
الألف واللام في قوله: { الْحَمْدُ } للاستغراق، أي: جميع أنواع الحمد لله لا لغيره، فأما الذي لا صنع للخلق فيه، مثل خلق الإنسان، وخلق السمع والبصر، والسماء والأرض، والأرزاق، وغير ذلك: فواضح.
وأما ما يحمد عليه المخلوق، مثل ما يثنى به على الصالحين والأنبياء المرسلين، وعلى مَن فعل معروفا، خصوصا إن أسداه إليك، فهذا كلّه لله أيضا، بمعنى أنهّ خلق ذلك الفاعل، وأعطاه ما فعل به ذلك، وحبّبه إليه وقوّاه عليه، وغير ذلك من إفضال الله الذي لو يختل بعضها، لم يحمد ذلك المحمود، فصار الحمد كلّه لله بهذا الاعتبار.
وأما قوله: { لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
فالله عَلَمٌ على ربّنا تبارك وتعالى، ومعناه: الإله، أي: المعبود، لقوله: { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ } أي: المعبود في السماوات، والمعبود في الأرض.
وأمّا الربّ، فمعناه: المالك المتصرّف،
وأمّا{ الْعَالَمِينَ } فهو اسم لكل ما سوى الله تبارك وتعالى؛ فكل ما سواه من ملك ونبي، وإنسي وجني وغير ذلك، مربوب مقهور يتصرّف فيه، فقير محتاج، كلّهم صامدون إلى واحد لا شريك له في ذلك، وهو الغني الصّمد.
وذكر بعد ذلك: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ }، وفي قراءة أخرى { مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ } فذكر في أوّل هذه السورة، التي هي أوّل المصحف، الألوهية والرّبوبية والملك، كما ذكره في آخر سورة في المصحف { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ } : فهذه ثلاثة أوصاف لربّنا تبارك وتعالى، ذكرها مجموعة في موضع واحد في أوّل القرآن، ثم ذكرها مجموعة في موضع واحد، في آخر ما يطرق سمعك من القرآن، فينبغي لمن نصح نفسه أن يعتني بهذا الموضع، ويبذل جهده في البحث عنه، ويعلم أنّ العليم الخبير، لم يجمع بينهما في أوّل القرآن، ثم في آخره إلاّ لما يعلم من شدّة حاجة العباد إلى معرفتها، ومعرفة الفرق بين هذه الصّفات، فكلّ صفة لها معنى غير معنى الصّفة الأخرى، كما يقال: محمد رسول الله، وخاتم النبيين، وسيّد ولد آدم، فكل وصف له معنى غير ذلك الوصف الآخر.
إذا عرفت: أن معنى "الله" هو الإله، وعرفت أن الإله هو المعبود، ثم دعوت الله، أو ذبحت له، أو نذرت له، فقد عرفت أنّه الله، فإن دعوت مخلوقا طيّبا أو خبيثا، أو ذبحت له أو نذرت له، فقد زعمت أنّه هو الله...
وأمّا "الربّ" فمعناه: المالك المتصرّف، فالله تعالى مالك كل شيء، وهو المتصرّف فيه، وهذا حق، ولكن أقر به عبّاد الأصنام الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكر الله عنهم في القرآن في غير موضع، كقوله تعالى: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية : 31]
فَمَنْ دعا الله في تفريج كربته وقضاء حاجته، ثم دعا مخلوقا في ذلك، فقد أقرّ له بالرّبوبية ولم يقرّ لله بأنّه ربّ العالمين، بل جحد بعض ربوبيته. فرحم الله عبدا نصح نفسه، وتفطن لهذه المهمات ...
وأما " الملك " فيأتي الكلام عليه؛ وذلك أن قوله: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } وفي القراءة الأخرى { مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ } فمعناه عند جميع المفسّرين كلّهم، فسّره الله في قوله: { وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ }
وتضمّنت هذه الثلاث الآيات ثلاث مسائل:
الآية الأولى: فيها المحبّة؛ لأنّ الله مُنْعِم، والمُنْعِم يُحَبُ على قدر إنعامه؛ والمحبّة تنقسم إلى أربعة أنواع:
-محبّة شركية، وهي محبّة الذين قال الله فيهم: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } إلى قوله: { وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ }.
-المحبّة الثانية: حب الباطل وأهله، وبغض الحق وأهله، وهذه صفة المنافقين.
-والمحبة الثالثة: طبيعية، وهي محبّة المال والولد، فإذا لم تشغل عن طاعة الله، ولم تعن على محارم الله، فهي مباحة.
-والمحبة الرابعة: حب أهل التّوحيد، وبغض أهل الشِّرْك، وهي أوثق عرى الإيمان، وأعظم ما يعبد بها الإنسان ربه.
الآية الثانية: فيها الرجاء.
والآية الثالثة: فيها الخوف.
وأما قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }،
أي: أعبدك يا ربّ بما مضى بهذه الثلاث، بمحبّتك ورجائك وخوفك وهذه الثلاث أركان العبادة، وصرفها لغير الله شرك.
فالعبادة: كمال المحبّة، وكمال الخضوع والخوف والذل، وقدم المفعول وهو إيّاك، وكرر للاهتمام والحصر، أي: لا نعبد إلاّ إيّاك، ولا نتوكل إلاّ عليك، وهذا هو كمال الطاعة؛ والدّين كلّه يرجع إلى هذين المعنيين: فالأول: التّبرّؤ من الشِّرْك، والثاني: التّبرّؤ من الحول والقوّة، فقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } أي: إيّاك نوحّد؛ ومعناه: أنّك تعاهد ربّك أن لا تشرك به في عبادته أحدا، لا ملكا ولا نبيًّا، ولا غيرهما، كما قال للصحابة: { وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }
وفيها من الفوائد: الرد على ثلاث الطوائف التي كل طائفة تعلق بواحدة منها، كمَن عبد الله بالمحبّة وحدها، وكذلك مَن عبد الله بالرّجاء وحده كالمرجئة، وكذلك مَن عبد الله بالخوف وحده كالخوارج.
وقوله: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } هذا فيه أمران:
أحدهما: سؤال الإعانة، وهو التوكل، والتّبرّي من الحول والقوّة.
وأيضا: طلب الإعانة من الله كما مرّ أنّها من نصف العبد.
فهي سؤال منك لمولاك سبحانه أن يعينك على أمور دينك ودنياك، ولا يكلك إلى نفسك، ولا إلى أحد من خلقه، وإخبار منك أنّك لا تستعين إلاّ به تبارك وتعالى.
وأما قوله: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }
تسأله تعالى أن يهديك إلى طريق الجنة، الذي لا اعوجاج فيه، الذي نصبه طريقا إليها، لا طريق لها إلاّ هو، وهو التّوحيد والبراءة من الشِّرْك وتوابعه، وذلك مع أداء الفرائض وترك المحارم.
فهذا هو الدّعاء الصريح الذي هو حظ العبد من الله، وهو التّضرع إليه والإلحاح عليه أن يرزقه هذا الطلب العظيم الذي لم يعط أحد في الدنيا والآخرة أفضل منه، كما من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح بقوله: { وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً }، والهداية هاهنا: التّوفيق والإرشاد.
وليتأمّل العبد ضرورته إلى هذه المسألة، فإنّ الهداية إلى ذلك تتضمّن العلم، والعمل الصالح، على وجه الإستقامة والكمال، والثّبات على ذلك إلى أن يلقى الله.
والصّراط: الطريق الواضح، والمستقيم: الذي لا عوج فيه، والمراد بذلك: الدّين الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنت دائما في كل ركعة تسأل الله أن يهديك إلى طريقهم.
وعليك من الفرائض أن تصدق الله أنّه هو المستقيم، وكل ما خالفه من طريق أو علم أو عبادة فليس بمستقيم، بل معوج؛ وهذه أوّل الواجبات من هذه الآية، وهو اعتقاد ذلك بالقلب.
وليحذر المؤمن من خدع الشيطان، وهو اعتقاد ذلك مجملا، وتركه مفصلا؛ فإنّ أكفر الناس من المرتدّين يعتقدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق، وأن ما خالفه باطل، فإذا جاء بما لا تهوى أنفسهم، فكما قال تعالى: { فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ }.
وأما قوله: { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ }،
فالمغضوب عليهم هم: العلماء الذين لم يعملوا بعلمهم، والضّالون: العاملون بلا علم، فالأول صفة اليهود، والثاني صفة النصارى.
وكثير من الناس إذا رأى في التفسير أنّ اليهود مغضوب عليهم، وأنّ النصارى ضالون، ظن الجاهل أن ذلك مخصوص بهم، وهو يُقرّ أنّ ربّه فارض عليه أن يدعو بهذا الدّعاء، ويتعوّذ من طريق أهل هذه الصّفات.
فيا سبحان الله! كيف يعلمه الله ويختار له ويفرض عليه أن يدعو به دائما، مع أنّه لا حذر عليه منه، ولا يتصوّر أنه يفعله ؟ ! هذا من ظن السّوء بالله.
فإذا سلم العبد من آفة الجهل، وصار من أهل المعرفة، ثم سلم من آفة الفسق وعمل بما أمره الله به، صار من الذين أنعم الله عليهم، من أهل الصراط المستقيم.
وهذا الدّعاء جامع لخيري الدنيا والآخرة؛ أما جمعه لخير الآخرة فواضح. وأما جمعه لخير الدنيا، فلأن الله تعالى يقول: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ }، والإيمان والتّقوى هو الصّراط المستقيم، فقد أخبر أن ذلك سبب لفتح بركات السماء والأرض، هذا في الرزق.
وأمّا في النّصر، فقد قال تعالى: { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } فأخبر الله أن العزة تحصل بالإيمان وهو الصراط المستقيم، فإذا حصل العز والنصر، وحصل فتح بركات السماء والأرض، فهذا خير الدنيا، والله أعلم.
فهذه السّورة تضمّنت الألوهية، والرّبوبية، ونفي النّقائص عن الله، وتضمّنت معرفة العبادة وأركانها، فكل آية منها لو يعلمها الإنسان صار فقيها، وكل آية أفرد معناها بالتّصانيف، والله أعلم. هذا آخر الفاتحة.
وأمّا "آمين" فليست من الفاتحة، ولكنّها تأمين على الدّعاء، معناها: اللّهمّ استجب، فالواجب تعليم الجاهل، لِئَلاّ يظن أنّها من كلام الله، والله أعلم.
المصدر:
بداية المجلد الثالث عشر من الدرر السنية
http://im78.gulfup.com/5c0Xaf.png
السِّرُّ الذي فيه الشِّفاء التّام والدّواء النّافع
للإمام ابن قيّم الجوزية رحمه الله
فَاتِحَةُ الْكِتاب: وأُمُّ القرآن، والسَّبْعُ المثاني، والشفاءُ التام، والدواءُ النافع، والرُّقيةُ التامة، ومفتاح الغِنَى والفلاح، وحافظةُ القوّة، ودافعةُ الهمّ والغمّ والخوف والحزن لمن عرف مقدارَها وأعطاها حقَّها، وأحسنَ تنزيلها على دائه، وعَرَفَ وجهَ الإستشفاء والتّداوي بها، والسرَّ الذي لأجله كانت كذلك.
ولمّا وقع بعضُ الصحابة على ذلك، رقى بها اللَّديغ، فبرأ لوقته. فقال له النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « وما أدراك أنَّها رُقْيَة ».
ومَن ساعده التّوفيق، وأُعين بنور البصيرة حتّى وقف على أسرارِ هذه السّورة، وما اشتملت عليه مِنَ التّوحيد، ومعرفةِ الذّات والأسماء والصّفات والأفعال، وإثباتِ الشّرع والقَدَر والمعاد، وتجريدِ توحيد الرّبوبية والإلهية، وكمال التّوكّل والتّفويض إلى مَن له الأمر كُلُّه، وله الحمدُ كُلُّه، وبيده الخيرُ كُلُّه، وإليه يرجع الأمرُ كُلُّه، والإفتقار إليه في طلب الهداية التي هي أصلُ سعادة الدارين، وعَلِمَ ارتباطَ معانيها بجلب مصالحهما، ودفع مفاسدهما، وأنَّ العاقبةَ المطلقة التامة، والنعمةَ الكاملة مَنوطةٌ بها، موقوفةٌ على التحقق بها، أغنته عن كثير من الأدوية والرُّقى، واستفتح بها من الخير أبوابه، ودفع بها من الشّر أسبابَه.
وهذا أمرٌ يحتاجُ استحداثَ فِطرةٍ أُخرى، وعقلٍ آخر، وإيمانٍ آخر، وتاللهِ لا تجدُ مقالةً فاسدة، ولا بدعةً باطلة إلاّ وفاتحةُ الكتابِ متضمِّنة لردّها وإبطالها بأقرب الطُرُق، وأصحِّها وأوضحِها، ولا تجدُ باباً من أبواب المعارف الإلهية، وأعمال القلوب وأدويتها مِن عللها وأسقامها إلاّ وفى فاتحة الكتاب مفتاحُه، وموضعُ الدلالة عليه، ولا منزلاً من منازل السّائرين إلى ربِّ العالمين إلاّ وبدايتُه ونهايتُه فيها.
ولعَمْرُ الله إنَّ شأنها لأعظمُ من ذلك، وهى فوقَ ذلك. وما تحقَّق عبدٌ بها، واعتصم بها، وعقل عمّن تكلَّم بها، وأنزلها شفاءً تاماً، وعِصمةً بالغةً، ونوراً مبيناً، وفهمها وفهم لوازمَها كما ينبغي ووقع في بدعةٍ ولا شِركٍ، ولا أصابه مرضٌ من أمراض القلوب إلا لِماماً، غيرَ مستقر.
هذا.. وإنّها المفتاح الأعظم لكنوز الأرض، كما أنّها المفتاحُ لكنوز الجَنَّة، ولكن ليس كل واحد يُحسن الفتح بهذا المفتاح، ولو أنَّ طُلابَ الكنوز وقفوا على سرّ هذه السّورة، وتحقَّقُوا بمعانيها، وركَّبوا لهذا المفتاح أسناناً، وأحسنُوا الفتح به، لوصلوا إلى تناول الكُنوزِ من غير معاوِق، ولا ممانع.
ولم نقل هذا مجازفةً ولا استعارةً؛ بل حقيقةً، ولكنْ لله تعالى حكمةٌ بالغة في إخفاء هذا السِّرّ عن نفوس أكثر العالَمين، كما لَه حكمة بالغة في إخفاء كنوز الأرض عنهم. والكنوزُ المحجوبة قد استُخدمَ عليها أرواحٌ خبيثة شيطانية تحولُ بين الإنس وبينها، ولا تقهرُها إلاَّ أرواحٌ عُلْوية شريفة غالبة لها بحالها الإيماني، معها منه أسلحةٌ لا تقومُ لها الشياطين، وأكثرُ نفوس الناس ليست بهذه المَثابة، فلا يُقاوِمُ تلك الأرواح ولا يَقْهَرُها، ولا ينال من سلبِها شيئاً، فإنَّ مَن قتل قتيلاً فله سلبه.
المصدر:
من كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد / مجلد الطب النبوي ( 4 / 347 )
نقل لكم جميع هذه الدّرر الثّمينة أخوكم الفاضل أبو راشد جزاه الله عنّا جميعا خيرًا وبارك فيه ووفّقه لما يحبّه ويرضاه .
تحيّة الإسلام الخالصة ....إلى كلّ القلوب المخلصة ....
السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
منقول من:
http://www.abouislam.com/vb/showthread.php?2333