علي النموشي
2009-08-19, 20:36
المقامة البحرية
حدثنا عباس النموشي قال : لمّا تسلمت وثيقة الإجازة و التي نلت بها المفازة و راحتي من عمل الوظيفة ، الخطيرة و المخيفة ، تنفست الصعداء ، و تذكرت صحبي التعساء ، و كيف هم في كدر الشغل و العناء ، قررت الهروب من القهر الى اليم و البحر ، حيث الماء السلسبيل ، و النسيم العليل ، والخير الغليل ، و المناظر الخلابة ، و صاحبات الدراج و الجلابة ، لأني اعتدت على هذا الأمر ، منذ الصغر و لم أعد استطع التخلي عنه و لا الخروج منه ، فانتظرت حتى استلمت المرتب ، و تجدني لمتاعي موضب ، فحملت الحقيبة ، و زدت عليها التعقيبة ، و ودعت أهلي ، و أوصتني أمي ، أن لا تبطأ عنا في الرجوع ، و لا تفارق جمع النجوع ، و لاتنسى الفرض و الركوع ، و دعت لي بالخير ، و كرهت لي الشر و الطير ، فاتجهت إلى المحطة مسرعا ، و لأمي مرة أخرى مودعا ، و استقليت سيارة الأجرة ، و وجهتي اخترت سكيكدة ، ذات السواحل المديدة ، و الحياة السعيدة ، كما وصفها لي أحد الخلان ، لما فيها من أمان و اطمئنان ، و راحة و خير إنسان ، و شاطئ يعرف ببن مهيدي ، يأتيه السياح القريب منهم و البعيد ، و آخر صغير يسمى الشاطئ الكبير ، و ثالثهما يدعى بالبرج الأخضر ، بجانب المرفأ الأكبر ، و قبل أن أركب السيارة ، تشاجرت مع أحد المارة ، و لولا تدخل صاحب الصفـّارة ، لكانت وقعها عليّ كمثل الغارة ، فحمدت الله على نجاتي من الضرب ، و قلت في نفسي يا لبداية الشؤم و الكرب ، اللهم اجعل الأمر خيرا ، و اكفني منه شرا ، و في الطريق كادت أن تنزلق بنا المركبة في مضيق ، حتى خلت الموت أمامي ، و الحُمام قدامي ، فنزلنا و كلنا هلع و وجل ، من قرب دنو الأجل ، و واصلنا المسير ، حتى اعترضتنا منعرجات كلها صعب و خطير ، فتحركت لها معدتي و كاد عقلي أن يطير ، و شرعت أتقيأ و أتألم من هذا الأمر العسير ، و كان الجو حارا ، و المركبة لا تحوي مبردا و كأن فيها نارا ، إن أنت أغلقت الزجاج تصببت عرقا ، و إن أنت فتحته لفحك السيروكو حرقا و من شدة الغيض ، و يوم القيض ، و ساعة الرمض ، بادرت إلى السائق بالسؤال ، إنك و الله لتبغي المحال ، ألا تتقي ربك ، كيف لك أن لا تصلح مبرد المركبة ، و تجنب الركاب العذاب و التهلكة ، لكنه أجابني بردّ قتلني غيضا ، و زدت عليه فيضا ، أن أنزل إن لم يعجبك الأمر ، و سدد الأجرة و لا تغتر ، فبادرته بالسب و الشتم ، و كدت أن أوجه له اللطم على وجهه و اللكم ، حتى تدخل أحد الركاب ، و أصلح الحال بيننا و كلينا عن الغضب أناب ، و كلّي تضرع لله أن إجعل هذه الرحلة خيرا يا الله . فلما وصلنا ، نزلنا ثم حمدنا المولى و شكرنا ، و سرت بعدها أسأل الناس الطريق ، و وجهة البحر والشاطئ فقد نشف مني الريق ، فدلوني على الإتجاه ، و حذروني من شر اللصوص و الأشباه ، و قالوا لي عليك الانتباه ، لكني سرت على بركة الله الذي لا يحمد على مكروه سواه ، ولكن قبل أن أعوم ، يلزمني فندقا أرتاح فيه و منه أقوم ، فبحثت عن نزل متواضع ، على قدر حالي و قلبي القانع ، و حسب ما أملك من مال و على قدر الحال ، لكني لبثت قرابة الساعتين أبحث ، كمن هو للصوف ينفث ، فهذا سعره غال ، و الآخر قدره عال ، و ذاك تغزوه الحشرات ، من بق و بعوض وصراصير مقرفات ، و ذاك به المومسات الكاسيات العاريات ، اللواتي يترصدنك و يحاولن الإيقاع بك ، فهربت منهن بجلدي ، لمخافتي من ربي ، حتى وجدت فندقا ، في شارع ضيق ، به شابان مفتولان ، عليهما أثر الحشيش وشر العقبان ، فأفشيت السلام ، و تقدم أحدهما مني و قال لي طاب المقام ، فساومته في ثمن الغرفة فقال هي جيدة و بها شرفة ، فقبلت و للثمن سددت ، ثمانمائة دينار ، ليس عليها غبار ، و ملأت الاستمارة و أمضيت بطاقة الغفارة ، و كلّي تعب و للراحة و القيلولة أطلب ، ثم صعدت المدرج ، و تبعني أحدهما يدرج ، و عندما همّ بفتح الغرفة ، وجدها مقفلة صرفة ، فاستعمل معها القوة ، ففتحت و صارت بالباب هوة ، و أعطاني المفتاح و قال لي ارتاح ، فلما دخلت ، نزعت ثيابي و قعدت ، و أردت أن أتوضأ و أغسل أطرافي ، و أنعش جسمي من حر المصافي ، إلا أنني لم أجد ماءا في الصنبور ، بل أثر الذباب و الصرصور ، فاستعذت بالله الغفور ، و قلت لا علينا ، يا بارئا لا تعجل علينا ، و ناديت بأعلى صوتي أن أحضروا لي الماء ، واكفوني شر العناء ، فقد لقيت من سفري هذا شر البلاء ، فما هي إلا برهة ، حتى أتاني أحدهما بقارورة ، تحوي لترا من الماء ، لونه أصفر خالي من النقاء ، و لما هممت بالغسل ، لمحت نيسبا من النمل ، فاتبعت طريقه ، فإذا به يلحق فريسته ، و كان صرصورا ضخما ، لم أرى مثله كبرا و حجما ، فضربته برجلي ، و أخرجته من حجرتي ، و قلت لا علينا ، يا الله طول بالنا ، و لا تجعل صبرنا ينفد و قبلنا يحقد ، لكن من فرط تعبي ، جلست على السرير أناجي ربي ، قارئا للمعوذتين و الكتاب بجنبي ، و قلت آن لي إن أستريح ، من نكد اليوم القريح ، و المشهد القبيح ، و لما وضعت رأسي على الوسادة ، جاءتني فكرة و زيادة ، بأن أعالج السرير و الغطاء و الحصير ، علني أجد فيه الشر المستطير ، و الوحش الخطير ، ألا و هو حشرة البق الضارة ، ذات اللسعات الحارة ، و قد كانت لي معها قصة ، في أحد فنادق مدينة سطيف ، في وقت المصيف ، يوم زرت صديقا لي في الدرك ، و كدت أن أقع في الشرك ، بسبب أمر لا يسعنا الحديث فيه الآن ، و لا الخوض فيه في هذا المقام و المكان ، فلما رفعت الغطاء ، رأيت عشرات منها و زهاء ، تدب بسرعة و تبحث عن الدم لتلعق منه جرعة ، عندها تملكني غضب شديد ، وخرجت مسرعا أهدد بالوعيد ، حاملا حقيبتي ناسيا فريضتي ، و لبست خفي عن عجل ، مدمدما بكلمات كصوت العجل ، و نزلت مسرعا إلى قاعة الاستقبال ، و قد راح عني طول البال ، فوجدت أحدهما واقفا بالباب ، يستفسر عن صوت الصياح و السباب ، فقلت له : أ خان هذا أم بيت خصيان ؟ ، يا رجل إتقي الله في الناس ، فهذا نزل راحة و نعاس ، و أنت أحلته كمثل بيت النسناس ، أعد لي مالي ، و اتركني أمضي لحالي ، فبدأ يصيح في وجهي ، يريد ضربي ، و آزره زميله و همّ هو أيضا بركلي ، فراودتني حيلة ، بأن أستدرجه إلى زقاق المدينة ، حتى و إن صرعته ، لن يحاسبني القانون كمن ضرب أحدا في محله ، و تكون عقوبتي خفيفة ، و غرامتي طفيفة ، فصرت أمشي الى خارج المحل ، حتى خرجت إلى الزقاق تحت الظل ، عندها تغيرت نبرتي ، و زادت حدتي و قوة شكيمتي ، فقلت له : إما أن ترجع لي المال ، أو أشتكيك إلى رجال الشرطة و الأحوال ، أو أكتب عنك تقريرا إلى مديرية السياحة ، أوضح فيه حالة نزلك و سوء الضيافة ، فوجدني ضالعا في أمور القانون ، و كل كلمة لي فيها باع و فنون ، فما كان عليه إلا أن استكان للأمر الواقع ، و أرجع لي المال من دون وازع ، فغادرت المكان و في مخي غليان ، قاصدا فندقا آخرا ، سواء كان مخفيا أو ظاهرا ، حتى اهتديت إلى مكان على مقربة من البحر ، فيه من الروعة و السحر ، ما يذهب البصر ، فقابلني مبنى رائع ، في شكله و لونه الأبيض الساطع ، فدخلت و على الحارس سلمت ، فوجدته من طراز النجوم ، فيه الدفع بالمعلوم ، و سألت عن السعر ، فوجدته يقصم الظهر ، و يقصف الشعر ، لكني رضيت و سلمت للأمر و قبلت ، فما وجدت فيه إلا غرفة من سريرين ، كان قد بات فيها عروسين ، فوضعت حقيبتي و على السرير رميت جثتي ، فنمت و في وقت المغرب نهضت ، و قد علق بي مسحوق للزينة من أثر العروس ، لونه ذهبي ملموس ، فغسلته بالماء ، لكنه لم يمحى من كل الأنحاء ، و قلت لا علينا ، اللهم اجعله خيرا علينا ، و خرجت إلى المدينة أتنزه في الممرات، و صليت ما فاتني من أوقات ، و تناولت العشاء في أحد المطاعم ، وسهرت ليلي في مكان عام ، و لما جاء الصباح ، هممت بالخروج إلى البحر حيث النسيم و الرياح ، و ركبت حافلة صغيرة ، قاصدا الشاطئ قبل حلول الظهيرة ، فلما وصلت و بقرب حاجز للدرك نزلت ، و أنا أسير حتى ناداني أحدهم و بيده إلي يشير ، فذهبت إليه و وقفت بين يديه ، فباردني بالسؤال عن وجهتي و عن ولايتي ، و طلب بطاقة هويتي ، و كنت حينها أضع ذقنا ، خفيف الحركة و جنا ، و قد ساد البلاد وقتها خطر الإرهاب ، و شهدت له الورى الويلات و الصعاب ، فتحسست جيبي ، و دق لهذا قلبي ، فقد نسيت كل وثائقي بالفندق ، و هو لي غير مصدق ، و زاد شكه في أمري ، وراح يجري ، و أحضره معه الضابط و الكلب و ركناني إلى الحائط ، وفتشي العون ، و بهدلني الكب بالعواء و الهون ، و الناس تضحك علي و تهوّن ، و حينما لم يجدا عندي شيء يذكر ، من سلاح أو أمر مخطر ، قاما بإدخالي إلى صندوق الموقوفين ، ولبثت فيه أكثر من ساعتين ، و عندها قلت : يا سيدي ، إرأف بحالتي ، فما أنا و الله إلا رجل مسالم و قد نسيت بطاقتي ، و اسأل إن أردت صاحب النزل ، عن الحال فإني والله كلي أمل ، في براءتي من تهمة عدم حمل وثائق مهمة ، و بعد أخذ و رد ، و هزل و جد ، إتصل بالشرطة و بمكان إقامتي ، و وجدني صادقا في مقالتي ، عندها أطلق سراحي ، و رجعت مشئوما و عن رؤية البحر مهموما ، بعدما رأيته أزرقا بهيا رقراقا ، لأني حلفت و باليمن طلقت ، أن لا يكون لي مقام في بلد فيه بهدلت ، قاصدا أدراجي ، و حملت أغراضي ، بعد أن صرفت ثلث مالي ، قافلا إلى مدينة عنابة ، و التي لي فيها أهل و قرابة ، حيث إعتدت قضاء إجازتي فيها ، و كذا لمعرفتي الواسعة بأهلها ، و بأزقتها و فنادقها ولسان حالي يقول :
يا لوعتي على عطلتي ****** و يــا كربتــي و محتني
مــا ذنبي أنــا يــا ربي ****** حتى أخزى في إجازتي
هل المشقـة هي قدري ****** لمــا لاقيت فــي رحلتي
أم أنــه لقلـــة حيلتــي ****** أو لدعـــوة وا مصيبـتي
ما كــانت و الله نيتــي ****** غير سكينتــي و راحتي
لكـــن حمـدا لله بارئي ****** أن كــانت هـــذه نهايتي
و لما نويت الرجوع ، إلى بلدتي و الربوع ، نذرت أن أقدم معروفا ، لمسكين أو أن أعطيه مصروفا ، دفعا لبلاء كاد أن يلحقني بمصف السجناء ، أو أن أرسل إلى معتقلات الصحراء ، حيث الرمال و الحلفاء ، و الحيات و العقارب و شر الإجتباء .
حدثنا عباس النموشي قال : لمّا تسلمت وثيقة الإجازة و التي نلت بها المفازة و راحتي من عمل الوظيفة ، الخطيرة و المخيفة ، تنفست الصعداء ، و تذكرت صحبي التعساء ، و كيف هم في كدر الشغل و العناء ، قررت الهروب من القهر الى اليم و البحر ، حيث الماء السلسبيل ، و النسيم العليل ، والخير الغليل ، و المناظر الخلابة ، و صاحبات الدراج و الجلابة ، لأني اعتدت على هذا الأمر ، منذ الصغر و لم أعد استطع التخلي عنه و لا الخروج منه ، فانتظرت حتى استلمت المرتب ، و تجدني لمتاعي موضب ، فحملت الحقيبة ، و زدت عليها التعقيبة ، و ودعت أهلي ، و أوصتني أمي ، أن لا تبطأ عنا في الرجوع ، و لا تفارق جمع النجوع ، و لاتنسى الفرض و الركوع ، و دعت لي بالخير ، و كرهت لي الشر و الطير ، فاتجهت إلى المحطة مسرعا ، و لأمي مرة أخرى مودعا ، و استقليت سيارة الأجرة ، و وجهتي اخترت سكيكدة ، ذات السواحل المديدة ، و الحياة السعيدة ، كما وصفها لي أحد الخلان ، لما فيها من أمان و اطمئنان ، و راحة و خير إنسان ، و شاطئ يعرف ببن مهيدي ، يأتيه السياح القريب منهم و البعيد ، و آخر صغير يسمى الشاطئ الكبير ، و ثالثهما يدعى بالبرج الأخضر ، بجانب المرفأ الأكبر ، و قبل أن أركب السيارة ، تشاجرت مع أحد المارة ، و لولا تدخل صاحب الصفـّارة ، لكانت وقعها عليّ كمثل الغارة ، فحمدت الله على نجاتي من الضرب ، و قلت في نفسي يا لبداية الشؤم و الكرب ، اللهم اجعل الأمر خيرا ، و اكفني منه شرا ، و في الطريق كادت أن تنزلق بنا المركبة في مضيق ، حتى خلت الموت أمامي ، و الحُمام قدامي ، فنزلنا و كلنا هلع و وجل ، من قرب دنو الأجل ، و واصلنا المسير ، حتى اعترضتنا منعرجات كلها صعب و خطير ، فتحركت لها معدتي و كاد عقلي أن يطير ، و شرعت أتقيأ و أتألم من هذا الأمر العسير ، و كان الجو حارا ، و المركبة لا تحوي مبردا و كأن فيها نارا ، إن أنت أغلقت الزجاج تصببت عرقا ، و إن أنت فتحته لفحك السيروكو حرقا و من شدة الغيض ، و يوم القيض ، و ساعة الرمض ، بادرت إلى السائق بالسؤال ، إنك و الله لتبغي المحال ، ألا تتقي ربك ، كيف لك أن لا تصلح مبرد المركبة ، و تجنب الركاب العذاب و التهلكة ، لكنه أجابني بردّ قتلني غيضا ، و زدت عليه فيضا ، أن أنزل إن لم يعجبك الأمر ، و سدد الأجرة و لا تغتر ، فبادرته بالسب و الشتم ، و كدت أن أوجه له اللطم على وجهه و اللكم ، حتى تدخل أحد الركاب ، و أصلح الحال بيننا و كلينا عن الغضب أناب ، و كلّي تضرع لله أن إجعل هذه الرحلة خيرا يا الله . فلما وصلنا ، نزلنا ثم حمدنا المولى و شكرنا ، و سرت بعدها أسأل الناس الطريق ، و وجهة البحر والشاطئ فقد نشف مني الريق ، فدلوني على الإتجاه ، و حذروني من شر اللصوص و الأشباه ، و قالوا لي عليك الانتباه ، لكني سرت على بركة الله الذي لا يحمد على مكروه سواه ، ولكن قبل أن أعوم ، يلزمني فندقا أرتاح فيه و منه أقوم ، فبحثت عن نزل متواضع ، على قدر حالي و قلبي القانع ، و حسب ما أملك من مال و على قدر الحال ، لكني لبثت قرابة الساعتين أبحث ، كمن هو للصوف ينفث ، فهذا سعره غال ، و الآخر قدره عال ، و ذاك تغزوه الحشرات ، من بق و بعوض وصراصير مقرفات ، و ذاك به المومسات الكاسيات العاريات ، اللواتي يترصدنك و يحاولن الإيقاع بك ، فهربت منهن بجلدي ، لمخافتي من ربي ، حتى وجدت فندقا ، في شارع ضيق ، به شابان مفتولان ، عليهما أثر الحشيش وشر العقبان ، فأفشيت السلام ، و تقدم أحدهما مني و قال لي طاب المقام ، فساومته في ثمن الغرفة فقال هي جيدة و بها شرفة ، فقبلت و للثمن سددت ، ثمانمائة دينار ، ليس عليها غبار ، و ملأت الاستمارة و أمضيت بطاقة الغفارة ، و كلّي تعب و للراحة و القيلولة أطلب ، ثم صعدت المدرج ، و تبعني أحدهما يدرج ، و عندما همّ بفتح الغرفة ، وجدها مقفلة صرفة ، فاستعمل معها القوة ، ففتحت و صارت بالباب هوة ، و أعطاني المفتاح و قال لي ارتاح ، فلما دخلت ، نزعت ثيابي و قعدت ، و أردت أن أتوضأ و أغسل أطرافي ، و أنعش جسمي من حر المصافي ، إلا أنني لم أجد ماءا في الصنبور ، بل أثر الذباب و الصرصور ، فاستعذت بالله الغفور ، و قلت لا علينا ، يا بارئا لا تعجل علينا ، و ناديت بأعلى صوتي أن أحضروا لي الماء ، واكفوني شر العناء ، فقد لقيت من سفري هذا شر البلاء ، فما هي إلا برهة ، حتى أتاني أحدهما بقارورة ، تحوي لترا من الماء ، لونه أصفر خالي من النقاء ، و لما هممت بالغسل ، لمحت نيسبا من النمل ، فاتبعت طريقه ، فإذا به يلحق فريسته ، و كان صرصورا ضخما ، لم أرى مثله كبرا و حجما ، فضربته برجلي ، و أخرجته من حجرتي ، و قلت لا علينا ، يا الله طول بالنا ، و لا تجعل صبرنا ينفد و قبلنا يحقد ، لكن من فرط تعبي ، جلست على السرير أناجي ربي ، قارئا للمعوذتين و الكتاب بجنبي ، و قلت آن لي إن أستريح ، من نكد اليوم القريح ، و المشهد القبيح ، و لما وضعت رأسي على الوسادة ، جاءتني فكرة و زيادة ، بأن أعالج السرير و الغطاء و الحصير ، علني أجد فيه الشر المستطير ، و الوحش الخطير ، ألا و هو حشرة البق الضارة ، ذات اللسعات الحارة ، و قد كانت لي معها قصة ، في أحد فنادق مدينة سطيف ، في وقت المصيف ، يوم زرت صديقا لي في الدرك ، و كدت أن أقع في الشرك ، بسبب أمر لا يسعنا الحديث فيه الآن ، و لا الخوض فيه في هذا المقام و المكان ، فلما رفعت الغطاء ، رأيت عشرات منها و زهاء ، تدب بسرعة و تبحث عن الدم لتلعق منه جرعة ، عندها تملكني غضب شديد ، وخرجت مسرعا أهدد بالوعيد ، حاملا حقيبتي ناسيا فريضتي ، و لبست خفي عن عجل ، مدمدما بكلمات كصوت العجل ، و نزلت مسرعا إلى قاعة الاستقبال ، و قد راح عني طول البال ، فوجدت أحدهما واقفا بالباب ، يستفسر عن صوت الصياح و السباب ، فقلت له : أ خان هذا أم بيت خصيان ؟ ، يا رجل إتقي الله في الناس ، فهذا نزل راحة و نعاس ، و أنت أحلته كمثل بيت النسناس ، أعد لي مالي ، و اتركني أمضي لحالي ، فبدأ يصيح في وجهي ، يريد ضربي ، و آزره زميله و همّ هو أيضا بركلي ، فراودتني حيلة ، بأن أستدرجه إلى زقاق المدينة ، حتى و إن صرعته ، لن يحاسبني القانون كمن ضرب أحدا في محله ، و تكون عقوبتي خفيفة ، و غرامتي طفيفة ، فصرت أمشي الى خارج المحل ، حتى خرجت إلى الزقاق تحت الظل ، عندها تغيرت نبرتي ، و زادت حدتي و قوة شكيمتي ، فقلت له : إما أن ترجع لي المال ، أو أشتكيك إلى رجال الشرطة و الأحوال ، أو أكتب عنك تقريرا إلى مديرية السياحة ، أوضح فيه حالة نزلك و سوء الضيافة ، فوجدني ضالعا في أمور القانون ، و كل كلمة لي فيها باع و فنون ، فما كان عليه إلا أن استكان للأمر الواقع ، و أرجع لي المال من دون وازع ، فغادرت المكان و في مخي غليان ، قاصدا فندقا آخرا ، سواء كان مخفيا أو ظاهرا ، حتى اهتديت إلى مكان على مقربة من البحر ، فيه من الروعة و السحر ، ما يذهب البصر ، فقابلني مبنى رائع ، في شكله و لونه الأبيض الساطع ، فدخلت و على الحارس سلمت ، فوجدته من طراز النجوم ، فيه الدفع بالمعلوم ، و سألت عن السعر ، فوجدته يقصم الظهر ، و يقصف الشعر ، لكني رضيت و سلمت للأمر و قبلت ، فما وجدت فيه إلا غرفة من سريرين ، كان قد بات فيها عروسين ، فوضعت حقيبتي و على السرير رميت جثتي ، فنمت و في وقت المغرب نهضت ، و قد علق بي مسحوق للزينة من أثر العروس ، لونه ذهبي ملموس ، فغسلته بالماء ، لكنه لم يمحى من كل الأنحاء ، و قلت لا علينا ، اللهم اجعله خيرا علينا ، و خرجت إلى المدينة أتنزه في الممرات، و صليت ما فاتني من أوقات ، و تناولت العشاء في أحد المطاعم ، وسهرت ليلي في مكان عام ، و لما جاء الصباح ، هممت بالخروج إلى البحر حيث النسيم و الرياح ، و ركبت حافلة صغيرة ، قاصدا الشاطئ قبل حلول الظهيرة ، فلما وصلت و بقرب حاجز للدرك نزلت ، و أنا أسير حتى ناداني أحدهم و بيده إلي يشير ، فذهبت إليه و وقفت بين يديه ، فباردني بالسؤال عن وجهتي و عن ولايتي ، و طلب بطاقة هويتي ، و كنت حينها أضع ذقنا ، خفيف الحركة و جنا ، و قد ساد البلاد وقتها خطر الإرهاب ، و شهدت له الورى الويلات و الصعاب ، فتحسست جيبي ، و دق لهذا قلبي ، فقد نسيت كل وثائقي بالفندق ، و هو لي غير مصدق ، و زاد شكه في أمري ، وراح يجري ، و أحضره معه الضابط و الكلب و ركناني إلى الحائط ، وفتشي العون ، و بهدلني الكب بالعواء و الهون ، و الناس تضحك علي و تهوّن ، و حينما لم يجدا عندي شيء يذكر ، من سلاح أو أمر مخطر ، قاما بإدخالي إلى صندوق الموقوفين ، ولبثت فيه أكثر من ساعتين ، و عندها قلت : يا سيدي ، إرأف بحالتي ، فما أنا و الله إلا رجل مسالم و قد نسيت بطاقتي ، و اسأل إن أردت صاحب النزل ، عن الحال فإني والله كلي أمل ، في براءتي من تهمة عدم حمل وثائق مهمة ، و بعد أخذ و رد ، و هزل و جد ، إتصل بالشرطة و بمكان إقامتي ، و وجدني صادقا في مقالتي ، عندها أطلق سراحي ، و رجعت مشئوما و عن رؤية البحر مهموما ، بعدما رأيته أزرقا بهيا رقراقا ، لأني حلفت و باليمن طلقت ، أن لا يكون لي مقام في بلد فيه بهدلت ، قاصدا أدراجي ، و حملت أغراضي ، بعد أن صرفت ثلث مالي ، قافلا إلى مدينة عنابة ، و التي لي فيها أهل و قرابة ، حيث إعتدت قضاء إجازتي فيها ، و كذا لمعرفتي الواسعة بأهلها ، و بأزقتها و فنادقها ولسان حالي يقول :
يا لوعتي على عطلتي ****** و يــا كربتــي و محتني
مــا ذنبي أنــا يــا ربي ****** حتى أخزى في إجازتي
هل المشقـة هي قدري ****** لمــا لاقيت فــي رحلتي
أم أنــه لقلـــة حيلتــي ****** أو لدعـــوة وا مصيبـتي
ما كــانت و الله نيتــي ****** غير سكينتــي و راحتي
لكـــن حمـدا لله بارئي ****** أن كــانت هـــذه نهايتي
و لما نويت الرجوع ، إلى بلدتي و الربوع ، نذرت أن أقدم معروفا ، لمسكين أو أن أعطيه مصروفا ، دفعا لبلاء كاد أن يلحقني بمصف السجناء ، أو أن أرسل إلى معتقلات الصحراء ، حيث الرمال و الحلفاء ، و الحيات و العقارب و شر الإجتباء .