مشاهدة النسخة كاملة : التصوف
حكيم عياض
2009-08-26, 09:18
التعريف بالتصوف
سؤال: ما هو التصوف؟
جواب: سُئل الجنيد[1] (http://www.daraleman.org/Main8_library/delala/b1-f1.htm#_edn1#_edn1) عن التصوف فقال: (هو أن تكون مع الله تعالى بلا علاقة) وقال الجنيد: الصوفي كالأرض يطرح عليها كل قبيح ولا يخرج منها إلا كل مليح، ثم إنه كالأرض يطؤها البر والفاجر، وكالسحاب يظل كل شيء، وكالقطر يسقي كل شيء. وخلاصة الأمر الذي نحن عليه هو ما قاله القاضي شيخ الإسلام زكريا الأنصاري على هامش الرسالة القشيرية (التصوف علم تعرف به أحوال تزكية النفوس، وتصفية الأخلاق، وتعمير الظاهر والباطن، لنيل السعادة الأبدية) فهو عندنا تزكية للقلب، لحفظ لطيفته، كحفظ الطب للأبدان، حتى يبقى القلب دائما محلاً طاهراً لنظر الله عز وجل.
اشتقاق لفظ "التصوف"
سؤال: من أين اشتق لفظ التصوف؟
جواب: لقد قيل في اشتقاق لفظ التصوف الكثير، فمنهم من قال بأنه من صُفّة المسجد النبوي، حيث كانت ملاذاً لفقراء المسلمين الذين خرج بعضهم من مكة مهاجراً تاركاً المال والعيال والعبيد والإماء والديار والعقار، فلما هاجروا خرجوا عن ذلك كله وتركوه لله، وانتقلوا إلى المدينة دون أي حظ من حظوظ الدنيا، فبنى لهم الرسول صلى الله عليه وسلم الصُفّة في طرف مسجده، يصلون في الليل ويصومون ما قدر لهم من النوافل في النهار، وعند الجهاد فرسان في النهار رهبان في الليل، فاستشهد منهم في غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم من استشهد، وهم الذين قال فيهم الحق تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (28 الكهف) ومنهم أبو ذر الغفاري وأبو عبيده ومعاذ وأبو الدرداء رضي الله عنهم، وغيرهم لا يحصى ممن جعل التقوى أساس العلم {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} (282 البقرة).
ومنهم من قال إن التصوف من الصوفة. لأن الصوفي مع خالقه كالصوفة المطروحة لا فعل لها ولا تدبير؛ لأنه مستسلم لله في حركاته وسكناته. قال الله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (65 النساء).
ومنهم من قال إنه من الصفاء المحمود، وضده الكدورة المذمومة. روى الدارقطني عن جابر قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متغير اللون فقال: (ذهب صفو الدنيا وبقي الكدر فالموت اليوم تحفة لكل مسلم).
أما من قال إن التصوف من لبس الصوف، فأذكر هنا من كلام ابن الجوزي: (كان الزهد في بواطن القلوب فصار في ظواهر الثياب، كان الزهد حُرْقَة، فصار اليوم خِرْقَة، ويحك صوّف قلبك لا جسمك، وأصلح نيتك لا مُرَقَّعَتَك).
أما نسبته الى "سوفيا" فيقول زكي مبارك في كتابه التصوف الإسلامي: (إن هذا ضربٌ من الإغراب، وكلمة "سوفيا" اليونانية معناها الحكمة، ومنها فيلسوف أي محب الحكمة، وكان كثير من فلاسفتهم أطباء، وقد ترجمها العرب فسموا الطب حكمة. وكلمة حكيم لا تزال تؤدي معنى كلمة طبيب. والفلسفة نفسها سماها العرب الحكمة، فهم عرفوا من "سوفيا" الفلسفة والطب، أما الحكمة الروحانية فمن البعيد أن يكونوا لمحوها، لأنهم كانوا يرون اليونان من عبدة الأوثان. فلم يبق إلا أن يكون ورودها في البيروني من الإغراب) وهذا يعني بأنه لا علاقة بين الفلسفة والتصوف، بمفهومه الذي نتحدث عنه.
وجملة القول أن أهل هذا الطريق أشهر وأسمى من أن يُحتاج في التعرف عليهم إلى لفظ مشتق أو قياس على هذا اللفظ، فالسالك لا يهمه الاسم الذي يطلق عليه مهما كان، طالما أنه مع الله والى الله في عمله وقصده، وإنما همه ومبتغاه هو أن يكون مع خالقه بلا غرض ولا مطلب ولا تحقيق شهوة دنيوية؛ اللهم إلا علاقة الشكر الدائم الذي لا ينقطع، والشعور بالقصور، والشعور بالقرب بعد كدورة البعد {اعْمَلُوا ءَالَ دَاوُدَ شُكْرًا} (13 سبأ).
وسواء سمي السالك صوفياً، أو أي اسم آخر، فهذا ليس بالأمر المهم، فنحن لا نهتم بالألفاظ والمسميات بقدر ما نهتم بالحقائق والمبادئ، فإذا ذكر أمامنا لفظ الصوفي أو التصوف، تبادرت إلى أذهاننا معاني تزكية النفوس، وصفاء القلوب، والسعي حثيثاً لإصلاحها، وصولاً إلى مرتبة الإحسان التي هي مقام كل العارفين الربانيين، الذين تحققوا من معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير الإحسان (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك). فهذه الحقائق سميت في القرن الثاني للهجرة تصوفاً، ولنا أن نسميه الآن: «الجانب الروحي في الإسلام» أو «أخلاق الإسلام» أو «التحقق من معاني الإحسان» أو أي اسم يتفق مع معاني شريعتنا الغراء وما جاء به الكتاب والسنة، وهما مصدر التصوف وحقيقته.
أما إنكار بعض الناس على هذا اللفظ (التصوف) بأنه لم يُسمع في عهد الصحابة والتابعين فهو مردود جملةً وتفصيلاً، لأن معظم الاصطلاحات أُحدثت بعد زمن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، واستعملها جيل الصحابة والتابعين، ولم تُنكر من كبار الصحابة وأئمة التابعين، كألفاظ التابعين، وتابعي التابعين، وأمير المؤمنين، وألفاظ النحو والفقه والمنطق وعلوم الإدارة و الدواوين وعلوم القرآن والتفاسير وعلوم الحديث والجرح والتعديل، كل هذه الاصطلاحات لم تكن تستعمل زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستعملت فيما بعد ولم تنكر. وسنتعرض لهذا الأمر في حديثنا عن مفهومنا للسنة والبدعة.
الصوفية في صدر الإسلام
سؤال: لماذا لم تنتشر الدعوة إلى الصوفية في صدر الإسلام، ولماذا لم تظهر إلا بعد عهد الصحابة والتابعين، وهل جاءت بجديد أم هي امتداد لدعوة الإسلام؟
جواب: لم تكن هناك حاجة إلى هذه الدعوة زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الصحابة كانوا بسبب قربهم من الرسول صلى الله عليه وسلم، أهل ورعٍ وتقوى، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم هو المرشد والمزكي والمربي، فليست هناك حاجة لتلقينهم علوماً ترشدهم إلى أمور، هم قائمون عليها، وهم القدوة الحسنة والمثل الأعلى بها. فالرجال الذين سبقوا التسمية باسم (الصوفية) من الصحابة والتابعين، وإن لم يَتَسَمَّوا بالصوفية، كانوا في حقيقة الأمر صوفيين، ولا يهمنا الاسم بقدر الجوهر والحقيقة. وإلا فما هي الصوفية إن لم تكن تعني إلا أخلاق الصحابة والتابعين، الذين هم خير من أقبل على الله بالقلب والروح في السر والعلن، في السراء والضراء، وهم الذين قاموا بفرائض الإسلام وعقائد الإيمان، وتحققوا من مرتبة الإحسان، فاستنارت بصائرهم، وهم الذين تربوا على يدي مرشد البشر وسيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم!.
روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني هذا، فالذي يليه والذي يليه).
ثم تقادم العهد واتسعت العلوم ودونت علوم التوحيد والحديث والفقه والتفسير والمنطق والأُصول وغيرها من العلوم، التي بانتشارها واهتمام الناس بها وانفتاحهم على خيرات الدنيا وزينتها، أخذ الجانب الروحي يتضاءل، مما دعا أهل الألباب والزهد لتدوين علوم الإحسان، التي هي علوم الصوفية. ولا يُفهم من هذا أن ذلك كان احتجاجاً على العلوم الأخرى كما يُظن، مثلما كان بعض أهل الكلام يحتجون على أهل الحديث، إنما هو استكمال لحلقة الإسلام الذي عني بالمادة والروح والجسد والقلب. قال الشيخ زروق: (نسبة التصوف في الدين نسبة الروح من الجسد، وإن هذا العلم لا يؤخذ من الأوراق وإنما يؤخذ من أهل الأذواق، ولا يُنال بالقيل والقال، وإنما يؤخذ من خدمة الرجال وصحبة أهل الكمال. وكما قالوا: والله ما أفلح من أفلح إلا بصحبة من أفلح).
وهذا ابن خلدون يقول في مقدمته: (وهذا العلم «التصوف» من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله أن طريقة القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، هي طريقة الحق والهداية؛ وأصلها العكوف على العبادة و الانقطاع إلى الله والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذةٍ ومالٍوجاهٍ، والانفراد عن الخلق، والخلوة للعبادة وكان ذلك عامّاً في الصحابة والسلف، فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختُصَّ المقبلون على العبادة باسم الصوفية).
وفي فتوى للإمام الحافظ السيد محمد صديق الغماري رحمه الله لما سُئِلَ عن أول من أسس التصوف أجاب: (أما أول من أسس الطريقة فلتعلم أن الطريقة أسسها الوحي السماوي، في جملة ما أسس من الدين الإسلامي، إذ هي بلا شك مقام الإحسان الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم بعدما بيَّنها واحداً واحداً ديناً بقوله في حديث مسلم في كتاب الإيمان عن عمر بن الخطاب: (هذا جبريل عليه السلام أتاكم يعلمكم دينكم) فالإسلام طاعة وعبادة، والإيمان نور وعقيدة، والإحسان مقام مراقبة ومشاهدة (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وهذه هي الصوفية، فمن أخل بهذا المقام (الإحسان) الذي هو الطريقة، فدينه ناقص بلا شك، لتركه ركناً من أركانه. فغاية ما تدعو إليه الطريقة وتشير إليه، هو مقام الإحسان بعد تصحيح الإسلام والإيمان).
حكيم عياض
2009-08-26, 09:22
علاقة التصوف بالأديان الأُخرى
سؤال: يُتَّهم التصوف من بعض الجهلة وأدعياء العلم بأنه مستقى من أصول غير إسلامية كالفارسية والهندوسية والبراهمية، كما أَطلق بعض أعداء الإسلام من المستشرقين وغيرهم اسم التصوف على الرهبنة والبوذية والكهانة النصرانية والشعوذة الهندية، فقالوا هناك تصوف بوذي وهندي ونصراني وفارسي؛ أين التصوف من كل هذا، وأين هو من الشرع الإسلامي؟
جواب: إن علم التصوف مستمد من الكتاب والسنة النبوية جملةً وتفصيلاً، ومما سبق من نصوص يتبين لنا أن التصوف ليس أمراً مستحدثاً جديداً، ولكنه مأخوذ من الكتاب والسنة وحياة الصحابة الكرام، ومن إلهامات الصالحين الربانيين وفتوحات العارفين الصديقين. وعلى القارئ إذا أراد أن يتبحر في ذلك أن يعود إلى كتاب إحياء علوم الدين للغزالي، وأن يقرأ في أربعة كتب منه وهي: «كتاب العبادات» و «كتاب العادات» و «كتاب المهلكات» و «كتاب المنجيات» ليعرف السالك أن التصوف هو التطبيق العملي للإسلام وأنه يستمد فكره من الكتاب والسنة، وأنه ليس هناك فعلاً إلا التصوف الإسلامي فقط. وإنما أُريدَ بتلك التهم تشويه اسم التصوف باتهامه بأنه يرجع في نشأته إلى تلك الأصول القديمة والفلسفات الضالة، ومن ثَم إبعاد المسلمين عن حقيقة وجوهر وروح دينهم، حتى يكونوا مجردين من الروح والخلق، حافظين لنصوص دينهم دون عمل وفهم وتذوق.
إن مصدر علوم التصوف هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أفضل الخلق بالإجماع. وقد جاءت هذه العلوم لتحقيق الكمالات علماً وعملاً وحالاً، ولتكميل العقائد وتطهير النفوس وتحسين الأخلاق. وهذه رسالته صلى الله عليه وسلم.
أما ثبوت شرف التصوف، فلا شك أن الكتاب والسنة وإجماع الأئمة وردت بمدح جزيئات التصوف ودعائمه، كالتوبة والتقوى والإحسان والاستقامة والصدق والإخلاص والطمأنينة والزهد والورع والتوكل والرضا والتسليم والمحبة والمراقبة والصبر والشكر وغير ذلك من المسائل. وهذه ليست جديده ولا مبتدعة، وليست قديمة من فلسفات الفرس والهندوس وغيرها، إنما هي من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما ربطنا بها إلا حبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالصوفية أتبع الناس وأكثرهم إقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ودل ذلك على أنهم أحب الخلق إلى الله. قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (31 آل عمران) وروى البخاري في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين) وعلامة المحبة الإتّباع.
أما حكم الشرع في التصوف فقد قال الغزالي: (إنه فرض عين، إذ لا يخلو أحد من عيب إلا الأنبياء عليهم السلام) على اعتبار أن التصوف هو المدخل إلى تزكية الأنفس. وقال الإمام أبو الحسن الشاذلي رحمه الله: (من لم يتغلغل في علمنا هذا مات مُصِرّاً على الكبائر من حيث لا يشعر ولا يدري، وحيث كان فرض عين يجب السفر إلى من يأخذه عنه إذا عُرف بالتربية والإرشاد واشتهر الدواء على يده).
قال أحد العارفين يُعرفنا مقامَ السالكين: (الناس ثلاثة، عالم وعابد وعارف صوفي. وكلهم أخذوا حظاً من الوراثة المحمدية، فالعالم ورث أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم تعلماً وتعليماً بشرط إخلاصه، وإلا خرج من الوراثة بالكلية، إذ الأعمال بلا إخلاص أشباح بلا أرواح، فمن ورث عن أبيه جارية ميتة فليس بوارث. والعابد ورث أفعال النبي صلى الله عليه وسلم من قيام وصيام ومجاهدة ظاهرة. فقد قام صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه وكان يصوم كثيرا ويفطر. والصوفي العارف ورث الجميع، فأخذ في بدايته ما يحتاج إليه من العلم، وقد يتبحر فيه ثم ينتقل إلى العمل على أكمل حال، ثم زاد عليهما بوراثة الأخلاق التي كان عليها باطنه صلى الله عليه وسلم من زهد وورع وخوف ورجاء وصبر وحلم وكرم وشجاعة وقناعة وتواضع وتوكل ومحبة ومعرفة وغير ذلك).
ويؤكد شيخنا وسيدنا عبد الرحمن الشريف في رسائله التي تضمنت نظرته النقية الواضحة للتصوف يؤكد على قول القائل: (من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق ومن تفقه وتصوف فقد تحقق). ويقول رضي الله عنه: (إن الشريعة أقوال والطريقة أفعال والحقيقة أنوار والمعرفة أسرار. فالشريعة القشر الظاهر والطريقة اللب الفاخر والحقيقة الذهن الذي لا يُدرَك إلا بالذوق، والمعرفة هي اللذة المعجلة لأهل الحب فيه والشوق. فلا وصول إلى اللُّب إلا بعد الإحاطة بالقشر، وهي أوامر الشريعة ونواهيها. ولا ذوق إلا لمن سهر بالذكر والفكر).
حكيم عياض
2009-08-26, 09:25
علاقة التصوف بالأديان الأُخرى
سؤال: يُتَّهم التصوف من بعض الجهلة وأدعياء العلم بأنه مستقى من أصول غير إسلامية كالفارسية والهندوسية والبراهمية، كما أَطلق بعض أعداء الإسلام من المستشرقين وغيرهم اسم التصوف على الرهبنة والبوذية والكهانة النصرانية والشعوذة الهندية، فقالوا هناك تصوف بوذي وهندي ونصراني وفارسي؛ أين التصوف من كل هذا، وأين هو من الشرع الإسلامي؟
جواب: إن علم التصوف مستمد من الكتاب والسنة النبوية جملةً وتفصيلاً، ومما سبق من نصوص يتبين لنا أن التصوف ليس أمراً مستحدثاً جديداً، ولكنه مأخوذ من الكتاب والسنة وحياة الصحابة الكرام، ومن إلهامات الصالحين الربانيين وفتوحات العارفين الصديقين. وعلى القارئ إذا أراد أن يتبحر في ذلك أن يعود إلى كتاب إحياء علوم الدين للغزالي، وأن يقرأ في أربعة كتب منه وهي: «كتاب العبادات» و «كتاب العادات» و «كتاب المهلكات» و «كتاب المنجيات» ليعرف السالك أن التصوف هو التطبيق العملي للإسلام وأنه يستمد فكره من الكتاب والسنة، وأنه ليس هناك فعلاً إلا التصوف الإسلامي فقط. وإنما أُريدَ بتلك التهم تشويه اسم التصوف باتهامه بأنه يرجع في نشأته إلى تلك الأصول القديمة والفلسفات الضالة، ومن ثَم إبعاد المسلمين عن حقيقة وجوهر وروح دينهم، حتى يكونوا مجردين من الروح والخلق، حافظين لنصوص دينهم دون عمل وفهم وتذوق.
إن مصدر علوم التصوف هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أفضل الخلق بالإجماع. وقد جاءت هذه العلوم لتحقيق الكمالات علماً وعملاً وحالاً، ولتكميل العقائد وتطهير النفوس وتحسين الأخلاق. وهذه رسالته صلى الله عليه وسلم.
أما ثبوت شرف التصوف، فلا شك أن الكتاب والسنة وإجماع الأئمة وردت بمدح جزيئات التصوف ودعائمه، كالتوبة والتقوى والإحسان والاستقامة والصدق والإخلاص والطمأنينة والزهد والورع والتوكل والرضا والتسليم والمحبة والمراقبة والصبر والشكر وغير ذلك من المسائل. وهذه ليست جديده ولا مبتدعة، وليست قديمة من فلسفات الفرس والهندوس وغيرها، إنما هي من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما ربطنا بها إلا حبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالصوفية أتبع الناس وأكثرهم إقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ودل ذلك على أنهم أحب الخلق إلى الله. قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (31 آل عمران) وروى البخاري في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين) وعلامة المحبة الإتّباع.
أما حكم الشرع في التصوف فقد قال الغزالي: (إنه فرض عين، إذ لا يخلو أحد من عيب إلا الأنبياء عليهم السلام) على اعتبار أن التصوف هو المدخل إلى تزكية الأنفس. وقال الإمام أبو الحسن الشاذلي رحمه الله: (من لم يتغلغل في علمنا هذا مات مُصِرّاً على الكبائر من حيث لا يشعر ولا يدري، وحيث كان فرض عين يجب السفر إلى من يأخذه عنه إذا عُرف بالتربية والإرشاد واشتهر الدواء على يده).
قال أحد العارفين يُعرفنا مقامَ السالكين: (الناس ثلاثة، عالم وعابد وعارف صوفي. وكلهم أخذوا حظاً من الوراثة المحمدية، فالعالم ورث أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم تعلماً وتعليماً بشرط إخلاصه، وإلا خرج من الوراثة بالكلية، إذ الأعمال بلا إخلاص أشباح بلا أرواح، فمن ورث عن أبيه جارية ميتة فليس بوارث. والعابد ورث أفعال النبي صلى الله عليه وسلم من قيام وصيام ومجاهدة ظاهرة. فقد قام صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه وكان يصوم كثيرا ويفطر. والصوفي العارف ورث الجميع، فأخذ في بدايته ما يحتاج إليه من العلم، وقد يتبحر فيه ثم ينتقل إلى العمل على أكمل حال، ثم زاد عليهما بوراثة الأخلاق التي كان عليها باطنه صلى الله عليه وسلم من زهد وورع وخوف ورجاء وصبر وحلم وكرم وشجاعة وقناعة وتواضع وتوكل ومحبة ومعرفة وغير ذلك).
ويؤكد شيخنا وسيدنا عبد الرحمن الشريف في رسائله التي تضمنت نظرته النقية الواضحة للتصوف يؤكد على قول القائل: (من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق ومن تفقه ولم يتصوف فقد تفسق ومن تفقه وتصوف فقد تحقق). ويقول رضي الله عنه: (إن الشريعة أقوال والطريقة أفعال والحقيقة أنوار والمعرفة أسرار. فالشريعة القشر الظاهر والطريقة اللب الفاخر والحقيقة الذهن الذي لا يُدرَك إلا بالذوق، والمعرفة هي اللذة المعجلة لأهل الحب فيه والشوق. فلا وصول إلى اللُّب إلا بعد الإحاطة بالقشر، وهي أوامر الشريعة ونواهيها. ولا ذوق إلا لمن سهر بالذكر والفكر).
حكيم عياض
2009-08-26, 09:28
أهمية التصوف
سؤال: ما هي ضرورة التصوف بالنسبة للمسلم؟
جواب: إن التصوف هو المظهر المعنوي الروحي للإسلام، فإذا بحثنا عن الصفاء والاندفاع والحرارة في العاطفة الإسلامية وجدناها عند الصوفية. ومن أحب أن يعرف شيئا عن الحب الإلهي وسمو رفعة الصلة الروحية بين المسلم وخالقه فليصحب القوم السالكين، ويتدبر أقوالهم وأحوالهم، ليتبين له أن التعليم والاصطلاحات التي سميت تصوفا هي حقيقة وجوهر وروح الإسلام. وبها نمت العاطفة الدينية والحياة الروحية عند المسلمين. وبهذه الروح التي تغلغلت في حياة المسلمين وعقائدهم وعبادتهم ومعاملاتهم انتشر الإسلام في إفريقية والهند والصين وإندونيسيا ودول المغرب العربي. وذلك بحسن سيرة أولئك الأعلام من مشايخ الطرق وتأسِّيهم برسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن الأعمال التي يقوم بها المسلم نوعان: جسمية وقلبية، الجسمية منها تقوم على الأوامر والنواهي كالأمر بالصلاة والزكاة والحج، والنواهي كالنهي عن السرقة أو القتل أو الزنى. والأعمال القلبية تقوم أيضا على أوامر ونواه، فالأوامر كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله... الخ، والنواهي تنهى عن الكفر والنفاق والحسد والحقد والغرور والكبر والعجب والشح والبخل.
وهذا القسم الذي يتعلق بالقلب هو مدار بحثنا إذ أن عليه مدار الأمر رغم أهمية الكل، لأن الباطن أساس الظاهر، وفي فساده إفساد للأعمال الظاهرة، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركز اهتمامه على إصلاح قلوب أصحابه وأن صلاح الإنسان بصلاح قلبه. ولا أعني الجسم الصنوبري الذي يعالجه الأطباء، إنما أعني اللطيفة الروحانية المتعلقة به، وهي التي عناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب). فعلى المرء أن يُعنى بإصلاح قلبه وتخليته من الصفات المذمومة التي نهى عنها طالما أن صلاحه منوط بصلاح قلبه. قال تعالى: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (88-89 الشعراء). وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى اله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم).
إن أهمية التصوف الإسلامي تنبع من تنقية القلب من الشوائب وتهذيب النفس وتخليصها من الآفات. ولذلك قال العلماء إن التخلص من كل هذه الآفات هو فرض عين؛ بدليل ما ورد في الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (151 الأنعام). ويأمرنا تعالى في آية أخرى بترك الفواحش الظاهرة والباطنة، بقوله تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ } (120 الأنعام) فالفواحش الظاهرة كالقتل والزنى والسكر والسرقة، أما الباطنة فهي كالحقد والحسد والشح والبخل والنفاق وغيرها من آفات النفس المتعددة.
وإذا تأملنا معنى الآية الكريمة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (37 ق) وجدنا في معناها أنه ليس لكل إنسان قلب، لأن الآية تعني اللطيفة المتعلقة، لا العضلة، واللطيفة المتعلقة لا يمكن أن تكون في قلب ممتلئ بالحقد والرياء والنفاق والحسد والشح والبخل، فكل هذه الآفات وغيرها مما يُعنى التصوف بزوال وجودها من تلك اللطيفة.
أما إذا استعرضنا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فنجد كثيرا منها ينهى عن هذه الآفات التي تحول دون حال التزكية التي يحرص التصوف عليها، كآفات الحقد والرياء والشح والكبر والغش والغضب والعداوة والبغضاء والطمع والبطر والخيلاء والخيانة والمداهنة والمكر والخديعة والقسوة وطول الأمل وغير ذلك. ونجد كثيراً من الأحاديث التي تأمر بالتحلي بالأخلاق والمثل العليا والمعاملة الطيبة، كخلق التواضع والتناصح والصبر واحتمال الأذى وخدمة الإخوان ومحبتهم والكرم والحب والشكر وخفض الجناح واللين والعفو، وغير ذلك. هذه الأخلاق جزء من ثمرة السلوك في طريق القوم.
أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبه فأعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. والحياء شعبة من شعب الإيمان). وهذه الأخلاق هي أيضاً جزء من درجات الإيمان. يقول صاحب مراقي الفلاح: (لا تنفع الطهارة الظاهرة إلا مع الطهارة الباطنة بالإخلاص والنـزاهة عن الغل والغش والحقد والحسد وتطهير النفس عما سوى الله، فيعبده لذاته لا لعلةٍ، مفتقراً إليه، وهو يتفضل عليه بالمنّ بقضاء حوائجه المضطر بها عطفاً عليه، فتكون عبداً فرداً للمالك الأحد الفرد، لا يسترقك شيء من الأشياء سواه ولا يستملكك هواك عن خدمتك إياه).
ولكي ندرك أهمية التصوف نقول بأن الإنسان يسعى دوماً إلى أن يظهر على الملأ بصورة لائقة من حيث جمال ملبسة وجمال مظهره وأناقة لبس أولاده وفخامة ركوبته ومحيطه، كل هذا مما يكلف الشيء الكثير من المال ينفقه الإنسان حتى يظهر في عيون الناس بصوره حسنة ولائقة لأنه محل نظرهم، فلا حرج في ذلك. لكن أيجوز له أن يزين محل نظر الناس، وهو الظاهر، ويترك محل نظر رب الناس وهو الباطن، ملطخاً بكل الآفات التي ذكرناها. أليس هذا قصوراً في النظر وضرباً من ضروب طمس البصيرة والجرأة على الله!؟.
إن التصوف وأهله هم الذين اعتنوا بتصحيح هذه الآفات ونقلها من حال السوء والبشاعة إلى حال الحسن والجمال، وتزكية النفس من كل الصفات الناقصة، وهو الذي يكشف آفات الرجال الذين يظنون بأنفسهم الكمال، ويسعى لتقويمها وتعريف صاحبها بها، حتى ينجلي القلب ويسير في طريق الله في صدق ووفاء، ويزرع فيه كل خصال الخير التي حثنا ديننا عليها وأمر أن نزين بها بواطننا.
إن التصوف ليس كما يظن البعض بأنه مجرد أوراد تقرأ، وتسابيح تردد، بل هو بالإضافة إلى ذلك المنهج الإسلامي العلمي الذي يرقى بالسالك حينما يملك الأشياء ولا تملكه، والتطبيق العملي لكل الفرائض والعبادات، إنه أركان الإسلام الخمسة ثم أركان الإيمان الستة ثم أركان الطريق السبعة التي سيأتي ذكرها. فهو روح الإسلام والطريق العملي إلى درجات الكمال الإيماني وهو أيضاً الخلق السوي (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) فالتصوف هو تمام مكارم الأخلاق إضافة إلى تطبيق أوامر الشرع والبعد عن نواهيه. وما وصل المسلمون إلى هذه الحالة من التحلل والتخاذل والتفكك وذهاب القيم الروحية والأخلاقية والتكالب على الدنيا ومتاعها، إلا حين تنادوا بالنصوص دون العمل، وبالعقل دون القلب، وبالجسم دون الروح، وبالظاهر دون الجوهر، وبالقشر دون اللب، فكان ما كان. ولهذا فإني أنصح إخواني بالتزام المنهج العملي للتصوف الذي سيأتي ذكره، بالجمع دوماً بين نصوص الإسلام وتطبيقها وبين مادة الإسلام وروحه، حتى يعود للأمر صفاؤه وجلاؤه ويقينه وروحه وذوقه. وأنصحهم بالصبر والمصابرة والجلَد والجد في طريق القوم، لأن طريقهم ليس سهلاً على النفس، ولأن سلعة الله غالية ومهرها ثمين، فلا بد من دفع الثمن. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إن سلعة الله غالية (ثلاثاً)، ألا إن سلعة الله الجنة).
قال الفُضيل بن عياض[i] (http://www.daraleman.org/Main8_library/delala/b1-f5.htm#_edn1#_edn1) رحمه الله: (عليك بطريق القوم ولا تستوحش لقلة السالكين، وإياك وطريق الباطل ولا تغتر بكثرة الهالكين، وكلما استوحشت من تفردك فانظر إلى الرفيق السابق واحرص على اللحاق بهم وغض الطرف عن سواهم فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً، وإذا صاحوا بك في طريق سيرك فلا تلتفت إليهم، فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك) ويعني بهؤلاء المشككين بطريق القوم، القاطعين الصادين عن سبيل الله.
[i] (http://www.daraleman.org/Main8_library/delala/b1-f5.htm#_ednref1#_ednref1) . هو أبو علي التميمي شيخ الحرم ولد بخراسان عام 105 هجريه وكان ثقة نبيلاً فاضلاً عابداً كثير الحديث.
حكيم عياض
2009-08-26, 09:34
المفهوم الصحيح للسنة والبدعة
تمهيد
يكثر الحديث بين الحين والآخر، عن خلافات تحدث في المسائل الفرعية من الدين، وفي تفسير السنة والبدعة، حتى رأينا عددا ممن ينتسبون إلى الدين، وهم من الذين أخذوا بظواهر الآيات والأحاديث، لا يرون الحق إلا معهم، ويرمون من يخالفهم بالضلال والابتداع أو الكفر والشرك، بل لا يستمعون إلا لمن كان منهم وعلى شاكلتهم، وينظرون إلى جمهور الأمة بالمنظار الأسود، فإما مبتدعة أو مشركون خارجون عن الإسلام، حتى تطاولوا على علماء المسلمين عبر التاريخ الإسلامي. والعجيب الغريب أن الذين يعملون على إثارة الخلافات في المسائل الفرعية، ويبدِّعون فيها من يخالفهم، لا نجد لهم صوتا ولا رأيا في المسائل الكبرى التي وقع فيها المسلمون، وأحيانا كانوا يقفون في فتاواهم مع أعداء الإسلام في حربهم ضد المسلمين، مع أن مواجهة خطر الأعداء فرض عين! مما يضع عليهم علامة استفهام، ذلك لأن إثارة المسائل الخلافية في الفروع وفي هذا الزمن بالذات، وهي المسائل التي وسعت المسلمين وأصحاب المذاهب منذ القدم، فإن إثارتها في هذا الزمن بالذات تفرِّق ولا تجمع، مما يساعد على التناحر والتنافر والتراشق بالتهم والتبديع والتضليل، ولا مصلحة للمسلمين في ذلك.
والمقصود من حديثنا هذا أن نقول لهؤلاء ومن يقع في دائرتهم، إن واجب المسلم أن يحسن الظن بالمسلمين، فضلاً عن علماء المسلمين، لأن إثارة المسائل الفرعية التي اختلف العلماء فيها بطريقة تسيء الظن بهؤلاء المجتهدين، فيها هدم للدين، وتفرقة للأمة التي استوعبت اختلاف الأئمةِ في الفروع منذ عصورها الأولى، دون أن يفرِّق الاختلاف بينهم في العقيدة والاحترام والتضامن والتعاطف، وكلهم ملتزمون بالدين، غيورون عليه، لا كما يظن المتفيهقون في هذا العصر الذين يدّعون الاجتهاد في مسائل الدين، وليس لديهم من أدوات الاجتهاد شيء إلا مجرد الادعاء. بل هم مقلدون لأناس مشبوهين طلعوا على الأمة بآراء ينقضون فيها اجتهادات الأئمة الذين شهدت لهم الأمة على مدى يزيد عن ألف سنة بالعلم والفقه والورع والدين، وكان لهم في الأمة لسانُ صدق - كما قال ابن تيمية - كالشافعي وأبي حنيفة وابن حنبل وغيرهم رحمهم الله
أنواع التوسل
سؤال: ما هي أنواع التوسل؟ وهل هناك خلاف حولها؟
جواب: التوسل ستة أنواع، ثلاثة منها لا خلاف فيها بين المسلمين جميعاً:
النوع الأول: التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم:
وهو أساس التوسل بالصالح الحي إلى الله تعالى. ومن أدلته:
الحديث الأول: ما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث أنـس بن مالك رضي الله عنه (أن رجلا دخل المسجد يوم جمعة من بابٍ كان نحو دار القضاء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما ثم قال: يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا. قال فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا. قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحابٍ ولا قزعةٍ، وما بيننا وبين سَلْع من بيت ولا دار، قال فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، قال فلا والله ما رأينا الشمس سبتاً، قال: ثم دخل رجلٌ من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبله قائما فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها عنا، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ثم قال: اللهم حَوْلَنا ولا علينا اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر، فانقطعت وخرجنا نمشي في الشمس. قال شريك فسألت أنس بن مالك أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدري). وفي الحديث دليل واضح على جواز التوسل بالحي الصالح، وإلا لأُمر ذلك الرجل بالدعاء من بيته أو أي مكان آخر دون الرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الحديث الثاني: أخرجه البخاري في التاريخ الكبير وابن ماجة في السنن ونص على صحته النسائي وأبو نعيم والبيهقي والمنذري والهيثمي والطبراني وابن خزيمة وهو ما رواه الترمذي بسنده عن عثمان بن حنيف (أن رجلاً أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني أُصبت ببصري، فادع الله لي، فقال صلى الله عليه وسلم: اذهب فتوضأ وصل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بحق نبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني استشفع بك على ربي في رد بصري -وفي رواية "في حاجتي لتقضى لي اللهم شفعه فيَّ" - ثم قال صلى الله عليه وسلم وان كانت حاجة فافعل مثل ذلك). وهذا الحديث حجة قوية في صحة التوسل بالحي، ومفهومه حجة لصحة التوسل بالميت. وسيأتي ذكره في مكان آخر.
وروى أبو داود في سننه وغيره: (أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هلك الزرع وجف الضرع وإنّا نستشفع بك إلى الله تعالى ونستشفع بالله عليك. فسبّح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رؤي ذلك في وجوه أصحابه فقال: ويحك أتدري ما الله تعالى! إن الله تعالى لا يُشفع به على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك). فيلاحظ هنا إنكاره صلى الله عليه وسلم قول الرجل (إنا نستشفع بالله تعالى عليك). ولم ينكر قوله (إنا نستشفع بك إلى الله تعالى).
وفي الصحاح مجموعة عطرة من هذه الأحاديث، لا يتسع لها المجال هنا في إثبات صحة التوسل بالحي الصالح.
النوع الثاني: التوسل بأسماء الله تعالى وصفاته:
وهو التوسل إلى الله بذاته تعالى وبأسمائه وصفاته ونحوها. وهذه الأنواع متفق على مشروعيتها.
قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (186 البقرة).
وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (180 الأعراف).
وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (60 غافر).
والأدلة على هذا النوع أكثر من أن تحصى.
النوع الثالث: التوسل بالعمل الصالح:
وهو توسل الحي بالعمل الصالح إلى الله تعالى.
أخرج البخاري في صحيحه ومسلم في كتاب الذكر عن أبي عبد الرحمن عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى آووا المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدت عليهم الغار، فقالوا إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم، اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فنأى بي في طلب شيء يوما، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غُبوقهما، فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا، فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج. قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقال الآخر: اللهم إنه كانت لي بنت عم، كانت أحب الناس إلي، فأردتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمّت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلتْ، حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أُحِلَ لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، وفي رواية: أسألك بالله أن لا تفض الخاتم إلا بحقه. فتحرجت من الوقوع عليها فانصرفت عنها، وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء، فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمّرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال يا عبد الله: أدِّ إليّ أجري. فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال يا عبد الله لا تستهزئ بي فقلت: إني لا استهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئًا. اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون).
وروى ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الخارج إلى الصلاة قوله: (اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمعةً، ولكن خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أن تنقذني من النار وأن تدخلني الجنة). وهذا الحديث أيضا توسل بالعمل الصالح والرجل الصالح "بحق السائلين عليك" "وبحق ممشاي هذا".
النوع الرابع: التوسل بالميت الصالح:
وهو الأمر الذي اشتد الخلاف فيه في هذا الزمن ولم يكن مطروقا في الماضي. علماً بأن جمهور المسلمين من أهل السنة والجماعة قد أجازوه بالدليل الشرعي. وفي الشرع من الأدلة النقلية الصحيحة ما يؤكد هذا النوع من التوسل. ولقد أوردنا في النوع الأول من أنواع التوسل حديث الأعمى لأنه المحور الأساسي في إثبات شرعية هذا النوع الرابع من التوسل. ونص الحديث حجة صحيحه للتوسل الأول، ومفهومه حجة لصحة التوسل بالميت. فقد بينا في التمهيد عقيدتنا في التوسل في أننا لا نتوسل بالجسم ولا بالحياة ولا بالموت، ولكن بالمعنى الحسن والجاه الرفيع المقبول عند الله للصالح حيا كان أو ميتا، إذ الفعل لله، ولا فرق بين حياة المتوسَّل به أو مماته. وقوله في الحديث (يا محمد إني استشفع بك) نداء للغائب يستوي فيه الحي والميت.
ورغم ذلك فهناك أثر طيب أخرجه الطبري في معجمه الصغير عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف: وهذه الرواية هي امتداد للمفهوم والمعنى الذي ورد في حديث الأعمى (أن رجلا كان يختلف إلى عثمان ابن عفان رضي الله عنه في حاجة له، فكان عثمان لا يتلفت إليه ولا ينظر في حاجته فلقي ابن حنيف فشكا إليه ذلك (وهذه الحادثة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد خلافة أبي بكر وعمر) فقال له عثمان بن حنيف [وهو الصحابي المحدث العالم بدين الله] إيت الميضأة، فتوضأ، ثم إيت المسجد فصل فيه ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة، يا محمد: إني أتوجه بك إلى ربي، فيقضي حاجتي قال: وتذكر حاجتك ورح حتى أروح معك، فانطلق الرجل يصنع ما قاله له، ثم أتى باب عثمان بن عفان فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة (الوسادة) فقال ما حاجتك، فذكر حاجته وقضاها له، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كان الساعة، وقال ما كانت لك من حاجة فاذكرها. ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيراً، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليَّ حتى كلمتَه (يظن أن ابن حنيف كلمه، وتوسط له عند أمير المؤمنين عثمان) فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمتُه، ولكني شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه ضرير، فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أوَتصبر؟ فقال يا رسول الله إنه ليس لي قائد وقد شق علي، فقال صلى الله عليه وسلم إيت الميضأه، فتوضأ ثم صل ركعتين ثم ادع بهذه الدعوات. قال ابن حنيف فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل (الأعمى) كأن لم يكن به ضر قط). والحديث محقق مع الحديث الأول.
سؤال: يقر البعض بجواز التوسل بالصالح الحي والعمل الصالح وبعدم جوازه بالصالح الميت. ويستشهدون على ذلك بتوسل الصحابة بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، أين الحقيقة في ذلك؟
جواب: حديث التوسل بالعبـاس حديث صحيح رواه البخاري والطبراني وابن ماجة (أن الأرض أجدبت في زمن سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه وكادت الريح تذر ترابا كالرماد لشدة الجدب فسمي (بعام الرمادة) ولذلك خرج سيدنا عمر يستسقي، فقال للناس: هل فيكم من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: نعم العباس بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخذ سيدنا عمر بيده وأوقفه أمامه وقال (اللهم إنّا نتقرب إليك بعم نبيك فأنت تقول وقولك الحق {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} (82 الكهف) فحفظتهما لصلاح أبيهما فاحفظ اللهم نبيك في عمه، فقد دنونا به إليك مستغفرين، ثم أقبل على الناس وقال: استغفروا ربكم انه كان غفارا، والعباس عيناه تنضحان وهو يقول (اللهم أنت الراعي لا تهمل الضالة ولا تدع الكسير بدار مضيعة فقد ضرع الكبير والصغير وارتفعت الشكوى وأنت تعلم السر وأخفى، اللهم أغثنا بغيثك فقد تقرب القوم بي إليك لمكانتي من نبيك عليه الصلاة السلام). فنشأ طرير من سحاب وقال الناس: أترون أترون! ثم تراكمت الغيوم وماست فيها ريح ثم هرت ودرت حتى قلعوا الحذاء وقلعوا المآزر، وعاد الناس يتمسحون بردائه ويتبركون به، ويقولون هنيئا لك ساقي الحرمين).
جملة القول في موضوع التوسل بالصالح الميت ينحصر في الآتي:
أولاً: جاء في كتاب «الاستيعاب» لابن عبد البر: "سبب توسل الصحابة بالعباس أن هذا لا يتنافى مع التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في قبره لأن سبب توسلهم به رضي الله عنه هو قرابته من الرسول صلى الله عليه وسلم فكأنهم توسلوا بالرسول وبعمه في وقت واحد". وكانت طائفة في العام نفسه وللسبب نفسه تتوسل إلى الله مستسقين بالرسول صلى الله عليه وسلم في قبره، كما أخرج ابن أبي شيبة عن مالك الدار بسند صحيح كما في فتح الباري وأخرجه البخاري في التاريخ وابن أبي خثيمة والبيهقي في الدلائل (أن بلال بن الحارث المزني الصحابي، أتى إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الرماد في عهد عمر بن الخطاب وقال: (يا رسول الله استسق لأمتك فانهم قد هلكوا.)..الخ). وهو نص لم ينكر على الصحابي فأخذ قوة الاجماع.
وقد أخرج ابن عساكر وابن الجوزي وابن النجار بأسانيدهم إلى محمد بن حرب الهلالي قال: (أتيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم فزرته فجلست بحذائه، فجاء أعرابي بعدما دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام فرمى بنفسه على قبره وحثى من ترابه على رأسه وقال: يا رسول الله قلت فسمعنا قولك، ووعيت عن الله تعالى ووعينا عنك وكان فيما انزل عليك {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ} وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي. فنودي من القبر أنه قد غفر لك). وفي هذا جواز التوسل واستمداد المغفرة والمدد من الله تعالى بجاهه صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: إن الأمر بالنسبة للأنبياء والشهداء يستوي في الحياة والممات لأنهم أحياء في قبورهم وأن الأرض لا تأكل أجسادهم لما روى النسائي عن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن الله قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) وروى البيهقي في كتاب الأنبياء وصححه من حديث أنس رضي الله عنه أنـه صلى الله عليه وسـلم قال (الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون). وروى مسلم في باب فضائل موسى من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مررت على موسى ليلة اسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره).
وروى الحافظ الهيثمي عن عبد الله بن مسعود وقال رواه البزار ورجاله رجال الصحيح أن النبي صـلى الله عليه وسـلم قال (حياتي خير لكم تحدثون ويُحدّث لكم، فإذا أنا مت كانت وفاتي خيراً لكم تُعرض علي أعمالكم فإن رأيت خيراً حمدت الله وان رأيت شراً استغفرت لكم). وهذا العرض كل يوم، وقد عُد من خصائصه صلى الله علية وسلم. وكثرة الأحاديث بهذا المعنى تدل دلالة لا شك فيها على أن حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من باب أولى، لأن هذا هو حال الشهداء أيضاً وان كانت حياتهم دون حياة الأنبياء. قال تعالى {وَلاَ تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} (154 البقرة).
ثالثاً: هذه الوسيلة كانت قبل ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ذكر القرآن الكريم قصة بني إسرائيل في قوله تعالى {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} (89 البقرة) يقول صاحب الكشاف ما نصُّهُ "وكانوا يعني اليهود من قبل: أي من قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. يستفتحون: أي يستنصرون به. على الذين كفروا: يعني مشركي العرب، وذلك انهم كانوا إذا حزبهم أمر أو دهمهم عدو يقولون اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد صفته في التوراة وكانوا ينـتصرون. وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين قد أطل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما جاءهم ما عرفوا: أي الرسول صلى الله عليه وسلم عرفوا نعته وصفته. كفروا به: أي جحدوه وأنكروه بغيا وحسدا وكفراً".
رابعاً: يستفاد من حديث التوسل بالعباس درسٌ لقننا إياه أمير المؤمنين عُمر للتبرك والمحبة لآل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى {قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (23 الشورى).
النوع الخامس: التوسل بالصالح الحي:
وقياسا على حديث العباس والاستسقاء به أجاز العلماء التوسل بالصالح الحي الذي عُلم صلاحه من غير النبي صلى الله عليه وسلم، كما أجازوا التوسل بالصالح الميت قياساً على جواز التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته. وهذا عمر بن الخطاب يتوسل إلى الله بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرج بن عبد الحكم عن زيد بن أسلم قال: (لما أبطأ على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتح مصر كتب إلى عَمرو بن العاص رضي الله عنه: أما بعد فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر، تقاتلونهم منذ سنين وما ذاك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله تعالى لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس وحضهم على القتال وقدِّم أولئك الأربعة في صدور الناس وأمر الناس أن يكونوا لهم صدمة رجل واحد وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة فإنها ساعة تنـزل فيها الرحمة). وهذا خالد بن الوليد يتوسل ويستنصر بشَعر النبي صلى الله عليه وسلم فقد أخرج الطبراني عن جعفر بن عبد الله بن الحكم أن خالد بن الوليد رضي الله عنه، فقد قلنسوة له يوم اليرموك فقال: اطلبوها فلم يجدوها، فقال اطلبوها فوجدوها، فإذا هي قلنسوة خَلقة (بالية) فقال خالد (اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه فابتدر الناس جوانب شعره، فسبقتهم إلى ناصيته فجعلتها في هذه القلنسوة فلم أشهد قتالا وهي معي إلا رزقت النصرة).
وعن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبدٍ القاري (أنه نظر إلى ابن عمر رضي الله عنهما وضع يده على مقعد النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر ثم وضعها على وجهه). و عن يزيد بن عبد الله بن قسيط قال (رأيت ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا خلا المسجد أخذوا برمانة المنبر الصلعاء التي تلي القبر بميامنهم ثم استقبلوا القبلة يدعون).
والعقيدة الصحيحة التي نحن عليها أن الأنبياء والأولياء والصالحين لا فعل لهم ولا قدرة ولا تصرف لا الآن ولا حين كانوا أحياء في دار الدنيا لأن صفتهم الفناء والاستهلاك. وهو ما أكده الشيخ يوسف الرفاعي في كتابه «أدلة أهل السنة والجماعة» بقوله: "لو كان هذا التوسل شركاً وتوجهاً إلى غير الله كما يزعم المنكرون، فينبغي أن يمنع التوسل وطلب الدعاء من الصالحين من عباد الله وأوليائه في حال الحياة أيضا. وليس ذلك مما يُمنع فانه مستحبٌ ومستحسن شائع في الدين، ولو زعم أنهم عزلوا واخرجوا من الحالة والكرامة التي كانت لهم في الحياة الدنيا فما الدليل عليه. ومن اشتغل من الموتى عن ذلك بما عرض له من الآفات فليس ذلك كافياً ولا دليلاً على دوامه واستمراره إلى يوم القيامة".
ويقول أيضاً "نعم إن كان الزائر يعتقد أن أهل القبور متصرفون ومستبدون وقادرون من غير توجه إلى حضرة الحق والالتجاء إليه كما يعتقده العوام الغافلون الجاهلون، وكما يفعل أولئك من تقبيل القبر والسجود والصلاة إليه مما وقع عنه النهي والتحذير، فذلك مما يمنع ويحذر منه وفعل العوام لا يعتبر قط، وهو خارج عن البحث وحاشا من العالم بالشريعة والعارف بأحكام الدين انه يعتقد ذلك ويفعل هذا". وإلى هذا التوسل أشار الإمام مالك رحمه الله تعالى للخليفة الثاني من بني العباس وهو المنصور جد الخلفاء العباسيين في المناظرة التي كانت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال له الإمام مالك: (يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله تعالى أدب قوما فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} (2 الحجرات). وقد مدح قوما فقال {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ} (3 الحجرات) وذم قوما فقال {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ} (4 الحجرات). وإن حرمته ميتاً كحرمته حيا، فاستكان لها أبو جعفر فقال: يا أبا عبد الله (يعني الإمام مالك) أستقبل القبلة وأدعو أم استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال الإمام مالك: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة. بل استقبله واستشفع به فيشفِّعه الله، قـال اللـه تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُم}(64 النساء). وهذه القصة رواها القاضي عياض بإسناد صحيح. وقد صرح كثير من العلماء بهذا[1] (http://www.daraleman.org/Main8_library/delala/b3-f2.htm#_edn1#_edn1).
والحاصل أن مذهب أهل السنة والجماعة[2] (http://www.daraleman.org/Main8_library/delala/b3-f2.htm#_edn2#_edn2) ينص على (صحة التوسل وجوازه بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد وفاته، وكذا بغيره من الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين، كما دلت الأحاديث السابقة). فإننا إذن وبناءاً على ما تقدم لا نعتقد تأثيرا ولا خلقاً ولا إيجاداً ولا إعداماً ولا نفعاً ولا خيراً إلا لله وحده لا شريك له، فلا نعتقد تأثيراً ولا نفعاً ولا خيراً للنبي صلى الله عليه وسلم باعتبار الخلق والإيجاد والتأثير، ولا لغيره من الأحياء والأموات. فلا فرق في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء، وكذا بالأولياء والصالحين، ولا فرق بين كونهم أحياءً أو أمواتاً، لأنهم لا يخلقون شيئاً وليس لهم من دون الله تأثير في شيء. وإنما يتبرك بهم لكونهم أحبّاء الله تعالى، والخلق والإيجاد والتأثير لله وحده لا شريك له، ولأنه تسري بركة المكان على الداعي، كما ذكر الإمام الشوكاني. أما الذين يفرقون بين الأحياء والأموات حيث جوّزوا بعض التوسلات بالأحياء دون الأموات فهم القريبون من الزلل والخلل لأنهم اعتبروا أن الأحياء لهم تأثير دون الأموات مع أنه لا تأثير إيجاداً لغير الله تعالى على الإطلاق.
وأما الإفادة وفيض البركات والاستفادة من أرواحهم استفادة اعتيادية، وتوجه أرواحهم إلى الله تعالى طالبين فيض الرحمة على ذلك المتوسل فهو شيء جائز وواقع وخال عن كل خلل دون الفرق بين الأحياء والأموات.
فشبهة المانعين إن كانت من جهة أن الأموات أجساد هامدة جامدة ولا روح ولا إدراك ولا مجال للخطاب معهم، فتلك ساقطة من الاعتبار لأن أجساد الأنبياء لا تبلى، وان الله حرّم على الأرض أن تأكل لحومهم، وأن أرواحهم باقية ثابتة ولها إدراك بإذن الله تعالى، وهو تعالى يعلمها بصلاة المسلمين وبتوسلات المتوسلين، وحسبك في الموضوع خطابك النبي صلى الله عليه وسـلم في كـل صلاة عند التشـهد بقولك (السلام عليك أيها النبي ورحمـة اللـه وبركاته) وليس (السلام على النبي). فإذا توسلنا به صلى الله عليه وسلم على معنى طلب الدعاء منه فطلب الدعاء مشروع وإذا توسلنا بذاته الشريفة أو بجاهه العظيم أو بحقه الجسيم فكل ذلك واقع في الروايات الصحيحة. وإذا كان القصد الاستشفاع بـه صلى الله عليه وسلم فلا شك أنه الشفيع وشفاعته ثابتة شرعا. وما توهم الناس به من انه شرك فالشرك أن يجعل العبد أحداً سوى الله تعالى شريكاً له في الألوهية والربوية والخلق، وأين ذلك من التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم بصفة أنه عبد الله ونبيه ورسوله أكرمه بفضله وجعل له الشفاعة والوسيلة والمقام المحمود.
قال شيخنا الشيخ عبد الرحمن الشريف:
فامدح كما شئت فهو الفذ مرتبة وليس فوقـه إلا الله فافـتهم.
وقياس المسلمين المتوسلين على عُبَّاد الأصنام فيما حكاه الله تعالى عنهم من قولهم {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (3 الزمر) ونحوه، ناشئ عن إغماضٍ عن الحق وانحرافٍ عن الواقع وتسوية بين الأمة الوثنية الجاهلة الضالة وبين الأمة المسلمة المؤمنة بالله وحده لا شريك له، الناشئة عن الملة الإسلامية الحنيفة التي تمرنت على الاعتقاد بالله والتي رضيت بالله تعالى رباً وبالإسلام دينا وبالقرآن كتابا وبسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عبدا ورسولا و نبياً. وآمنت بأن البعث حق والجنة حق والنار حق والموت حق والحساب حق. وكيف يتصور بمن أسلم وقرأ القرآن وفهم تعاليمه وأحب النبي العدنان أن يظن تلك الظنون الفاسدة التي ظنها عُبَّاد الأصنام الجاهليون. وكيف يتصور ذلك من العارفين بالله الدارسين لمعنى {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (110 الكهف) ولإنذارات الرسول صلى الله عليه وسلم لعشيرته بعد نزول قوله تعالى {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (214 الشعراء).
النوع السادس: التوسل بالجاه:
يقول العلامة الألوسي البغدادي في تفسيره «روح المعاني» بعد بحث طويل في التوسل يقول ما نصه: "أنا لا أرى بأساً في التوسل إلى الله بجاه النبي صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً. ويراد من الجاه معنىً يرجع إلى صفة من صفاته مثل أن يراد به المحبة التامة المستدعية عدم رده وقبول شفاعته. فيكون معنى قول القائل: إلهي أتوسل إليك بجاه نبيك صلى الله عليه وسلم أن تقضي حاجتي إلهي اجعل محبتك له وسيلةً في قضاء حاجتي. ولا فرق بين هذا وقولك إلهي أتوسل إليك برحمتك أن تفعل كذا، إذ معناه أيضا (الهي اجعل رحمتك وسيلة في كذا)، بل لا أرى بأساً أيضا بالإقسام على الله تعالى بجاهه صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى. نعم لم يُعهد التوسـل بالجاه والحرمة على أحـد من الصحابة [الكلام للألوسي] ولعل ذلك كان تحاشيا منهم عما يخشى أن يعلق منه في أذهان الناس إذ ذاك وهم قريبو عهدٍ بالتوسل بالأصنام. ثم يقول إن التوسل بجاه غير النبي صلى الله عليه وسلم لا بأس به أيضا إن كان المتوسل بجاهه ممن عُلم أن له جاهاً عند الله تعالى، كالمقطوع بصلاحه وولايته".
ومن هذا الفهم الطيب فتح الله على شيخنا الشيخ عبد الرحمن الشريف في قصيدته المشهورة التي يرددها أتباع الطريقة دوماً، وهي تزخر بالتوسلات الشرعية بالسادات الكرام رجال السند الشريف حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي قصيدة «حزب الهمزة» التي بدأ بيتها الأول بقوله:
نـدعـوك يـا الله بـالآيـات والـذكــر
الحــكــيــم بمــظهــر الأسـماء
وبحضـرة القــدس التي شــغفت بـهـا
أكــبـاد رســل الله والأنـبــــاء
(إرجع إليها في كتاب أوراد الطريقة الخلوتية)
[1] (http://www.daraleman.org/Main8_library/delala/b3-f2.htm#_ednref1#_ednref1) . راجع كتاب طي السجل للسيد محمد مهدي الروّاس.
[2] (http://www.daraleman.org/Main8_library/delala/b3-f2.htm#_ednref2#_ednref2) . المرجع السابق.
حكيم عياض
2009-08-26, 09:39
اصطلاح «مدد»
سؤال: ما هي شرعية استخدام البعض نداء «مدد»؟
جواب: يقول الشيخ عبد القادر عيسى رحمه الله: "إن كلمة «مدد» التي ينادي بها أحدهم رسول الله أو يخاطب بها أشياخه أو غيرها من الكلمات التي أثارت حفيظة البعض، لها تأويل شرعي حيث ادعى هؤلاء أن هذه الكلمة هي سؤال لغير الله واستعانة بسواه مخالفة للنص الشرعي. فنقول إن الله تعالى يقول {كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} (20 الإسراء).
وحتى تكون الصورة أوضح نقول: على السالك في جميع أحواله أن يعلم أمرين:
الأول: أن يعلم أن الله تعالى هو مسبب الأسباب والمتصرف تصرفاً مطلقاً في هذا الكون خلقا وإمداداً. ولا يجوز للعبد أن يشرك معه أحداً من خلقه مهما علا قدره من نبي أو ولي.
الثاني: أن الله تعالى جعل لكل شيء سبباً فالمؤمن يتخذ الأسباب ولكنه لا يعتمد عليها ولا يعتقد بتأثيرها الاستقلالي. فإذا نظر العبد إلى السبب واعتقد بتأثيره المستقل عن الله تعالى فقد أشرك لأنه جعل الإله الواحد آلهة متعددين، وإذا نظر للمسبب وأهمل اتخاذ الأسباب فقد خالف سنة الله الذي جعل لكل شيء سبباً، والكمال هو النظر بالعينين معاً فنشهد المسبب ولا نهمل السبب.. ولتوضيح هذه الفكرة نسوق بعض الأمثلة عليها:
إن الله تعالى وحده هو خالق البشر ومع ذلك فقد جعل لخلقهم سبباً عادياً وهو التقاء الزوجين وتكُّونُ الجنين في رحم الأم وخروجه منه في أحسن تقويم.
وكذلك فإن الله تعالى هو وحده المميت، ولكنه جعل للإماتة سبباً هو ملك الموت، فإذا لاحظنا المسبب قلنا {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ} (42 الزمر). وإذا قلنا إن فلانا قد توفاه ملك الموت لا نكون قد أشركنا مع الله إلها آخر لأننا لاحظنا السبب كما بينه تعالى في قوله {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (11 السجدة).
· وهكذا الأمر بالنسبة للهداية إذا نظرنا للمسبب رأينا أن الهادي هو الله وحده. ولذلك قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (56 الإسراء)، وإذا لاحظنا السبب نرى قول الله تعالى لرسوله {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (52 الشورى). أي تكون سببا في هداية من أراد الله هدايته.
والعلماء العارفون المرشدون هم ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم في هداية الخلق ودلالتهم على الله تعالى. فإذا استرشد مريد بشيخه فقد اتخذ سبباً من أسباب الهداية التي أمر الله تعالى بها وجعل لها أئمة يدلون عليها {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِأَيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (24 السجدة)، فكما يجوز أن نقول يا رسول الله اهدني ويا ملك الموت اقبضني باعتبار أن المسبب في الهداية والقبض هو الله تعالى والسبب في الأول الرسول صلى الله عليه وسلم وفي الثاني ملك الموت. كذلك يجوز القول مدد يا رسول الله، باعتبار أن المسبب بالمدد هو الله وأن المدد من عنده، والسبب فيه هو الرسول صلى الله عليه وسلم، كذلك نقول إن الهداية سببها الرسول صلى الله عليه وسلم ومسببها هو الله وهي تجري بأمره {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}".
الرسول صلى الله عليه وسلم
بين يدي الباب
قال تعالى في كتابه العزيز:
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (56 الأحزاب).
جاء في الصلوات الدردرية لشيخنا العارف بالله الشيخ أحمد الدرديري: "اللهم صلي على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد النور الذاتي والسر الساري في سائر الأسماء والصفات".
قال شيخنا العارف بالله تعالى الشيخ عبد الرحمن الشريف قدست أسرار روحه في قصيدته «تحفة الإخلاص»:
وقـــم على ســــاق جد في محبــة مــــن لولاه مـا انزل التنزيل بالحكم
كلا ولا ســـطع الإيجاد من أحد كــــلا ولا أرســلت رسل إلى أمـم
قالوا تمدح فمدحي في جـــلالتــه عـين القصـور بخــير العرب والعجم
ماذا امتداحي بِمن لولاه ما خلقت عـوالم بـل ولا قـــــور مع الأكــــم
ولا ســماء ولا أرض ولا مـــلك ولا رســـــول وكـان الكل في عـدم
من الجمال الإلهي كـــان مظهره ومنه بــــدر الوجود المطلق الفخــم
فالعرش والفرش والأفلاك أجمعها مـن نور طلعته هـلت بذي العظـم
والأنبياء وجميع الرســــــل قاطبـة كــــل لديه مع الأفلاك كالخـــدم
والكتب أضحت بهذا الشأن ناطقة فـدع مـــقــالة غـــمــر ظـالم أثــم
فهو الســـــفير لنا في دفع نازلـــة وهو العياذ لنا في كـــل مـــزدحــــم
وهـو الغياث الذي تهدى نـــوائله للقاصدين كــــذاك البـاب للحـكـم
فامدح كما شئت فهو الفذ مرتبة وليـــس فــوقه إلا الله فــــافـــتهـم
ياقلب فاجنح له كي تهتدي وتفز ياصـب أخـلص ولذ بالمصطفى وهم
واخلع عــــذارك وافنى في محبتــه وارســل دموعك ممـا فات في القدم
وخالف النفس والزم بـــاب رأفته عســاه يسديك مـا ترجو مـن النعم
وقــل بذلك يا خـــير الخلائق يــا من خـــصـه الله بالتعطيف والـكـرم
عجت الحمى أحتمي من ســــوء جنتها نفســـي جوف الأليل الدهـم
وليس لي عمل أرجــــو به منحــاً ســــوى محبتـــــكم ممـزوجة بدمـي
يا سـيدي يا رسول الله خذ بيدي يا ملجئي واحبني مـن فيضك العمم
ومن عـــــوائـد آبــــائي بآلك لا تحرمني عند احتياجي أنـت معتصمي
هب أنني غير فرع عـبدكم وكفى والرفق بالرق من مسـتظرف الشيم
أوصيتموا بالضعيفَيْن فـــها أنا من عـبيدكم فارحموا ضعفي ومقتحمي
وعاملوني بمـا تدروه مــــن صـلة كـما أُمـرتم بإيصالٍ لذي الرحـــــم
في الحالتين جـدير بالصلات فــما أنــــفك عــــن جودكـم إلا بمنتظـم
ولسـت أبغي من الجد الشــــفوق سوى التوفيق يطلبه من باريء النسـم
لعبده العاجز المسكين حـيث لكم جـــاه رفيــع بــه نــنجـو من النقـم
أيترك الأصل فرعا قد نحـاه هوى مـــن غـــير مــدٍ لأمـــر غير مـلتئـم
حاشـــا وكــلا بأن يقلى لـغفـلته والله والله هــــذا أعــظـم القســم
يارب بالســيد الهادي البشير كذا بــآلــه الغر مــن هـم ســادة الحـرم
هب لي مرامي ونفذ كل ما طلبت نفسي من الخير وانطق بالصواب فمي
حكيم عياض
2009-08-26, 09:44
تمهيد
وإنك لعلى خلق عظيم
أخرج مسلم عن سعد بن هشام قال: سألت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فقلت: (أخبريني عن خُلقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، فقالت: كان خلقه القرآن).
وأخرج الطبراني برواةٍ ثقاة عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: (إن الله عز وجل لما أراد هدى زيد بن سُعْنَه الذي كان حبراً إسرائيلياً قبل إسلامه رضي الله عنه قال زيد بن سُعْنَه: ما من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبقُ حِلْمُه جهلَه ولا تزيد شدة الجهل عليه إلا حِلْما. قال زيد بن سعنه: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الحجرات ومعه على بن أبي طالب رضي الله عنه، فأتاه رجل على راحلته كالبدوي فقال: يا رسول الله لي نفر في قرية بني فلان قد أسلموا ودخلوا في الإسلام، وكنت حدثتهم إن اسـلموا أتاهم الـرزق رغـداً (أي واسعاً) وقد أصابتهم سِنة (أي جدب) وشدة وقحط من الغيث، فأنا أخشى يا رسول الله أن يخرجوا من الإسلام طمعاً كما دخلوا فيه طمعا، فإن رأيت أن ترسل إليهم بشيء تغيثهم به فعلت. فنظر صلى الله عليه وسلم إلى جانبه أراه عليًا. فقال يا رسول الله ما بقي منه شيء (أي ما عندنا ما نعطيهم) قال زيد بن سعنه (وهو كتابي حينها لم يسلم) فدنوت إليه فقلت يا محمد هل لك أن تبيعني تمرا معلوماً في حائط بني فلان إلى أجل معلوم إلى أجل كذا وكذا، قال صلى الله عليه وسلم: لا تُسم حائط بني فلان، قلت: نعم، فبايعني فأطلقت هِمْياني (وهو كيس يشد على الوسط تجعل فيه النقود) فأعطيته ثمانين مثقالاً من ذهب في تمر معلوم إلى أجل كذا وكذا فأعطـاه الرجل (أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى الذهب للرجل الذي طلب مؤونة لجماعته) وقال له صلى الله عليه وسلم اعدل عليهم وأغثهم، وقال سعنه: فلما كان قبل مَحِلَّ الأجل بيومين أو ثلاثة (أي وقت استحقاق اخذ التمر من الرسول صلى الله عليه وسلم لزيد) خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر الصديق وعمر وعثمان رضي الله عنهم في نفرٍ من أصحابه فلما صلى على جنازة ودنا إلى الجدار ليجلس إليه أتيته فأخذته بمجامع قميصه وردائه ونظرت إليه بوجه غليظ، قلت: يا محمد ألا تقضيني حقي؟ فوالله ما عُلِمتم بني المطلب إلا مُطْلاً ولقد كان لي بمخالطتكم علمٌ، ونظرت إلى عمر وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير ثم رماني ببصرهِ فقال: يا عدو الله أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسـمع؟ وتصنع بـه ما أرى؟ فوالذي نفسـي بيده لولا ما أحاذر قوته لضربت بسيفي رأسك (الذي يبدو أن الذي يحاذر عمر قوته: هو عدم إيمان زيد بالرسول صلى الله عليه وسلم وهذه فراسة في عمر وكأنه علم بأن زيداً يختبر الرسول صلى الله عليه وسلم) ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليَّ في سكون وتُؤَدةٍ، فقال يا عمر: أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا، أن تأمرني بحسنِ الأداء وتأمرَه بحسن إتباعه، اذهب به يا عُمر فأعطه حقه وزده عشرينَ صاعاً من تمرٍ مكانَ ما رُعته (أي بدل إفزاعك له) قال زيدٌ: فذهب عمرُ فأعطاني حقي وزادني عشرينَ صاعًا من تمرٍ. فقلت: ما هذه الزيادةُ يا عمر؟ قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أزيدك مكان ما رعتُكَ، قال: وتعرفني يا عمر؟ قال: لا، قلت: أنا زيد بن سُعْنه. قال: الحبر؟ قلت: الحبر. قال: فما دعاك إلى أن فعلت برسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلت وقلت ما قلت؟ قلت: يا عمر لم يكن من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه، يسبق حِلْمُه جهلَه ولا تزيد شدة الجهل عليه إلا حلمًا، وقد اختبرتهما. فأُشهدك يا عمر أني قد رضيتُ بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيًا وأشهدكَ أن شطر مالي (فإني أكثرُها مالاً) صدقة على أُمة محمد صلى الله عليه وسلم قال عمر: أوْ على بعضهم فإنك لا تسعُهُم. قلت: أو على بعضهم. فرجَع عُمر وزيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال زيدٌ: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وآمن به وصدقه وبايعه وشهد معه مشاهَد كثيرة ثم توفي في غزوة تبوك مقبلاً غيرَ مدبرٍ رحمه الله).
أدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم
ومحبتُهم له
سؤال: كيف كان تأدبُ الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم وحبهم له؟
جواب: حديثُ الأدبِ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والمحبةِ له حديثٌ يطول، تُفَرُد له عادةً المجلداتُ والكتب. إلا أننا نسوقُ بَعض الآثارِ للدلالةِ والإيماءِ لأنَه أمر يعجز عنه البيان ويكلُ دونه اللسان.
أخرج الترمذيُ عن أنسٍ رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرجُ على أصحابهِ من المهاجرين والأنصار وهم جلوسٌ فيهم أبو بكرٍ وعُمر رضي الله عنهما فلا يرفع أحد منهم إليه بصرَه إلا أبو بكرٍ وعمر فإنهما كانا ينظرانِ إليه وينظرُ إليهما ويبتسمان إليه ويبتسمُ إليهما).
وأخرج الطبرانيُ وابنُ حبان في صحيحه عن أسامَة بن شَريكٍ رضي الله عنهما قال: (كنا جلوساً عند رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كأنما على رؤوسِنا الطير ما يتكلم منا متكلم إذ جاءه أُناس فقالوا: من أحبُ عبادِ الله إلى الله تعالى؟ قال: أحسنهم خُلقاً).
وأخرج أبو يعلى وصححه عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (لقد كنت أريدُ أن أسأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الأمرِ فأؤخر سنتين من هيبته).
أما محبتُهم إليه صلى الله عليه وسلم فقد جَعلها عليه الصلاة والسلامُ مهر الإيمان، فلا إيمان لمن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم أحَب إليه من مالِه وولدِه ونفسِه والناسِ أجمعين. فكانوا رضوانُ الله عليهم متيَّمين في حبه صلى الله عليه وسلم.
أخرج الطبرانيُ عن عائشَة رضي الله عنها قالت: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنك لأحبُ إليَّ من نفسي وإنك لأحبُ إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك وإذا ذكرتُ موتي وموتَكَ عرفتُ أنك إذا دخلتَ الجنة رُفعتَ مع النبيين، وأني إذا دخلت الجَنة خشيتُ أن لا أراك. فلم يردَّ عليه النبيُ صلى الله عليه وسلم حتى نزل جبريل عليه السلامُ بهذه الآية {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّنَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (69 النساء)).
وفي روايةٍ عند الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني لأحبك حتى إني لأذكركَ فلولا أني أجيء فأنظر إليك ظننت أن نفسي تخرج، فأذكر أني إن دخلتُ الجنة صرتُ دونك في المنزلة فيشقُ ذلك علي وأحبُ أن أكون معك في الدرجةِ. فلم يردَّ عليه صلى الله عليه وسلم شيئاً حتى نزلت الآية فدعاه صلى الله عليه وسلم فتلاها عليه).
وأخرج الطبرانيُ عن حُصينِ بنِ وَحْوَح الأنصاري: (أن طَلحةَ بنَ البراءِ رضي الله عنهما لما لقي النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يلصق برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقبل قدميه، قال: يا رسول الله مرني إن أحببتَ ولا أعصي لك أمراً. فعجب لذلك النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام فقال له عند ذلك: اذهب فاقتل أباك. فخرج مولياً ليفعل فدعاه فقال له: أقبل فإني لم أُبعث بقطيعة رحم. فمرض طلحةُ بعد ذلك فأتاه النبيُ صلى الله عليه وسلم يعودُه في الشتاء في برد وغيم فوجده مغمى عليه، فقال النبيُ صلى الله عليه وسلم: ما أظن طلحةَ إلا مقبوضاً من ليلته، فإن أفاق فأرسلوا إلي فأفاق طلحةُ في جوف الليل فقال: ما عادني النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: بلى، فأخبروه بمـا قـال، فقـال: لا ترسلوا إليه في هذه الساعة فتلسعُه دابة أو يصيبه شيء، ولكن إذا فُقِدتُ فأقرءوه مني السلام، وقولوا له فليستغفر لي، فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبحَ سأل عنه فأخبروه بموتِه وبما قال، فرفع صلى الله عليه وسلم يده وقال: اللهم القَ طلحةَ تضحكُ إليه ويضحك إليك).
مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جديرٌ بهذا الحب وزيادة، وجديرٌ بتلك الآدابِ السامية وزيادة.كيف لا وهو أولُ من يجوز الصراط بأمته يوم القيامة، وبنورهِ تسير الأُمة وعلى محجته. وهو أولُ من برز للوجود من أنوارِ اللهِ الذاتية. جاء في الفتاوي الحديثة لابن حجر الهيثمي المكي ما نصه "أخرج عبدُ الزراق بسندهِ عن جابرِ بن عبد اللهِ الأنصاري رضي الله عنهما قال: (قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أخبرني عن أولِ شيء خلقه اللهُ من قبل الأشياء؟ قال: يا جابرُ إن الله خلق قبل الأشياء نورَ نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم من نورهِ، فجعل ذلك النور يدور بالقدرةِ حيث شاء الله ولم يكن في ذلك الوقت لوحٌ ولا قلمٌ ولا جنةٌ ولا نارٌ ولا ملكٌ ولا سماءٌ ولا أرضٌ ولا شمسٌ ولا قمرٌ ولا إنسٌ ولا جنٌ… الخ) الحديث.
وهو صلى الله عليه وسلم أول الأنبياء في الخلق في عالم الأرواح، وآخرهم في البعث في عالم الأشباح. روى بن سعدٍ مرسلاً بإسنادٍ صحيح قوله صلى الله عليه وسلم: (كنتُ أول الناسِ في الخلق وآخرهم في البعث) فهو الفاتح وهو الخاتم.
وروى الترمذيُ عن أبي هريرَة رضي الله عنه (قالوا: يا رسول الله متى وجبت لك النبوة؟ قال: وآدمُ بينَ الروحِ والجسد). قال الترمذي: حديث حسنٌ وصحيح. ورواه أبو نعيم والبيهقيُ والحاكمُ وصححه، ورواه البزارُ والطبرانيُ وأبو نعيمٍ من رواية ابن عباس رضي الله عنهما.
روى الامام أحمد والبخاري في التاريخ والطبرانيُ والحاكمُ وصححه وقال الحافظ الهيثمي في رجال أحمد و الطبراني: رجالهما رجال الصحيح. عن ميسرةَ الفجر قال: (قلت: يا رسولَ الله متى كنت نبيًا؟ قال: كنت نبيًا وآدم بين الروحِ والجسد).
وتواترتِ الروياتُ عن أنه صلى الله عليه وسلم أولُ شافعٍ، وأولُ مُشفَّعٍ. روى الترمذي وأحمد وابن ماجة وغيرُه عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا سيدُ ولدِ آدَم يومَ القيامة ولا فخر. وبيدي لواءُ الحمد ولا فخر. وما من نبيٍ يومئذٍ آدمُ فمن سواهُ إلا تحت لوائي. وأنا أولُ من تنشقُ عنه الأرض ولا فخر. وأنا أولُ شافعٍ وأولُ مشفَّع ولا فخر).
وهو صلى الله عليه أولُ من يؤذَنُ له حين يستأذنُ على ربه وهو أولُ من يسجدُ لربه يوم القيامة. وروى الأمام أحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أولُ من يؤذنُ له يوم القيامة بالسجودِ وأولُ من يَرفعُ رأسه فانظر بين يديّ فأعرفُ أمتي بين الأمم من خلفي مثلُ ذلك وعن يميني مثلُ ذلك وعن شمالي مثلُ ذلك. فقال الرجل يا رسولَ الله كيف تعرفُ أمتك من بين الأمم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هم غرٌ محجلون من أثر الوضوء ليس أحدٌ كذلك غيرهم. وأعرفهم أنهم يؤتَوْن كتبهم بإيمانهم وأعرفهم تسعى ذريتُهم بين أيديهم).
ولن يلج الجنة أحد قبله صلى الله عليه وسلم لما رواه مسلم والترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: (قال صلى الله عليه وسلم: آتي باب الجنة فاستفتح فيقول الخازن: من؟ فأقول: محمد. فيقول: بكَ أُمرت أن لا أفتح لأحد قبلك)
تكريمه صلى الله عليه وسلم
سؤال: ما معنى قوله تعالى: {لاَّ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا} (63 النور)؟
جواب: يقول سيدنا الصاوي[1] (http://www.daraleman.org/Main8_library/delala/b4-f4.htm#_edn1#_edn1) في تفسير هذه الآية: "{لاَّ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ}أي نداءه كنداء بعضكم بعضاً، بمعنى لا تنادوه باسمه فتقولوا يا محمد ولا بكنيته فتقولوا يا أبا القاسم، بل نادوه وخاطبوه بالتعظيم والتكريم والتوقير. يستفاد من الآية انه لا يجوز نداءُ النبي صلى الله عليه وسلم بغير ما يفيد التعظيم لا في حياته ولا بعد وفاته. فبهذا يعلم انه من استخف بجنابه صلى الله عليه وسلم فهو كافر ملعون في الدنيا والآخرة".
وقال السَيوطي في «الإكليل في استنباط التنـزيل» عند ذكره هذه الآية الكريمة: "تحريمُ ندائه باسمه ووجوبُ تشريفه وتكريمه ليقال يا رسول الله يا نبي الله، والظاهر استمرار ذلك بعد وفاته".
وجاء في «فتح الباري شرح صحيح البخاري» "أنه صلى الله عليه وسلم وإن كان ذا أسماء وكنى لكن لا ينبغي أن ينادى بشيء من تلك فيحرمُ نداؤهُ بها لقوله تعالى {لاَّ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا} مثل يا محمد ويا أحمد". وعن ابن عباس رضي الله عنهما، كانوا يقولون يا أحمد يا أبا القاسم فنهاهم اللهُ عن ذلك وناداه الله تعالى {يا أيها النبي} و{يا أيها الرسول} ولم يوجه الله له النداءَ باسمه فكيف بنا نحن.
[1] (http://www.daraleman.org/Main8_library/delala/b4-f4.htm#_ednref1#_ednref1) . أحد رجال السند في طريقتنا الخلوتية.
كلمة "سيدي"
سؤال: هل يجوز للمرء أن يقول لأخيه يا سيدي؟ وهل هي لرسول الله من دون الناس؟ وهل السيادة لله كما يقول البعض؟ وما هو حكم الشرع في ذلك؟
جواب: من التقديرِ الواجبِ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وصحابتهِ وأهلِ بيته وأولياءِ أمتهِ تكريمُهم بألفاظِ التقديرِ والرفعةِ، منها لفظُ السيادة التي ورثناها عن سادتنا الكرام وإخوانِنا في الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية. وقد رأى الإمام الشافعيُ أن ذكر اسمِ الرسول صلى الله عليه وسلم بلا سيادة، فيه من سوء الأدب ما يكفي، بل إن الإمام ابن عبد السلام أفتى في قضية الطالب الذي قال لا يزاد في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر سيدنا، بأن يؤدب في السجن، وبقي هناك حتى شُفِّع فيه فخلى سبيله، كما في كتاب «إكمال الإكمال».
والملفت للنظر أن الذين يذكرونَ الاسم الشريف مجرداً هم المستشرقون ومن لا خلاق لهم. فلا يجوزُ أبداً التشبهُ أيضاً بالكفار في ذكره صلى الله عليه وسلم من غير السيادة، لأنهم هم الذين يذكرونَه باسمه مجرداً استهانة بقدره الشريف.
وإذا نظرنا إلى آيات القرآن العظيم نجد أن الله تعالى ذكر السيادة للبشر، فامتدح سيدنا يحيى عليه الصلاة والسلامُ بقوله تعالى {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ} (39 آل عمران) بل إن القرآن الكريم ذكر لفظ السيادة في حق من لا يملكون الرفعة فقال في سورَةِ يوسف {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} (25 يوسف) والأمر نفسه ينطبق على لفظ المولى قال تعالى {يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} (41 الدخان).
أما أولئك الذين يتعللون بالحديث الشريف (السيدُ الله...) فقد حَرموا أنفسهم من خير عميم لجهلهم بأمورِ دينهم، فقد ردَّ عليهم العارفُ بالله ابنُ عجيبةَ في حاشيته على «الجامع الصغير» بأن الحديث يبين أن الله هو الذي يحق له السيادة المطلقة على الكون، بمعنى المالك القاهر والمهيمن، لأنه سيد كل ذي سيادة، إذ الخلق كلهم عبيده، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله لَمَّا خوطب بما يخاطب به رؤساء القبائل من قومهم أنت سيدنا ومولانا (بالمعنى القبلي للسيادة) أنت سيد قريش، وكانوا قريبي عهد بالإسلام وأراد رسول الله صلى الله عليه أن يمكِّن العقيدة في نفوسهم بأن الخضوع التام للمالك الحقيقي وهو الله سبحانه.
وقد نُقل عن الإمام مالك رضي الله عنه امتناع إطلاق السيد على الله، إلا إذا أريد بيان هذا المعنى الذي قصده صلى الله عليه وسلم. ولا شك بأن هذه الشبهة المثارة لا تحمل استدلالاً على عدم التسويد لأن القرآن ذكرها للبشر بحق سيدنا يحيى وبحق العزيز في قصة يوسف.
أما السنة النبوية فقد تواترت فيها الأحاديث في شرعية التسويد وإطلاقه على غير الله تعالى. روى البخاريُ في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (وليقل المملوكُ سيدي وسيدتي فانهم المملوكون والربُ الله عز وجل) في إشارة إلى أنهم كانوا يستخدمون لسادتهم لفظ (ربي) كما ذكر القرآن حكاية قولهم في سورة يوسف {اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ} (42 يوسف) فنهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأمرهم بإطلاق لفظ (سيدي وسيدتي) وفي رواية أبي داودَ أيضاً (وليقل سيدي ومولاي). فإذا كان هذا بالنسبة للعبد مع سيده فكيف لا يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم!؟.
وكتبَ الشيخ محمد سليمان فرج رسالة بعنوان «دلائل المحبة وتعظيم المقام في الصلاة والسلام على سيد الأنام» بين فيها وجوب ذكر لفظِ السيادة عند ذكرِ اسمه الشريف صلى الله عليه وسلم، وذكر فيها عددا من الأدلة الشرعية نسوق بعضها لإخواننا:
جاء في صحيحِ مسلمٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله يقول للعبد يوم القيامة ألم أكرمك وأسودك)، أي أجعلُك سيداً. فهذا الامتنانُ من الله تعالى بنعمة السيادة يدلنا على أنها شرفٌ للإنسان، فكيف لا يكون أفضل الخلق جديراً بهذا الشرف. وبذلك يتجلى لنا أن من يقول إن السيادة لا تطلق إلا على الله سبحانه وتعالى فقط، لا يُعتدُّ بقوله لأنه مخالف لمنهج القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية. وكم من الصفات اشترك بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الله، تكون لله مطلقةً ولرسوله ولغيره مقيدةً، كاسمي الرحيم والرؤوف، فهما من أسماء الله الحسنى وصفاته، إلا أن الله وصف بهما نبيه فقال {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (128 التوبة) كما أن اسم السيد لم يرد في أسماء الله الحسنى.
وهناك أيضاً شبهة أخرى (أوردها صاحب الرسالة المشار إليها سابقا): "وهي ما يظنه بعض الناس حديثا نبويا وهو قولهم (لا تسيدوني في الصلاة)، فهو لا يصح نسبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لحن فاحش، وخطأ لغوي لا تجوز نسبته لأفصح من نطق بالضاد صلى الله عليه وسلم. لأن الفعل (سَيَّدَ) لم يرد في لغة العرب وإنما (سَوَّدَ). ولذلك أدرك بعض الناس هذا المعنى فقالوا إن الحديث يجب أن يكون بعبارة (لا تسودوني في الصلاة)، ولكن هذا أيضاً أشد بطلانا، وكذبٌ وافتراءٌ على سيدنا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. وقد أورده الكثير من المحدِّثين في الموضوعات التي وضعت كذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال بذلك السيوطي والحافظ السخاوي والإمام جلال الدين المحلي والشمس الرملي وابن حجر الهيثمي وبعض فقهاء الشافعية والمالكية والقاري في موضوعاته".
وكذلك قولهم (لا تعظموني في المسجد) فانه باطل أيضاً، وقيل لا أصل له. وقد جاء في «كشف الخطأ» للحافظ العجلوني ما نصه: "قال في المقاصد (أي السخاوي) لا أصل له". وقال الياجي في أوائل مولده المسمى «كنـز العفاة» "بل انه لو فرضنا مجرد احتمال وروده مع أن هذا بعيد أشد البعد، ومع أن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال، فانه يمكن تأويله بما يناسب المقام كما أوّل العلماء حديث (السيد الله…)".
إن التزام الأدب معه صلى الله عليه وسلم مقدمٌ على امتثال الأوامر، كما فعل سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما جاء سيدنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يؤم الناس فتأخر أبو بكر، فأمره أن يثبت مكانه فلم يمتثل، ثم سأله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الصلاة عن ذلك فأبدى له أنه فعل ذلك تأدباً معه صلى الله عليه وسلم قائلاً: ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم ينكر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك.
وكذلك التزام سيدنا علي بن أبي طالب الأدب دون امتثال الأمر حين كتب الكتاب للمصالحة في الحديبية وكان فيه لفظ رسولُ الله فقال سهيل والله لو كنا نعلم أنك رسولُ الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد ابن عبد الله. فقال صلى الله عليه وسلم إني رسول الله وان كذبتموني، امحه (أمرٌ لعلي بمحو لفظ رسول الله) فقال سيدنا علي: والله لا أمحوه. ومحاه النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة، ولم يُنكر على الإمام علي حُسن أدبه. قال العلماء المحققون وهذا من الأدب المستحب. وكذلك زيادة لفظ السيد عند ذكر أسمائه صلى الله عليه وسلم من الأدب المستحب، بل إن الأدلة الشرعية الآتية ترقى بذلك إلى درجة الوجوب.
ومن الأدب أيضا أن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه أخّر الطواف لما دخل مكة في قصة صلح الحديبية مع علمه بوجوب الطواف على من دخل البيت الحرام، أدباً معه صلى الله عليه وسلم أن يطوف قبله وقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم بعد علمه ذلك.
وجاء في صحيح البخاري ومسلم قولهُ صلى الله عليه وسـلم (أنا سيُد ولد آدم ولا فخر) وقال ابن عباس: السيد: الكريم على ربه. وقال قتاده: السيد: الذي لا يغلبه غضبه.
وفي البخاري ومسلم وأحمد (أنا سيدُ الناس يوم القيامة). وذلك شامل لسيدنا آدم عليه السلام، لقوله صلى الله عليه وسلم (آدمُ فمن دونه من الأنبياء يوم القيامة تحت لوائي). ومما رواه الخطيب قوله صلى الله عليه وسلم {أنا إمام المسلمين وسيد المتقين}.
فهذه الأحاديث الصحيحة التي بلغت حد التواتر تدل دلالة لا لبس فيها على أن لفظ السيادة واجب على كل مسلمٍ محبٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلكَ لفظُ (مولى) للحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد في مسنده و الترمذي والنسائي وابن ماجة (قال صلى الله عليه وسلم من كنت مولاه فعليٌ مولاه). وليس هذا فحسب، بل إن الصحابة الأجلاء وآل بيت رسول الله الكرامَ الأطهار هم سادتنا، فقد روى البخاري ومسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للسيدة فاطمة رضي الله عنها (يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سَيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة). فيجب علينا أن نذكر سيدتنا ومولاتنا فاطمة بلفظ السيادة عند ذكرها دائما. وكذلك سيُّدنا الحسن فقد روى البخاريُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عندما رأى سَيِّدنا الحسن (إن ابني هذا سيدٌ يصلح الله على يده بين فئتين متحاربين). وأيضا سيُدنا ومولانا الحسين فقد اخرج الترمذي بسند صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (الحسنُ والحسين سيدا شباب أهل الجنة).
وكذلك ورد في حق سيدنا ومولانا أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه وسيدنا ومولانا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما رواه الترمذي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أبو بكرٍ وعمرُ سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا من النبيين والمرسلين). بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علَّم أصحابه ذلك المعنى بأجلى وضوح، فقد روى البخاريُ ومسلمٌ عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه أن أهل قريظة لما نزلوا على حكم سعد بن معاذ أرسل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم فجاء على حمارٍ فقال صلى الله عليه وسلم للصحابةِ (قوموا إلى سيدكم). فهل بعد ذلك حجة!؟.
فإذا كانت هذه أخلاقُ الإسلام في معاملة أصحاب الفضل والعلم، فكيف تكون المعاملةُ مع أحب الخلق إلى الله وهو بمنزلة الأب الحقيقي للمؤمنين قال تعالى {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (6 الأحزاب) وكان الصحابة ينادون بعضهم بعضاً بهذا اللفظ الذي يشعر بالتكريم والإجلالِ، فقد روى الحاكمُ في المستدرك بسند صحيح (أن أبا هريرةَ رضي الله عنه لما ردَّ السلام على سيدنا الحسن قال وعليك السلام يا سيدي. ثم قال سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول إنه سيد).
وما قاله الفاروق رضي الله عنه: (أبو بكرٍ سيدنا واعتق سيدنا) (أي سيدنا بلال) رضي الله عنه.
وروى الحاكم بسند صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال (سيدُ الشهداء حمزةُ بن عبد المطلب).
وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بالصيغ الوارد عنه صلى الله عليه وسلم، فقد قال المحققون يزاد فيها لفظُ السيادة سواء في الصلاة أو خارجها مستدلين بعمل سيدنا أبي بكر في المحرابِ وامتناع سيدنا علي في قصة الصحيفة وليس في ذلك مخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن هناك قاعدتين: امتثال الأمر، والتزام الأدب، والأرجحُ التزامُ الأدبِ، وبهذا أفتى الإمام عز الدين بن عبد السلام وجماعةٌ من فقهاء الشافعية
حكيم عياض
2009-08-26, 09:52
حُبُّ آل البيت الكرام
سؤال: لماذا يتعلق الصوفية بحب آل البيت، وهل في الشرع أدلة يستند إليها؟
جواب: في تفسير ابن كثيرٍ للآيةِ الكريمة {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (33 الأحزاب). يذكر ابن كثير بعد أن بين أن هذه الآية تعني دخولَ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت إضافةً للمعنيين في الآية، يذكر حديثا رواه الإمام مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن السيدة عائشة رضي الله عنها تقول: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداةٍ وعليه مرط مُرجَّل من شعرٍ أسودَ فجاءَ الحسنُ رضي الله عنه فأدخله معه ثم جاءَ الحسينُ فأدخلهُ معه ثم قال صلى الله عليه وسـلم: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}. وقال مسلمٌ في صحيحه حديث: عن زهير بن حرب وشجاع بن مُخلد عن ابن علية قال زهير حدثنا إسماعيل بن إبراهيمَ حدثني أبو حيانَ حدثني يزيدُ بن حيانَ قـال: (انطلقتُ أنا وحصينُ بن سُبْرَهَ وعمر بن مسلم إلى زيدِ بن أرقمَ رضي الله عنه فلما جلسنا إليه قال له حصينٌ لقد لقيتَ يا زيدُ خيراً كثيراً، رأيتَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وسمعتَ حديثه وغزوتَ معه وصليتَ خلفه لقد لقيتَ يا زيدُ خيراً كثيراً. حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال يا ابن أخي والله لقد كبُرَتْ سني وقدِمَ عهدي ونسيتُ بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فما حدثتكم فاقبلوا وما لا فلا تكلفونيه فيه ثم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا خطيباً بماءٍ يدعى خماً بينَ مكةَ والمدينة فحمد الله تعالى وأثنى عليه ووعظَ وذكرَ ثم قال: أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشرٌ يوشِكُ أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تاركٌ فيكم ثقلين أولهُما كتابُ اللهِ تعالى فيه الهدى والنور فخذوا بكتابِ الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله عز وجل ورغب فيه ثم قال: وأهلُ بيتي، أذكّركُم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي (ثلاثاً). فقال له حصين ومَن أهلُ بيته يا زيد؟ أليس نساؤُه من أهل بيتهِ؟ قال: نساؤهُ من أهل بيته، ولكنَّ أهلَ بيته مَن حُرِمَ الصدقةَ بعده. قال ومن هم. قال: هم آلُ عليٍ، وآلُ عقيلٍ، وآلُ جعفرٍ، وآلُ عباسٍ رضي الله عنهم. قال كل هؤلاء حُرِمَ الصدقةَ بعده؟ قال: نعم).
وآية المباهلة هي دليلٌ آخرُ على تحديدِ آلِ بيتِ النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} (61 آل عمران) وفي تفسيرِ هذه الآيةِ ذكر الإمامُ القرطبيُ في الجامع لأحكام القرآن "أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءَ بالحسن والحسينِ، وفاطمةُ تمشي خلفه وعليٌ خلفها وهو يقول لهم إن أنا دعوتُ فأمِّنوا".
وسببُ نزول هذه الآية، المباهلة (الملاعنة)، أن النصارى لما قدموا من نجران يحاجون في عيسى ويزعمون فيه من الألوهيةَ، فأنزلها الله تعالى رداً عليهم. وروى الحاكم في مستدركه وقال صحيحٌ على شرط مسلم عن جابر قال (قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقبُ والسيد فدعاهما إلى الملاعنةِ فواعداه على أن يلاعناه الغداة. قال: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيبا وأقرا له بالخراج. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي بعثني بالحق لو قالا لا لأمطر عليهما الوادي ناراً) قال جابرٌ وفيهم نزلت {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ} قال جابرٌ: {وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ} رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم وعليٌ بنُ أبي طالب {أَبْنَاءَنَا} الحسـنُ والحسـين{وَنِسَاءَنَا} فاطمة.
وفي الآية 23 من سورة الشورى يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قال البخاريُ وغيرهُ روايةً عن سعيد بن جبيرٍ ما معناه أنه قال (معنى ذلك أن تودوني في قرابتي أي تحسنوا إليهم وتبروهم). وفي تفسير ابن كثيرٍ قال ابنُ جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا مالكُ بن إسماعيل حدثنا عبد السلامُ حدثني يزيدُ عن أبي زيادٍ عن مقسمٍ عن أبن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قالت الأنصارُ فعلنا وفعلنا وكأنهم فخروا، فقال ابن عباس أو العباس رضي الله عنهما (شكَ عبد السلام) لنا الفضلُ عليكم. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم في مجلسهم فقال (يا معشر الأنصار ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بي؟ قالوا بلى يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم ألم تكونوا ضلالاً فهداكم اللهُ بي؟ قالوا بلى يا رسول الله قال: أفلا تجيبوني. قالوا ما نقول يا رسول الله؟ قال ألا تقولون ألم يخرجكَ قومكَ فآويناك. أولم يكذبوك فصدقناك. أو لم يخذلوك فنصرناك. قال فما زال صلى الله عليه وسلم يقول حتى جثوا على الركب وقالوا أموالنا وما في أيدينا لله ولرسوله). قـال فنـزلت {قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} ويقال في هذه الآية معنى آخر هو (قل يا محمد لهؤلاء المشركين من كفار قريش لا أسألكم على هذا البلاغِ والنصحِ لكم مالاً تعطونيه، وإنما أطلب منكم أن تكفوا شركم عني ولا تؤذوني، وفيما بيني وبينكم القرابة). والذي يؤكد أن المعنى الأول الذي ذكرناه هو الأرجح، هو أن سورة الشورى سورةٌ مكيةٌ إلا أن بعض رواة أسباب النـزول ومنهم ابن عباس وقتاده قالوا أن الآيات 23،24،25،27 نزلت في المدينة وآية القربى من بين هذه الآيات بمعنى أن هذه الآية نزلت في المدينة بعد الهجرة رداً على من تفاخر على المهاجرين لتطلب منهم أن يودوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قرابته.
وقد ثبت في الصحيح ما قاله البخاريُ حدثنا عبدُ الله بن عبد الوهابِ حدثنا خالد حدثنا شعبةُ عن واقدٍ قال سمعت أبي يحدثُ عن ابن عمر رضي الله عنهما عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه (ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته). ويقول ابن كثير وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته بغدير خم (إني تاركٌ فيكم كتاب الله وعترتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض).
وقال الإمام أحمدُ حدثنا يزيدُ بن هارون عن إسماعيل بن أبي خالدٍ عن يزيد بن أبي زيادٍ عن عبد الله بن الحارث عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله إن قريشاً إذا لقيَ بعضهمُ بعضاً لقوهم ببشرٍ حسن وإذا لقونا، لقونا بوجوهٍ لا نعرفها قال: فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً وقال (والذي نفسي بيده لا يدخل قلب الرجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله) وفي رواية (والله لا يدخل قلب امرءٍ مسلمٍ إيمانٌ حتى يحبكم لله ولقرابتي).
قال ابن القيم رحمه الله "فآله صلى الله عليه وسلم لهم خواص منها حرمان الصدقة، ومنها أنهم لا يرثون، ومنها استحقاقهم خُمس الخُمس، ومنها اختصاصهمُ بالصلاةِ عليهم، وقد ثبت أن تحريم الصدقة واستحقاق خمس الخمس وعدم توريثهم مختص ببعض أقاربه صلى الله عليه وسلم".
وقال ابن تيمية في رسالةِ «العقيدة الواسطية» وهو يذكر عقيدةَ أهل السنة ويتبرأ من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل قال: "ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قـال في يـوم غدير خم (أذكركم الله في أهل بيتي). وقال أيضاً للعباس عمه وقد شكا إليه أن بعض قريش تجفو بني هاشم فقال (والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي)". انتهى كلام ابن تيمية.
فعلى الذين يدّعون بأن تمجيد ومحبة آل البيت الكرام هو مذهب الشيعة فقط أن يتقوا الله تعالى ويتوبوا إليه، هم وأولئك الذين يوهمون الناس بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا أهل له ولا آل مستندين إلى قول الله تعالى {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} (40 الأحزاب). متجاهلين أن هذه الآية نزلت في نفي التبني، ولم تنـزل لتنفي أن له صلى الله عليه وسلم آل بيت كرام أُمرنا بالصلاة والسلام عليه وعليهم:
(اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم. في العالمين إنك حميد مجيد).
ونختم هذا الفصل بما نظمه الإمام الشافعي في مدح آل البيت:
يــا آل بيت رسول الله حبكمُ فـرض من الله في القرآن أنزله
يكفيكمُ من عظيم الشأن أنكمُ من لم يصل عليكم لا صلاة له
التـبرك
سؤال: ما هو حكم الإسلام في البركة والتبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم وآثاره، والصالحين وآثارهم؟ وهل في التبرك شبهة شرك؟
جواب: بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم وردت بها أحاديث كثيرة منها ما أخرجه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه وكذلك مسلمٌ والترمذي والنسائي واحمدُ رحمهم الله قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حانت صلاة العصر والتمسَ الناسُ الوضوء فلم يجدوه فأُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوءٍ فوضع صلى الله عليه وسلم يده في ذلك الإناء وأمر الناسَ أن يتوضئوا منه فرأيتُ المـاء ينبعُ من تحتِ أصابعه فتوضأَ الناسُ حتى توضئوا من عندِ آخرهم).
وأخرج مسلمٌ عن معاذِ بن جبلٍ رضي الله عنه فذكر حديث جمعِ الصلاة في غزوةِ تبوك إلى أن قال (وقال (يعني الرسول صلى الله عليه وسلم) إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار، فمن جاءها منكم فلا يَمسَّ من مائها شيئاً حتى آتي، قال فجئناها وقد سبق إليها رجلان (كان هذان الرجلان من المنافقين) والعينُ مثل الشراك تبض بشيء (تسيل قليلاً قليلاً) فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم هل مسستما من مائها شيئا؟ فقالا نعم، فسبّهما وقال لهما ما شاء الله أن يقول، قال: ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلاً قليلاً حتى اجتمع في شيء وغسل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وجهه ويديه فيه ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير، فاستقى الناس ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معاذ يوشِك إن طالت بك حياةٌ أن ترى ما هاهنا قد مليء جناناً).
أما التبرك بآثارِ الصالحين فهو جائز شرعا بالأدلة الشرعية التالية:
أخرج الطبراني عن جعفر بن عبد الله بن الحكم (أن خالد بن الوليد رضي الله عنه فقد قُلنسوةً له يومَ اليرموك فقال اطلبوها فلم يجدوها فقال اطلبوها فوجدوها فإذا هي قُلنسوةٌ خلقة (بالية) فقال خالد: "اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه فابتدر الناسُ جوانبَ شعره فسبقتهم إلى ناصيته فجعلتها في هذه القُلنسوَةِ فلم أشهد قتالا وهي معي إلا رزقت النصرة).
وأخرج ابنُ سعد عن إبراهيمَ بنِ عبدِ الرحمن بـن عبـدِ القاري (أنه نظر إلى ابنِ عمرَ رضي الله عنهما وضع يده على مقعدِ النبي صلى الله عليه وسلم من المنبرِ ثم وضعها على وجهِه). وعنده أيضاً عن يزيد بن عبد الله بن قُسيط قال: (رأيتُ ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا خلا المسجدُ أخذوا برمانةِ المنبر الصلعاء التي تلي القبر بميامنهم ثم استقبلوا القبلة يدعون).
والتبرك هنا لم يكن بمادة الخشب وسواها وإنما كان بما تمثله من آثار النبوة. ومن المعلوم أنه يجوز قصد الأماكنِ المباركةِ التي يستحبُ فيها الدعاءُ والتوجهُ كالمساجد والبقاع التي لها خصوصية. ودليل ذلك ما يكون في مشاهد الحج واختيار أمكنة معينة فيه للدعاء والتعبد ونحوهِ. ومما يدل على ذلك قوله تعالى {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِمَ مُصَلًّى} (125 البقرة) ونحن نرى الآن في بيت الله الحرام المقام منتصبا بين الإمام والكعبة، فهل في ذلك شرك!؟.
ويؤيد ذلك حديثُ شد الرحال إلى المساجدِ الثلاثة، وقد صحَ عن عمرَ رضي الله عنه قولهُ لو كان مسجد قباء في كذا لذهبنا إليه، للحديث الذي حث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوضوء في البيوت ثم المجيء إلى قباء.
وتجوز زيارة قبور الأنبياء والصالحين لالتماس العظة والعبرةِ والتبرك بهم جميعاً، فزيارةُ القبور مندوبةٌ وزيارة قبورِ أهل الله من باب أولى لأن العظة والبركة عندهم أشد. أما الذين يستدلون بحديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) في النهي عن زيارة قبور الأنبياء والصحابةِ والصالحين فنقول بأن النهي جاء عن عدم جواز شد الرحال والسفر إلا إلى المساجد الثلاثة. أما قبور الأنبياء والصحابة والصالحين فزيارتها مندوبة للعظة والبركة ولا نهي في ذلك. فكلامه صلى الله عليه وسلم في المساجد ليبين للأمة أن ما عدا هذه المساجد الثلاثة متساوٍ في الفضل، فلا فائدة في التعب بالسفر إلى غيرها، أما هذه الثلاثة فلها مزيد فضلٍ، ولا دخل للمقابر في هذا الحديث فإقحامها في هذا الحديث يعتبر ضرباً من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم على من يتحمله إثم الكذب عليه صلى الله عليه وسلم. فنحن عندما نزور قبور الأنبياء والصحابة والصالحين لا نقصد شد الرحال إلى مساجدهم إنما نقصد زيارة قبورهم ودعاء الله عز وجل من عندهم والتبرك بهم كزيارتنا لأنبياء الله في حرم إبراهيم الخليل أو زيارتنا لساداتنا في مؤتة والأغوار والخليل وغيرها من الأماكن التي تعطرت تربتها وتشرفت بأجساد عز نظيرها.
وإذا كان هناك تشدد وريبةٌ في ذلك قديماً فلأنهم كانوا حديثي عهد بالشرك فخُشي أن تختلط الأمور عليهم، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم زيارة القبور ابتداءً، ثم قال بعد أن وضحت عقيدة التوحيد (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة). وما كان قطعُ عمرَ لشجرة البيعة إلا لمنع الشركِ الذي كان لا يزال متمكنا أو قريباً من النفوس، ولم يكن أبداً لمنع التبرك، وفرقٌ هائل بين الإشراك والتبرك الذي هو من تأكيد الإيمان بالله وقدرته وهو من أدلة استمرار آثار العمل الصالح وهو اجتهادٌ من عمر لسد الذريعة.
ولذلك وجدنا أن من أبرز الدلائل الدالة على مشروعية واستحباب التبرك بـه صلى الله عليه وسلم وبآثاره الشريفة بعد وفاته فضلاً عن حياته ما فعله سيدنا أبو بكر الصديق لما طلب عند وفاته أن يدفن التماساً للبركة، ورغبة في القرب بجوار النبي صلى الله عليه وسلم، بل عند قدميه الشريفتين كما ألحّ الخليفة الفاروق بنفسه بذلك.
جاء في صحيح البخاري (أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه استأذن أُمنا عائشة رضي الله عنها مرتين بعد أن طُعن أن يدفن بجوار المصطفى صلى الله عليه وسلم، فمرة أرسل ابنه عبد الله ليقول لها يستأذنك أمير المؤمنين عمر. ثم قال له إذا أنا متُ فاذهبوا بجنازتي إلى بيتِ عائشة وقفوا بي على الباب ثم قولوا يستأذن عمر، فإني عندها لم أعد أمير المؤمنين، فإن أذنت وإلا فادفنوني في مقابر المسلمين). فما هو إذن سر إصرار هذين الجهبذين الشامخين على أن يدفنا بجوار الحبيب صلى الله عليه وسلم سوى التماس بركته وقربه، وهو الذي قال فيهما (اقتدوا باللذيْن من بعدي أبي بكر وعمر) رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة والبخاري في تاريخه وغيرهم.
وفي أدلة أهل السنة والجماعة قال الشيخ يوسف الرفاعي: "والتبرك بآثار الصالحين جائز، وقد نقل الحافظ العراقي في «فتح المتعال» بسنده أن الإمام أحمد ابن حنبل أجاز تقبيل قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره تبركاً، قال وعندما رأى ذلك الشيخ ابن تيمية عجب قال وأي عجب في ذلك وقد روينا أن الإمام أحمد تبرك بالشرب من ماء غسل قميص الإمام الشافعي. وكان يأخذُ منها ما يمسح به وجهه وأعضاءه، كما ذكر أصحاب الطبقات وغيرهم. بل قد روى ابن تيمية نفسه تبرك أحمد بآثار الشافعي.
وفي تاريخ الخطيب أن الإمام الشافعي كان يتبرك بزيارة قبر الإمام أبي حنيفة مدةَ إقامته بالعراق.
وفي صحيح مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجة (عن أسماء بنت أبي بكر أنها أخرجت جُبةً طيالسية وقالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها فنحن نغسلها للمرضى فنستشفي بها).
كذلك ثبت أن بلالاً رضي الله عنه مرغ خديه على عتبات الحجرة النبوية باكيا بين يدي الصحابة يومَ عاد من الشامِ إلى المدينة". وسنرى ذلك في (فصل الزيارة النبوية). ولم يرد أن أحدًا من الصحابة الكرام أنكر عليه ولا على فاطمة فيما ورد عنها من التبرك بتربة القبر الشريف.
فضل زيارة الرسول
أولاً: مشروعية زيارته صلى الله عليه وسلم :
اتفقت الأدلة الشرعية على استحباب زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن هذه الزيارة من أقرب الوسائل لنيل شفاعته صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكرنا سابقاً قول الله تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ...الخ}. وأن هذه الآية تُظهرُ كمالَ فضل زيارته دون فرق بين قريب الدار وبعيدها ولا بين زيارتهِ صلى الله عليه وسلم في حياته ولا بعدَ وفاتِه، فإن من زاره بعد وفاتِه كمن زاره في حياته. وهي نص طيبٌ للترغيب بزيارتهِ والسفرِ إليه واستغفارِ الله من عنده وطلبِ شفاعته. وقد قلنا بأن هذه الآية وان كانت قد نزلت بسببٍ خاص إلا أن العبرةَ بعمومِ اللفظِ لا بخصوصِ السبب.
وفي آيةٍ أخرى يقول الله تعالى{وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (100 النساء) وهذه الآية وان لم تكن نصاً في الزيارةِ إلا أنه استناداً للقاعدةِ السابقة فلا شكَ أن زيارته صلى الله عليه وسلم لا سيما من الأماكنِ البعيدةِ، من الهجرة إلى الله ورسوله. وقبل الدخولِ في التفصيل أودُ أن أورد الأحاديث النبوية الشريفة التي تتعلق بزيارته صلى الله عليه وسلم:
أخرج أبو داودَ بسندٍ صحيحٍ عنه صلى الله عليه وسلم قال (ما من أحدٍ يسلمُ عليَّ إلا رد اللهُ عليَّ روحي حتى أردَّ عليه السلام).
وروى الدارقُطني والبيهقيُ عن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صـلى الله عليه وسـلم (من زارَ قبري وجبت له شفاعتي).
وروى الطبراني والدارقُطني عن ابنِ عمرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من جاءني زائراً لا تحمله حاجةٌ إلا زيارتي كان حقا علي أن أكونَ له شفيعاً يوم القيامة).
وروى الدارقُطني في السننِ والطبرانيُ والبيهقيُ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي).
وروى العُقيلي مرسلاً عن رجلٍ من آل الخطاب قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم(من زارني متعمداً كان في جواري يوم القيامة).
وروى الدارقُطني عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي).
ومن المعروف والمعلومِ من هذه الأحاديثِ وأحاديثَ أخرى أنه صلى الله عليه وسلم حيٌ على الدوام، إذ من المُحالِ أن يخلوَ الوجودُ كلُه من واحدٍ يسلمُ عليه في ليلٍ أو نهارٍ. فنحن نؤمنُ ونصدقُ بأنه صلى الله عليه وسلم حي يرزقُ وأن جسدَه الأطهر لا تأكلهُ الأرضُ وكذا سائرُ الأنبياء، والإجماعُ على هذا. وكذلك العلماءُ والمؤذنونَ والشهداء. وقد كشِفَ عن أكثر من واحدٍ من العلماءِ العاملينَ والأولياءِ والشهداء فوجِدوا لم تتغير أجسادُهم. {وَلاَ تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} (154 البقرة).
ولما حفرَ معاويةُ رضي الله عنه العينَ التي استنبطها بالمدينة وذلك بعد أُحدٍ بنحوِ خمسين سنة، ونقل الموتى أصابت المسحاة قدم سيدنا حمزةَ عمِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فسالَ منها الدم.
وقد جمعَ البيهقيُ جزءاً في حياة الأنبياء في قبورِهم واستدلَ بكثيرٍ من الأحاديث أهمُها الحديث الصحيح (الأنبياءُ أحياءٌ في قبورهم يُصلّون). يشهد له حديثُ مسلمٍ (مررتُ بموسى ليلةَ اسري بي عند الكثيبِ الأحمرِ وهو قائمٌ يصلي في قبره). وإمامةُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالأنبياءِ ليلةَ الإسراء تشهد لهذا المعنى.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم (ردَّ اللهَ عليَّ روحي) أنه لا يُسلِّمُ عليه أحد من زائريه إلا في حال كون روحهِ الطاهِرة مردودةً إليه وهي قطعاً لا تفارقهُ أبداً، ولكن على غيرِ الصورةِ التي يعهدُها الناس ويألفونَها في هذه الحياة، فهم أحياءٌ عند ربهم كما الشهداء. {بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (169 آل عمران). وثبوتُ حياةِ الأنبياء من باب أولى وذلك مسلّمٌ به منطقاً وعقلاً، وإن شوهدت أجسادُهم في قبورِهم خاليةً منها عاريةً عنها مثلهُم في ذلك مَثَلُ النائمِ يَغَطُّ في نومه وهو يشاهد عجائبَ في الملكوتِ، ويكتسبُ أسراراً ينتفع بها، ويحدثك عنها بعدَ يقظته من نومه. ومعلوم انه لا يخلو وقتٌ من الأوقاتِ ولا لحظة من اللحظات إلا وكثير من أمته يصلون ويسلمون عليه في صلواتِهم وغيرها ويصلهُ علم ذلك بواسطة الملَك الذي يبلغه صلاة أمته وسلامها عليه فيدعو لمن يصلي عليه ويرد السلامَ على من يسلمُ عليه منهم.
ويشرع شدُ الرحالِ إلى مسجده الذي شَرُفَ بوجود قبره صلى الله عليه وسلم فيه. ففي الحديث الصحيح (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى). والحديث صريح في اعتبارِ أن المسجد إنما شَرُفَ بنسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى ابنُ عساكرَ بسندٍ جيد عن أبي الدرداءِ رضي الله عنه قصةَ نزول بلالِ بن رباحٍ في داريّا بعدَ فتح عمر رضي الله عنه بيت المقدس قال: (ثم إن بلالاً رأى النبي صلى الله عليـه وسلم وهـو يـقول له: ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آن لك أن تزورني؟ فانتبه حزيناً خائفاً فركب راحلته وقصدَ المدينةَ فأتى قبرَ النبي صلى الله عليه وسلم، فجعلَ يبكي عندهُ ومرّغ وجهه عليه. فأقبل الحسنُ الحسينُ فجعل يضمهما ويقبلهما فقالا: نشتهي أن نسمع أذانك الذي كنت تؤذن به لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد. فعلا سطح المسجد ووقف موقفه الذي كان يقف فيه، فلما أن قال الله أكبر، ارتجت المدينة فلما قال أشهد أن لا إله إلا الله، ازدادت رجتها، فلما قال أشهد أن محمداً رسول الله خرجت العواتق من خُدورهن وقالوا بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما رُئي يومٌ أكثر باكياً ولا باكيةً بالمدينة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك اليوم).
فليعلم المرءُ أن من أعظم فضائِل زيارته صلى الله عليه وسلم أن زائره إذا صلى وسلم عليه عند قبره سمعه سماعاً حقيقياً ورد عليه من غير واسطة. بخلاف من يصلي أو يسلم عليه من بُعد فإن ذلك لا يبلغه ولا يسمعه إلا بواسطة. والدليل على ذلك ما جاءَ عنه صلى الله عليه وسلم بسند جيد (من صلى عليَّ عند قبري سمعته ومن صلى عليَّ من بُعد أُعلمته) وفي روية (ما من عبد يسلم عليَّ عند قبري إلا وكَّل الله به ملكا يبلغني).
وأخرج ابن خزيمة وابن حبان والحاكم في صحاحهم وقال هذا حديث حسن صحيح على شرط البخاري وصححه النووي في أذكاره عنه صلى الله عليه وسلم قال (من أفضل أيامكم يوم الجمعةِ فيه خـلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقةُ، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليَّ. قالوا يا رسول الله وكيف تُعرض صلاتُنَا عليك وقد أرمت (يعني بليت) قال إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء).
إن الأنبياء بحق أحياءٌ في قبورهم. ويسن السلام عليهم عند قبورهم ومع البعد عنها، وقد جاء عن ابن المسيب ما يثبت ذلك وهو أن يزيد بن معاوية، لما حاصر المدينة المشرفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وقتل من أهلها من قتل حتى خلا المسجد الشريف عن إقامة الصلاة فيه مدة، قال ابنُ المسيب: (كنت فيه وما كنتُ أعلم دخول الأوقات، إلا بسماع الأذان والإقامة من داخل القبر المكرم). ومما يثبت حياتهم البرزخية أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (مررتُ بموسى ليلة اسري بي وهو قائم يصلي في قبره). ثم لنعلم بأن أمور الآخرة لا تدرك بالعقل، وأحوال البرزخ أشبه بأحوال الآخرة.
ولنتيقن ونحن نقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حيٌ يسمعُ صوتنا وتوسلنا وشغفنا به وسؤالنا منه أن يشفع لنا إلى ربه حتى يرضى عنا ويعطينا ما هو أهله من خيري الدنيا والآخرة.
وليعلم الزائر أيضاً انه يستحب لمن زار النبي صلى الله عليه وسلم أن يقف للدعاء مستقبلا القبر الشريف فيسأل الله تعالى ما يشاء من الخير والفضل ولا يلزمه أن يتوجه إلى القبلة، ولا يكون بوقوفه ذلك مخالفاً للشرع، وقد نص العلماء على هذا الأمر بل قد ذهب بعضهم إلى القول بالاستحباب. والأصل في هذا الباب هو قصة الإمام مالك بن أنسٍ لما ناظره أبو جعفر المنصور في المسجد النبوي (ارجع إليها في باب التوسل): (إلى أن قال أبو جعفر يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. فقال الإمام مالكٌ ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة!؟ بل استقبله واستشفع به فيشفّعه الله. وذكر الآية {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ} (64 النساء)).
ثم تأمل معي حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته حتى بعد وفاته. قال الإمام الحافظ الدارمي في كتابه «السنن» (باب ما أكرم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بعد موته) حدثنا أبو النعمان حدثنا سعيد بن زيد حدثنا عمرُ بنُ مالكٍ النكري حدثنا أبو الجوزاء أوس بن عبد الله قال: (قحط أهل المدينة قحطاً شديداً فشكوا إلى عائشة فقالت انظروا قبر النبي صلى الله عليه وسلم فاجعلوا منه كوة إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف قال ففعلوا فمطرنا مطرًا حتى نبت العشب وسمنت الإبل وتفتقت من الشحم فسمي عام الفتق). فهذه القصة تدفع دعوى كل المنكرين لحياته في قبره الشريف صلى الله عليه وسلم وتـثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم يهتم بأمته في قبره حتى بعد وفاته. روى الحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط الشيخين أنه ثبت إن أم المؤمنين عائشة قالت: (كنت أدخل بيتي الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأضع ثيابي وأقول إنما هو زوجي وأبي. فلما دفن عمر معهما فوالله ما دخلت إلا وأنا مشدودة حياءاً من عمر). ولم تعمل عائشة هذا باطلا بل هي تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه يعلمان من هو عند قبورهم.
ربيع ريغ
2009-08-26, 13:25
مشكووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووور استاذي الفضل ادامك الله في المنتدى
ينتفع بعلمك الاخرون
حكيم عياض
2009-08-26, 21:08
الله ايعافيك يا اخ مهند والأخ ربيع ريغ
الله ايعافيك يا اخ مهند والأخ ربيع ريغ
حكيم عياض
2009-08-27, 08:33
تابع
ثانياً: آداب الزائــر:
على الزائر إذا أراد زيارة النبي صلى الله عليه وسلم إخلاص النية لله، وينوي التقرب بالزيارة، ويعزم السفر، ويزداد بالعزم شوقاً وشغفاً وحباً لقربه صلى الله عليه وسلم، وكلما ازداد دنواً من طيبة ازداد غراماً وحنواً، إذ من لازم حبه صلى الله عليه وسلم كثر شـوقه إليه. ثم في الطريق أكثر من الصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم وأشغل معظم وقته في ذلك وغيره من القربات، ثم إذا دنا من حرم المدينة المنورة فليزدد خضوعاً وخشوعاً، ويستشعر قبوله ويستشعر استقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم له في حماه وحرمه. مما يدفعه لزيادة الصلاة والسلام وترديدهما. حتى إذا بلغ حرم المدينة فليقل بعد الصلاة والتسليم (اللهم إن هذا هو الحرم الذي حرمته على لسان حبيبك ورسولك صلى الله عليه وسلم فحرمني على النار وأمّني من عذابك يوم تبعث عبادك وارزقني ما رزقته أولياءك وأهل طاعتك). ثم ليغتسل ويلبس أنظف ثيابه ويتطيب. ثم إذا تراءت له القبة الخضراء فليستحضر عظمتها وتفضيلها وأنها البقعة الشريفة التي تظل جسد أشرف خلق الله كلهم، ثم تراب طيبة يتمثله في خاطره ويتمثل مواقع أقدامه الشريفة عند تردده عليه جيئةً وذهابا وأنه ربما يطأ تراباً وطأه صلى الله عليه وسلم بقدمه الشريفة، مع خشوعه وسكينته، ثم ليحذر أن يحبط الله عمله بسوء أدبه في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرمه، وليسأل الله تعالى أن يهبه لقاء نبيه في الدنيا قبل الآخرة.
ثم يستحب له أن يقدم صدقة بين يدي نجواه قبل الدخول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ليقع في خاطره أنه على أرض هي محط نظر الله ورعايته وانه آتي مهبط أبي الفتوح جبريل، ومنـزل أبي الغنائم ميكائيل، وموضع الوحي والتنـزيل، فليمسك قلبه بيديه داعيا إياه للخشوع والخضوع ثم ليفرغ قلبه وليصفي ضميره (فقلبك بيت المالك وهو أغير منك ياسالك)[1] (http://www.daraleman.org/Main8_library/delala/b4-f8.htm#_edn1#_edn1) ثم إذا صار في المسجد سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بُعد، ثم لينوي الاعتكاف وإن قل زمانه، ثم يتوجه إلى الروضة الشريفة خاشعاً غاضاً طرفه غير مشغول بالنظر إلى شيء من زينة المسجد وغيره وهذا مقتل فليُحذر، مستحضراً هيبة ووفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا بانكسار وخضوع وافتقار فيقف في الروضة الشريفة مصلى الحبيب صلى الله عليه وسلم إن استطاع وإلا ففي المكان الأقرب ويصلي التحية ركعتين خفيفتين يقرأ فيهما (قل يا أيهـا الكافـرون) والإخلاص وليسجد بعدها سجدة شكر خالصة لله تعالى أن مكّنه من الزيارة، وليحذر رفع الصوت في المسجد {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} (2-3 الحجرات).
وفي البخاري ان عمرَ بنَ الخطاب رضي الله عنه قال لرجلين من أهل الطائف (لو كنتما من أهلِ البلدِ لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقال أبو بـكر الصديق (لا ينبغي رفعُ الصوت على النبي لا حياً ولا ميتاً). وان عائشة رضي الله عنها (كانت إذا وُتِدَ الوتد أو ضرب المسمارُ في بعض الدور المطيفةِ بالمسجدِ النبوي الشريف ترسلُ إليهم أن لا تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم).
ثم اعلم أنه صلى الله عليه وسلم يتأذى ممن لا يراعي كمال الأدب معه لأنه صلى الله عيه وسلم حيٌ في الدارين. ثم يتوجه إلى الحجرة الطاهرة المطهرة مستعيناً بالله مستحضراً الأدب بهذا الموقف المهيب غاضاً طرفه واضعاً يمينه على شماله مستقبلاً الوجه الشريف. وليست هناك صيغة محددة للسلام عليه صلى الله عليه وسلم، فللزائر أن يأتيَ بالصيغة التي يشاء ويكفية أن يقول السلام عليك يا رسول الله، وله أن يأتي بكل أنواع التمجيد والمديح وذكر فضائله صلى الله عليه وسلم بالصيغة التي يريد. ثم يقول السلام عليك يا أبا بكرٍ الصديق، وله أن يأتي بذكر مناقبه رضي الله عنه. ثم يقول السلام عليك يا أبا حفصٍ عمر، وله أن يأتي بذكر مناقبه رضي الله عنه.
وإذا وقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فليستحضر زيارته واستقباله له كما لو كان يزورهُ حياً، ولا يقترب من قبره إلا كما يقتربُ منه لو كان على وجه الأرض، ثم ليغض الطرف وليحذر أن يشتغل فكره ونظره بشيء من زينة المكانِ فإنه صلى الله عليه وسلم كما قال الإمام الغزالي (عالمٌ بحضورك وقيامك وزيارتك له فمثّل صورته الكريمة في خيالِكَ موضوعاً في اللحدِ بإزائِك وأحضر عظيمَ رتبته في قلبك).
وإياك إياك أن تستدبرَ القبر لا في الصلاة ولا في غيرها. وابتعد عن ذاك المكان وقت الصلاة ولا تُصَلِّ إلى القبر، فلا تجعل حجرته الشريفة وراء ظهرك ولا بين يديك. ولتكن زيارتُك بإطراقٍ كاملٍ واحترامٍ. وإياك أن تخوض فيما نهيتَ عنه في مجلسه، وإن رأيت نفسك تنـزلق لذلك فأخرج من المكان حالاً لأن ذلك خير لك.
ثم إذا مررت بالحجرةِ الشريفةِ ولو من خارج المسجدِ فقف وسلم. حدث أبو حازم (أن رجلا أتاه فحدثه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأبي حازم (أنت المارُ بي معرِضا لا تقف تسلم علي) فلم يدع ذلك أبو حازم منذ بلغته الرؤيا).
وعليه أن يكثر من الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم وأن يحرص على أداء الصلوات الخمسِ في المسجدِ جماعةً لقوله صلى الله عليه وسلم (صلاةٌ في مسجدي هذا أفضل من ألفِ صلاةٍ فيما سواه إلا المسجد الحرام). وهذا التفضيل يعم الفرض والنفل لله كما قال النووي (وهذا التفضيلُ أيضاً يعمُ المسجد القديمَ وما أضيفَ إليه من جديدٍ الآن وقبل الآن). فقد روي عنه صلى الله أنه قال (لو بني هذا المسجد إلى صنعاء كان مسجدي) ثم ليكثر الصلاة في روضته الشريفة لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح مرفوعا (ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة). شريطة أن لا يزاحم ولا يؤذي أحداً حتى لا يخرج عن أدب الزيارة من الصمت والتسامح. ويستحبُ له ختم القرآنِ العظيمِ فيه، لما أخرج سعيدُ بنُ منصور عن أبي مخلد قال كانوا يحبون لمن أتى المساجد الثلاثة أن يختم فيها القرآن قبل أن يخرج، قال المجد (ويديم النظر إلى الحجرة الشريفة فإنه عبادةٌ قياساً على الكعبة وإذا كان خارج المسجد أدام النظر إلى القبة الخضراء).
ثم يستحبُ له الخروجُ إلى البقيع بعد السلامِ على النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنّا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين اللهم اغفر لأهل بقيع الغردق ولا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم. ثم يُبقي حالة قلبه وخشوعِه وانكساره طيلةَ إقامته في المدينة. ويستحب له أن يتصدق فيها ما أمكنه. وإذا نوى العودةَ إلى دياره فليودع الحرمَ بركعتين بالمصلى النبوي أو ما قرُبَ منه ويدعو بما شاء ثم يقول: اللهم لا تجعله آخر العهد بهذا المحل الشريف. ويأتي الحجرة الطاهرة ويسلم ويدعو بما تقدم ثم يعود القهقرى متألماً حزيناً على الفراق ساكباً العبرات متصعداً الزفرات متعلق القلب بالعودة لتلك الديار. معاهداً الله تعالى على طاعته على الدوام والتزام أمره وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم محافظاً على ما عاهد الله عليه غير ناكث ولا مفرط.
ياخير من دفنت بالقاع أعظمـه فطابت من طيبهن القاع والأكـم
نفسي الفداء لقبر أنت سـاكنه فيه العفاف وفيه الجـــود والكـرم
سيدتنا فاطمة الزهراء
[1] (http://www.daraleman.org/Main8_library/delala/b4-f8.htm#_ednref1#_ednref1) . من كلام سيدنا عبد الرحمن الشريف في نصائحه الرحمانية
حكيم عياض
2009-08-27, 08:36
منهج الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية في العمل
الصحبـة
يقول الله تعالى في وصف من لا صاحب له {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} (100-101 الشعراء)، ولفظ الحميم لغة يشبه لفظ الهميم وبينهما علاقة واضحة من حيث المعنى إلا أنه أبدلت الهاء حاءً لقرب مخرجهما إذ هما من حروف الحلق، والهميم مأخوذ من الاهتمام أي يهتم بأمر أخيه فالاهتمام بمهم الصديق حقيقةُ الصداقة.
قد عرفنا فيما مضى أن الصوفية ليست ابتداعاً أو منهاجاً جديداً للتطبيق، إنما هي تطبيق عملي للشرع قولاً وعملاً وأخلاقاً، وتُعنى بإصلاح ظاهر السالك وباطنه، وأن الشيخ المربي لا يكتفي بتعليم مريده أمور دينه بصورة نظرية بحتة، وإنما يأخذ بيده لتطبيق أحكام الشرع عملياً، يثنى عليه إذا أحسن، وينبهه إذا زل، ويتفقده إذا غاب، ويذكِّره إذا نسي، ويزكي قلبه إذا قسا ويحفزه إذا فتر ويحنو عليه، ويحبه محبة الوالد لولده، وهو يقصد بذلك وجه الله تعالى.
والصحبة أمر مطلوب في المسير إلى الله تعالى، وقد حث الله تعالى عليها حين قـال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (119 التوبة) والصادقون هم نخبة مختارة في المجتمع المسلم ذكرهم الله تعالى بقوله {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} (23 الأحزاب) ثم حث الله تعالى رجال نبيه على ملازمة أهل الصفة من فقراء المسلمين الذين كانوا على صفة المسجد النبوي فقال تعالى {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (28 الكهف)، ثم خاطب الله نبيه ليعلمنا ويرشدنا فقال {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} (15 لقمان)، ثم يبين الله تعالى خسران وضلال الظالمين الذين لم يتخذوا لأنفسهم صاحب صـدق، وإنما اتخذوا رفـاق وأخلاء السوء قال تعالى {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً * لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً} (27-29 الفرقان).
ثم يبين الله تعالى أن كل العلاقات يوم القيامة بين الناس علاقات عداء حتى بـين المتحابين في الدنيا إلا بين المتقين، فإنهم يأتون يوم القيامة أخلاء متحابين كما كانوا في الدنيا قال تعالى {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} (67 الزخرف).
ثم حث تعالى على ولوج أبواب أهل المعرفة لمعرفة طرق الوصول إلى رضى الله ورحمته فقال تعالى {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيرًا}(59 الفرقان).
فالصحبة إذن إما أن تكون مع أهل الفساد والضلال فيهوي معهم إلى دركهم، وإما أن تكون مع أهل الإيمان والتقوى ومعرفة الله، فيعلو معهم إلى علاهم، ويكتسب منهم الصفات الحميدة ومعرفة الله، ويداوي بهم عيوب وآفات نفسه. ويكفي أن نعلم أن الصحابة لم ينالوا هذه الرتبة إلا بصحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومجالستهم له، وكذلك التابعون لم ينالوا هذه الرتبة إلا بصحبة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الأمر حتى قيام الساعة بصحبة من أخذوا المعرفة بالتلقي كابراً عن كابر حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سؤال: إذا قام المسلم بواجباته وراقب الحلال والحرام هل هو بحاجة إلى سلوك أو إتباع شيخ أو طريقة؟
جواب: إن رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم في الإرشاد والتزكية لم تتوقف بوفاته صلى الله عليه وسلم، بل هي قائمة ما دامت الأرض والسماوات، من خلال وُرَّاث ورثوا عنه صلى الله عليه وسلم العلم والمعرفة وجميع الأخلاق الطيـبة، التي بُعثَ صلى الله عليه وسلم ليتممها. وهؤلاء العلماء العاملون هم ورثتُه صلى الله عليه وسلم، أخذوا نوراً من نوره وهداية من هدايته وبصيرة من بصيرته، مَن لازمهم وصاحبهم وأخذ عنهم فهو متصل السند من خلالهم برسول الله صلى الله عليه وسلم كابراً عن كابر. إذ هم الذين يحملون لواء المعرفة والتربية حتى قيام الساعة، وهم الذين عناهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الذي أخرجه الإمامان مسلم والبخاري في صحيحهما (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).
وقد اعتاد الناس عبر السنين الأخذ بهؤلاء المرشدين، وعرفت عبر الزمان القيمة الحقيقية لصحبتهم، والخسران الكبير لمن ضل عنهم وابتعد، كيف لا وهم أهل ذكر ومجالسة الله، الذين كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) وبصحبتهم تزكو النفوس، وترتقي الأرواح، وتتم مكارم الأخلاق، وتعالج القلوب، وتـتحصن بالعقيدة الصحيحة من مداخل الشيطان، ويزداد الإيمان بصحبتهم وطاعة الله معهم لأنه يزيد وينقص كما ذكر الله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} (4 الفتح).
وهذه الخصال جميعاً لا يمكن أن تكون للشخص بمفرده ولا من خلال الكتب بل لا بد من مجالسة ومحبة وصحبة وارثٍ محمدي يذكّرك بالله حاله، ويقوّم اعوجاجك، ويرقى بك في مدارج العلم واليقين، ولذلك ذُكر عن ابن عباس رضي الله عنهما فيما رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح (قيل يا رسول الله أي جلسائنا خير؟ قال: من ذكّركم اللَّهَ رؤيتُه، وزاد في علمكم منطقه، وذكّركم في الآخرة عمله).
ثم إذا رجعنا إلى حقيقة القلب وجدنا أن قلب الإنسان لا يخلو من آفاتٍ قاتلةٍ نهى الشرع عنها، كالنفاق والرياء والأنانية وحب الشهرة والكبر والعجب والبخل، فإذا غفل المرء عن حقيقة هذه الآفات فهو في الخسران المبين، وكان من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وإذا أدرك حقيقة وجود هذه الآفات وأراد التخلص منها فلن يستطيع ذلك عملياً إلا من خلال وارث محمدي مأذون يستطيع القيام بهذه المهمة، وهي مهمة شرعية ذكرها الله تعالى في قوله {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّنَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (2 الجمعة). فعلى الذين يدّعون أنهم قادرون على السلوك بمفردهم من خلال الممارسة والكتب وقراءة القرآن أن يعلموا أن ذلك لا يكفي لتقويم آفات النفس وعيوبها، قياسا على الوظائف الثلاثة التي ذكرتها الآية الكريمة وكل منها لا يغني عن الآخر {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ} {وَيُزَكِّيهِمْ} {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة}َ. وفي هذا رد صريح على القائلين بإمكانية السير دون المرشد، وما أروع الذي شبه الشيخ المرشد أو الوارث المحمدي بالطبيب الذي يصف الدواء، وشبه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بالدواء. إذ لا بد من كليهما، فإذا عرفت الداء فلا بد من طبيب يصف لك الدواء ويراقب حالتك بعده، إلى السوء تميل أم إلى التحسن.
فلا يمكن للمرء وحده أن يعالج أمراضه القلبية دون دواء، ودون من يعرف الداء، ودون من يصف الدواء، وفي هذا بيان لحتمية تلاوة كتاب الله لأنه الدواء، وحتمية معرفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن فيها النجاة، ولكن لا بد معها من الطبيب العالم الذي يفهم شرع الله ويـراقب أحوالك من خلال عمـلك في طاعة الله وهـو معنى {وَيُزَكِّيهِمْ}. وهي وظيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وورَّاثه من بعده {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} (17 الكهف).
هذا أبي بن كعب رضي الله عنه يقول في هذا المعنى: (كنت في المسجد فدخل رجل فصلى فقرأ قراءة أنكرتها عليه ثم دخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه فلما قضيا الصلاة دخلنا جميعًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه فدخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرءا فحسَّن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذا كنت في الجاهلية، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقا، وكأنني أنظر إلى الله عز وجل فرقاً).
هذه هي التزكية التي لا تكون إلا بالصحبة الطيبة مع شيخ مرشد، وإلا ضاع المرء وتاه في غياهب عَرَفَ الشيطان خباياها واستمكن بها، لينقضَّ على أصحابها في الوقت المناسب، يقنصهم ويزيغ بهم عن الصراط المستقيم. وبهذا عرفنا أن تلاوة القرآن وممارسة الطاعة بصورة منفردة شيء والتزكية شيء آخر. ولا بد أن نعلم أيضا أن علم التزكية شيء وحالة التزكية شيء آخر، فقد ينبري العالم يصيح وينادي من على منبره وفي محرابه أن الرياء من الشرك ثم يقع فيه، وأن الغلّ والحقد حرام وعقوبتهما كذا وكذا وفاعلهما كذا وكذا، ثم يقع فيهما. فنقول إن هذا عالمٌ بالتزكية لكنه ليس بمزكٍ، فعلم التزكية شيء وحالة التزكية شيء آخر. والمطلوب للمرء أن يعرف علم التزكية ويحظى بحالتها من خلال الوارث المرشد، فكما هي أعضاء الجسم تمرض وتذهب إلى الطبيب لعلاجها، كذلك القلوب تمرض ولا بد من طبيب عالم عارف مزك تَعْرُض عليه حالتك ليصف لها الدواء، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم يعرضون أحوالهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولنقرأ هذا الحديث الذي يوضح لنا المعنى وهو ما رواه مسلم في صحيحه في كتاب التوبة (عن حنظلة رضي الله عنه قال: لقيني أبو بكر رضي الله عنه فقال كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة. قال سبحان الله ما تقول؟ قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة والنار كأنا رأي العين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا. قال أبو بكر رضي الله عنه: فوالله إنا لنلقى مثل هذا. فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: نافق حنظلة يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟. قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي العين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والضيعات، نسينا كثيراً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي الطرقات. ولكن يا حنظلة ساعة وساعة (ثلاث مرات)).
السير مع الوارث المحمدي
1. ضرورة اتخاذ المرشد:
يقول الله تعالى {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} (17 الكهف)، ويقول أيضا {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} (15 لقمان). وعلى ذلك فقد تبين لنا مما سلف ضرورة البحث عن شيخ مرشد يصحبه المرء مستعينا بعد الله به في علاج آفاته القلبية يدله على الله وعلى طاعته، ويذعن لنصحه وتوجيهه.
ولننظر إلى الإمام أبي حامد الغزالي يحدث في هذا الأمر قائلاً: "الدخول مع الصوفية فرض عين إذ لا يخلو أحد من عيب أو مرض إلا الأنبياء عليهم السلام". ويقول رحمه الله في الجزء الثالث من «الإحياء» ص 60 "يحتاج المريد إلى شيخ وأستاذ يقتدي به لا محالة، ليهديه إلى سواء السبيل فإن سبيل الدين غامض، وسبل الشيطان كثيرة ظاهرة، فمن لم يكن له شيخ يهديه، قاده الشيطان إلى طرقه لا محالة، ويكون المستقل بنفسه كالشجرة التي تنبت بنفسها فإنها تجف على الأرض، وإن بقيت مدة وأورقت لم تـثمر، وإن أثمرت فمرٌ ثمرها، فليعتصم المريد بشيخه وليتمسك به".
وهذا ابن عطاء الله السكندري يقول: "وينبغي لمن عزم على الاسترشاد وسلوك طريق الرشاد أن يبحث عن شيخ من أهل التحقيق سالك للطريق، تارك لهواه، راسخ القدم في خدمة مولاه، فإذا وجده فليمتثل أمره ولينـته عما نهي عنه وزجر".
يقول الشيخ عبد القادر الجيلاني قدست أسراره في كتاب «الفتح الرباني» في المجلس التاسع والثلاثين على الصفحة 129: "اتبع الشيوخ العلماء بالكتاب والسنة العاملين بهما، وأحسن الظن بهم وتعلم منهم وأحسن الأدب بين أيديهم والعشرة معهم فقد تفلح، وإذا لم تـتبع الكتاب والسنة ولا الشيوخ العارفين بهما، فما تفلح أبدا. أما سمعت: (من استغنى برأيه ضل) (هذب نفسك بصحبة من هو أعلم منك) (اشتغل بإصلاحها ثم انتقل إلى غيرها) قال النبي صلى الله عليه وسلم (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول)".
يقول الإمام الشعراني بعد أن بين أن من سلك من غير شيخ تاه: "من قال إن طريق القوم يوصَل إليه بالفهم من غير شيخ يسير بالطالب فيها، لما احتاج مثل حجة الإسلام الإمام الغزالي والشيخ عز الدين بن عبد السلام أخْذَ أدبهما عن الشيخ، مع أنهما كانا يقولان قبل دخولهما طريق القوم (كل من قال: إن ثم طريقةً للعلم غير ما بأيدينا فقد افترى على الله عز وجل) فلما دخلا طريق القوم كانا يقولان: قد ضيعنا عمرنا في البطالة والحجاب واثبتا طريق القوم ومدحاها".
وكان سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام يقول بعد ذلك: "ما عرفت الإسلام الكامل إلا بعد اجتماعي على الشيخ أبي الحسن الشاذلي رحمه الله" ثم يتابع الإمام الشعراني قائلا: "فإذا كان هذان الشيخان قد احتاجا إلى الشيخ مع سعة علمهما بالشريعة فغيرهما من أمثالنا من باب أولى".
إذن فلا بد للمرء أن يسعى لاتخاذ مرشد، قد ورث الإرشاد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيخاً بعد شيخ، يسمى وارثاً محمدياً أو شيخاً مرشداً، يصله برسول الله صلى الله عليه وسلم صلة روحية، من خلال سند واضح صحيح، لا يقل في أهميته عن سند الحديث النبوي. يأتمر بأمره ويسير معه ويتعلم منه ويأخذ عنه أمور دينه ودنياه، ويعرفه طريق الوصول إلى معرفة الله عز وجل، ويعرفه أحكام دينه، ويعرفه آفات نفسه ومعالجتها، ويحذره من مداخل الشيطان على قلبه. فلرسول الله وُرَّاثٌ ورثوا عنه بعض الوظائف التي اختص بها. فمنهم من ورث عنه علوم الفقه، ومنهم من ورث عنه علوم التلاوة، ومنهم من ورث عنه علوم السير وغيرها من العلوم، وقد ورث عنه أشياخنا رجالُ السند علومَ الشريعة والطريقة والحقيقة، إضافة إلى مناهج تزكية الأنفس وإصلاح القلوب، وقد عُرف عن ساداتنا أهل البيت الأطهار عبر السنين ميراثهم لهذه العلوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر ابن كثير في تفسيره في المجلد الأول صفحة 418، في تفسير قوله تعالى {أَفَإِين مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (144 آل عمران) قال: قال أبو القاسم الطبراني، حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا عمرو بن حمادة بن طلحة القناد، حدثنا أسباط بن نصر عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس أن علياً كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم. والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه، والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه، فمن أحق به مني). فلا يمكن أن يفهم من هذا القول ادعاءً من سيدنا علي لوراثة الخلافة والحكم عن رسول الله وهو بين ظهرانيهم، ففي ذلك منتهى الإساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أدّب سيدنا علياً فأحسن تأديبه، بل إن السياق يدل بما لا يدع مجالاً للشك أن المعنى المقصود هو ميراث الولاية والإرشاد الذي تربع على قمته أشياخنا من آل البيت الأطهار.
يقول الشيخ مصطفى البكري في ورد السحر (إلهي دلني على من يدلني عليك وأوصلني يا مولاي إلى من يوصلني إليك).
سؤال: هل يجوز ادعاء التلقي من شيخ ميت؟ وهل يجوز الانتماء لأكثر من شيخ؟
جواب: لا يمكن التلقي ولا يتم الانتفاع بشيخ ميت، ولو صح هذا لما كانت هناك حاجة إلى وجود المرشدين الأحياء، لأن الله تعالى كتب في سابق علمه أن رحمته تجري لخلقه بمدد واصل في كل عصر إلى خاصته وعرائسه في الأرض الذين هم أولياؤه وورثة أنبيائه. وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم (العلماء ورثة الأنبياء). فلا بد من هؤلاء كي يدلوا الخلق على الخالق ولا بد أن يكونوا أحياءً جيلاً بعد جيل، يعيشون بين الخلق حتى قيام الساعة، بهمتهم وحالهم تكون الإفادة للخلق.
روى الإمام أحمد وابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن صحيح ولفظه عن أنس رصي الله عنه قال: (لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء وما نفضنا عن النبي صلى الله عليه وسلم الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا). وهذا يدل على أن وجود النبي صلى الله عليه وسلم بشخصه هو ورؤيته بين الصحابة كان نافعاً لقـلوبهم. ومن هنا كان الأمر بصحبة الصالحين {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ} (15 لقمان). وذكر الشيخ محي الدين بن عربي: "أن الميت لا ينـتفع به من حيث تربية المريد والانتفاع في سيره إلى الله، ومحاذاته في الطريق ولا تتيسر هذه إلا بصحبة الحي. إذن قيد الحياة شرط في الصحبة".
وقد قيل من أعرض عنهم مستعيناً بكلام من تقدمهم من الأموات، طبع عليه بطابع الحرمان، وكان مثله كمن أعرض عن نبي زمانه وتشريعه مستغنياً بشرائع النبيين الذين خلوا.
ويقول الأمام الشعراني: "ومن الواجب على المريد إذا مات شيخه أن يتخذ له شيخاً يربيه زيادة على ما رباه شيخه الأول فإن الطريق لا قرار له".
وعلى هذا فلا بد من الانتفاع بشيخ حي يراه السالك ويجلس معه ليرشده إلى طريق الحق القويم، فبالسير مع هذا الشيخ الوارث المحمدي تستضيء القلوب، وتعتدل الأمزجة، وتخمد وساوس الشيطان، كما في حديث أنس السابق. ولا يجوز ادعاء التلقي من المشايخ الأموات فإن ذلك غير صحيح، وهو من ضعف الهمة، وهوى النفس، ورداءة الفطنة، إلا إذا كان ذلك على سبيل التبرك بهم، مع شرط وجود الشيخ المرشد الحي. فإن مات الوارث المرشد فإنهم بعد نقله لدار الحق عليهم الاجتماع إلى من أشار إليه ليخلفه أو من اجتمعت به الصفات وجرى عليه الإجماع.
كما لا يجوز أيضاً اتخاذ أكثر من شيخ واحد لما في ذلك من الفساد وعدم النفع، واذكر هنا مقولة أبي يزيد البسطامي: "من لم يكن له أستاذ واحد فهو مشترك والمشترك شيخه الشيطان. ثم قال أخذت طريقي عن شيخي نَفَساً بنفَس". وهذا هو الشيخ محي الدين بن عربي يقول: "اعلم أنه لا يجوز لمريد أن يتخذ له إلا شيخاً واحد لأن ذلك أعون له في الطريق، وما رأينا مريداً قط أفلح على يد شيخين".
فلا بد إذن من نبع واحد يستقي منه المريد ويستدل به على طريق الآخرة. وإذا تعدد الدُّلاَّل له ربما تاه واختلط عليه الأمر، ولا حجة للذين يقولون بأن الصحابة والتابعين كانوا لا يتقيدون بشيخ واحد، لأن أولئك كانوا أبراراً أطهاراً وكل واحد منهم هو شيخ مرشد. قد وصلوا أعلى مراتب العبودية والطاعة ولا حاجة لهم بذلك. لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم). وما كانت الحاجة إلى مرشد واحد إلا بعد أن كثرت الآفات والأمراض والعلل واحتاجوا إلى علاجها. والعلاج في هذه الحالة لا يكون إلا على يد شيخ واحد حتى لا يتيه المريد ويطول عليه الطريق إذ أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في حياته هو المرشد والمزكي والمعلم دون غيره.
2. صفات الشيخ المرشد:
سؤال: ما هي صفات الشيخ المرشد الوارث وعلاماته؟
جواب: لابد من التفريق بين وظيفة العالم ووظيفة الشيخ المرشد المربي، إذ كما قلنا سابقا في موضوع التزكية فإن العالم يعنى بحفظ النصوص وتلقينها، وقد تكون نفسه مزكاة، أما المرشد المحمدي فطريقه موصلٌ لتزكية النفوس والتحلي بالكمالات الخلقية، وهو الذي تزداد حين تصحبه إيماناً وتقىً وطهارةً، وملازمتك له وامتثالك لأمره يعني شفاءك من أمراضك القلبية وعيوب نفسك، ويؤثر فيك شخصه الذي هو صورة عن الشخص المثالي، شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن صفات الشيخ المرشد أن يكون عالماً بالشريعة، عاملاً بأحكامها عالماً بالفرائض العينية وأركانها، متحققاً بالعقيدةِ وصحتها، مزكياً لنفسهِ على يد مربٍ مرشدٍ، خابراً مراتب النفس وأمراضها، مدركاً أحوال القلبِ ومداخل الشياطين ووساوسها، مجازاً من قبل شيخ مرشد كامل يتصل سنده بالتسلسل شيخاً عن شيخ حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مقلداً متبعاً متشبهاً برسول الله صلى الله عليه وسلم قلباً وقالباً، لا تعتري قلبه الآفات ولا قالبه النواقص، كأن يكون متكبراً معجباً بنفسه أو بخيلاً أو مغروراً أو حاسداً. وأن يكون خاليا من صفات العَوَر والصمم والبكم والعرج أو أي صفةٍ خَلْقيةٍ، لأن في ذلكَ مَساساً بالجناب المحمدي الذي يتشبه به وما لذلك من أثر سلبي في نفوس أتباعه.
ثم يلمس الناظر في محيطهِ أجواءَ الإيمان والتقوى والتواضع بين أتباعه ومحبيه دلالةً على تأثيره في إصـلاح محيطه، قال الله تعالى {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيرًا} (59 الفرقان) وقال أيضاً {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} (15 لقمان).
أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنَ عمرَ رضي الله عنهما فقـال (يا ابنَ عمر دينكَ دينكَ انما هو لحمك ودمك فانظر عمن تأخذ هذا الدين، خذ الدين عن الذينَ استقاموا ولا تأخذه عن الذينَ مالوا).
3. من علامات الإرشاد:
ينيبُ إلى دار الخلود وتجري عليه صورةُ المجاهدةِ والمعاملةِ من غيرِ مكابدةٍ ولا عناء، بل بلذاذةٍ وهناء، ويصيرُ قالبه بصفةِ قلبه لامتلاء قلبِه بحب ربه، يلينُ جلدهُ كما لان قلبه، والدليلُ على لين جلده إجابةُ أعضائِه وقالبه بالطاعة كإجابة القلب باللين والخشوع والإنابة. فيزيده الله ويحبه ويمنحه بإرادة خاصة ويرزقه محبةً توصله لدرجةِ السابقين المقربين قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}(23 الزمر). فأخبر تعالى أن الجلود تلينُ كما القلوب تلين. والوارث المحمدي أهـل للإقتداءِ، وعليه وقار الله وبه يتأدب المريدونَ ظاهراً وباطناً. قـال تعـالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (90 الأنعام). وقال أيضاً: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} (24 السجدة). وهكذا جعلَهم الله أئمةَ المتقين. قال صلى الله عليه وسلم حاكياً عن ربه (إذا كان الغالب على عبدي الاشتغال بي جعلت هِمَتَه في ذكري، عشقني وعشقته ورفعت الحجَاب فيما بيني وبينه لا يسهو إذا سها الناس، أولئك كلامهم كلام الأنبياء، أولئك الأبطال حقاً، أولئك الذين إذا أردت بأهل الأرض عقوبةً ذكرتهم فيها فصرفته بهم عنهم).
ومجالسة الناس للوارث المربي تزيد في إيمانهم، وتحيي أرواحَهم وقلوبهَم فلا يتكلم المربي إلاّ لله، ولا ينطق إلاّ بخير. ينتفع به من قربه كما ينتفع من بُعده، رؤيته تذكرك بالله أو كما قيل (تستفيد من لحظه كما تستفيد من لفظه) ويكون بينه وبين مريديه تآلفٌ مأخوذ عن وجه التآلف الإلهي{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} ويكون في الشيخ معنى التخلق بأخلاق الله تعالى كما في الحديث القدسي: (ألا طالَ شوق الأبرار إلى لقائي وإني إلى لقائهم لأشد شوقاً). قال تعالى {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} (63 الأنفال).
فبتوفيق الله الذي يؤلف بين القلوب، وبما يكون من حسن التآلف بين الفاضل والمفضولِ، يصير السالك جزءَ الشيخ كما الولد جزء أبيه الصُلْبي، والولادة هنا ولادة معنوية. فالولادة الصُلْبية تربط الوَلد بعالم الملكِ (ظاهر الكون) والولادة المعنوية تربـط الولـد بعـالم الملكوت (باطن الكون) وهذه الولادة تصل المريد من خلال شيخه بميراث النبي صلى الله عليه وسلم فهو لها مستحق من خلال سنده المتصل عَبَر أشياخ شيخه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (75 الأنعام).
فالوارث له أولاد بهذه الصفة يأخذون منه العلومَ والأحوالَ ويتربونَ على يديه، وتتزكى نفوسهم بصحبته كما تزكت نفسه بصحبة أشياخه حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي نفى الله عنه صفة الأبتر (أي الذي لا نسل له) حين عابه بها الكفار فقال تعالى {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} (3 الكوثر) رغم أنه لم يعش للرسول صلى الله عليه وسلم من صُلبه ولد، فالصالح من أمته هو ولده صلى الله عليه وسلم، لأن نسله الروحي إضافة إلى نسله من فاطمة الزهراء باقيان إلى أن تقوم الساعة. وبهذه النسبة المعنوية من جهة والصُّلبية من جهة أخرى يصل ميراث العِلم إلى أهل العلم. قال تعالى {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (6 الأحزاب) ومن هذا الفهم للأبوة الروحية كانت النصائح الرحمانية لشيخنا العارف بالله وارث جده رسول الله الشيخ عبد الرحمن الشريف حين بدأها بقوله (يا ابن الروح).
ولا يظن أحد أن لما قلناه علاقة بما عند النصارى من اعتقادات في الأبـوة والبنوة، فالأب عنـدهم والعيـاذ بالله هو الله، والابن عندهم هو المسيح، ونعوذ بالله من ذلك. والأب وهو الكاهن أو الحبر عندهم صورة عن الله بدليل أنهم يعترفون أمامه كأنهم يعترفون أمام الله، وبذلك أسبغوا عليه من صفات الألوهية كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} (31 التوبة). وهذا لا جدال في رفضه رفضاً قاطعاً في عقيدة المسلمين. أما ما نعنيه هنا بالأبوة والبنوة فهي علاقة تربيةٍ روحية، فقد جُعل المرشد مربياً للروح، بمثابة الأب المربي للجسد
حكيم عياض
2009-08-27, 08:43
أدب المريد مع الشيخ
أجمع العارفون بالله أن التصوف كله أدب، ولا يمكن أن يكون سلوك دون أدب، وسوء الأدب قاطع رئيسي، ولكل وقت أدب، ولكل فعل أدب، ولكل حال أدب، ولكل مقام أدب، فمن يلزم الأدب يبلغ مبلغ الرجال، ومن حرم الأدب فهو بعيد من حيث يظن القرب، ومردود من حيث يرجو القبول، والأدب دعامة أساسية في السلوك.
في الباب الحادي والخمسين من كتاب السهروردي «العوارف للمعارف»، يذكر السهروردي مجموعة من آداب المريد مع الشيخ أقتطف منها باقة جميلة أقدمها لقارئ كتاب الدلالة النورانية.
يقول الشيخ: "أدب المريد مع الشيوخ عند الصوفية من أهم الآداب، وللقوم في ذلك اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقد قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1 الحجرات). روي عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: قدم وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني تميم، فقال أبو بكر: أمِّر القعقاع بن معبد، وقال عمر رضي الله عنه بل أمِّر الأقرع بن حابس. فقال أبو بكر: ما أردتَ إلا خلافي. وقال عمر: ما أردتُ خلافك. فتماريا، حتى ارتفعت أصواتهما. فأنزل الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تقدموا، أي لا تتكلموا بين يدي كلامه.
قال جابر: كان ناس يضحون قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهوا عن تقديم الأضحية على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل كان قوم يقولون لو أنزل في كذا وكذا، فكره الله ذلك. قالت عائشة رضي الله عنها: لا تقدموا، أي لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم. وقال الكلبي: لا تستبقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول ولا فعل حتى يكون هو الذي يأمركم به. وهكذا أدب المريد مع الشيخ، أن يكون مسلوب الاختيار، لا يتصرف في نفسه وماله إلا بمراجعة الشيخ وأمره. وقيل لا تقدموا، أي لا تمشوا بين يدي الشيخ". انتهى كلام السهروردي.
وقصة سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه في عام الحديبية مشهورة، وذلك عندما أرسله رسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة مفاوضاً امتنع عن الطواف قبل طواف رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى أبو الدرداء: كنت أمشي أمام أبي بكرٍ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم تمشي أمام من هو خير منك في الدنيا وفي الآخرة. وقيل نزلت في أقوام كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء خاضوا فيه وتقدموا بالقول والفتوى فنهوا عن ذلك. وهكذا أدب المريد في مجلس الشيخ ينبغي أن يلزم السكوت ولا يقول شيئاً بحضرته من كلامٍ حسنٍ إلا إذا استأمرالشيخ ووجد من الشيخ فسحة في ذلك. الكلام لسيدنا السهروردي.
وينبغي للمريد أن لا يحدث نفسه بطلب منزلة فوق منزلة الشيخ، بل يحب للشيخ كل منزلة عالية، ويتمنى له عزيز المنح وغرائب المواهب.
ومن تأديب الله تعالى لأصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى {لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} (2 الحجرات). كان ثابت بن قيس بن شماس في أذنه وقر، وكان جهوري الصوت، فكان إذا كلم إنساناً جهر بصوته. وربما كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فيتأذى بصوته. فأنزل الله تعالى الآية الكريمة، تأديباً له ولغيره. قيل لما نزلت الآية، آلى أبو بكرٍ ألا يتكلم عند النبي صلى الله عليه وسلم، إلا كأخ السرار. وكان عمر بعد ذلك إذا تكلم عند النبي صلى الله عليه وسلم لا يُسمع كلامه حتى يُستفهم. فهكذا ينبغي أن يكون المريد مع الشيخ لا ينبسط برفع الصوت، وكثرة الكلام، إلا إذا بسطه الشيخ. فرفع الصوت تنحية جلباب الوقار، والوقار إذا سكن القلبَ عقل اللسانُ ما يقول. والكلام لسيدنا السهروردي.
قال أبو بكر القاضي في قوله تعالى {لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} أي لا تبدؤوه بالخطاب، ولا تجيبوه إلا على حدود الحرمة. {وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} (2 الحجرات) أي لا تغلظوا له في الخطاب ولا تنادوه باسمه، وهذا منتهى سوء الأدب أن ينادى الرسول صلى الله عليه وسلم بنداء يا محمد، يا أحمد... ومن هذا القبيل يكون خطاب المريد مع شيخه. ولما نزلت الآية {أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} (2 الحجرات) قعد ثابت بن قيس في بيته يبكي، وهو جهوري الصوت، واعتزل مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أخاف أن يحبط عملي، وأكون من أهل النار. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه وبشره (أما ترضى أن تعيش سعيداً، وتقتل شهيداً، وتدخل الجنة). قال قد رضيت ببشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أرفع صوتي أبداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} (3 الحجرات).
وينبغي للمريد أنه كلما أشكل عليه شيء من حال الشيخ، وهذا باب آخر من سوء الظن، إذا حصل بين المريد وشيخه، أن يحذر انتفاء النفع، فلا يمكن أن يكون نفع مع سوء الظن. وهذا يذكِّر بقصة موسى مع الخضر عليهما السلام، وكيف كان الخضر يفعل أشياء ينكرها سيدنا موسى، وإذا أخبره الخضر بسرها يرجع عن إنكاره. فما ينكره المريد إنما هو لقلة علمه بحقيقة ما يوجد من الشيخ. فللشيخ في كل شيء عذر بلسان العلم والحكمة {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (9 الزمر). سأل بعض أصحاب الجنيد مسألة من الجنيد، فأجابهم رضي الله عنه، فعارضه السائل، فقال الجنيد: {وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} (21 الدخان) فقال بعض المشايخ: من لم يعظم حرمة من يتأدب به، حُرم بركة ذلك الأدب. وقيل: من قال لأستاذه لا، لا يفلح أبداً.
وهيبة الشيخ تملك المريد عن الاسترسال في السماع وتقيده. واستغراقه في الشيخ بالنظر إليه ومطالعة موارد فضل الحق عليه، أنجع له من الإصغاء إلى السماع.
ومن الأدب ألا يكتم على الشيخ من حاله ومواهب الحق عنده وما يظهره له من كرامة وإجابة، ويكشف للشيخ من حاله ما يعلمه الله تعالى منه، وما يستحيي من كشفه يذكره إيماءاً وتعريضاً، فإن المريد متى انطوى ضميره على شيء، لا يكشفه للشيخ تصريحاً أو تعريضاً، يسير على باطنه منه عقدة في الطريق. وبالقول مع الشيخ تنحل العقدة وتزول.
ومن الأدب أن لا يقوم بصحبة الشيخ إلا بعد علمه بأن الشيخ قَيِّم بتأديبه وتهذيبه، وأنه أقوم بالتأديب من غيره. ومتى كان عند المريد تطلع إلى شيخ آخر، لا تصفو صحبته، ولا ينفذ القول فيه، ولا يستعد باطنه لسراية حال الشيخ إليه، فإن المريد كلما أيقن تفرد الشيخ بالمشيخة عرف فضله وقويت محبته.
ومن الأدب مع الشيخ أن المريد إذا كان له كلام مع الشيخ في شيء من أمور دينه ودنياه، لا يستعجل بالإقدام على مكالمة الشيخ والهجوم عليه، أي الاندفاع تجاهه، حتى يتبين له من حال الشيخ أنه مستعد له ولسماع كلامه، ومتفرغ لقوله. عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه). فاحترام العلماء توفيق وهداية، وإهمال ذلك خذلان وعقوبة.
ولابد من الإشارة إلى آداب أخرى. فعلى المريد أن يُكنّ لشيخه كل احترام وتقدير، كونه المربي للروح، والدّال على الله تعالى، وصلة الوصل لأهل الله حتى رسول الله. لكن دون الوصول في هذه المحبة إلى الغلو المرفوض. كأن يُخْرِج شيخه عن طور البشرية، أو عن طور الولاية، فيعتقد فيه العصمة وهي للأنبياء لا للأولياء. لأن الشيخ وإن كان على أكمل الصفات، فهو غير معصوم. وإن كان من أهل المشاهدة الذين لا يقعون في المعاصي، إذ قد تبدو منه الهفوات والزلات، وغالباً ما تكون هذه الهفوات ظاهرها يخالف الشرع، وباطنها لا يخالف، كقصة سيدنا الخضر مع سيدنا موسى، وغالباً ما تجري الابتلاءات والامتحانات على يد الأولياء. فالمريد إذا اعتقد بشيخه العصمة المطلقة، ثم رأى منه ما يخالف ذلك وقع في الاضطراب والحيرة. فعلى المريد أن يستسلم لشيخه كما الميت بين يدي المغسِّل. ولا يقال بأن هذا انقيادٌ أعمى ينافي حركة العقل والحرية للمرء، لأن ذلك من باب التربية والعلاج. إذ هل يعقل أن يدخل مريضُ الجسدِ إلى طبيب الجسد متشككاً مضطرباً أم أنه يدخل إليه مستسلماً ويقبل علاجه ودواءه ونصحه ويسلم به.. دون أن يتهم بتخليه عن عقله!؟. كذلك طبيب الروح، لا بد وأن تسلم لنصحه ووعظه ودوائه وعلاجه، كي تظفر بالشفاء من العيوب، وهذا لا يتنافى مع دور العقل.
ثم إني أُحذر السالك من الاعتراض على شيخه وفتح باب النقد لتصرفاته، لأن هذا يقطع المدد الروحي بينهما. وليحرص على إغلاق منافذ الشيطان الذي يسعى دوماً لإيقاع العداوة بينهما. فإذا دخل على السالك إِشكال أو ريبة من شيخه، فليحسن الظن بشيخه، وإلا فاتحه في الأمر وسأله بأدب واحترام. قال أبو العباس المرسي رحمه الله: تتبعنا أحوال القوم فما رأينا أحداً أنكر عليهم ومات بخير. وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني قدست أسراره: من وقع في عِرض وليٍ، ابتلاه الله بموت القلب. ومصداق ذلك هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب..). قال محمد بن حامد الترمذي: من لم ترضه أوامر المشايخ وتأديبهم، فإنه لا يتأدب بكتابٍ ولا سنة.
حكم تقبيل الأيدي
سؤال: يلاحظ على أتباع الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية تقبيل أيادي بعضهم البعض أثناء السلام، ما هو الأصل في ذلك وما رأي أئمة الشرع في ذلك، وهل نستطيع وصف هذه العادة بأنها بدعة؟
جواب: السلام المتعارف عليه بين أبناء الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية يستمد مشروعيته من السنة النبوية المطهرة وآثار الصحابة رضوان الله عليهم وأقوال الأئمة أصحاب المذاهب المتبعة المشهورة، حيث أجاز الشرع الحنيف تقبيل يد العلماء والصالحين والوالدين، كما سيأتي ذكره لأنه شعار ومظهر من مظاهر التواد والتواضع لأهل الفضل والصلاح.
ما ورد في السنة النبوية:
جاء في شرح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني (أن أبا لبابة وكعب ابن مالك وصاحبيه قبّلوا يد النبي صلى الله عليه وسلم حين تاب الله عليهم). وعن صفوان بن عسان قال: (قال يهودي لصاحبه قم بنا إلى هذا النبي، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألا عن تسع آيات بينات فذكر الحديث... إلى قوله فقبلا يده ورجله وقالا: نشهد إنك نبي الله). رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه، والنسائي وغيرهم.
وروى أبو داود عن أم أبان بنت الوازع بن زارع عن جدها زارع وكان في وفد عبد القيس قال (فجعلنا نتبادر من رواحلنا فنقبل يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجله). وكذلك رواه البيهقي كما في السيرة الشامية وفيها (ثم جاء منذر الأشبح حتى أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلها وهو سيد الوفد).
ما ورد في الآثار:
جاء في شرح البخاري لابن حجر العسقلاني: أخرج البخاري في الأدب المفرد من رواية عبد الرحمن بن رزين قال (أخرج لنا سلمة بن الأكوع كفاً له ضخمة كأنها كف بعير فقمنا إليها فقبلناها). وعن ثابت (أنه قبل يد أنس) رضي الله عنـه. وأخرج أيضـاً (أن عليـاً قبل يد العباس ورجله). وأخرج من طريق أبي مالك الأشجعي (قلت لابن أبي أوفي: ناولني يدك التي بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فناولنيها فقبلتها).
وأخرج الطبراني والبيهقي والحاكم عن الشعبي (أن زيد بن ثابت صلى على جنازة فقربت إليه بغلته ليركبها فجاء عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فأخذ بركابه فقال زيد بن ثابت خل عنك يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عباس: هكذا أُمرنا أن نفعل بالعلماء والكبراء، فقبل زيد بن ثابت يد عبد الله وقال هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقال ابن كثير في تاريخه «البداية والنهاية» ج7 ص55 في فتح بيت المقدس على يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد كلام.. "فلما وصل عمر بن الخطاب إلى الشام تلقاه أبو عبيدة ورؤوس الأمراء كخالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان، فترجل أبو عبيدة وترجل عمر فأشار أبو عبيدة ليقبل يد عمر فهم عمر بتقبيل رجل أبي عبيدة فكف أبو عبيدة فكف عمر".
وفي «شرح الهداية» قال أبو المعالي: أما تقبيل يد العالم والكريم لرفده فجائز. وأما تقبيل يده لغناه فقد روي (من تواضع لغنيٍ لغناه فقد ذهب ثلثا دينه). وقد علمت أن الصحابة قبلوا يد النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند قدومهم من غزوة مؤته. وقال الحافظ ابن الجوزي في «مناقب أصحاب الحديث» "ينبغي للطالب أن يبالغ في التواضع للعالم. قال: ومن التواضع تقبيل يده، وقبل سفيان بن عيينه والفضيل بن عياض أحدهما يد الحسين بن علي الجعفي والآخر رجله. (شرح منظومة الآداب للسفاريني. ج1 ص287)".
أقوال أئمة الفقه:
الحنفية: قال العلامة ابن عابدين في حاشيته عند كلام صاحب الدر المختار: "ولا بأس بتقبيل يد الرجل العالم والمتورع على سبيل التبرك، وقيل سنة. قال الشرنبلالي: وعلمت أن مفاد الأحاديث سنيته أو ندبه، كما أشار إليه العيني" (حاشية ابن عابدين ج5 ص254).
المالكية: قال الإمام مالك: إن كانت قبلة يد الرجل على وجه التكبر والتعظيم فمكروهة، وإن كانت على وجه القربة إلى الله لدينه أو لعلمه أو لشرفه فإن هذا جائز (شرح البخاري لابن حجر العسقلاني ج11 ص48).
الشافعية: قال الإمام النووي: تقبيل يد الرجل لزهده وصلاحه وعلمه أو شرفه أو نحو ذلك من الأمور الدينية لا يكره بل يستحب. فإن كان لغناه أو شوكته أو جاهه عند أهل الدنيا فمكروه شديد الكراهة. (المصدر السابق).
الحنبلية: في «غذاء الألباب شرح منظومة الآداب» للعلامة السفاريني الحنبلي قال: "قال المرزوي سألت أبا عبد الله - الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله عن قبلة اليد فقال إن كان على طريق التدين فلا بأس، قبل أبو عبيدة يد عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. وإن كان على طريق الدنيا فلا" ج1 ص287.
هذه هي الأدلة الشرعية في حكم تقبيل يد الصالح وأهل الفضل. ومنها كانت طريقة السلام بين إخواننا في الطريقة. إلا أن مشايخنا رحمهم الله وهم أهل الفضل والعلم والولاية رأوا في أتباعهم الصلاح والتقى، ورأى التابعون في مشايخهم التواضع والانكسار، فكان من فهمهم لشرع الله أن تبادلوا تقبيل أيادي بعضهم دون فرق بين فاضل ومفضول وسيد ومسود، فقبل التابع يد المتبوع إقراراً بفضله وتقاه، وقبل المتبوع يد التابع تواضعاً وحباً حفظاً لقلبه. فكان السلام الذي نراه اليوم في زوايانا سنة مستنبطة حسنة من الأدلة الشرعية السابقة، تدل على إيمان قوي وتواضع جم وحب صادق في الله يدل على نفس طاهرة مزكاة لا يشوبها الكبر ولا الحقد ولا التعالي.
علاج النفس ومراتبها
سؤال: كيف تعالج الطريقة النفس من آفاتها؟
جواب: يقول الله تعالى {وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} (18 فاطر). {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (69 العنكبوت). وهذه الآية مكية نزلت قبل الإذن بجهاد الأعداء مما يدل على أنها في جهاد النفس على الأخص. ويقول الله تعالى {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (7-10 الشمس).
إن معرفة النفس فرض عين لكل سالك في طريق الآخرة لأن من عرف نفسه عرف ربه. وأعني بالنفس اللطيفة الربانية التي سميت فيما بعد بالروح، حيث كانت قبل تعلقها بالجسد في جوار الحق تعالى، ولما وجد الجسد تعلقت به ومالت إلى طبيعته الشهوانية، ووصفها الحق بأنها أمارة بالسوء ما لم تتزكى {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (53 يوسف). فحالها بدون تزكية حال ظلمة وهبوط. وإذا تزكت فهي نفس نورانية تحققت من مراتب النفس السبعة التي سنذكرها إنشاء الله.
وقد عُنيت طريقتنا الخلوتية الجامعة الرحمانية بهذا الجانب وتميزت به، فهي تراعي في السالك التخلص من آفات النفس المذمومة لتحيلها إلى أخلاق حميدة مشكورة. فعلى السالك أن يتنبه لحقيقة نفسه ويسعى لتزكيتها على يد مرشد وارث متصل برسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل أن تأتي سكرة الموت بالحق.
وليعلم السالك أن النفس تمرض كالجسد، فكما تذهب للطبيب لعلاج جسدك، وأخذ الدواء اللازم له، كذلك النفس لابد لها من طبيب وهو الشيخ، ولابد لها من دواء وهو الذكر الذي يصفه الشيخ.
ثم ليُعلم أن للنفس سبع مراتب:
الأولى: النفس الأمارة:
وهي النفس الخالية من التزكية، المجردة من القيم الروحية، لأنها تميل إلى رغبات الجسد وملذاته وشهواته المحسوسة، وتميل صاحبها إلى الأسفل {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} (5 التين). وهنا تبدأ مرحلة التزكية {إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} (6 التين).
وكل الطبائع الذميمة الباطنة تسكن في هذه النفس، كالغل والحقد والنفاق والشح والحسد والغضب.. الخ. {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي} (53 يوسف).
الثانية: النفس اللوامة:
وهي التي بدأت تدرك حقيقة المجاهدة فأخذت ببداياتها، ولقرب عهدها بالنفس الأمارة تطيع الحق مرة وتعصيه أخرى ثم تندم. فإذا تنورت فعلت الخير ولامت حالها لعدم استدامته، والإكثار منه. وإذا فعلت الشر لامت صاحبها عند انتباهها لِمَ فعلته؟. قال تعالى {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ 1 وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} (1-2 القيامة).
الثالثة: النفس المطمئنة:
وقد ارتقى حالها وتنورت بنور الإيمان الذي وقر في القلب بفعل الخير والندم على الشر، وبدأت تتخلص من الصفات الذميمة، واطمأنت بحال الذكر والقرب من الله {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (28 الرعد). وهي أولى مراتب الكمال، وعُد صاحبها من أهل الطريق، لأنه أبصر الحق ودرج عليه. وتعلق بربه وتفانى في حبه. قال تعالى {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكَ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} (27-28 الفجر).
الرابعة: النفس الملهمة:
وهي ثمرة العمل في النفس الثانية والثالثة فصارت بفعل الطاعات ملهمة {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} (282 البقرة). فمن التزم الشريعة وترجمها بالطريقة أي التطبيق، لابد وأن يثمر ذلك الحقيقة، فهي كمن يخض اللبن ليأتي بالزبدة.
ويتميز أصحاب هذه المرتبة بالصبر والتحمل والشكر والتواضع والقناعة والكرم قال تعالى {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا ءَاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} (65 الكهف). ومثال ذلك قصة سيدنا عمر بن الخطاب المشهورة مع سارية بن حصن، حيث قال بعدها (وقع في خلدي) أي ألهمني ربي.
الخامسة: النفس الراضية:
وهي ثمرة المراتب الثلاثة السابقة. حيث رضيت عن الله في مشيئته وأقـداره، وإذا سُئلت ماذا تشتهي قالت (ما يقضي الله). قال تعالى {وَرَضُوا عَنْهُ} (8 البينة).
قال شيخنا العارف بالله الشيخ عبد الرحمن الشريف في تحفته:
يانفس لا تبتغي اللذّات وارتدعي وارضي بما قدر الرحمن واستقمي
والغالب على هذه النفس التسليم المطلق {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (65 النساء).
السادسة: النفس المرضية:
وهي التي رضي الله عنها بسبب رضاها. وهي أولى مراتب معرفة الله تعالى حق معرفته. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه (إذا تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة).
والغالب على هذه النفس صفات الإخلاص والذكر والكرامة والطهارةُ من شوائب الرياسة والسمعة والرياء. قال تعالى في آية جمعت النفس المطمئنة والراضية والمرضية {ياأيتها النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكَ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} (27-28 الفجر). وقال أيضاً {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (8 البينة).
السابعة: النفس الكاملة:
ولا نعني به الكمال المطلق الذي هو لله وحده، بل الكمال الجزئي البشري حيث تصير الكمالات طبعاً أصيلاً في هذه النفس وتترقى في هذا المقام. وغالباً ما يكون صاحبها مرشداً للناس. وحالها من الله وإلى الله.
فاعلم أيها السالك أن الترقي في هذه المقامات لا يكون إلا على يد مرب مرشد كامل يعرف مقامات الطريق، وآفات النفس، ومداخل الشيطان، وينأى بمريده عن دروب الشر والفساد، إلى دروب الخير والإحسان.
وأريد هنا التنبيه على أن السير في تخليص النفس من آفاتها ورعوناتها لا يكون إلا بإتباع الشرع الشريف. لا كما تدعي الفلاسفة والبوذيون والبراهمة والمعتزلة بأنها تكون بطريق العقل والرياضات العقلية المجردة عن المنهج الإلهي الواضح فوقعوا في الضلال.
حكيم عياض
2009-08-27, 08:52
أركان الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية
للطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية أركان سبعة، تحدث عنها بالإجمال شيخنا العارف بالله الشيخ خير الدين الشريف كمنهج تربوي يومي للسالك. وفي التزام هذه الأركان اعتقاداً وتطبيقاً تتحقق السالك مراتب النفس التي تحدثنا عنها. ونقول في تفصيل هذه الأركان وبالله التوفيق:
الركن الأول: الحب:
اختار أشياخنا الحب ليكون الركن الأول من أركان الطريق، لأن أي مقام يُدرَك، ما هو إلا ثمرة من ثمار الحب، كمقام الشوق والرضا والتسليم. وأي مقام يسبق الحب ما هو إلا مقدمة من مقدماته، كمقام الإيمان والتوبة والتحمل والزهد. ونعني الحب الإلهي، الذي من ثماره ينبثق الحب النبوي، وحب أنبياء الله وأوليائه وأحبابه.
ومن أدرك مقام الحب أدرك حقيقة الإيمان لقوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ} (165 البقرة). وأبلغ ما يقال في تعريف الحب ما قاله الإمام الجنيد رحمه الله عندما سئل عن علامات المحبة، فكان جوابه: "فيضان الدموع من عينيه وخفقان القلب بالهيام والشوق".
وقد افترى بعض المغرضين من الكفرة والملاحدة فريةً مفادها أن العلاقة بين الخالق والمخلوق تقوم على الرهبة والبطش والعنف والتخويف. وأترك الجواب على هذه الفرية لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فيهما من الأدلة في الرد على ذلك، وإثبات حقيقة الحب وفضله: قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (54 المائدة).
قال تعالى {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ} (165 البقرة).
قال تعالى {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} (31 آل عمران).
قال تعالى {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (76 آل عمران)
قال تعالى {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (146 آل عمران).
قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (42 المائدة).
قال تعالى {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (93 المائدة).
قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159 آل عمران).
قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (222 البقرة).
أما الفرية التي افتراها من لا خلاق لهم، فهي على أمثالهم من الزنادقة والملاحدة، لا على المؤمنين الصادقين. ودليله:
قوله تعالى {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ} (205 البقرة).
قوله تعالى {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (77 القصص).
قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}(32 الحديد).
قوله تعالى {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (141 الأنعام).
قوله تعالى {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (57 آل عمران).
وقبل أن نورد الأحاديث النبوية المتعلقة بالحب، لا بد من الإشارة إلى لامعة لطيفة وهي أن علاقة الحب بين العبد وربه أمرٌ لا يكون إلا بمحبـة رسـول الله صلى الله عليه وسـلم، ومحبة أوليائه. وهي شرط من شرائط الإيمان. ودليل ذلك في الأحاديث التالية:
أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الإيمان عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاثٌ من كُن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلاّ لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار).
وروى البخاري، ومسلم في صحيحيهما في كتاب الإيمان عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين).
وروى البخاري في صحيحه في كتاب الرقاق باب التواضع عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب. وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه. ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، وإن استعاذني لأعيذنه).
وأخرج البخاري في صحيحه في كتاب بدء الخلق باب ذكر الملائكة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا أحب الله العبد نادى جبريل أن الله يحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل. فينادي جبريل في أهل السماء أن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض).
وقد ربط رسول الله صلى الله عليه وسلم محبة الله ومحبة رسوله بوضوح، وبأمرٍ جازمٍ حيث قال فيما رواه الترمذي في كتاب المناقب (أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه، وأحبوني بحب الله، وأحبوا آل بيتي بحبي).
ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم وعد المحبين بالحشر مع من أحبوا، فيما رواه البخاري في صحيحه في كتاب المناقب، ومسلم في كتاب البر، عن أنس رضي الله عنه قال (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة يا رسول الله؟ قال ما أعددت لها؟ قال ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله. قال: أنت مع من أحببت. قال أنس: فقلنا ونحن كذلك؟ قال: نعم. ففرحنا بها فرحاً شديداً). والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
فيا أيها السالك، إذا أردت أن تحظى بشرف الحب الإلهي وحب رسوله صلى الله عليه وسلم وحب أوليائه، وشعرت أن هذا الحب لم يتمكن في قلبك فأكثر من تلاوة القرآن الكريم، وتدبر معانيه، وأكثر من ذكر الله تعالى بكل أنواعه، وتقرب إلى مولاك بالنوافل وليكن هواك تبعاً لما جاء به رسول الله صلى اله عليه وسلم، وتأمل في صفات الله تعالى وأسمائه، وراقب آلاء الله ونعمه عليك، وليكن التواضع قرينك، وقم الليل بجد واجتهاد، واستغفر الله في الأسحار، وجالس الصالحين الصادقين من عباده وإياك ثم إياك أن تدعي المحبة ادعاءً ظاهراً، وإذا حصل لك أُنْس فاكتم حبك إجلالاً لمولاك، وتحول عن القواطع التي تبعدك عن كل ذلك. فإذا فعلت ذلك وجدت لهذه المحبة حلاوة في قلبك تغنيك عن ملذات الدنيا وشهواتها.
مراتب الحب:
ذكر العلماء للمحبة مراتب عشراً، ذكرها الشيخ عبد القادر عيسى في كتابه «حقائق عن التصوف»:
· أولها: العلاقة: وسميت بذلك لتعلق القلب بالمحبوب.
· الثانية: الإرادة: وهي ميل القلب إلى محبوبه وطلبه له.
· الثالثة: الصبابة: وهي انصباب القلب إلى المحبوب بحيث لا يملكه صاحبه، كانصباب الماء في المنحدر.
· الرابعة: الغرام: وهو الحب اللازم للقلب، لا يفارقه بل يلازمه كملازمة الغريـم لغريمـه.
· الخامسة: الوداد: وهو صفو المحبة وخالصها ولبها.
· السادسة: الشغف: وهو وصول الحب إلى شغاف القلب.
· السابعة: العشق: وهو الحب المفرط الذي يُخاف على صاحبه منه.
· الثامنة: التتيم: وهو التعبد والتلذذ. يقال تيّمه الحب أي أذله وعبّده.
· التاسعة: التعبد: وهو فوق التتيم، فإن العبد لم يـبق له شيء من نفسه.
· العاشرة: الخلة: انفرد بها الخليلان إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وهي المحبة التي تخللت روح المحب وقلبه حتى لم يبق موضع لغير المحبوب.
وأختم الموضوع بلطيفة ذكرت أن أحد الصوفية مر على رجلٍ يبكي على قبر فسأله عن سبب بكائه فقال: إن لي حبيباً قد مات. فقال لقد ظلمت نفسك بحبك لحبيب يموت، فلو أحببت حبيباً لا يموت لما تعذبت بفراقه.
الحب الصادق ينقل المريد إلى الركن الثاني من أركان الطريق وهو:
الركن الثاني: الامتثال:
فُطر الإنسان على طاعة من يحب. فكيف إذا كان المحبوب هو الله وكيف إذا كان المحبوب هو حبيب الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. فنعني بالامتثال من الناحية الشرعية: إتباع أوامر الله ورسوله وأولياء الأمور. قال تعالى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (59 النساء).
ذكر ابن كثير في تفسيره، المجلد الأول، صفحة 528 في تفسير هذه الآية قال: "أخرج الشيخان من حديث يحيى القطان قال: قال أبو داود حدثنا مسدد، حدثنا يحيى عن عبد الله حدثنا نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وفيما كره ما لم يؤمر بمعصية. فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)". فالأصل هو الشرع. والامتثال له هو الواجب. ولذلك جـاءت صيغة عهـد طريقتنا (أن طاعة الله والرسول تجمعنا، وأن معصية الله والرسول تفرقنا).
وأخرج الشيخان عن عبادة بن الصامت قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وألاّ ننازع الأمر أهله. قال: إلاّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان). وروى مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له. ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية).
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما {وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُم} يعني أهل الفقه والدين. وكذا قال مجاهد وعطاء والحسن البصري وأبو العالية {وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُم} يعني العلماء. يقول ابن كثير بعد ذلك: "والظاهر والله أعلم أنها عامةٌ في كل أولي الأمر من الأمراء والعلماء".
وفي الحديث المتفق على صحته، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (من أطاعني فقد أطاع الله. ومن عصاني فقد عصى الله. ومن أطاع أميري فقد أطاعني. ومن عصى أميري فقد عصاني). فهذه أوامر بطاعة العلماء والأمراء، ولهذا قال تعالى {أَطِيعُوا اللَّهَ} أي اتبعوا كتابه. {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} أي خذوا سنته. {وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُم} أي فيما أمروكم به من طاعة الله في غير معصية. فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق لحديث (إنما الطاعة في المعروف). وقال تعالى {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّنَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (69 النساء). وقال أيضاً {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (52 النور). وفي هذا بشرى من الله لعباده بالفوز بالجنة وصحبة عباده المخلصين {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (71 الأحزاب).
ثم إن هناك أمراً مباشراً بالطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، وأنها من طاعة الله تعالى. قال تعالى {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (80 النساء). ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله). وهناك وعيد من الله لعباده المخالفين لأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك بقوله تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (63 النور). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى!. قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة. ومن عصاني فقد أبى) رواه البخاري.
إن التحقق الصحيح من معاني هذا الركن (الامتثال) لا يتم إلا بمتابعة شيخ عارف وعهد على الطاعة وصحبة وأخوة. فعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)
وهنا لا بد من الإشارة إلى ضرورة إتباع أوامر الشرع الشريف، وإلى تحري الجماعة العاملة بأحكام الشرع، بعيداً عن أدعياء السلوك الذين ابتلي بهم أهل الله.
وفي هذا المعنى أنقل نص «الرسالة الخيرية» لحضرة سيدنا ومرشدنا العارف بالله تعالى الشيخ خير الدين الشريف، حيث قال: "الحمد لله ولي التوفيق، الهادي إلى أقوم طريق، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله القائل (تخلقوا بأخلاق الله) وعلى آله وأصحابه ومن والاه، ومن اتبع سنته وعمل بشريعته إلى يوم يلقاه.
وبعد: فإني أعرض على مسامع إخواني بعض كُليمات لتكون سبباً لنجاحهم وفلاحهم إن شاء الله في الدارين إن قبلوها وعملوا بمقتضاها، وإلا فلا. والسلام على من اتبع الهدى.
من المعلوم لدى العموم أن سلوك طريقتنا الخلوتية الجامعة الرحمانية التي تلقيناها عن حضرة سيدنا المرشد المتصل سنده الطاهر بحضرة المرشد الأعظم صلى الله عليه وسلم، على نهج الشريعة المحمدية الغراء على خط مستقيم لا اعوجاج فيه. إذ قامت الآثار والأدلة القوية والبراهين القطعية العقلية والنقلية أن رجال السند جميعهم مرشدون. ومن علائم الإرشاد المتابعة لأمر الشارع الأعظم صلى الله عليه وسلم. فإنه لا يمكن لوصول هذه الدرجة الرفيعة وارثٌ إلا بالعبادة. ولا تسمى عبادة إلا إذا كانت منطبقة على الكتاب والسنة. لأن شريعته صلى الله عليه وسلم ناسخة لجميع الشرائع. انظر قولـه تعالى {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (31 آل عمران). فإن اتِّباعه صلى الله عليه وسلم فيه الرقي الأعلى من محبٍ إلى محبوبٍ لما في ذلك من الدلالة على كيفية العبادة المخصوصة المطلوبة. ومن هنا تُعلم الشريعة والطريقة والحقيقة. فإن الشريعة هي الأقوال الواردة في الكتاب والسنة. والطريقة هي المتابعة لها بالفعل. ونتيجة الأفعال المشاهدة الحقيقية. فامتثال الأوامر والنواهي هو الركن الحقيقي إذن في الطريق. قال تعالى {وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (7 الحشر). وإن أركان الإسلام خمسة، جميعها داخـلة ضمن قوله {وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} وكل أمر يخالف خط الشرع الشريف: أي الكتاب والسنة داخل ضمن قوله:{وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}. وقد قال عليه الصلاة والسلام: (ما تركت مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولا تركت شيئاً مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه). فإن خطاب الله موجه إليه صلى الله عليه وسلم، وهو الآمر والناهي. وعلى ذلك فلا جدال ولا خلاف في أن الطريقة هي المتابعة للشريعة المحمدية. قال تعالى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (153 الأنعام).
وقال سيدي العارف بالله الشيخ مصطفى البكري:
واتبع شريعة أحمدٍ خير الورى من حـاد عنها ربـنا أرداهُ
وإن سَيْر إخواننا وسلوكهم في سائر الأماكن على هذه الخطة المستقيمة، كما هو مُشاهَدٌ للعام والخاص، والحمد لله. ولا ريب في أن تلك الخطة مرتبةٌ عظيمةٌ قلَّ من يصل إليها إلا من سبقت له السعادة في الدارين. غير أني الآن أحيط إخواني علماً بأن قوماً في هذا الزمان ابتدعوا طرقاً مخالفةً لطريق القوم، ويزعمون أنها طريقة الرحمن، كلا بل هي طريقة أبيهم الشيطان: منها الخلوة بالنساء الأجنبيات، ومعهن ربما زاد بعضهم المعانقة والقبلة والملامسة. وسلك آخرون مع الشباب مثل ذلك. وهذه مما لا يخفى أنها من تحيّل الشيطان ومكايده، ومن حبائله ومصائده.
قال تعالى في حق نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع علو مرتبتهن وكونهن أمهات المؤمنين في الحرمة والتحريم، بل أعظم منهن في الوقار والتعظيم. {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَسْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (53 الأحزاب). فمن ادعى أنه أقوى من الصحابة وأن النساء اللاتي يخلو بهن أطهر قلوباً وأملك نفوساً من نساء الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد أعظم الافتراء وأكبر الاجتراء. هذا في حديث الخلوة وحـدها، فكيف بمن زاد على ذلك؟ وفي الصـحيح (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معتكفاً في رمضان فدخلت عليه حفصة بنت عمر رضي الله عنهما فتحدثت عنده ساعة ثم خرجت فرأى رجلين في الطريق. فقال صلى الله عليه وسلم: هي أمكما حفصة فقالا: سبحان الله يا رسول! فقال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً). وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خاف أن يوقع الشيطان في قلوب الناس أنه كان عنده امرأة أجنبية، فكيف نسلم لغيره أن لا يوقع الناس في ذلك. فقد روي عن رسول الله صلى اله عليه وسلم أنه قال (لا تخلون بامرأة أجنبية ولو أقرأتها القرآن). وقد ورد في الخبر عن سيد البشر (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء).
وروي أن النساء اجتمعن عنده، وطلبن منه أن يعاهدنه باليد، فقال لا تمس يدي امرأة، ولكن قَوْلي لامرأة كقولي لمائة. فبايعهن بالكلام من غير ملامسة. وأنه لما طلبن منه البركة وضع يده في ماء ثم نُقل إليهن فوضعن أيديهن فيه. فإذا كان سيد الأولين والآخرين يجتنب هذه الأمور، وغيره يقتحمها، أهو أعظم منه؟ فكيف يخفى على عاقل قُبح ما يتعاطون؟ نسأل الله السلامة بمنه وكرمه.
لهذا أُعلن لعموم إخواني الكرام، أن يفروا من هؤلاء القوم فرارهم من الأسد أو الموت. وأن يجتنبوا كل ما يخالف الشرع الشريف. فإن مرضى القلوب أهل الغفلة يجب بترهم بتراً أزلياً من هذا المجمع الطاهر امتثالاً للأمر التشريعي. قال تعالى {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (199 الأعراف) {فأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (29 النجم) {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا * وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (28-29 الكهف).
وليكن معلوماً لدى العموم أنه ليس منا من يخالف الكتاب والسنة، وليس منا من يخالف نهج وخط أوامر الشارع الأعظم صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (103-104 الكهف).
فالحذر الحذر أيها الإخوان الكرام. وفي الختام اقبلوا مني فائق الاحترام، سائلاً منه تعالى أن يسلك بي وبكم طريق أهل الصفا، ويجملني وإياكم بجمال حضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلنا من أهل الاختصاص، ويحلنا من قيد الأقفاص، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين".
الركن الثالث: الذكر:
الذكر هو الركن الثالث من أركان الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية. وكلمة الذكر في القرآن الكريم لها معان كثيرة. فعني بها في معظم النصوص التسبيح والتكبير والتهليل والذكر بالأسماء، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك. كما جاء ذلك في قوله تعالى {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} (102 النساء). وفي قوله تعالى {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} (8 المزمل). وعني بها مرة القرآن الكريم نفسه في قوله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (9 الحجر). وعني بها أخرى صلاة الجمعة بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (9 الجمعة). وعني بها مرة أخرى العلم في قوله تعالى {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (7 الأنبياء).
وعندنا كما فهمنا من أشياخنا أن الذكر هو جميع ذلك. لكن المعتبر فيه ما غلب استعماله عرفاً. ولفظ الذكر قد غلب استعماله في ذكر الله حقيقة، وهو: الإكثار من ذكر الله تسبيحاً وتهليلاً وتكبيراً وغير ذلك من الصيغ. والذاكر عندنا لا يكون ذاكراً إلا إذا كان مكثراً في ذكره، لأن الإقلال من الذكر صفة المنافقين بدليل قوله تعالى {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} (142 النساء).
فالأصل هو الإكثار من الذكر. وفي كثير من الآيات ورد الذكر مقروناً بكلمة كثيراً: قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (41-42 الأحزاب). وقـال تعالى {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (35 الأحزاب). وقال تعالى {وَاذْكُرْ رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} (41 آل عمران). وقال تعالى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (10 الجمعة).
قال مجاهد: "لا يكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، حتى يذكر الله تعالى قائماً وقاعداً ومضجعاً". وقال ابن عباس رضي الله عنهما "المراد يذكرون الله في أدبار الصلوات، وغدواً وعشياً، وكلما استيقظ من نومه، وكلما غدا أو راح من منـزله ذكر الله تعالى".
وعلى هذا فالذكر هو الدواء النافع لكل أمراض النفس، وهو الصاقل للقلوب، الدافع للبلاء والحزن والهم والغم، الجالب للسكينة والأنس والصبر والرضى والحب وغير ذلك. قال تعالى {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (28 الرعد) ولأن وقع الذكر على قلوب المنافقين ثقيل، فكثيراً ما تجدهم ينكرون على الذاكرين ذكرهم. فلا يلتفت أحد إلى ما يقال من أهل الغفلة عن الذكر والذاكرين. ومصداق ذلك ما أخرجه مسلم في باب الذكر، والترمذي في كتاب الدعوات عن ابي هريرة رضي الله عنه قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة فمر على جبل يقال له جُمدان فقال: سيروا هذا جُمدان سبق المفَرِّدُون، قيل وما المفردون يا رسول الله؟ قال المُسْتَهتَرون بذكر الله، يضع الذكر عنهم أثقالهم فيأتون الله يوم القيامة خفافاً) والمستهتَرون هم المولعون بالذكر، المكثرون منه، ولا يبالون بما قيل فيهم، ولا بما فعل بهم.
وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرٌ من الأحاديث في فضل الذكر أذكر بعضها اختصاراً: أخرج الترمذي في كتاب الدعوات وحسّنه عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قيل وما رياض الجنة قال حِلَقُ الذكر). وروى الطبراني بإسناد حسن عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليبعثن الله أقواماً يوم القيامة في وجوههم النور على منابر اللؤلؤ يغبطهم الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء. قال فجثا أعرابي على ركبتيه فقال: يا رسول الله حِلْهُم لنا نعرفهم (أي صفهم لنا) قال هم المتحابون في الله من قبائل شتى، وبلاد شتى، يجتمعون على ذكر الله يذكرونه).
وروى أحمد وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه والبيهقي وغيرهم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله عز وجل يوم القيامة: سيعلم أهل الجمع من أهل الكرم. فقيل ومن هم أهل الكرم يا رسول الله؟ قال: أهل مجالس الذكر في المساجد). وأخرج الترمذي في كتاب فضائل القران وقال حديث حسن، والدارمي والبيهقي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقول الرب تبارك وتعالى: من شغله قراءة القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين).
الجهر والإسرار بالذكر:
شرع الذكر سراً وجهراً، بأدلة كثيرة. إلا أن الذي عليه العلماء العاملون أن الجـهر بالذكر أفضل، إذا خـلا من إيذاء قارئ أو نائمٍ أو مصلٍ، وإذا خلا من حب الشهرة والرياء.
ومن الأدلة الشرعية النبوية التي تَرُدُّ على من ينكر الجهر بالذكر:
أخرج البخاري في صحيحه (باب التوحيد) والترمذي والنسائي وابن ماجة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه، إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي (وهذا دليل على ذكر السر)، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم (وهذا دليل على ذكر الجهر)). والذكر في الملأ لا يكون إلا جهرياً.
وروى البيهقي كما في الحاوي للفتاوي للسيوطي عن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: قال ابن الأدرع رضي الله عنه: (انطلقت مع النبي صلى الله عليه وسلم فمر برجل في المسجد يرفع صوته. قلت يا رسول الله عسى أن يكون مرائياً.قال: لا، ولكنه أوَّاه).
وأخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته). وروى أحمد وأبو داود والترمذي وصححه السيوطي في كتابه «الحاوي للفتاوي» عن السـائب رضي الله عنـه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (جاءني جبريل قال: مُر أصحابك يرفعوا أصواتهم بالتكبير).
أما الذين يستدلون بالآية الكريمة {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} (205 الأعراف) فللعلماء آراء واضحة في ذلك: منها ما أشار إليه ابن كثير في تفسيره أن هذه الآية مكية كآية الإسراء {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} (110 الإسراء) وقد نزلت حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالقرآن فيسمعه المشركون فيسبون القرآن ومن أنزله، فأُمر بترك الجهر سداً للذريعة، كما نُهي عن سب الأصنام لذلك في قوله تعالى {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (108 الأنعام) وقد زال هذا المعنى، كما كان الحال في قصة الفاروق رضي الله عنه في توزيع الصدقات على المؤلفة قلوبهم، فقد أبى ذلك في المدينة عندما قويت شوكة الإسلام، وقال كنا نؤلف قلوبهم لما كان الإسلام طريداً.
ثم إن جماعة من المفسرين منهم عبد الرحمن بن زيد بن أسلم شيخ مالك، وابن جرير حملوا الآية على الذاكر حال قراءة القرآن، وأنه أمر بالذكر على هذه الصفة تعظيماً للقرآن أن ترفع عنه الأصوات.
وقد ذكر بعض العارفين في ذلك أن الأمر في الآية خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم الكامل المكمل، وأما غيره ممن هم محل الوساوس، فمأمورون بالجهر لأن الجهر أشد تأثيرًا في دفعها. ويؤيد ذلك هذه الرواية المدنية والله أعلم: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة من أصحابه مختلفي الأحوال، فمر على أبي بكر رضي الله عنه وهو يخافت فسأله عن ذلك فقال إن الذي أناجيه هو يسمعني. ومر على عمر رضي الله عنه وهو يجهر فسأله عن ذلك فقال أوقظ الوسنان وأزجر الشيطان. ومر على بلال وهو يتلو آياً من هذه السورة وآياً من هذه السورة، فسأله عن ذلك فقال: أخلط الطيب بالطيب. فقال صلى الله عليه وسلم كلكم أحسن وأصاب.
ويستدل البعض على كـراهية الـذكر بالجهـر بالآية الكريمة {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (55 الأعراف). ولم يتنبه هؤلاء إلى أن هذه الآية تتكلم عن الدعاء (ادعوا) لا عن الذكر. والإسرار في الدعاء أفضل لأنه أقرب للإجابة {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} (3 مريم).
وروى مسلم في صحيحه في كتاب المساجد ومواقع الصلاة، والترمذي في كتاب الصلاة عن ابن الزبير رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلّم من صلاته قال بصوته الأعلى لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ولا حول ولا قوة إلا بالله... الحديث).
وعلى هذا فلا بأس بأنواع الذكر وأشكاله كلها، سرها وجهرها. وقد تميزت طريقتنا الخلوتية الجامعة الرحمانية بحرصها على أداء الذكر بكل أشكاله وألوانه ضمن أورادها الصباحية والمسائية.
سُئِلَ شيخ الإسلام ـ قدسَ اللَّه روحَهُ ـ عن (الصوفية)
سُئِلَ شيخ الإسلام ـ قدسَ اللَّه روحَهُ ـ عن (الصوفية) وأنهم أقسام و(الفقراء) أقسام، فما صفة كل قسم؟ وما يجب عليه ويستحب له أن يسلكه ؟
فأجاب :
الحمد للّه.أما لفظ (الصوفية): فإنه لم يكن مشهورًا في القرون الثلاثة، وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك، وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ؛ كالإمام أحمد ابن حنبل، وأبي سليمان الداراني، وغيرهما. وقد روى عن سفيان الثوري أنه تكلم به، وبعضهم يذكر ذلك عن الحسن البصري، وتنازعوا في المعنى الذي أضيف إليه الصوفي، فإنه من أسماء النسب؛ كالقرشي، والمدني، وأمثال ذلك.
فقيل: إنه نسبة إلى (أهل الصفة) وهو غلط؛ لأنه لو كان كذلك لقيل: صُفِّيّ. وقيل: نسبة إلى الصف المقدم بين يدي اللّه، وهو أيضًا غلط؛ فإنه لو كان كذلك لقيل: صَفِّيّ. وقيل: نسبة إلى الصفوة من خلق اللّه وهو غلط؛ لأنه لو كان كذلك لقيل: صفوي. وقيل: نسبة إلى صوفـة بن بشر بن أدِّ بن طابخـة، قبيلة من العرب كانوا يجاورون بمكة من الزمن القديم، ينسب إليهم النساك، وهذا وإن كان موافقًا للنسب من جهة اللفظ، فإنه ضعيف أيضًا؛ لأن هؤلاء غير مشهورين، ولا معروفين عند أكثر النساك، ولأنه لو نسب النساك إلى هؤلاء لكان هذا النسب في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أولى، ولأن غالب من تكلم باسم (الصوفى) لا يعرف هذه القبيلة، ولا يرضى أن يكون مضافًا إلى قبيلة في الجاهلية لا وجود لها في الإسلام.
وقيل ـ وهو المعروف ـ : إنه نسبة إلى لبس الصوف؛ فإنه أول ما ظهرت الصوفية من البصرة، وأول من بنى دويرة الصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد[عبد الواحد بن زيد أبو عبيدة البصرى شيخ الصوفية وواعظهم، لحق الحسن البصرى وغيره. قال البخارى: تركوه. وقال النسائى: متروك الحديث. وقال الجوزجانى: سيئ المذهب، ليس من معادن الصدق. توفى بعد الخمسين ومائة من الهجرة. [ سير أعلام النبلاء 7178 ـ 180، ميزان الاعتدال 2372، 376].
وعبد الواحد من أصحاب الحسن، وكان فى البصرة من المبالغة فى الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك، مالم يكن في سائر أهل الأمصار؛ ولهذا كان يقال : فقه كوفي، وعبادة بصرية. وقد روى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده عن محمد بن سيرين أنه بلغه أن قوما يفضلون لباس الصوف، فقال: إن قوما يتخيرون الصوف، يقولون: أنهم متشبهون بالمسيح ابن مريم، وهدي نبينا أحب إلينا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس القطن وغيره، أو كلاما نحوا من هذا.
ولهذا غالب ما يحكي من المبالغة في هذا الباب إنما هو عن عباد أهل البصرة، مثل حكاية من مات أو غشى عليه في سماع القرآن، ونحوه.
كقصة زرارة بن أوفى قاضي البصرة فإنه قرأ في صلاة الفجر: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [ المدثر: 8 ] فخر ميتا، وكقصة أبي جهير الأعمى الذي قرأ عليه صالح المري فمات، وكذلك غيره ممن روى أنهم ماتوا باستماع قراءته، وكان فيهم طوائف يصعقون عند سماع القرآن، ولم يكن في الصحابة من هذا حاله؛ فلما ظهر ذلك أنكر ذلك طائفة من الصحابة والتابعين: كأسماء بنت أبي بكر، وعبد اللّه بن الزبير، ومحمد بن سيرين، ونحوهم
والمنكرون لهم مأخذان:
منهم من ظن ذلك تكلفا وتصنعا. يذكر عن محمد بن سيرين أنه قال: ما بيننا وبين هؤلاء الذين يصعقون عند سماع القرآن إلا أن يقرأ على أحدهم وهو على حائط فإن خر فهو صادق.
ومنهم من أنكر ذلك لأنه رآه بدعة مخالفا لما عرف من هدى الصحابة، كما نقل عن أسماء، وابنهاعبد اللّه.
والذي عليه جمهور العلماء أن الواحد من هؤلاء إذا كان مغلوبا عليه لم ينكر عليه، وإن كان حال الثابت أكمل منه؛ ولهذا لما سئل الإمام أحمد عن هذا. فقال: قرئ القرآن على يحيى بن سعيد القطان فغشي عليه ولو قدر أحد أن يدفع هذا عن نفسه لدفعه يحيى ابن سعيد، فما رأيت أعقل منه، ونحو هذا. وقد نقل عن الشافعي أنه أصابه ذلك، وعلي بن الفضيل بن عياض قصته مشهورة، وبالجملة فهذا كثير ممن لا يستراب في صدقه
لكن الأحوال التي كانت في الصحابة هي المذكورة في القرآن، وهي وجل القلوب، ودموع العين، واقشعرار الجلود، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23]. وقال تعَالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِم آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}[مريم: 58]، وقال: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ}[المائدة: 83 ] وقال: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109].
وقد يذم حال هؤلاء من فيه من قسوة القلوب والرين عليها، والجفاء عن الدين، ماهو مذموم، وقد فعلوا، ومنهم من يظن أن حالهم هذا أكمل الأحوال وأتمها وأعلاها، وكلاطرفي هذه الأمور ذميم.
:
أحدها: حال الظالم لنفسه الذي هو قاسي القلب، لا يلين للسماع والذكر، وهؤلاء فيهم شبه من اليهود. قال اللّه تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [ البقرة: 74 ] وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [ الحديد: 16] .
والثانية: حال المؤمن التقي الذي فيه ضعف عن حمل ما يرد على قلبه، فهذا الذي يصعق صعق موت، أو صعق غشي، فإن ذلك إنما يكون لقوة الوارد، وضعف القلب عن حمله، وقد يوجد مثل هذا في من يفرح أو يخاف أو يحزن أو يحب أمورا دنيوية، يقتله ذلك أو يمرضه أو يذهب بعقله. ومن عباد الصور من أمرضه العشق أو قتله أو جننه، وكذلك في غيره، ولا يكون هذا إلا لمن ورد عليه أمر ضعفت نفسه عن دفعه، بمنزلة ما يرد على البدن من الأسباب التي تمرضه أو تقتله، أو كان أحدهم مغلوبا على ذلك.
فإذا كان لم يصدر منه تفريط ولا عدوان، لم يكن فيه ذنب فيما أصابه، فلا وجه للريبة. كمن سمع القرآن السماع الشرعي، ولم يفرط بترك ما يوجب له ذلك، وكذلك ما يرد على القلوب مما يسمونه السكر والفنا، ونحو ذلك من الأمور التي تغيب العقل بغير اختيار صاحبها؛ فإنه إذا لم يكن السبب محظورا لم يكن السكران مذموما، بل معذورا فإن السكران بلا تمييز، وكذلك قد يحصل ذلك بتناول السكر من الخمر والحشيشة فإنه يحرم بلانزاع بين المسلمين، ومن استحل السكر من هذه الأمور فهو كافر، وقد يحصل بسبب محبة الصور وعشقها كما قيل:
سكران: سكر هوى، وسكر مدامة**ومــتى إفاقــة من به سكـــــران
وهذا مذموم، لأن سببه محظور، وقد يحصل بسبب سماع الأصوات المطربة التي تورث مثل هذا السكر، وهذا أيضًا مذموم، فإنه ليس للرجل أن يسمع من الأصوات التي لم يؤمر بسماعها ما يزيل عقله؛ إذ إزالة العقل محرم. ومتي أفضى إليه سبب غير شرعي كان محرما، وما يحصل في ضمن ذلك من لذة قلبية أو روحية، ولو بأمور فيها نوع من الإيمان، فهي مغمورة بما يحصل معها من زوال العقل، ولم يأذن لنا اللّه أن نمتع قلوبنا ولا أرواحنا من لذات الإيمان ولا غيرها بما يوجب زوال عقولنا؛ بخلاف من زال عقله بسبب مشروع، أو بأمر صادفه لا حيلة له في دفعه.
وقد يحصل السكر بسبب لا فعل للعبد فيه، كسماع لم يقصده يهيج قاطنه، ويحرك ساكنه، ونحو ذلك. وهذا لا ملام عليه فيه، وما صدر عنه في حال زوال عقله فهو فيه معذور؛ لأن القلم مرفوع عن كل من زال عقله بسبب غير محرم، كالمغمي عليه والمجنون ونحوهما.
ومن زال عقله بالخمر. فهل هو مكلف حال زوال عقله؟ فيه قولان مشهوران، وفي طلاق من هذه حاله نزاع مشهور، ومن زال عقله بالبنج يلحق به، كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي وأحمد، وقيل يفرق بينه وبين الخمر؛ لأن هذا يشتهي، وهذا لا يشتهي؛ ولهذا أوجب الحد في هذا دون هذا، وهذا هو المنصوص عن أحمد ومذهب أبي حنيفة.
ومن هؤلاء من يقوى عليه الوارد حتى يصير مجنونًا، إما بسبب خلط يغلب عليه، وإما بغير ذلك، ومن هؤلاء عقلاء المجانين الذين يعدون في النساك، وقد يسمون المولهين [المولهين: الوَلهُ: الحزن، وقيل: هو ذهاب العقل والتحير من شدة الوجد أو الحزن.]. قال فيهم بعض العلماء: هؤلاء قوم أعطاهم اللّه عقولًا وأحوالًا؛ فسلب عقولهم، وأسقط ما فرض بما سلب.
فهذه الأحوال التي يقترن بها الغشي أو الموت أو الجنون أو السكر أو الفناء حتى لا يشعر بنفسه ونحو ذلك، إذا كانت أسبابها مشروعة وصاحبها صادقا عاجزا عن دفعها كان محمودا على ما فعله من الخير وما ناله من الإيمان، معذورا فيما عجز عنه وأصابه بغير اختياره وهم أكمل ممن لم يبلغ منزلتهم لنقص إيمانهم وقسوة قلوبهم ونحو ذلك من الأسباب التي تتضمن ترك ما يحبه اللّه أو فعل ما يكرهه اللّه.
ولكن من لم يزل عقله، مع أنه قد حصل له من الإيمان ما حصل لهم أو مثله أو أكمل منه فهو أفضل منهم. وهذه حال الصحابة ـ رضي اللّه عنهم ـ وهو حال نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه أسرى به إلى السماء وأراه اللّه ما أراه، وأصبح كبائت لم يتغير عليه حاله، فحاله أفضل من حال موسى صلى الله عليه وسلم الذي خر صعقا لما تجلى ربه للجبل وحال موسى حال جليلة علية فاضلة، لكن حال محمد صلى الله عليه وسلم أكمل وأعلا وأفضل.
والمقصود: أن هذه الأمور التي فيها زيادة في العبادة والأحوال خرجت من البصرة، وذلك لشدة الخوف، فإن الذي يذكرونه من خوف عتبة الغلام وعطاء السليمي وأمثالهما أمر عظيم. ولا ريب أن حالهم أكمل وأفضل ممن لم يكن عنده من خشية اللّه ما قابلهم أو تفضل عليهم. ومن خاف اللّه خوفا مقتصدا يدعوه إلى فعل ما يحبه اللّه وترك ما يكرهه اللّه من غير هذه الزيادة فحاله أكمل وأفضل من حال هؤلاء، وهو حال الصحابة رضي اللّه عنهم وقد روى: أن عطاء السليمي - رضي اللّه عنه - رؤى بعد موته فقيل له: مافعل اللّه بك؟ فقال: قال لي: ياعطاء! أما استحيت مني أن تخافني كل هذا؟! أما بلغك أني غفور رحيم؟!.
وكذلك ما يذكر عن أمثال هؤلاء من الأحوال من الزهد والورع والعبادة وأمثال ذلك قد ينقل فيها من الزيادة على حال الصحابة رضي اللّه عنهم وعلى ما سنه الرسول أمور توجب أن يصير الناس طرفين :
قوم يذمون هؤلاء وينتقصونهم وربما أسرفوا في ذلك.
وقوم يغلون فيهم ويجعلون هذا الطريق من أكمل الطرق وأعلاها.
والتحقيق أنهم في هذه العبادات والأحوال مجتهدون كما كان جيرانهم من أهل الكوفة مجتهدين في مسائل القضاء والإمارة ونحو ذلك. وخرج فيهم الرأي الذي فيه من مخالفة السنة ما أنكره جمهور الناس.
وخيار الناس من (أهل الفقه والرأي) في أولئك الكوفيين على طرفين:
قوم يذمونهم ويسرفون فى ذمهم .
وقوم يغلون في تعظيمهم ويجعلونهم أعلم بالفقه من غيرهم وربما فضلوهم على الصحابة. كما أن الغلاة في أولئك العباد قد يفضلونهم على الصحابة، وهذا باب يفترق فيه الناس.
والصواب: للمسلم أن يعلم أن خيرالكلام كلام اللّه، وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وخير القرون القرن الذي بعث فيهم، وأن أفضل الطرق والسبل إلى اللّه ما كان عليه هو وأصحابه، ويعلم من ذلك أن على المؤمنين أن يتقوا اللّه بحسب اجتهادهم ووسعهم، كما قال اللّه تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [ التغابن : 16 ] وقال صلى الله عليه وسلم : (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)، وقال: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 285]. وإن كثيرا من المؤمنين - المتقين أولياء اللّه - قد لا يحصل لهم من كمال العلم والإيمان ماحصل للصحابة، فيتقى اللّه ما استطاع ويطيعه بحسب اجتهاده، فلابد أن يصدر منه خطأ إما في علومه وأقواله وإما في أعماله وأحواله، ويثابون على طاعتهم ويغفر لهم خطاياهم؛ فإن اللّه تعالى قال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} إلى قوله: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [ البقرة: 285، 286 ] قال اللّه تعالى: قد فعلت
حكيم عياض
2009-08-27, 09:00
حكم الذكر بالإسم المفرد (الله):
وهذا الذكر أيضاً واجب بالأمر الإلهي الوارد في:
قوله تعالى {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} (8 المزمل).
قوله تعالى {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (25 الإنسان).
قوله تعالى {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (14-15 الأعلى).
قوله تعالى {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ} (91 الأنعام).
أما السنة النبوية فقد أخرج مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان والترمذي في كتاب الفتن وأحمد في مسنده عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله) وهنا ورد لفظ الجلالة مكرراً.
وقد اعترض بعضهم على الذكر بهذا الاسم لأنه لا يؤلف جملة تامة مفيدة كما في قولنا يالطيف، ياودود. والجواب على ذلك أن الذاكر للأسماء الإلهية وللاسم المفرد لا يكلم مخلوقاً يجد عسراً في إفهامه، فهو يذكر الله تعالى العالم بنفسه، المطلع على قلبه.
قال ابن عجيبة وأبو حنيفة والكسائي والشعبي وإسماعيل بن اسحق وأبو حفص: أن لفظ (الله) هو الاسم الأعظم. وهو اعتقاد العارفين بالله، نفعنا الله بهم.
حكم الذكر الجماعي:
وقد اعترض البعض على الذكر الجماعي ومشروعيته بسبب أن منهج طريقتنا يقوم في جانب منه على الذكر الجماعي. فأسوق الأدلة الشرعية التي تثبت صحة هذا المنهج:
أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الدعوات عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا. قال: فيسألهم ربهم وهو أعلم منهم، ما يقول عبادي؟ قالوا: يسبحونك، ويكبرونك، ويحمدونك، ويمجدونك. قال: فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك. قال: فيقول: وكيف لو رأوني؟ قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد تمجيداً، وتحميداً، وأكثر تسبيحاً. قال: يقول: فما يسألوني؟ قال: يسألونك الجنة. قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو رأوها. قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصاً وأشد لها طلباً وأعظم فيها رغبة. قال: فمم يتعوذون؟ قال: يقولون: من النار. قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها. قال: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فراراً وأشد لها مخافة. قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم. قال: يقول ملكٌ من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم وإنما جاء لحاجة. قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم).
وأخرج الترمذي في كتاب الدعوات وحسنه، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حِلَقُ الذِكر). وحِلَقُ الذكر لا يشكلها فرد ولا بد لها من جماعة.
وروى الطبراني بإسناد حسن كما في «الترغيب والترهيب»، الجزء الثاني، صفحة 406، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليبعثن الله أقواماً يوم القيامة في وجوههم النور، على منابر من اللؤلؤ، يغبطهم الناس، ليسوا بأنبياء ولا شهداء، فجثا أعربي على ركبتيه فقال: حِلهم لنا نعرفهم. قال: هم المتحابون في الله من قبائل شتى يجتمعون على ذكر الله يذكرونه).
أخرج البخاري في صحيحه باب التوحيد، والترمذي والنسائي وابن ماجة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه. إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم) وفي ذلك دليل على جواز الاجتماع للذكر الجهري الجماعي.
وروى الإمام أحمد ورجاله رجال الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله عز وجل، لا يريدون بذلك إلا وجهه، إلا ناداهم منادٍ من السماء أن قوموا مغفوراً لكم فقـد بُدِّلَت سيئاتكم حسنات).
وهكذا تظهر أهمية الذكر الجماعي، حيث يستفيد الغافل من الذاكر، والمظلم من صاحب النور، والجاهل من صاحب العلم.
وأخرج مسلم في كتاب الذكر، والترمذي في كتاب الدعوات عن معاوية رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال ما يجلسكم؟ فقالوا جلسنا نذكر الله ونحمده. فقال: إنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم ملائكته).
الأوراد الفردية واليومية
الأوراد الفردية:
إذا أراد السالك الاستزادة من الأذكار بعد أوراده اليومية الراتبة وتهيأت له أسباب ذلك، فله أن يقرأ ما شاء من الأوراد الاختيارية التالية صباحاً ومساءً بعد ورد السبحة:
يا الله 66 مرة.
يا لطيف يا حفيظ 133 مرة.
يا كريم يا فتاح 100 مرة.
يا ودود يا وهاب 100 مرة.
ورد الأسماء السبعة : 300 مرة، يقرأ في كل يوم وليلة مرة وهو: (لا إله إلا الله. الله. هو. حيّ. قيوم. حق. قهّار).
أما الاسم الأعظم: فيذكر في السر في جميع الأوقات بلا انقطاع وهو (الله) مع المد. وهو من الضروريات لمريدي الآخرة.
ورد اللطيف الاختياري: فيقرأ ضحى كل يوم، حيث تكرر كلمة يا لطيف (16666 مرة). ويبدأ بقول: يا لطيف (66 مرة) بالمد المتأني، و(600 مرة) أسرع قليلاً، و(16000 مرة) بشدة وسرعة مع مراعاة المساواة للجماعة إذا قرىء بشكل جماعي ثم يختم بعشر مرات بالمد المتأني. ويختم كما تختم الأوراد.
أذكار وأدعية يومية:
دعاء الدخول إلى المسجد:
تقدم برجلك اليمنى وقل: بسم الله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، اللهم اغفر لي، وافتح لي أبواب رحمتك.
دعاء الخروج من المسجد:
تقدم برجلك اليسرى وقل: بسم الله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، اللهم اغفر لي، وافتح لي أبواب فضلك.
أذكار النوم:
تتوضأ قبل النوم ثم تجمع كفيك وتنفث فيهما وتقرأ قل هو الله أحد والمعوذتين، ثم تمسح بهما جسدك، تبدأ من رأسك. تفعل ذلك ثلاث مرات.
ثم تقرأ آية الكرسي.
ثم تقول: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبرسولك الذي أرسلت.
عند الاستيقاظ:
الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور.
قبل الطعام:
بسم الله الرحمن الرحيم.
وإذا نسيت فقل حينما تذكر: بسم الله أوله وآخره.
بعد الطعام:
الحمد لله الذي أطعمني وسقاني وجعلني من المسلمين.
عند الوليمة:
أكل طعامكم الأبرار، وصلّت عليكم الملائكة الأخيار، وذكركم الله فيمن عنده.
عند الإفطار:
اللهم إني لك صمت، وعلى رزقك أفطرت. وتفطر على تمرات، وإن لم تجد فعلى ماء، ثم تقول: ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله. ثم تصلي المغرب، وسنـته، ثم تتابع تناول إفطارك. ولك أن تدعو بما تشاء من الدعاء وقت إفطارك لأنه وقت مستحبٌ للدعاء.
عند وداع المسافر:
المقيم للمسافر: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك.
المسافر للمقيم:
أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه.
دعاء السفر:
سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ولا حول ولا قوة إلا بالله. اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى. ومن العمل ما ترضى. اللهم هون علينا سفرنا هذا واطْوِ عنا بعده. اللهم أنت الصاحب في السفر. والخليفة في المال والأهل والولد.
عند المصيبة:
إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها.
عند دخول الخلاء:
تقدم برجلك اليسرى، وقل: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث.
عند الخروج من الخلاء:
تقدم برجلك اليمنى، وقل: غفرانك.
كفارة المجلس:
سبحانك اللهم وبحمدك. أشهد أن لا إله إلاّ الله. أستغفرك وأتوب إليك.
الركن الرابع: الفكر:
لا شك بأن الفكر هو عصب المعرفة وبه يمكن التعرض للمعاني والفهوم، ورصد موجات العلوم. وقد عرف الكثيرون أهميته ومشروعيته من خلال قوله تعالى {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لأَيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} (190 آل عمران). إلا أن كثيرين قد غفلوا عن كيفيته وكيف يمكن أن يكون عبادة. وما ربط طريقتنا الخلوتية لهذه العبادة وجعلها ركناً من أركان الطريق إلا ليفهم ذلك. فهو الركن اللاحق لركن الذكر لقوله تعالى في تتمة الآية وتعريف أولي الألباب بأنهم {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (191 آل عمران).
فكما أن الله قد أثنى على الذاكرين المتفكرين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أولى هذه العبادة عناية خاصة، ففي صحيح ابن حبان من رواية عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء قال: (انطلقت يوماً أنا وعبيد بن عمير إلى عائشة رضي الله عنها فكلمتنا وبيننا وبينها حجاب فقالت: يا عبيد ما يمنعك من زيارتنا؟ قال: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: زر غباً تزدد حباً. قال ابن عمير: فأخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فبكت، وقالت: كـل أمره كان عجباً، أتاني في ليلتي حتى مس جلده جلدي ثم قال ذريني أتعبد لربي عز وجل، فقام إلى القربة فتوضأ منها ثم قام يصلي فبكى حتى بل لحيته ثم سجد حتى بل الأرض ثم اضطجع على جنبه حتى أتى بلال يؤذن الصبح. فقال: يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: ويحك يا بلال، وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله تعالى علي في هذه الليلة {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ...} الآية. ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها). فقيل للأوزاعي ما غاية التفكر فيهن قال: يقرؤهن ويعقلهن.
وعن طاووس قال: قال الحواريون لعيسى بن مريم يا روح الله هل على الأرض اليوم مثلك؟ فقال: نعم، من كان منطقه ذكراً وصمته فكراً ونظره عبرة فإنه مثلي.
وقال الحسن: من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو، ومن لم يكن سكوته تفكراً فهو سهو، ومن لم يكن نظره اعتبارا فهو لهو. وفي قوله تعالى {سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (146 الأعراف) قال أمنع قلوبهم من التفكر في أمري.
وعن محمد بن واسع أن رجلاً من أهل البصرة ركب إلى أم ذر بعد موت أبي ذر فسألها عن عبادة أبي ذر فقالت: كان نهاره أجمع في ناحية البيت يتفكر.
وكان لقمان يطيل الجلوس وحده، وكان يمر به مولاه فيقول يالقمان إنك تديم الجلوس وحدك فلو جلست مع الناس كان آنس لك فيقول لقمان إن طول الوحدة أفهم للفكر وطول الفكر دليل على طريق الجنة. وقال وهب بن منبه ما طالت فكرة امرئ إلا فهم، وما فهم إلا علم، وما علم إلا عمل. وقال بشر الحافي: لو تفكر الناس في عظمة الله لما عصوه.
وإذا أردنا معرفة حقيقة الفكر فإن الأمر يطول ويصعب في مكان لا تحمد فيه الإطالة والصعوبة، وتسهيلاً على إخوتنا أحثهم على التفكر في أمورٍ جانب منها يتعلق بآفات النفس والتفكر بالخلاص منها والسعي لتحويلها إلى خصال محمودة. فعلى السالك أن يتفكر في آفات نفسه كالبخل والكبر والعجب والحسد وشدة الغضب والرياء وحب المال والجاه وشره الطعام والوقاع. هذه الآفات على السالك التفكر بها للخلاص منها.
وجانب آخر يتعلق بأمور محمودة على السالك التفكر فيها والإكثار منها كالندم على الذنوب والرضى والصبر والشكر والزهد والإخلاص وحسن الخلق والحب. ثم إن على السالك أن يتفكر كل يوم ويحاسب نفسه بقية النهار على نهاره كيف أمضاه، وهل اجتنب النواهي وجاء بالأوامر الشرعية.
وتسهيلاً على السالك في هذا الركن من أركان الطريق أنصح بتوجيه الأسئلة التالية للنفس كل يوم حتى نقرن الفكر بالعمل، فيتفكر السالك بأمره ويسأل نفسه هذه الأسئلة:
· هل تفكرت في بديع صنع الخالق في أرضه وسمائه وجميع خلقه؟
· هل تفكرت في نفسك وبديع صنع الله لك؟
· هل ذكرت الله عند قيامك من نومك؟
· هل صليت الفجر جماعة؟
· هل قرأت أوراد الصباح؟
· هل استفتحت يومك بسؤال الله لك أن يرزقك الرزق الحلال؟
· هل سألت الله أن يدخلك الجنة واستعذت به من النار؟
· هل صليت اليوم السنن الراتبة والتطوع؟
· هل واظبت على قراءة الأوراد؟
· هل كنت خاشعاً اليوم في صلاتك وتدبرت معانيها؟
· هل اتقيت الله في ملبسك ومشربك وطعامك؟
· هل حمدت الله على نعمه؟
· هل قرأت وتعلمت وحفظت وتدبرت شيئاً من كتاب الله؟
· هل حفظت سمعك وبصرك ولسانك وجوارحك عن الحرام؟
· هل صليت على النبي صلى الله عليه وسلم اليوم؟
· هل عدت مريضاً؟
· هل أمرت بمعروف أو نهيت عن منكر؟
· هل شيعت جنازة؟
· هل نصحت في الله؟
· هل وصلت من قطعك؟
· هل عدلت في الغضب والرضى؟
· هل عفوت عمن ظلمك وأعطيت من حرمك؟
· هل كان صمتك فكراً ونطقك ذكراً ونظرك عبرة؟
· هل أحببت وأبغضت في الله؟
· هل أهديت هدية لتأليف قلب بزيادة حب ومودة؟
· هل حاولت الإقلال من الضحك؟
· هل تفكرت في نعم الله عليك؟
· هل بكيت من خشية الله أو حباً به؟
· هل تصدقت اليوم؟
· هل ابتسمت في وجه أخيك؟
· هل نطق لسانك غيبة ونميمة وسخرية؟
· هل تذكرت الموت والقبر والحساب والصراط والنار؟
· هل صمت نافلة؟
· هل ختمت يومك بتوبة نصوحاً؟
وهكذا يستقيم أمر الطاعة من خلال الفكر الدال على الخير. ثم ليتأمل قول الله تعالى {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (101 يونس) وقوله {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} (21 الذاريات). ويتأمل حقيقة خلقه من نطفة ويتفكر في نفسه فإن في خلقه من العجائب الدالة على عظمة الله ما يفني عمره في النظر إلى أقله. ثم ليتأمل الكون وخلقه وكيف خلق الله في باطن الأرض خيرات جمة للإنسان، الذهب والفضة والحديد والنفط. وفي التراب كيف يخرج منه الزرع مختلف الألوان. والبحار العظيمة وما فيها من الأحياء والأرزاق وكيف جعل الله فيها الأحجار الكريمة واللؤلؤ والصدف والمرجان والعنبر. والماء الذي جعل منه كل شيء حي، ولولاه لما كانت الحياة، ويتفكر الإنسان ماذا لو منع عنه الماء. ثم يتفكر بالهواء والأكسجين ومعادلته العلمية الدقيقة، والغيوم والرعد والمطر والثلج والبرد والشهب والصواعق، والطير التي تسبح كمـا يسـبح حيوان البحر في الماء، والسماء وعظمتها وكواكبها وشمسها وقمرها ودخول الليل بالنهار والنهار بالليل، ومسير الشمس واختلاف الفصول من الصيف إلى الشتاء والربيع والخريف، وكيف تستقيم الحياة على هذا الشكل الرتيب، وماذا لو اختل هذا الميزان.
ومن غفل عن هذا الفكر فلن يعرف ربه وقد نسي نفسه واشتغل ببطنه وفرجه، فتفكر بذلك فإن هذا هو مفتاح المعرفة.
الركن الخامس: الصمت:
هذا هو الركن الخامس من أركان الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية، ويدخل هذا الركن ضمن أنواع مجاهدة النفس وترويضها وتحويل آفاتها المذمومة إلى صفات محمودة وهي ركيزة من الركائز الأساسية التي تعنى بها الطريق. ومعنى الصمت السكوت، وعكس الصمت آفة من آفات اللسان الذي إذا ترك له الحبل على الغارب استرسل في الثرثرة وكثرة الكلام التي تورد الموارد. وآفات اللسان كثيرة ليس المكان هنا لذكرها إلا إنه لا يؤمَن جانب اللسان وخطره إلا بهذا الركن (الصمت) الذي يجمع الهمة ويُفْرِغ الصـبر. قـال تعالى {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (18 ق) وقال أيضاً {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (1-3 المؤمنون). وقال تعالى في وصف المؤمنين {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (55 القصص). ففي هذه الآيات تنبيه وتحذير من الله بأن العبد مراقب فيما يقول ويُكتب عنه ذلك، ومدح للمؤمنين الذين يُعرِضون عن فضول الكلام وما لا حاجة لهم بقوله، ونهي عن الخوض فيما لا يعني، ومفارقة أهل اللغو الذين لا هم لهم سوى الخوض في الباطل وفي أعراض الناس، والغفلة عن ذكر الله وما والاه.
وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من اللسان وآفاته وثرثرته، فقد أخرج الترمذي من حديث عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله (من صمت نجا). وأخرج الترمذي وقال حسن، عن عقبة بن عامر قال (قلت يارسول الله ما النجاة؟ قال أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك).
وروى البخاري عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من يتكفل لي ما بين لحييه (اللسان) ورجليه (الفرج) أتكفل له الجنة).
وأخرج الترمذي وصححه وابن ماجة والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين عن معاذ بن جبل قال (قلت يا رسول الله أنؤاخذ بما نقول؟ فقال ثكلتك أمك يا ابن جبل، وهل يَكُبُّ النَّاسَ في النار على مناخرهم إلا حصائدُ ألسنتهم).
ورُوي أنّ ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما رأى أبا بكر الصديق رضي الله عنه وهو يمد لسانه بيده فقال ما تصنع ياخليفة رسول الله؟ قال هذا الذي أوردني الموارد، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ليس شيء من الجسد إلا يشكو إلى الله من اللسان على حدته).
وفي الحديث المرسل ورجاله ثقات عن صفوان بن سليم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألا أخبركم بأيسر العبادة وأهونها على البدن، الصمت وحسن الخلق).
وفي الحديث المتفق عليه قال أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت).
وروى البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب).
والأحاديث في الصمت كثيرة كلها تدل على فضيلته وإن فيه النجاة والسلامة والفلاح. {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}. (114 النساء)
وقد تحدث الإمام الغزالي رحمه الله في آفات اللسان وذكرها وفصلها. وأختصرها للسالكين ليتيسر الفهم:
الآفة الأولى: الكلام فيما لا يعني: لقوله صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه).
الآفة الثانية: الخوض في الباطل: وهو الكلام في المعاصي كذكر مجالس الخمر ومقامات الفساق. وقريب من ذلك الجدال والمراء وهو كثرة الملاحاة (المنازعة) للشخص لبيان غلطه وإفحامه، والباعث على ذلك الكبر والعجب. فينبغي للسالك أن ينكر المنكر ويبين الصواب، فإن قُبِل منه ذلك وإلا ترك المماراة. أو فيما يتعلق بأمور الدنيا فلا صحة للجدال فيها. روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم).
الآفة الثالثة: التقعر في الكلام: ومعناه التشدق وتكلف السجع. لما روى أحمد من حديث ابن ثعلبة عن أبي ثعلبة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن أبغضكم إليّ وأبعدكم مني يوم القيامة مساويكم أخلاقاً الثرثارون المتشدقون المتفيقهون). والتفيهق: التنطع في الكلام يملأ فمه به لإظهار فصاحته لما في ذلك من كبر وعجب.
الآفة الرابعة: الفحش والسب والبذاء: لما روى النسائي والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (إياكم والفحش فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش). وروى الترمذي بإسناد صحيح من حديث ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء).
الآفة الخامسة: المزاح: إلا ما كان يسيراً منه فلا ينهى عنه إذا كان صادقاً. فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح ولا يقول إلا حقاً. فإنه قال للرجل يا ذا الأذنين، وقال للعجوز إنه لا يدخل الجنة عجوز ثم قرأ {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا}. (35-36 الواقعة) وقال لأخرى زوجك الذي في عينيه بياض. فهذا مزاحه صلى الله عليه وسلم وكان حقاً ونادراً. أما الإفراط فيه والمداومة عليه فهو منهي عنه لأنه يسقط الوقار ويوجب الضغائن والأحقاد.
الآفة السادسة: السخرية والاستهزاء: ومعنى السخرية الاحتقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه. وقد يكون ذلك بالمحاكاة في العمل والقول وقد يكون بالإشارة والإيماء وكله ممنوع في الشرع.
الآفة السابعة: إفشاء السر وإخلاف الوعد والكذب في القول واليمين: إلا ما رخص فيه الكذب لزوجته لإصلاحها، وفي الحرب وإصلاح ذات البين. وتباح المعاريض لقوله صلى الله عليه وسلم (إن في المعاريض مندوحة عن الكذب)، وتباح لغرض خفيف كتطييب قلب الغير بالمزاح وإلا فالاسترسال بها قد يؤدي إلى الكذب.
الآفة الثامنة: الغيبة: والنهي عنها واضح في الكتاب والسنة لقوله تعالى {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} (12 الحجرات). وروى البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم). وروى أبو داود بإسناد جيد عن أبي برزة الأسلمي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته). وروى مسلم عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الغيبة فقال (ذكرك أخاك بما يكره، قال أرأيت إن كان في أخي ما أقول قال إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته).
فهذه بعض آفات اللسان وتلك هي فضيلة الصمت الذي هو مفتاح الحكمة ومهد الذكر.
فمن جعل طريق أحد من العلماء والفقهاء، أو طريق أحد من العباد والنساك أفضل من طريق الصحابة فهو مخطئ، ضال مبتدع، ومن جعل كل مجتهد في طاعة أخطأ في بعض الأمور مذموما معيبا ممقوتا، فهو مخطئ ضال مبتدع.
ثم الناس في الحب والبغض والموالاة والمعاداة هم أيضا مجتهدون، يصيبون تارة، ويخطئون تارة،وكثير من الناس إذا علم من الرجل ما يحبه، أحب الرجل مطلقا، وأعرض عن سيئاته، وإذا علم منه ما يبغضه أبغضه مطلقا، وأعرض عن حسناته، محاط وحال من يقول بالتحافظ وهذا من أقوال أهل البدع والخوارج والمعتزلة والمرجئة.
وأهل السنة والجماعة يقولون ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع وهو أن المؤمن يستحق وعد اللّه وفضله الثواب على حسناته، ويستحق العقاب على سيئاته، وإن الشخص الواحد يجتمع فيه ما يثاب عليه، وما يعاقب عليه، وما يحمد عليه وما يذم عليه، وما يحب منه وما يبغض منه، فهذا هذا.
وإذا عرف أن منشأ (التصوف) كان من البصرة، وأنه كان فيها من يسلك طريق العبادة والزهد، مما له فيه اجتهاد، كما كان في الكوفة من يسلك من طريق الفقه والعلم ماله فيه اجتهاد، وهؤلاء نسبوا إلى اللبسة الظاهرة، وهي لباس الصوف. فقيل في أحدهم: (صوفي) وليس طريقهم مقيدا بلباس الصوف، ولا هم أوجبوا ذلك ولا علقوا الأمر به، لكن أضيفوا إليه لكونه ظاهر الحال.
ثم(التصوف) عندهم له حقائق وأحوال معروفة قد تكلموا في حدوده وسيرته وأخلاقه، كقول بعضهم: (الصوفي) من صفا من الكدر، وامتلأ من الفكر، واستوى عنده الذهب والحجر. التصوف كتمان المعاني، وترك الدعاوي. وأشباه ذلك: وهم يسيرون بالصوفي إلى معنى الصديق، وأفضل الخلق بعد الأنبياء الصديقون. كما قـال اللّــه تعالــى: {فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] ولهذا ليس عندهم بعد الأنبياء أفضل من الصوفي؛ لكن هو في الحقيقة نوع من الصديقين، فهو الصديق الذي اختص بالزهد والعبادة على الوجه الذي اجتهدوا فيه، فكان الصديق من أهل هذه الطريق، كما يقال: صديقوا العلماء، وصديقوا الأمراء، فهو أخص من الصديق المطلق، ودون الصديق الكامل الصديقية من الصحابة والتابعين وتابعيهم.
فإذا قيل عن أولئك الزهاد والعباد من البصريين: إنهم صديقون فهو كما يقال عن أئمة الفقهاء من أهل الكوفة أنهم صديقون أيضًا، كل بحسب الطريق الذي سلكه من طاعة اللّه ورسوله بحسب اجتهاده وقد يكونون من أجلِّ الصديقين بحسب زمانهم، فهم من أكمل صديقي زمانهم، والصديق في العصر الأول أكمل منهم، والصديقون درجات وأنواع؛ ولهذا يوجد لك منهم صنف من الأحوال والعبادات، حققه وأحكمه وغلب عليه، وإن كان غيره في غير ذلك الصنف أكمل منه وأفضل منه.
ولأجل ما وقع في كثير منهم من الاجتهاد والتنزع فيه تنازع الناس في طريقهم؛ فطائفة ذمت (الصوفية والتصوف). وقالوا: إنهم مبتدعون، خارجون عن السنة، ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف، وتبعهم على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلام.
وطائفة غلت فيهم، وادعوا أنهم أفضل الخلق، وأكملهم بعد الأنبياء وكلا طرفي هذه الأمور ذميم.
و(الصواب) أنهم مجتهدون في طاعة اللّه، كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة اللّه، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب.
ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه، عاص لربه.
وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة؛ ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم: كالحلاج مثلا؛ فإن أكثر مشائخ الطريق أنكروه، وأخرجوه عن الطريق. مثل: الجنيد بن محمد سيد الطائفة وغيره. كما ذكر ذلك الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي؛ في (طبقات الصوفية) وذكره الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد.
فهذا أصل التصوف. ثم أنه بعد ذلك تشعب وتنوع، وصارت الصوفية (ثلاثة أصناف): صوفية الحقائق وصوفية الأرزاق وصوفية الرسم.
فأما (صوفية الحقائق): فهم الذين وصفناهم.
وأما (صوفية الأرزاق) فهم الذين وقفت عليهم الوقوف. كالخوانك فلا يشترط في هؤلاء أن يكونوا من أهل الحقائق.فإن هذا عزيز وأكثر أهل الحقائق لا يتصفون بلزوم الخوانك؛ ولكن يشترط فيهم ثلاثة شروط:
(أحدها): العدالة الشرعية بحيث يؤدون الفرائض ويجتنبون المحارم.
و(الثاني): التأدب بآداب أهل الطريق،وهي الآداب الشرعية في غالب الأوقات، وأما الآداب البدعية الوضعية فلا يلتفت إليها.
و(الثالث): أن لا يكون أحدهم متمسكًا بفضول الدنيا، فأما من كان جماعا للمال، أو كان غير متخلق بالأخلاق المحمودة، ولا يتأدب بالآداب الشرعية، أو كان فاسقا فإنه لا يستحق ذلك.
وأما صوفية الرسم: فهم المقتصرون على النسبة،فهمهم في اللباس والآداب الوضعية، ونحو ذلك فهؤلاء في الصوفية بمنزلة الذي يقتصر على زي أهل العلم وأهل الجهاد ونوع مَّا من أقوالهم وأعمالهم بحيث يظن الجاهل حقيقة أمره أنه منهم وليس منهم.
وأما اسم (الفقير): فإنه موجود في كتاب اللّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن المراد به في الكتاب والسنة الفقير المضاد للغني. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. و(الفقراء والفقر) أنواع: فمنه المسوغ لأخذ الزكاة. وضده الغني المانع لأخذ الزكاة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحل الصدقة لغني ولا لقوي مكتسب) والغني الموجب للزكاة غير هذا عند جمهور العلماء. كمالك والشافعي وأحمد،وهو ملك النصاب وعندهم قد تجب على الرجل الزكاة، ويباح له أخذ الزكاة خلافا لأبي حنيفة.
واللّه سبحانه قد ذكر الفقراء في مواضع؛ لكن ذكر اللّه الفقراء المستحقين للزكاة في آية والفقراء المستحقين للفيء في آية. فقال في الأولى: {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ} ـ إلى قوله: {لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ} [البقرة: 271: 273]. وقال في الثانية: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} الآية إلى قوله: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 7-8].
وهؤلاء [الفقراء] قد يكون فيهم من هو أفضل من كثير من الأغنياء، وقد يكون من الأغنياء من هو أفضل من كثير منهم
وقد تنازع الناس أيما أفضل: الفقير الصابر،أوالغني الشاكر؟ والصحيح: أن أفضلهما أتقاهما؛ فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة كما قد بيناه في غير هذا الموضع، فإن الفقراء يسبقون الأغنياء إلى الجنة لأنه لا حساب عليهم. ثم الأغنياء يحاسبون، فمن كانت حسناته أرجح من حسنات فقير، كانت درجته في الجنة أعلى، وإن تأخر عنه في الدخول. ومن كانت حسناته دون حسناته كانت درجته دونه؛ لكن لما كان جنس الزهد في الفقراء أغلب صار الفقر في إصطلاح كثير من الناس عبارة عن طريق الزهد، وهو من جنس التصوف.
فإذا قيل: هذا فيه فقر أو ما فيه فقر لم يرد به عدم المال، ولكن يراد به ما يراد باسم الصوفي من المعارف والأحوال والأخلاق، والآداب ونحو ذلك.
وعلى هذا الاصطلاح قد تنازعوا أيما أفضل: الفقير، أو الصوفي ؟ فذهب طائفة إلي ترجيح الصوفي، كأبي جعفر السهروردي ونحوه، وذهب طائفة إلى ترجيح الفقير ـ كطوائف كثيرين ـ وربما يختص هؤلاء بالزوايا وهؤلاء بالخوانك ونحو ذلك، وأكثر الناس قد رجحوا الفقير.
والتحقيق أن أفضلهما أتقاهما، فإن كان الصوفي أتقى للّه كان أفضل منه، وهو أن يكون أعمل بما يحبه اللّه، وأترك لما لايحبه فهو أفضل من الفقير، وإن كان الفقير أعمل بما يحبه اللّه وأترك لما لا يحبه كان أفضل منه، فإن استويا في فعل المحبوب وترك غير المحبوب استويا في الدرجة.
وأولياء اللّه هم المؤمنون المتقون، سواء سمى أحدهم فقيرًا أو صوفيًا أو فقيهًا أو عالمًا أو تاجرًا أو جنديًا أو صانعًا أو أميرًا أو حاكمًا أو غير ذلك.
قال اللّه تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} [يونس: 62، 63].
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول اللّه تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه). وهذا الحديث قد بين فيه أولياء اللّه المقتصدين، أصحاب اليمين والمقربين السابقين.
فالصنف الأول: الذين تقربوا إلى اللّه بالفرائض. والصنف الثاني: الذي تقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض، وهم الذين لم يزالوا يتقربون إليه بالنوافل حتى أحبهم، كما قال تعالى.
وهذان الصنفان قد ذكرهم اللّه في غير موضع من كتابه كما قال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32] وكما قال اللّه تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 22-28] قال ابن عباس: يشرب بها المقربون صرفا وتمزج لأصحاب اليمين مزجًا.
وقال تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} [الإنسان: 17، 18] وقال تعالى: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 8-11] وقال تعالى: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة: 88-91].
وهذا الجواب فيه جمل تحتاج إلى تفصيل طويل لم يتسع له هذا الموضع. واللّه أعلم.
حكيم عياض
2009-08-27, 09:10
الركن السادس: العزلة (الخلوة)
وهي نوع من أنواع الاعتكاف يقصد بها تنقية القلب مما علق به من ران أثناء ممارسة الحياة العادية بما فيها من مفاتن ومعاصٍ، فينصح السالك ما بين الفترة والأخرى بهذا الاعتكاف، يفرد فيه القلب لذكر الله والتفكر بمخلوقاته. ولا بد لهذه من شيخ يعالج آفات النفس كما يعالج الطبيب علل الجسد.
أما مدتها فيحددها الشيخ المعالج كما يحدد الطبيب كمية الدواء ومدته. ولا يفهم من هذا المعنى الرهبنة، كما عند النصارى، أو الانقطاع عن الناس وترك الأهل والأولاد بلا معيل، فإن هذا تواكل ينافي التوكل، حاربه الشرع الحنيف. فهي إذن ابتعاد عن الدنيا بكل زخارفها فترة من الوقت، يستريح فيها الجسد والفكر من مشاغل الدنيا، ويأخذ فيها القلب جرعة من الإيمان تدفعه في عليين.
مشروعية الخلوة:
الخلوة فعل شرعي أمر به القرآن الكريم، وهي اقتداء بنبي هذه الأمة صلى الله عليه وسلم الذي كان يخلو بغار حراء الأيام والليالي. ثم هي سنة الأنبياء من قبل عليهم الصلاة والسلام، يقول الله تعالى على لسان إبراهيم الخليل لما ازداد عصيان قومه {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا} (48-49 مريم) ويقول تعالى في قصة أهل الكهف {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ...} (16 الكهف). هذا في جانب اعتزال المشركين، وهذه عزلة دائمة تختلف عن المعنى الذي ذكرناه سابقا. أما ما نريده من العزلة هنا فهو أقرب إلى الخلوة التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الدليل عليها من السنة النبوية:
روى البخاري في صحيحه باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه (أي يتعبد) الليالي ذوات العدد قبل أن ينْزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة ويتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء.
وقد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يترك الاعتكاف حتى قبض. فكان يخلو في العشر الأواخر من رمضان. وقد سماه الفقهاء اعتكافاً.
وللعلماء في الخلوة أقوال كثيرة كلها تحث عليها، ولا يتسع المجال هنا لذكرها كلها، وأذكر بعضها على سبيل الاختصار:
· الإمام الغزالي: يقول في كتاب «الإحياء» "وأما الخلوة ففائدتها دفع الشواغل وضبط السمع والبصر، فإنهما دهليز القلب، والقلب في حكم حوض تنصب إليه مياه كريهة كدرة قذرة من أنهار الحواس، ومقصود الرياضة تفريغ القلب من تلك المياه ومن الطين الحاصل منها، لينفجر أصل الحوض فيخرج منه الماء النظيف الطاهر، وكيف يصح له أن ينْزح الماء من الحوض والأنهار مفتوحة إليه؟ فيتجدد في كل حال أكثر مما ينقص فلابد من ضبط الحواس إلا على قدر الضرورة وليس يتم ذلك إلا بالخلوة، وعندما يسلم من علله وأمراضه وتعلقاته ومشاغله وخواطر الشيطان ووساوسه يستحق نعيم قربه ويستعد لتلقي العلوم اللدنية والأسرار الربانية والنفحات النورانية.
· أبو الحسن الشاذلي: يذكر رحمه الله للخلوة عشر فوائد: السلامة من آفات اللسان، وآفات النظر، وحفظ القلب وصونه عن الرياء والمداهنة، وحصول الزهد في الدنيا والقناعة منها، والسلامة من صحبة الأشرار ومخالطة الأرذال، والتفرغ للعبادة والذكر، والشعور بحلاوة الطاعات، وراحة القلب والبدن، وصيانة النفس والدين من التعرض للشرور والخصومات التي توجبها الخلطة، والتمكن من عبادة التفكر والاعتبار.
· الدكتور مصطفى السباعي: يقول في كتاب «مذكرات في فقه السيرة»: يجب على الداعية إلى الله أن تكون له بين الفينة والفينة أوقات يخلو فيها بنفسه تتصل فيها روحه بالله جل شأنه، وتصفو فيها نفسه من كدورات الأخلاق الذميمة والحياة المضطربة من حوله، ومثل هذه الخلوات تدعوه إلى محاسبة نفسه إن قصرت في خير أو زلت في اتجاه.
وأخيراً أختم بقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه (سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله)، وذكر (رجلاً ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).
الركن السابع: الجوع:
هذا هو الركن السابع والأخير من أركان الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية. أستهله بآيات من كتاب الله تدل على حقيقة فهمنا لهذا الركن حتى لا نتهم فيما ليس فينا. يقول الله تعالى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (32 الأعراف). ويقول أيضاً {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (87 المائدة).
فلسنا ممن يحرم ما أحل الله، إلا أننا ننادي بالاعتدال والتوسط في التعامل مع شهوة البطن، ونرمي بذلك إلى المجاهدة وعدم الإفراط في تناول الطعام والبغي بغير الحق، لأن البغي في الشيء الحلال حرام، وهو من الإسراف الذي نهى الله تعالى عنه {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (31 الأعراف) ومصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم (ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه، فإن كان لابد فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنَفَسِه). وهذا هو الاعتدال بعينه. وهذا هو منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه القضية الذي إذا قسناه بأنماط الاستهلاك القائمة في زماننا وجدنا هناك بوناً شاسعاً بين منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وما هو قائم اليوم خصوصاً إذا عرفنا أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يأكل إلا في معى واحد، ولم يشبع من خبز الشعير قط، ولم تكن توقد في بيته النار لطهي الطعام شهوراً عدة، وكان أغلب طعامه الأسودان التمر والماء. ولم يكن ذلك فقراً ولا فاقة إلا أنه اختاره صلى الله عليه وسلم تعليماً لخيار أمته. كيف لا وقد عرض عليه ربه أن يجعل له بطحاء مكة ذهباً فأبى ذلك وقال أجوع يوماً فأصبر وأشبع يوماً فأشكر. وهذه هي الحكمة الحقيقية من هذا الركن.
وقد عرفنا لاحقاً أن النفس البشرية تجنح بطبيعتها نحو الشهوات وهي أمارة بالسوء أصلاً. فالمجاهدة والرياضة هما درب التزكية لهذه النفس حتى تتمكن من الشكر قال تعالى {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (9-10 الشمس)، {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (25 الفرقان). فالصفات الذميمة في النفس ومنها الشره في الطعام أمور يجب تقويمها وتحويلها إلى صفات محمودة، فالشح يتحول بالمجاهدة والتزكية إلى السخاء، والبغض إلى الحب، والكبر إلى التواضع، والغضب إلى الحلم، والسخط إلى الرضا، وهكذا في بقية أحوال النفس. ولا يتأتى ذلك إلا بالمجاهدة والتزكية.
فالطريقة لم تأت بهذا المنهج من عندها ولم تستقه، كما يدعي البعض من أصول شركية أو فلسفات وضعية، وإنما هو تطبيق عملي لشرع الله الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولئن كانت الطريق قد اتُّهمت بذلك فلأنها تعنى عناية خاصة بتزكية النفس وتوجيهها نحو خالقها ضمن قواعد الشرع الحنيف دون غيرها فكانت تهمة عمياء لا تستند إلى الحقيقة في شيء.
وصيام النافلة هو جزء من التطبيق العملي لهذا الركن ولهذا المفهوم المعتدل لحقيقة الجوع، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث على صيام النافلة من هذا الباب، فقد أمر عليه الصلاة والسلام بصيام الأيام البيض من الشهر القمري (13، 14، 15) وحث على صيام يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، ثم قال (خير الصيام صيام أخي داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً) إلى آخر أنواع صيام النافلة. وما ذلك إلا دربة على قيادة النفس وإحكام السيطرة عليها. حتى إنه صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على عدم الإقبال على الموائد بنهم وشراهة للصائم، حيث أنه سن لنا أن نفطر على تمرات ثم نقوم لأداء صلاة المغرب وبعدها يكون الإفطار، وهذا علاج علمي ثبتت فائدته مخبرياً، حيث تبين أن هذه التمرات تعيد للجسم مادة السكر التي فقدها خلال النهار، والتي يؤدي فقدانها إلى الإقبال على الطعام بشراهة عند الإفطار، فأمرنا أولاً بتناولها ثم الصلاة وفي أثناء الصلاة تعيد هذه التمرات الجسم إلى طبيعته وتعوض ما فقد من مادة السكر وبعد الصلاة يقبل على الطعام بشكل طبيعي لا شراهة فيه.
والمعروف بأن كثرة الطعام تقسي القلب وتؤدي إلى الجشع والطمع، هذا عدا عن كونها تؤذي الجسد وتسبب الأمراض المزمنة كأمراض القلب وضغط الدم والسمنة والجلطات والسكري وغيرها. والاعتدال في تناوله يمنع ذلك كله. كما أن الجوع يذكر الغني بالفقير ليسد فاقته وجوعه. فقد قال صلى الله عليه وسلم (ليس منا من نام شبعان وجاره جائع).
فهذا الركن إذن يحافظ على التوازن والتكافل في المجتمع المسلم من خلال التطبيق العملي له، حين يتذكر الغني الجائع فيسلم المجتمع من حقد الفقراء والجائعين حين يسدوا رمقهم ويطفئوا عطشهم ويمحوا فاقتهم
العهد
(أدلته وكيفية تلقينه في الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية)
أخذا بأمر الله تعالى، واقتداء بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، استمر مشايخنا رجال سند الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية في إعطاء عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم للخلق من بعده، لما في هذه العهود من أثر واضح في تزكية نفوس السالكين، وهو المنهج القويم الذي استمروا عليه لما في ذلك من ميثاق غليظ يربط المخلوق بخالقه. فكان لا بد للسالك بعد تدرجه في أبجديات السلوك أن يجلس إلى شيخ وارث، متصل السند برسول الله صلى الله عليه وسلم عهدا عن عهد وشيخا عن شيخ ووارثا عن وارث حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يكن لأحد من الناس زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل في دين الله إلا ببيعة واضحة بينتها السنة النبوية الشريفة، وكذا الأمر من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلفائه وأوليائه من بعده.
واختلفت صور البيعة من شأن إلى شأن، فمنها ما كان بيعة حكم وسياسة، ومنها ما كان بيعة طاعة وعبادة، ومنها ما كان للنصرة والإيواء، ومنها ما كان لاجتناب النواهي وامتثال الأوامر، وغير ذلك من أنواع العهود.
ولما كان أمر البيعة في طريقتنا من الأصول الثابتة التي لم تتغير ولم تتحول خلال القرون، أسوق لإخواننا الأدلة الشرعية على أصل هذه العهود وأنها من صُلب العقيدة الإسلامية السمحة وأنها في الرجال والنساء أفرادا وجماعات.
أدلة العهد من القرآن الكريم:
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (10 الفتح).
وقال تعالى: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (10 الفتح).
وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ} (91 النحل).
وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} (34 الإسراء).
أدلة العهد من السنة النبوية الشريفة:
أخرج البخاري في صحيحه عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتون ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف فمن وفَّى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه فبايعناه على ذلك).
وأخرج الإمام أحمد والطبراني والبزار ورجاله موثوقون عن يعلى بن شداد قال حدثني أبي شداد بن أوس رضي الله عنه وعبادة بن الصامت حاضر يصدقه قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (هل فيكم غريب يعني من أهل الكتاب فقلنا: لا يا رسول الله فأمر بغلق الباب فقال ارفعوا أيديكم وقولوا لا إله إلا الله فرفعنا أيدينا وقلنا لا إله إلا الله ثم قال صلى الله عليه وسلم الحمد لله أنك بعثتني بهذه الكلمة وأمرتني بها ووعدتني عليها الجنة وأنك لا تخلف الميعاد، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ألا ابشروا فإن الله قد غفر لكم).
وأما بيعته صلى الله عليه وسلم للإمام علي كرم الله وجهه فإنها كانت فردية خاصة به لما رواه الطبراني والبزار بإسناد حسن أن عليا كرم الله وجهه سأل النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (يا رسول الله دلني على أقرب الطرق إلى الله وأسهلها على عباده وأفضلها عنده تعالى فقال صلى الله عليه وسلم عليك بمداومة ذكر الله سرا وجهرا فقال علي كل الناس ذاكرون فخُصني بشيء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله ولو أن السماوات والأرضين في كفة ولا إله إلا الله في كفة لرجحت بهم ولا تقوم القيامة وعلى وجه الأرض من يقول لا إله إلا الله ثم قال علي فكيف أذكر قال النبي صلى الله عليه وسلم غمض عينيك واسمع مني لا إله إلا الله ثلاث مرات ثم قلها ثلاثا وأنا أسمع ثم فعل ذلك برفع الصوت).
وأخرج الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله اشترط عليّ فأنت أعلم بالشرط، قال صلى الله عليه وسلم: (أبايعك على أن تعبد الله وحده ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتنصح لكل مسلم وتبرأ من الشرك).
وتسهيلا على المسلم، وحتى يدخل في هذه العهود من كان ذا همة عالية ومن هو دن ذلك، أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الأحكام ومسلم في كتاب الإمارة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كنا إذا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة يقول لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فيما استطعتم).
وأما بيعته صلى الله عليه وسلم للنساء:
روى أحمد وأبو يعلى والطبراني ورجاله ثقات عن سلمى بنت قيس رضي الله عنها وكانت إحدى خالات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صلت معه القبلتين وكانت إحدى نساء بني عدي بن النجار قالت: (جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته في نسوة من الأنصار فلما شرط علينا أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف، قال: ولا تغششن أزواجكن، قالت: فبايعناه ثم انصرفنا، فقلت لامرأة منهن: ارجعي فسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حرم علينا من مال أزواجنا، قالت: فسألته فقال: تأخذ ماله فتحابي غيره).
وأخرج الترمذي في كتاب السير باب بيعة النساء ورواه النسائي في الباب نفسه وإسناده حسن عن أميمة بنت رقيقة قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة يبايعنه فقلن: نبايعك يا رسول الله على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيك في معروف، فقال صلى الله عليه وسلم: (فيما استطعتن وأطقتن) فقلن: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، هلم نبايعك يا رسول الله فقال: (إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة).
أما بيعته صلى الله عليه وسلم للصبيان الذين لم يبلغوا الحلم:
فقد أخرج الطبراني عن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم (أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع الحسن والحسين وعبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم وهم صغار ولم يبقلوا ولم يبلغوا ولم يبايع صغيرا إلا منا) يعني إلا من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
وهكذا استمر العهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وخلفائه من بعده وأوليائه بصيغ وعبارات ومعان شتى وكان كل خليفة يخلف خليفة تؤخذ له البيعة فورا.
عن أنس رضي الله عنه قال: (قدمت المدينة وقد مات أبو بكر رضي الله عنه واستخلف عمر رضي الله عنه، فقلت لعمر ارفع يدك أبايعك على ما بايعت عليه صاحبك قبلك على السمع والطاعة فيما استطعت).
واستمرت هذه العهود في الأولياء من أمة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي الورَّاث من آل بيته الأطهار. وكتب التاريخ تشهد لهذه العهود من أئمة آل البيت الأطهار علي والحسن والحسين وزين العابدين والباقر والصادق… الخ، مرورا بالعارفين بالله الشيخ عبد القادر الجيلاني والشيخ أحمد الرفاعي والشيخ إبراهيم الدسوقي والشيخ أحمد البدوي… الخ. واستمر مشايخنا رجال سند الطريقة على هذا النهج حتى زماننا هذا.
نقض العهود:
لقد حذر الله تعالى من نقض العهود لأنها عهود هي في حقيقتها مع الله ويشهد عليها الحق سبحانه وتعالى طالما أنه في طاعته وامتثال أمره.
قال تعالى: {وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} (7 الأحزاب).
وقال أيضا: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} (91-92 النحل).
وقال أيضا: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (10 الفتح).
فنقض العهد يعود ضرره على الناقض، ونقض العهد في الطريقة يخرج السالك من الطريق كما تخرج الردة الرجل من الإسلام. قال بعض العلماء إن هؤلاء لم يرتدوا عن أصل الدين وإنما ارتدوا عن فعل شيء من فروعه بدليل أنه صلى الله عليه وسلم يشفع فيهم إذا سكن الغضب الإلهي.
روى مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية).
فليحرص كل سالك على الوفاء بعهده ولا يتقدم لأخذه أصلا إلا حين يجد في نفسه القدرة على الوفاء به حتى لا يقع في مخالفة تغضب الله ورسوله.
ومن هنا كانت حكمة مشايخنا في التريث في إعطاء العهود لطلابها حتى يتمكن الإيمان في قلوبهم ويكونوا أهلا لأخذها قادرين على الوفاء بها.
كيفية تلقين العهد:
بعد فترة من المجاهدة والتزكية للمريد، وبعد أن تتعمق فيه بعض مراتب السلوك والالتزام، وبعد أن يتدرب على مقاومة شهواته وملذاته، ويقوى على آفات نفسه، فيحيل القبيح منها إلى الحسن، يتقدم لأخذ عهد الطريقة القائم على أن الطاعة لله تجمع، والمعصية تفرق.
وكيفية تلقين العهد أن يجلس الشيخ جاثياً على ركبتيه، والمريد أمامه، ويضع الشيخ يده اليمنى في يد المريد اليمنى، ويده اليسرى بين كتفيه، ويقرأ هو والمريد الفاتحة ثلاث مرات، ثم يقول الشيخ والمريد يردد خلفه:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم.
بسم الله وبالله ومن الله وإلى الله، وعلى ملة الصادق رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه (ثلاث مرات). تبت إلى الله ورجعت إلى الله. تبت إلى الله توبة نصوحاً لا أنقض عهدها أبداً. والله على ما أقول وكيل. رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن كتاباً، وبسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وبشيخك شيخاً ودليلاً إلى الله تعالى، وعاهدتك بالله العظيم على أن طاعة الله والرسول تجمعنا، وأن معصية الله والرسول تفرقنا. والله على ما نقول وكيل.
ثم يقول الشيخ للمريد:
أغمض عينيك واسمع مني لا إله إلا الله ثلاث مرات، ثم قل أنت لا إله إلا الله ثلاث مرات وأنا أسمع.
وبعد فراغهما يقول الشيخ:
سيدنا وحبيبنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً وصدقاً. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}. {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} (ثلاثاً). {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً}. {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}. {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الأَخِرَةِ} (ثلاثاً). ثم يقول الشيخ: (أجزتك بطريقتنا الخلوتية الجامعة الرحمانية. وأذنتك بقراءة أورادها كما أجازني وأذنني بذلك شيخي إجازة لنفسك. قبلت؟) فيقول: قبلت. ثم يقرأ الفاتحة. ثم يعظه موعظة تنفعه في آخرته.
حكيم عياض
2009-08-27, 09:20
فقه المريد
أولاً: أحكام الطهارة
أنواع المياه التي يصح التطهر بها:
يصح التطهر بكل ماء نزل من السماء أو نبع من الأرض ما دام باقياً على أصل الخلقة كماء المطر و الينابيع و الأنهار و البحار و الآبار ومياه الأودية وماء الثلج والبرد لقوله تعالى{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ} (11 الأنفال). وسئل رسول الله صلى الله عليه وسـلم عن البحـر (فقال هو الطهور ماؤه، الحل ميتته).
أهمية الطهارة في الإسلام:
بمقدار ما نُعنى في طريقتنا الخلوتية الجامعة الرحمانية بطهارة القلب والباطن فإن ذلك لابد وأن تسبقه طهارة الظاهر، فقد حث الإسلام أولاً على العناية بنظافة وطهارة ظاهر المرء من جسده إلى ثيابه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم (الطهور شطر الإيمان) ومن ثَمَّ فإن طهارة القلب الشطر الثاني.
وروى أبو داود عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (إنكم قادمون على إخوانكم فأصلحوا ثيابكم وأصلحوا رحالكم، حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس، فإن الله يكره الفحش والتفحش). ولذلك جعل الإسلام الطهارة الظاهرية شرطاً للصلاة كما جعل أشياخنا طهارة الباطن شرطاً للقبول، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الطهارة الظاهرة - من الحدث والخبث - مفتاح الصلاة، كما روى ذلك أبو داود والترمذي وابن ماجة. ولأجل ذلك نرى الرسول صلى الله عليه وسلم يشدد على المسلم في أمور الطهارة، وأخص ذلك الاستنجاء والتنـزه من بقايا البول وأثره. فنراه صلى الله عليه وسلم يجعل الاستخفاف واللامبالاة بهذا الأمر سبباً من أسباب عذاب القبر. فقد روى الدارقطني والحاكم في المستدرك قوله صلى الله عليه وسلم (استنـزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر فيه). كما روى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم مرّ بقبرين فقال (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير بل إنه كبير. أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستنـزه من بوله).
ثم هناك سنن سماها الشرع سنن الفطرة لا بد للمؤمن أن يحرص عليها تراعي قيمة جمال الظاهر المؤسس عليه جمال الباطن، وأعني قص الأظافر، والختان، وحلق العانة، ونتف الإبط، والاستنجاء بالماء، وحف الشارب، وتنظيف الثياب. ويكمل ذلك بمراعاة شعر الرأس واللحية بالتنظيف والتطييب والتسريح، لقوله صلى الله عليه وسلم (من كان له شعر فليكرمه)، حتى يحظى العبد بشرف الوقوف بين يدي الله كامل الزينة ظاهراً وباطناً {يَا بَنِي ءَادَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (31 الأعراف). وحتى يكون أهلاً للحب الإلهي {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (222 البقرة)، ولذلك أثنى الله على أهل مسجد قباء بقوله {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (108 التوبة).
ولابد من مراعاة أن طهارة الجسد والثوب لابد أن تتبعها طهارة القلب وتعميره بالإخلاص والتوحيد والذكر وتخليصه من آفات الكبر والعجب والحقد والنفاق إلى آخر آفات الباطن التي حث الشرع على التخلص منها بقوله تعالى {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} (120 الأنعام).
المواضع التي تزال عنها النجاسات الحسية:
أجمع علماء الشرع الشريف على أن المواضع التي تزال عنها النجاسات هي:
1. الأبدان 2. الثياب 3. مواطن الصلاة.
وتزال هذه النجاسات من هذه المواضع بالماء الطاهر المطهر لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري (ثم اغسليه بالماء).
ثانياً: أحكام الوضوء
والوضوء شرط لصحة الصلاة لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (6 المائدة). وروى البخاري ومسلم عن الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم قوله (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ).
فرائض الوضوء:
الأول: غسل الوجه لقوله تعالى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}. وحدّه طولاً من مبدأ سطح الجبهة إلى أسفل الذقن، وحدّه عرضاً من بين شحمتي الأذنين. ويشمل ذلك الحاجبين والشاربين. وأما اللحية فإن كانت خفيفة تُرى بشرتها فيفترض إيصال الماء إلى بشرتها، وإن كانت كثيفة لا تُرى بشرتها فيفترض غسل ظاهرها.
الثاني: غسل اليدين إلى المرفقين لقوله تعالى {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}.
الثالث: مسح الرأس لقوله تعالى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُم}.
الرابع: غسل الرجلين إلى الكعبين لقوله تعالى {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْن}.
هذه هي الفرائض الأربعة المجمع على فرضيتها، أما الفرائض المختلف عليها فهي النية والترتيب والموالاة والتدليك. وللخروج من الخلاف ننصح بالتزامها جميعاً.
سنن الوضوء:
وهي التي يثاب فاعلها، ويلام ويعاتب تاركها. ولقد واظب الرسول صلى الله عليه وسلم على سنن الوضوء وأمرنا بالتزامها وهي:
·النية.
·التسمية: لقوله صلى الله عليه وسلم (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) ويقـول: بسم الله الرحمن الرحيم.
·غسل اليدين إلى الرسغين فهما أداة التطهير. فيبدأ الوضوء بذلك.
·المضمضة والاستنشاق.
·الاستياك: لقوله صلى الله عليه وسلم (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء).
·تخليل اللحية: لما روي (أنه صلى الله عليه وسـلم كان يخلل لحيته). وهذا في اللحية الكثّة.
·تخليل الأصابع.
·تـثليث الغَسْل.
·استيعاب الرأس بالمسح مرة واحدة. كما فعله صلى الله عليه وسلم.
·مسح الأذنين، ولو بمـاء الرأس لقـوله صلى الله عليه وسلم (الأذنان من الرأس).
·البدء بالميامن، في غسل اليدين والرجلين لأنه صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن في تنعُّلِه وترجُله وطهوره وفي شأنه كله.
·الترتيب والموالاة والدلك.
·مسح الرقبة.
آداب الوضوء:
التي يثاب فاعلها، ولا يلام تاركها، وهي:
·استقبال القبلة.
·عدم التكلم بكلام الناس، لما فيه من الانشغال عن الدعاء المأثور.
·عدم الاستعانة بغيره إلاّ بعذر مرض ونحوه.
·الجمع بين نية القلب ومعقل اللسان، لأن الوضوء عبادة.
·الدعاء بالمأثور: فعند غسل الوجه يقول: اللهم بيض وجهي يوم تبيض وجوهٌ و تسود وجوه. وعند غسل اليد اليمنى يقول: اللهم أعطني كتابي بيميني وحاسبني حساباً يسيراً. وعند غسل اليد اليسرى يقول: اللهم لا تعطني كتابي بشمالي ولا من وراء ظهري. وعند مسح رأسه يقول: اللهم أظلني تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك. وعند مسح الأذنين يقول: اللهم اجعلني ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وعند مسح الرقبة يقول: اللهم اعتق رقبتي من النار. وعند غسل الرجلين يقول: اللهم ثبتي على الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة.
·تحريك الخاتم الواسع، أما الخاتم الضيق فيفترض تحريكه.
·الاستنشاق باليمنى والامتخاط باليسرى.
·أن يقول بعد الانتهاء من الوضوء: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين.
·ترك التجفيف إبقاءً على آثار الوضوء.
مكروهات الوضوء:
·الإسراف في صب الماء لقوله تعالى: {وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (141 الأنعام).
·التقتير باستعمال الماء، بحيث يصير الغَسل كالمسح.
·الزيادة على القدر المسنون، وهو الثلاث في الغسل.
·ضرب الوجه بالماء.
نواقض الوضوء:
أولا: النواقض المتفق عليها وهي:
· كل خارج من السبيلين من بول أو غائطٍ أو ريحٍ أو مذيٍ أو وديٍّ، سواءٌ أكان قليلاً أم كثيراً، لقوله تعالى {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ} (43 النساء).
·النوم المستغرق.
·الإغماء والجنون والسكر.
ثانيا: النواقض المختلف فيها وهي:
· خروج الدم أو القيح أو الصديد من غير السبيلين.
·القيء.
·القهقهة في الصلاة.
·مس المرأة بإلتقاءٍ بشرتي الذكر والأنثى ولمس أحد الزوجين صاحبه.
ثالثاً: الغُسل
قال تعالى {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (6 المائدة).
الأسباب الموجبة للغسل:
1. خروج المني إلى ظاهر الجسد في اليقظة والنوم باحتلام أو نظرٍ أو فكرٍ أو نحو ذلك. كما يجب الغسل إذا رأى المني ولم يذكر احتلاماً. أما إذا احتلم ولم يجد بللاً فلا يلزمه الغسل.
2. الوطء: وهو المباشرة الجنسية بالتقاء الختانين ولو بلا إنزال.
3. الحيض: ويجب فيه الغسل، بعد الطهر من نجاسته، بانقطاعه.
4. النفاس: ويجب فيه الغسل، بعد الطهر من نجاسته، بانقطاعه.
5. الميت: ويفترض على الأحياء تغسيله، فرض كفاية.
الأغسال المسنونة:
1. غسل الجمعة.
2. غسل العيدين.
3. غسل الإحرام للحج.
4. غسل يوم عرفة.
فرائض الغُسل:
1. النية.
2. المضمضة والاستنشاق.
3. تعميم الماء على سائر الجسد:
· غسل داخل القلفة وهو ما يستر الحشفة من الجلد.
· غسل داخل السرة.
· غسل داخل المضفور من شعر الرجل ويلزمه حلّه.
· غسل بشرة اللحية وشعرها ولو كانت كثيفة.
· غسل الجلد تحت كل شعر لقوله صلى الله عليه وسلم (تحت كل شعرة جنابة).
· غسل مخرج الغائط ومخرج فرج المرأة الخارج.
4. إزالة النجاسة وغسلها قبل البدء بالغُسل.
سنن الغُسل وكيفيته:
1. النية: نويت الطهارة من الحدثين الأكبر والأصغر.
2. التسمية.
3. غسل اليدين إلى الرسغين.
4. غسل النجاسة عن البدن حتى لا تنـتشر إلى الجسد.
5. الوضوء قبل الاغتسال وبعد النية، والتسمية وغسل اليدين والنجاسة. ويؤخر غسل الرجلين للنهاية.
6. إفاضة الماء على الجسد ثلاثاً.
7. البدء بإفاضة الماء على الرأس ثم إفاضة الماء على منكبه الأيمن ثم الأيسر.
8. موالاة الغُسل.
حكيم عياض
2009-08-27, 09:28
ثالثاً : أحكام الصـلاة
مقـدمة:
فرضت الصلاة على الأمة المحمدية ليلة أسري بنبي هذه الأمة صلى الله عليه وسلم. وهي فرض عين على كل مكلف بإجماع الأمة لقوله تعالى {فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} (103 النساء). وهي صلة بين العبد وربه، تقوي أواصر العلاقة والمناجاة بين العبد وخالقه، وهي صلة روحية يطمئن من خلالها قلب العبد وتسكن نفسه، لشعوره بأن هناك رباطا وثـيقا وتواصـلا دائما بينـه وبين خالقه: {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (28 الرعد).
وهي فرصة يتيحها الله لعبده لمناجاته، يجب شكره عليها، ثم إنها باب لتكفير الذنوب والخطايا ومفتاح للنجاة من النار {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرٍ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} (42-43 المدثر) وسبب للفلاح والفوز بالجنة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} (1-2 المؤمنون).
ثم إنها سبب من أسباب الاستقامة في الحياة الدنيا لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكـر {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} (45 العنكبوت). والصلاة تبعد عن القلب أتعاب الدنيا وهمومها إذا استشعر العبد هروبه وفراره إلى الله من منغصات الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم (وجعلت قرة عيني في الصلاة). وكان صلى الله عليه وسلم إذا اغتم أو ضاق صدره قال لمؤذنه بلال رضي الله عنه (أرحنا بها يا بلال).
ثم إنها تطرد وساوس الشيطان وتبعد القلب عن الغفلة التي هي من أخطر أمراض القلوب، وتكون سنداً للمؤمن في الشدائد والمصائب تذهب عنه هولها وحدتها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (153 البقرة)
والصلاة مظهرٌ عظيم من مظاهر المجتمع المسلم واجتماع الناس لها مؤشر عملي على قوة المجتمع وتماسكه وتكافله. والمساجد والزوايا أمكنة طاهرة لاجتماع المسلمين وتعارفهم وتآلفهم وتكاملهم.
الأذان والإقامة:
شرع الأذان في السنة الأولى للهجرة في المدينة المنورة، وجعل الشارع لكل صلاة وقتاً، وجعل لكل وقتٍ علامة يعرف بها دخوله وهي الأذان، وهو سنة مؤكدة للرجال دون النساء، فرادى وجماعة، في السفر والحضر. ولا يسن الأذان ولا الإقامة لصلاة الكسوف والعيد والاستسقاء والجنازة والمنذورة وسائر النوافل كالضحى والتراويح والتهجد. بل ينادى في العيد والاستسقاء والكسوف على وجه الاستحباب: الصلاة جامعة.
صفة الأذان:
يقف المؤذن (الرجل) عند دخول الوقت باتجاه القبلة وينادي بلغة عربية، وبترتيب وموالاة وهو في حالة التمييز والعقل وكمال الطهارة، ويردد ألفاظ الأذان التالية:
(الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر،
أشهد أن لا إله إلاّ الله، أشهد أن لا إله إلاّ الله،
أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله،
حي على الصلاة، حي على الصلاة،
حي على الفلاح، حي على الفلاح،
الله أكبر، الله أكبر،
لا إله إلاّ الله).
ويزيد في صلاة الفجر بعد الحيعلتين قوله: "الصلاة خيرٌ من النوم"مرتين. ويستحب الالتفات يميناً وشمالاً عند الحيعلتين، كما يستحب أن يسترسل في الأذان، ويدرج في الإقامة.ويستحب بعد الأذان الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويستحب أيضاً أن يدعو بالدعاء الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه جابر عن الجماعة إلا البخاري وابن ماجة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محمودا الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد، وصلى عليّ، حلت له شفاعتي يوم القيامة). وللمؤذن أن يقول بعد الصلاة على رسول الله (الفاتحة) ويهبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأموات المسلمين.
ويطلب ممن يسمع الأذان أن يترك كل عمل - إلاّ إذا كان في ذِكرٍ أو تلاوة أتمّ باقيه - ثم يجيب المؤذن بعد كل جملة من جمل الأذان بمثلها تماماً، إلا عند قوله حي على الصلاة حي على الفلاح فيقول لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله. ويُشرع ذلك لكل سامع ولو كان جنباً أو حائضاً. وعقب التثويب في الفجر وهو قول المؤذن الصلاة خير من النوم يقول السامع (صدقت وبررت) أو (صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم).
صفة الإقامة:
تشترك الإقامة في كثير من أحكام الأذان، وقد ذهب الحنفية إلى أن الإقامة مثنى كالأذان، واستدلّوا بحديث أبي محذورة الذي رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم علّمه الأذان تسع عشرة كلمة والإقامة سبع عشرة كلمة) فيكون نصها على مذهب الحنفية:
(الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر،
أشهد أن لا إله إلاّ الله، أشهد أن لا إله إلاّ الله،
أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله،
حي على الصلاة، حي على الصلاة،
حي على الصلاة، حي على الصلاة،
قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة،
الله أكبر، الله أكبر،
لا إله إلاّ الله).
واستحب كثيرون أن يتولّى الإقامة من يتولّى الأذان لقوله صلى الله عليه وسلم (من أذّن فهو يقيم الصلاة).
الصلاة
شروط صحة الصلاة:
الشرط الأول: الطهارة عن الحدثين الأصغر و الأكبر
لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (6 المائدة). ولقوله صلى الله عليه وسلم (لا يقبل الله صلاة بغير طهور).
الشرط الثاني: الطهارة عن الخبث (النجاسة)
وتشمل الجسد والثوب والمكان. ففي طهارة الجسد قال صلى الله عليه وسلم (تنـزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه). وقـال أيضاً (إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عُتَك الدم وصلي) وفي طهارة الثوب قال تعالى {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (4 المدثر). وفي طهارة المكان روى أبو هريرة رضي الله عنه أن أعرابياً قام فبال في المسجد فقام إليه الناس ليقعوا به فقال النبي صلى الله عليه وسلم (دعوه و أريقوا علي بوله ذَنوباً من ماء فإنما بُعثتم ميسرين).
الشرط الثالث: دخول الوقت.
لقوله تعالى {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} (103 النساء) أي فرضاً مؤقتاً محدداً بأوقات لا يجوز تقديمها ولا تأخيرها.
الشرط الرابع: ستر العورة.
وهو أمرٌ هامٌ للمسلم في الصلوات وخارجها. قال تعالي {يَا بَنِي ءَادَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (31 الأعراف). وقال صلى الله عليه و سلم (يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرى منها إلاّ هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفه). وتختلف عورة الرجل عن عورة المرأة. فعورة الرجل ما بين السرة والركبة، لقوله صلى الله عليه و سلم (ما فوق الركبتين من العورة، وما اسفل من السرة من العورة). والسرة بعينها ليست عورة. أما عورة المرأة فإنها تشمل جميع بدنها باستثناء الوجه والكفين بالإجماع، وعلى خلاف في استثناء القدمين. وتمنع المرأة من كشف الوجه مخافة الفتنة. وأما استثناء الوجه والكفين من عورة المرأة فلقوله تعالى {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (31 النور).
وقد ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت (ما ظهر من الوجه والكفين). واستثنى الحنفية القدمين أيضاً لأنهما ليسا بمحل الاشتهاء.
الشرط الخامس: استقبال القبلة.
لقوله تعالى {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (144 البقرة).
الشرط السادس: الإسلام. وهو شرط وجوب الصلاة فلا تجب على الكافر ولا تصح منه قبل إسلامه.
الشرط السابع: النية.
لقوله تعالى {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (5 البينة) ولقوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيّات). فلا تصحّ الصلاة من غير نية، ومحلُّها القلب. ولا يشترط الذكر باللسان لكن يستحب له أن يجمع بين نية القلب وذكر اللسان.
الشرط الثامن: تكبيرة الإحرام.
وهي قول المصلي (الله أكبر). وبها يُحرِّمُ على نفسه الاشتغال بما سوى الله، ولذلك سمي تحريماً. قال تعالى {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} (3 المدثر) وقال صلى الله عليه وسلم: (مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم) وكيفيتها أن يرفع يديه أولاً ثم يكبر حتى يحاذي بإبهاميه شحمتي أذنيه، لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا كبّر رفع يديه حذاء أذنيه. أما المرأة فترفع يديها حذو منكبيها لأنه أستر لها. ولا يسن الرفع فيما عدا تكبيرة الإحرام، لما رُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال (ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يرفع يديه إلاّ مرة). وقال الحنفية إنما روي عن الرفع عند تكبير الركوع وعند الرفع منه محمولٌ على أنه كان في صدر الإسلام ثم نُسخ.
أركان الصلاة:
الركن الأول:
القيام في الصلوات المفروضة والواجبة. لقوله تعالى {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (238 البقرة) ولقوله صلى الله عليه وسلم (صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جَنب). وفي حال القيام يضع يده اليمنى على اليسرى بأن يأخذ الرسغ (المفصل بين الكف والساعد) بالإبهام والخنصر (التحليق) ويضع باقي الأصابع على اليد اليسرى ويجعلهما تحت السرة. أما المرأة فتضع يديها على صدرها من غير تحليق لأنه أستر لها.
الركن الثاني:
القراءة. لقوله تعالى {فاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ} (20 المزمل) ولقوله صلى الله عليه وسلم (لا صلاة إلاّ بقراءة). قال أبو حنيفة (فرض القراءة قـراءة آية واحدة). وأقل القراءة ما تتألف منه الآية: ستة أحرف كقوله تعالى {ثُمَّ نَظَرَ} (21 المدثر). والواجب قراءة الفاتحة وسورة قصيرة أو آية طويلة أو ثلاث آيات قصار.
الركن الثالث:
الركوع. لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (77 الحج). والإجماع منعقدٌ على فرضيته. والاطمئنان في الركوع واجب، وأقل الطمأنينة أن يمكث في هيئة الركوع حتى تستقر أعضاؤه لقوله صلى الله عليه وسلم (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً). ويقول (سبحان ربي العظيم) ثلاثاً. وإذا زاد فهو أفضل، ثم يعتدل من الركوع قائماً مطمئناً، وهذا واجب.
الركن الرابع:
السجود. لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (77 الحج) والاطمئنان به واجب لحديث (ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً). والسنة في السجود أن يضع أولاً ما كان أقرب إلى الأرض عند السجود (أي ركبتيه قبل يديه) ثم جبهته وأنفه، لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه. ويسجد على المواطن السبعة: الجبهة واليدين والركبتين والقدمين. لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم وأشار إليهم) ويقول في سجوده (سبحان ربي الأعلى) ثلاثاً. وحكمه في ذلك حكم الركوع. ويجلس ما بين السجدتين مطمئناً ويفترش رجله اليسرى ويجلس عليها وينصب اليمنى ويوجه أصابعه نحو القبلة. قال الحنفية: لا يجلس بعد السجود بل ينهض للركعة الثانية أو الرابعة قائماً على صدور قدميه ولا يعتمد بيديه على الأرض. لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهض في الصلاة على صدور قدميه.
الركن الخامس:
القعود الأخير مقدار التشهد. ويجلس بالصفة المذكورة آنفاً ويوجه أصابعه نحو القبلة ويضعهما على فخذيه ويبسطهما، فإذا وصل إلى قوله (أشهد أن لا إله إلاّ الله) يقبض أصابعه ويرفع السبابة من يده اليمنى ويضعها عند قوله (إلا الله) ليكون الرفع للنفي والوضع للإثبات. وصيغة التشهد هي التي رواها ابن مسعود قال: التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (إذا صلى أحدكم فليقل التحيات لله والصلوات الطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمداً عبده ورسوله). وله أن يزيد (التحيات المباركات لله والصلوات)… الخ. ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في القعود الأخير وصيغته: (اللهم صلي على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد) ومن السنة بعد ذلك في التشهد الأخير أن يدعو بما شاء مما يشبه ألفاظ القرآن والأدعية المأثورة، لقوله صلى الله عليه وسلم لابن مسعود في الحديث المتقدم الذي علمه فيه التشهد (... ثم اختر من الدعاء أطيبه وأعجبه إليك). ثم يسلّم لقوله صلى الله عليه وسـلم (وتحليلها التسليم). ولقوله لابن مسعود (إذا قضيت هذا تمت صلاتك). والمطلوب تسليمتان وجوبـاً عند الحنفيـة بصيغة (السلام عليكم ورحمة الله) وتنقضي الصلاة بالسلام الأول.
سنن الصلاة:
السنة في اللغة: الطريقة. وفي الاصطلاح: الطريقة المسلوكة في الدين من غير إلزام ولا إنكار على تاركها. ومن هنا كان استخدام لفظ الطريقة في طريقتنا الخلوتية الجامعة الرحمانية. بمعنى تحري السنة في السلوك وفي العبادات. وقد شرعت السنة لإكمال الفروض والواجبات، وشرّعت الآداب لإكمال السنة.
وأهم سنن الصلاة:
· رفع اليدين حذاء الأذنين عند التحريمة.
· وضع اليد اليمنى فوق اليد اليسرى تحت السرة.
· قراءة الثناء بعد التحريمة في الركعة الأولى بقوله (سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك). ولا مانع من الاستفتاح بالتوجه (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً… الخ).
· التعوذ قبل الفاتحة مع البسملة سّراً في الركعة الأولى. أما بقية الركعات فتسن البسملة سراً فقط.
· التأمين بأن يقول (آمين) سراً سواء كان إماماً أو مقتدياً أو منفرداً.
· تفريج القدمين في القيام قدر أربع أصابع.
· تطويل الركعة الأولى عن الثانية.
· التكبير عند الركوع والسجود والرفع منه والقيام.
· قول (سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد) للإمام والمنفرد، وأما المقتدي فيسن في حقه بعد قول الإمام (سمع الله لمن حمده) أن يقول (ربنا لك الحمد). وله أن يزيد (حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ملء السماوات والأرض وما بينهما).
· أخذ الركبتين باليدين وتسوية الظهر أثناء الركوع وتفريج الأصابع ونصب الساقين وتسوية الرأس بالعجز.
· أن يقول في ركوعه: (سبحان ربي العظيم) ثلاثاً.
· الرفع من الركوع والاعتدال والاطمئنان.
· وضع الركبتين على الأرض أولاً، ثم اليدين أثناء النـزول للسجود كما مر سابقاً.
· مباعدة الرجل بطنه عن فخذيه ومرفقيه عن جنبيه في غير زحمة، بخلاف المرأة أثناء السجود.
· أن يقول في سجوده (سبحان ربي الأعلى) ثلاثاً.
· وضع اليدين على الفخذين في حال الجلوس بالصورة الموضحة سابقاً.
· افتراش الرَّجل رِجله اليسرى بالصورة الموضحة سابقاً.
· رفع إصبع السبابة عند الشهادة بالصورة الموضحة سابقاً.
· قراءة الفاتحة في الركعة الثالثة والرابعة من الصلوات المفروضة، وقال الشافعية بفرضيتها.
· قراءة الصلوات الإبراهيمية عقب التشهد في القعود الأخير بالصورة الموضحة سابقاً.
· الدعاء بعد ذلك بالمأثور بالصورة الموضحة سابقاً.
· الالتفات يميناً ثم شمالاً بالصورة الموضحة سابقاً.
آداب الصلاة:
وهي الأمور التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يواظب عليها، كزيادة التسبيحات في الركوع والسجود. واستناداً لقوله تعالى {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} (1-2 المؤمنون)، فلا شك بأن آداب الصلاة تعنى بقضية الخشوع والحضور في الصلاة. قال صلى الله عليه وسلم (ليس للمسلم من صلاته إلا ما عقل منها). ولا شك بأن الخشوع في الصلاة هو جوهرها.
ومن أهم الآداب:
1. النظر إلى موضع السجود أثناء القيام وإلى ظاهر قدميه في الركوع وإلى أرنبة أنفه في السجود وإلى حجره جالساً وإلى المنكبين مسلّماً، مستحضراً قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
2. دفع السعال ما استطاع تحرزاً عن المفسد.
3. كظم الفم عند التثاؤب، فإن لم يقدر غطى فمه بيده.
4. تفهم معاني الأركان والتأمل بها وحضور القلب في كل ذلك.
صلاة الجمعة:
صلاة الجمعة فرض عين يكفر جاحدها، لقوله تعالى {أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (9 الجمعة). ولقوله صلى الله عليه وسلم (لينتهين أقوام ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين). ولقوله صلى الله عليه وسلم (من ترك ثلاث جمع متواليات من غير عذر، طبـع الله على قلبـه). وصلاة الجمعة ركعتان.
كيفية صلاة الجمعة:
نصلي أربع ركعات سنة قبلية مؤكدة، ثم نستمع إلى خطبتين من الخطيب، ثم نصلي جماعة ركعتين فرض الجمعة، ثم نصلي أربع ركعات سنة بعدية مؤكدة للجمعة.
شروط صلاة الجمعة:
1. الذكورة: فلا تجب على المرأة.
2. البلوغ: فلا تجب على الصبيان.
3. الحرية: فلا تجب على العبد.
4. صحة البدن: فلا تجب على العاجز، والمريض، والشيخ الكبير، والمقعد لعجزه.
5. الإقامة بمصر: فلا تجب على المسافر إذا لم ينو الإقامة.
6. الأمن: فلا تجب على الخائف من البرد أو الحر الشديدين، أو من ظالم أو فتن.
ومن وقع عليه شرط من هذه الشروط، صلى الظهر بدلاً عن الجمعة.
سنن الجمعة:
يسن الاغتسال للجمعة، ولبس أحسن الثياب، والتطيب، والتبكير إليها، والاقتراب من الإمام، والإنصات من وقت صعود الخطيب المنبر حتى ينتهي من الخطبة. قال صلى الله عليه وسلم (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت). ويسن مطاردة النعاس، لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا نعس أحدكم يوم الجمعة فليتحول من مجلسه ذلك).
مكروهات الجمعة:
يكره كراهة تحريمية تخطي رقاب الناس، بأن يمر من فوق رؤوس المصلين، ليقعد في صف أمامي، لما في ذلك من الإيذاء المنافي لحكمة الجمعة والجماعة، لقوله صلى الله عليه وسلم للمتخطي (اجلس، فقد آذيت).
و يكره البيع والشراء وكل عمل يؤدي إلى الاشتغال عن الصلاة عندما يؤذن لها. وتكره كذلك الصلاة والكلام عند صعود الخطيب، ويكره رد السلام وتشميت العاطس، ويكره الأكل والشرب والعبث والالتفات، ويكره إقامة شخص والقعود مكانه.
صلاة العيدين:
صلاة العيدين واجبة على كل من تجب عليه صلاة الجمعة، وهي ركعتان كصلاة الجمعة. ويشترط لها الشروط المطلوبة في الجمعة، وتختلف عن الجمعة في الخطبة، فإنها في الجمعة قبل الصلاة وفي العيدين بعد الصلاة.
يبدأ وقت صلاة العيدين من ارتفاع الشمس مقدار رمح، وهو الوقت الذي يحل فيه التنفل لصلاة الضحى، وقدر ذلك بما يعادل مضي نصف ساعة على طلوع الشمس ويستمر إلى قبيل الزوال.
يبدأ التكبير في عيد الفطر لحظة ثبوت هلال شوال، وفي عيد الأضحى من فجر يوم عرفة إلى عصر اليوم الثالث من أيام التشريق، أي رابع أيام عيد الأضحى، فإذا صلوا فجر يوم العيد، بدأ المصلون بالتكبير، وصيغته:
· الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
· لله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا.
· لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده.
· لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.
· لا إله إلا الله، الله أكبر.
· اللهم صل على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد وعلى أنصار سيدنا محمد، وعلى أزواج سيدنا محمد، وعلى ذرية سيدنا محمد، وسلّم تسليماً كثيراً.
فإذا ارتفعت الشمس مقدار رمح نودي: (الصلاة جامعة) فيقف الإمام ليعلّم الناس كيفية أداء الصلاة، قائلاً: المصلي ينوي ويقول أصلي صلاة العيد لله تعالى جماعةً، يكبر في الركعة الأولى ثلاث تكبيرات سوى تكبيرة الإحرام، ويكبر في الركعة الثانية ثلاث تكبيرات سوى تكبيرة الركوع، ويسكت بعد كل تكبيرة بمقدار ثلاث تكبيرات ولا بأس بأن أن يقول (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)
ثم يصطف المصلون للصلاة، وينوي الإمام والمقتدون صلاة العيد ثم يكبر الإمام والمقتدون تكبيرة الإحرام، ويقرؤون الثناء، ثم يكبرون تكبيرات الزوائد، ثم بعد التكبيرة الثالثة من تكبيرات الزوائد يعقدون أيديهم ويقرأ الإمام جهراً الفاتحة وسورة بعدها، ويسن أن تكون سورة الأعلى، ثم يركعون ويسجدون ويقومون إلى الركعة الثانية، فيقرأ الإمام الفاتحة وسورة بعدها، ويسن أن تكون سورة الغاشية، وعقب الانتهاء من القراءة، يكبر الإمام ويكبر معه المقتدون تكبيرات الزوائد الثلاث، كما فعلوا في الركعة الأولى، ثم يكبرون التكبيرة الرابعة للركوع ويركعون ويسجدون ويتممون الركعة الثانية بالتشهد والصلوات الإبراهيمية ثم يسلمون. وبعد السلام يجلسون ويخطب الإمام خطبتين يعلم فيهما أحكام صدقة الفطر في عيد الفطر، وأحكام الأضحية وتكبيرات التشريق في عيد الأضحى، كما يعظهم ويعلمهم أحكام صلة الرحم والأقارب، ويحثهم على نبذ الخصام وإحلال التراحم والتواصل محله.
وفي عيد الأضحى يجب التكبير عقب كل فريضة للرجال وللنساء، لقوله تعالى {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} (203 البقرة)، من بعد فجر يوم عرفة إلى عصر اليوم الثالث من أيام التشريق.
سنن العيدين:
كل ما هو سنة في صلاة الجمعة فهو سنة في صلاة العيدين، من الاغتسال والاستياك، والتطيب، ولبس أحسن الثياب، والتبكير إلى المصلى لينال فضيلة الصف الأول. ثم هناك سُنن وآداب تضاف لذلك وهي:
1. أن يأكل قبل خروجه إلى صلاة عيد الفطر، وأن يكون فطره تمراً ووتراً إن وجد، وأن يؤخر الأكل إلى ما بعد الصلاة في عيد الأضحى.
2. أن يكبر في طريقه إلى المسجد سراً في عيد الفطر، وجهراً في عيد الأضحى، ويقطعه إذا افتتح الصلاة.
3. أن يذهب من طريق ويرجع من غيره ليشهد له الطريقان بالخير، واقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلّم.
4. دفع صدقة الفطر قبل الخروج إلى الصلاة في عيد الفطر، ولا بأس بإخراجها قبل العيد بأيام تمكيناً للفقير من الانتفاع بها في أيام عيده.
وتندب الأفعال الآتية في العيدين: أن يزور الأموات بعد الصلاة، كما يزور الأحياء من الأرحام والأصحاب، إظهاراً للفرح والسرور، وتوثيقاً لعرى المحبة والأخوة.
صلاة الوتر:
صلاة الوتر واجبة عند الحنفية، ولا يجوز للمسلم تركها، وقد نبه الرسول صلى الله عليه وسلّم على أهميتها، بقوله صلى الله عليه وسلّم (الوتر حقٌ، فمن لم يوتر فليس منا)، وقال أيضاً (إن الله زادكم صلاة، ألا وهي الوتر، فصلّوها ما بين العشاء إلى الفجر)، كما أن الوتر من الصلوات الواجب قضاؤها إذا فاتت كالفرض، ومقدار صلاة الوتر ثلاث ركعات بتسليمةٍ واحدةٍ على رأس الثالثة، أي كصلاة المغرب، مع ملاحظة وجوب القراءة في الركعات الثلاث والقعود على رأس الركعتين. ويندب أن يقرأ في الركعة الأولى سورة الأعلى، وفي الثانية سورة قل يا أيها الكافرون وفي الثالثة سورة الإخلاص، وإن قرأ غير هذه السور فلا حرج عليه. وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قرأ ذلك في الركعات الثلاث وقنت قبل الركوع.
ومكان القنوت في الركعة الثالثة بعد الانتهاء من قراءة الفاتحة والسورة قبل الركوع. أما كيفيته فيرفع المصلي يديه حذاء أذنيه ويكبر من جديد لأجل القنوت، ثم يعقد يديه، كحاله في الصلاة أثناء القيام، ثم يدعو بالدعاء التالي:
(اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت، وقنا و اصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق و لا يقضى عليك تباركت ربنا وتعاليت، ربنا آتنا من لدنك رحمةً وهيئ لنا من أمرنا رشداً، وثبتنا على كلمة الهدى، وبرزخ بالذكر بيننا وبين الأعداء، واجعلنا سبباً لمن اهتدى، وقنا شر الردى في هذه الدار وغدا، واجعلنا بفضلك من عبادك الموفقين المخلصين الأتقياء السعداء، وصل اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً دائماً أبداً).
صلاة النوافل (السنن):
شرعت السنن لجبر الفرائض، فيجدر بالمسلم المحافظة عليها اقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم. وهي كما يلي:
1. ركعتان قبل فرض الصبح. وهاتان الركعتان من أقوى السنن لقوله صلى الله عليه وسلم (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها).
2. أربع ركعات قبل فرض الظهر بتسليمة واحدة. لما روي عن عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أربعاً قبل الظهر وركعتين قبل الغداة (الفجر)).
3. ركعتان بعد الظهر. ويندب أن يضم لهما ركعتين فتصير أربعاً لقوله صلى الله عليه وسلم (من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرّمه الله على النار).
4. ركعتان بعد فرض المغرب. ويستحب أن يقرأ فيهما بعد الفاتحة بـ قل يا أيـها الكافرون والإخـلاص. فعن ابن مسعود أنه قال (أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين بعد المغرب وفي الركعتين قبل الفجر بـ قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد). ويسن للمرء في شهر رمضان المبارك أن يفطر أولاً على تمرٍ أو ماء ويصلي فرض المغرب وسنته ثم يتناول طعام الإفطار وبعد ذلك يتم ما عليه من سنن وأوراد.
5. ركعتان بعد فرض العشاء. ويندب أن يضم لهما ركعتين فتصير أربعاً.
وجميع هذه السنن مذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم (من ثابر على اثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة بنى الله له بيتاً في الجنة: ركعتين قبل صلاة الفجر، وأربعاً قبل الظهر، وركعتين بعده، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء).
1. أربع ركعات قبل صلاة الجمعة وأربع بعدها بتسليمة واحدة. لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يركع قبل الجمعة أربعاً لا يفصل في شيء منهن وكان يصلي أربعاً بعدها.
2. أربع ركعات قبل صلاة العصر، وإن كانت غير مؤكدة إلا أنه يندب فعلها لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتركها بعض الأحيان ويفعلها أكثر.
3. صلاة ست ركعات بعد المغرب كل ركعتين بتسليمة، يقرأ الفاتحة والإخلاص في كل ركعة مرة واحدة.
4. ركعتان تحية المسجد، لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين).
صلاة الضحى:
تصلى بعد طلوع الشمس بنصف ساعة لما روي عن أنس رضي الله عنه قال (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ صلى سبحة الضحى ثماني ركعات فلما انصرف قال إني صليت صلاة رغبة ورهبة سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألته ألا يبتلي أمتي بالسنين ففعل وسألته ألا يظهر عليهم عدوهم ففعل وسألته ألا يلبسهم شيعاً فأبى علي) رواه أحمد والنسائي والحاكم وابن خزيمة وصححاه.
ويطلب من المريد في وقت الضحى أداء مجموعة من السنن التي حث عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبدأ ذلك بصلاة ركعتين سنة الإشراق يقرأ في الأولى أواخر سورة البقرة من قوله تعالى {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}... إلى آخر السورة. ويقرأ في الثانية من سورة النور من قوله تعالى {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} إلى قوله تعالى{وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
ثم يصلي ركعتين سنة الاستعاذة يقرأ في الأولى سورة الفلق وفي الثانية سورة الناس. ثم يصلي ركعتين سنة الاستخارة يقرأ في الأولى قوله تعالى }وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} (68-69 القصص) وسورة الكافرون. وفي الثانية قوله تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِينًا} (36 الأحزاب) وسورة الإخلاص.
بعد التسليم يقرأ هذا الدعاء:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك بفضلك العظيم، فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر، وأنت علاّم الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن جميع ما أتحرك به أو أسكن به في حقي وفي حق غيري من ولدي وأهلي وأصحابي وأحبابي وإخواني وسائر ما شئت من ساعتي هذه إلى مثلها في الغد هو خير لي في ديني ودنياي وآخرتي ومعاشي وعاقبة أمري، عاجله وآجله، فاقدره لي، ويسره لي. وإن كنت تعلم أن جميع ما أتحرك به أو أسكن به في حقي وفي حق غيري من ولدي وأهلي وأصحابي وأحبابي وإخواني وسائر ما شئت من ساعتي هذه إلى مثلها في الغد هو شرٌ لي في ديني ودنياي وآخرتي ومعاشي وعاقبة أمري، عاجله وآجله، فاصرفه عني واصرفني عنه. واقدر لي اللهم الخير حيث كان، ورضني به يا رحمن. وصل اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
ثم يصلي الضحى وهي ثماني ركعات كل ركعتين بتسليمة، يقرأ في الركعة الأولى سورة الشمس، وفي الثانية الليل، وفي الثالثة الضحى، وفي الرابعة الانشراح، وفي الخامسة الكافرون، وفي السادسة الإخلاص، وفي السابعة الفلق، وفي الثامنة الناس.
صلاة التهجد:
وهي صلاة عظيمة الفضل، وأفضل من صلاة النهار لقوله تعالى {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} (16 السجدة) وقوله تعالى {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (17-18 الذاريات). وتصلى قبل صلاة الفجر أو قبل ورد السحر (الاستغفار) في الليالي التي يقرأ فيها الورد المذكور، فإذا استيقظ المريد توضأ وصلى ركعتين سنة الوضوء، ثم يصلي بعدها ركعتين من النافلة قياماً للتهجد. ثم يصلي اثنتي عشرة ركعة سنة قيام الليل أو أكثر أو أقل بحسب اجتهاد المصلي، كل ركعتين بتسليمة، والأولى أن يقسم عليها سورة يس.
صلاة التسبيح:
عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس بن عبد المطلب (يا عباس، يا عماه، ألا أعطيك، ألا أمنحك، ألا أحبوك، ألا أفعل بك عشر خصال، إذا أنت فعلت ذلك غفر الله لك ذنبك أوله وآخره، وقديمه وحديثه، وخطأه وعمده، وصغيره وكبيره، وسره وعلانيته، عشر خصال. أن تصلي أربع ركعات تقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة، فإذا فرغت من القراءة في أول ركعة فقل وأنت قائم (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر) خمس عشرة مرة، ثم تركع فتقول وأنت راكـع عشـراً (أي بعد ذكر الركوع) ثم ترفع رأسك من الركوع وتقولها عشراً، ثم تهوي ساجداً فتقول وأنت ساجد عشراً، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشراً، ثم تسجد فتقولها عشراً، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشراً (أي في جلسة الاستراحة قبل القيام) فذلك خمس وسبعون في كل ركعة، تفعل ذلك في أربع ركعات. وإن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل، فإن لم تستطع ففي كل جمعة مرة، فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة، فإن لم تفعـل ففي عمـرك مرة) رواه أبو داود وابن ماجة وابن خزيمة في صحيحه والطبراني. قال الحافظ وقد روي هذا الحديث من طرق كثيرة وعن جماعة من الصحابة وأمثلها حديث عكرمة هذا، وقد صححه جماعة منهم الحافظ أبو الحسن المقدسي، وقال ابن المبارك صلاة التسبيح مرغب فيها يستحب أن يعتادها في كل حين ولا يتغافل عنها.
صلاة التراويح:
وهي سنة مؤكدة بإجماع الصحابة ومن بعدهم من الأئمة على الرجال والنساء، ثبتت سنيتها بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد واظب عليها عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، حيث جمع عمر الصحابة في صدر خلافته على أبي بن كعب يصلي في الرجال، وتميم الداري يصلي في النساء. وقد قال صلى الله عليه وسلم (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي).
عدد ركعاتها:
عدد ركعاتها عشرون ركعة بإجماع الأئمة الأربعة. روى البيهقي بإسناد صحيح أنهم كانوا يقومون على عهد عمر رضي الله عنه عشرين ركعة، وعلى عهد عثمان وعلي كله فصار إجماعاً. وروى أسد بن عمرو عن أبي يوسف قال: سألت أبا حنيفة عن التراويح وما فعله عمر فقال (التراويح سنة مؤكدة ولم يتخرصه عمر من تلقاء نفسه ولم يكن فيه مبتدعاً ولم يأمر به إلا عن أصل لديه، وعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد سن عمر هذا وجمع الناس على أبي بن كعب فصلاها جماعة والصحابة متوافرون منهم عثمان وعلي وابن مسعود والعباس وابنه وطلحة والزبير ومعاذ وأبي وغيرهم من المهاجرين والأنصار، وما رد عليه واحدٌ منهم، بل ساعدوه ووافقوه وأمروا بذلك، ثم استمر العمل على ذلك بتوارث الأئمة جيلاً بعد جيل).
كيفية أداءها:
تؤدى التراويح فرادى وجماعة، والأفضل فيها الجماعة في المسجد لأنها شعيرة من شعائر رمضان، بخلاف غيرها من النوافل التابعة للصلاة، وصلاتها بالجماعة سنة كفاية.
والأصل أن يختم القرآن فيها مرة خلال رمضان، وإذا كان هذا المقدار من القرآن سيدخل الملل على المصلين فليقرأ الإمام من القرآن ما لا يؤدي إلى تنفيرهم لأن تكثير القوم أفضل من تطويل القراءة خصوصاً في زماننا.
وكيفية أدائها أنها تصلى بعد فرض العشاء وسنته، ثم يقف المبلغ ويقول (صلاة التراويح قياماً من شهر رمضان أثابكم الله، صلوا على سيدنا محمد) فيقولون جميعاً (صلى الله عليه وسلم) فيصلون ركعتين. ثم يقولون بعد التسليم جماعة (لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير) فيقول المبلغ بعد الثانية (أول الخلق وحبيب الحق سيدنا محمد صلوا عليه) فيقولون جميعاً (صلى الله عليه وسلم). فيأتون أيضاً بركعتين ويقول المبلغ بعد الرابعة( شيخ التحقيق أبو بكر الصديق ترضوا عنه) فيقولـون كلهـم (رضي الله تعالى عنه) ثم يأتون بركعتين وبعد التسليم يقولون (لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير) فيقول المبلغ بعد السادسة (نور الهدى سيدنا محمد صلوا عليه) فيقولون جميعاً (صلى الله عليه وسلم). وبعد الثامنة يقول المبلغ (إمام المحراب سيدنا عمر بن الخطاب ترضوا عنه) فيقولـون كلهـم (رضي الله تعالى عنه). وبعد العاشرة يقولون (لا إله إلا الله... الخ) فيقول المبلغ (صاحب الحوض والشفاعة سيدنا محمد صلوا عليه) فيقولون جميعاً (صلى الله عليه وسلم). وبعد الثانية عشرة يقول المبلغ (جامع القرآن سيدنا عثمان بن عفان ترضوا عنه) فيقولـون كلهـم (رضي الله تعالى عنه) وبعد الرابعة عشرة يقولون (لا إله إلا الله... الخ) فيقول المبلغ (جد الحسن والحسين سيدنا محمد صلوا عليه). فيقولون جميعاً (صلى الله عليه وسلم). وبعد السادسة عشرة يقول المبلغ (فارس المشارق والمغارب الليث الغالب سيدنا علي بن أبي طالب ترضوا عنه). فيقولـون كلهـم (رضي الله تعالى عنه، كرم الله وجهه) وبعد الثامنة عشرة يقولون (لا إله إلا الله... الخ) ويقول المبلغ (خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلوا عليه). فيقولون جميعاً (صلى الله عليه وسلم). فإذا أتموا العشرين يدعو المبلغ هذا الدعاء المشهور:
(يا أمةَ خيرِ الأنامِ ومسكِ الختامِ ومصباحِ الظلامِ ورسولِ الله الملكِ العلامِ سيدِنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، يتقبلُ اللهُ مني ومنكم الصلاةَ والصيامَ والقيامَ، ويغفرُ اللهُ لي ولكم جميعَ الذنوبِ والآثام، ويُدخلُني وإياكم الجنةَ بمنِّهِ وكرمهِ دارَهُ دارَ السلامِ بسلام، قصدي من الله العظيم توبةً لي ولكم ثم مِن بعدِها حسنُ الختام. الله يرزقُنا القبولَ بفضلهِ، ويميتُنا جمعاً على الإيمان، وصلِّ يا رب على أشرف الورى سيدِنا محمدٍ أفضلِ من حجَّ وصلَّى وصام وقام) ثم يقول المبلغ (صلاةُ الوتر أثابكم الله صلوا على خير الأنام). وتصلى صلاة الوتر جماعة مع الإمام بالكيفية الواردة في باب صلاة الوتر.
ولمن فاتـته صلاة التراويح جماعة وأراد إقامتها وحده ولم يكن يتقن الحفظ والتلاوة يمكن له أن يقرأ في ست عشرة ركعة منها، سورة البروج مرتين. يقرأ في الركعة الأولى {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} وفي الثانية {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} وفي الثالثة {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} وفي الرابعة {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} وفي الخامسة {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} وفي السادسة {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} وفي السابعة {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ} وفي الثامنة {بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ}.
ثم يعيدها مرة ثانية. وفي الركعات الأربع الباقية يقرأ في الأولى {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (31 آل عمران). وفي الثانية {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (133-134 آل عمران). وفي الثالثة {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159 آل عمران). وفي الرابعة {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ 7 فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (7-8 الحجرات).
كيفية الختام بعد كل صلاة:
يقول الذي يختم الصلاة: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الله لا إله إلا هو الحي القيوم.) ويكمل المصلون آية الكرسي. ثم يقول (بسم الله الرحمن الرحيم قل هو الله أحد...) ويكمل المصلون سورة الإخلاص ثم يقول (بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الفلق) ويكمل المصلون سورة الفلق. ثم يقول (بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الناس..) ويكمل المصلون سورة الناس.
ثم يقول (وإن من شيء إلا يسبح بحمده، سبحان الله) ويقرأ الحاضرون (سبحان الله) سراً 33 مرة. ثم يقول (الحمد لله) ويقرأ الحاضرون (الحمد لله) سراً 33 مرة. ثم يقول (الله أكبر) ويقرأ الحاضرون (الله أكبر) سراً 33 مرة. ثم يقول الخاتم (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير. أفضل الذكر لا إله إلا الله)، يكررها معه الحاضرون ثلاث مرات، ثم يقول الخاتم (سيدنا وحبيبنا ومولانا محمد رسول الله حقاً ويقيناً وصدقاً، إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) فيقرأ الجميع جهراً الصلاة الإبراهيمية. ثم يقول الخاتم (اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين) ويدعو بهذا الدعاء:
ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين. ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا برحمتك مسلمين مؤمنين موحدين يا الله. اللهم ارزقنا عفوك وأنت خير الرازقين. اللهم ارزقنا رضاك وأنت خير الرازقين. اللهم ارزقنا محبة حبيبك ومحبتك وأنت خير الرازقين. اللهم افتح علينا وعلى إخواننا في سائر الأماكن فتوح العارفين. واجعلنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. اللهم إنك عفوٌ كريم تحب العفو فاعف عنا يالله. اللهم الطف بنا في قضائك وعافنا من بلائك ياكريم. اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. اللهم إنا نسألك رضاك والجنة. ونعوذ بك من سخطك والنار. اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأيد أهل الحق والدين. وأعل كلمتك يا قوي يا متين. اللهم بفضلك استجب دعانا، واشف مرضانا، وارحم موتانا، وأصلح أحيانا، وفيك لا تخيب رجانا.
ثم يقول الخاتم (إلى حضرة الحبيب المحبوب سيد الوجود سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وآله وأصحابه وأحبابه ومحبيه، وإلى أنبياء الله وأصفيائه، وإلى أبينا آدم وأمنا حواء ومن تناسل منهما من الصالحين وإلى خليل الله إبراهيم وإلى من لهم حقٌ علينا، ولإخواننا في الله تعالى أحياء وأمواتا ولكافة المسلمين أجمعين لهم منا الفاتحة). ويقرأ الجميع الفاتحة سراً.
ثم يقول إلى حضرة سيدنا محمد الفاتحة. ويقرأ الجميع الفاتحة سراً ثم يقول (اللهم برحمتك الواسعة يا إلهي عُمّنا، واكفنـا شـر ما يهمنا ويغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنة جمعاً توفنا وأنت راضٍ عنا إغفر اللهم بكرمك العميم وبشرف القرآن العظيم وبجاه نبيك الكريم لنا ولوالدينا ووالدي والدينا ولمشايخنا ولمشايخ مشايخنا ولإخواننا في الله تعالى أحياءً وأمواتاً ولإخواننا الحاضرين ووالديهم ولكافة المسلمين أجمعين. اللهم صل على سيدنا محمد. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين).
وبعد ختام صلاة الفجر يقرأ الجميع ورد ختام صلاة الفجر المذكور في كتاب الأوراد على الصفحة 123.
حكيم عياض
2009-08-27, 09:34
رابعاً : أحكام الجنائز
التجهيز:
يسن توجيه المحتضر للقبلة على يمينه، ويجوز الاستلقاء على ظهره، لكن يُرفع رأسه قليلاً ليصير وجهه إلى القبلة. ويسن أن يُلقن بذكر الشهادتين عنده لقوله صلى الله عليه وسلم (لقنوا موتاكم لا إله إلاّ الله، فإنه ليس مسلم يقولها عند الموت إلاّ أنجاه الله من النار). ويستحب لأقرباء المحتضر وأصدقائه وجيرانه الدخول عليه للقيام بحقه وتذكيره. ويتلون عنده سورة يس.
وإذا مات المحتضر شُد لحياه (فكاه) بعصابة تعمهما وتربط فوق رأسه تحسيناً وحفظاً لفمه. وتغمض عيناه ويقول مغمضه (بسم الله، وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم يسر عليه أمره وسهل عليه ما بعده، وأسعده بلقائك). ويستحب أن يسارَع إلى قضاء دينه وإبرائه منه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعـاً (نفس المؤمن معلقة بدَيْنه حتى يُقضى عنه). وإذا تُيقن موته يعجل بتجهيزه إكراماً له.
غسل الميت:
تغسيل الميت فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الآخرين. وكيفيته أن يوضع الميت على سرير بعد تيقن موته، وتستر عورته ما بين سرته إلى ركبتيه بعد تجريده من ثيابه وتغسل عورته بخرقة ملفوفة تحت الساتر. وبعد ذلك يوضأ بلا مضمضة ولا استنشاق للتعسر إلا أن يكون جنباً أو حائضاً أو نفساء فيغسل فمه وأنفه تيمناً لطهارته. وإذا كان صغيراً لا يعقل الصلاة فلا يوضأ. وبعد الوضوء يغسل بماء مسخن إذا تيسر، لأنه أبلغ بالتنظيف. ويبدأ بمسح بطنه لتخرج فضلاته، ويبدأ بغسل رأسه بالماء والصابون، ثم يضجع الميت على يساره ويغسل شقه الأيمن ثم يُضجع على يمينه فيُغسل شقه الأيسر. ثم يُنشف بثوب كيلا تبتل أكفانه. وبعد تنشيفه يُلبس القميص ثم تُبسط الأكفان ويُجعل الحنوط وهو عطر مركب من أشياء طيبة على رأسه ولحيته. ويُجعل الكافور على مواضع سجوده السبعة.
تكفين الميت:
وهو فرض كفاية، أما عدد الأثواب فهي ثلاثة سنة وكفاية وضرورة.
1. كفن السنة للرجل ثلاثة أثواب: قميص من أصل العنق إلى القدمين بلا أكمام، وإزار وهو ثوب عريض طويل يستر البدن من القرن إلى القدم، ولفافة تزيد على ما فوق القرن والقدم ليلف فيها الميت وتربط من أعلاه وأسفله. وتزاد المرأة على ما ذكرنا للرجل في كفنها من جهة السنة خمارا لرأسها ووجهها وقطعة قماش عرضها ما بين الثدي إلى السرة لتربط ثدييها وبطنها، فيكون كفن السنة للمرأة خمسة أثواب.
2. كفن الكفاية للرجل إزار ولفافة: وتزاد المرأة في كفن الكفاية على كفن الرجل خماراً، فيكون ثلاثة: خمار ولفافة وإزار. ويجعل شعرها ضفيرتين وتوضعان على صدرها فوق القميص ثم يوضع الخمار على رأسها ووجهها فوق القميص فيكون تحت اللفافة، ثم تربط الخرقة فوقها لئلا تنتشر الأكفان.
3. كفن الضرورة للرجل والمرأة: يكتفى فيه بكل ما يوجد. ويستحسن أثناء التكفين، بحضور أهـله وأقربائه وأحبابه، قـراءة المسـبعات الواردة في الصلوات الدرديرية يضاف إليها سور يس والواقعة وتبارك.
صلاة الجنازة:
وهي فرض كفاية. وتصلى بأربع تكبيرات. فيسن أن يقف الإمام بحذاء صدر الميت ويصطف الناس خلفه ويقرؤون بعد التكبيرة الأولى دعاء الثناء وسورة الفاتحة، وبعد التكبيرة الثانية الصلاة الإبراهيمية، وبعد التكبيرة الثالثة الدعاء للميت، وبعد التكبيرة الرابعة الدعاء لعامة المسلمين ثم التسليم.
تلقين الميت:
ثم ينقل إلى قبره ويدخل في القبر من قبل القبلة ويقـول واضعه (بسم الله، وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم) ويوجهه إلى القبلة على جنبه الأيمن، وتحل عقد رأسه ورجليه. ثم يهال عليـه التراب. وبالنسبة للمرأة ينزل في قبرها للحدها ذو رحم محرم.
وتلقين الميت بعد وضعه في القبر مشروع لقوله صلى الله عليه وسلم المتقدم (لقنوا موتاكم لا إله إلاّ الله). ويستحب تلقينه بالصيغة التالية، تلقينا له وعظة للحاضرين:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}. {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}. منها خلقناكم للأجر والثواب وفيها نعيدكم للدود والتراب. ومنها نخرجكم تارة أخرى للعرض والحساب. فاعلموا يا عباد الله أن الدنيا وزينتها ذهبت عن هذا العبد وأنه الآن في برزخ من برازخ الآخرة، وأنه مقيم في هذا البرزخ إلى يوم يبعثون. بهذا حكم الله. وبهذا أمر الله. وبهذا أراد الله، وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً، من رحمك الله، من آنسك الله، من عفا عنا وعنك الله. فيا عبد الله لا تنسى العهد الذي فارقتنا عليه وهو لا إله إلا الله سيدنا محمد رسول الله. فإذا جاءك الملكان الموكلان بك وبأمثالك من أمة محمد أجمعين، وأسنداك وأجلساك وسألاك من ربك وما دينك وما اعتقادك وما الذي مت عليه، فلا يخيفاك ولا يرعباك واعلم أنهما خلق من خلق الله، كما أنك خلق من خلقه، فجاوبهما بلا خوف منهما ولا فزع، وقل لهما بلسان فصيح: الكافي لي ولكم الله، الله ربي حقاً، ومحمد نبيي صدقاً، والإسلام ديني، والصلوات فريضتي، والكعبة قبلتي، وإبراهيم الخليل أبي، والمسلمون إخواني، والمسلمات أخواتي، وعشت ومت وأنا أشهد أن: لا إله إلا الله (يكررها ثلاث مرات) سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن قالا لك ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم وفي الخلق أجمعين فقل هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءنا بالآيات البينات فآمنا به وصدقناه، واتبعنا النور الذي أنزل معه، فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم (ثلاث مرات). واعلم يا عبد الله أن الموت حق، وأن القبر حق، وأن سؤال منكرٍ ونكير فيه حق، وأن الجنة والنار حق، وأن الساعة لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. فاثبت يا عبد الله {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الأَخِرَةِ}. ثبتك الله ولقنك حجتك، وأقال عثرتك، وغفر خطيئتك، وغفر الله لك ولنا ولوالدينا ولجميع المسلمين والمسلمات أجمعين. اللهم اغفر له، وارحمه، اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة، ولا تجعله حفرة من حفر النار. اللهم آنس وحشته، وأبدله أهلاً خيراً من أهله، وجيراناً خيراً من جيرانه، اللهم اغسله من خطاياه بالماء والثلج والبرد، اللهم نقه من ذنوبه كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم لقنه حجته وهون عليه أمره، واجعل الجنة مأواه {هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الأَلْبَابِ} {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. ثم يقرأ الفاتحة إلى الميت ولجميع المسلمين. ثم يهيلوا عليه التراب.
سلسلة العارفين رجال سند
الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية
التي تلقى عنها الإرشاد الشيخ حسني حسن خير الدين الشريف
الحمد لله المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، ذي العرش المجيد والبطش الشديد، الهادي أحباءه إلى النهج الرشيد، والمسلك السديد، السالك بهم إلى إتباع رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم، واقتفاء آثار صحبه الأكرمين وأوليائه الطاهرين، المتجلي لهم في ذاته وأفعاله بجمال صفاته، التي لا يدركها إلاّ من كان له قلبٌ أوألقى السمع وهوشهيد، الذي علّمهم ودلّهم أنه في ذاته واحد لا شريك له، فرد لا مثيل له، صمد لا ضِدَّ له، متفرد لا نِدَّ له، وأنه واحدٌ قديم لا أول له، أزلي لا بداية له، مستمر الوجود لا آخر له، أبدي لا نهاية له، قيوم لا انقطاع له، دائم لا انصرام له، بـاطن لا غيبة له، ظاهر لا اختفاء له (هوالأول والآخر والظاهر والباطن وهوبكل شيءٍ عليم)، مستوعلى العرش على الوجه الذي قاله، وبالمعنى الذي أراده، منزهاً عن المماسة والاستقرار والتمكين والحلول والإتحاد والإنتقال، وهوفوق العرش والسماء وفوق كل شيءٍ إلى تخوم الثرى، لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته ومقهورون في قبضته، لا يحل في شيء، ولا يحل فيه شيء، تعالى عن أن يحويه مكان (ليس كمثله شيء وهوالسميع البصير). وبعد،
فيا أيها السالك في طريق القوم، اعلم أن الله تعالى إذا أراد بك خيراً دلك على بابه، وجمعك بأحبابه، فإن نلت ذلك (فاصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه ولا تعدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تُطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً) وامتثل أمر الله بقوله (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)، واقصد في سيرك تخليص نفسك من آفاتها وتحويل القبيح منها إلى الحسن، واعلم أنه لا يتم لك ذلك إلا من خلال شيخ عارفٍ مرشدٍ عالمٍ بعيوب النفس وآفاتها، مطلع على مداخل الشيطان على قلب الإنسان، قادر بأمر الله على السير بك نحوالآخرة بما يرضي الله رب العلمين. ثم اعلم بأن ذلك لا يكون إلا بصحبة وارثٍ محمدي عبر سندٍ متينٍ متصلٍ برسول الله صلى الله عليه وسلّم، يرقى بروحك في عليين عبر صحبة قومٍ همهم آخرتهم ورضى ربهم. ثم اعلم أن طريقتنا الخلوتية الجامعة الرحمانية هي من أحسن الطرق، وأثبتها وأقواها سنداً، زكّت في تاريخها ملايين النفوس، وصفّت سرائرهم، ونوّرت أفئدتهم، لاسيما وأن مرشدها الحالي ووارث علومها شيخ الشريعة والطريقة والحقيقة الشيخ حسني بن الشيخ حسن بن الشيخ خير الدين بن الشيخ عبد الرحمن الشريف الحسيني، الذي تلقينا عنه إقتداء بمن سلف من هذه السلسلة الشريفة الممتدة نسباً ومسلكاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عسى أن تزكونفوسنا وترتقي في عالم المعرفة والنجاة.
سند الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية :
وشيخنا السيد حسني حسن الشريف حفظه الله تلقى هذه الطريقة من سندين :
الأول : عن والده الشيخ حسن عن والده الشيخ خير الدين عن والده عبد الرحمن الشريف الكبير. والثاني : عن الشيخ حسين عن الشيخ عبد الرحمن الثاني الذي تلقى عن الشيخ خير الدين الشريف عن الشيخ حسن حسين عمروعن الشيخ عبد الرحمن الشريف من جهة، وعن الشيخ حسين عن الشيخ عبد الرحمن الشريف الكبير من جهة ثانية. الذين تلقوا جميعاً هذه الطريقة عن الإمام العارف بربه الشيخ محمود أفندي الرافعي العمري الطرابلسي الشهير بأبي الأنوار رضي الله عنه، وهوعن سيدي أحمد الصاوي، وهوعن سيدي أحمد بن محمد الدردير العدوي، وهوعن سيدي شمس الدين محمد بن سالم الحفناوي، وهوعن سيدي مصطفى البكري (صاحب ورد السحر)، وهوعن سيدي عبد اللطيف الحلبي، وهوعن سيدي مصطفى أفندي الأدرَنوي، وهوعن سيدي علي قِرا باشا أفندي، وهوعن سيدي إسماعيل الجرومي، وهوعن سيدي عمر الفؤادي، وهوعن سيدي محي الدين القسطموني، وهوعن سيدي شعبان القسطموني، وهوعن سيدي خير الدين التوقادي، وهوعن سيدي جَلبي سلطان الأقسدائي الشهير بجمال الخلوتي، وهو عن سيدي محمد بهاء الدين الأرذنجاني، وهوعن سيدي يحيى الباكوبي، وهو عن سيدي صدر الدين الخياني، وهوعن سيدي عز الدين، وهوعن سيدي محمد مبرام الخلوتي، وهو عن سيدي عمر الخلوتي، وهو عن سيدي أخي محمد الخلوتي، وهو عن سيدي إبراهيم الزاهد التكلاني، وهو عن سيدي جمال الدين التبريزي، وهوعن سيدي شهاب الدين محمد الشيرازي، وهوعن سيدي ركن الدين محمد النجاشي، وهو عن قطب الدين الأبهري، وهو عن أبي النجيب السهروردي، وهوعن سيدي عمر البكري، وهوعن سيدي وجيه الدين القاضي، وهوعن سيدي محمد البكري، وهو عن سيدي محمد الدنيوري، وهو عن سيدي ممشاد الدنيوري وهو سيدي سيد الطائفتين أبي القاسم الجنيد محمد البغدادي. وللجنيد رضي الله عنه في الطريقة سندان :
أحدهما عن سيدي سري السقطي عن سيدي معروف الكرخي عن سيدي حبيب العجمي عن سيدي داود الطائي عن سيدي الحسن البصري عن سيدنا الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والسند الثاني هوعن سيدي سري السقطي وهوعن سيدي معروف الكرخي وهوعن الإمام علي بن موسى الرضي وهوعن الإمام موسى الكاظم وهوعن والده الإمام حعفر الصادق وهوعن والده الإمام محمد الباقر وهوعن والده علي زين العابدين وهوعن عمه الإمام الحسن وهوعن والده الإمام علي بن أبي طالب وهوعن سيد الكائنات سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نسب السيد الشيخ حسني حسن الشريف أطال الله عمره
شيخ الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية
هوالشريف الحسيني السيد حسني (الخليل) بن السيد حسـن (الخليل) بن السيد خير الدين (الخليل) بن السيد عبد الرحمن شيخ الطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية (الخليل) بن السيد حسين (الخليل) ابن السيد يوسف (الخليل) بن السيد صالح (القدس) بن السيد يوسف (القدس) بن السيد صالح (القدس) بن السيد صلاح الدين زعتر (تولى قلعة الخليل بعد أبيه ودفن فيها) (الخليل) بن الأمير شرف الدين زعتر (تولى أمارة الخليل في بداية العهد العثماني وتوفي في الخليل سنة 1050 هجـرية) (الخليل) بن السيد محمد شمس الدين (ذكرين) بن السيد عبد الله (القدس) بن السيد أحمد شهاب الدين (الحجاز) بن السيد محمد حميـد الديـن (أبوحامد) قاضي القضاة (كان يحفظ القرآن الكريم ويتقنه بالروايات) (طرابلس) بن السيد بدر الدين (الخليل) بن السيد شعيب (الخليل) بن السيد محمود (الخليل) بن العارف بالله محمد السقواتي (الخليل) بن السيد عبد الله (تونس) بن السيد عز الدين القاسم (شارك في جميع فتوحات صلاح الدين) (المدينة المنورة) بن السيد جعفر المهنـا (أميـر المدينـة المنـورة) (المعلمة بمكة) بن السيد عبد الله (السويس) بن السيد عمر (الساقية الحمراء) بن السيد علي (مطرطه) بن السيد عثمان (أمير الساقية الحمراء من سنة 345 إلى 399 هجرية) (المغرب) بن السيد الحسين الفاسي بن السيد محمد بن السيد موسى بن السـيد يحيـى بن السيد عيسى بن السيد علي التقي (البصرة) بن السيد محمد الأكبر بن سيدنا الإمام علي الهادي (سُرّمن رأى) بن سيدنا الإمام محمد الجواد (بغداد) بن سيدنا الإمام علي الرضا (خراسان) بن سيدنا الإمام موسى الكاظم (بغداد) بن سيدنا الإمام جعفر الصادق (البقيع) بن سيدنا الإمام محمد الباقر (البقيع) بن سيدنا الإمام علي زين العابدين (البقيع) بن سيدنا الإمام الحسين رضي الله عنه (كربلاء) بن سيدنا الإمام علي كرم الله وجهه وسيدتنا فاطمة الزهراء رضي الله عنها بنت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بارك الله فيك أخي الكريم وأحسن إليك
http://img267.imageshack.us/img267/3493/333au4.gif
imad.gatel
2009-08-28, 23:46
بحث رائع هذا ما كنت أبحث عنه ولكن سأتابع قراءته شيئا فشيئا حتى أستوعب كل محتوياته فالموضوع شيق
vBulletin® v3.8.10 Release Candidate 2, Copyright ©2000-2025, TranZ by Almuhajir