المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العلمانية العربية وعقدة الوضعيَّة


فريد الفاطل
2015-01-03, 16:29
صراع الدين والعلمانية إحدى المعارك المزمنة في الثقافة العربية والإسلامية، ولا نبالغ إذا قلنا إن تضخم هذا الصراع كان السبب الرئيسي في إخفاقنا في تحقيق النهضة في البلاد الإسلامية والتي بدأنا الحديث عنها وفيها منذ أكثر من قرن ونصف، ونحن نشهد اليوم إعادة الأسئلة نفسها التي طرحت آنذاك، والسؤال الكبير نفسه الذي شغل المفكرين: " لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟".
وبعدما كان الدين (الإسلام) هو الباعث على النهوض، جاءت المعضلات التنموية وقضية الاستتباع للقوى الاستعمارية لتفسح المجال للعقائد والأفكار الوافدة، وخصوصاً الماركسية، لتحول الصراع من صراع من أجل التنمية وفيها، إلى صراع ديني إسلامي ـ ماركسي، استطاعت الماركسية أن تطوي فيه تحت عباءتها كل الاتجاهات العلمانية التي كانت قد ولدتها إشكاليات نموذج الدولة الحديثة إثر انهيار الخلافة الإسلامية.
والآن ثمة اتجاهات في العلمانية تحررت من ماركسيتها تعترف بأهمية الدين، باعتباره "قبة رمزية" للفضاء الثقافي، يمدّ الإنسان بالمعنى، وحيث لا يمكن لأمة أن تحيا خصوصيتها وتمايزها بدونه، وفي هذا الإطار ولد في مطلع التسعينيات مشروع مثل "المؤتمر القومي ـ الإسلامي".
إذاً العلمانية العربية ـ وهي كغيرها من العلمانيات في العالم الإسلامي ـ بدأت تخطو أولى خطواتها الإيجابية

حدّ بعيد، وما يزال العلمانيون على اختلاف مللهم ودرجاتهم يؤمنون بعدم إدخال الإسلام كمحرك رئيسي للأنظمة السياسية والتشريعية والاجتماعية، إذاً فقد انتقلوا ضمن فضاء العلمانية الغربية نفسها، من العلمانية الفرنسية المتطرفة إلى العلمانية الإنكليزية.
المشكلة الرئيسية في العلمانية العربية أنها تبنت المشكلات الغربية عن الدين المسيحي وأسقطتها على الإسلام، ولأن الدين المسيحي في القرون الوسطى يتسم باللاعقلانية والخرافية ومعاداة العلم، فإنهم يعتبرون الإسلام كذلك بالرغم من الاختلاف الجذري بينهما، وأيضاً لأن الدين في الغرب لا عقلاني، فإن العلمانية هي العقلانية وهي تساوي الوضعيّة أي قيام العقل البشري بدور التشريع لنفسه متخلّصاً من تكبيلات الدين (في أوروبا) الخرافية. وهكذا وقعت العلمانية العربية في مستنقع أوهام، تتكلم عن الإسلام وفي ذهنها المسيحية!
من هنا نفهم لماذا الإصرار العلماني على استبعاد كل ما يتعلق بالإسلام في الشأن العام، فالعلمانيون يؤمنون بأن التمسُّك بالتشريع الإسلامي تمسك بالخرافة واللاعقلانية ممثلة بثقافة مضى عليها مئات السنين، وعندما نقول "يؤمنون" فإننا نعني أنهم يؤمنون بالمعنى الديني، حيث أخذت العلمانية كديانة قلّد فيها الغرب ولم تنبت في الأرض الإسلامية نفسها بدوافع ذاتية. وهكذا فإن أي تصالح مع الدين سيكون لا محالة بتجاوز النص الديني برمته؛ وخصوصاً فيما يتعلق بالشأن القانوني والتشريعي.
وعلى هذا الأساس فإن أي محاولة علمانية لإعادة البحث والتفسير والتأويل للإسلام هي لا محالة مجرد "مغامرة عقلية" لتجاوز النص الديني (القرآن والسنة على وجه الخصوص) وتقييده وتخصيصه بل ونسخه! وليست بحثاً علمياً بالمعنى الحقيقي للكلمة، لأن العلمانية في المحصلة هي منطق ديني وضعي يكفر بكل ما عداه دون أن يحتاج إلى مبررات حاسمة. وبالتالي فالحد الوحيد الذي يمكن لهذه العلمانية العربية أن تتعامل فيه مع الإسلام هو المنطقة التي تعتقد أنه لا يمكنها تعويضها، أقصد البعد النفسي الروحي أي ما يطلق عليه بـ "الفضاء الرمزي".
في حين ينظر مفكرو هذه الشعوب من علمائها المسلمين إلى النّص على أنه يساوي هويته وتمايزه عن الآخرين جملةً وتفصيلاً، وبالتالي فإن أي تجاوز للنص (الوحي) هو تجاوز لإيمانه ووجوده، والاجتهاد هنا ليس مجرد مغامرة عقلية، بل بحثاً استكشافياً مضنياً، والتأويل ليس رغبات يقسر عليها الدين، بل موقف علمي تمليه ضرورات معرفية من داخل النص نفسه ومن طبيعة الدين ذاتها، أي أنه ينزع دوماً نحو الاحتكام إلى النص والانطواء تحته، فالنص ليس إلاّ كلام الله (تعالى) الذي لا يتم تجاوزه إلاّ بالكفر به.
لكن هل يعني ذلك تقديم الدين على العقل؟
طبعاً لا، ولا تعني في الوقت نفسه تقديم العقل على الدين، إن ثمة إيماناً يحكم العقل الإسلامي عموماً يقول بضرورة توافق العقلي والديني، وحسب تعبير ابن تيمية رحمه الله " موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول " إذاً العقل طرف أساسي في الإسلام ، ذلك أنه يؤمن باستحالة تعارض النص مع العقل ، ولديه آليات علمية معقدة لفض أي " اشتباك " يتوهم في هذا الإطار ليس على حساب العقل ولا على حساب النقل ، كما معروف في كتب أصول الفقه القيمة .
وإذا كانت العلمانية ـ في مبدئها ـ تعني عقلنة التعامل مع الواقع، فإن ثمة تقاطعاً مشتركاً بين الفكر الإسلامي معها، حيث يلح هو الآخر عليها، لكنه في الوقت نفسه يعتبرها جزءاً من المرجعية وليست كل المرجعية، حيث الطرف الآخر من المرجعية هو النص. وفي كل الأحوال فإن وجودًا مشتركًا بينهما لا يتحقق إلاّ بتخلي العلمانية العربية عن منطقها الإيماني ، وعودتها إلى العقلانية ذاتها ، والحديث عن المشترك يشكل - برأينا - مدخلاً رئيسياً لأي حوار يمكن أن يخدم الثقافة العربية الإسلامية والواقع العربي التعيس .
إن على الفكر الإسلامي أن يحرص على هذا المدخل، وأن يصبّ حواراته ونقاشاته في إطار توازن المرجعية المزدوجة (العقل ـ النقل) ، وفي القضايا ذات الشأن العام على وجه الخصوص .
ولا نتوقع من العلمانية أن تتخلص من عقدتها الوضعية قبل أن تتحرر من منطقها الديني الإيماني ، وتتجه نحو العقلانية ، وعلينا نحن مساعدتها في ذلك .


http://articles.islamweb.net/media/index.php?page=article&lang=A&id=14571